سفهاء قريش يأذونه :

قال ابن إسحاق : ثم إن قريشا اشتد أمرُهم للشقاء الذي أصابهم فى عداوة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ومن أسلم معه منهم ، فأغْرَوْا برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سفهاءَهم ؛ فكذَّبوه وآذَوْه ، ورموه بالشِّعر والسحر والكهانة والجنون ، ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ِمظهر لأمر اللّه لا يستخفى به ، مبادٍ لهم بما يكرهون من عَيْب دينهم ، واعتزال أوثانهم ، وفراقه إياهم على كفرهم.

أشد ما أوذي به الرسول صلى اللّه عليه وسلم

قال ابن إسحاق : فحدثني يحيى بن عروة بن الزبير، عن أبيه عروة بن الزبير، عن عبداللّه بن عمرو بن العاص ،

قال : قلت له : ما أكثر ما رأيت قريشاً أصابوا من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فيما كانوا يُظهرون من عداوته ؟

قال : حضرتُهم وقد اجتمع أشرافُهم يوماً فى الحِجْر، فذكروا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ،

فقالوا: ما رأينا مثلَ ما صبرنا عليه من أمر هذا الرجل قط ، سفَّه أحلامَنا، وشتم آباءَنا، وعاب دينَنا، وفرَّق جماعَتنا، وسبَّ آلهتنا، لقد صبرنا منه على أمر عظيم ، أو كما قالوا. فبينَا هُم فى ذلك إذْ طلعٍ رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فأقبل يمشى حتى استلم الركنَ ، ثم مَرَّ بهم طائفا بالبيت ، فلما مر بهم غمزوه ببعض القول.

قال : فعرفت ذلك في وجه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.

قال : ثم مضى، فلما مرَّ بهم الثانية غمزوه بمثلِها، فعرفتُ ذلك فى وجه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ثم مرَّ الثالثة فغمزوه بمثلها، فوقف

ثم قال : أتسمعون يا معشرَ قُريش، أما والذي نفسى بيده ، لقد جئتكم بالذَّبْح.

قال : فأخذت القومَ كلمتُه حتى ما منهم رجل إلا كأنما على رأسه طائرٌ واقع ، حتى إن أشدَّهم فيه وصاة قبل ذلك لَيرْفَؤُه بأحسن ما يجد من القول ، حتى إنه ليقول : انصرفْ يا أبا القاسم ، فواللّه ما كنتَ جهولاً.

قال : فانصرف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، حتى إذا كان الغدُ اجتمعوا في الحِجْر وأنا معهم ، فقال بعضُهم لبعض : ذكرتم ما بلغ منكم ، وما بلغكم عنه ، حتى إذا بادَاكم بما تكرهون تركتموه. فبينما هم فى ذلك طلع عليهم رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فوثبوا إليه وثبةَ رجلٍ واحد، وأحاطوا به ، يقولون : أنت الذي تقول كذا وكذا؛ لما كان يقول من عَيْب آلهتهم ودينهم ، فيقول رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : نعم : أنا الذي أقول ذلك.

قال : فلقد رأيتُ رجلا منهم أخذ بمجْمَع ردائه.

قال : فقام : أبو بكر رضى اللّه عنه دونه ، وهو يبكي ويقول : أتقتلون رجلا أن يقول ربىَ اللّه؟ ثم انصرفوا عنه ، فإن ذلك لأشدُّ ما رأيتُ قريشا نالوا منه قط.

قال ابن إسحاق : وحدثنى بعضُ آل أم كلثوم بنت أبي بكر، أنها

قالت : رجع أبو بكر يومئذ وقد صدعوا فَرْقَ رأسِه ؛ مما جبذوه بلحيته ، وكان كثير الشعر.

قال ابن هشام : حدثني بعض أهل العلم : أشدُّ ما لقى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من قريش أنه خرج يوما فلم يلقه أحد من الناس إلا كذَّبه وآذاه ، لا حُر ولا عبد، فرجع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى منزله ، فتدثر من شدةِ ما أصابه ،

فأنزل اللّه تعالى عليه : {يا أيها المدثِّر. قُم فأنذرْ} [المدثر: ١،٢] .

إسلام حمزة رضي اللّه عنه

سبب إسلامه :

قال ابن إسحاق : حدثني رجل من أسلم ، كان واعيةً : أن أبا جهل مر برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عند الصفا، فآذاه وشتمه ، ونال منه بعض ما يكره من العَيْب لدينه ، والتضعيف لأمره ؛ فلم يكلمه رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ومولاةٌ لعبداللّه بن جُدْعان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تَيْم بن مرة في مسكن لها تسمع ذلك ، ثم انصرف عنه فعمد إلى نادٍ من قريش عند الكعبة، فجلس معهم. فلم يلبث حمزة بن عبد المطلب رضى اللّه عنه أن أقبل متوشحا قوسَه ، راجعاً من قَنَص يرميه ويخرج له ، وكان إذا رجع من قَنَصه لم يصل إلى أهله حتى يطوفَ بالكعبة، وكان إذا فعل ذلك لم يمر على نادٍ من قريش إلا وقف وسلم وتحدث معهم ، وكان أعزَّ فتى فى قريش، وأشدَّ شكيمة. فلما مر بالمَوْلاةِ، وقد رجع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى بيته ، قالت له : يا أبا عُمارة، ولو رأيت ما لقي ابن أخيك محمد آنفا من أبى الحكم بن هشام : وجده هاهنا جالساً فآذاه وسبه وبلغ منه ما يكره ثم انصرف عنه ولم يكلمه محمد صلى اللّه عليه وسلم.

فاحتمل حمزة الغضب لما أراد اللّه به من كرامته ، فخرج يسعى ولم يقف على أحد، مُعِدًّا لأبي جهل إذا لقيه أن يوقع به ؛ فلما دخل المسجد نظهر إليه جالساً فى القوم ، فأقبل نحوه ، حتى إذا قام على رأسه رفع القوس فضربه بها فشجه شجةً منكَرة،

ثم قال : أتشتمه وأنا على دينه أقول ما يقول ؟ فرُد ذلك على إنِ استطعت. فقامت رجال من بنى مخزوم إلى حمزة لينصروا أبا جهل ؛ فقال أبو جهل : دعوا أبا عُمارة، فإني واللّه قد سببت ابن أخيه سباً قبيحاً، وتم حمزة رضى اللّه عنه على إسلامه ، وعلى ما تابع عليه رسولَ اللّه صلى اللّه عليه وسلم من قوله. فلما أسلم حمزة عرفت قريشٌ أن رسولَ اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد عز وامتنع ، وأن حمزة سيمنعه ، فكفوا عن بعض ما كانوا ينالون منه.

عتبة بن ربيعة يفاوض الرسول صلى اللّه عليه وسلم

قال ابن إسحاق : وحدثنى يزيد بن زياد، عن محمد بن كعب القُرظي ،

قال : حُدثتُ أن عُتبة بن ربيعة، وكان سيداً، قال يوما وهو جالس فى نادي قريش، ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم جالس فى المسجد وحده : يا معشر قريش، ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أموراً لعله يقبلُ بعضَها فنعطيه أيها شاء، ويكف عنا؟ وذلك حين أسلم حمزةُ، ورأوْا أصحابَ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يزيدون ويكثُرون ؛

فقالوا: بلى يا أبا الوليد، قم إليه فكلمْه؛ فقام إليه عُتبة حتى جلس إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم،

فقال : يا ابن أخي ، إنك منا حيث قد علمتَ من السِّطَة فيِ العشيرة، والمكان فى النسب ، وإنك أتيت قومَك بأمر عظيم فرَّقت به جماعتهم وسفهتَ به أحلامَهم وعِبتَ به آلهتهم ودينهم وكفَّرت به من مضى من آبائهم ، فاسمع منى أعرضْ عليك أموراً تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها.

قال : فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : قُلْ يا أبا الوليد، أسمع ،

قال : يا بنَ أخي ، إن كنتَ إنما تريد بما جئتَ به من هذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تريد به شرفا سودناك علينا، حتى لا نقطع أمراً دونك ، وإن كنت تريد به مُلكاً ملكناك علينا: وإن كان هذا الذي يأتيك رَئِيًّا تراه لا تستطيع ردّه عن نفسِك ، طلبنا لك الطبَّ ، وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئَك منه ، فإنه ربما غلب التابعُ على الرجل حتى يُدَاوَى منه أو كما قال له ، حتى إذا فرغ عتبة، ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يستمع منه ،

قال : أقد فرغت يا أبا الوليد؟

قال : نعم

قال : فاسمع مني ؛

قال : أفعل.

فقال : { بِاِسْمِ اللّه الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ حم (١) تَنزِيلٌ مِنْ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ (٢) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (٤) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} [فصلت: ١ـ٥] ثم مضى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فيها يقرؤها عليه فلما سمعها منه عتبة أنصت لها، وألقى يديه خلفَ ظهره معتمداً عليهما يسمع منه ؛ ثمِ انتهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى السجدة منها، فسجد

ثم قال : قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعتَ ، فأنت وذاك.

رأي عتبة : فقام عتبة إلى أصحابه ، فقال بعضهم لبعض : نحلف باللّه لقد جاءكم أبو الوليد بغيرِ الوجه الذي ذهب به. فلما جلس إليهم

قالوا: ما وراءَك يا أبا الوليد؟

قال : ورائى أنى قد سمعتُ قولا واللّه ما سمعت مثلَه قطُّ ، واللّه ما هو بالشعر، ولا بالسحر، ولا بالكهانة، يا معشر قريش، أطيعونى واجعلوها بي ، وخلُّوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزِلوه ، فواللّه ليكونن لقوله الذي سمعتُ منه نبأ عظيم ، فإن تصبْه العرب فقد كُفيتموه بغيرِكم ، وإن يظهر على العرب فملُكه ملكُكم ، وعزُّه عزكم ، وكنتم أسْعَدَ الناس به ؛

قالوا: سحرك واللّه يا أبا الوليد بلسانه ؛

قال : هذا رأى فيه ، فاصنعوا ما بدا لكم.

قريش تفتن المسلمين :

قال ابن إسحاق : ثم إن الِإسلام جعل يفشو بمكة فى قبائل قريش فى الرجال والنساء ؛ وقريش تحبس من قدرت على حبسه ، وتفتن من استطاعت فتنته من المسلمين ثم إن أشراف قريش من كل قبيلة، كما حدثني بعض أهل العلم عن سعيد ابن جبير، وعن عكرمة مولى ابن عباس ، عن عبداللّه بن عباس رضى اللّه عنهما

قال :

زعماء قريش تفاوض الرسول صلى اللّه عليه وسلم : اجتمع عتبةُ بن ربيعة، وشَيْبة بن ربيعة، وأبو سُفيان بن حرب ، والنَّضْر بن الحارث ، أخو بني عبد الدار، وأبو البَخْتَري بن هشام ، والأسود بن المطَّلب بن أسد، وزَمَعة بن الأسود، والوليد بن المغيرة، وأبو جهل بن هشام وعبداللّه بن أبى أمية، والعاص بن وائل ، ونُبَيْه ومُنبَّه ابنا الحجاج السهميان ، وأمية بن خلف ، أو من اجتمع منهم.

قال : اجتمعوا بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة،

ثم قال بعضهم لبعض : ابعثوا إلى محمد فكلموه وخاصموه حتى تُعذروا فيه ، فبعثوا إليه : إنَّ أشرافَ قومِك قد اجتمعوا لك ليكلموك ، فأتهمْ.

فجاءهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سريعا، وهو يظن أن قد بدا لهم فيما كلمهم فيه بَداء، وكان عليهم حريصا يحب رشدَهم ، ويعز عليه عَنَتُهم ، حتى جلس إليهم ؛ فقالوا له : يا محمد، إنا قد بعثنا إليك لنكلمك ، وإنا واللّه ما نعلم رجلاً من العرب أدخل على قومه مثل ما أدخلت على قومك ، لقد شتمت الاباء، وعِبت الدين ، وشتمت الآلهة، وسفهت الأحلامَ ، وفرقت الجماعةَ، فما بقي أمر قبيح إلا جئته فيما بينَنا وبينك أو كما قالوا له فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت إنما تطلب به الشرف فينا، فنحن نسودك علينا، وإن كنت تريد ملكا ملكناك علينا، وإن كَان هذا الذي يأتيك رَئِيُّا تراه قد غلب عليك وكانوا يسمون التابع من الجن رَئِيا فربما كان ذلك ، بذلنا لك أموالَنا فى طلب الطب لك حتى نبرئك منه ، أو نُعْذر فيك ؛ فقال لهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: ما بي ما تقولون ، ما جئتُ بما جئتكم به أطلب أموالَكم ، ولا الشرف فيكم ، ولا الملكَ عليكم ، ولكن اللّه بعثني إليكم رسولا، وأنزل عليَّ كتاباً، وأمرنى أن أكون لكم بشيراً ونذيراً، فبلغتكم رسالات ربي ، ونصحت لكم ، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به ، فهو حظُّكم فى الدنيا والآخرة، وإن تردوه علي أصبرْ لأمر اللّه حتى يحكم اللّه بيني وبينكم ، أو كما قال صلى اللّه عليه وسلم.

قالوا: يا محمد، فإن كنت غير قابل منا شيئا مما عرضناه عليك فإنك قد علمت أنه ليس من الناس أحد أضيق بلداً، ولا أقل ماءً، ولا أشد عيشاً منا، فسَلْ لنا ربَّك الذي بعثك بما بعثك به ، فليسيِّر عنا هذه الجبال التي قد ضيَّقت علينا، وليبسط لنا بلادَنا، وليفجر لنا فيها أنهاراً كأنهار الشام والعراق ، وليبعث لنا من مضى من آبائنا، وليكن فيمن يُبعث لنا منهم : قُصَىُّ بن كلاب ، فإن كان شيخ صِدْق ، فنسألهم عما تقول : أحقّ هو أم باطل ، فإن صدقوك وصنعت ما سألناك صدقناك ، وعرفنا به منزلتك من اللّه ، وأنه بعثك رسولا كما تقول.

فقال له صلوات اللّه وسلامه عليه : ما بهذا بُعثتُ إليكم من اللّه ، إنما جئتكم من اللّه بما بعثني به ، وقد بلغتكم ما أرسلت به إليكم ، فإن تقبلوه فهو حظّكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه عليَّ أصبرْ لأمر اللّه تعالى، حتى يحكم اللّه بيني وبينكم.

قالوا: فإذا لم تفعل هذا لنا، فخذ لنفسك ، سل ربَّك بأن يبعث معك ملكا يصدقك بما تقول ، ويراجعنا عنك وسَلْه فليجعل لك جِناناً وقصوراً وكنوزاً من ذهب وفضة يغنيك بها عما نراك تبتغى، فإنك تقوم بالأسواق كما نقوم ، وتلتمس المعاش كما نلتمسه ، حتى نعرف فضلَك ومنزلتك من ربك إن كنت رسولا كما تزعم.

فقال لهمرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : ما أنا بفاعل ، وما أنا بالذي يسأل ربَّه هذا، وما بُعثت إليكم بهذا، ولكن اللّه بعثني بشيراً ونذيراً - أو كما قال - فإن تقبلوا ما جئتكم به فهو حظُّكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه علي أصبرْ لأمر اللّه حتى يحكمَ اللّه بينى وبينكم.

قالوا: فأسقط السماءَ علينا كِسفاً كما زعمت أن ربَّك إن شاء فعل ، فإنا لا نؤمن لك إلا أن تفعل.

قال : فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : ذلك إلى اللّه ، إن شاء أن يفعلَه بكم فعل.

قالوا: يا محمد، أفما علم ربك أنا سنجلس معك ونسألك عما سألناك عنه ، ونطلب منك ما نطلب ، فيتقدم فيعلمك ما تراجعنا به ، ويخبرك ما هو صانع فى ذلك بنا، إذ لم نقبل منك ما جئتنا به ! إنه قد بلغنا أنك إنما يعلمك هذا رجل باليمامة يقال له : الرحمن ، وإنا واللّه لا نؤمن بالرحمن أبداً، فقد أعذرنا إليك يا محمد، وإنا و اللّه لا نتركك وما بلغت منا حتى نهلكَك ، أو تهلكنا. وقال قائلهم :

نحن نعبد الملائكة، وهى بنات اللّه. وقال قائلهم : لن نؤمن لك حتى تأتينا باللّه والملائكة قبيلا.

فلما قالوا ذلك لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، قام عنهم ، وقام معه عبداللّه بن أبي أمية بن المغيرة بن عبداللّه بن عُمر بن مخزوم - وهو ابن عمته ، فهو لعاتكة بنت عبد المطلب -

فقال له : يا محمد، عرض عليك قومُك ما عرضوا فلم تقبلْه منهم ، ثم سألوك لأنفسهم أموراً ليعرفوا بها منزلتك من اللّه كما تقول ، ويصدقوك ويتبعوك فلم تفعلْ ، ثم سألوك أن تأخذ لنفسك ما يعرفون به فضلك عليهم ، ومنزلتك من اللّه ، فلم تفعل ، ثم سألوك أن تعجلَ لهم بعضَ ما تخوِّفهم به من العذاب ، فلم تفعل - أو كما قال له - فواللّه لا أومن بك أبداً حتى تتخذ إلى السماء سُلَّما، ثم ترقَى فيه وأنا أنظر إليك حتى تأتيهَا، ثم تأتى معك أربعة من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول ، وايم اللّه ، لو فعلت ذلك ما ظننت أني أصدقك ، ثم انصرف عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وانصرف رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى أهله حزيناً آسفاً لما فاته مما كان يطمع به من قومه حين دعوه ، ولما رأى من مباعدتهم إياه.

أبو جهل يتوعد الرسول صلى اللّه عليه وسلم

فلما قام عنهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال أبو جهل : يا معشر قريش ، إن محمداً قد أبى إلا ما تَرَوْنَ من عَيْب ديننا، وشتم آبائنا، وتسفيه أحلامِنا، وشتم آلهتنا، وإنى أعاهد اللّه لأجلسن له غدا بحجر ما أطيق حملَه - أو كما قال - فإذا سجد في صلاته فضَخْتُ به رأسَه ، فأسْلِموني عند ذلك أو امنعوني ، فليصنع بعد ذلك بنو عبد مناف ما بدا لهم.

قالوا: واللّه لا نسلمك لشىء أبداً، فامضِ لما تريد.

فلما أصبح أبو جهل ، أخَذَ حجرا كما وصف ، ثم جلس لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ينتظره ، وغدا رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم كما كان يغدو. وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بمكة وقبلته إلى الشام ، فكان إذا صلى صلى بين الركن اليمانى والحجر الأسود، وجعل الكعبة بينه وبين الشام ، فقام رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم يصلِّى وقد غدت قريشٌ فجلسوا فى أنديتهم ينتظرون ما أبو جهل فاعل ، فلما سجد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم احتمل أبو جهل الحجرَ، ثم أقبل نحوه حتى إذا دنا منه رجع منهزماً منتقعاً لونُه مرعوباً قد يَبِست يداه على حجره، حتى قذف الحجرَ من يده ، وقامت إليه رجال قريش، فقالوا له : ما لك يا أبا الحكم ؟

قال : قمت إليه لأفعل به ما قلتُ لكم البارحةَ، فلما دنوتُ منه عَرض لي دونَه فحلٌ من الِإبل ، لا واللّه ما رأيت مثل هامتِه ، ولا مثل قَصَرَته ولا أنيابه لفحلٍ قطُّ ، فَهَمَّ بى أن يأكلنى.

قال ابن إسحاق : فذُكر لي أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ،

قال : ذلك جبريلُ عليه السلام لو دنا لأخذه.

النضر بن الحارث ينصح قريشاً: فلما قال لهم ذلك أبو جهل ، قام النَّضر بن الحارث بن كَلَدَة بن علقمة بن عبد صد بن عبد الدار بن قُصي.

قال ابن هشام : ويقال النضر بن الحارث بن علقمة بن كَلَدَة ابن عبد مناف.

قال ابن إسحاق : فقال يا معشر قريش ، إنه واللّه قد نزل بكم أمرٌ ما أتيتم له بحيلة بعدُ، قد كان محمد فيكم غلاماً حدثاً أرضاكم فيكم ، وأصدقكم حديثا، وأعظمكم أمانة، حتى إذا رأيتم فى صُدْغَيْه الشيبَ ، وجاءكم بما جاءكم به ، قلتم ساحر، لا واللّه ما هو بساحر، لقد رأينا السحرةَ ونفثهم وعقدهم ، وقلتم كاهن ، لا واللّه ما هو بكاهن ، قد رأينا الكهنة وتخالُجهم وسمعنا سَجْعهم ، وقلتم شاعر، لا واللّه ما هو بشاعر، قَد رأينا الشعر، وسمعنا أصنافَه كلَّها: هَزَجه ورجزه ، وقلتم مجنون ، لا واللّه ما هو بمجنون ، لقد رأينا الجنون فما هو بخَنْقه ، ولا وسوسته ، ولا تخليطه ، يا معشر قريش، فانظروا في شأنكم ، فإنه واللّه لقد نزل بكم أمر عظيم.

أذى النضر للرسول صلى اللّه عليه وسلم : وكان النضر بن الحارث من شياطين قريش ، وممن كان يؤذي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وينصب له العداوةَ، وكان قد قدم الحيرة، وتعلم بها أحاديثَ ملوك الفرس ، وأحاديث رُسْتم واسبنديار، فكان إذا جلس رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم مجلساً فذكَّر فيه باللّه ، وحذَّر قومَه ما أصاب مَنْ قبلَهم من الأمم من نِقْمة اللّه ، خلفه في مجلسه إذا قام ،

ثم قال : أنا واللّه يا معشر قريش، أحسن حديثاً منه ، فهلمّ إلىَّ، فأنا أحدثكم أحسن من حديثه ، ثم يحدثهم عن ملوك فارس ورُستم واسبنديار، ثم يقول : بماذا محمد أحسن حديثاً منى؟.

قال ابن هشام : وهو الذي قال فيما بلغنى : " سأنزل مثل ما أنزل اللّه ".

قال ابن إسحاق : وكان ابن عباس رضي اللّه عنهما يقول ، فيما بلغني : نزل فيه ثمان آيات من القران : قول اللّه عز وجل :

{ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [القلم: ١٥] . وكل ما ذكر فيه من الأساطير من القرآن.

قريش تسأل أحبار اليهود في شأنه عليه الصلاة والسلام

فلما قال لهم ذلك النضرُ بن الحارث بعثوه ، وبعثوا معه عقبة بن أبى مُعَيْط إلى أحبار يهود بالمدينة، وقالوا لهما: سَلاهم عن محمد، وصِفا لهم صفته ، وأخبراهم بقوله ، فإنهم أهلُ الكتاب الأول ، وعندهم علمٌ ليس عندَنا من علم الأنبياء، فخرجا حتى قَدِما المدينة، فسألا أحبار يهود عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ووصفا لهم أمرَه ، وأخبراهم ببعض قوله ، وقالا لهم : إنكم أهل التوراة، وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا.

فقالت لهما أحبار يهود: سلوه عن ثلاث نأمركم بهنَّ : فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل ، وإن لم يفعل فالرجل متقول ، فرَوْا فيه رأيكم. سَلوه عن فتية ذهبوا فى الدهر الأول ما كان أمرُهم ؟ فإنه قد كان لهم حديث عجب ، وسَلوه عن رجل طوَّاف قد بلغ مشارقَ الأرض ومغاربها ما كان نبؤُه ، وسلوه عن الرّوحِ ما هى؟ فإذا أخبركم بذلك فاتبعوه ، فإنه نبى، وإن لم يفعل ، فهو رجل متقول ، فاصنعوا فى أمره ما بدا لكم.

فأقبل النضرُ بنُ الحارث ، وعقبة بن أبي مُعَيْط بن أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قُصى حتى قدما مكة على قريش، فقالا: يا معشر قريش ، قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد، قد أخبرنا أحبارُ يهود أن نسألَه عن أشياء أمرونا بها، فإن أخبركم عنها فهو نبي ، وإن لم يفعلْ فالرجلُ متقوِّلٌ ، فَرَوْا فيه رأيكم.

قريش تسأل والرسول يجيب : فجاءوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم،

فقالوا: يا محمد، أخبرنا عن فتية ذهبوا فى الدهر الأول قد كانت لهم قصة عجب ، وعن رجل كان طوَّافاً قد بلغ مشارقَ الأرض ومغاربَها، وأخبرْنا عن الروح ما هى؟

قال : فقال لهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: أخبركم بما سألتم عنه غداً، ولم يستثن ، فانصرفوا عنه.

فمكث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم - فيما يذكرون - خمسَ عشَرةَ ليلة لا يُحْدث اللّه إليه فى ذلك وحياً، ولا يأتيه جبريل ، حتى أوجف أهلُ مكة، وقالوا: وعدنا محمد غداً، واليوم خمسَ عشَرةَ ليلةً، قد أصبحنا منها لا يخبرنا بشىء مما سألناه عنه ، وحتى أحزن رسولَ اللّه صلى اللّه عليه وسلم مكثُ الوحي عنه ، وشق عليه ما يتكلم به أهل مكة. ثم جاءه جبريل من اللّه عز وجل بسورة أصحاب الكهف ، فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم ، وخبرُ ما سألوه عنه من أمر الفتية، والرجلُ الطواف ، والروح.

الرد على قريش فيما سألوه

قال ابن إسحاق : فذكر لي أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال لجبريل حين جاءه : لقد احتبست عني يا جبريل حتى سُؤْتُ ظنا؛ فقال له جبريل { وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا}.[مريم:٦٤] فافتتح السورة تبارك وتعالى بحمده وذكر نبوة رسوله ، بما أنكروه عليه من ذلك ،

فقال : { الْحَمْدُ للّه الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} [الكهف: ١] يعنى محمدا صلى اللّه عليه وسلم ، إنك رسول منى : أى تحقيق لما سألوه عنه من نبوتك. { وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا* قيماً} [الكهف: ١]: أي معتدلا، لا اختلاف فيه ، { لِيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ} [الكهف: ٢] : أي عاجل عقوبته في الدنيا، وعذابا أليما في الآخرة : أي من عند ربك الذي بعث رسولا. { وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (٢) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا} [الكهف: ٢،٣] أي دار الخلد. لا يموتون فيها الذين صدقوك بما جئت به مما كذبك به غيرهم ، وعملوا بما أمرتهم به من الأعمال ، { وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللّه وَلَدًا} [الكهف: ٤] يعني قريشاً في قولهم : إنا نعبد الملائكة وهى بناتُ اللّه { مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ} [الكهف: ٥] الذين أعظموا فراقهم وعيب دينهم. { كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ } : أي لقولهم : إن الملائكة بنات اللّه { إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (٥) فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ} يا محمد { عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف: ٦] : أي لحزنه عليهم حين فاته ما كان يرجو منهم ، أي لا تفعل.

قال ابن هشام : باخع نفسك : أي مهلك نفسك فيما حدثني أبو عبيدة. قال ذو الرِّمَّة :

ألا أيهذا الباخع الوَجْدُ نفسَه   لشيءٍ نَحَتْهُ عن يَدَيْه المقَادِرُ

وجمعه : باخعون وبَخَعة. وهذا البيت فى قصيدة له. وتقول العرب :قد بخعْتُ له نصحى ونفسي : أي جهدت له. { إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}.[الكهف: ٧]

قال ابن إسحاق : أي أيهم أتبعُ لأمري ، وأعملُ بطاعتى.

{ وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا} :[الكهف: ٨] أي الأرض ، وإن ما عليها لفانٍ وزائل ، وإن المرجع إلىَّ، فأجزي كلا بعمله ، فلا تأسَ ولا يحزنْك ما تسمع وترى فيها.

قال ابن هشام : الصعيد: الأرض ، وجمعه : صُعُد. قال ذو الرِّمة يصف ظبياً صغيراً:

كأنه بالضحَى ترمى الصعيدَ به   دبَّابةٌ فى عِظام الرأسِ خُرطومُ

وهذا البيت فى قصيدة له. والصعيد: الطريق. وقد جاء فى الحديث :" إياكم والقعودَ على الصُّعَداتِ "، يريد الطرقَ. والجُرُز: الأرض التي لا تنبت شيئاً، وجمعها: أجْراز. ويقال ؛ سَنة جُرز، وسنون أجْراز، وهى التي لا يكون فيها مطر، وتكون فيها جدوبة ويُبس وشدة. قال ذو الرمة يصف إبلاً:

طوى النحْزُ والأجْراز ما فى بُطونها   فما بقيتْ إلا الضلوعُ الجَراشِعُ

وهذا البيت فى قصيدة له.