البيان
والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة
كتاب الجنائز
من سماع ابن القاسم من كتاب الرطب باليابس
( مسألة )
قال سحنون : أخبرني ابن القاسم ، قال : سئل
مالك عن نزع الأردية في الجنائز ؛ قال : بئس
العمل .
قال محمد بن رشد : معنى هذا أن ينحسر الرجل في
جنازة أبيه أو أخيه فيتبعه حاسراً بغير رداء .
- قاله سحنون في نوازله من هذا الكتاب في بعض
الروايات ، وإنما كرهه مالك ، لأنه من ناحية
النعي المنهي عنه من فعل الجاهلية ، لما فيه
من إبداء الحزن والجزع للولي على ميته ؛ ومن
هذا المعنى ما يفعل
(2/203)
عندنا من تبيض
الولي على وليه ، فهو مكروه من الفعل ، لا
يفعله إلا مخطئ . وقد استخف ابن حبيب أن ينحسر
الرجل في جنازة من يختص به كأبيه الذي يحمل
سريره على كاهله ، وشبهه من قرابته ؛ أو
كالرجل الفاضل ، أو العالم الذي يختص به ويعني
بأمره ؛ وذلك خفيف - كما قال - إذا كان إنما
يفعله من أجل حمله وما يتكلفه من التصرف في
أمره ؛ فقد فعله عبد الله بن عون في جنازة
محمد بن سيرين ، ومصعب بن الزبير - وهو أمير
في جنازة الأحنف بن قيس ؛ وحمل سعد بن أبي
وقاص سرير عبد الرحمان بن عوف على كاهله ،
وفعله عمر بأسيد بن الحضير ، وعثمان بأمه ،
وعبد الله بن عمر بأبي هريرة - وبالله التوفيق
.
ومن كتاب القبلة
مسألة
قال ابن القاسم وسمعت مالكاً يقول : من شهد
جنازة فإني لا أرى أن ينصرف حتى يصلي عليها ،
إلا لحاجة أو علة .
قال محمد بن رشد : هذا مثل قوله - بعد هذا في
رسم شك في طوافه : ليس هذا من الفعل أن يحمل
رجل ولا يصلي . وقال في آخر سماع أشهب : لا
بأس أن يحمل الرجل الجنازة وينصرف ولا يصلي ،
وذلك اختلاف من قوله : كره في سماع ابن القاسم
لمن شهد جنازة أن ينصرف حتى يصلي عليها ، ولم
ير بذلك بأساً في سماع أشهب ؛ والأصل في هذا
الاختلاف اختلافهم في تخريج ما تعارض ظاهره من
حديث النبي - عليه الصلاة والسلام - في ثواب
المصلي على الجنازة وتأويله ، وذلك أنه روي عن
النبي - عليه الصلاة والسلام - أنه قال : من
جاء جنازة فتبعها من أهلها حتى يصلي عليها ،
فله
(2/204)
قيراط ، وإن
مضى معها حتى تدفن فله قيراطا ، مثل أحد .
وروي عنه أيضاً أنه قال : من صلى على جنازة
فله قيراط ، ومن تبعها حتى تدفن فله قيراطان .
فهذب بعض الناس إلى أن الحديث الأول مبين
للحديث الثاني ، لأن راويه حفظ من ذكر إتباع
الجنازة من أهلها ، ما أغفله راوي الحديث
الثاني ؛ وذهب آخرون إلى أن المعنى في ذلك ،
أن الله كان تفضل بقيراط من الأجر لمن اتبع
الجنازة من أهلها وصلى عليها ، ثم تفضل بعد
ذلك بالزيادة في الثواب فجعل في الصلاة على
الجنازة خاصة قيراطاً كاملاً من الأجر ؛ فمن
ذهب إلى التأويل الأول ، رأى أن الذي يصح عن
النبي - صلى الله عليه وسلم - بتصحيح الأثرين
، أن القيراط من الثواب إنما يستحق باتباع
الجنازة من أهلها ، والصلاة عليها ، يقع من
ذلك لاتباعها من عند أهلها ما الله به أعلم ،
وللصلاة عليها ما الله به أعلم أيضا ؛ ويجئ
على مذهبه( أنه لا ينبغي لمن شهد جنازة أن
ينصرف دون أن يصلي عليها لئلاً يبطل عمله في
إتباعها ، إذ جعل رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - ثواب ذلك مضمناً بالصلاة ، فصار معها
كشيء واحد ، من شرع فيه لم ينبغ له أن يتركه
حتى يتمه ، لقول الله عز وجل : {ولا تبطلوا
أعمالك .
} - فهذا وجه ما في هذا السماع من الكراهية
لمن شهد جنازة أن ينصرف دون أن يصلي عليها ؛
ومن ذهب إلى التأويل الآخر ، رأى أن إتباع
الجنازة ليس بمرتبط بالصلاة عليها ؛ إذ قد
تفضل الله لمن صلى عليها بقيراط كامل من الأجر
، ولمن اتبعها من أهلها بما هو أعلم به من
الأجر ؛ ويجيء على مذهبه ) : أن لمن اتبع
الجنازة من أهلها ، أن ينصرف دون أن يصلي
عليها
(2/205)
لانفصال إتباع
الجنازة ( عنده ) عن الصلاة عليها ، وبينونة
كل واحد منهما عن صاحبه بحظه من الأجر ؛ كما
أن لمن صلى عليها أن ينصرف دون أن يشاهد دفنها
، أو يصلي على غيرها ؛ لانفصال الدفن عن
الصلاة ببينونة كل واحد منهما عن صاحبه بحظه
من الأجر ، كما تنفصل الجنازة عن غيرها ؛ فهذا
وجه رواية أشهب عن مالك في أن لمن اتبع
الجنازة أن ينصرف دون أن يصلي عليها ، وهذا
إذا كان ممن لا يقتدي به ، وأمن من أن يظن به
اعتقاد سوء في نفسه ، أو في الميت ؛ ويشهد
لهذا القول ما روي أن رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - قال : من اتبع جنازة وحملها ثلاث
مرار ، فقد قضى ما عليه من حقها . وهو حديث
غريب ذكره الترمذي في مصنفه .
مسألة
قال مالك : أرى على من غسل ميتاً أن يغتسل ،
قال ابن القاسم ولم أره يأخذ بحديث أسماء بنت
عميس ، ويقول : لم أدرك الناس إلا على الغسل .
قال ابن القاسم وهو أحب ما سمعت فيه إلي .
قال سحنون حدثني أنس بن عياض ، عن محمد بن
علقمة ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، أن
النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من غسل
ميتاً فليغتسل .
(2/206)
قال محمد بن
رشد : ظاهر هذه الرواية إيجاب الغسل من غسل
ميتاً - للحديث المذكور ، ولمالك في المختصر
أن ذلك مستحب وليس بواجب ؛ وقول ابن القاسم :
وهو أحب ما سمعت فيه إلي - حمله ابن أبي زيد
وغيره على أنه استحب الغسل ، مثل قول مالك في
المختصر . والظاهر عندي منه نه إنما استحب
القول بإيجاب الغسل ، فهو مثل روايته عن مالك
، وقد قيل إنه لا غسل عليه ، وهو قول مالك في
الواضحة ، وعليه الجمهور ؛ وهو الذي يوجبه
النظر والقياس على الأصول ، لأن غسل الميت ليس
بحدث ينقض الطهارة مثل الجنابة ؛ بدليل
إجماعهم على أنه لا غسل على من غسل ما سوى
الميت من الأشياء الطاهرة ، أو النجسة ؛ فمن
أوجب الغسل جعل أمر النبي - صلى الله عليه
وسلم - به عبادة لا لعلة ، وحمله على مقتضاه
من الوجوب ، ومن استحبه ولم يوجبه ، جعل أمر
النبي - عليه الصلاة والسلام - به لعلة ؛
واختلفوا ما هي ؟ فمنهم من قال إنه إنما أمره
بالغسل ليبالغ في غسل الميت ، لأنه إذا غسل
الميت - موطناً على الغسل ، لم يبال بما ينتضح
عليه منه ، فكان سبباً لمبالغته في غسله ؛
ومنهم من قال ليس معنى أمره بالغسل ، أن يغسل
جميع جسده كغسل الجنابة ؛ وإنما معناه أن يغسل
ما باشره به ، أو انتضح عليه منه ، لأنه ينجس
بالموت ، وإلى هذا ذهب ابن شعبان ، فقال : لا
يدخل الميت في المسجد ، لأنه ميتة ، وإليه ذهب
محمد بن عبد الحكم في قوله : أنه ينجس الثوب
الذي يجفف به الميت بعد غسله ، خلاف قول سحنون
في نوازله من بعض روايات العتبية ؛ وهو دليل
قول ابن القاسم في كتاب الرضاع من المدونة أن
لبن المرأة الميتة الذي في ضرعها ينجس بموتها
، لنجاسة الوعاء ، فلا يحل شربه .
والصحيح أن الميت من بني آدم ليس بنجس ، بخلاف
سائر الحيوان التي
(2/207)
لها دم سائل ،
لأن عدم الروح من الحيوان ليس بعلة في النجاسة
، إذ قد يعدم الروح بالذكاة فيما يؤكل من دواب
البر ، وبالموت في دواب البحر ، فلا ينجس بذلك
؛ فلما لم يكن عدم الروح من الحيوان علة في
النجاسة ، وجب ألا ينجس بالموت إلا ما يموت
مما يحل أكله بذكاة ، وهي الميتات ؛ لأن الله
تعالى سماها رجساً فقال : {قل لا أجد في ما
أوحي إلي محرماً على طاعم} الآية - إلى قوله
سبحانه : {فإنه رجس} . والميت من بني آدم لا
يسمى ميتة ، فليس برجس ولا نجس ، ولا حرم أكله
لنجاسة ؛ إذ ليس بنجس ، وإنما حرم إكراماً له
؛ ألا ترى أنه لما لم يسم ميتة ، لم يجز
للمضطر أن يأكله بإباحة الله تعالى له أكل
الميتة - على الصحيح من الأقوال ، هذا من طريق
النظر ؛ وأما من طريق الأثر ، فقد روي أن رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إن المؤمن
لا ينجس . وقال ابن عباس في البخاري : لا ينجس
المسلم حياً ولا ميتاً . وقال سعد بن أبي وقاص
: لو كان نجساً ما مسسته . وسئلت عائشة - رضي
الله عنها - هل يغتسل من غسل ميتاً ؟ فقالت :
أو أنجاس موتاكم ؟ ولو كان نجساً ما أدخله
النبي - صلى الله عليه وسلم - المسجد ، وفي
هذا كفاية . ومنهم من قال : إنما أمر أن يغتسل
- توقياً لما عسى أن يصيبه من أذى الميت ، إذ
يخاف ألا يكون طاهراً من النجاسة ، لا أن ذاته
نجسة ؛ وقد يحتمل أن يتأول في قوله عليه
السلام : من غسل ميتاً فليغتسل ، ما يتأول في
قوله : ومن حمله فليتوضأ . فيكون المعنى في
ذلك أن يغتسل لاغتساله - إن كان غير طاهر ،
لئلاً يغسله - وهو جنب ؛ ومما يدل أن الاغتسال
من غسل الميت
(2/208)
مستحب غير واجب
، حديث أسماء بنت عميس ، إذ لو كان الغسل
عليها واجباً ، لما سقط عنها لشدة البرد ،
ولوجب أن تتيمم - إن خشيت على نفسها الموت -
والله أعلم .
مسألة
قال مالك : لا أحب للجنب أن يغسل الميت حتى
يغتسل ، لأن أمره يسير ، ولا بأس بالحائض أن
تغسل الميت .
قال محمد بن رشد : قد روى ابن نافع عن مالك
أنه لا بأس أن يغسل الجنب الميت ، وهو قول
محمد بن عبد الحكم ، وظاهر قول ابن القاسم في
كتاب ابن عبدوس ؛ والأظهر في ذلك الكراهية ،
لما جاء من أن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه جنب
، ولأنه يملك طهره ؛ وقد يحتمل أن يدل على
المنع ، من ذلك قوله ، عليه الصلاة والسلام :
من غسل ميتاً فليغتسل - على ما ذكرناه قبل هذا
مما يحتمله تأويل الحديث ؛ فإن غسله وهو جنب ،
نقص أجرهن ولم يأثم على القول بكراهية ذلك ،
لأن حد المكروه ما تركه أفضل - والله أعلم ،
وبه التوفيق .
ومن كتاب أوله حلف ألا يبيع سلعة
وسئل عن الشهداء تكون عليهم المناطق وقلانس
محشوة قزا ، أترى أن يدفنوا بها ؟ قال : ما
علمت أنه ينزع منهم شيء . قال ابن القاسم ولا
باس أن يدفنوا في الخفين إذا أصيب - وهما عليه
. وقال ابن نافع لا ينزع عنه فروه ولا خفاه .
قال مطرف
(2/209)
لا تنزع عنه
منطقته ، إلا أن يكون لها خطب ، قال وأما إن
كان الذي فيها من الفضة يسيراً ، فلا تنزع عنه
؛ ولا ينزع خاتمه إلا أن تكون فضة لها خطب
وبال .
قال محمد بن رشد : قول ابن القاسم لا بأس أن
يدفنوا في الخفين إذا أصيب وهما عليه ، يدل
على أن نزعهما جائز ؛ وكذلك المناطق والخواتم
على قياس قوله ؛ فهو خلاف قول مالك وابن نافع
ومطرف ، لأنهم ذهبوا إلى ألا ينزع عنهم شيء
مما هو في معنى اللباس - وإن لم يكن من الثياب
، قياساً على الثياب ، حاشا دروع الحديد ،
لأنها من السلاح ؛ وذهب ابن القاسم إلى أنه
ينزع عنهم ما عدا الثياب ، تعلقاً بظاهر قوله
عليه الصلاة والسلام : زملوهم بثيابهم فهذا
وجه أقوالهم - والله تعالى أعلم .
ومن كتاب شك في طوافة
مسألة
وسئل مالك عن رجل مرت به جنازة وهو على غير
وضوء ، فأراد أن يحمل لموضع الأجر ولا يصلي ؛
قال ليس هذا من العمل أن يحمل رجل ولا يصلي ،
ولم يعجبه ذلك ، وقال ليس هذا من عمل الناس أن
يحملوا على غير وضوء .
قال محمد بن رشد : قد مضى في رسم القبلة وجه
الكراهية في أن يحمل ولا يصلي ، وإنما كره له
أن يحمل على غير وضوء ، من أجل أنه لا يصلي ؛
ولو علم أنه يجد في موضع الجنازة ماء يتوضأ به
، لم يكره أن يحمل على غير وضوء ؛ وقد روي أن
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال من غسل
ميتاً
(2/210)
فليغتسل ، ومن
حمله فليتوضأ . ومعنى قوله عندهم من حمله
فليتوضأ أي ليتوضأ إذا أراد أن يحمله كي يصلي
عليه إذا حمله ، لا أن حمله ينقض طهارة من كان
متوضئاً .
مسألة
وسئل مالك عن الرجل المسلم يهلك أبوه وهو كافر
، افترى أن يعزيه به فيقول : أآجرك الله في
أبيك ؟ قال لا يعجبني أن يعزيه به ، لقول الله
تعالى في كتابه العزيز {ما لكم من ولايتهم من
شيء حتى يهاجروا} فلم يكن لهم أن يرثوهم وقد
أسلموا حتى يهاجروا ، ومنعم الله الميراث -
وقد أسلموا حتى يهاجروا .
قال محمد بن رشد : ما ذهب إليه مالك في هذه
الرواية من أن المسلم لا يعزي بأبيه الكافر ،
ليس ببين ؛ لأن التعزية بالميت تجمع ثلاثة
أشياء : أحدها تهوين المصيبة على المعزى
وتليته منها ، وتخضيضه على التزام الصبر ،
واحتساب الأجر ، والرضى بقدر الله ، والتسليم
لأمره . والثاني الدعاء له بأن يعوضه الله من
مصابه جزيل الثواب ، ويحسن له العقبى والمئاب
. والثالث الدعاء للميت والترحم عليه ،
والاستغفار له ، فلس تحظير الدعاء للميت
الكافر ، والترحم عليه ، والاستغفار له ؛
لقوله عز وجل : {ما كان للنبي والذين آمنوا أن
يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى} -
الآية - بالذي يمنع من تعزية ابنه المسلم
بمصابه به ، إذ لا مصيبة على الرجل أعظم من أن
يموت أبوه الذي كان يحن عليه ، وينفعه في
دنياه - كافراً ، فلا يجتمع به في أخراه ،
فتهون عليه مصيبته ، ويسليه منها ، ويعزيه
فيها بمن مات للأنبياء الأبرار - عليهم
(2/211)
السلام - من
القرابة ، والآباء والكفار ؛ ويحضه على الرضى
بقدر الله ، ويدعو له في جزيل الثواب إلى الله
؛ إذ لا يمنع أن يؤجر المسلم بموت أبيه الكافر
، إذا شكر الله ، وسلم لأمره ، ورضي بقضائه
وقدره ؛ فقد قال رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - لا يزال المسلم يصاب في أهله وولده
وحامته ، حتى يلقي الله - ولست له خطيئة . ولم
يفرق بين مسلم وكافر ، وهل يشك أحد في أن
النبي - صلى الله عليه وسلم - أجر بموت عمه
أبي طالب ، لما وجد عليه من الحزن والإشفاق ؛
وقد روي عن مالك - رحمه الله - أن للرجل أن
يعزي جاره الكافر بموت أبيه الكافر ، لذمام
الجوار ، فيقول له - إذا مر به : بلغني الذي
كان من مصابك بأبيك ، ألحقه الله بكبار أهل
دينه ، وخيار ذوي ملته . وقال سحنون إنه يقول
له : أخلف الله لك المصيبة ، وجزاك أفضل ما
جازى به أحداً من أهل دينه . فالمسلم بالتعزية
أولى ، وهو بذلك أحق وأحرى .
والآية التي احتج بها مالك لما ذهب إليه من
ترك التعزية بالكافر ، منسوخة ؛ قال عكرمة :
أقام الناس برهة لا يرث المهاجر في الأعرابي ،
ولا الأعرابي المهاجر ؛ لقوله تعالى : {والذين
آمنوا ولم يهاجروا} - الآية ، حتى نزلت {وأولو
الأرحام بعضهم أولى ببعض} . فاحتج بالمنسوخ
كما احتج لما اختار من الإطعام فيك فارة الفطر
في رمضان بقوله تعالى : {وعلى الذين يطيقونه}
- الآية ، وهي منسوخة ؛ وذلك إنما يجوز على
القول بأن الأمر إذا نسخ وجوبه ، جاز أن يحتج
به على الجواز ؛ وفي ذلك بين أهل العلم اختلاف
؛ واعتلاله بامتناع الميراث ضعيف ، إذ قد يعزى
الحر بالعبد - وهما لا يتوارثان ؛ ولو استدل
على ما ذهب إليه من أن
(2/212)
المسلم لا يعزى
بالكافر ، بقوله تعالى : {والمؤمنون والمؤمنات
بعضهم أولياء بعض} . وبقوله عز وجل : {لا تجد
قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر} - الآية ،
لكان أظهر وإن لم يكن ذلك دليلاً قاطعاً ،
للمعاني التي ذكرناها ، وبالله التوفيق .
مسألة
وسئل مالك عن المرأة تعتق الرجل فيموت المعتق
- ثم ولدها وأخوها ، من ترى أحق بالصلاة عليه
؟ قال ابنها ، ما لأخيها وما له ؟ ابنها أحق
بميراثه ، والصلاة عليه .
قال محمد ابن رشد : وهذا ما قال ، لأن ابن
المرأة أقرب إليها من أخيها - وإن لم يكن من
قومها عند مالك ، خلاف مذهب الشافعي .
ومن كتاب أوله الشجرة تطعم بطنين في السنة
وسئل عن الرج يبتاع الوصيف الصغير من سبى
الروم - وقد أراد به سيده الإسلام ، فيقيم في
يديه أياماً ثم يموت ، أترى أن يصلي عليه ؟
قال إن لم يسلم ، فلا يصلي عليه .
قال محمد بن رشد : مذهب ابن القاسم وروايته
هذه عن مالك ، أن الصغير من سبي أهل الكتاب ،
لا يجبر على الإسلام ، ولا يحكم له بحكمه حتى
(2/213)
يجيب إليه ؛
وقيل إنه يجبر على الإسلام - وإن كان معه
أبواه ، وهو قول الأوزاعي ، والثوري ، وظاهر
رواية ابن نافع عن مالك في كتاب التجارة إلى
أرض الحرب من المدونة ، واختيار أبي عبيد ؛
قال : لأن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه ؛ وقيل
إنه يجبر على الإسلام ، إلا أن يكون سبي معه
أبوه ، كانا في ملك واحد أو لم يكونا ؛ ولا
يلتفت في ذلك إلى أمه ، وهو قول المدنيين
وروايتهم عن مالك ، ورواية معن بن عيسى عن
مالك في آخر سماع موسى بن معاوية .
وقيل إنه يجبر على الإسلام ، إلا أن يكون معه
أحد أبويه فيكون تبعاً له ، ما لميفرق بينهما
الإملاك ، وهو قول ابن الماجشون في ديوانه ؛
فيتحصل في ذلك ستة أقوال - سنذكر بيانها في
سماع محمد بن خلاد من كتاب المرتندين
والمحاربين إذا وصلنا إليه - إن شاء الله ؛
واختلف إن مات قبل أن يجبر على الإسلام في
الموضع الذي يجبر فيه ، فقيل إنه يحكم له
بالإسلام لملك سيده إياه ، وهو قول ابن دينار
، ورواية معن بن عيسى عن مالكح وقيل إنه لا
يحكم له بالإسلام حتى ينوبه له سيده ، وهو قول
ابن وهب ؛ وقيل إنه لا يحكم له بالإسلام حتى
يرتفع عن حداثة الملك شيئاً ، ويزييه سيده بزي
الإسلام ، ويشرعه بشرائعه ، وهو قول ابن حبيب
؛ وقيل إنه لا يحكم له بالإسلام حتى يجيب إليه
ويعقل الإجابة ببلوغه حد الإثغار أو نحو ذلك ؛
وقيل إنه لا يحكم له بحكم الإسلام حتى يجيب
إليه بعد البلوغ ، وهو مذهب سحنون ؛ وأما
الصغير من سبي المجوس ، فلا اختلاف في أنه
يجبر على الإسلام ، إلا أن يكون معه أبواه ،
أو أنحدهما في ملك واحد ، أو أملاك متفرقةح
فعلى ما تقدم من الاختلاف في الصغير من سبي
أهل الكتاب وإن مات قبل أن يجبر ، فعلى ما
تقدم من الاختلاف أيضاً ؛ واختلف في الكبير من
سبي المجوس ، هل يجبر على الإسلام أم لا - على
قولين ، ولم يختلف في الكبير من سبي أهل
الكتاب ، أنه لا يجبر على
(2/214)
الإسلام ؛
ومذهب ابن حبيب فيما ولد للنصراني في ملك
المسلمين ، مثل قول ابن القاسم إنه لا يجبر
على الإسلام ، بخلاف السبي ؛ وذهب أبو المصعب
إلى أنه لاي جبر في السبي ، ويجبر فيما ولد في
ملك المسلمين ، عكس تفرقة ابن حبيب ؛ فهذا
تحصيل الاختلاف في هذه المسألة ، وقد مضى بعضه
في أول سماع أصبغ من كتاب الصلاة ؛ والذي يشهد
له قول النبي عليه الصلاة والسلام : "كل مولود
يولد على الفطرة ؛ فأبواه يهودانه أو ينصرانه"
- الحديث - أن يحكم للصغير من أولاد المشركين
كيفما كان ، ما لم تكن
له ذمة ، ولم يكن معه أبواه - بحكم الإسلام .
مسألة
وسئل مالك عن التكبير لصلاة الجنائز فيمن يكبر
خمس تكبيرات ، أترى أن يكبر معه ، أ/ يقطع ذلك
؟ قال بل يقطع ذلك أحب إلي إذا كبر أربعاً ،
ولا يتبعه في الخامسة .
قال محمد بن رشد : إنما استحسن أن يقطع ، ولم
يقل إنه يكبر معه الخامسة - مراعاة للخلاف ،
كما قال في الإمام يرى في سجود السهو خلاف ما
يرى من خلفه ؛ لأن الإجماع قد انعقد بين
الصحابة في خلافة عمر بن الخطاب على أربع
تكبيرات في صلاة الجنائز ، فارتفع الخلاف ؛
روي أن الناس كانوا يختلفون في التكبير في
الجنازة ، فلما ولي عمر ورأى اختلاف الناس في
ذلك ، شق عليه ذلك ؛ فجمع أصحاب النبي - صلى
الله عليه وسلم - وقال لهم : إنكم معاشر أصحاب
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متى تختلفون
، يختلف من بعدكم ؟ ومتى تجتمعون على أمر ،
يجتمع الناس عليه ، فانظروا أمراً تجتمعون
عليه ؛ فكأنما أيقظهم ، فقالوا نعم ما رأيت يا
أمير المؤمنين ، فتراجعوا الأمر بينهم ، فأجمع
أمرهم على أربع تكبيرات - عدد ركعات أطول
الصلوات ؛
(2/215)
فهذا أولى ما
قيل في ذلك ، وقد فرق بين الموضعين بأن السجود
فعلى يظهر مخالفة الإمام فيه ، والتكبير قول
لا يظهر مخالفة الإمام فيه ؛ وبأن الاختلاف في
سجود السهو ، ليس في نفسه كالتكبيرة الخامسة
في الجنازة ، وإنما هو في موضع إيقاعه ؛ وقال
أشهب ، وابن الماجشون - عن مالك ، إنه لا يقطع
ويسكت ، فإذا كبر الإمام الخامسة سلم بسلامه ،
وهذا على اختلافهم في المسافر يصلي بالمسافرين
، فيتم الصلاة ؛ فقيل إنهم يسلمون لأنفسهم
وينصرفون ، وقيل إنهم يقدمون منهم من يسلم بهم
؛ وقيل إنهم ينتظرون الإمام حتى يسلم فيسلموا
بسلامه ، وسيأتي في آخر نوازل أصبغ الاختلاف
في : هل يكبر معه الخامسة من فاتته بعض تكبيرة
، وبالله التوفيق .
ومن كتاب أوله حلف بطلاق امرأته
مسألة
وسئل مالك عن الجنازة إذا وضعت لتدفن ، أينتظر
الناس فراغها ؟ أم ينصرفون ؟ قال إن الناس
ليفعلون ذلك اليوم ، وما كان من أمر الناس في
القديم ؛ وقيل له أترى ذلك واسعاً لما أقام أو
انصرف ؟ فقال نعم ، أرى واسعاً .
قال محمد بن رشد : وهاذ واسع كما قال ، لأن
الدفن عبادة مبتدأة منفصلة عن الصلاة ، مختصة
بما لها من الأجر ؛ قال - صلى الله عليه وسلم
- من شهد الجنازة حتى يصلي ، فله قيراط ؛ ومن
شهد حتى تدفن ، كان له قيراطان . فقوله وم
نشهد حتى تدفن فله قيراطان ، يدل على أن ذلك
ترغيب ؛ وقال زيد بن ثابت : إذا صليت ، فقد
قضت الذي عليك ؛ وقال حميد ما علمنا على
الجنازة ( إذناً ) ، ولكن من صلى ثم رجع ، فله
قيراط ؛ فلا يلزم
(2/216)
من صلى على
جنازة ، أن يشاهد دفنها ؛ ولا يدخل في ذلك من
الاختلاف ، ما دخل في من حمل جنازة ، هل له أن
ينصرف دون أن يصلي عليها ، وقد مضى بيان ذلك
في رسم القبلة قبل هذا .
مسألة
وسئل مالك عن الجنائز يؤذن بها على أبواب
المساجد ، فكره ذلك وكره أن يصاح خلفه :
استغفروا له ، يغفر الله لكم . وابتدأ ما هو
فيه بالكراهية . قال ابن القاسم وسألت مالكاً
عن الجنازة يؤذن بها في المسجد يصاح بها ، قال
لا خير فيه - وكرهه ؛ وقال لا أرسى بأساً أن
يدار في الحلق يؤذن الناس بها ، ولا يرفع بذلك
صوته .
قال محمد بن رشد : أما النداء بالجنازة في
داخل المسجد فلا ينبغي ، ولا يجوز باتفاق ،
لكراهة رفع الصوت في المسجد ، فقد كره ذلك حتى
في العلم ؛ وأما النداء بها على أبواب المساجد
، فكرهه مالك ههنا ورآه من النعي المنهي عنه ؛
روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال
إياكم والنعي ، فإن النعي من عمل الجاهلية .
والنعي عندهم أن ينادى في الناس : ألا إن
فلاناً قد مات ، فاشهدوا جنازته ؛ واستخفه ابن
وهب في سماع عبد الملك من هذا الكتاب ، ومن
كتاب الصلاة ؛ وقول مالك : وأما الإذن
(2/217)
بها ، والإعلام
من غير نداء ، فذلك جائز إجماع ؛ وقد قال رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - في المرأة التي
توفيت فدفنت ليلاً : أفلا آذنتموني بهاز وقد
روي عن حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - أنه
قال : إذا مت فلا تؤذنوا بي أحداً ، إني أخاف
أن يكون نعياً ، وقد سمعت رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - ينهي عن النعي .
مسألة
وسئل مالك عن النصراني يموت أترى لابنه وهو
رجل من المسلمين أن يقوم في أمره ، ويتبعه إلى
قبره من غير شهود له ؟ قال ما أرى أن يقوم في
أمره ولا يتبعه إلى قبره ، قد ذهب الحق الذي
كان يلزمه من أمره إذا انقضت حياته ، إلا أن
يخاف أن يضيع ؛ قال ابن القاسم هذا أثبت ما
سمعت من قول مالك وبه آخذ .
قال محمد بن رشد : قد حكى ابن حبيب عن مالك ،
أنه قال : لا بأس أن يقوم بأمره كله ، ثم
يسلمه إلى أهل دينه ولا يتبعه ، إلا أن يخاف
عليه الضيعة ، فيتقدم إلى قبره ، ولا يلي
إدخاله فيه ، إلا ألا يجد من يكفيه ذلك ؛
ولهذا قال ابن القاسم في روايته عنه : إنها
أثبت ما سمع منه ، فاختار من قوله ألا يقوم في
شيء من أمره ، إلا ألا يجد من يكفيه ذلك ،
وإتباعه إلى قبره إن خشي عليه الضيعة ، يكون
معتزلاً عن الحاملين له من أهل دينه - على ما
حكى عنه ابن حبيب ، مخافة أن ينزل بهم سخط من
الله - فصيبه معهم .
ومن كتاب أوله سن رسول الله ، صلى الله عليه
وسلم
قال ابن القاسم في التسليم على الجنازة يسلم
الإمام واحدة
(2/218)
ويسمع من يليه
، ومن وراءه يسلمون واحدة في أنفسهم ، وإن
أسمعوا من يليهم لم أر بذلك بأساً .
قال محمد بن رشد : هذا مثل ما في المدونة سواء
، فالإمام يسمع من يليه سلامه ، لأنهم يقتدون
به فيسلمون بسلامه ، وم نخلفه يسلم في نفسه ،
وليس عليه أن يسمع من يليه ؛ إذ آل يقتدي
بسلامه ، وإنما يسلم ليتحلل من صلاته ، لقوله
- عليه الصلاة والسلام - تحريم الصلاة التكبير
، تحليلها التسليم . والصلاة على الجنائز صلاة
، فهي داخلة في عموم لفظ الصلاة ، وفي سماع
ابن غانم في بعض الروايات ، أنه يرد على
الإمام من سلم عليه - قياساً على الصلاة
الفريضة وهو تفسير لسائر الروايات .
مسألة
قال ابن القاسم في اتخاذ المساجد على القبور ،
قال إنما يكره من ذلك هذه المساجد التي تبنى
عليها ؛ فلو أن مقبرة عفت فبنى قوم عليها
مسجداً فاجتمعا للصلاة فيه ، لم أر بذلك بأساً
.
قال محمد بن رشد : تكررت هذه المسألة في هذا
السماع ، والرسم بعينه من كتاب الحبس ، وهي
مسألة صحيحة ؛ فوجه كراهية اتخاذ المساجد على
القبول ليصلي فيها من أجل القبور ، ما روي أن
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : لعن
الله زائرات القبور ، والمتخذين عليها المساجد
والسرج .
(2/219)
وقوله ، عليه
الصلاة والسلام : لعنة الله على اليهود
والنصارى ، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد - يحذر
ما صنعا . وقوله اللهم : لا تجعل قبري وثناً
يعبد ، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور
أنبيائهم مساجد . وأما بناء المسجد للصلاة فيه
على المقبرة العافية ، فلا كراهة فيه - كما
قال ، لأن المقبرة والمسجد حبسان على المسلمين
لصلاتهم ، ودفن موتاهم ؛ فإذا عفت المقبرة -
ولم يمكن التدافن فيها ، أو استغنوا عن
التدافن فيها ، واحتيج إلى أن تتخذ مسجداً
يصلي فيه ، فلا بأس بذلك ، لأن ما كان لله ،
فلا بأس أن يستعان ببعض ذلك في بعض على ما
النفع فيه أكثر ، والناس إليه أحوج ؛ وذلك إذا
عفت لكراهية درس القبول الجديد المسنمة على ما
قال في أول سماع ابن القاسم من كتاب الأقضية ،
وفي الواضحة وغيرها ؛ فقد روي أن رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - قال لأن يمشي أحدكم على
الرضف خير له من أن يمشي على قبر أخيه ، وقال
إن الميت ليؤذيه في قبره ما يؤذيه في بيته .
مسألة
وكره ابن القاسم أن يجعل على القبر بلاطة
ويكتب فيها ، ولم ير بأساً بالحجر ، والعود ،
والخشبة ، ما لم يكتب في ذلك ما يعرف به الرجل
قبر وليه .
قال محمد بن رشد : كره مالك البناء على القبر
، وأن يجعل عليه
(2/220)
البلاطة
المكتوبة ، لأن ذلك من البدع التي أحدثها أهل
الطول - إرادة الفخر والمباهاة والسمعة ، فذلك
مما لا اختلاف في كراهته .
ومن كتاب البز
مسألة
وسئل مالك عن النساء يخرجن إلى الجنائز على
الرحائل ، ومشاة ؟ قال قد كان النساء يخرجن
فيما مضى من الزمان ، ولقد كانت أسماء بنت أبي
بكر تخرج تقود فرس الزبير - وهي حامل مثقل ،
حتى عوتبت في ذلك ؛ فقيل له أفترى بخروجهن
بأساً ؟ فقال ما أرى بأساً ، إلا أن يكون
أمراً يستنكر .
قال محمد بن رشد : أجاز مالك - رحمه الله -
إتباع السناء الجنائز ، وخروجهن فيها ؛ واحتج
في ذلك بالعمل الماضي ، لأنه عنده أقوى من
أخبار الآحاد العدول ، إلا أن يأتي من ذلك ما
يستنكر فيمنع ؛ وقد قالت عائشة رضي الله عنها
: لو أدرك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
ما أحدثه النساء لمنعهن المساجد ، كما منعه
نساء بني إسرائيل . وقد قال رسول الله ، صلى
الله عليه وسلم : من شهد جنازة حتى يصلي عليها
فله قيراط ، ومن شهد حتى تدفن كان له قيراطان
. فدخل في عموم ذلك الرجل والنساء ، وما روي
من أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعن
زوارات القبور ، معناه - عند
(2/221)
أهل العلم - أن
ذلك كان قبل أن يرخص في ذلك ، فلما رخص فيه ،
دخل في الرخصة النساء مع الرجال ؛ وقد قالت أم
عطية : نهينا عن إتباع الجنائز ولم يعزم علينا
. فقيل إنما نهين عن ذلك ، لقلة صبرهن ، وكثرة
جزعهن . وقيل إنما نهين عن ذلك من باب الصون
والستر ، فالنساء في شهودها ثلاث : متجالة ،
وشابة ، ورائعة بدرة جسيمة ضخمة : فالمتجالة
تخرج في جنازة الأجنبي والقريب ، والشابة تخرج
في جنازة أبيها وأخيها ومن أشبههما من قرابتها
، والمرأة الرائعة البدرة الضخمة ، يكره لها
الخروج أصلاً ، والتصرف بكل حال ؛ هذا هو
المشهور ، وقد ذكر ابن حبيب أن خروج النساء في
الجنائز مكروه بكل حال : في أهل الخاصة ، وذوي
القرابة ، وغيرهم ؛ وينبغي للإمام أن يمنع من
ذلك .
ومن كتاب أوله كتب عليه ذكر حق
مسألة
وسئل مالك عن الصبي يسبي صغيراً ، ومن نية
صاحبه أن يجعله يسلم ، فلا يقيم إلا يوماً أو
يومين حتى يموت ؛ أترى أن يصلي عليه ؟ قال :
إن كان الأمر بالإسلام فأجاب إليه فيصل عليه ،
وإلا فلا يصلي .
قال محمد بن رشد : قد مضى القول في هذه
المسألة مجوداً موعباً في رسم الشجرة تطعم
بطنين في السنة ، فلا معنى لإعادته .
(2/222)
ومن كتاب
الشريكين
مسألة
قال مالك في الجنازتين تحضران جميعاً جنازة
رجل ، وجنازة امرأة ؛ من ترى يصلي عليهما ؛
أولياء المرأة ، أو أولياء الرجل ؟ قال مالك :
لس ينظر في ذلك إلى أولياء المرأة ، ولا إلى
أولياء الرجل ، ولكن ينظر إلى أهل الفضل منهم
والسن ، فيقدم عليهما ؛ وقد كان الناس فيما
مضى يودون أصحاب رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - يصلون على جنائزهم - رجاء بركة دعائهم
.
قال محمد بن رشد : ذهب ابن الماجشون إلى أن
أولياء الرجل ، أحق من أولياء المرأة ، قال :
وقد قدم حسين بن علي ـ عبد الله بن عمر للصلاة
على جنازة أخته أم كلثوم ، وابنها زيد بن عمر
بن الخطاب أخي عبد الله بن عمر حين كان عبد
الله بن عمر أحق بالصلاة على أخيه من حسين
بالصلاة على أخته ، وهذا لا حجة فيه ـ عندى ،
إذا قد يحتمل أنه إنما قدمه لسنه ، ولإقراره
بفضله ، لا من أجل أنه أحمق بالصلاة على أخته
، وقدم ابنها إلى الإمام في الصلاة عليهما ،
ولم يورث واحداً منهما من صاحبه ، لأنه لم يدر
أيهما مات قبل صاحبه ، فكانت فيهما ثلاث سنن
على ما قال ابن الماجشون .
ومن كتاب اغتسل على غير نية
مسألة
وسئل عن التيمم للجنازة ، فقال : إن كان
بعيداً جداً ، بحيث يجوز له التيمم للصلاة
يتيمم ـ يريد في السفر .
قال محمد بن رشد : هذا قول مالك في سماع أشهب
، وفي المدونة
(2/223)
والواضحة ،
وغيرهما : لم يختلف في ذلك قوله ، وأجاز
التيمم في الحضر لها فواتها ـ جماعة من علماء
المدينة وغيرهم ، منهم : ابن شهاب ،و يحيى بن
سعد ، والليث ، وأخذ به ابن وهب من أصحابه ،
وقد اختلف قول مالك في الحاضر هل يصلي الفريضة
بالتيمم أم لا ـ على ثلاثة أقوال ، أحدها :
أنه يصليها به وتجزئه . والثاني أنه يصليها به
ويعيدها . والثالث : أنه لا يصليها حتى يجد
الماء فيتوضأ ويصلي ، وقد قيل إنه إن لم يجد
الماء حتى خرج الوقت ، سقطت عنه الصلاة ، ومن
مذهب مالك أن المتيمم يصلي النافلة بالتيمم ،
ويستبيح به جميع ما يستباح بالوضوء ، فيجي على
قوله : أن الحاضر من أهل التيمم ، وأنه يصلي
ولا يعيد - بناء على مذهبه المذكور أن له أن
يتيمم لصلاة الجنازة ، والعيدين .
مسألة
وسئل مالك : هل صلى صهيب على عمر بن الخطاب ؟
قال : نعم .
قال محمد بن رشد : حقق ههنا أن صهيبا صلى عليه
، وقال في سماع أشهب لم أسمع ذلك ، ولكني أظنه
، لقوله يصلي بكم صهيب . وهو ظن كاليقين ،
لأنه يبعد في القلوب أن يستخلفه عمر على
الصلاة أيام الشورى ، فيصلي عليه غيره ، وهم
لم يجتمعوا بعد على إمام ، وهو صهيب بن سان
الرومي ، يعرف بالرومي وهو من العرب ؛ لأنه
أصابه سباء - وهو صغير ، فصار أعجمي اللسان ؛
صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يوحى
إليه ، ثم أسلم معه بمكة هو وعمار بن ياسر في
يوم واحد ، وهاجر إلى المدينة ، وشهد بدراً ،
فهو من المهاجرين الأولين ؛ وروي أن رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - قال : من كان يؤمن
بالله واليوم الآخر ، فليحب صهيباً حب الوالدة
ولدها - والله الموفق .
ومن كتاب أوله مرض وله أم ولد فحاضت
وسألت مالكاً فقلت له : أي شيء أعجب إليك :
القعود في
(2/224)
المسجد أم شهود
الجنائز ؟ فقال : بل القعود في المسجد أعجب
إلي ، إلا أن يكون حق من جوار ، أو قرابة ، أو
أحد ترجى بركة شهوده - يريد به في فضله فيحضره
. قال ابن القاسم : وذلك في جميع المساجد .
قال محمد بن رشد : ذهب سعيد بن المسيب ، وزيد
بن أسلم ، إلى أن صلاة النوافل والجلوس في
المساجد ، أفضل من شهود الجنائز - جملة من غير
تفصيل ؛ فمات علي بن حسين بن أبي طالب ،
فانقلع الناس لجنازته من المسجد ، إلا سعيد بن
المسيب ، فإنه لم يقم من مجلسه ؛ فقيل له ألا
تشهد هذا الرجل الصالح من البيت الصالح ؟ قال
: لأن أصلي ركعتين ، أحب إلي من أن أشهد هذا
الرجل الصالح ، من البيت الصالح ؛ وخرج سليمان
بن سار فصلى عليه واتبعه ، وكان يقول شهود
الجنائز أفضل من صلاة التطوع جملة أيضاً من
غير تفصيل ؛ وتفصيل مالك - رحمه الله - هو عين
الفقه ، إذ إنما يرغب في الصلاة على من يعرف
بالخير ، وترجى بركة شهوده ؛ فمن كان بهذه
الصفة ، أو كان له حق من جوار ، أو قرابة ،
فشهوده أفضل من صلاة التطوع - كما قال مالك ،
لما تعين من حق الجوار ، والقرابة ؛ ولما جاء
من الفضل في شهود الجنائز ؛ فقد روي أن رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - قال : أفضل ما
يعمل امرؤ في يومه ، شهود الجنازة . ولأن
مراتب الصلوات في الفضل على قدر مراتبها في
الوجوب ، فأفضل الصلوات صلاة الفريضة ، ثم
صلاة الوتر ، إذ قد قيل إنه واجب ؛ ثم الصلاة
على الجنائز لأنها فرض على الكفاية ، ثم ما
كان من الصلاة سنة ، ثم ما كان منها فضيلة ،
ثم ما كان منها نافلة .
(2/225)
مسألة
قال ابن القاسم : سئل مالك عن الأعجمي يقال له
أهل فيصلي ثم يموت ، هل يصلي عليه ؟ قال : نعم
.
قال محمد بن شد : وهذا كما قال ، لأن من صلى
فقد أسلم ، قال - صلى الله عليه وسلم : من صلى
صلاتنا ، واستقبل قبلتنا ، فذلك المسلم الذي
له ذمة الله ؛ ومن أبى فهو كافر ، وعليه
الجزية . وقد مضى في رسم القبلة ما فيه بيان
لهذه المسألة ، وبالله التوفيق .
ومن كتاب أوله باع غلاماً بعشرين ديناراً
وقال مالك : من مات وعليه دين يحيط بماله ،
فإن الكفن مبدأ على الدين ؛ قال مالك : ومن
كان له رهن في يدي رجل ، ثم مات - ولا مال له
غير ذلك ، فلا يكفن منه ، والمرتهن أحق به من
الكفن .
قال محمد بن رشد : تكررت هذه المسألة في يهذا
السماع من كتاب المديان والتفليس ، وهي مسألة
صحيحة ؛ أما قوله إن الكفن مبدأ على الدين ،
فالأصل في ذلك ما ثبت من أن مصعب بن عمير قتل
يوم أحد ، فلم يترك إلا نمرة كانوا إذا غطوا
بها رأسه ، بدت رجلاه ، وإذا غطوا بها رجليه ،
بدا رأسه ؛ فقال رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - غطوا رأسه ، واجعلوا على رجليه من
الإدخر . وما ثبت أيضاً من أن رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - أمر بدفن قتلى أحد بثيابهم
من غير أن يعتبر ما يبقى لورثتهم ، أو لدين -
إن كان عليهم ، وهذا أمر لا أعلم فيه اختلافاً
، إلا ما يروي عن
(2/226)
سعيد بن المسيب
في أحد قوليه : إن الكفن من الثلث ؛ والصحيح
ما عليه الجماعة : أنه من رأس المال . وأما
قوله إنه لا يكفن من الرهن ، والمرتهن أحق ؛
فهو كما قال ولا اختلاف فيه ، لأن حق المرتهن
قد تعين في عين الرهن ، وما تعين من الحقوق في
أعيان الأشياء من التركة ، فهو مبدأ على ما
ثبت منها في الذمة ، كأم الولد ، وزكاة تمر
الحائط الذي أزهى قبل موت المتوفي ، والرهن ،
وما استحق من الأصول والعروض ببينة تشهد على
عينه ، والله ولي التوفيق .
من سماع زياد عن مالك
مسألة
قال : وقال مالك في الإمام يصلي على الجنازة
فيتابع بين التكبير ويدع الدعاء ، أترى ذلك
يجزئه ؟ قال : أرى أن تعاد الصلاة عليه ،
كالذي يترك القراءة في الصلاة .
قال محمد بن رشد : وهذا كما قال : لأن القصد
في الصلاة على الميت الدعاء له ، لقوله - صلى
الله عليه وسلم - أخلصوه بالدعاء . ولذلك سميت
صلاة لما فيها من الدعاء ، فإذا لم يدع للميت
فلم يصل عليه .
(2/227)
من سماع أشهب
وابن نافع عن مالك - رواية سحنون
من كتاب الجنائز الأول
مسألة
قال أشهب : وسئل مالك عن أهل الميت هل يبعث
إليهم بالطعام ؟ فقال إني أكره المناحة ، فإن
كان هذا ليس منها فليبعث .
قال محمد بن رشد : وهذا كما قال ، لأن إرسال
الطعام إلى أهل الميت لاشتغالهم بميتهم إذا لم
يكونوا اجتمعوا لمناحة ، من الفعل الحسن
المرغب فيه المندوب إليه ؛ روي أن رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - قاله لأهله لما جاء نعي
جعفر بن أبي طالب : اصنعوا لآل جعفر طعاماً ،
وابعثوا به إليه ، فقد جاء ما يشغلهم عنه ،
وبالله التوفيق .
مسألة
وأخبرني جعفر بن محمد ، عن أبيه ، أنه قال لما
وضع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وسجي عليه
، قال له علي : ما على الغبراء ، ولا تحت
الخضراء ، أحد أحب إلي أن ألقى الله بكتابه
منك! .
قال محمد بن رشد : في هذا تفضيل علي - رضي
الله عنه - لعمر على عثمان ، وهو الذي عليه
أهل السنة ، والحق أن أفضل الصحابة أبو بكر ،
ثم عمر ، ثم عثمان ، ثم علي - رضي الله عنهم
أجمعين . - وقد روي هذا عن مالك ، وروي عنه
أيضاً الوقوف عن تفضيل بعضهم على بعض . وروي
عنه أيضاً تفضيل أبي بكر على عمر ، ثم الوقوف
عن المفاضلة بين علي وعثمان ، والأول هو الذي
يعتمد عليه من مذهبه - والله أعلم .
(2/228)
مسألة
قال وسمعته يحدث عن أبي النضر ، أن رسول الله
- صلى على سهيل بن بيضاء في المسجد .
قال محمد بن رشد : ثبت هذا عن النبي - عليه
الصلاة والسلام ؛ وروي عن أبي هريرة أنه قال :
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : من صلى
في المسجد على جنازة ، فلا شيء له . فاختلف
أهل العلم لما تعارض من هذين الحديثين في
الصلاة على الجنازة في المسجد ، وفي صلاة من
في المسجد على الجنازة بصلاة الإمام عليها
بخارج المسجد ؛ فمنهم من أجاز ذلك وضعف حديث
أبي هريرة ، وقال معنى قوله فلا شيء له - أي
فلا شيء عليه ، مثل قوله عز وجل : {إذا أحسنتم
أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها} . أي عليها .
ورأى العمل على ما جاء في سهيل بن بيضاء ،
واستدل على ذلك بإنكار عائشة ـ رضي الله عنها
ـ على من أنكر عليها ما أمرت به من إدخال سعد
بن أبي وقاص في المسجد ، وهو مذهب الشافعي ،
وأحمد بن حنبل ، ومنهم من كره ذلك ، ورأى ما
جاء في سهيل بن بيضاء ، أمراً قد ترك وجرى
العمل بخلافه ، وأن حديث أبي هريرة ناسخ له ،
لأنه متأخر عنه ، واستدل على ذلك بإنكار الناس
- وهم صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
على عائشة ما أمرت به من أن يمر ( عليها )
بسعد بن أبي وقاص في المسجد ، إذ كانت الصلاة
على الجنازة في المسجد أمراً قد ترك ، وجرى
العمل بخلافه - عبد أن كان يفعل ؛ لما علموه
مما هو أولى منه ، ولم تعلم بذلك عائشة ، وظنت
أنهم إنما كانوا تركوا
(2/229)
ذلك ، ولهم أن
يفعلوه ، لا لأنهم علموا أن غيره أولى منه ؛
وهذا معنى قول مالك في المدونة : لا توضع
الجنازة في المسجد ، وإن وضعت قرب المسجد لم
يصل عليها من في داخل المسجد ، إلا أن يضيق
خارج المسجد بأهله ؛ وهو مذهب أبي حنيفة
وأصحابه .
ومنهم ، كره أن يصلي على الجنازة في المسجد ،
وأجاز إذا وضعت خارج المسجد أن تمتد الصفوف
بالناس في المسجد ؛ وإلى هذا ذهب ابن حبيب ،
وعزاه إلى مالك ، وقال هو من رأيه ؛ ولو صلى
عليها في المسجد ما كان ضيقاً ، وفي صلاة رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - على سهل بن بيضاء
في المسجد ، دليل على أن الميت ليس بنجس ، وقد
مضى في أول سماع ابن القاسم من الحجة على ذلك
ما فيه كفاية ؛ فإذا كان ليس بنجس ، وإنما
يكره إدخاله في المسجد - إذا لم يدفع فيه ،
مخافة أن ينفجر منه شيء فيه ، فلا فرق في
كراهية الصلاة عليه في المسجد بين أن يكون فيه
أو خارجاً منه ؛ وهو مذهب مالك في المدونة ،
وظاهر قوله في الحديث : من صلى على جنازة في
المسجد ، فلا شيء له ؛ إذ لم يفرق فيه بين أن
تكون الجنازة في المسجد ، أو خارجاً عنه ؛ وغذ
قلنا إن ذلك مكروه ، فإن فعله لم يأثم ولم
يؤجر ؛ وإن لم يفعله أجر ، لأن حد المكروه ما
تركه أفضل من فعله ؛ وهو الذي يدل عليه قوله -
عليه الصلاة والسلام : من صلى على جنازة في
المسجد ، فلا شيء له .
مسألة
وسئل عن المشي أمام الجنازة للرجال والنساء ،
أهم في ذلك سواء ؟ فقال : لا أرى أن يكون
النساء في ذلك بمنزلة الرجال ، أيكون النساء
مع الرجال بين أيديهم ؟ فقال له إن نساء لا
يكن بين أيدي الرجال ، ولكن خلفهم أمام
الجنازة ؛ فقال أليس الرجال يحملون
(2/230)
الجنازة -
والنساء أمامها ، لا أرى ذلك ، وأرى أن يمشين
خلفه ، والعمل على ذلك .
قال محمد بن رشد : وهذا كما قال ، إن النساء
يمشين خلف الجنازة ، لأنهن عورة ، فلا يكن بين
أيدي الرجال ؛ وإنما اختلف أهل العلم في
الرجال ، فقيل إن الأفضل أن يمشوا أمام
الجنازة ، وقيل إن الأفضل أن يمشوا خلفها ،
وقيل إنهم مخيرون في ذلك ، ولا فضل لأحد
الوجهين على الآخر ؛ وقيل إنهم يمشون خلف
الجنازة إلا أن يكون ثم نساء فيمشون أمامها ،
لئلا يختلط الرجال بالنساء ؛ وتوجيه ق ول كل
قائل وما تعلق به يطول ، وهو موجود في مظانه ،
فلا معنى لذكره .
مسألة
قال وحدثني أبو النضر ، أن رسول الله – صلى
الله عليه وسلم – قال : ومن ههنا من بني فلان
؟ فلم يجبه أحد ؛ ثم قالها ، فلم يجبه أحد ؛
ثم قالها ، فلم يجبه أحد ؛ فقام رجل فقال له
رسول الله – صلى الله عليه وسلم : ما منعك أن
تجيب ؟ فقال : خشيت أن يكون نزل فينا من الله
قرآن . فقال : لم أكن لأدعو أحداً منكم إلا
إلى خير ، ولكن صاحبكم حبس لدين عليه دون
الجنة .
قال محمد بن رشد : هذا كان في أول الإسلام -
والله أعلم ، بدليل ما روي عن أبي هريرة أن
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يؤتي
بالرجل المتوفى عليه دين ، فيقول : هل ترك
لدينه من فضل ؟ فإن حدث أنه ترك وفاء ، صلى
عليه ، وإلا قال للمسلمين صلوا على صاحبكم ؛
فلما فتح
(2/231)
الله الفتوح ،
قام فقال : أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم ،
فمن توفي من المسلمين وترك ديناً ، فعلي قضاؤه
، ومن ترك مالاً فهو لورثته . وإنما أخبر
النبي - عليه الصلاة والسلام - قوم المتوفى
بحبس ميتهم دون الجنة بما عليه من الدين ،
رجاء أن يؤدوه عنه ، أو يتحملوا به ؛ بدليل
حديث جابر بن عبد الله ، أن رجالً مات وعليه
دين فلم يصل عليه - عليه الصلاة والسلام - حتى
قال : أبو اليسر ، أو غيره ، هو إلي ، فصل
عليه يا رسول الله ، فجاءه من الغد يتقاضاه ،
فقال إنما كان أمس ، ثم أتاه من بعد الغد
فأعطاه ؛ فقال النبي - عليه الصلاة والسلام -
الآن بردت عليه جلده . وهذا حديث فيه ستة أوجه
من الفقه : أحدها جواز الحمالة عن الميت الذي
لم يترك مالاً ، خلافاً لأبي حنيفة في قوله :
إن الحمالة باطل ؛ إذ لو لم تجز الحمالة لما
صلى عليه النبي - عليه الصلاة والسلام ؛
والثاني أنه إذا أدى الدين عن الميت ، لم يكن
له الرجوع في مال إن طرأ له ، إذ لو انتقل
الدين إلى الحميل الذي أداه ولم يسقط عن الذي
كان عليه ، لم بردت جلده بالأداء عنه .
والثالث : أن الكفالة لازمة للحميل بغير قبول
المكفول له ، خلافاً لأبي حنيفة في ذلك .
والرابع : جواز الكفالة بغير إذن المكفول عنه
.و الخامس : وجوب أخذ المكفول له بها الكفيل .
والسادس : أن ذمة المكفول عنه لا تبرأ بوجوب
الكفالة على الكفيل حتى يؤدي عنه ، لقوله -
عليه الصلاة والسلام - الآن بردت ( عليه )
جلده .
فإذا لم تبرأ ذمته بالكفالة من الدين ، كان
للذي له الدين أن يتبع بدينه من شاء منهما على
أحد قولي مالك ، وهو مذهب الشافعي ، وأبي
حنيفة ؛ وقيل إنه ليس له أن يتبع الكفيل ، إلا
في عدم الذي عليه الدين ، وهو أحد قولي مالك ،
واختيار ابن
(2/232)
القاسم ،
والصحيح في القياس والنظر ؛ لأنه إن قضى
للمكفول له على الكفيل ، قضى في الحين للكفيل
على المكفول عنه ؛ فالقضاء للمكفول له على
المكفول عنه أولى وأقل عناء ، فلا معنى لتبرئة
الكفيل بالإتباع مع حضروهما واستوائهما في
الملأ واللدد ، وبالله التوفيق .
مسألة
ويل له : أتحب أن لو منع النساء في جنائزهن من
شق الثياب ، وضرب الوجه ، وأشباه ذلك ؟ فقال :
نعم ، هذا من عمل الجاهلية .
قال محمد بن رشد : وهذا كما قال ، إنه من عمل
الجاهلية ، فينبغي للإمام أن يغير ذلك ويمنع
منه ؛ قال - صلى الله عليه وسلم : ليس منا من
شق الجيوب . وضرب الخدود ، ودعا بدعوى
الجاهلية . وقال - صلى الله عليه وسلم : أربع
في أمتي من أمر الجاهلية لن يدعهن الناس :
النياحة ، والطعن في الأحساب ، والعدوى ، أجرب
بعير فأجرب مائة بعير ، من أجرب البعير الأول
؟ والأنواء مطرنا بنوء كذا وكذا - ذكره
الترمذي .
مسألة
وسئل عن مولى لامرأة توفي ، فقام ابن المولاة
فقال لابن عم له : تقدم فصل عليها ، فقال ابن
أخي مولاة المتوفى : هو مولى عمي وأنا أولى
ممن أمرت ، وأنت صبي ممن لا أمرك لك ؛ فقال
مالك : ما أراه إلا كما قال ابن أخي الموالاة
، يكون ذلك له .
(2/233)
قال محمد بن
رشد : إنما هذا من أجل أنه صبي ، ولو كان
رجالً لكان ابن عمه الذي قدم أحق من ابن أخي
مولاة المتوفى ، لأنه حقه له أن يجعله إلى من
شاء ، وإلى هذا ذهب ابن حبيب ، وحكاه عن ابن
الماجشون ، وأصبغ ، وقال ابن عبد الحكم : إذا
أبى أن يصلي فالذي بإثره أحق ، وليس له أن
يجعل ذلك إلى من هو أبعد منه ؛ وساق ابن حارث
هذه الرواية على أنها مثل قول ابن عبد الحكم ،
فلم يلتفت إلى قوله فيها : وأنت صبي ممن لا
أمر لك ، وذلك إغفال منه ، فقف على ذلك .
ومن كتاب الجنائز والصيد والذبائح
قال أشهب : وسئل مالك عن قراءة القرآن عند رأس
الميت ( بيس ) . فقال : ما سمعت بهذا ، وما هو
من عمل الناس ؛ قيل له : أفرأيت الإجمار عند
رأسه - وهو في الموت يجود بنفسه ؟ فقال أيضاً
ما سمعت شيئاً من هذا ، وما هذا من عمل الناس
.
قال محمد بن رشد : استحب ابن حبيب الإجمار عند
الميت إذا احتضر ، وأن يقرأ عند رأسه بياسين ؛
وحكي عن النبي - عليه الصلاة والسلام - أنه
قال : من قرأ ياسين أو قرئت عند رأسه - وهو في
سكرات الموت ، بعث الله ملكاً إلى ملك الموت :
أن هون على عبدي الموت . قال : وإنما كره مالك
أن يفعل ذلك - استناناً .
(2/234)
مسألة
قال وسئل عمن حضرته الجنازة وليس على وضوء ،
ويخاف إن توضأ - فوتها ، أيتيمم لها ؟ فقال :
لا .
قال محمد بن رشد : قد مضى القول في هذه
المسألة في رسم اغتسل على غير نية ، فلا وجه
لإعادته .
مسألة
وسئل عن الذي تفوته الجنازة فيأتي بعدما توارى
، أترى أن يكبر عليه أم يدعو ؟ قال يدعو ما
أحسن أن يدعو .
قال محمد بن رشد : هذا مثل ما في المدونة :
أنه لا يصلي على من قد صلي عليه -وإن لم يدفن
، وقيل إنه يصلي عليه ما لم يدفن . روي أن
الزبير بن هشام بن عروة توفي بالعقيق ، فصلى
عليه أبوه ثم بعث به إلى المدينة ، فأمر أن
يصلي عليه بالبقيع ويدفن ؛ وقد فعل ذلك أزواج
النبي - صلى الله عليه وسلم - صلين على سعد بن
أبي وقاص ، وعبد الرحمان بن عوف ؛ وقيل إنه
يصلي على قبره - وإن دفن ، كما فعل رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - بالمسكينة التي دفنت
ليلاً ، ولم يؤذن بها . وقد حكى ابن القصار عن
مالك إجازة ذلك - ما لم يطل ذلك ، وأقصى ما
قيل فيه الشهر ، وهو شذوذ في إجازة ذلك - ما
لم يطل ذلك ، وأقصى ما قيل فيه الشهر ، وهو
شذوذ في المذهب ؛ فقد قال في المدونة : ليس
على هذا الحديث العمل ، وسيأتي في رسم النسخة
من سماع عيسى ، القول في الصلاة على قبر من
دفن ولم يصل عليه .
مسألة
وسئل عما تكفن فيه الجارية فقال ما سمعت قط
بأحد
(2/235)
سئل عن مثل هذا
: ما تكفن فيه الجارية ؟ وما يكفن فيه الغلام
؟ والكفن واسع ، فما كفن فيه فهو واسع ، وليس
على الناس في هذا ضيق ؛ كفن رسول الله صلى
الله عليه وسلم - في ثلاثة أثواب بيض ، وكفن
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الشهداء يوم
أحد اثنين في ثوب . وكفن ابن عمر ابناً له في
خمسة أثواب ، وكفن أبو بكر في ثوب فيه مشق ،
فلو كان هذا ضيقاً كان شيئاً واحداً ، فليس
على الناس في هذا ضيق .
قال محمد بن رشد : وهذا كما قال ، إن الكفن لا
حد فيه يجب الاقتصار عليه ، فلا يزاد فيه ولا
ينقص ، وإنما يتكلم على الاستحباب ، فمما
يستحب فيه الوتر ، إلا أن الاثنين عندهم أفضل
من الواحد ، والثلاثة أفضل من الأربعة ، فأدنى
الكفن في الاستحباب ثلاثة ، وأعلاه في
الاستحباب خمسة أثواب ؛ قال ابن حبيب والخمسة
للمرأة ألزم ، وقد فرق في الاستحباب بين
المرأة والرجل والجارية والغلام ، فقال ابن
شعبان إن أدناه للمرأة خمسة أثواب ، وأعلاه
سبعة أثواب ؛ وقال بعضهم يكفن الصبي - ما لم
يطعم في ثوب ، فإذا طعم ففي ثلاثة أثواب ،
والجارية إلى أن تحيض في ثلاثة أثواب ، فإذا
حاضت ففي خمسة أثواب ؛ ومما يستحب في الكفن
البياض ، وتستحب الحبرة لمن وجد لذلك سعة ،
لما روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
كفن في ثلاثة أثواب أحدها حبرة ، ويكفن في
صماته في مثل
(2/236)
ما كان يلزمه
في الجمع والأعياد في حياته ، ويقضي بذلك عند
اختلاف الورثة فيه ، وإنما كفن رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - الشهداء يوم أحد اثنين
في ثوب واحد من ضرورة ، ومعناه فيمن عراه
العدو ، لأن السنة أن يدفنوا في ثيابهم -
والله أعلم .
مسألة
وسئل : أيصلى على المنفوس في المنزل ، ثم يرسل
به فيدفن ؟ فقال يصلي عليه في المنزل ؟ فقيل
نعم ، فقال ما علمت ذلك .
قال محمد بن رشد : استفهامه عن ذلك ، وإنكاره
أن يكون علم أن ذلك يفعل ؛ يدل على أنه كره
ذلك من العمل ، ووجه الكراهية في ذلك بين ؛
قال ، صلى الله عليه وسلم : من شهد جنازة حتى
يصلي عليها فله قيراط ، ومن اتبعها حتى تدفن
فله قيراطان ، ولم يفرق بين صغير وكبير .
مسألة
وسئل عن الرجل يموت ويترك ابناً له قد راهق
الحلم ، أيصلي ابنه عليه ؟ فقال بل يصلي عليه
غيره أحب .
قال محمد بن رشد : المراهق : هو الذي قد أنبت
وبلغ من السن ما يشبه أن يكون قد احتلم ، ولم
يبلغ أقصى سن الاحتلام ؛ فهذا إن أقر أنه لم
يحتلم ، لميمكن من الصلاة على أبيه ؛ لأن من
لم يحتلم ، ولا بلغ أقصى سن الاحتلام ، فلس
بمكلف ولا مؤاخذ بذنب ، ولا مثاب على طاعة ؛
وقد قيل إنه يثاب على طاعاته ؛ وإن قال إنه (
قد ) احتلم ، فهو الذي قال مالك فيه الرواية
يصلي عليه غيره أحب إلي ، مخافة ألا يكون
صادقاً فيما ذكره من
(2/237)
احتلامه ، فهذا
معنى هذه الرواية - والله أعلم ؛ لأن اختلاف
قول مالك فيمن وجب عليه حد ، أو طلق وقد أنبت
، إنما يرجع إلى تصديقه فيما يذكر من أنه لم
يحتلم ، وقد تأول عليه غير ذلك - وليس بصحيح .
مسألة
وسئل عن ارمأة أوصت ابنها أن يكفنها في ثلاثة
أثواب كانت تلبسها في حياتها ، فأراد ابنها أن
يشتري لها جدداً مكانها فيكفنها فيها ، فقال :
لا ، أحب إلي أن يفعل ما أمرته به أمه .
قال محمد بن رشد : قوله أحب إلي أن يفعل ما
أمرت به أمه ، كلام ليس على ظاهره بل هو
الواجب عليه ، وذلك إذا كانت إنما أوصت ابنها
أن يكفنها في ثلاث أثواب بأعيانها تبركاً بها
لحلها ، أو لأنها حجت فيها ، أو كانت تشاهد
الصلوات بها . أو ما أشبه ذلك مما تريد به وجه
البر ؛ لأن من أوصى بما فيه قربة ، فواجب أن
تنفذ وصيته ؛ قال عز وجل : {فمن بدله بعدما
سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه} . وأما إن
كانت إنما أوصت بذلك حيطة عليه ، وقصداً إلى
توفير مالها عليه ، لا لغرض لها في أعيان
الأثواب ؛ فله أن يبدلها بغيرها - وإن لم
يتحقق غرضها في وصيتها ، فالاختيار له ألا
يخالف أمرها - والله أعلم .
مسألة
وسئل عن جارية غارت على سيدها فشربت نورة
فقتلت نفسها ، أيصلي عليها ؟ قال نعم يصلي
عليها . قيل له فإن رجلاً عندنا ذبح نفسه ،
أيصلي عليه ؟ فقال ولم ذبح نفسه ؟ فقال كان
ابن
(2/238)
معاوية قد عذبه
عذاباً شديداً ، ثم قيل له غدا يفعل بك كذا
وكذا ، فخافه ، فأخذ سكيناً فذبح بها نفسه ؛
أفترى أن يصلي عليه ؟ فقال نعم ، وما سمعت أن
أحداً ممن يصلي القبلة ينهي عن الصلاة عليه ؛
ولقد قال عمر للنبي - عليه السلام - حين مات
ذلك المنافق ، لا تصل عليه يا رسول الله ،
فأبى النبي ذلك وصلى عليه ؛ وفيه فيما بلغني
نزلت هذه الآية : {ولا تصل على أحد منهم مات
أبداً ولا تقم على قبره} . نزلت بعدما صلى
عليه ، قال مالك أفترون أن النفاق من حين ذهب
من أولئك ، ذهب من الناس .
قال محمد بن رشد : قوله في التي قتلت نفسها
أنه يصلي عليها ، معناه أنها لا تترك بغير
صلاة ، لأنها ممن ترغب في الصلاة عليها ؛ فقد
قال ابن وهب في المعروف بشرب الخمر والشر ، ما
حاجتك إلى شهوده ، دعه يصلي عليه أهله ومن أحب
؛ وإنما وقع هذا السؤال لما روي من أن رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - قال : من قتل
نفسه بحديدة فحديدته في يده في نار جهنم ،
يجاء بها في بطنه في نار جنهم - خالداً مخلداً
فيها أبداً . وأنه قال في التردي والسم مثل
ذلك ، فذهب جماعة من السلف إلى أنفاذ الوعيد
عليه ؛ والأكثر منهم يراه في المشيئة ، لقوله
عز وجل : {إن الله لا يغفر أن يشرك به} -
الآية . وما في الحديث من تخليد في النار ،
ليس على ظاهره ، ومعناه أنه خالد فيها مخلد
أبداً - حتى يخرج منها بالشفاعة مع سائر
المذنبين ، لأن القتل لا يحبط إيمانه ، ولا
يبطل أعماله ، فلا بد من مجازاته على ذلك ،
لقوله تعالى : {ولن يتركم أعمالكم} . وهذا قول
أهل السنة والحق ، وقد روي عن جابر بن سمرة
(2/239)
أن رجلاً نحر
نفسه بمشاقص ، فلم يصل عليه النبي - صلى الله
عليه وسلم . فتعلق بذلك من ذهب إلى أنه لا
يصلي على من قتل نفسه ، منهم : الأوزاعي ،
وابن شهاب ، ولا حجة لهم في ذلك ؛ إذ لم ينه
عن الصلاة عليه ، وإنما ترك هو الصلاة عليه ،
إن كان من سنته ألا يصلي على المذمومين ،
ويصلي عليهم غيره ؛ كالقاتل والمديان ،
وشبههما ، أدباً لهم وزجراً عن مثل فعلهم ؛
وقال أحمد بن حنبل لا يصلي الإمام على من قتل
نفسه ، ويصلي عليه الناس ؛ وحكم قاتل النفس في
ذلك ، حكم من قتل نفسه . وقوله في الرواية وما
سمعت أن أحداً ممن يصلي القبلة ينهي عن الصلاة
عليه .
يروي : ينهى ، وينهي ، والصواب ينهى على لفظ
ما لم يسم فاعله ؛ وهذا يدل على أن قوله في
القدرية والإباضية : لا يصلي عليهم ؛ إنما
معناه أن الصلاة تترك عليهم أدباً لهم ، إذ لا
يغرب في الصلاة عليهم ، لا لأنهم يتركون بغير
صلاة أصلاًح وقد بين ذلك في كتاب ابن شعبان ،
فقد قال فيه إنه لا يصلي عليهم ولا على من
يذكر بالفسق والشر ؛ وإنما يرغب في الصلاة على
من يذكر فيه خير ؛ ومما يدل على صحة رواية من
روى ينهى على لفظ ما لم يسلم فاعله ، ما احتج
به مالك من قول عمر – رضي الله عنه – للنبي –
صلى الله عليه وسلم – في صلاته على عبد الله
بن أبي سلول المنافق ، وما أنزل الله من النهي
عن الصلاة عليهم ، إذ هم كفار معدودون في غير
أهل القبلة ، لأن صلاتهم إليها بغير نية ولا
اعتقاد .
مسألة
قال : وسئل مالك عمن أتى جنازة فوجدهم قد
سبقوه ببعض التكبير عليها ، أيكبر مكانه ؟ أم
ينتظر حتى يكبر الإمام فيكبر بتكبيرة ثم يقضي
ما فاته ؛ فقال بل يكبر تكبير واحدة حين يجيء
سراً ، ثم يقف عما سبقوه من التكبير بعد
التكبيرة الواحدة التي يكبرها حين يقف سراً ؛
ثم يترك التكبير حتى يكبر الإمام ، فيكبر
بتكبيرة ،ثم يقضي
(2/240)
ما بقي عليه من
الأربع تكبيرات - بعد فراغ الإمام ، ولا يكبر
مما فاته مع الإمام شيئاً إذا جاء فوقف مع ،
إلا تكبيرة ( واحدة ، ثم يقف عما بقي حتى يكبر
الإمام فيكبر معه ، فإذا فرغ الإمام صلى بقدر
ما بقي عليه من التكبير ، وإنما يكبر مع
الإمام التكبيرة الأولى ، لأن ذلك بمنزلة
الصلاة المكتوبة يفوت الرجل منها ركوع ركعة أو
ركعتين ، ففي ذلك تكبيرة ، فإن جاء لم يكبر
مما سبقوه به إلا تكبيرة ) الإحرام قط ، ولم
يقض ما سبقوه به من التكبير فيما مضى من
الركوع ، وقد كبر التكبيرة الأولى معهم حين
وقف معهم في الصلاة ؛ فهذا هكذا في الجنازة
إذا فاته من تكبيرها تكبيرتان أو ثلاث ، ثم
جاء كبر من ذلك تكبيرة واحدة ، وأمسك عما بقي
حتى يقضيه بعد فراغ الإمام .
قال محمد بن رشد : قياسه في هذه الرواية ، ما
فاته مع الإمام من التكبير على الجنازة على ما
فاته من تكبير الصلاة ، لا يستقيم ؛ لأن تكبير
الصلاة لا يجب منه إلا تكبيرة واحدة ، وهي
تكبيرة الإحرام ، وهي لا تفوته بفواتها ، مع
الإمام ، بل يكبرها متى ( ما ) جاء - وإن لم
يدرك الإمام إلا في آخر الصلاة ؛ وسائر
التكبير سنة وفضيلة ، فلا يجب على الرجل مع
الإمام قضاء ما فاته منه ، وإنما يجب عليه
قضاء ما فاته من الركعات ؛ ألا ترى أنه لو قضى
ما فاته مع الإمام من الركعات ، ونسي التكبير
فيهن ؛ لأجزأته صلاته ولم يكن عليه إلا سجود
السهو ، والأربع تكبيرات في صلاة الجنائز
متساوية في الوجوب ، كتساوي ركعات الصلاة في
الوجوب ؛ ويجب على من فاته منها شيء مع الإمام
(2/241)
أن يقضيه ، كما
يجب عليه أن يقضي ما فاته معه من ركعات الصلاة
؛ فإنما الصحيح أن يقاس ما فاته مع الإمام من
التكبير ، على الجنازة ، على ما فاته معه من
ركعات الصلاة على ما ذهب إليه في المدونة ،
إلا أن جوابه في هذه الرواية أصح من جوابه في
المدونة ؛ وأخرى على أصله فيها ؛ لأنه إذا نزل
التكبيرة في صلاة الجنازة ، منزلة الركعة في
الصلاة في وجوب القضاء ، وكان له أن يكبر مع
الإمام معاً ، والأحسان أن يكبر بعده ؛ فلا
ينبغي أن يفوته التكبير بتكبير الإمام ، حتى
يكبر الإمام التكبيرة التي بعدها ؛ فإذا جاء
وقد كبر الإمام تكبيرتين ، فإنما فاتته الأولى
، ولم تفته الثانية فيكبرها ويدعو إن أدرك أن
يدعو - إلى أن يكبر الإمام التكبيرة الثالثة ،
فيكبرها معه أن بعده وهو أحسن ؛ وإن جاء وقد
كبر ثلاث تكبيرات ، فإنما فاتته الأولى
والثانية ولم تفته الثالثة ،فيكبرها ثم يدعو -
إن أدرك أن يدعو - إلى أن يكبر الإمام الرابعة
فيكبر بتكبيره ، ويقضي تكبيرتين بعد سلامه ؛
وإن جاء بعد أن كبر التكبيرة الأولى قبل أن
يكبر الثانية فلم تفته بعد التكبيرة التي كبر
الإمام ، فيكبرها ويدعو - إن
أدرك أن يدعو - إلى أن يكبر الإمام التكبيرة
الثانية ، فيكبر بتكبيرة ، إذ لا يفوته
التكبير بأخذه في الدعاء ، ولا بتمامه منه ؛
إذ لو وجب ذلك ( لوجب ) أن يفوته بأقل ما يجزئ
منه في كل ركعة ، وهو أن يقول اللهم اغفر له ؛
ولوجب إذا لم يكبر مع الإمام معاً وتراخى في
ذلك حتى يقول الإمام اللهم اغفر له ، أن يكون
قد فاته التكبير ، وهذا ما لا يصح أن يقال .
فجواب مالك في هذه الرواية أصح من قياسه ،
لأنه جار على أصله في المدونة ، وهو أصل صحيح
؛ وجوابه فيها - أعني في المدونة ليس بصحيح .
مسألة
وسئل عمن فاتته الصلاة على جنازة فسار معها
حتى ( إذا )
(2/242)
وضعت على قبرها
، استقبل القبلة فصلى عليها ، فقال لا يفعل -
وكرهه .
قال محمد بن رشد : قد تقدم القول على هذه
المسألة في ( أول ) الرسم فلا وجه لإعادته .
مسألة
وسئل عن شق النساء ثيابهن على الميت ، فقال
بئس ما صنع ، من صنع هذا ؟ قيل له : ويحترمن
ويصحن بالحرب والويل ، فقد غاظنا ذلك ؛ فقال
وأنا والله ليغيظني وأكرهه ولا أراه حسناً ؛
ولكن هذا أمر لا يقدر أن يغيره أحد إلا
السلطان ؛ قال مالك : وكانت زينب تقول لرسول
الله - صلى الله عليه وسلم - لست كأحد من
نسائك ، لأن الله زوجنيك ؛ قال مالك : قال
الله تبارك وتعالى : {فلما قضى زيد منها وطراً
زوجناكها} .
قال محمد بن رشد : وهذه المسألة قد مضت -
والقول فيها في أول رسم من هذا السماع ، فلا
معنى لإعادته ؛ وأما ما ذكر من وقل زينب - رضي
الله عنها - فلا تعلق له بالمسألة ، وإنما
ذكره لسبب جرى في المجلس ، فذكرت الحكاية
وقيدت عنه دون السبب - والله أعلم .
مسألة
(
قال ) وسألته عن جنائز الرجال والنساء إذا
اجتمعوا كيف
(2/243)
يصل عليهما ؟
فقال لي يجعل الرجال مما يلي الإمام ، ويجعل
النساء من ورائهم مما يلي قبلة ؛ قلت له كيف
يفعل بهم ؟ فقال لي إن كانا رجلين وامرأتين ،
جعل الرجلان مما يلي الإمام سطراً واحداً ، لا
يجعل سرير أحدهما من وراء سرير صاحبه ، ولكن
يجعل بلصقه سطراً واحداً عرضاً - هكذا - وخط
بيده في الأرض من نحو يساره حتى ذهب بهما إلى
يمينه ، ويجعل المرأتان من ورائهما ( كذلك ) ؛
إن كثروا ، جعلوا صفين سطرين ، أو أكثر من ذلك
-
(2/244)
على هذه الصفة
؛ فقال له ابن كنانة أرأيت إن كانا رجلين قط
كيف يصلي عليهما ؟ أيجعلان سطراً واحداً ؟ أم
يجعل أحدهما أمام صاحبه إلى القبلة ؟ قال بل
يجعل أحدهما أمام صاحبه إلى القبلة ، والآخر
من ورائه أحب إلي ؛ وإني لأرى ذلك واسعاً كله
- إن جعلا سطراً ، أو جعل أحدهما أمام صاحبه ؛
فقيل له فأيهما ترى أن يجعل مما يلي الإمام ،
فإن أحدهما أفضل وأشرف ؟ قال أرى ذلك إلى
الاجتهاد ، قيل له أرأيت إن كثرت جنائز الرجال
كيف يصلي عليهم الإمام الذي يصلي عليهم ؟ قال
يجعل أحدهم بين يديه - معترضاً ، ثم يجعل
الآخرين معه عن يمينه وشماله - سطراً هو وسطهم
؛ ثم يصلي عليهم ولا يجعل أحدهما مما يلي
الإمام ؛ والآخر من ورائه ، ثم الآخر من ورائه
.
قال محمد بن رشد : أما إذا كثرت جنائز الرجال
، أو النساء أو الرجال والنساء ؛ فإنهم يجعلون
سطرين ، سطرين ، أو أكثر من ذلك – كما قال
قولاً واحداً ؛ فإن كانت الأسطر وتراً وهو
الاختيار أن يكون قام الإمام في وسط الأوسط
منها ، وإن كانت شفعاً قام فيما بين رجلين
الذين عن يمينه ، ورأس الذي على يساره ؛ ويكون
الأفضل منهم الذي على يمينه ، ثم الذي يليه في
الفضل الذي على شماله ، ثم الذي يليه في الفضل
الذي يلي الذي على يمينه ، ثم الذي يليه في
الفضل الذي يلي الذي على شماله ؛ ثم ينتقل إلى
الصف الذي أمامه على هذا الترتيب ، ثم إلى
الذي بعده على هذا – أبداً ؛ وأما إذا قل عدد
الجنائز فكانوا اثنين ، أو ثلاثة ، أو نحو ذلك
؛ قال ابن حبيب : إلى ما دون العشرين ، فكان
مالك – أول زمانه – يرى الأحسن أن يجعل واحد
أمم واحد إلى القبلة وهي رواية ابن كنانة عه
في هذه الرواية ، ثم رأى ذلك كله واسعاً : أن
يجعلوا سطراً واحداً من الشرق إلى الغرب ، أو
يجعل واحد أمام واحد إلى القبلة ، ولم يفضل
إحدى الصورتين على الأخرى ؛ وهذا الاختلاف
قائم من المدونة ، ويقدم إلى الإمام الذكور
على الخنائي المشكلين صغاراً كانوا أو كباراً
، أحراراً كانوا أو عبيداً ؛ والخنائي
المشكلون على النساء صغاراً كانوا أو كباراً ،
فتنتهي المراتب على هذا إلى اثنتي عشرة مرتبة
، أعلاها الرجال الأحرار ، ثم الصبيان الأحرار
، ثم الخنائي المشكلون الأحرار الكبار ، ثم
الخنائي المشكلون الأحرار الصغار ؛ ثم العيد
الكبار ، ثم العبيد الصغار ، ثم العبيد الكبار
الخنائي المشكلون ، ثم العبيد الصغار الخنائي
المشكلون ، ثم النساء الأحرار ، ثم الصبايا
الأحرار ، ثم النساء الاماء ، ثم الصبايا
الاماء ؛ ويقدم من أهل كل مرتبة من هذه
المراتب الأفضل ، فالأفضل ، ثم الأسن ، فالأسن
؛ وهذا الترتيب متفق عليه ، إلا في تقديم الحر
الصغير على العبد ، فقد قيل إنه يقدم العبد
الكبير
عليه ؛ لأنه يؤم ولا يؤم الحر الصغير ، وهو
ظاهر ما في آخر سماع موسى بن معاوية لابن
القاسم ، وقول
(2/245)
مالك في
المبسوطة ، خلاف قوله في الواضحة ، وخلاف قول
أبي حازم ، وخلاف ما حكى الفضل أن العتبي ذكره
عن ابن القاسم .
مسألة
قال وقلت له أبلغك أن عمر بن الخطاب - رضي
الله عنه - صلى عليه صهيب ؟ قال : لم أسمع ذلك
، ولكني أظن ذلك لقول عمر بن الخطاب : يصلي
بكم صهيب - ثلاثاً ، وهو ظني أن صهيباً صلى
عليه ، وذلك لقوله يصلي بكم صهيب .
قال محمد بن رشد : قد تقدم هذا القول فيه في
رسم الشريكين من سماع ابن القاسم ، فلا معنى
لإعادته .
مسألة
قال : وقال أسيد ابن الحضير : لو كنت في حالي
كلها مثلي ( في ثلاث ) - إذا ذكر النبي ، وإذا
قرأت سورة البقرة ، وإذا شهدت جنازة ؛ ما شهدت
جنازة قط فحدثت نفسي إلا بما تقول ، أو ما
يقال لها حتى انصرف .
قال محمد بن رشد : هذا مما كان عليه السلف
الصالح تعظيم الموت بالسكينة والكآبة - عند
حضور الجنازة ، حتى لقد كان الرجل يلقى الخاص
من إخوانه في الجنازة له نده عهد ،فما يزيده
على التسليم ، ثم يعرض عنه ، كأن له عليه
موجدة ، اشتغالاً بما هو فيه من شأن الميت ؛
فإذا خرج من الجنازة سأله عن حاله ولاطفه ،
وكان منه أحسن ما كان يعهد ، فيكره الضحك في
الجنازة ، والاشتغال فهيا بالحديث والخوض في
شيء من أمور الدنيا .
(2/246)
مسألة
( قال ) : وسئل عن المرأة تموت بفلاة من الأرض
ومعها ابنها أيغسلها ؟ قال ما أحب أن يبلغ ذلك
منها ؛ قيل له أفيؤممها ؟ قال أو يصب الماء
عليها من وراء الثوب ، أحب إلي من أن يؤممها .
قال محمد بن رشد : اختلف في غسل الرجل ذوات
محارمه إذا لم يكن ثم نساء يغسلنها على أربعة
أقوال ، أحدها : أنه لا يغسلها ويؤممها وهو
قول أشه . والثاني أنه يصب الماء عليها صباً
ولا يباشر جسدها بيده من فوق الثوب ولا من
تحته ، وهو قول مالك في رواية أشهب هذه .
والثالثة أنه يغسلها من فوق الثوب ، فلا يفضي
بيده إلى جسدها ، وهو قول مالك في المدونة .و
الرابع قول ابن حبيب إنه يغسلها - وعليها ثوب
يصب الماء فيما بينها وبينه ، لئلا يلصق
بجسدها فيصف بابتلاله عورتها ، وظاهره أنه
يفضي بيده في غسله إياها إلى جسدها ، ومعنى
ذلك - عندي - فيما ( عدا ما ) بين السرة إلى
الركبة ، فإنه لا يفضي بيده إلى ذلك منها دون
أن يجعل عليه خرقة ؛ إلا أن يضطر إلى ذلك -
كما يفعله الرجل بفرج الرجل ، إذا غسله ؛ إذ
لا يختلف في أن الفخذ والسرة من المرأة عورة ،
ولا يحل أن ينظر إليه من عدا المرأة ممن لا
يحل له الفرق باتفاق ؛ وتنظر إليه المرأة على
القول بأن الفخذ ليس بعورة ، وكذلك يختلف
أيضاً في غسل المرأة ذوي محارمها من الرجال -
إذا لم يكن ثم رجال يغسلونه ؛ فقال أشهب أنها
تؤممه ولا تغسله . وقال في المدونة إنها تغسله
، ولم يشترط من فوق الثوب ؛ وقال ابن القاسم
في سماع موسى بن معاوية أنها تغسله من فوق
الثوب ؛ كما قال في المدونة في غسل الرجل ذات
محرمه ، والأظهر ألا يغسل الرجل ذوات محارمه ،
لقوله - عليه الصلاة والسلام - في
(2/247)
أمه استأذن
عليها ، أتحب أن تراها عريانة - وأن يغسلنه ،
لأن المرأة في نظرها إلى ذوي محارمها من
الرجال ، كالرجل في نظره إلى الرجل ، فهذا
تحصيل الاختلاف في هذه المسألة .
مسألة
وسئل عن النصراني يموت وله ابن مسلم ، أغسله
ويكفنه ويشهد جنازته ؟فقال يغسله إلى النار ،
أهل دينه أولى بذلك ؛ وما يعجبني أن يفعل ذلك
؟ قيل له فيمشي معه ؟ قال يمشي معه - يقول لا
يضيع .
قال محمد بن رشد : وقع في بعض الروايات يقول
لا يضيع ، وفي بعضها يقول لا يصنع ،
والروايتان صحيحتان ، إن لم يخش عليه الضيعة
فلا يمشى معه ، وإن خشي عليه الضيعة مشى معه -
معتزلاً عن الحاملين له من أهل دينه ؛ وقد مضى
تمام القول في هذه المسألة في رسم حلف بطلاق
امرأته من سماع ابن القاسم .
مسألة
( قال ) : وسألته أيحمل الرجل لجنازة وينصرف
ولا يصلي عليها ؟ فقال لا بأس بذلك .
قال محمد بن رشد : قد مضى القول في هذه
المسألة في رسم القبلة ، ورسم شك في طوافه من
سماع ابن القاسم - موعباً فلا وجه لإعادته .
(2/248)
مسألة
وسئل عن الذي يصلي على الجنازة أيرفع يديه مع
كل تكبيرة ؟ فقال : ما سمعت في هذا بشيء لازم
للناس ، وذلك حسن واسع كله أن يرفع يديه مع كل
تكبيرة ، وأن يرفع يديه في التكبيرة الأولى .
قال محمد بن رشد : قوله ما سمعت في هذا بشيء
لازم للناس ، صحيح لا اختلاف بين أهل العلم في
أن رفع اليدين في الصلاة على الجنائز ليس
بواجب ، ونما يتكلم في هذا على ما يستحب منه ؛
ففي المدونة أنه يرفع يديه في التكبيرة الأولى
خاصة ، وفي أصل الأسدية أنه لا يرفع يديه لا
في أول تكبيرة ولا فيما بعدها . وفي رواية ابن
وهب عن مالك في المدونة : أنه يرفع في الأولى
وفيما بعدها ، واستحب في هذه الرواية أنه يرفع
في الأولى ، وخيره فيما بعد الأولى ، إن شاء
رفع ، وإن شاء لم يرفع ، كل ذلك حسن واسع ؛
فوجه قوله إنه يرفع في الأولى - خاصة ، القياس
على المشهور عنه في الصلاة أنه لا يرفع إلا في
تكبيرة الإحرام ؛ ووجه قوله إنه يرفع في
التكبيرات كلها ، أنه قاس سائر التكبيرات على
التكبير الأول ، لاستوائهما في الوجوب ؛ وما
في أصل الأسدية أنه لا يرفع في الأولى ولا
فيما بعدها ، هو على ما فيبعض ورايات المدونة
من كتاب الحج الأول من تضعيف رفع اليدين في
تكبيرة الإحرام ، وعلى ما في سماع أبي زيد من
كتاب الصلاة من إنكاره لذلك ؛ وقد مضى التكلم
على ذلك كله في سماع أبي زيد المذكور ، وفي
رسم يتخذ الخرقة لفرجه من سماع ابن القاسم من
كتاب الصلاة أيضاً .
مسألة
قلت لأشهب : أرأيت الرجل الجنب يقتل شهيداً في
المعترك ،
(2/249)
هل يغسل ويصلي
عليه ؟ فقال : لا يغسل ولا يصلي عليه ، وإن
كان جنباً قد ترك غسل من قد اجتمعت الأمة على
غسله من موتى المسلمين ، وكذلك يترك غسل الجنب
إذا كان شهيداً ، وقال ابن الماجشون مثل قول
أشهب .
قال محمد بن رشد : وهذا كما قالا ، لأن غسل
الجنابة من العبادات المتوجهة على الأحياء عند
القيام إلى الصلاة ، قال تعالى : {يا أيها
الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة} - الآية -
إلى قوله سبحانه : {وإن كنتم جنباً فاطهروا} .
فإذا مات الميت ارتفعت عنه العبادات من الصلاة
والغسل لها وغير ذلك ، وغسل الميت إنم هي
عبادة للأحياء تعبدوا ( بها ) فيه ؛ فهي واجبة
عليهم على الكفاية بإجماع ، قيل وجوب السنن ،
وقيل وجوب الفرائض ؛ ووجه احتجاج أشبه ، هو
أنه يقول ملا سقط وجوب غسل الميت بالشهادة ،
وقد كان واجبه وإن لم تكن به جنابة ، وجب أن
يسقط بها - وإن كان جنباً ؛ إذ لا تأثير
للجنابة فيما كان يلزم من غسله - لولا الشهادة
، وهو احتجاج صحيح من جهة القياس والنظر ، وقد
جاء بذلك الأثر ؛ ذكر أهل العلم بالسير ، أن
حنظلة بن أبي عامر الراهب ، كان قد ألم بأهله
في حين خروجه إلى أحد ، ثم هجم عله من الخروج
في النفير ، ما أنساه الغسل وأعجله عنه ؛ فلما
قتل شهيداً ، أخير رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - بأن الملائكة غسلته ؛ وروي أن رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - سأل امرأته ما
كان شأنه ؟ فقالت : إنه كان جنباً وغسلت أحد
شقي رأسه ، فلما سمع الصيحة خرج فقتل ؛ فقال
رسول الله - صلى الله عليه وسلم : لقد رأيت
الملائكة تغسله ، فسمي حنظلة الغسيل - وكان من
الأوس ؛ روي أنها افتخرت على الخروج - وكانا
يتنافسان ، فقالت الأوس
(2/250)
منا غسيل
الملائكة ، ومنا من حمته الدبر : عاصم بن ثابت
بن ( أبي ) الأفلح ، ومنا من أجيزت شهادته
بشهادة رجلين خزيمة بن ثابت ، ومنا من اهتز
العرش لموته : سعد بن معاذ ؛ فقال الخزرجيون :
منا أربعة جمعوا القرآن على عهد رسول الله -
صلى الله عليه وسلم : زيد بن ثابت ، وأبو زيد
، ومعاذ بن جبل ، وأبي بن كعب .
- يريدون ولم يقرأه كله أحد منكم ، إذ قد قرأه
كله جماعة من غير الأ ،صار ؛ منهم عبد الله بن
مسعود ، وسالم مولى أبي حذيفة ، وعبد الله بن
عمرو بن العاص . وغيرهم .
من سماع عيسى بن دينار من عبد الرحمان بن
القاسم
من كتاب العرية
قال : وسئل عن الميت يغسل بالعشي فلا يكفن إلا
من الغد ، أترى ذلك الغسل يجزئه ؟ قال : نعم ،
أرجو أن يجزئه .
قال محمد بن رشد : الاختيار أن يكون غسل الميت
عند ما يحمل ، فإن أخر حمله بعد غسله ، أو بات
، لم يعد غسله ؛ وإن خرج منه شيء
(2/251)
غسل مخرجه ،
وموضعه من الثوب فقط ، حكاه ابن حبيب عن أصبغ
وغيره ؛ وأما إن خرج منه شيء في حال الغسل ،
فقد قال بعض العلماء ، إن خرج منه شيء بعد أن
غسل ثلاثاً ، غسل خمساً ، فإن خرج منه شيء ،
غسل سبعاً ؛ فإذا بلغ السبع ، لم يزد على ذلك
، وذلك مستحب غير واجب عنده - وبالله التوفيق
.
ومن كتاب أوله بع ولا نقصان عليك
مسألة
وقال في المرأة تموت ولا مال لها ، على من ترى
كفنها - وثم أبوها زوجها ؟ فقال : أما إن كانت
بكراً فعلى أبيها ، وإن كانت متزوجة - وقد دخل
بها زوجها فليس ذلك على أبيها ، ولا على زوجها
، إلا أن يطوعا بذلك ؛ ولو كان لها - ولد ،
كان ذلك عليه .
قال محمد بن رشد : اختلف في وجوب كفن الزوجة
على الزوج على ثلاثة أقوال ، أحدها : أنه لا
يجب على الزوج مليئة كانت أو معدمة ، وهي
رواية عيسى هذه ؛ والثاني : أنه يجب عله مليئة
كانت أو معدمة ، وهو قول ابن الماجشون ؛
والثالث : أنه يجب إن كانت معدمة ، ولا يجب
عليه إن كانت مليئة ، وهو قول مالك في رواية
ابن الماجشون عنه ؛ فوجه القول الأول : أن
النفقة إنما كانت واجبة عليه بحق المعاوضة
والاستمتاع ، وذلك ينقطع بالوفاة ؛ ووجه القول
الثاني ، أن الكفن تابع للنفقة ، لأن ذلك من
توابع الحياة ؛ وأما القول الثالث : فهو
استحسان ليس على حقيقة القياس ؛ وكذلك اختلف
في وجوب كفن الابن الصغير ، أو الزمن الذي لا
مال له على الأب ؛ وفي وجوب كفن الأب المعدم
على الابن ، فقيل إن ذلك عليهما كالنفقة ،
لأنه من توابع الحياة ، وهو رواية عيسى هذه ،
وقول ابن الماجشون ، وروايته عن مالك ؛ وقيل
إن ذلك لا يجب عليهما ، إذ لست النفقة في ذلك
ثابتة ، لأن نفقة الأب تحدث ، ونفقة الابن
تزول ، وهو قول سحنون ؛ وقيل إنه يجب على الأب
كفن ابنه الصغير ، ولا يجب على الابن كفن أبيه
، وهو أحد قولي سحنون ؛ ولا اختلاف في وجوب
كفن العبد على سيده .
(2/252)
مسألة
وسألته هل تكفن المرأة في الثياب المصبوغة ؟
قال : نعم . وتكفن في الورس ، والزعفران ،
وغير ذلك من الألوان ، إلا أن مالكاً كره
المعصفر ، إلا ألا يجد غيره .
قال محمد بن رشد : هذا مثل ما في المدونة ،
لأنه ( إذا ) كره المعصفر للمرأة ، فهو للرجل
أكره ، لأنه من الزينة ؛ وأجازه مالك في رواية
علي بن زياد عنه للرجل والمرأة ، وأجازه ابن
حبيب للمرأة دون الرجل ؛ وأما الورس والزعفران
، فهو جائز للرجل والمرأة ، لأنه من الطيب ،
وليس من الزينة ، - قاله ابن حبيب في الرجل
إذا غسل وإن لم يخرج منه لونه - وبالله
التوفيق .
ومن كتاب لم يدرك من صلاة الإمام إلا الجلوس
مسألة
وسئل عن الرجلين يؤتي بجنازتيهما ، والواحد
أحسن حالاً والآخر أسن ، أيهما يقرب إلى
الإمام ؟ قال الأحسن حالاً ، وقال سحنون مثله
.
قال محمد بن رشد : هذا مما لا اختلاف فيه
أحفظه ، أن الأحسن حالاً يقدم على الأسن ،
وإنما يقدم الأسن على من هو أدنى منه سناً إذا
(2/253)
استوت حالتهما
في الفضل ، والأعلم يقدم على الأفضل ، وهذا من
ناحية التقديم للإمامة - وبالله التوفيق .
ومن كتاب العشور
مسألة
وسئل ابن القاسم عن قول عمر عند موته : ولا
تجعلوا علي حجراً ؟ قال : ما أظن معناه إلا من
فوق على وجه ما يبني على القبر بالحجارة . وقد
سألت مالكاً عن القبر يجعل عليه الحجارة يرصص
بها عليه بالطين ؟ وكره ذلك ، وقال : لا خير
فيه ؟ وقال : لا يجبر ولا يبني عليه بطوب ولا
بحجارة .
قال محمد بن رشد : البناء على القبر على وجهين
، أحدهما : البناء على نفس القبر ، والثاني :
البناء حواليه ؛ فأما البناء على نفس القبر ،
فمكروه بكل حال ؛ وأما البناء حواليه ، فيكره
ذلك في المقبرة من ناحية التضييق فيها على
الناس ، ولا بأس به في الأملاك - وبالله
التوفيق .
ومن كتاب النسمة
مسألة
وسئل ابن وهب عن ميت دفن فسهوا عن الصلاة عليه
، ولم يذكروا إلا بعد ما أردوا الانصراف عنه ؛
قال قد سمعت من يقول في هذا : إنه لا ينبش
ولكن يصف على قبره حتى يصلي عليه ، ويكبر عليه
أربع تكبيرات بإمام ؛ فإن رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - سأل عن مسكينة سوداء كانت
تقوم على المسجد ، فقيل له : يا رسول الله
توفيت البارحة ودفناها ، فكرهنا أن نخرجك
ليلاً ؛ قال : فانطلق رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - بمن معه حتى وقف على قبرها ،
(2/254)
فصلى عليها
وكبر أربع تكبيرات .قال عيسى : أرى أن ينبش
إذا كان بحضرة ذلك - ويصلي عليهن وإن فات صلى
على قبره . قال ابن القاسم - مثله .
قال محمد بن رشد : اختلف فيمن دفن ولم يصل
عليه : فقيل إنه يخرج ويصلي عليه ما لم يفت ،
فإن فات صلي على قبره ، وهو قول ابن القاسم ،
وابن وهب ؛ وقيل إنه يخرج ما لم يفت ، فإن فات
( ترك ولم يصل ) على قبره ؛ لئلا يكون ذريعة
إلى الصلاة على القبور ، وهو قول أشهب ،
وسحنون ، ومثله في المبسوط لمالك ؛ واختلف
بماذا يكون الفوت على ثلاثة أقوال : أحدها ،
أنه يكون بأن يهال عليه التراب بعد نصيب اللبن
، أو دون اللبن ، وهو قول أشبه . والثاني :
أنه يكون بالفراغ من الدفن ، وهو قول ابن وهب
- ههنا . والثالث : أنه يكون بان يخشى عليه
التغيير ، وهو قول سحنون ، وقول عيسى ،
وروايته عن ابن القاسم - هنا ؛ وإنما يصلي على
القبر عند من رأى ذلك - ما لم يطل ذلك حتى
يذهب الميت بفناء أو غيره ؛ وذهب أبو حنيفة
إلى أنه لا يصلي على قبر بعد ثلاث ، قال :
لأنه يصير بعد ثلاث إلى حد لا يصلي عليه ، وقد
لا يتغير الميت إلى أبعد من هذه المدة ؛ مع
أنه قد روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- صلى على قبر بعد ثلاث .
مسألة
وسئل ابن القاسم عن امرأة نصرانية قال لها
ختنها : أسلمي يا فلانة حتى نغسلك ، ونصلي
عليك . فقالت : نعم ، وأمرت
(2/255)
بغسلها ثيابها
، وقالت : كيف أقول ؟ قال : قلت لها قولي :
أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً عبده
ورسولهن وأن عيسى بن مريم روح الله وكلمته ؛
فقالت : كل هذا ثم ماتت ، فدفنت في قبور
النصارى ؛ فقال ابن القاسم : اذهب فانبشها ثم
اغسلوها وصلوا عليها ، إلا أن تكون قد تغيرت .
قال محمد بن رشد : وهذا كما قال ، لأن الكفار
يعذبون في قبورهم ، وهي تتأذى من أجل ذلك
لمجاورتهم ؛ فواجب أن تنبش وتحول إلى مقابر
المسلمين ، وبالله تعالى التوفيق .
من سماع يحيى بن يحيى من ابن القاسم
من كتاب أوله يشتري الدور والمزارع
وسألته عن الميت ينبش ، أيغسل ويكفن ؟ قال :لا
يعاد غسله ، ولكن يكفن ويدفن ؛ قلت : أواجب
على أهله أن يكفنوه ، أم يستحسن ذلك ؟ وإن ترك
لم تر به بأساً ؟ قال : بل واجب عليهم أن
يكفنوه . قلت : أفمن رأس المال بمنزلة الكفن
الأول ؟ قال : نعم ، قلت : وإن كان عليه دين
يحيط بماله ، بدئ أيضاً كما يبدئ الكفن الأول
، قال نعم . قلت : أفيصلي عليه الثانية ؟ قال
: الصلاة الأولى تجزئه .
وسئل سحنون عن رجل مات وكفته أهله ، فدفن وقسم
ماله ، ثم وجد الميت فوق الأرض منبوشاً ، ليس
عليه أكفانه ؛ هل يكون على
(2/256)
ورثته أن
يكفنوه مرة أخرى من رأس المال ؟ أو من الثلث
إن كان الميت أوصى بثلث ماله ؟ فقال : ليس على
أهله أن يكفنوه - مرة أخرى ، إلا أن يتطوعوا ،
ويدفن من غير كفن ، ولا يكفن من ثلث ولا غيره
؛ لأنه قد كفن وصلي عليه على سنة الإسلام .
قال محمد بن رشد : ذهب بعض أهل النظر إلى أن
قول سحنون مبين لقول ابن القاسم ، لأنه تكلم
على أن المال قد قسم ، وكلم ابن القاسم على
أنه لم يسقم ؛ وذلك بعيد من جهة اللفظ والمعنى
، أما بعده من جهة اللفظ ، فهو أن القسمة ذكرت
في السؤال - ولم يعلل بها في الجواب ، وإما
علل بأنه قد كفن وصلي عليه على سنة الإسلام ؛
وأما بعده من جهة المعنى ، فهو أن الحقوق
الطارئة على الشركة لا يسقطها قسمة المال ،
فهو اختلاف من القول ؛ فعلى مذهب ابن القاسم ،
على الورثة أن يكفنوه من بقية المال - قسم أو
لم يسقم ، وذلك بين من قوله : إنه بمنزلة
الكفن الأول ، يبدأ على الدين ، وعلى مذهب
سحنون لا يلزم الورثة أن يكفنوه - ثانية مما
بقي من التركة ، قسمت أو لم تقسم ؛ ووجه القول
الأول أن الكفن في ضمان الورثة - وإن دفن
الميت به ، إذ ليست ممن يقبض لنفسه ، ولا يجوز
لها ؛ وعلى الورثة أن يشتروه بماله من الكفن
قبل الدفن وبعده - إذا عري ، إذ ليست حرمته
بعد الدفن بأدنى من حرمته قبلهن فهو بمنزلة ما
لو استحق من عليه بعد أن دفن ؛ أو بمنزلة ما
لو سرق من عليه ، أو اختلس قبل الدفن ؛ ووجه
القول الثاني أنه بالدفن يخرج من ضمان الورثة
، ويحصل الميت في حكم القابض له بإدخاله به في
قبره - وإن كان ممن لا يصح منه القبض ، لأنه
بينه ؛ ألا ترى من سرق منه يقطع ، وأن الوصي
إذا جهز اليتيمة من ماله أو أورده بيت بنائها
، يبرأ من الضمان ، وتحصل اليتيمة قابضة لذلك
، وإن كانت ممن لا يصح منها القبض ، إذ ذلك
أكثر المقدور عليه - وبالله التوفيق .
(2/257)
ومن كتاب
المكاتب
( مسألة )
وسألته هل يصلي على المنبوذ إذا مات قبل أن
يعرف الصلاة ، وفي البلد الذي طرح فيه يهود ،
ونصارى ؛ قال : نعم . يصلى عليه ، ولا تترك
الصلاة عليه ، لما في بلده من اليهود والنصارى
؛ لان السنة ألحقته بأحرار المسلمين في تمام
عقله على قاتله - وهو حر لا سبيل لأحد عليه ؛
قال وترك أخذه أحب إلي ، إلا أن يخشى عليه
الهلاك إ ، ترك .
قال محمد بن رشد : وهذا كما قال ، لأنه على
دين من التقطه من المسلمين ، زاد ابن حبيب -
وإن وجد في كنيسة ، وإن كان عليه زي النصارى -
إذا كان في جماعة المسلمين ؛ وهو معنى ما في
كتاب تضمين الصناع من المدونة ، قال : وذلك
بخلاف الكبير يوجد ميتاً ، أو الغريب يموت ولا
يعلم أنه كان مسلماً ؛ فإنه لا يصلي عليه -
وإن كان مختوناً ، لأن النصارى قد يختتنون ؛
وفي سماع عبد الملك عن ابن وهب أنه يصلي عليه
إن كان مختوناً - وبالله التوفيق .
ومن كتاب الأقضية
مسألة
قال يحيى وسألت ابن القاسم في الكفن أيجعل فيه
عمامة ، أو قيمص ؟ أو هل يؤزر الميت ؟ فقال :
أحب ما كفن فيه الميت إلينا ثلاثة أثواب بيض ،
وكذلك كفن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
لا يجعل فيه قميص ، ولا عمامة ، ولا يؤزر ؛
ولكن يدرج فيهن
(2/258)
إدراجاً ؛ قلت
له : فالمرأة أتدرج درج الرجال ؟ فقال : أحب
إلي أن تؤزر وتخمر ، وذلك سواء ، ثلاثة أثواب
تدرج فيهن لمن وجد لذلك سلعة .
قال محمد بن رشد : هكذا وقعت هذه الرواية هنا
لابن القاسم ، والمعروف من مذهبه وروايته عن
مالك في المدونة ، وغيرهما ، أن من شأن الميت
أن يعمم ؛ وقد وقع في العشرة في الكتاب الذي
أوله يغتصب الأرض براحاً ؛ قال يحيى : وسألت
ابن نافع عن الكفن - المسألة إلى آخرها على
نصها - والله أعلم - أنها من قول ابن نافع ،
لا من قول ابن القاسم - وبالله تعالى التوفيق
.
من سماع
موسى بن معاوية من ابن القاسم
قال موسى بن معاوية : حدثنا جرير ، عن مسعر ،
قال : كان يقال إذا أدخل الميت القبر ؛ قال له
القبر : ماذا أعددت لبيت الوحدة ،وبيت الوحشة
؟ وبيت الدود ؟ قال موسى . وحدثنا وكيع ، عن
مالك بن مغول ، عن عبيد الله بن عمير الليثي ،
عن أبيه ، قال : إن القبر ليبكي ( ويقول ) :
أنا بيت الدود ، وبيت الوحشة ، وبيت الوحدة! .
قال محمد بن رشد : هذا على المجاز لا على
الحقيقة ، أي لو كان القبر ممن يصح منه البكاء
والكلام ، لبكى وقال هذا القول ؛ وهذا مثل
قوله عز وجل : {جداراً يريد أن ينقض} ،
والجدار لا تصح منه الإرادة ، ومثل قول عنترة
:
(2/259)
وشكا إلى بعبرة
وتحمحم
- يعني فرسه .
ومثل قول الحارثي :
يريد الرمح صدر أبي براء ... ويرغب عن دماء
بني عقيل
ومثل قول غيره :
وعظتك أحداث صمت ... ونعتك أزمنة خفت
وأرتك قبر كفي القبو ... ر وأنت حي لم تمت
وتكلمت عن أوجه تبلى ... وعن صور سبت
وهذا كثير في كلام العرب وأشعارهم .
مسألة
قال موسى : وسئل ( ابن القاسم ) عن المرأة ذات
الشعر تغسل كيف يصنع بشعرها : أيظفر ؟ أم يفتل
؟ أم يرسل ؟ وهل يجدل بين الأكفان ؟ أم يعقص
ويرفع مثل ما ترفعه الحية بالخمار ؟ وكيف صفة
غسلها وكفنها ؟ وكيف يصنع بخمارها وشعرها
وأكفانها ؟ قال ابن القاسم لم يكن للميت في
غسله حد عند مالك ، إلا أنه يغسل
(2/260)
وينقي ؛ وأما
الشعر ، فليفعلوا فيه كيف شاؤوا ، وأما الظفر
فلا أعرفه .
قال محمد بن رشد : وهذا كما حكي ابن القاسم عن
مالك : أنه لا حد عنده في غسل الميت – يريد في
عدد الغسلات ، وإنما الحد في ذلك عنده الإنقاء
؛ ويستحب فيه الوتر ، وأدناه ثلاث ؛ قال – صلى
الله عليه وسلم – في ابنته ؟ اغسلنها ثلاثاً ،
أو خمساً ، أو أكثر من ذلك – إن رأيتين –
الحديث . كما أنه لا توقيت عنده في الوضوء ،
وإنما الحد فيه الإسباغ ، ولأعداد مستحبة ؛
وقوله في الظفر أنه لا يعرفه – يريد أنه لا
يعرفه من الأمر الواجب ، وهو – إن شاء الله –
حسن من الفعل ؛ وروي عن أم عطية قالت : توفيت
ابنة لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – فلما
غسلناها ضفرنا شعرها ، فجعلناه ثلاث ضفائر :
ناصيتها ، وقرنيها ، ثم ألقيناها من خلفها .
وقد روي عن بكر بن عبد الله المزني أنه سأل
أعلم بيت من قريش بالغسل عن صفة الغسل ،
فقالوا نصنع بالميت ما نصع بالعروس ، غير أنه
لا يخلق ولا ينور – والله تعالى أعلم .
مسألة
وسئل ابن القاسم عن الرجل يموت ، هل تغسله
أمته ؟ أو مدبرته ؟ أو مكاتبته ؟ فقال ابن
القاسم : لا أرى بأساً أن تغسله أمته ، أو
مدبرته ، كل من كان يحل له ، مثل المرأة قال
لي مالك في المرأة تغسل زوجها ، وأما المكاتبة
فلا .
قال محمد بن رشد : وهذا - كما قال - إنه جائز
أن يغسل الرجل
(2/261)
أمته أو مدبرته
، كما يجوز ذلك لامرأته ، لأنهن حلائله ؛ وهذا
إذا أذن في ذلك أولياؤه . وأما إذا لم يأذنوا
في ذلك ، وأردوا أن يلوه بأنفسهم ، فذلك لهم
في الأمة ، والمدبرة قولاً واحداً ، إذ لا حق
لهما في ذلك معهم ، وأما الزوجة فهم أحق بذلك
منها ، لا يقضي لها عليهم بغسله ؛ وقد قيل إنه
يقضي لهم عليها بغسله ؛ وأما الرجل فإنه يقضي
له بغسل زوجته الحرة ، والأمة ؛ وقيل لا يقضي
له بغسل زوجته - إذا كانت أمة ؛ وأهل العراق
لا يجيزون للرجل غسل زوجته - لانقطاع ما
بينهما بالموت ،ولا يجيزون للمرأة غسل زوجها -
إذا نقضت عدتها منه بوضع حمل إن كان بها ، وهو
بعيد ؛ إذ لو انقطع ما بينهما بالموت ، كما
ينقطع بالطلاق البائن ، لما توارثا ؛ ويكره
مالك للرجل أن يغسل زوجته إذا تزوج أختها ،
وبالله التوفيق .
مسألة
وسئل ابن القاسم عن الرجل المسلم يموت وليس
معه من يغسله إلا أمة ، أو أخته ، أو امرأته ،
أو من ذوات المحارم ؛ وليس معهن رجل إلا مشرك
؛ وهل يغسل الرجل أمه ، أو أخته ، أو ذات رحم
محرم منه ؟ فقال ابن القاسم : يغسله ذوات
محارمه من النساء من فوق الثوب : أمه أو ابنته
أو أخته ؛ وأما المرأة فإنها تستر عورة أبيها
، وأخيها ؛ والمرأة تغسل زوجها ، والزوج يغسل
امرأته في الحضر والسفر ، وهو قياس قول مالك ؛
وأما الحضر والإقامة فهو قول مالك ، قال :
تغسل المرأة زوجها والزوج يغسل امرأته .
(2/262)
قال محمد بن
رشد : قد مضى في رسم لجنائز والصيد والذبائح
من سماع أشهب - تحصيل القول في غسل ذوي
المحارم بعضهم بعضاً ، ومضى في المسألة التي
قبل هذه القول في غسل أحد الزوجين صاحبه ، فلا
فائدة في إعادته .
مسألة
وسئل عن إمام جنازة صلى عليها وهو جنب لم يشعر
بجنابته حتى دفنت ، وكيف إن علموا قبل أن تدفن
- بجنابته بعد دخولها اللحد ؟ أترد للصلاة
عليها ؟ قال ابن القاسم : أرى صلاتهم جائزة
ولا تعاد ، ألا ترى أن المكتوبة لو أن رجلاً
صلى بهم جنباً ناسياً ، ثم سلم فعلم ، أجزأت
عنهم صلاتهم ؛ فكذلك الجنازة إذا صلي عليها ،
أجزأت عنهم صلاتهم عليها .
قال محمد بن رشد : قياسه صلاة الجنازة في هذا
على صلاة الفريضة صحيح ، لا إشكال في صحته ،
فيدخل في صلاة الجنائز من الخلاف ما في صلاة
الفريضة ؛ لأن أهل العراق يقولون : إنها تبطل
على المأمومين ، كما بطلت على الإمام ، وهو
القياس على القول بأن صلاة المأمومين مرتبطة
بصلاة الإمام ؛ وحجة مالك حديث عمر بن الخطاب
- رضي الله عنه - إذ صلى الصبح بالناس - جنباً
، فأعاد ولم يأمر الناس بالإعادة ؛ وله وجه من
النظر مع الاتباع ، وهو أن الإمام إذا صلى
بالناس جنباً ، أو على غير وضوء - ولم يعلم
بذلك ، فقد سقط الفرض عنه وعنهم ؛ لقوله -
عليه الصلاة والسلام : "تجاوز الله لأمتي عن
الخطأ والنسيان" - الحديث . فإن ذكر بعد ذلك ،
وجبت عليه الإعادة دونهم ، لأنهم صلوا بطهارة
، إذ ليس سهو الإمام عن الطهارة سهواً لهم
عنها ،
(2/263)
فيجب عليم
الإعادة ، وإنما يكون سهو الإمام سهواً لمن
خلفه ، أو إن لم يكن منهم سهو إذا سها عما
يحمله عنهم ، كالقراءة ؛ فلهذا وجبت الإعادة
على المأمومين إذا سها الإمام عن القراءة وإن
قرأوا هم ، فإذا صلى الإمام بقوم على غير
طهارة - وهو لا يعلم ثم علم ، أعاد ولم يعيدوا
؛ لأن الصلاة فرض على الأعيان . وإذا صلى على
الجنازة - وهو على غير طهارة ثم علم ، جازت
الصلاة ، ولم تجب إعادتها عليه ولا عليهم ؛
أما هم ، فمن قبل إنهم صلوا على طهارة ؛ وأما
هو ، فمن قبل أن الفرض قد سقط عنه بصحة صلاتهم
؛ لأنها من فروض الكفاية ، ولو صلى عليها هو
وهم على غير طهارة ثم علموا ، لوجب أن تعاد
الصلاة عليها .
مسألة
وسئل ابن القاسم عن إمام جنازة صلى على جنازة
متوضئاً - ورجل خلفه على غير وضوء ، ثم ذكر
قبل دفنها ، أو بعد ما دفنها . قال ابن القاسم
: ليس عليه شيء ، فصلاته مجزئة عنه .
قال محمد بن رشد : أما قوله ليس عليه شيء ،
فصحيح بين ، إذ لا يصلي على من قد صلي عليه ،
وقد مضى ذلك في رسم لجنائز والصيد والذبائح من
سماع أشهب ؛ وأما قوله فصلاته مجزئة عنه ،
فمعناه أنه ليس عليه إعادتها ، إذ لا يصلي على
من قد صلي عليه ، وأن له أجر صلاته إذ لم يعلم
بكونه على غير وضوء ؛ لقوله - صلى الله عليه
وسلم : تجاوز الله لأمتي عن الخطأ والنسيان ،
وعما استكرهوا عليه . لأن صلاة الجنازة على
غير وضوء تصح ، فهو في صلاته على الجنازة بغير
وضوء ، كمن أوتر بغير وضوء فلم
(2/264)
يعلم حتى صلى
الصبح ، فيقال إنه يجزئه وتره ؛ بمعنى أنه ليس
عليه قضاؤه - وبالله التوفيق .
مسألة
وسئل عن إمام جنازة قهقه في صلاته ، هل عليه
وعلى من خلفه إعادة الصلاة ، وكيف به إن أحدث
وليها ؟ هل يجوز له أن يستخلف على ما بقي من
الصلاة ، أم يعيدون الصلاة ؟ أم يمكثوا قياماً
حتى يذهب وليها - إن كان هو الإمام فيتوضأ
ويرجع فيصلي بإعادة الصلاة ؟ وكيف إن رعف فذهب
يتوضأ ، أله أن يستخلف من يتم بهم بقية صلاتهم
؟ وكيف إن ذهب ولم يستخلف : كيف يصنع الناس ،
أيقدمون رجلاً منهم ؟ أم لا يحدثون شيئاً حتى
يرجع الولي أو الإمام ؟ وكيف إن لم يكن ( لها
ولي ولا إمام جماعة ؟ قال ابن القاسم : لا
نبالي كان لها ولياً أو لم يكن لها ولياً إن
أحدث أو رعف ، فينبغي أن يقدم رجلاً ) ليتم
بهم بقية الصلاة ؛ وإن لم يقدم أحداً وانصرف
وجهل ذلك ، تقدم رجل فأتم بهم بقية صلاتهم ؛
وأما الذي قهقه ، فإنهم يقطعون جميعاً
ويبتدئون الصلاة من أولها ، لأن الإمام قطعها
، وكذلك لو أحدث متعمداً ابتدؤوا الصلاة عليها
.
قال محمد بن رشد : وهذا صحيح على ما قاله ،
لأن الصلاة على الجنائز صلاة ، فيقطعها ما
يقطع الصلاة ؛ ويجب على الإمام من الاستخلاف
فيها ، ما يجب عليه من الاستخلاف في الصلاة .
مسألة
وسئل ابن القاسم عن قوم جهلوا القبلة فصلوا
على جنازتهم
(2/265)
إلى غير القبلة
، ثم علموا بذلك قبل دفنها ، أو بعد دفنها ؛
أيعيدون الصلاة عليها ؟ قال ابن القاسم : إن
دفنوها فلا شيء عليهم ، وإن لم يدفنوها ، فإني
أستحسن أن يصلي عليها ، ولست أرى ذلك عليهم
بواجب .
قال محمد بن رشد : أشهب يرى إعادة الصلاة
عليها ما لم تدفن ، وسحنون لا يرى ذلك ؛
واستحباب ابن القاسم أن تعاد الصلاة عليها ما
لم تدفن ؛ راجع إلى إسقاط وجوب الإعادة مثل
قول سحنون ، فوجه إعادة الصلاة عليها ما لم
تدفن ، أن من صلى إلى غير القبلة إنما يعيد في
الوقت ، فجعل حضور الجنازة كحضور الوقت ،
ودفنها كفواته ؛ ووجه قول من لم ير الإعادة ،
أن إعادة الصلاة في الوقت ، إنما هي لإدراك
فضيلة الوقت ، فلما لم يكن للصلاة على الجنازة
وقت معين ، كان السلام منها كخروج وقتها ، كما
قال ابن القاسم فيمن طاف بثوب نجس ، فعلم بذلك
بعد إكمال الطواف ، أنه لا إعادة عليه ، كمن
صلى بثوب نجس فلم يعلم حتى خرج الوقت ؛ وقيل
تعاد الصلاة عليها - وإن دفنت ، ما لم ينقض
النهار - إن كان صلي عليها نهاراً ، أو الليل
- إن كان صلي عليها ليلاً ، وهو قول ابن نافع
؛ فجعل بقية النهار أو الليل لها كالوقت
القائم للصلاة المفروضة ، فإن ترك الإعادة
عليها حتى تدفن على قول من يرى أنها تعاد ،
تخرج ذلك على قولين : أحدهما أن الصلاة قد مضت
فلا تعاد ، والثاني أن إعادتها قد وجبت ،
فيصلي عليها في قبرها ؛ أو تخرج ما لم يخش
عليه التغير ، كمن دفن دون أن يصلي عليه .
مسألة
وسئل عن القوم ينسون الصلاة على الجنازة فلا
يذكرون حتى تدفن ، أتنبش ؟ أم يصلي عليها في
قبرها ؟ ويؤمهم وليها في الصلاة ؟ قال ابن
القاسم إن كان عندما دفنوها ، فأرى أن تخرج
ويصلي عليها ؛
(2/266)
وإن خافوا من
ذلك تغييراً ، صلوا عليها في قبرها ؛ وسئل ابن
القاسم عن الميت يجهل القوم الصلاة عليه
فيدفنوه ولم يصلوا عليه ولم يغسل ، فيأتي قوم
من المسلمين فيخبرون بذلك ساعتئذ ؛ قال ابن
القاسم إن كان بحدثان أمره لم يتغير ، ولم
يخافوا عليه أن يكون قد دخله غير في قرب ذلك
وحدثانه عندما دفنوه ؛ رأيت أن يخرج ويغسل
ويصلي عليه ، وإن خافوا أن يكون قد تغير ،
رأيت أن يصلوا على قبره ويتركوه .
قال محمد بن رشد : ترك الغسل ، والصلاة على
الميت أو الغسل دون الصلاة ، أو الصلاة دون
الغسل - جهالة أو نسياناً ، سواء في وجوب
الحكم في ذلك ؛ لأن الصلاة لا تجزئ دون غسل
،فترك الغسل كترك الصلاة ؛ وقد مضى تحصيل
القول في ذلك في رسم النسمة من سماع عيسى ،
فلا معنى لإعادته .
مسألة
وسئل ابن القاسم عن إمام جنازة صلى عليها ،
فذكر بعدما دخل في الصلاة ، أن عليه صلاة
نسيها ؛ كيف يصنع ؟ أيمضي في الصلاة ولا
يعيدها - وتجزئ الذين معه ؟ أو يقطع ويقضي ما
نسي ثم يصلي على الجنازة ؟ وهل تحبس الجنازة
عليه - إن كان إمام المصر ، أو ولي الميت ، أو
ممن يبصر السنة إن كان مع جهال لا يبصرون
السنة ، حتى يصلي ما نسي ثم يعود فيصلي على
الجنازة ؟ وكيف الأمر فيه إن خيف على الجنازة
الفساد ؟ قال ابن القاسم يمضي في الصلاة على
الجنازة ولا يقطع .
(2/267)
قال محمد بن
رشد : إنما قال إنه يمضي في الصلاة ولا يقطع ،
بخلاف الإمام يذكر صلاة نسيها ، أنه يقطع
ويقطعون ، أوي قطع ويستخلف من يتم بهم الصلاة
– على اختلاف قول في ذلك ؛ لأن الترتيب فيما
قل من الصلوات لازم ، ولا ترتيب فيما بين صلاة
الفريضة ، والصلاة على الجنازة ؛ ومثل قول ابن
القاسم هذا حكى ابن حبيب في الواضحة عن ابن
الماجشون ، وأصبغ ، ولم يذكر في ذلك اختلافاً
؛ ولا فرق بين أن يكون في خناق من وقت الصلاة
التي نسيها ، أو لا يكون في خناق من وقتها ،
وذلك خلاف لأصله ؛ والذي يأتي فيها على أصله ،
أني خرج ويستخلف إذا كان في خناق من وقت
الصلاة التي ذكرها .
مسألة
وسئل ابن القاسم عمن أقيد منه في قصاص ، أيصلي
عليه الإمام ؟ وعن الذي يقتله الإمام في
المحاربة والحرابة ، أيصلي عليه الإمام ويغسل
؟ وكيف به إن رأى الإمام صلبه ، أيقتله ويغسله
ويصلي عليه ، أم لا ؟ وكيف الأمر فيه في القتل
والصلب ، أيصلب حياً ثم يقتل ويصلي عليه
مصلوبا ؟ أم لا يصلي عليه على حال ؟ قال ابن
القاسم : أما كل من قتل بالسيف أو قوداً ، وما
قتل به من خنق أو غيره ، فإنه يغسل ويصلي علي
؛ وأما السلب فإن سألنا مالكاً عنه ، فقال ما
سمعت فيه بشيء ، وما علمت أنه كان من عمل من
مضى ؛ قال مالك ولقد صلب عبد الملك بن مروان
الحارث الذي تنبأ وطعنه هو بيده ، قال ابن
القاسم ولم يصلبه إلا حياً ؛ قال مالك وأرى
اجتهاد الإمام يسعه في ذلك على المحارب إذا
أراد أن يقتله ويصلبه ، أو يصلبه حياً ؟ وسعة
ذلك على أشنع ذلك ، يريد على قدر جرمه ؛ قال
ابن القاسم فإن قتل قبل أن يصلب ، رأيت أن
يصلي عليه ثم يصلب ؛ وأما الذي يصلب حياً فإني
لم أسمع فيه بشيء ، قيل لسحنون : فإذا
(2/268)
صلبه الإمام
حياً وقتله في خشبته كيف يصلي عليه ؟ قال ينزل
ويكفن ويصلي عليه أهله ؛ قلت ولا يعاد في
الخشبة لما يريد الإمام من شنعة ذلك من فعله ،
ونكالاً لغيره ؛ فقال لا أرى ذلك ، وفيما فعل
به ما يجزئ ، وأرى إذا صلى عليه أن يدفن ؛
وقول مالك يجزئه من هذا كله يصلي على كل من
قتله الإمام .
قال محمد بن رشد : سأله عن صلاة الإمام عن
الذي يقتله في قود ، أو على حرابة ؛ فلم يجبه
على ذلك ، ومذهبه وروايته عن مالك ، أنه لا
يصلي عليه ، ويصلي عليه أهله والناس ؛ قيل على
سبيل الردع والزجر ، كما يكره له ولمن سواه من
أ÷ل الفضل - الصلاة على أهل الكبائر والشر ؛
وقيل إنما لم يصل عليه الإمام ، من أجل أنه
منتقم لله بقتله ، فلا يكون شافعاً إليه
بالصلاة عليه ؛ والتأويل الأول صحيح في المعنى
، إلا أنه لا يسعد قوله لتفرقته فيه بين القتل
وتغيره ، وهذا أسعد به ؛ إلا أن فيه نظارً ،
إذ لا يمنع أن ينتقم لله منه بما شرعه من
القتل في الدنيا ، ويشفع له في ألا يعاقبه في
الدار الأخرى ؛ وقد روي أن رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - صلى على الجهنية المرجومة .
وذهب إلى ذلك محمد ابن عبد الحكم ، وقال ابن
نافع يصلي الإمام على من قتله في قصاص ، أو حد
من الحدود ؛ وليس لترك صلاة الإمام عليه وجه ،
ولا فرق بينه وين غيره ؛ ويحتمل أن يفرق على
قول محمد بن عبد الحكم بين المرجوم ، والمقتول
في حرابة أو قود ، فإن الرم كفارة للزنا
بإجماع ، وليس القتل في القود والحرابة بكفارة
للذنب ، بدليل قوله تعالى : {ذلك لهم خزي في
الدنيا ، ولهم في الآخرة عذاب عظيم} . ولا
اختلاف في أن المقتول في حد أو قود يصلي
(2/269)
عليه الناس ،
إذ لا يخرج بما اجترمه مما أوجب عليه القتل عن
الإسلام ، لا سيما وقد قيل إ ، القتل كفارة له
؛ وأما المصلوب ، فقيل إنه يقتل ثم يصلب ، وهو
قول أشهب ؛ وقيل إنه يصلب حياً ثم يقتل في
الخشبة ، وهو قول ابن الماجشون ؛ وجعل ابن
القاسم الإمام مخيراً في ذلك باجتهاد على قدر
ما رأى من جرمه وقول ابن الماجشون أظهر ، لأن
الله إنما خير في صفة قتله ، ولو كان إنما خير
في صلبه بعد قتله ، لقال : أن يقتلوا ثم
يصلبوا .
فإذا قتل قبل أن يصلبن صلى الله عليه قبل أن
يصلب ؛ وأما إذا صلب حياً ،فقيل إنه لا يصلي
عليه ؛ وقيل إنه يصف خلف الخشبة ويصلي عليه ؛
اختلف في ذلك قول ابن الماجشون ، وقيل إنه
ينزل عن الخشبة ويصلي عليه ويدفن ، ولا يعاد
في الخشبة ؛ وقيل بل يعاد فيها ليذعر بذلك أهل
الفساد ، اختلف في ذلك قول سحنون –وبالله
التوفيق .
مسألة
وسئل ابن القاسم عن أناس ثاروا على خارجي ،
فظفر وقاتل أولئك الذين ثاروا عليه ، فقتل بعض
أصحابه وقتل من أولئك الذين ثاروا عليه وليس
فيهم من يرى أنه أراد بصيرة ولا ديناً أكثر من
طلب الدنيا ؛ أيصنع بقتلاهم ما يصنع بالشهداء
؟ أم يغسلون ويصلي عليهم ؟ أم ليس على من لم
يهو هواهم ولم يشهد معهم - أن يغسلهم ، ولا
يصلي عليهم ؟ وأنهم يقتتلون بين أحياء
المسلمين ، فيكون بين الفئتين قتلى ؛ هل يجب
غسلهم ودفنهم على أصحاب
(2/270)
كل قرية ؛ أم
على من سمع ذلك أو رآهم من أهل ذلك المحوز أن
يذهبوا فيغسلوهم ويصلوا عليهم ؟ أم يصنع بهم
ما يصنع بالشهداء ؟ قال ابن القاسم ليس هؤلاء
مثل الشهداء ، ويغسلون جميعاً الظالم والمظلوم
،ويصلى عليهم ؛ وأما دفنهم ، فإني أرى ذلك من
الحق أن يدفنوا جميعاً ولا يتركوا ، لأنهم من
المسلمين ،يغسلون ويصلى عليهم ويدفنون ؛ وأرى
للسلطان أن يواريهم ولا يكره أحداً على ذلك ،
وقد سئل مالك عن النصراني يموت مع المسلمين ،
فقال يحفر ويوارى للذمة ،فكيف للمسلمين! وسئل
ابن القاسم عن طائفتين من الخوارج مثل
الحرورية ، والقدرية ، ونحوهم ، يقتتلون فيقتل
من الفريقين قتلى ، هل يجب على من بقي من
الطائفتين دفن قتلاهم ، والصلاة عليهم ؛ وهل
يدفنون بدمائهم كالشهداء ، أو كيف بهم إن
تركوهم ولم يدفنوهم ؟ هل يجب على من كان
قريباً منهم دفنهم ، والصلاة عليه ؟ قال ابن
القاسم يغسلون ويصلى عليهم ، وعلى من كان
قريباً منهم أن يواريهم ويغسلهم ويصلي عليهم ،
وليس بواجب ، ولكني استحسنه ؛ وسئل ابن القاسم
عن الطائفتين من المسلمين يقتتلان فيقتل
بينهما قتلى ، أيصلي عليهم أم لا ؟ وهل يدفنون
بدمائهم ، أم يغسلون ؟ وكيف إن كانت إحداهما
باغية والأخرى عادلة ؟ قال وجه ما سمعنا من
مالك أنه يغسل جميع المسلمين ، ويصلي عليهم -
كان ظالماً أو مظلوماً ، لأنه سمعته يقول في
(2/271)
الذي يقتل نفسه
، إنه يغسل ويصلي عليه ، وإثمه على نفسه ؛
وليس أحد
في الظلم أظلم ممن قتل نفسه ، وكل القتلى عند
مالك يغسلون ويصلي عليهم ، إلا الشهيد في سبيل
الله ، الذي يموت في المعركة ، فإنه لا يغسل
ولا يصلي عليه ، ويدفن بثيابه ولا تجرد له ؛
قال مالك وما علمت أنه ينزع منه شيء .
قال محمد بن رشد : هذه المسائل كلها صحاح بينة
في المعنى والحجة ، فلا إشكال فيها ، ولا
اختلاف في المذهب في شيء منها ؛ إلا أنه قد
اختف التأويل على مالك في قوله في أهل الأهواء
والبدع ، إنهم لا ينكحون ولا ينكح غليهم ولا
يسلم عليهم ، ولا يصلي خلفهم ، ولا شهد
جنائزهم ؛ فقيل إن ذلك على وجه التأديب لهم ،
والكراهة لمخالطتهم ؛ وقيل إ ، ذلك لأنهم عنده
كفار ، بدليل قوله في سماع ابن القاسم من كتاب
المحاربين والمرتدين على ما آية أشد على أهل
الأهواء ، وأ÷ل البدع ، من هذه الآية : {يوم
تبيض وجوه وتسود وجوه} - الآية . قال فأي آية
أبين من هذه ؟ ورأيته يتأولها في أهل الأهواء
، والتأويل الأول أولى ؛ وقد مضى من قوله في
رسم الجنائز والصيد ، ما سمعت أن أحداً ممن
يصلي القبلة ينهي عن الصلاة عليه ، ومضى من
كلامنا في هذا المعنى فيرسم الصلاة الثاني ،
من سماع أشهب من كتاب الصلاة - ما فيه شفاء .
مسألة
وسئل ابن القاسم عن تغطية القبر بالثوب على
المرأة حين
(2/272)
تدفن ،أواجب
ذلك على الناس ؟ ومن أولى من يفعل ذلك ؟ ومن
أولى من يدخل القبر لدفن المرأة في قرابتها ؟
وكيف إن لم يكن لها قرابة ؟ قال ابن القاسم
زوجها أولى الناس بها من أبيها وولدها ؛ وأما
الثوب فأراه حسناً أن يعمل به ، أنه ستر لها
ألا يرى منها شيء من خلفها ؛ فإن لم يكن قرابة
من ذوي محرم ، كان أهل الفضل - عندي - وأهل
الصلاح أفضل في دخولها .
قال محمد بن رشد : أما استحسانه لستر قبر
المرأة بالثوب عند الدفن فيبين في المعنى ،
وأما قوله : إن أولى الناس بإدخالها في قبرها
زوجها ، فإنه صحيح على أصله في أن له أن
يغسلها ، وأنه أحق بذلك من قرابتها من النساء
؛ وخالف في ذلك أهل العراق ، وتعلقوا بما روي
عن أنس بن مالك قال : ماتت إحدى بنات النبي -
عليه الصلاة والسالم - فقال رسول الله - صلى
الله عليه وسلم : لا يدخل ( القبر ) أحد قارف
أهله الليلة ؛ فلم يدخل زوجها ، ولا حجة لهم
في ذلك ، لأن المعنى فيه أنه هو الذي كانت
المقارفة بينه وبين أهله تلك الليلة ، فعلم
ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكره أن
يدخل قبرها ، وأن يواجهه بذلك ، إذ كان - صلى
الله عليه وسلم -لا يواجه أحداً بما يكره ،
وإنما كان يقول ذلك تعريضاً لأخلاقه الكريمة ،
فامتنع زوجها عثمان -رضي الله عنه - من الدخول
في قبرها ، لما سمعه من قوله ، وفهمه من
إرادته - وبالله التوفيق .
(2/273)
مسألة
وسئل ابن القاسم عن الميت يحرف على القبلة
فيوضع على شقه الأيسر ، ثم يعلم بذلك قوم
يعرفون السنة ساعتئذ ؛ كيف الأمر فيه ؟ قال
ابن القاسم : إن كانوا لميواروه بحدثان ذلك ،
وألقوا عليه شيئاً يسيراً ؛ فأرى أن يحول
ويوجه إلى القبلة ؛ وإن كانوا دفنوه وفرغا من
دفنه ، فليترك ولا ينبش .
قال محمد بن رشد : إنما يوجبه الميت في لحده
إلى القبلة ، لأنها أشرف الجهات ، إذا رضيها
الله تعالى قبلة لبعاده في صلواتهم ، وليس ذلك
بواجب فرضاً ، لقول الله تعالى : {فأينما
تولوا فثم وجه الله} . ولذلك لم ير ابن القاسم
- رحمه الله - أن ينبش الميت إذا كانوا قد
فرغوا من دفنه ، لما في ذلك من كشفه لمعنى غير
واجب .
مسألة
وسئل ابن القاسم عن الذي يسبق الجنازة إلى
المصلى ، أيجلس حق يؤتي بها ، أم يقوم ؟ وكيف
إن سبقها الرجل إلى القبر ، أيجلس قبل أن توضع
على الأرض أم لا ؟ فقال : قال مالك يجلس ولا
بأس به في هذا كله .
قال محمد بن رشد : روي أن رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - قال إذا رأيتم الجنازة
فقوموا لها حتى توضع أو تخلفكم . وروي عنه -
صلى
(2/274)
الله عليه وسلم
- إذ مر عليه بجنازة فقام فقيل : أنه يهودي ،
فقال أليس ميتاً ؟ أو أليس نفساً ؟ وروي عنه -
عليه الصلاة والسلام - أنه قال : إذا رأيتم
الجنازة فقوموا ، فمن تبعها فلا يقعد . فكان
القيام للجنائز مأموراً به في ثلاثة مواضع :
حدها من كان جالساً فمرت به أن يقوم حتى يخلفه
، والثاني من اتبع جنازة ألا يجلس حتى توضع ،
والثالث من سبق الجنازة إلى المقبرة فقعد
ينتظرها : أن يقوم إذا رآها حتى توضع ؛ ثم نسخ
ذلك كله بما روي من أن رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - كان يقوم في الجنائز ، ثم جلس ،
وأمرهم بالجلوس ؛ وروي أنه فعل ذلك مرة ، وكان
يتشبه بأهل الكتاب ، فلما نهى انتهى .وأما
القيام على الجنازة حتى تدفن فلا بأس به ،
وليس ذلك مما نسخ ؛ روي أن رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - قام على قبر حتى دفن ، وقد
قيل إنه منسوخ وليس ذلك بصحيح ؛ روي أن علي بن
أبي طالب قام على قبر المكفف ، فقيل له ألا
تجلس يا أمير المؤمنين ؟ فقال قليل لأخينا
قيامنا على قبره ، وهو الذي روى النسخ ؛ فدل
ذلك على أنه لم يدخل فيه عنده القيام على
القبر - عند الدفن وبعده - والله أعلم . وذهب
ابن حبيب إلى أنه إنما نسخ من القيام في
الجنائز الوجوب فيمن جلس في سعة ، ومن قام
فمأجور ، وبالله تعالى التوفيق .
مسألة
وسئل ابن القاسم عن اللوح واللبن والقصب توضع
على اللحد ، ويجعل الرجل في تابوت من خشب ،
ويدفن فيه أو يبني عليه الأجر ؛ فقال ابن
القاسم أما التابوت فأكرهه ، ولا يعجبني أن
يدفن
(2/275)
فيه أحد ؛ وأما
اللبن فهي السنة ، والشأن ، وأما الألواح فلا
أرى ذلك إلا ألا يوجد لبن ولا أجر .
قال محمد بن رشد : فيبعض الروايات ولا ثرى -
مكان - ولا آخر ( والصواب : ولا آجر ) لأن
الأفضل فيما يجعل على الميت في قبره اللبن ،
ثم الألواح ، ثم القراميد ، ثم الآجر ، ثم
الحجارة ، ثم القصب ، ثم سن التراب ، وسن
التراب خير من التابوت ، قال ذلك ابن حبيب ؛
وقد روي عن ابن القاسم وأشهب ، أنه لا بأس أن
يجعل على اللحد اللبن ، أو القصب أو اللوح ،
وذلك خفيف ؛ وروي عن سحنون أنه قال ما سمعت
أحداً كره اللوح إلا ابن القاسم .
مسألة
وسئل ابن القاسم عن قبة النعش التي تصنع
للنساء ، أواجب ذلك لكل امرأة بلغت المحيض أم
لا ؟ وكيف المرأة التي تموت في السفر ، هل
تستر بقية كما يصنع أهل الحضر ؟ أم كيف يصنع
بها إذا وضعت على سريرها ؟ وكم حد ( طول )قبة
النعش الذي لا يجوز أن يرفعه فوقه ؟ قال ابن
القاسم قد فعله عمر بن الخطاب ، وأخبرني مالك
أن أول من فعله به ذلك ، زينب زوج النبي -
عليه الصلاة والسلام - فقال عمر للتي فعلته
بها : سترتها سترك الله . فقد أستحسنه عمر ،
فأرى ألا يترك في سفر ولا حضر ،
(2/276)
وهو يقدر على
ذلك ؟ وأما حد طوله فليس فيه حد إلا ما وارى ،
وأكره ما أحدث الناس فيه من المباهاة والفخر
مع طول ذلك ، حتى صار عندهم زينة من الزينة ،
فأنا أكره ذلك .
قال محمد بن رشد : ليس في هذه المسألة معنى
يشكل ، فيحتاج إلى التكلم عليهن وبالله تعالى
التوفيق .
مسألة
وسئل ابن القاسم عن نفر من المسلمين - وفيهم
رجل مشرك - وقع عليهم بيت فهلكوا ، أيغسلون
جميعاً ويصلى عليهم ؟ فقال ابن القاسم ما سمعت
من مالك فيه شيئاً ، وأرى أن يغسلوا ويصلى
عليهم ، وتكون نيتهم في الصلاة على المسلمين
منهم .
قال محمد بن رشد : هذه مسألة صحيحة لا اختلاف
فيها ، وإنما الاختلاف إذا كان نفر من
المشركين وفيهم رجل مسلم لا يعرف بعينه ، فقال
أشهب إنه لا يصلي عليهم ؛ وقال سحنون إنهم
يغسلون ويصلى عليهم ، وتكون نيتهم في الصلاة
على المسلم منهم ، ولا تترك حرمة مسلم تضيع ،
هكذا وقع هذا الاختلاف في سماع ابن غانم من
بعض الروايات .
مسألة
وسئل ابن القاسم عن الميت يوجد بفلاة من الأرض
، ولا يدري أمسلم هو أو كافر ؟ أيغسل ويكفن
ويصلى عليه ؟ أو الميت يوجد أحد شقيه بلا رأس
، أو يوجد أحد شقيه برأسه ؟ فقال ابن القاسم
لم أسمع من مالك فيه شيئا ، وأرى أن يوارى ولا
يصلى عليه ، ويوارى بلا غسل ؟ وكذلك لو وجد في
مدينة من المدائن ميت في زقاق ، ولا يدري
أمسلم هو أو كافر .
قال محمد بن رشد : وإن كان مختوناً ، إذ قد
علم أن اليهود يختنون أولادهم ؛ وقال ابن حبيب
: وإن لم يدر أن كان مسلماً ، أو نصرانياً ،
فإنه لا يغسل ولا يصلي عليه ،
(2/277)
وإن كن مختوناً
، إذ من النصارى من يختتن ؛ وقال ابن وهب في
سماع عبد الملك : أنه يجر يده على ذكره ، فإن
كان مختوناً غسله وصلى عليه ، وبالله تعالى
التوفيق .
مسألة
وسئل ابن القاسم عن القوم يصلون على الجنازة
فيضعون الرأس موضع الرجلين ، ثم يعلمون بذلك
قبل دفنها ؛ أيعيدون الصلاة ( عليها ) ؟ قال
ابن القاسم : ما أرى ذلك ، وصلاتهم مجزئة عنهم
.
قال محمد بن رشد : وهذا كما قال ، لأنه قد صلى
عليه وهو أمامه إلى القبلة ، فالأمر في ذلك
واسع ، وكذلك لو أخطأ في ترتيب الجنائز للصلاة
عليها ، فقدم النساء على الرجال والصغار على
الكبار ، لمضت الصلاة ، ولم تجب إعادتها - وإن
علم بذلك بالقرب قبل الدفن .
مسألة
وسئل ابن القاسم عن قوم أدركوا إمام جنازة حين
سلم ، أتحبس لهم الجنازة حتى يصلوا عليها
فرادى ، أم لا تحبس إذا كان قد صلي عليها ؟
قال ابن القاسم لا تحبس ولا تعاد الصلاة عليها
.
(2/278)
قال محمد بن
رشد : قد تقدمت هذه المسألة في رسم الجنائز
والصيد والذبائح في موضعين ، ومضى الكلام
عليها في الموضع الأول منهما ، فلا وجه
لإعادته هنا .
مسألة
وسئل ابن القاسم عن الميت لا يوجد له رأس ، أو
يوجد جسده تام ، أيغسل ويصلى عليه ؟ أو الميت
يوجد أحد شقيه بلا رأس ، أو يوجد أحد شقيه
برأسه ، أو يوجد صدره برأسه ، أو توجد فخذاه
من السرة إلى أسفل ، أو يوجد يد أو رجل بائنة
من الجسد ؟ أيصلي عليه على هذه الصفة ؟ وهل
يجب دفن شيء من ذلك على من وجده ؟ وكيف إن وجد
رأسه منفرداً من لجسد ولم يوجد غيره ؟ أو وجد
أعضاؤه متفرقة بغير رأس ؟ أو وجد الرأس ؟
أيجمعها ويصلي عليها ؟ فقال ابن القاسم قال لي
مالك : لا يصلي على يد ولا فخذ ، ويصلى على
الجسد - وإن لم يكن فيه رأس - فقلنا لماك فما
حد ذلك ؟ فقال إذا وجد جله أو أكثره ، صلي
عليه ، وأما يد أو رأس ، أو فخذ ، فغني أرى أن
يدفن ولا يصلى عليه ؛ وأما ما ذكرت إذا وجد
متقطعاً ، فإنه ينظر إلى ما وجد من ذلك ،فإن
كان هو جله أو كله ، فلا يبالى كان متقطعاً أو
مجتمعاً ، فإنه يغسل ويصلى عليه ؛ وإن كان ذلك
يسيراً حتى يكون مثل الرجل
(2/279)
أو اليد أو
الرأس لم يصل عليه ، ولا يغسل ؛ لأني لا أرى
أني غسل إلا ما كان منه يصلي عليه ، وإن كان
يسيراً لم يصل عليه ؛ وإن وجد متشدخاً لا
يستطاع أن يغسل ، صب عليه الماء صباً ، وكذلك
صاحب الجدري وما أشبهه من القروح التي إذا مسخ
سلخ ، فإنه يصب عليه الماء ويترفق به ، وكذلك
قال مالك .
قال محمد بن رشد : هذا مثل قوله في المدونة :
إنه لا يصلي على يد ، ولا على رجل ، ولا على
رأس ، ولا يصلى إلا على جل الجسد ؛ قال ههنا
وجد مجتمعاً أو متفرقاً . وقال في كتاب ابن
حبيب : إذا وجد مجتمعاً ؛ والمعنى في ذلك عند
مالك ، أنه لا صلى على غائب ، فإذا وجد بعض
الميت وغاب بعضه ، جعل القليل تبعاً للجل مما
غاب أو حضر ؛ ولم يجعل الأقل تبعاً للأكثر حتى
يكون الأكثر هو الجل ، وإن أدى ذلك إلى أن لا
يصلى عليه أصالً ؛ إذ قد يوجد منه أكثر من
النصف ودون الجل فلا يصلى عليه ، إن وجدت
بقيته لم يصل عليها - كما قال أشهب إنه إذا
وجد أحد شقيه برأسه لم يصل عليه ، والأظهر أن
يجعل الأقل منه تبعاً للأكثر فيصلي عليه ،
لأنه إذا صلى عليه وهو أكثر من النصف ، فقد
أمر أن يصلى على الباقي منه - إذا وجد ، وأن
يصلي على النصف أيضاً إذا وجد ؛ لأنه إن لم
يصل عليه - وكان من وجد النصف الثاني لم يصل
عليه أيضاً ، بقي الميت بلا صلاة ؛ فلأن يصلى
عليه مرتين ، أولى من أن لا يصلى عليه ؛ إلا
أنهم لم يعتبروا شيئاً من ذلك إلا بقاءه بلا
صلاة ، ولا الصلاة عليه مرتين ؛ فقد روي عن
ابن الماجشون أنه يصلى على الرأس ، لأن فيه
أكثر الديات ؛ فإذا كان عنده يصلى على الرأس ،
ويصلى على البدن دون رأس ، فلمتبق الصلاة عليه
مرتين ؛ فإنما العلة عند مالك وأصحابه
(2/280)
في هذه المسألة
، ما ذكرناه من أن الصلاة لا تجوز على غائب لا
ما سوى ذلك ؛ واستخفوا إذا غاب منه اليسير
الثلث فدون ، إلا ما كن من قول ابن الماجشون :
إنه إذا وجد الرأس يصلى عليه ، لأن فيه أكثر
الديات ، فمن علل مذهب مالك في أنه لا يصلى
إلا على جل الجسد بإبقاء الصلاة عليه مرتين ،
أو بقائه دون صلاة فقد أخطأ ؛ وعبد العزيز بن
أبي سلمة يرى أن يصلى على ما وجد منه من يد أو
رجل ، وغن لم يوجد منه شيء وعلم أنه قد مات
غريقاً ، أو أكلته السباع ، صلي عليه أيضاً
عنده ؛ وحجته صلاة النبي - عليه الصلاة
والسلام - على النجاشي بالمدينة - وهو ميت
بأرض الحبشة ، وإلى هذا ذهب ابن حبيب ، واحتج
من نصر قول مالك بم اروي عن عمران بن حصين ،
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أن
أخاكم النجاشي قد مات فصلوا عليه . قال ونحن
نرى أن الجنازة قد أتت ، قال فصففنا فصلينا
عليه ، وإنما مات بالحبشة فصلى عليه رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - حين دخل المدينة . قال
فإذا كان الله قد حمله إلى المدينة بلطيف
قدرته - حتى وضعه بين يديه بالمصلى فصلى عليه
، بطل تعلق عبد العزيز بن أبي سلمة بالحديث ؛
وفي خروج النبي - عليه الصلاة والسلام - إلى
المصلى للصلاة عليه ، دليل على أنه كان بها ؛
إذ لو كان بمكانه بأرض الحبشة ، لم يكن لخروجه
إلى المصلى للصلاة عليه معنى ؛ واحتج أيضاً أن
النبي - صلى الله عليه وسلم -لم يصل عليه بعد
دفنه - مع ما في الصلاة عليه من عظيم الأجر ،
والحجة الأولى أظهر ؛ إذ قد قيل إنما لم يصل
على النبي - عليه الصلاة والسلام - بعد ذلك ،
لئلا يكون ذلك ذريعة إلى أن يتخذ قبره مسجداً
، وقد نهى عن ذلك - صلى الله عليه وسلم .
(2/281)
مسألة
قال معن بن عيسى : وقال مالك إذا كان الصغير
مع أبويه لم يكره على الإسلام وإن كان وحده
أمر بالإسلام .
قال محمد بن رشد : قد مضى القول في هذه
المسألة مجوداً في رسم الشجرة تطعم بطنين في
السنة من سماع ابن القاسم ، فلا معنى لإعادة
ذلك .
مسألة
قال موسى بن معاوية وسئل ابن القاسم عن الرجال
والنساء والصبيان إذا اجتمعوا في قبر واحد من
ضرورة ، فقال : يكون الرجال من داخل مما يلي
القبلة ، والصبيان من خلفهم ، والنساء من
ورائهم ؛ فقلت : فكيف يكونون في الصلاة ؟ فقال
: يكون الرجال مما يلي الإمام ، والصبيان إن
كانوا ذكوراً إليهم ، ثم النساء مما يلي
القبلة ، وسواء كان الرجال عبيداً أو أحراراً
يجعلون أبداً مما يلي الإمام ، والنساء إلى
القبلة .
قال محمد بن رشد : ظاهر هذه الرواية أن العبد
الكبير يقدم إلى الإمام ، ثم الحر الصغير من
ورائه ، وقد مضى من تحصيل القول في هذه
المسألة في رسم الجنائز والصيد من سماع أشهب ،
ما لا مزيد عليه ، فلا معنى لإعادته هنا مرة
أخرى ، وبالله تعالى التوفيق .
ومن سماع محمد بن خالد من ابن القاسم
مسألة
قال محمد بن خالد : سألت عبد الرحمن بن القاسم
عن المرأة تتوفى في سفر مع رجال - ولا امرأة
معهم فتيممها ، أتدفن في ثيابها ؟ فقال ابن
القاسم : يفعل في ذلك أفضل ما يقدر علية ؛ قال
ابن
(2/282)
القاسم : إن
ناساً من أهل المغرب سألوا ملكاً عن المرأة
تخرج معهم حاجة - وليس معها ذو محرم فتسألهم
أن يحملوها على الدابة ، كيف ترى في ذلك ؟
فكان من قوله لهم وما أمرهم به أن يتطأطأ لها
الذي يريد أن يحملها ، حتى تستوي عليه ثم تركب
، وهذا حين لم يقدر على أفضل من ذلك .
قال محمد بن رشد : وهذا كما قال ، وأحسن ما
يقدر عليه في هذا ؛ أن تلف كما هي في ثيابها
في ثوب تدرج فيه وتدفن ، والله تعالى أعلم .
مسألة
وسألت ابن القاسم عن الرجل تكون له امرأة
نصرانية فتلد منه ، ثم يغيب عنها فيموت ولده
منها في غيبته ، فيدفن ولده أولياء أمه مع أهل
دينهم ، ثم يعلم بذلك من يومهم أو من الغد ؛
أفترى أن ينبش فيحول إلى مقبرة المسلمين ؟ قال
ابن القاسم : إن كان بحضرة الذي - ولم يخف أن
يكون قد تغير ، فلا أرى بأساً أن يخرج ، ثم
يدفن في مقبرة المسلمين ؛ وإن خيف عليه
التغيير ، فلا أرى أن يحرك .
قال محمد بن رشد : قوله فلا أرى بذلك بأساً ،
يدل على أن ذلك جائز غير لازم ؛ والذي مضى في
رسم النسمة من سماع عيسى أبين وأوضح ، لأنه
إذا لم يكن في نبشة بأس ، فتحويله إلى مقبرة
المسلمين لازم .
مسألة
قال وأخبرني ابن القاسم في الرجل يقتل ثم يصلب
، أنه يصلي عليه قبل أن يصلب ؛ وأما الذي يصلب
حياً ثم يقتل ، فإني لم أسمع
(2/283)
فيه شيئاً .
قال سحنون : ينزل عن الخشبة ويصلي عليه ، ثم
يرد فيها ليذعر أهل الفساد .
قال محمد بن رشد : قد مضت هذه المسألة والقول
فيها في سماع موسى ، فلا وجه لإعادته - وبالله
التوفيق .
من مسائل نوازل سئل عنها سحنون
قيل لسحنون : فلو أن رجلين نزلا في قرية
أحدهما مسلم ، والآخر يهودي ، قد عرف ذلك ،
ولأحدهما مال ، والآخر لا مال له ،فسقط عليهما
البيت فلم يدر من المسلم من اليهودي ؟ كيف
يصنع بغسلهما والصلاة عليهما ؟ قال : يغسلان
جميعاً ويصلى عليهما ، وتكون النية عليهما على
من كان منهما مسلماً ؛ قيل له فالكفن ( كيف
يكفنان ) جميعاً - وأحدهما كان معروفاً أنه
كان ذا مال ، والآخر لا مال له ، إلا أنهما
لما ماتا لم يعرف صاحب المال من الذي لا مال
له ؟ فقال : يكون الكفن من المال الذي كان
معهما ، قيل له فبقية المال أيكون موقوفاً عند
السلطان ؟ قال : نعم .
قال محمد بن رشد : قوله إنهما يغسلان جميعاً
بين ، لا سيما على قوله : إن النفر من
المشركين إذا كان معم رجل مسلم فماتوا ولم
يعلم المسلم منهم ؛ أنهم يغسلون جميعاً ،
ويصلى عليهم ، ولا تترك حرمة مسلم ، هكذا يصنع
وقد
(2/284)
مضى ذلك في
سماع موسى بن معاوية ؛ وإذا كفنا جميعاً من
المال الذي وجد معهما ، وأوقفت بقيته عند
السلطان ، فاستحقه ورثة أحدهما دون صاحبه ،
جبر عليه ما كفن به الآخر من بيت مال (
المسلمين ) ، لأنه لو علم أن لا مال له ، لكان
الواجب أن يكفن من بيت المال ، وإن ادعاه
ورثتهما جميعاً ولم يأتي أحدهما ببينة ، حلفا
واقتسما البقية بينهما ، ولم يكن لأحدهما رجوع
على صاحبه .
مسألة
قال سحنون : صاحب الصلاة إذا فوض الصلاة إليه
الأمير ، أو صاحب الشرطة ، أو القاضي ؛ من كان
صاحب الصلاة ؟ والمنبر منهم ، فهو أولى
بالصلاة على الجنازة من الأولياء ؛ قال : وإن
لم تكن الصلاة إلى القاضي ، فهو كغيره من
الناس ، وإن صاحب المنبر أمير الجند ؟ وصاحب
شرطة إذا كان موكلاً بالخطبة والصلاة ، أولى
من الأولياء ، وليس للقاضي في هذا عمل ، إلا
أن تكون الصلاة إليه ؛ قيل : فوكيل أمير الجند
على الخطبة والصلاة – إذا غاب الأمير – إن لم
يعرف الخطبة مثل وكيله بالناس وليس إليه شرطة
، ولا ضرب الجند ، ولا شيء من الصلاة ؛ قال :
لا أرى لهذا في الصلاة على الجنائز شيئاً .
قال محمد بن رشد : في هذا الكلام التباس ،
ومذهبه أنه لا يكون
(2/285)
أحق من
الأولياء بالصلاة على ميتهم إلا الأمير ، أو
قاضيه ، أو صاحب شرطة ، أو مؤمره على الجند -
إذا كانت الخطبة والصلاة إلى كل واحد منهم ؛
فإن انفرد أحدهم بالخطبة والصلاة - دون أن
يكون إليه حكم بقضاء ، أو شرطة أو أمارة على
الجند ؛ أو انفرد بالحكم بالقضاء ، أو الشرطة
، أو الإمارة على الجند ، دون أن تكون إليه
الخطبة والصلاة ، لم يكن له في الصلاة على
الجنازة حق ؛ وكل من كان إليهم الحكم بوجه من
الوجوه ، والصلاة فوكيله عليهما جميعاً
بمنزلته في أنه أحق من الأولياء بالصلاة على
الجنازة ؛ وأما إن كان وكله على الحكم دون
الصلاة ، أو على الصلاة والخطبة دون الحكم ،
فلا حق له في الصلاة على الجنازة ؛ وهذا مذهب
ابن القاسم ، وروايته عن مالك ، في المدونة .
وحكى ابن حبيب عن ابن القاسم ، وروايته عن
مالك ، في المدونة .
وحكى ابن حبيب عن ابن القاسم أن ذلك لكل من
كانت إليه الخطبة والصلاة - يريد وإن لم يكن
إليه حكم ، ولا ويجد ذلك لابن القاسم نصاً ؛
وظاهر ما في سماع ابن الحسن عن ابن وهب أن
القاضي أحق بالصلاة على الجنازة من الأولياء -
وإن لم تكن الصلاة إليه ؛ وقال مطرف ، وابن
الماجشون ، وأصبغ : ليس لواحد من هؤلاء في
الصلاة على الجنازة حق سوى الأمير المؤمر الذي
تؤدي إليه الطاعة ، فهي أربعة أقوال ؛ ولا
اختلاف في أنه لاحق في الصلاة على الجنائز لمن
انفرد بالصلاة دون الخطبة والقضاء ، أو بالحكم
- دون القضاء ، والخطبة ، والصلاة ، فهذا
تحصيل هذه المسألة ؛ وأولى الأولياء بالصلاة
على الميت - الابن ، ابن الابن - وإن سفل ؛ ثم
الأب ، ثم الأخ ، ثم ابن الأخ - وإن سفل ؛ ثم
الجد ، ثم العم ، ثم ابن العم - وإن سفل ؛ ثم
أب الجد ، ثم بنوه - على هذا الترتيب ؛ كولاية
النكاح ، وميراث الولاء ؛ فإن استووا في القعد
والقرب من الميت ، فأعلمهم أولاً ، ثم أفضلهم
، ثم
(2/286)
أسنهم ؛ فإن
استووا في العلم والفضل والسن ، فأحسنهم خلقاً
؛ لقوله - عليه الصلاة والسلام - إن الرج
ليبلغ بحسن خلقه درجة القائم بالليل الظامئ
بالهواجر . فإن استووا في ذلك - وتشاحوا في
الصلاة عليه ، أقرع بينهم ، وقيل يقدم أحسنهم
خلقاً ؛ فإن أراد الأحق بالصلاة أن يقدم
أجنبياً من الناس ، أو بعيداً من الأولياء على
من هو أقرب منه ؛ فقد مضى في آخر أول رسم من
سماع أشهب - الخلاف في ذلك ؛ وأما إن أوصى
الميت إلى أحد بالصلاة عليه ، فهو أحق من
الأولياء ، ومن الوالي - إن حضر قاله ابن حبيب
، وحكاه عن مالك : وروى ابن غانم عن مالك :
أنه أحق من الولي ، وحكى عنه سحنون في نوازله
: أنه أحق منه ؛ إلا أن يعلم أن بينه وبينه
عداوة ، وإنما أراد بذلك نقصه ، فلا تجوز
وصيته بذلك ، وقع في سماع ابن غانم ونوازل
سحنون في بعض الروايات .
مسألة
وسئل سحنون عن رجل أوصى عند موته أن يكفن في
ثوب واحد ، فزاد ورثته في كفنه ثوبين ؛ فقال
بعض الورثة : لا نرضى ، ونحن نرد هذه الزيادة
؛ فقال : إن كان في مال الميت محمل لمثل كفنه
الذي كفن فيه ، فلا أرى عليهم ضماناً .
قال محمد بن رشد : وهذا كما قال ، لأنه لا
يلزم أن ينفذ من الوصايا إلا ما فيه قربة وبر
، ولا قربة ولا فضيلة في أن يكفن الرجل في ثوب
واحد ، بل المستحب ألا يكفن في أقل من ثلاثة
أبواب - كما كفن رسول الله - صلى الله عليه
وسلم .
وفي كتاب ابن شعبان أنه إذا أوصى بشيء يسير في
كفنه وحنوطه لم يكن
(2/287)
لبعض الورثة
الزيادة فيه بغير ممالاة من جميعهم ، وذلك -
عندي إلا أوصى بشيء يسير في قيمة الأكفان ،
دون أن ينقص من العدد في الثلاثة الأثواب ؛
لأن الرخص في الكفن مستحب ، والمغالاة فيه
مكروهة ؛ لأن للمهلة كما قال أبو بكر - رضي
الله عنه - ؛ ولسحنون فيك تاب ابنه ، أنه إذا
أوصى بسرف في كفنه ، أو الحفر له ؛ جعل في
ثلثه الزائد على القصد - وهو بعيد لوجهين ،
أحدهما : أنه لم يرد بذلك الثلث ، والثاني :
أن ذلك مكروه لا طاعة فيه ، ولا ينفصل من وصية
الميت ، إلا ما فيه طاعة ؛ وقيل إنه يرجع
ميراثاً ، وهو قول مالك وابن القاسم وأشهب -
وهو الصواب على ما ذكرناه من أنه لا ينفذ من
وصية الميت إلا ما كان فيه طاعة .
من سماع عبد الملك بن الحسن وسؤاله ابن وهب
مسألة
قال عبد الملك بن الحسن سألت ابن وهب عن
الجنازة يحضرها الولي ، والقاضي ؛ هل يستحب
للولي أن يقدم القاضي ؟ أم تراه في سعة من ترك
تقديمه ؟ فقال : إذا حضر القاضي جنازة لم ينبغ
لولي الميت أن يتقدم ، والقاضي أولى وأحق ؛
قيل له فصاحب الشرطة ، أهو عندك مثل القاضي في
مثل هذا ؟ قال : لا . قيل له فالقرشي الذي له
الحال والصلاح يحضر الجنازة ، وولي الميت حاضر
، أهو عندك بمنزلة القاضي ؟ فقال : إذا كان
على مثل ما وصفت من حاله ، وممن ترجى بركة
دعائه ؛ فإن استحب لوليه أن يقدمه .
(2/288)
قال محمد بن
رشد : ظاهر قول ابن وهب هذا ، أن القاضي أحق
بالصلاة على الجنازة من وليها - وإن لم تكن
الصلاة والخطبة إليه ؛ خلاف ما تقدم في نوازل
سحنون ، وقد تقدم هناك تحصيل القول في ذلك ؛
وأما استحسانه لولي الميت : أن يقدم القرشي
الذي له الصلاة والفضل ، فذلك حسن من الفعل ،
لأنه شفيع للميت ؛ فينبغي أن يتوخى فيمن يتقدم
للصلاة عليه من يرجى أن يشفع فيه .
مسألة
وسئل عن الرجل يمر بفلاة من الأرض ، فيجد
رجلاً ميتاً لا يدري أمسلماً أو نصرانياً ؟ ما
العمل فيه ؟ قال ابن وهب : إذا لم يعلم ، جر
يده على ذكره من فوق الثوب ، فإن كان مختوناً
، غسله وصلى عليه ودفنه ، وإن لم يكن مختوناً
واراه .
قال محمد بن رشد : وقال ابن حبيب : إنه يواريه
ولا يغسله ولا يصلي عليه - وإن كان مختوناً ،
إذ من النصارى من يختتن ؛ ولو لم يعلم أن كان
مسلماً ، أو كافراً ، لواراه بلا غسل ؛ - قاله
في سماع موسى بن معاوية . ولا اختلاف في هذا
أعلمه ، إذ قد علم أن اليهود يختتنون .
مسألة
وسئل ابن وهب عن الميت إذا حضرته الوفاة ، هل
يستقبل به القبلة ؟ فقال : نعم يستقبل به
القبلة ، فقيل له فكيف يستقبل به القبلة ؟
فقال يجعل على شقه الأيمن - إن قدر على ذلك ،
كما يصنع به في اللحد ؛ وإن لم يقدر على ذلك ،
جعل مستلقياً على قفاه - ورجلاه مما يلي
القبلة .
(2/289)
قال محمد بن
رشد : اختلف في التوجيه : فروي عن مالك أنه
مستحب ، وهو الذي عليه الجمهور ؛ وروى علي بن
زياد عن مالك ، أنه قال في التوجيه : ما هو من
الأمر القديم ، وذلك نحو ما روي عن سعيد بن
المسيب أنه أنكر ذلك على من فعله به في مرضه ؛
وتأول ابن حبيب أنه إنما كره ذلك لاستعجالهم
به قبل أن ينزل به أسباب الموت ؛ والأظهر أنه
كرهه بكل حال ، والذي يدل أنه غير مشروع ، أن
ذلك لم يرو أنه فعل بالنبي - صلى الله عليه
وسلم - ولا بأحد من الصحابة المتقدمين الكرام
؛ ولو كان ذلك ، لنقل وذكر - والله أعلم ؛
وإلى هذا نحا مالك في رواية علي بن زياد ،
لقوله ما هو بالأمر القديم ؛ وأما صفته عند
مالك ، وجميع أصحابه ، فعلى جنبه الأيمن ، كما
يجعل في لحده ، وكما يصلي المريض الذي لا يقدر
على الجلوس عندهم ؛ واختلف الذين قالوا في
المريض الذي لا يقدر على الجلوس ، أنه يصلي
على ظهره - ورجلاه إلى القبلة في التوجيه ؛
فمنهم من قاسه على الصلاة ، ومنهم من قاسه على
جعله في قبره ؛ لأن المعاينة سبب من أسباب
الموت ، فقياس التوجيه فيها على حال الموت ،
أولى من قياسه على الصلاة ، وإلى هذا ذهب أبو
حنيفة .
مسألة
وسئل عن الرجلين يكونان في السفر ، فيجنب
أحدهما ، ويموت الآخر - وليسم عهما من الماء
إلا ما يتطهر به واحد ؛ قال : فالحي أولى
بالماء من الميت ، قيل أيتيمم الميت ؟ قال :
نعم .
قال محمد بن رشد : إنما كان الحي أولى بالماء
من الميت ، من أجل أن الميت لا يقاومه إياه ؛
وإذا اغتسل الحي بالماء ، كان عليه قيمة نصيب
الميت منه لورثته - إن كانت له قيمة ؛ وانظر
لو أراد ورثته أن يقاوموه إياه ، هل يكون ذلك
لهم أم لا ؟ وقد مضى في سماع سحنون ، وموسى بن
معاوية ، من كتاب الوضوء ، ما يوضح هذه
المسألة وبين معناه ، فقف على ذلك هناك -
وبالله التوفيق .
(2/290)
مسألة
قلت : فالجنائز هل ينادى بها في المساجد ؟ قال
: لا ينادى بها إلا على أبواب المساجد .
قال محمد بن رشد : هذا خلاف ما تقدم في رسم
حلف من سماع ابن القاسم ، وقد مضى هناك القول
على ذلك بأوعب ما فيه ، وبالله التوفيق . تم
سماع عبد الملك بن الحسن بحمد الله .
من سماع أصبغ بن الفرج من ابن القاسم
من كتاب القضاء العاشر
قال أصبغ : سمعت عبد الرحيم بن خالد يقول :
بلغني أن الروح له جسد ، ويدان ، ورجلان ،
وعينان ، ورأس ، يسل من الجسد سلاً .
قال محمد بن رشد : ذكر هذه الرواية عن عبد
الرحيم بن خالد ، أن الروح له جسد ويدان
ورجلان وعينان ورأس ، يسل من الجسد سلاً ؛
وحكى ابن حبيب عنه أن النفس هي التي لها جسد
ويدان عينان ورأس تسل من الجسد سلاً ، وأن
الروح هو النفس المتردد في الإنسان ، ففرق عبد
الرحيم بن خالد - فيما حكى ابن حبيب عنه - بين
الروح والنفس ، وسمى نفساً ما سماه في هذه
الرواية روحاً - وهو الجسد المجسد الذي
(2/291)
يحيى الجسم
بكونه فيه ، ويموت بإخراجه منه - وهو الصواب -
أن النفس والروح اسمان لشيء واحد ؛ وهو الذي
يحيا به الجسم ، وإن كان كل واحد منهما قد يقع
بانفراده على مسميات لا يقع عليها الآخر ،
فيقع النفس على ذات الشيء وحقيقته ؛ وعلى الدم
، وعلى الحياة الموجودة بالإنسان ؛ ويقع الروح
على الملك ، وعلى القرآن ، وعلى النفس المتردد
في الإنسان ، وعلى الحياة الموجودة فيه وفي
غيره من الحيوان ؛ فإذا عبر بالنفس والروح عن
شيء واحد ، فالمراد به ما يحيا به الجسم ،
ويتوفاه ملك الموت ، فيدفعه إلى ملائكة الرحمة
، أو لملائكة العذاب ؛ وهو النسمة التي قال
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها : إنما
نسمة المؤمن طائر ، يعلق في شجر الجنة حتى
يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه . فالنفس ،
والروح ، والنسمة ، شيء واحد ؛ وقد يسمى
الإنسان نسمة اتساعاً ومجازاً ، والدليل على
أن النفس والروح شيء واحد ، أن الله - تبارك
وتعالى - قال : {يتوفى الأنفس حين موتها والتي
لمت مت في منامها} . وقال ، صلى الله عليه
وسلم : إذ نام عن الصلاة في الوادي ، حتى طلعت
الشمس : إن الله قبض أرواحنا ، ولو شاء لردها
إلينا في حين غير هذا .
فسمى - صلى الله عليه وسلم - روحاً ما سماه
الله نفساً ، وهذا بين ؛ وإنما قلنا إنه هو
الذي يحيا به الجسم ، ولم نقل إنه الحياة
الموجودة به ، لأن الحياة الموجودة به معنى من
المعاني ، والمعاني لا تقوم بأنفسها ، ولا يصح
عليها ما وصف الله به الأنفس والأرواح في
كتابه ، وعلى لسان نبيه من القبض والإخراج
والرجوع والطمأنينة والصعود والتنعيم والتعذيب
؛ فمعنى قولنا الذي يحيا به الجسم ، أي ما
أجرى الله العادة بأن الجسم يحييه بكونه فيه ،
(2/292)
ويميته بإخراجه
منه ؛ لأن ما يحيا به الجسم وجوباً لإعادة ،
هي الحياة ولا تكون إلا معنى ؛ لأن الجواهر
والأجسام لا توجب الأحكام في الأجسام ؛ فإذا
قلنا إن النفس والروح شيء واحد ، وأنه هو الذي
أخبر الله تعالى أنه يتوفاه ند الموت وعند
النوم بقوله تعالى : {الله يتوفى الأنفس حين
موتها والتي لم تمت في منامها ، فيمسك التي
قضى عليها الموت} . فقد قال بعض المتقدمين إن
قبضه في حال النوم - هو أن يقبض وله حبل ممدود
إلى الجسم كشعاع الشمس ، فإذا حرك الجسم رجع
إليه الروح أسرع من طرف العين ، والأظهر - (
عندي ) - في ذلك أن قبضه في حال الوفاة هو
بإخراجه من الجسم ، وقبضه في النوم ، ليس
بإخراج له من الجسد ، وإنما معناه منعه من
الميز والحس والإدراك ، وقبضه عن ذلك ؛ كما
يقال قبض فلان عبده ، وقبض السلطان وزيره :
إذا منعه مما كان مطلقاً عليه - قبل ؛ وإن لم
يزله عن مكانه في الحقيقة ، فالقبض على هذا ،
والتوفي في الوفاة حقيقة ، وفي النوم مجاز ،
والله أعلم بحقيقة الصواب في ذلك ( كله ) ؛
قال الله عز وجل : {ويسألونك عن الروح قل
الروح من أمر ربي} - الآية ، وبالله التوفيق .
مسألة
قال أصبغ : وسألت ابن القاسم عن ولد المسلم
يولد مخبولاً ، أو يصيبه الخبل قبل أن يبلغ
العمل ؛ قال ما سمعت فيهم شيئاً ، إلا أن الله
تبارك وتعالى يقول : {والذين آمنوا وابتعتهم
ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم} . فأرجو أن
يجعلوا معهم ، فأما من احتلم وجرى عليه القلم
، ثم أصيب بعد ذلك ، فإني سمعت بعض أهل العلم
والفضل يقول إنه يطبع على عمله بمنزلة من مات
.
قال محمد بن رشد : الذي يولد مخبولاً أو يصيبه
الخبل قبل أن يبلغ العمل ، فهو بمنزلة من مات
صغيراً من أولاد المسلمين ، إذا لم يلحق
بالمكلفين ، فهو مولود على الفطرة ، وصائر -
بفضل الله ورحمته إلى الجنة ، وما رجاه ابن
القاسم بتأويل الآية من أن يلحقوا بآبائهم ،
فروي عن النبي ، عليه الصلاة والسلام ، روي عن
ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
قال : إن الله ليرفع ذرية المؤمن معه في جنته
- وإن لم يبلغها في العمل ، لتقر بهم عينه .
ثم قرأ : {والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم
بإيمان
(2/293)
الحقنا بهم
ذريتهم } - الآية . وأما من أصابه الخبل بعد
أن احتلم ، وجرى عليه القلم ، فما حكي أنه
سمعه من بعض أهل العلم فيه من أن يطبع على
عمله بمنزلة من مات ، صحيح في المعنى ؛
لارتفاع القلم عنه بالخبل ، قال صلى الله عليه
وسلم : رفع القلم عن ثلاثة - فذكر فيهم
المجنون حتى يفيق .
مسألة
قال أصبغ سمعت ابن القاسم يقول عن مالك في رجل
هلك فلم يكن له كفن ، فطلب له في الناس فجمع
له عشرون درهماً ،
(2/294)
فكفنه رجل من
عنده ،وبقيت الدراهم ؛ فأراد غرماؤه أخذها ،
أو ورثته ؛ قال ليس هي لغرمائه ولا لورثته ،
وترد إلى أهلها ؛ وقاله ابن القاسم ، إلا أن
يشاء ويسلموها لورثته ، وأحب إلي لأصحابها أن
يفعلوا . وفي سماع أبي زيد مثله عن ابن القاسم
.
قال محمد بن رشد : قوله إن العشرين درهماً ترد
إلى أهلها ، هو مثل ما في كتاب المكاتب من
المدونة - في المكاتب إذا أعين في كتابته ،
ففضلت عنده فضله مما أعين به ، أنه يرد ذلك
على الذي أعانوه أو يستحلهم منه - إذا كان ذلك
منهم على وجه الفكاك لرقبته ، ولم يكن صدقة
عليه منهم ، ومعارض لما في سماع ابن القاسم من
كتاب الصدقات والهبات في السائل يقف بالباب
فيأمر له بدرهم فيجده قد انصرف ، أنه يتصدق به
ولا يسترجعه ؛ فيأتي على قياس هذا في مسألة
الكفن أن يجعل العرين درهمً أصحابها في كفن
غيره ، ولا يسترجعونها لأنفسهم مالاً من مالهم
، واستحب ذلك في سماع ابن القاسم من كتاب
العارية في مسألة السائل ، ولم يوجبه ؛ فكذلك
مسألة الكفن يستحب لأصحابها أن يجعلوا العشرين
درهماً في كفن مثله من غير إيجاب ؛ وأما
استحبابه لأصحابها أن يسلموها للورثة ، ففيه
نظر ، لأنهم لم يقصدوا بذلك الصدقة على الورثة
، والله أعلم وبه التوفيق .
ومن كتاب المجالس
وسئل أصبغ عن أهل الحرب يغيرون على بعض ثغور
الإسلام ، فيقتلون الرجال في منازلهم في غير
معترك ، ولا مجتمع ، ولا ملاقاة ؛ ما حالهم
عندك : أحال الشهداء ؟ أم كيف يصنع بهم ؟ فقال
لي سمعت ابن القاسم يقول في هؤلاء ؟ إنهم
يغسلون ويصلى
(2/295)
عليهم ، ويقول
لا يدفن بدمه وثيابه ، وتترك الصلاة عليه ،
إلا من قتل فيم عترك ومزاحفة ؛ فأما من قتله
أهل الحرب في غير معترك ، ولا مزاحفة ، فلا ؛
قال أصبغ فسألت عن ذلك ابن وهب فقال لي هم
شهداء حيث ما نالهم العدو بالقتل ، في معترك
أو مزاحفة ؛ وهو رأي على ما قال ابن وهب ، وهو
كان أعلم بهذا وشبهه مما يشاكل الآثار والسنة
من جميع أصحابنا ؛ قيل لأصبغ فسواء عندك
ناصبوهم بالسلاح حين غشوهم في منازلهم ، أو
قتلوهم معافصة نياماً ، أو غافلين ؛ قال أصبغ
نعم ذلك سواء ، وهم شهداء يصنع بهم ما يصنع
بالشهداء ؛ قيل أرأيت إن قتلوا امرأة بالغة ،
أو صبية صغيرة ، أهم عندك مثل الرجال البالغين
؟ وبأي قتلة قتلوا فهم بتلك الحال ، يصنع بهم
ما يصنع بالشهداء في ترك غسلهم ، والصلاة
عليهم ، وقتلوا بسلاح أو بغير سلاح ؟ قال نعم
، هم عندي سواء في جميع ما ذكرت .
قال محمد بن رشد : المنصوص في المدونة مثل قول
ابن وهب ، وفيها دليل على مثل قول ابن القاسم
؛ وجه قول ابن القاسم أن قتلى أحد الذين أمر
رسول الله صلى الله عليه وسلم بدفنهم بدمائهم
، ولم يصل عليهم ، وإنما قتلوا في المعترك ؛
ووجه قول ابن وهب ، أنه لما كان الذين قتلهم
العدو في غير
(2/296)
المعترك لهم
حكم المقتولين في المعترك في الشهادة ، وجب أن
يكون لهم حكمهم فيما سوى ذلك ، مما يختص به
المقتول في المعترك .
ومن مسائل نوازل سئل عنها أصبغ
وسئل أصبغ عن الميت هل يكفن في الحرير ؟ وعن
لباس الملحم للرجال ؟ وكيف بالقلنسية منه ؟
قال أصبغ لا يكفن الميت في حرير لا رجل ولا
امرأة ، إلا أن يضطروا إلى ذلك بموضع لا يوجد
غيره ؛ ولا يجوز لابس الملحم للرجال : لا قميص
، ولا ساج ، ولا قلنوسة ، لا بما قل منه ولا
بما كثر ، لأنه لباس كله ؛ ولو أن رجلاً حلف
ألا يلبس الحرير ، أو الخز ، فلبس منه قلنسوة
، كان لباساً ، وكان حانثاً .
قال محمد بن رشد : الملحم الثوب الخالص من
الحرير ، وسمي ملحماً لأنه ألحم فيه الحرير في
الحرير ؛ بخلاف الخز ، لأنه ألحم فيه الخز في
الحرير . وقوله إنه لا يكفن في الحرير الرجال
ولا النساء ، هو مثل ما في المدونة من كراهيته
الحرير والخز والمعصفر في أكفان الرجال
والنساء . وإنما كره الحرير في أكفان النساء -
وإن كان من لباسهن في حال الحياة ؛ لأنه من
الزينة ، فجاز في الحياة دون الموت كالحلي ؛
ولأنه قد قيل إنه حرام على الرجال والنساء ،
وممن ذهب إلى ( عبد الله ) بن الزبير ، تعلقاً
بعموم قول النبي - عليه
(2/297)
الصلاة والسلام
- إنما يلبس الحرير من لا خلاق في الآخرة .
وروي عنه - رضي الله عنه - أنه خطب فقال يا
أيها الناس ، لا تلبسوا نساءكم الحرير ، فإني
سمعت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول
سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول
من لبس الحرير في الدنيا ، لم يلبسه في الآخرة
. قال ابن الزبير وأنا أقول من لم يلبسه في
الآخرة لم يدخل الجنة ، لأن الله تعالى يقول :
{ولباسهم فيها حرير} . وليس تأويل ابن الزبير
كما تأول ، لأنه ( قد ) روي عن أبي سعيد
الخدري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
قال : من لبس الحرير في الدنيا ، لم يلبسه في
الآخرة ، ولو دخل الجنة ، يلبسه أهل الجنة ،
ولا يلبسه هو . وأجاز ابن حبيب أن يكفن في
الحرير والخز والمعصفر النساء دون الرجال ،
لأن ذلك من لباسهن في الحياة ، وقد وسع في
سماع ابن وهب في ذلك للرجال ؛ لأن العبادة قد
ارتفعت عنهم ، فاشبهوا الصبيان ، وفي ذلك بعد
؛ لأن العبادة - وإن كانت قد ارتفعت عنهم ،
فأولياؤهم متعبدون فيهم ، فلا ينبغي لهم أن
يقلبوهم إلى ربهم بعد وفاتهم ، بما حرم عليهم
لباسه في حياتهم ؛ فهي ثلاثة أقوال ، القياس
منها قول ابن حبيب ، وقول مالك استحسان ، وما
في سماع ابن وهب توسعة بعيدة .
مسألة
وسئل عن الشهيد إذا عراه العدو ، أيكفن ؟ فقال
نعم ، أرى ذلك حسناً ؛ قيل فإن استشهد وعليه
ثيابه - وفيها ما يجزئه - فأراد
(2/298)
أولياؤه أن
يزيدون كفناً على ثيابه ، فقال ما أرى به
بأساً يفعلون - إن شاءوا .
قال محمد بن رشد : قوله في تكفين من عراه
العدو من الشهداء أن ذلك حسن ، لفظ فيه تجاوز
وتسامح ، بل ذلك لازم لا رخصة في تركه ؛ ومما
يدل على ذلك ، أن رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - كفن الشهداء يوم أحد اثنين في ثوب ،
فلو كان ترك تكفينهم واسعاً ، لما جمع منهم
اثنين في ثوب ، ولكفن من وجد ما يكفنه فيه
وترك من لم يجد - والله أعلم ؛ وأما الزيادة
على ثيابه - إذا كان فيها ما يجزئه ، فلا بأس
به كما قال : إذ إنما الكراهية في أن ينزع
عنهم ثيابهم ، لقوله صلى الله عليه وسلم :
زملوهم بثيابهم .
مسألة
قيل من أي وجه تركت الصلاة على الشهيد ، فقال
هي السنة ، من فعل رسول الله ، صلى الله عليه
وسلم .
قال محمد بن رشد : وإن كانت هي السنة ، فلا
يمتنع أن تعلل السنن إذا وجد لها علة ، والعلة
في ترك الصلاة على الشهيد ، أن الصلاة على
الميت شفاعة له ، ولا يشفع إلا للمذنبين ،
والشهداء قد غفرت ذنوبهم ، وصاروا إلى كرامة
الله ورحمته وجنته أجمعين ؛ فارتفعت حالهم عن
أن يصلي عليهم ، كما يصلي على سائر موتى
المسلمين - والحمد لله رب العالمين ؛ ولهذا لم
يصل على النبي ، عليه الصلاة والسلام ، وإنما
كان الناس يدخلون عليه أفواجاً فيدعون
وينصرفون ؛ وقد روي عن ابن وهب أنه قال كيف
يصلي على
(2/299)
حي ؟ وهذا
اعتلال فيه نظر ، إذ لا شك في أنهم قد ماتوا
وخرجوا من الدنيا ، وصاروا في عداد الموتى ؛
ووجب أن تنكح نساؤهم ، وتقسم أموالهم ؛ فليس
كون أرواحهم حية عند الله ، بمانع من الصلاة
عليهم ، كما لا يمنع ذلك من الصلاة على سائر
المؤمنين ؛ وإن كانت لحياتهم مزية بأنهم ند
ربهم يرزقون ، ويأكلون في الجنة وينعمون ،
وعند النفخ في الصور لا يفزعون ، ولا يخمدون ،
ولا يصعقون ؛ وأبو حنيفة يرى أني صلى على
الشهيد ، ومن حجته ما روي أن رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - صلى يوم أحد على حمزة وقد
سئل مالك عن ذلك ، فقال ما سمعت ؛ وأما غسله
فلا اختلاف أحفظه في أنه لا يغسل .
مسألة
وسئل أصبغ عن الرجل يأتي إلى الرجل في كفن
يبتاعه منه ، فيقول له إن الرجل لم يمت بعد ،
فأخذه منه بثمن قد سماه ، واشترط المبتاع على
البائع - إن مات ، وإلا رددته ؛ قال لا يجوز ،
قيل له فإن فات ، قال فلصاحب الكفن القيمة ؛
قيل فإن كانت القيمة أقل ، قال لم يكن له إلا
القيمة ؛ ق يل له فإن كانت أكثر ، قال فله
الأكثر ، إلا أن يشاء أن يمضيه له بلك الذي
واجبه عليه ؛ قيل فإن الثياب أخذت لنصراني ،
أترى إن ردت الثياب أن يطهرها ؟ قال أراه
خفيفاً ، وما أرى أن تغسل إلا أن تلبس .
قال محمد بن رشد : قوله إن البيع على هذا
الشرط لا يجوز صحيح ، وقوله فإن فات فلصاحب
الكفن القيمة - بالغة ما بلغت ، كانت أقل من
الثمن أو أكثر ، معناه إن فات بأن كفن فيه
الميت ومضى ؛ وإما إن فات قبل موته ،
(2/300)
فمصيبته من ربه
؛ إلا أن يتلف بيد المبتاع ، ولا يعلم تلفه
إلا بقوله ، فيلزمه فيه القيمة ؛ لأنه إنما هو
كرجل اشترى سلعة من رجل بثمن معلوم ، إن مات
فلان من مرضه ، فهو عقد فاسد ، يجب أن يفسخ ،
وترد السلعة إلى بائعها ؛ فإن تلفت قبل موت
فلا ، فمصيبتها من البائع - وإن كانت بيد
المبتاع ؛ إلا ألا يعلم تلفها إلا بقوله ،
فتلزمه فيها القيمة ، وإن تلفت أو فاتت بعد
موت فلان ، بما تفوت به البيوع الفاسدة ، صحح
البيع فيها بالقيمة ، بالغة ما بلغت ؛ فهذا
وجه القول في هذه المسألة ، وليست من بيوع
الثنايا ، فيكون للمبتاع فيها أن يسقط الشرط ،
ويلتزم البيع ؛ كما يكون له ذلك في بيوع
الثنيا ، لما للبائع في هذا الشرط من الحق ،
إذ لم ينعقد به البيع إلا بموت فلان . وقوله
إن الثياب إن كانت أخذت للنصراني وردت ، فلا
تغسل إلا أن تلبس ، صحيح على ما في المدونة من
الفرق بين ما نسج النصارى ، أو لبسوا - وبالله
التوفيق .
مسألة
قال أصبغ في رجل أدرك الإمام على الجنازة وهو
ممن يكبر خمساً ، ففاتته تكبيرتان ؛ قال أصبغ
يكبر معه الثلاثة ويحتسب الخامسة ؛ فإذا سلم
الإمام ، كبر واحدة ، فصارت له أربعاً ، ولا
يكبر الخامسة ؛ قال سحنون : وقال أشهب لا آمر
أن يكبر هذا الذي فاته بعض التكبير مع الإمام
الخامسة ، فإن كبرها معه لم تجزه ، ورأيت إذا
سلم الإمام ، أن يقضي ما فاته من التكبير .
قال محمد بن رشد : قول أشهب هو القياس على
مذهب مالك ، لأن التكبيرة الخامسة إذا كانت
عنده زائدة في الصلاة ، لا يراعى قوله فيها
إنه
(2/301)
لا يتبع الإمام
فيها إذا لم يفته من التكبير معه شيء ، كما
قال في رسم الشجرة من سماع ابن القاسم ؛ فلا
يصح أن يكبرها معه ، ويعتد بها مما فاته ، لأن
أرفع أحوالها أن يحكم لها بحكم النافلة ؛ ومن
مذهبه أنه لا يجوز لمن يصلي فريضة أن يأتم بمن
يلي نافلة ، فكيف بمن ( يصلي ما يكره له ) أن
يصليه ؟ وفي الواضحة لمالك من رواية ابن
الماجشون عنه مثل قول أشهب - وهو قول مطرف ؛
وأما قول أصبغ فهو استحسان على غير قياس ،
مراعاة لقول من يرى أن صلاة المأموم ليست
مرتبطة بصلاة الإمام في الفرائض ، فاستخف ذلك
في صلاة الجنائز ؛ إذ ( ليست بفرض ) عليه ،
وإنما هي له نافلة ، إذ قد صحت الصلاة على
الميت بصلاة الإمام ومن معه سواء ، وبالله
تعالى التوفيق ، والصلاة على محمد وآله .
تم كتاب الجنائز بحمد الله وحسن عونه الجميل
(2/302)
|