فلما انتشر أمرُ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى العرب ، وبلغ البلدان ، ذُكر بالمدينة، ولم يكن حى من العرب أعلم بأمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين ذُكر، وقبل أن يُذكر من هذا الحى من الأوس والخزرج ، وذلك لما كانوا يسمعون من أحبار اليهود، وكانوا لهم حلفاء، ومعهم فى بلادِهم. فلما وقع ذكره بالمدينة، وتحدثوا بما بين قريش فيه من الاختلاف. قال أبو قيس بن الأسْلَت ، أخو بنى واقف :

نسب ابن الأسلت

قال ابن هشام : نسب ابنُ إسحاق أبا قيس هذا هاهنا إلى بني واقف ، ونسبه في حديث الفيل إلى خَطْمة، لأن العرب قد تنسب الرجل إلى أخي جده الذي هو أشهر منه.

قال ابن هشام : حدثني أبو عُبَيدة : أن الحكم بن عمرو الغِفارى من ولد نُعَيْلة أخي غِفار وهو غِفار بن مُلَيْل ، ونُعَيلة بن مُلَيل بن ضَمْرة بن بكر بن عبد مناة، وقد قالوا عتبة بن غزوان السُّلَمى وهو من ولد مازن بن منصور وسُلَيْم بن منصور.

قال ابن هشام : فأبو قيس بن الأسلت : من بنى وائل ؛ ووائل ، وواقف ، وخَطْمة إخوة من الأوس.

شعر ابن الأسلت في الدفاع عن الرسول صلى اللّه عليه وسلم

قال ابن إسحاق : فقال أبو قيس بن الأسلت - وكان يحب قريشاً، وكان لهم صهراً، كانت عنده أرنب بنت أسد بن عبد العُزَّى بن قُصي، وكان يقيم عندهم السنين بامرأته - قصيدة يعظم فيها الحرمة، وينهى قريشا فيها عن الحرب ، ويأمرهم بالكف بعضهم عن بعض ، ويذكر فضلَهم وأحلامَهم ، ويأمرهم بالكفِّ عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، ويذكِّرهم بلاءَ اللّه عندهم ، ودفعه عنهم الفيل وكيده عنهم ،

فقال :

يا راكباً إما عَرَضتَ فبلِّغـــنْ    مُغَلغلَةً عني لُؤيَّ بنَ غالبِ
رسول امرئ قد راعه ذات بينكم على النأيِ محزونٍ بذلكِ ناصبِ
وقد كان عندي للّهمومِ معَرَّسٌ    فلم أقضِ منها حاجتي ومآربى
نُبِّيتُكم شَرْجَيْن كل قبيلـــةٍ    لها أزْمَلٌ من بين مُذْكٍ وحاطبِ
أعيذكم باللّه من شر صنعِكـم  وشرِّ تباغيكم ودسِّ العقاربِ
وإظهارِ أخلاقٍ ونجْوَى سقيمة   كوخزِ الأشافى وقعُها حقُّ صائب
فذكرْهمْ باللّه أولَ وهلـــةٍ  وإحلال أحرام الظباءِ الشوازبِ
وقل لهم واللّه يحكمُ حُكْمَــهُ ذروا الحربَ تذهبْ عنكم فى المَراحبِ
متى تبعثوها تبعثوها ذميمـةً   هى الغُولُ للأقصينَ أو للأقاربِ
تُقطِّعُ أرحاماً وتُهلك أمــةً   وتبري السَّديفَ من سَنام وغاربِ
وتستبدلوا بالأتحميةِ بعدَهـا   شَليلاً وأصداءً ثيابَ المحاربِ
وبالمسكِ والكافورِ غُبْراً سوابغا   كأن قَتِيرَيْها عيونُ الجنادبِ
فإياكمُ والحربَ لا تَعْلَقَنَّكُمْ   وحَوْضاً وخيم الماءِ مُرَّ المشاربِ
تَزَيَّنَ للأقوامِ ثم يَرَوْنَها    بعاقبةٍ إذ بَيَّنَتْ ، أمَّ صاحبِ
تحرِّق لا تُشْوِي ضعيفاً وتنتحى  ذوي العزِّ منكم بالحُتوف الصوائبِ
ألم تعلموا ما كان في حربِ داحس ٍ فتعتبروا أو كان فى حربِ حاطبِ
وكم قد أصابت من شريفٍ مُسَوَّدٍ  طويلِ العمادِ ضيفُه غيرُ خائِب
عظيمِ رمادِ النارِ يُحمَدُ أمرُه  وذي شيمةٍ محضٍ كريمِ المضاربِ
وماء هُريق فى الضلالِ كأنما  أذاعت به ريحُ الصَّبا والجنائبِ
يُخبِّركم عنها امرؤ حقُّ عالم  بأيامِها والعلمُ علمُ التجاربِ
فبيعوا الحرابَ مِلْمُحَارِبِ واذكروا  حسابَكمُ واللّه خيرُ محاسبِ
وليّ امرئٍ فاختار دينا فلا يَكنْ  عليكم لي رقيباً غيرُ ربِّ الثواقبِ
أقيموا لنا دِيناً حنيفاً فأنتم   لنا غاية قد يُهتَدى بالذوائبِ
وأنتم لهذا الناسِ نور وعصمةٌ   تُؤَمُّون ، والأحلامُ غيرُ عوازبِ
وأنتم ، إذا ما حُصِّل الناسُ ، جوهر   لكم سُرَّةُ البطحاءِ شُمُّ الأرانبِ
تصونون أجساداً كراماً عتيقةً    مهذَّبةَ الأنسابِ غيرَ أشائبِ
ترى طالبَ الحاجاتِ نحوَ بيوتِكم   عصائبَ هَلْكَى تهتدي بعصائبِ
لقد علم الأقوامُ أن سَراتَكم   على كلِّ حالٍ خيرُ أهلِ الجباجِبِ
وأفضلُه رأياً وأعلاه سُنة  وأقولُه للحقِّ وسطَ المواكبِ
فقوموا فصلوا ربَّكم وتمسَّحوا   بأركان هذا البيتِ بينَ الأخاشبِ
فعندكمُ منه بلاءٌ ومصْدَق  غداةَ أبى يَكْسومَ هادي الكتائبِ
كتيبتُه بالسهلِ تُمسى ورَجْلُه   على القاذفاتِ في رءوسِ المناقب
فلما أتاكم نصرُ ذي العرشِ ردَّهم  جنودُ المليكِ بين سافٍ وحاصبِ
فَوَلَّوْا سِراعا هاربين ولم يَؤُبْ  إلى أهلِه مِلْحُبْشِ غيرِ عصائب
فإن تَهْلِكوا نَهْلِكْ وتهلكْ مواسمٌ  يُعاش بها قولُ امرئٍ غيرِ كاذبِ
قال ابن هشام : أنشدني بيته ، " وماء هريق "، وبيته : " فبيعوا الحراب "، وقوله : " ولى امرئ فاختار "، وقوله :

* على القاذفات فى رءوس المناقب *

أبو زيد الأنصاري وغيره.

حرب داحس والغبراء

قال ابن هشام :

وأما قوله :

* ألم تعلموا ما كان فى حرب داحس *

فحدثنى أبو عُبَيدة النحوي : أن داحساً فرس كان لقيس بن زُهَير ابن جَذيمة بن رَواحة بن ربيعة بن الحارث بن مازن بن قطيعة بن عِبْس بن بغيض بن رَيْث بن غَطَفان أجراه مع فرس لحذيفة بن بدر بن عَمرو بن زيد بن جُؤَيَّة بن لُوذان بن ثعلبة بن عدي بن فَزارة بن ذُبيان بن بَغيض بن رَيْث بن غَطَفان ، يقال لها: الغبراء. فدس حذيفة قوما وأمرهمِ أن يضربوا وجه داحس إن رأوه قد جاء سابقاً، فجاء داحس سابقاَ فضربوا وجهه ، وجاءت الغبراء. فلما جاء فارس داحس أخبر قيساً الخبر، فوثب أخوه مالك بن زُهَيْر فلطم وجه الغبراء، فقام حَمَلُ بن بدر فلطم مالكاً. ثم إن أبا الجُنَيْدب العَبْسى لقى عوفَ بنَ حذيفة فقتله ، ثم لقى رجلٌ من بنى فزارة مالكاً فقتله ، فقال حَمَل بن بدر أخو حذيفة بن بدر:

قتلنا بعوف مالكاً وهو ثأرُنا  فإن تطلبوا منا سوى الحقِّ تَنْدَموا
وهذا البيت فى أبيات له. وقال الربيع بن زياد العَبْسي :

أفبعدَ مقتل مالكِ بن زُهَير    ترجو النساءُ عواقبَ الأطهارِ
وهذا البيت في قصيدة له.

فوقعت الحربُ بين عَبْس.وفزارة، فقُتل حذيفةُ بن بدر وأخوه حَمَلُ

ابن بدر، فقال قيس بن زُهير بن جَذِيمة يرثى حُذيفة، وجزع عليه :

كم فارس يُدْعَى وليس بفارسٍ    وعلى الهَباءةِ فارس ذو مَصْدق

فابكوا حذيفةَ لن تُرَثّوا مثلَه حتى تبيدَ قبائلٌ لم تُخْلَق
وهذان البيتان في أبيات له. وقال قيس بن ز هير:

على أن الفتى حَمَلَ بنَ بدر    بغى والظلمُ مرتعُه وخيمُ
وهذا البيت فى أبيات له. وقال الحارث بن زهير أخو قيس بن زهير:

تركتُ على الهباءةِ غيرَ فَخْر    حُذيفةَ عندَه قِصَدُ العوالى
 وهذا البيت فى أبيات له.

قال ابن هشام :

ويقال : أرسل قيس داحساً والغبراء، وأرسل حذيفة الخَطَّار والحَنْفاء، والأول أصح الحديثين. وهو حديث طويل ، منعنى من استقصائه قطعه حديث سيرة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.

حرب حاطب

قال ابن هشام :

وأما قوله : " حرب حاطب ". فيعنى حاطب بن الحارث بن قيس بن هَيْشة بن الحارث بن أمية ابن معاوية بن مالك بن عَوْف بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس ، كان قتل يهوديا جاراً للخزرج ، فخرج إليه يزيد بن الحارث ابن قيس بن مالك بن أحمر بن حارثة بن ثعلبة بن كَعْب بن الخزرج ابن الحارث بن الخزرج - وهو الذي يقال له : ابن فُسْحُم ، وفُسْحُم أمه ، وهي امرأة من القَيْن بن جَسْر - ليلا فى نفر من بنى الحارث ابن الخزرج فقتلوه ، فوقعت الحرب بين الأوس والخزرج فاقتتلوا قتالا شديداً، فكان الظَّفَر للخزرج على الأوس ، وقُتل يومئذ سُوَيد بن صامت ابن خالد بن عطية بن حَوْط بن حبيب بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس ، قتله المُجذَّر بن زياد البلوي ، واسمه عبداللّه ، حليف بنى عَوْف بن الخزرج. فلما كان يوم أحد خرج المجَذَّر بن زياد مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وخرج معه الحارث بن سوَيْد بن صامت ، فوجد الحارث بن سُوَيْد غِرَّة من المجذر فقتله بأبيه. وسأذكر حديثه في موضعه - إن شاء اللّه تعالى. ثم كانت بينهم حروب منعنى من ذكرها واستقصاء هذا الحديث ما ذكرت في حديث حرب داحس.

شعر حكيم بن أمية فى نهي قومه عن عداوة الرسول

قال ابن إسحاق : وقال حكيم بن أمية بن حارثة بن الأوْقَص السُّلَمي ، حليف بنى أمية وقد أسلم ، يُوَرِّع قومَه عما أجمعوا عليه من عداوة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وكان فيهم شريفا مطاعا:

هل قائلٌ قولاً من الحقِّ قاعــد   عليه وهل غضبان للرشْدِ سامعُ
وهل سيّد ترجو العشيرةُ نفعَـه  لأقصى الموالي والأقارب جامعُ
تبرأت إلا وجه من يملك الصَّبَا  وأهجرُكم ما دام مُدْلٍ ونازع
وأسْلم وجهي للإِله ومنطقي ولو  راعنى مِنَ الصَّديقِ روائع