البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة

كتاب الجنائز
من سماع ابن القاسم من كتاب الرطب باليابس
( مسألة )
قال سحنون : أخبرني ابن القاسم ، قال : سئل مالك عن نزع الأردية في الجنائز ؛ قال : بئس العمل .
قال محمد بن رشد : معنى هذا أن ينحسر الرجل في جنازة أبيه أو أخيه فيتبعه حاسراً بغير رداء . - قاله سحنون في نوازله من هذا الكتاب في بعض الروايات ، وإنما كرهه مالك ، لأنه من ناحية النعي المنهي عنه من فعل الجاهلية ، لما فيه من إبداء الحزن والجزع للولي على ميته ؛ ومن هذا المعنى ما يفعل

(2/203)


عندنا من تبيض الولي على وليه ، فهو مكروه من الفعل ، لا يفعله إلا مخطئ . وقد استخف ابن حبيب أن ينحسر الرجل في جنازة من يختص به كأبيه الذي يحمل سريره على كاهله ، وشبهه من قرابته ؛ أو كالرجل الفاضل ، أو العالم الذي يختص به ويعني بأمره ؛ وذلك خفيف - كما قال - إذا كان إنما يفعله من أجل حمله وما يتكلفه من التصرف في أمره ؛ فقد فعله عبد الله بن عون في جنازة محمد بن سيرين ، ومصعب بن الزبير - وهو أمير في جنازة الأحنف بن قيس ؛ وحمل سعد بن أبي وقاص سرير عبد الرحمان بن عوف على كاهله ، وفعله عمر بأسيد بن الحضير ، وعثمان بأمه ، وعبد الله بن عمر بأبي هريرة - وبالله التوفيق .
ومن كتاب القبلة
مسألة
قال ابن القاسم وسمعت مالكاً يقول : من شهد جنازة فإني لا أرى أن ينصرف حتى يصلي عليها ، إلا لحاجة أو علة .
قال محمد بن رشد : هذا مثل قوله - بعد هذا في رسم شك في طوافه : ليس هذا من الفعل أن يحمل رجل ولا يصلي . وقال في آخر سماع أشهب : لا بأس أن يحمل الرجل الجنازة وينصرف ولا يصلي ، وذلك اختلاف من قوله : كره في سماع ابن القاسم لمن شهد جنازة أن ينصرف حتى يصلي عليها ، ولم ير بذلك بأساً في سماع أشهب ؛ والأصل في هذا الاختلاف اختلافهم في تخريج ما تعارض ظاهره من حديث النبي - عليه الصلاة والسلام - في ثواب المصلي على الجنازة وتأويله ، وذلك أنه روي عن النبي - عليه الصلاة والسلام - أنه قال : من جاء جنازة فتبعها من أهلها حتى يصلي عليها ، فله

(2/204)


قيراط ، وإن مضى معها حتى تدفن فله قيراطا ، مثل أحد . وروي عنه أيضاً أنه قال : من صلى على جنازة فله قيراط ، ومن تبعها حتى تدفن فله قيراطان . فهذب بعض الناس إلى أن الحديث الأول مبين للحديث الثاني ، لأن راويه حفظ من ذكر إتباع الجنازة من أهلها ، ما أغفله راوي الحديث الثاني ؛ وذهب آخرون إلى أن المعنى في ذلك ، أن الله كان تفضل بقيراط من الأجر لمن اتبع الجنازة من أهلها وصلى عليها ، ثم تفضل بعد ذلك بالزيادة في الثواب فجعل في الصلاة على الجنازة خاصة قيراطاً كاملاً من الأجر ؛ فمن ذهب إلى التأويل الأول ، رأى أن الذي يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بتصحيح الأثرين ، أن القيراط من الثواب إنما يستحق باتباع الجنازة من أهلها ، والصلاة عليها ، يقع من ذلك لاتباعها من عند أهلها ما الله به أعلم ، وللصلاة عليها ما الله به أعلم أيضا ؛ ويجئ على مذهبه( أنه لا ينبغي لمن شهد جنازة أن ينصرف دون أن يصلي عليها لئلاً يبطل عمله في إتباعها ، إذ جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثواب ذلك مضمناً بالصلاة ، فصار معها كشيء واحد ، من شرع فيه لم ينبغ له أن يتركه حتى يتمه ، لقول الله عز وجل : {ولا تبطلوا أعمالك .
} - فهذا وجه ما في هذا السماع من الكراهية لمن شهد جنازة أن ينصرف دون أن يصلي عليها ؛ ومن ذهب إلى التأويل الآخر ، رأى أن إتباع الجنازة ليس بمرتبط بالصلاة عليها ؛ إذ قد تفضل الله لمن صلى عليها بقيراط كامل من الأجر ، ولمن اتبعها من أهلها بما هو أعلم به من الأجر ؛ ويجيء على مذهبه ) : أن لمن اتبع الجنازة من أهلها ، أن ينصرف دون أن يصلي عليها

(2/205)


لانفصال إتباع الجنازة ( عنده ) عن الصلاة عليها ، وبينونة كل واحد منهما عن صاحبه بحظه من الأجر ؛ كما أن لمن صلى عليها أن ينصرف دون أن يشاهد دفنها ، أو يصلي على غيرها ؛ لانفصال الدفن عن الصلاة ببينونة كل واحد منهما عن صاحبه بحظه من الأجر ، كما تنفصل الجنازة عن غيرها ؛ فهذا وجه رواية أشهب عن مالك في أن لمن اتبع الجنازة أن ينصرف دون أن يصلي عليها ، وهذا إذا كان ممن لا يقتدي به ، وأمن من أن يظن به اعتقاد سوء في نفسه ، أو في الميت ؛ ويشهد لهذا القول ما روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : من اتبع جنازة وحملها ثلاث مرار ، فقد قضى ما عليه من حقها . وهو حديث غريب ذكره الترمذي في مصنفه .
مسألة
قال مالك : أرى على من غسل ميتاً أن يغتسل ، قال ابن القاسم ولم أره يأخذ بحديث أسماء بنت عميس ، ويقول : لم أدرك الناس إلا على الغسل . قال ابن القاسم وهو أحب ما سمعت فيه إلي .
قال سحنون حدثني أنس بن عياض ، عن محمد بن علقمة ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من غسل ميتاً فليغتسل .

(2/206)


قال محمد بن رشد : ظاهر هذه الرواية إيجاب الغسل من غسل ميتاً - للحديث المذكور ، ولمالك في المختصر أن ذلك مستحب وليس بواجب ؛ وقول ابن القاسم : وهو أحب ما سمعت فيه إلي - حمله ابن أبي زيد وغيره على أنه استحب الغسل ، مثل قول مالك في المختصر . والظاهر عندي منه نه إنما استحب القول بإيجاب الغسل ، فهو مثل روايته عن مالك ، وقد قيل إنه لا غسل عليه ، وهو قول مالك في الواضحة ، وعليه الجمهور ؛ وهو الذي يوجبه النظر والقياس على الأصول ، لأن غسل الميت ليس بحدث ينقض الطهارة مثل الجنابة ؛ بدليل إجماعهم على أنه لا غسل على من غسل ما سوى الميت من الأشياء الطاهرة ، أو النجسة ؛ فمن أوجب الغسل جعل أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - به عبادة لا لعلة ، وحمله على مقتضاه من الوجوب ، ومن استحبه ولم يوجبه ، جعل أمر النبي - عليه الصلاة والسلام - به لعلة ؛ واختلفوا ما هي ؟ فمنهم من قال إنه إنما أمره بالغسل ليبالغ في غسل الميت ، لأنه إذا غسل الميت - موطناً على الغسل ، لم يبال بما ينتضح عليه منه ، فكان سبباً لمبالغته في غسله ؛ ومنهم من قال ليس معنى أمره بالغسل ، أن يغسل جميع جسده كغسل الجنابة ؛ وإنما معناه أن يغسل ما باشره به ، أو انتضح عليه منه ، لأنه ينجس بالموت ، وإلى هذا ذهب ابن شعبان ، فقال : لا يدخل الميت في المسجد ، لأنه ميتة ، وإليه ذهب محمد بن عبد الحكم في قوله : أنه ينجس الثوب الذي يجفف به الميت بعد غسله ، خلاف قول سحنون في نوازله من بعض روايات العتبية ؛ وهو دليل قول ابن القاسم في كتاب الرضاع من المدونة أن لبن المرأة الميتة الذي في ضرعها ينجس بموتها ، لنجاسة الوعاء ، فلا يحل شربه .
والصحيح أن الميت من بني آدم ليس بنجس ، بخلاف سائر الحيوان التي

(2/207)


لها دم سائل ، لأن عدم الروح من الحيوان ليس بعلة في النجاسة ، إذ قد يعدم الروح بالذكاة فيما يؤكل من دواب البر ، وبالموت في دواب البحر ، فلا ينجس بذلك ؛ فلما لم يكن عدم الروح من الحيوان علة في النجاسة ، وجب ألا ينجس بالموت إلا ما يموت مما يحل أكله بذكاة ، وهي الميتات ؛ لأن الله تعالى سماها رجساً فقال : {قل لا أجد في ما أوحي إلي محرماً على طاعم} الآية - إلى قوله سبحانه : {فإنه رجس} . والميت من بني آدم لا يسمى ميتة ، فليس برجس ولا نجس ، ولا حرم أكله لنجاسة ؛ إذ ليس بنجس ، وإنما حرم إكراماً له ؛ ألا ترى أنه لما لم يسم ميتة ، لم يجز للمضطر أن يأكله بإباحة الله تعالى له أكل الميتة - على الصحيح من الأقوال ، هذا من طريق النظر ؛ وأما من طريق الأثر ، فقد روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إن المؤمن لا ينجس . وقال ابن عباس في البخاري : لا ينجس المسلم حياً ولا ميتاً . وقال سعد بن أبي وقاص : لو كان نجساً ما مسسته . وسئلت عائشة - رضي الله عنها - هل يغتسل من غسل ميتاً ؟ فقالت : أو أنجاس موتاكم ؟ ولو كان نجساً ما أدخله النبي - صلى الله عليه وسلم - المسجد ، وفي هذا كفاية . ومنهم من قال : إنما أمر أن يغتسل - توقياً لما عسى أن يصيبه من أذى الميت ، إذ يخاف ألا يكون طاهراً من النجاسة ، لا أن ذاته نجسة ؛ وقد يحتمل أن يتأول في قوله عليه السلام : من غسل ميتاً فليغتسل ، ما يتأول في قوله : ومن حمله فليتوضأ . فيكون المعنى في ذلك أن يغتسل لاغتساله - إن كان غير طاهر ، لئلاً يغسله - وهو جنب ؛ ومما يدل أن الاغتسال من غسل الميت

(2/208)


مستحب غير واجب ، حديث أسماء بنت عميس ، إذ لو كان الغسل عليها واجباً ، لما سقط عنها لشدة البرد ، ولوجب أن تتيمم - إن خشيت على نفسها الموت - والله أعلم .
مسألة
قال مالك : لا أحب للجنب أن يغسل الميت حتى يغتسل ، لأن أمره يسير ، ولا بأس بالحائض أن تغسل الميت .
قال محمد بن رشد : قد روى ابن نافع عن مالك أنه لا بأس أن يغسل الجنب الميت ، وهو قول محمد بن عبد الحكم ، وظاهر قول ابن القاسم في كتاب ابن عبدوس ؛ والأظهر في ذلك الكراهية ، لما جاء من أن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه جنب ، ولأنه يملك طهره ؛ وقد يحتمل أن يدل على المنع ، من ذلك قوله ، عليه الصلاة والسلام : من غسل ميتاً فليغتسل - على ما ذكرناه قبل هذا مما يحتمله تأويل الحديث ؛ فإن غسله وهو جنب ، نقص أجرهن ولم يأثم على القول بكراهية ذلك ، لأن حد المكروه ما تركه أفضل - والله أعلم ، وبه التوفيق .
ومن كتاب أوله حلف ألا يبيع سلعة
وسئل عن الشهداء تكون عليهم المناطق وقلانس محشوة قزا ، أترى أن يدفنوا بها ؟ قال : ما علمت أنه ينزع منهم شيء . قال ابن القاسم ولا باس أن يدفنوا في الخفين إذا أصيب - وهما عليه . وقال ابن نافع لا ينزع عنه فروه ولا خفاه . قال مطرف

(2/209)


لا تنزع عنه منطقته ، إلا أن يكون لها خطب ، قال وأما إن كان الذي فيها من الفضة يسيراً ، فلا تنزع عنه ؛ ولا ينزع خاتمه إلا أن تكون فضة لها خطب وبال .
قال محمد بن رشد : قول ابن القاسم لا بأس أن يدفنوا في الخفين إذا أصيب وهما عليه ، يدل على أن نزعهما جائز ؛ وكذلك المناطق والخواتم على قياس قوله ؛ فهو خلاف قول مالك وابن نافع ومطرف ، لأنهم ذهبوا إلى ألا ينزع عنهم شيء مما هو في معنى اللباس - وإن لم يكن من الثياب ، قياساً على الثياب ، حاشا دروع الحديد ، لأنها من السلاح ؛ وذهب ابن القاسم إلى أنه ينزع عنهم ما عدا الثياب ، تعلقاً بظاهر قوله عليه الصلاة والسلام : زملوهم بثيابهم فهذا وجه أقوالهم - والله تعالى أعلم .
ومن كتاب شك في طوافة
مسألة
وسئل مالك عن رجل مرت به جنازة وهو على غير وضوء ، فأراد أن يحمل لموضع الأجر ولا يصلي ؛ قال ليس هذا من العمل أن يحمل رجل ولا يصلي ، ولم يعجبه ذلك ، وقال ليس هذا من عمل الناس أن يحملوا على غير وضوء .
قال محمد بن رشد : قد مضى في رسم القبلة وجه الكراهية في أن يحمل ولا يصلي ، وإنما كره له أن يحمل على غير وضوء ، من أجل أنه لا يصلي ؛ ولو علم أنه يجد في موضع الجنازة ماء يتوضأ به ، لم يكره أن يحمل على غير وضوء ؛ وقد روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال من غسل ميتاً

(2/210)


فليغتسل ، ومن حمله فليتوضأ . ومعنى قوله عندهم من حمله فليتوضأ أي ليتوضأ إذا أراد أن يحمله كي يصلي عليه إذا حمله ، لا أن حمله ينقض طهارة من كان متوضئاً .
مسألة
وسئل مالك عن الرجل المسلم يهلك أبوه وهو كافر ، افترى أن يعزيه به فيقول : أآجرك الله في أبيك ؟ قال لا يعجبني أن يعزيه به ، لقول الله تعالى في كتابه العزيز {ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا} فلم يكن لهم أن يرثوهم وقد أسلموا حتى يهاجروا ، ومنعم الله الميراث - وقد أسلموا حتى يهاجروا .
قال محمد بن رشد : ما ذهب إليه مالك في هذه الرواية من أن المسلم لا يعزي بأبيه الكافر ، ليس ببين ؛ لأن التعزية بالميت تجمع ثلاثة أشياء : أحدها تهوين المصيبة على المعزى وتليته منها ، وتخضيضه على التزام الصبر ، واحتساب الأجر ، والرضى بقدر الله ، والتسليم لأمره . والثاني الدعاء له بأن يعوضه الله من مصابه جزيل الثواب ، ويحسن له العقبى والمئاب . والثالث الدعاء للميت والترحم عليه ، والاستغفار له ، فلس تحظير الدعاء للميت الكافر ، والترحم عليه ، والاستغفار له ؛ لقوله عز وجل : {ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى} - الآية - بالذي يمنع من تعزية ابنه المسلم بمصابه به ، إذ لا مصيبة على الرجل أعظم من أن يموت أبوه الذي كان يحن عليه ، وينفعه في دنياه - كافراً ، فلا يجتمع به في أخراه ، فتهون عليه مصيبته ، ويسليه منها ، ويعزيه فيها بمن مات للأنبياء الأبرار - عليهم

(2/211)


السلام - من القرابة ، والآباء والكفار ؛ ويحضه على الرضى بقدر الله ، ويدعو له في جزيل الثواب إلى الله ؛ إذ لا يمنع أن يؤجر المسلم بموت أبيه الكافر ، إذا شكر الله ، وسلم لأمره ، ورضي بقضائه وقدره ؛ فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يزال المسلم يصاب في أهله وولده وحامته ، حتى يلقي الله - ولست له خطيئة . ولم يفرق بين مسلم وكافر ، وهل يشك أحد في أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أجر بموت عمه أبي طالب ، لما وجد عليه من الحزن والإشفاق ؛ وقد روي عن مالك - رحمه الله - أن للرجل أن يعزي جاره الكافر بموت أبيه الكافر ، لذمام الجوار ، فيقول له - إذا مر به : بلغني الذي كان من مصابك بأبيك ، ألحقه الله بكبار أهل دينه ، وخيار ذوي ملته . وقال سحنون إنه يقول له : أخلف الله لك المصيبة ، وجزاك أفضل ما جازى به أحداً من أهل دينه . فالمسلم بالتعزية أولى ، وهو بذلك أحق وأحرى .
والآية التي احتج بها مالك لما ذهب إليه من ترك التعزية بالكافر ، منسوخة ؛ قال عكرمة : أقام الناس برهة لا يرث المهاجر في الأعرابي ، ولا الأعرابي المهاجر ؛ لقوله تعالى : {والذين آمنوا ولم يهاجروا} - الآية ، حتى نزلت {وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض} . فاحتج بالمنسوخ كما احتج لما اختار من الإطعام فيك فارة الفطر في رمضان بقوله تعالى : {وعلى الذين يطيقونه} - الآية ، وهي منسوخة ؛ وذلك إنما يجوز على القول بأن الأمر إذا نسخ وجوبه ، جاز أن يحتج به على الجواز ؛ وفي ذلك بين أهل العلم اختلاف ؛ واعتلاله بامتناع الميراث ضعيف ، إذ قد يعزى الحر بالعبد - وهما لا يتوارثان ؛ ولو استدل على ما ذهب إليه من أن

(2/212)


المسلم لا يعزى بالكافر ، بقوله تعالى : {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض} . وبقوله عز وجل : {لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر} - الآية ، لكان أظهر وإن لم يكن ذلك دليلاً قاطعاً ، للمعاني التي ذكرناها ، وبالله التوفيق .
مسألة
وسئل مالك عن المرأة تعتق الرجل فيموت المعتق - ثم ولدها وأخوها ، من ترى أحق بالصلاة عليه ؟ قال ابنها ، ما لأخيها وما له ؟ ابنها أحق بميراثه ، والصلاة عليه .
قال محمد ابن رشد : وهذا ما قال ، لأن ابن المرأة أقرب إليها من أخيها - وإن لم يكن من قومها عند مالك ، خلاف مذهب الشافعي .
ومن كتاب أوله الشجرة تطعم بطنين في السنة
وسئل عن الرج يبتاع الوصيف الصغير من سبى الروم - وقد أراد به سيده الإسلام ، فيقيم في يديه أياماً ثم يموت ، أترى أن يصلي عليه ؟ قال إن لم يسلم ، فلا يصلي عليه .
قال محمد بن رشد : مذهب ابن القاسم وروايته هذه عن مالك ، أن الصغير من سبي أهل الكتاب ، لا يجبر على الإسلام ، ولا يحكم له بحكمه حتى

(2/213)


يجيب إليه ؛ وقيل إنه يجبر على الإسلام - وإن كان معه أبواه ، وهو قول الأوزاعي ، والثوري ، وظاهر رواية ابن نافع عن مالك في كتاب التجارة إلى أرض الحرب من المدونة ، واختيار أبي عبيد ؛ قال : لأن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه ؛ وقيل إنه يجبر على الإسلام ، إلا أن يكون سبي معه أبوه ، كانا في ملك واحد أو لم يكونا ؛ ولا يلتفت في ذلك إلى أمه ، وهو قول المدنيين وروايتهم عن مالك ، ورواية معن بن عيسى عن مالك في آخر سماع موسى بن معاوية .
وقيل إنه يجبر على الإسلام ، إلا أن يكون معه أحد أبويه فيكون تبعاً له ، ما لميفرق بينهما الإملاك ، وهو قول ابن الماجشون في ديوانه ؛ فيتحصل في ذلك ستة أقوال - سنذكر بيانها في سماع محمد بن خلاد من كتاب المرتندين والمحاربين إذا وصلنا إليه - إن شاء الله ؛ واختلف إن مات قبل أن يجبر على الإسلام في الموضع الذي يجبر فيه ، فقيل إنه يحكم له بالإسلام لملك سيده إياه ، وهو قول ابن دينار ، ورواية معن بن عيسى عن مالكح وقيل إنه لا يحكم له بالإسلام حتى ينوبه له سيده ، وهو قول ابن وهب ؛ وقيل إنه لا يحكم له بالإسلام حتى يرتفع عن حداثة الملك شيئاً ، ويزييه سيده بزي الإسلام ، ويشرعه بشرائعه ، وهو قول ابن حبيب ؛ وقيل إنه لا يحكم له بالإسلام حتى يجيب إليه ويعقل الإجابة ببلوغه حد الإثغار أو نحو ذلك ؛ وقيل إنه لا يحكم له بحكم الإسلام حتى يجيب إليه بعد البلوغ ، وهو مذهب سحنون ؛ وأما الصغير من سبي المجوس ، فلا اختلاف في أنه يجبر على الإسلام ، إلا أن يكون معه أبواه ، أو أنحدهما في ملك واحد ، أو أملاك متفرقةح فعلى ما تقدم من الاختلاف في الصغير من سبي أهل الكتاب وإن مات قبل أن يجبر ، فعلى ما تقدم من الاختلاف أيضاً ؛ واختلف في الكبير من سبي المجوس ، هل يجبر على الإسلام أم لا - على قولين ، ولم يختلف في الكبير من سبي أهل الكتاب ، أنه لا يجبر على

(2/214)


الإسلام ؛ ومذهب ابن حبيب فيما ولد للنصراني في ملك المسلمين ، مثل قول ابن القاسم إنه لا يجبر على الإسلام ، بخلاف السبي ؛ وذهب أبو المصعب إلى أنه لاي جبر في السبي ، ويجبر فيما ولد في ملك المسلمين ، عكس تفرقة ابن حبيب ؛ فهذا تحصيل الاختلاف في هذه المسألة ، وقد مضى بعضه في أول سماع أصبغ من كتاب الصلاة ؛ والذي يشهد له قول النبي عليه الصلاة والسلام : "كل مولود يولد على الفطرة ؛ فأبواه يهودانه أو ينصرانه" - الحديث - أن يحكم للصغير من أولاد المشركين كيفما كان ، ما لم تكن
له ذمة ، ولم يكن معه أبواه - بحكم الإسلام .
مسألة
وسئل مالك عن التكبير لصلاة الجنائز فيمن يكبر خمس تكبيرات ، أترى أن يكبر معه ، أ/ يقطع ذلك ؟ قال بل يقطع ذلك أحب إلي إذا كبر أربعاً ، ولا يتبعه في الخامسة .
قال محمد بن رشد : إنما استحسن أن يقطع ، ولم يقل إنه يكبر معه الخامسة - مراعاة للخلاف ، كما قال في الإمام يرى في سجود السهو خلاف ما يرى من خلفه ؛ لأن الإجماع قد انعقد بين الصحابة في خلافة عمر بن الخطاب على أربع تكبيرات في صلاة الجنائز ، فارتفع الخلاف ؛ روي أن الناس كانوا يختلفون في التكبير في الجنازة ، فلما ولي عمر ورأى اختلاف الناس في ذلك ، شق عليه ذلك ؛ فجمع أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال لهم : إنكم معاشر أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متى تختلفون ، يختلف من بعدكم ؟ ومتى تجتمعون على أمر ، يجتمع الناس عليه ، فانظروا أمراً تجتمعون عليه ؛ فكأنما أيقظهم ، فقالوا نعم ما رأيت يا أمير المؤمنين ، فتراجعوا الأمر بينهم ، فأجمع أمرهم على أربع تكبيرات - عدد ركعات أطول الصلوات ؛

(2/215)


فهذا أولى ما قيل في ذلك ، وقد فرق بين الموضعين بأن السجود فعلى يظهر مخالفة الإمام فيه ، والتكبير قول لا يظهر مخالفة الإمام فيه ؛ وبأن الاختلاف في سجود السهو ، ليس في نفسه كالتكبيرة الخامسة في الجنازة ، وإنما هو في موضع إيقاعه ؛ وقال أشهب ، وابن الماجشون - عن مالك ، إنه لا يقطع ويسكت ، فإذا كبر الإمام الخامسة سلم بسلامه ، وهذا على اختلافهم في المسافر يصلي بالمسافرين ، فيتم الصلاة ؛ فقيل إنهم يسلمون لأنفسهم وينصرفون ، وقيل إنهم يقدمون منهم من يسلم بهم ؛ وقيل إنهم ينتظرون الإمام حتى يسلم فيسلموا بسلامه ، وسيأتي في آخر نوازل أصبغ الاختلاف في : هل يكبر معه الخامسة من فاتته بعض تكبيرة ، وبالله التوفيق .
ومن كتاب أوله حلف بطلاق امرأته
مسألة
وسئل مالك عن الجنازة إذا وضعت لتدفن ، أينتظر الناس فراغها ؟ أم ينصرفون ؟ قال إن الناس ليفعلون ذلك اليوم ، وما كان من أمر الناس في القديم ؛ وقيل له أترى ذلك واسعاً لما أقام أو انصرف ؟ فقال نعم ، أرى واسعاً .
قال محمد بن رشد : وهاذ واسع كما قال ، لأن الدفن عبادة مبتدأة منفصلة عن الصلاة ، مختصة بما لها من الأجر ؛ قال - صلى الله عليه وسلم - من شهد الجنازة حتى يصلي ، فله قيراط ؛ ومن شهد حتى تدفن ، كان له قيراطان . فقوله وم نشهد حتى تدفن فله قيراطان ، يدل على أن ذلك ترغيب ؛ وقال زيد بن ثابت : إذا صليت ، فقد قضت الذي عليك ؛ وقال حميد ما علمنا على الجنازة ( إذناً ) ، ولكن من صلى ثم رجع ، فله قيراط ؛ فلا يلزم

(2/216)


من صلى على جنازة ، أن يشاهد دفنها ؛ ولا يدخل في ذلك من الاختلاف ، ما دخل في من حمل جنازة ، هل له أن ينصرف دون أن يصلي عليها ، وقد مضى بيان ذلك في رسم القبلة قبل هذا .
مسألة
وسئل مالك عن الجنائز يؤذن بها على أبواب المساجد ، فكره ذلك وكره أن يصاح خلفه : استغفروا له ، يغفر الله لكم . وابتدأ ما هو فيه بالكراهية . قال ابن القاسم وسألت مالكاً عن الجنازة يؤذن بها في المسجد يصاح بها ، قال لا خير فيه - وكرهه ؛ وقال لا أرسى بأساً أن يدار في الحلق يؤذن الناس بها ، ولا يرفع بذلك صوته .
قال محمد بن رشد : أما النداء بالجنازة في داخل المسجد فلا ينبغي ، ولا يجوز باتفاق ، لكراهة رفع الصوت في المسجد ، فقد كره ذلك حتى في العلم ؛ وأما النداء بها على أبواب المساجد ، فكرهه مالك ههنا ورآه من النعي المنهي عنه ؛ روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال إياكم والنعي ، فإن النعي من عمل الجاهلية . والنعي عندهم أن ينادى في الناس : ألا إن فلاناً قد مات ، فاشهدوا جنازته ؛ واستخفه ابن وهب في سماع عبد الملك من هذا الكتاب ، ومن كتاب الصلاة ؛ وقول مالك : وأما الإذن

(2/217)


بها ، والإعلام من غير نداء ، فذلك جائز إجماع ؛ وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المرأة التي توفيت فدفنت ليلاً : أفلا آذنتموني بهاز وقد روي عن حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - أنه قال : إذا مت فلا تؤذنوا بي أحداً ، إني أخاف أن يكون نعياً ، وقد سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهي عن النعي .
مسألة
وسئل مالك عن النصراني يموت أترى لابنه وهو رجل من المسلمين أن يقوم في أمره ، ويتبعه إلى قبره من غير شهود له ؟ قال ما أرى أن يقوم في أمره ولا يتبعه إلى قبره ، قد ذهب الحق الذي كان يلزمه من أمره إذا انقضت حياته ، إلا أن يخاف أن يضيع ؛ قال ابن القاسم هذا أثبت ما سمعت من قول مالك وبه آخذ .
قال محمد بن رشد : قد حكى ابن حبيب عن مالك ، أنه قال : لا بأس أن يقوم بأمره كله ، ثم يسلمه إلى أهل دينه ولا يتبعه ، إلا أن يخاف عليه الضيعة ، فيتقدم إلى قبره ، ولا يلي إدخاله فيه ، إلا ألا يجد من يكفيه ذلك ؛ ولهذا قال ابن القاسم في روايته عنه : إنها أثبت ما سمع منه ، فاختار من قوله ألا يقوم في شيء من أمره ، إلا ألا يجد من يكفيه ذلك ، وإتباعه إلى قبره إن خشي عليه الضيعة ، يكون معتزلاً عن الحاملين له من أهل دينه - على ما حكى عنه ابن حبيب ، مخافة أن ينزل بهم سخط من الله - فصيبه معهم .
ومن كتاب أوله سن رسول الله ، صلى الله عليه وسلم
قال ابن القاسم في التسليم على الجنازة يسلم الإمام واحدة

(2/218)


ويسمع من يليه ، ومن وراءه يسلمون واحدة في أنفسهم ، وإن أسمعوا من يليهم لم أر بذلك بأساً .
قال محمد بن رشد : هذا مثل ما في المدونة سواء ، فالإمام يسمع من يليه سلامه ، لأنهم يقتدون به فيسلمون بسلامه ، وم نخلفه يسلم في نفسه ، وليس عليه أن يسمع من يليه ؛ إذ آل يقتدي بسلامه ، وإنما يسلم ليتحلل من صلاته ، لقوله - عليه الصلاة والسلام - تحريم الصلاة التكبير ، تحليلها التسليم . والصلاة على الجنائز صلاة ، فهي داخلة في عموم لفظ الصلاة ، وفي سماع ابن غانم في بعض الروايات ، أنه يرد على الإمام من سلم عليه - قياساً على الصلاة الفريضة وهو تفسير لسائر الروايات .
مسألة
قال ابن القاسم في اتخاذ المساجد على القبور ، قال إنما يكره من ذلك هذه المساجد التي تبنى عليها ؛ فلو أن مقبرة عفت فبنى قوم عليها مسجداً فاجتمعا للصلاة فيه ، لم أر بذلك بأساً .
قال محمد بن رشد : تكررت هذه المسألة في هذا السماع ، والرسم بعينه من كتاب الحبس ، وهي مسألة صحيحة ؛ فوجه كراهية اتخاذ المساجد على القبول ليصلي فيها من أجل القبور ، ما روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : لعن الله زائرات القبور ، والمتخذين عليها المساجد والسرج .

(2/219)


وقوله ، عليه الصلاة والسلام : لعنة الله على اليهود والنصارى ، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد - يحذر ما صنعا . وقوله اللهم : لا تجعل قبري وثناً يعبد ، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد . وأما بناء المسجد للصلاة فيه على المقبرة العافية ، فلا كراهة فيه - كما قال ، لأن المقبرة والمسجد حبسان على المسلمين لصلاتهم ، ودفن موتاهم ؛ فإذا عفت المقبرة - ولم يمكن التدافن فيها ، أو استغنوا عن التدافن فيها ، واحتيج إلى أن تتخذ مسجداً يصلي فيه ، فلا بأس بذلك ، لأن ما كان لله ، فلا بأس أن يستعان ببعض ذلك في بعض على ما النفع فيه أكثر ، والناس إليه أحوج ؛ وذلك إذا عفت لكراهية درس القبول الجديد المسنمة على ما قال في أول سماع ابن القاسم من كتاب الأقضية ، وفي الواضحة وغيرها ؛ فقد روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لأن يمشي أحدكم على الرضف خير له من أن يمشي على قبر أخيه ، وقال إن الميت ليؤذيه في قبره ما يؤذيه في بيته .
مسألة
وكره ابن القاسم أن يجعل على القبر بلاطة ويكتب فيها ، ولم ير بأساً بالحجر ، والعود ، والخشبة ، ما لم يكتب في ذلك ما يعرف به الرجل قبر وليه .
قال محمد بن رشد : كره مالك البناء على القبر ، وأن يجعل عليه

(2/220)


البلاطة المكتوبة ، لأن ذلك من البدع التي أحدثها أهل الطول - إرادة الفخر والمباهاة والسمعة ، فذلك مما لا اختلاف في كراهته .
ومن كتاب البز
مسألة
وسئل مالك عن النساء يخرجن إلى الجنائز على الرحائل ، ومشاة ؟ قال قد كان النساء يخرجن فيما مضى من الزمان ، ولقد كانت أسماء بنت أبي بكر تخرج تقود فرس الزبير - وهي حامل مثقل ، حتى عوتبت في ذلك ؛ فقيل له أفترى بخروجهن بأساً ؟ فقال ما أرى بأساً ، إلا أن يكون أمراً يستنكر .
قال محمد بن رشد : أجاز مالك - رحمه الله - إتباع السناء الجنائز ، وخروجهن فيها ؛ واحتج في ذلك بالعمل الماضي ، لأنه عنده أقوى من أخبار الآحاد العدول ، إلا أن يأتي من ذلك ما يستنكر فيمنع ؛ وقد قالت عائشة رضي الله عنها : لو أدرك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أحدثه النساء لمنعهن المساجد ، كما منعه نساء بني إسرائيل . وقد قال رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : من شهد جنازة حتى يصلي عليها فله قيراط ، ومن شهد حتى تدفن كان له قيراطان . فدخل في عموم ذلك الرجل والنساء ، وما روي من أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعن زوارات القبور ، معناه - عند

(2/221)


أهل العلم - أن ذلك كان قبل أن يرخص في ذلك ، فلما رخص فيه ، دخل في الرخصة النساء مع الرجال ؛ وقد قالت أم عطية : نهينا عن إتباع الجنائز ولم يعزم علينا . فقيل إنما نهين عن ذلك ، لقلة صبرهن ، وكثرة جزعهن . وقيل إنما نهين عن ذلك من باب الصون والستر ، فالنساء في شهودها ثلاث : متجالة ، وشابة ، ورائعة بدرة جسيمة ضخمة : فالمتجالة تخرج في جنازة الأجنبي والقريب ، والشابة تخرج في جنازة أبيها وأخيها ومن أشبههما من قرابتها ، والمرأة الرائعة البدرة الضخمة ، يكره لها الخروج أصلاً ، والتصرف بكل حال ؛ هذا هو المشهور ، وقد ذكر ابن حبيب أن خروج النساء في الجنائز مكروه بكل حال : في أهل الخاصة ، وذوي القرابة ، وغيرهم ؛ وينبغي للإمام أن يمنع من ذلك .
ومن كتاب أوله كتب عليه ذكر حق
مسألة
وسئل مالك عن الصبي يسبي صغيراً ، ومن نية صاحبه أن يجعله يسلم ، فلا يقيم إلا يوماً أو يومين حتى يموت ؛ أترى أن يصلي عليه ؟ قال : إن كان الأمر بالإسلام فأجاب إليه فيصل عليه ، وإلا فلا يصلي .
قال محمد بن رشد : قد مضى القول في هذه المسألة مجوداً موعباً في رسم الشجرة تطعم بطنين في السنة ، فلا معنى لإعادته .

(2/222)


ومن كتاب الشريكين
مسألة
قال مالك في الجنازتين تحضران جميعاً جنازة رجل ، وجنازة امرأة ؛ من ترى يصلي عليهما ؛ أولياء المرأة ، أو أولياء الرجل ؟ قال مالك : لس ينظر في ذلك إلى أولياء المرأة ، ولا إلى أولياء الرجل ، ولكن ينظر إلى أهل الفضل منهم والسن ، فيقدم عليهما ؛ وقد كان الناس فيما مضى يودون أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلون على جنائزهم - رجاء بركة دعائهم .
قال محمد بن رشد : ذهب ابن الماجشون إلى أن أولياء الرجل ، أحق من أولياء المرأة ، قال : وقد قدم حسين بن علي ـ عبد الله بن عمر للصلاة على جنازة أخته أم كلثوم ، وابنها زيد بن عمر بن الخطاب أخي عبد الله بن عمر حين كان عبد الله بن عمر أحق بالصلاة على أخيه من حسين بالصلاة على أخته ، وهذا لا حجة فيه ـ عندى ، إذا قد يحتمل أنه إنما قدمه لسنه ، ولإقراره بفضله ، لا من أجل أنه أحمق بالصلاة على أخته ، وقدم ابنها إلى الإمام في الصلاة عليهما ، ولم يورث واحداً منهما من صاحبه ، لأنه لم يدر أيهما مات قبل صاحبه ، فكانت فيهما ثلاث سنن على ما قال ابن الماجشون .
ومن كتاب اغتسل على غير نية
مسألة
وسئل عن التيمم للجنازة ، فقال : إن كان بعيداً جداً ، بحيث يجوز له التيمم للصلاة يتيمم ـ يريد في السفر .
قال محمد بن رشد : هذا قول مالك في سماع أشهب ، وفي المدونة

(2/223)


والواضحة ، وغيرهما : لم يختلف في ذلك قوله ، وأجاز التيمم في الحضر لها فواتها ـ جماعة من علماء المدينة وغيرهم ، منهم : ابن شهاب ،و يحيى بن سعد ، والليث ، وأخذ به ابن وهب من أصحابه ، وقد اختلف قول مالك في الحاضر هل يصلي الفريضة بالتيمم أم لا ـ على ثلاثة أقوال ، أحدها : أنه يصليها به وتجزئه . والثاني أنه يصليها به ويعيدها . والثالث : أنه لا يصليها حتى يجد الماء فيتوضأ ويصلي ، وقد قيل إنه إن لم يجد الماء حتى خرج الوقت ، سقطت عنه الصلاة ، ومن مذهب مالك أن المتيمم يصلي النافلة بالتيمم ، ويستبيح به جميع ما يستباح بالوضوء ، فيجي على قوله : أن الحاضر من أهل التيمم ، وأنه يصلي ولا يعيد - بناء على مذهبه المذكور أن له أن يتيمم لصلاة الجنازة ، والعيدين .
مسألة
وسئل مالك : هل صلى صهيب على عمر بن الخطاب ؟ قال : نعم .
قال محمد بن رشد : حقق ههنا أن صهيبا صلى عليه ، وقال في سماع أشهب لم أسمع ذلك ، ولكني أظنه ، لقوله يصلي بكم صهيب . وهو ظن كاليقين ، لأنه يبعد في القلوب أن يستخلفه عمر على الصلاة أيام الشورى ، فيصلي عليه غيره ، وهم لم يجتمعوا بعد على إمام ، وهو صهيب بن سان الرومي ، يعرف بالرومي وهو من العرب ؛ لأنه أصابه سباء - وهو صغير ، فصار أعجمي اللسان ؛ صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يوحى إليه ، ثم أسلم معه بمكة هو وعمار بن ياسر في يوم واحد ، وهاجر إلى المدينة ، وشهد بدراً ، فهو من المهاجرين الأولين ؛ وروي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ، فليحب صهيباً حب الوالدة ولدها - والله الموفق .
ومن كتاب أوله مرض وله أم ولد فحاضت
وسألت مالكاً فقلت له : أي شيء أعجب إليك : القعود في

(2/224)


المسجد أم شهود الجنائز ؟ فقال : بل القعود في المسجد أعجب إلي ، إلا أن يكون حق من جوار ، أو قرابة ، أو أحد ترجى بركة شهوده - يريد به في فضله فيحضره . قال ابن القاسم : وذلك في جميع المساجد .
قال محمد بن رشد : ذهب سعيد بن المسيب ، وزيد بن أسلم ، إلى أن صلاة النوافل والجلوس في المساجد ، أفضل من شهود الجنائز - جملة من غير تفصيل ؛ فمات علي بن حسين بن أبي طالب ، فانقلع الناس لجنازته من المسجد ، إلا سعيد بن المسيب ، فإنه لم يقم من مجلسه ؛ فقيل له ألا تشهد هذا الرجل الصالح من البيت الصالح ؟ قال : لأن أصلي ركعتين ، أحب إلي من أن أشهد هذا الرجل الصالح ، من البيت الصالح ؛ وخرج سليمان بن سار فصلى عليه واتبعه ، وكان يقول شهود الجنائز أفضل من صلاة التطوع جملة أيضاً من غير تفصيل ؛ وتفصيل مالك - رحمه الله - هو عين الفقه ، إذ إنما يرغب في الصلاة على من يعرف بالخير ، وترجى بركة شهوده ؛ فمن كان بهذه الصفة ، أو كان له حق من جوار ، أو قرابة ، فشهوده أفضل من صلاة التطوع - كما قال مالك ، لما تعين من حق الجوار ، والقرابة ؛ ولما جاء من الفضل في شهود الجنائز ؛ فقد روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : أفضل ما يعمل امرؤ في يومه ، شهود الجنازة . ولأن مراتب الصلوات في الفضل على قدر مراتبها في الوجوب ، فأفضل الصلوات صلاة الفريضة ، ثم صلاة الوتر ، إذ قد قيل إنه واجب ؛ ثم الصلاة على الجنائز لأنها فرض على الكفاية ، ثم ما كان من الصلاة سنة ، ثم ما كان منها فضيلة ، ثم ما كان منها نافلة .

(2/225)


مسألة
قال ابن القاسم : سئل مالك عن الأعجمي يقال له أهل فيصلي ثم يموت ، هل يصلي عليه ؟ قال : نعم .
قال محمد بن شد : وهذا كما قال ، لأن من صلى فقد أسلم ، قال - صلى الله عليه وسلم : من صلى صلاتنا ، واستقبل قبلتنا ، فذلك المسلم الذي له ذمة الله ؛ ومن أبى فهو كافر ، وعليه الجزية . وقد مضى في رسم القبلة ما فيه بيان لهذه المسألة ، وبالله التوفيق .
ومن كتاب أوله باع غلاماً بعشرين ديناراً
وقال مالك : من مات وعليه دين يحيط بماله ، فإن الكفن مبدأ على الدين ؛ قال مالك : ومن كان له رهن في يدي رجل ، ثم مات - ولا مال له غير ذلك ، فلا يكفن منه ، والمرتهن أحق به من الكفن .
قال محمد بن رشد : تكررت هذه المسألة في يهذا السماع من كتاب المديان والتفليس ، وهي مسألة صحيحة ؛ أما قوله إن الكفن مبدأ على الدين ، فالأصل في ذلك ما ثبت من أن مصعب بن عمير قتل يوم أحد ، فلم يترك إلا نمرة كانوا إذا غطوا بها رأسه ، بدت رجلاه ، وإذا غطوا بها رجليه ، بدا رأسه ؛ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غطوا رأسه ، واجعلوا على رجليه من الإدخر . وما ثبت أيضاً من أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بدفن قتلى أحد بثيابهم من غير أن يعتبر ما يبقى لورثتهم ، أو لدين - إن كان عليهم ، وهذا أمر لا أعلم فيه اختلافاً ، إلا ما يروي عن

(2/226)


سعيد بن المسيب في أحد قوليه : إن الكفن من الثلث ؛ والصحيح ما عليه الجماعة : أنه من رأس المال . وأما قوله إنه لا يكفن من الرهن ، والمرتهن أحق ؛ فهو كما قال ولا اختلاف فيه ، لأن حق المرتهن قد تعين في عين الرهن ، وما تعين من الحقوق في أعيان الأشياء من التركة ، فهو مبدأ على ما ثبت منها في الذمة ، كأم الولد ، وزكاة تمر الحائط الذي أزهى قبل موت المتوفي ، والرهن ، وما استحق من الأصول والعروض ببينة تشهد على عينه ، والله ولي التوفيق .
من سماع زياد عن مالك
مسألة
قال : وقال مالك في الإمام يصلي على الجنازة فيتابع بين التكبير ويدع الدعاء ، أترى ذلك يجزئه ؟ قال : أرى أن تعاد الصلاة عليه ، كالذي يترك القراءة في الصلاة .
قال محمد بن رشد : وهذا كما قال : لأن القصد في الصلاة على الميت الدعاء له ، لقوله - صلى الله عليه وسلم - أخلصوه بالدعاء . ولذلك سميت صلاة لما فيها من الدعاء ، فإذا لم يدع للميت فلم يصل عليه .

(2/227)


من سماع أشهب وابن نافع عن مالك - رواية سحنون
من كتاب الجنائز الأول
مسألة
قال أشهب : وسئل مالك عن أهل الميت هل يبعث إليهم بالطعام ؟ فقال إني أكره المناحة ، فإن كان هذا ليس منها فليبعث .
قال محمد بن رشد : وهذا كما قال ، لأن إرسال الطعام إلى أهل الميت لاشتغالهم بميتهم إذا لم يكونوا اجتمعوا لمناحة ، من الفعل الحسن المرغب فيه المندوب إليه ؛ روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاله لأهله لما جاء نعي جعفر بن أبي طالب : اصنعوا لآل جعفر طعاماً ، وابعثوا به إليه ، فقد جاء ما يشغلهم عنه ، وبالله التوفيق .
مسألة
وأخبرني جعفر بن محمد ، عن أبيه ، أنه قال لما وضع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وسجي عليه ، قال له علي : ما على الغبراء ، ولا تحت الخضراء ، أحد أحب إلي أن ألقى الله بكتابه منك! .
قال محمد بن رشد : في هذا تفضيل علي - رضي الله عنه - لعمر على عثمان ، وهو الذي عليه أهل السنة ، والحق أن أفضل الصحابة أبو بكر ، ثم عمر ، ثم عثمان ، ثم علي - رضي الله عنهم أجمعين . - وقد روي هذا عن مالك ، وروي عنه أيضاً الوقوف عن تفضيل بعضهم على بعض . وروي عنه أيضاً تفضيل أبي بكر على عمر ، ثم الوقوف عن المفاضلة بين علي وعثمان ، والأول هو الذي يعتمد عليه من مذهبه - والله أعلم .

(2/228)


مسألة
قال وسمعته يحدث عن أبي النضر ، أن رسول الله - صلى على سهيل بن بيضاء في المسجد .
قال محمد بن رشد : ثبت هذا عن النبي - عليه الصلاة والسلام ؛ وروي عن أبي هريرة أنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : من صلى في المسجد على جنازة ، فلا شيء له . فاختلف أهل العلم لما تعارض من هذين الحديثين في الصلاة على الجنازة في المسجد ، وفي صلاة من في المسجد على الجنازة بصلاة الإمام عليها بخارج المسجد ؛ فمنهم من أجاز ذلك وضعف حديث أبي هريرة ، وقال معنى قوله فلا شيء له - أي فلا شيء عليه ، مثل قوله عز وجل : {إذا أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها} . أي عليها . ورأى العمل على ما جاء في سهيل بن بيضاء ، واستدل على ذلك بإنكار عائشة ـ رضي الله عنها ـ على من أنكر عليها ما أمرت به من إدخال سعد بن أبي وقاص في المسجد ، وهو مذهب الشافعي ، وأحمد بن حنبل ، ومنهم من كره ذلك ، ورأى ما جاء في سهيل بن بيضاء ، أمراً قد ترك وجرى العمل بخلافه ، وأن حديث أبي هريرة ناسخ له ، لأنه متأخر عنه ، واستدل على ذلك بإنكار الناس - وهم صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على عائشة ما أمرت به من أن يمر ( عليها ) بسعد بن أبي وقاص في المسجد ، إذ كانت الصلاة على الجنازة في المسجد أمراً قد ترك ، وجرى العمل بخلافه - عبد أن كان يفعل ؛ لما علموه مما هو أولى منه ، ولم تعلم بذلك عائشة ، وظنت أنهم إنما كانوا تركوا

(2/229)


ذلك ، ولهم أن يفعلوه ، لا لأنهم علموا أن غيره أولى منه ؛ وهذا معنى قول مالك في المدونة : لا توضع الجنازة في المسجد ، وإن وضعت قرب المسجد لم يصل عليها من في داخل المسجد ، إلا أن يضيق خارج المسجد بأهله ؛ وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه .
ومنهم ، كره أن يصلي على الجنازة في المسجد ، وأجاز إذا وضعت خارج المسجد أن تمتد الصفوف بالناس في المسجد ؛ وإلى هذا ذهب ابن حبيب ، وعزاه إلى مالك ، وقال هو من رأيه ؛ ولو صلى عليها في المسجد ما كان ضيقاً ، وفي صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على سهل بن بيضاء في المسجد ، دليل على أن الميت ليس بنجس ، وقد مضى في أول سماع ابن القاسم من الحجة على ذلك ما فيه كفاية ؛ فإذا كان ليس بنجس ، وإنما يكره إدخاله في المسجد - إذا لم يدفع فيه ، مخافة أن ينفجر منه شيء فيه ، فلا فرق في كراهية الصلاة عليه في المسجد بين أن يكون فيه أو خارجاً منه ؛ وهو مذهب مالك في المدونة ، وظاهر قوله في الحديث : من صلى على جنازة في المسجد ، فلا شيء له ؛ إذ لم يفرق فيه بين أن تكون الجنازة في المسجد ، أو خارجاً عنه ؛ وغذ قلنا إن ذلك مكروه ، فإن فعله لم يأثم ولم يؤجر ؛ وإن لم يفعله أجر ، لأن حد المكروه ما تركه أفضل من فعله ؛ وهو الذي يدل عليه قوله - عليه الصلاة والسلام : من صلى على جنازة في المسجد ، فلا شيء له .
مسألة
وسئل عن المشي أمام الجنازة للرجال والنساء ، أهم في ذلك سواء ؟ فقال : لا أرى أن يكون النساء في ذلك بمنزلة الرجال ، أيكون النساء مع الرجال بين أيديهم ؟ فقال له إن نساء لا يكن بين أيدي الرجال ، ولكن خلفهم أمام الجنازة ؛ فقال أليس الرجال يحملون

(2/230)


الجنازة - والنساء أمامها ، لا أرى ذلك ، وأرى أن يمشين خلفه ، والعمل على ذلك .
قال محمد بن رشد : وهذا كما قال ، إن النساء يمشين خلف الجنازة ، لأنهن عورة ، فلا يكن بين أيدي الرجال ؛ وإنما اختلف أهل العلم في الرجال ، فقيل إن الأفضل أن يمشوا أمام الجنازة ، وقيل إن الأفضل أن يمشوا خلفها ، وقيل إنهم مخيرون في ذلك ، ولا فضل لأحد الوجهين على الآخر ؛ وقيل إنهم يمشون خلف الجنازة إلا أن يكون ثم نساء فيمشون أمامها ، لئلا يختلط الرجال بالنساء ؛ وتوجيه ق ول كل قائل وما تعلق به يطول ، وهو موجود في مظانه ، فلا معنى لذكره .
مسألة
قال وحدثني أبو النضر ، أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال : ومن ههنا من بني فلان ؟ فلم يجبه أحد ؛ ثم قالها ، فلم يجبه أحد ؛ ثم قالها ، فلم يجبه أحد ؛ فقام رجل فقال له رسول الله – صلى الله عليه وسلم : ما منعك أن تجيب ؟ فقال : خشيت أن يكون نزل فينا من الله قرآن . فقال : لم أكن لأدعو أحداً منكم إلا إلى خير ، ولكن صاحبكم حبس لدين عليه دون الجنة .
قال محمد بن رشد : هذا كان في أول الإسلام - والله أعلم ، بدليل ما روي عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يؤتي بالرجل المتوفى عليه دين ، فيقول : هل ترك لدينه من فضل ؟ فإن حدث أنه ترك وفاء ، صلى عليه ، وإلا قال للمسلمين صلوا على صاحبكم ؛ فلما فتح

(2/231)


الله الفتوح ، قام فقال : أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، فمن توفي من المسلمين وترك ديناً ، فعلي قضاؤه ، ومن ترك مالاً فهو لورثته . وإنما أخبر النبي - عليه الصلاة والسلام - قوم المتوفى بحبس ميتهم دون الجنة بما عليه من الدين ، رجاء أن يؤدوه عنه ، أو يتحملوا به ؛ بدليل حديث جابر بن عبد الله ، أن رجالً مات وعليه دين فلم يصل عليه - عليه الصلاة والسلام - حتى قال : أبو اليسر ، أو غيره ، هو إلي ، فصل عليه يا رسول الله ، فجاءه من الغد يتقاضاه ، فقال إنما كان أمس ، ثم أتاه من بعد الغد فأعطاه ؛ فقال النبي - عليه الصلاة والسلام - الآن بردت عليه جلده . وهذا حديث فيه ستة أوجه من الفقه : أحدها جواز الحمالة عن الميت الذي لم يترك مالاً ، خلافاً لأبي حنيفة في قوله : إن الحمالة باطل ؛ إذ لو لم تجز الحمالة لما صلى عليه النبي - عليه الصلاة والسلام ؛ والثاني أنه إذا أدى الدين عن الميت ، لم يكن له الرجوع في مال إن طرأ له ، إذ لو انتقل الدين إلى الحميل الذي أداه ولم يسقط عن الذي كان عليه ، لم بردت جلده بالأداء عنه . والثالث : أن الكفالة لازمة للحميل بغير قبول المكفول له ، خلافاً لأبي حنيفة في ذلك . والرابع : جواز الكفالة بغير إذن المكفول عنه .و الخامس : وجوب أخذ المكفول له بها الكفيل . والسادس : أن ذمة المكفول عنه لا تبرأ بوجوب الكفالة على الكفيل حتى يؤدي عنه ، لقوله - عليه الصلاة والسلام - الآن بردت ( عليه ) جلده .
فإذا لم تبرأ ذمته بالكفالة من الدين ، كان للذي له الدين أن يتبع بدينه من شاء منهما على أحد قولي مالك ، وهو مذهب الشافعي ، وأبي حنيفة ؛ وقيل إنه ليس له أن يتبع الكفيل ، إلا في عدم الذي عليه الدين ، وهو أحد قولي مالك ، واختيار ابن

(2/232)


القاسم ، والصحيح في القياس والنظر ؛ لأنه إن قضى للمكفول له على الكفيل ، قضى في الحين للكفيل على المكفول عنه ؛ فالقضاء للمكفول له على المكفول عنه أولى وأقل عناء ، فلا معنى لتبرئة الكفيل بالإتباع مع حضروهما واستوائهما في الملأ واللدد ، وبالله التوفيق .
مسألة
ويل له : أتحب أن لو منع النساء في جنائزهن من شق الثياب ، وضرب الوجه ، وأشباه ذلك ؟ فقال : نعم ، هذا من عمل الجاهلية .
قال محمد بن رشد : وهذا كما قال ، إنه من عمل الجاهلية ، فينبغي للإمام أن يغير ذلك ويمنع منه ؛ قال - صلى الله عليه وسلم : ليس منا من شق الجيوب . وضرب الخدود ، ودعا بدعوى الجاهلية . وقال - صلى الله عليه وسلم : أربع في أمتي من أمر الجاهلية لن يدعهن الناس : النياحة ، والطعن في الأحساب ، والعدوى ، أجرب بعير فأجرب مائة بعير ، من أجرب البعير الأول ؟ والأنواء مطرنا بنوء كذا وكذا - ذكره الترمذي .
مسألة
وسئل عن مولى لامرأة توفي ، فقام ابن المولاة فقال لابن عم له : تقدم فصل عليها ، فقال ابن أخي مولاة المتوفى : هو مولى عمي وأنا أولى ممن أمرت ، وأنت صبي ممن لا أمرك لك ؛ فقال مالك : ما أراه إلا كما قال ابن أخي الموالاة ، يكون ذلك له .

(2/233)


قال محمد بن رشد : إنما هذا من أجل أنه صبي ، ولو كان رجالً لكان ابن عمه الذي قدم أحق من ابن أخي مولاة المتوفى ، لأنه حقه له أن يجعله إلى من شاء ، وإلى هذا ذهب ابن حبيب ، وحكاه عن ابن الماجشون ، وأصبغ ، وقال ابن عبد الحكم : إذا أبى أن يصلي فالذي بإثره أحق ، وليس له أن يجعل ذلك إلى من هو أبعد منه ؛ وساق ابن حارث هذه الرواية على أنها مثل قول ابن عبد الحكم ، فلم يلتفت إلى قوله فيها : وأنت صبي ممن لا أمر لك ، وذلك إغفال منه ، فقف على ذلك .
ومن كتاب الجنائز والصيد والذبائح
قال أشهب : وسئل مالك عن قراءة القرآن عند رأس الميت ( بيس ) . فقال : ما سمعت بهذا ، وما هو من عمل الناس ؛ قيل له : أفرأيت الإجمار عند رأسه - وهو في الموت يجود بنفسه ؟ فقال أيضاً ما سمعت شيئاً من هذا ، وما هذا من عمل الناس .
قال محمد بن رشد : استحب ابن حبيب الإجمار عند الميت إذا احتضر ، وأن يقرأ عند رأسه بياسين ؛ وحكي عن النبي - عليه الصلاة والسلام - أنه قال : من قرأ ياسين أو قرئت عند رأسه - وهو في سكرات الموت ، بعث الله ملكاً إلى ملك الموت : أن هون على عبدي الموت . قال : وإنما كره مالك أن يفعل ذلك - استناناً .

(2/234)


مسألة
قال وسئل عمن حضرته الجنازة وليس على وضوء ، ويخاف إن توضأ - فوتها ، أيتيمم لها ؟ فقال : لا .
قال محمد بن رشد : قد مضى القول في هذه المسألة في رسم اغتسل على غير نية ، فلا وجه لإعادته .
مسألة
وسئل عن الذي تفوته الجنازة فيأتي بعدما توارى ، أترى أن يكبر عليه أم يدعو ؟ قال يدعو ما أحسن أن يدعو .
قال محمد بن رشد : هذا مثل ما في المدونة : أنه لا يصلي على من قد صلي عليه -وإن لم يدفن ، وقيل إنه يصلي عليه ما لم يدفن . روي أن الزبير بن هشام بن عروة توفي بالعقيق ، فصلى عليه أبوه ثم بعث به إلى المدينة ، فأمر أن يصلي عليه بالبقيع ويدفن ؛ وقد فعل ذلك أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - صلين على سعد بن أبي وقاص ، وعبد الرحمان بن عوف ؛ وقيل إنه يصلي على قبره - وإن دفن ، كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمسكينة التي دفنت ليلاً ، ولم يؤذن بها . وقد حكى ابن القصار عن مالك إجازة ذلك - ما لم يطل ذلك ، وأقصى ما قيل فيه الشهر ، وهو شذوذ في إجازة ذلك - ما لم يطل ذلك ، وأقصى ما قيل فيه الشهر ، وهو شذوذ في المذهب ؛ فقد قال في المدونة : ليس على هذا الحديث العمل ، وسيأتي في رسم النسخة من سماع عيسى ، القول في الصلاة على قبر من دفن ولم يصل عليه .
مسألة
وسئل عما تكفن فيه الجارية فقال ما سمعت قط بأحد

(2/235)


سئل عن مثل هذا : ما تكفن فيه الجارية ؟ وما يكفن فيه الغلام ؟ والكفن واسع ، فما كفن فيه فهو واسع ، وليس على الناس في هذا ضيق ؛ كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم - في ثلاثة أثواب بيض ، وكفن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الشهداء يوم أحد اثنين في ثوب . وكفن ابن عمر ابناً له في خمسة أثواب ، وكفن أبو بكر في ثوب فيه مشق ، فلو كان هذا ضيقاً كان شيئاً واحداً ، فليس على الناس في هذا ضيق .
قال محمد بن رشد : وهذا كما قال ، إن الكفن لا حد فيه يجب الاقتصار عليه ، فلا يزاد فيه ولا ينقص ، وإنما يتكلم على الاستحباب ، فمما يستحب فيه الوتر ، إلا أن الاثنين عندهم أفضل من الواحد ، والثلاثة أفضل من الأربعة ، فأدنى الكفن في الاستحباب ثلاثة ، وأعلاه في الاستحباب خمسة أثواب ؛ قال ابن حبيب والخمسة للمرأة ألزم ، وقد فرق في الاستحباب بين المرأة والرجل والجارية والغلام ، فقال ابن شعبان إن أدناه للمرأة خمسة أثواب ، وأعلاه سبعة أثواب ؛ وقال بعضهم يكفن الصبي - ما لم يطعم في ثوب ، فإذا طعم ففي ثلاثة أثواب ، والجارية إلى أن تحيض في ثلاثة أثواب ، فإذا حاضت ففي خمسة أثواب ؛ ومما يستحب في الكفن البياض ، وتستحب الحبرة لمن وجد لذلك سعة ، لما روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كفن في ثلاثة أثواب أحدها حبرة ، ويكفن في صماته في مثل

(2/236)


ما كان يلزمه في الجمع والأعياد في حياته ، ويقضي بذلك عند اختلاف الورثة فيه ، وإنما كفن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الشهداء يوم أحد اثنين في ثوب واحد من ضرورة ، ومعناه فيمن عراه العدو ، لأن السنة أن يدفنوا في ثيابهم - والله أعلم .
مسألة
وسئل : أيصلى على المنفوس في المنزل ، ثم يرسل به فيدفن ؟ فقال يصلي عليه في المنزل ؟ فقيل نعم ، فقال ما علمت ذلك .
قال محمد بن رشد : استفهامه عن ذلك ، وإنكاره أن يكون علم أن ذلك يفعل ؛ يدل على أنه كره ذلك من العمل ، ووجه الكراهية في ذلك بين ؛ قال ، صلى الله عليه وسلم : من شهد جنازة حتى يصلي عليها فله قيراط ، ومن اتبعها حتى تدفن فله قيراطان ، ولم يفرق بين صغير وكبير .
مسألة
وسئل عن الرجل يموت ويترك ابناً له قد راهق الحلم ، أيصلي ابنه عليه ؟ فقال بل يصلي عليه غيره أحب .
قال محمد بن رشد : المراهق : هو الذي قد أنبت وبلغ من السن ما يشبه أن يكون قد احتلم ، ولم يبلغ أقصى سن الاحتلام ؛ فهذا إن أقر أنه لم يحتلم ، لميمكن من الصلاة على أبيه ؛ لأن من لم يحتلم ، ولا بلغ أقصى سن الاحتلام ، فلس بمكلف ولا مؤاخذ بذنب ، ولا مثاب على طاعة ؛ وقد قيل إنه يثاب على طاعاته ؛ وإن قال إنه ( قد ) احتلم ، فهو الذي قال مالك فيه الرواية يصلي عليه غيره أحب إلي ، مخافة ألا يكون صادقاً فيما ذكره من

(2/237)


احتلامه ، فهذا معنى هذه الرواية - والله أعلم ؛ لأن اختلاف قول مالك فيمن وجب عليه حد ، أو طلق وقد أنبت ، إنما يرجع إلى تصديقه فيما يذكر من أنه لم يحتلم ، وقد تأول عليه غير ذلك - وليس بصحيح .
مسألة
وسئل عن ارمأة أوصت ابنها أن يكفنها في ثلاثة أثواب كانت تلبسها في حياتها ، فأراد ابنها أن يشتري لها جدداً مكانها فيكفنها فيها ، فقال : لا ، أحب إلي أن يفعل ما أمرته به أمه .
قال محمد بن رشد : قوله أحب إلي أن يفعل ما أمرت به أمه ، كلام ليس على ظاهره بل هو الواجب عليه ، وذلك إذا كانت إنما أوصت ابنها أن يكفنها في ثلاث أثواب بأعيانها تبركاً بها لحلها ، أو لأنها حجت فيها ، أو كانت تشاهد الصلوات بها . أو ما أشبه ذلك مما تريد به وجه البر ؛ لأن من أوصى بما فيه قربة ، فواجب أن تنفذ وصيته ؛ قال عز وجل : {فمن بدله بعدما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه} . وأما إن كانت إنما أوصت بذلك حيطة عليه ، وقصداً إلى توفير مالها عليه ، لا لغرض لها في أعيان الأثواب ؛ فله أن يبدلها بغيرها - وإن لم يتحقق غرضها في وصيتها ، فالاختيار له ألا يخالف أمرها - والله أعلم .
مسألة
وسئل عن جارية غارت على سيدها فشربت نورة فقتلت نفسها ، أيصلي عليها ؟ قال نعم يصلي عليها . قيل له فإن رجلاً عندنا ذبح نفسه ، أيصلي عليه ؟ فقال ولم ذبح نفسه ؟ فقال كان ابن

(2/238)


معاوية قد عذبه عذاباً شديداً ، ثم قيل له غدا يفعل بك كذا وكذا ، فخافه ، فأخذ سكيناً فذبح بها نفسه ؛ أفترى أن يصلي عليه ؟ فقال نعم ، وما سمعت أن أحداً ممن يصلي القبلة ينهي عن الصلاة عليه ؛ ولقد قال عمر للنبي - عليه السلام - حين مات ذلك المنافق ، لا تصل عليه يا رسول الله ، فأبى النبي ذلك وصلى عليه ؛ وفيه فيما بلغني نزلت هذه الآية : {ولا تصل على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره} . نزلت بعدما صلى عليه ، قال مالك أفترون أن النفاق من حين ذهب من أولئك ، ذهب من الناس .
قال محمد بن رشد : قوله في التي قتلت نفسها أنه يصلي عليها ، معناه أنها لا تترك بغير صلاة ، لأنها ممن ترغب في الصلاة عليها ؛ فقد قال ابن وهب في المعروف بشرب الخمر والشر ، ما حاجتك إلى شهوده ، دعه يصلي عليه أهله ومن أحب ؛ وإنما وقع هذا السؤال لما روي من أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده في نار جهنم ، يجاء بها في بطنه في نار جنهم - خالداً مخلداً فيها أبداً . وأنه قال في التردي والسم مثل ذلك ، فذهب جماعة من السلف إلى أنفاذ الوعيد عليه ؛ والأكثر منهم يراه في المشيئة ، لقوله عز وجل : {إن الله لا يغفر أن يشرك به} - الآية . وما في الحديث من تخليد في النار ، ليس على ظاهره ، ومعناه أنه خالد فيها مخلد أبداً - حتى يخرج منها بالشفاعة مع سائر المذنبين ، لأن القتل لا يحبط إيمانه ، ولا يبطل أعماله ، فلا بد من مجازاته على ذلك ، لقوله تعالى : {ولن يتركم أعمالكم} . وهذا قول أهل السنة والحق ، وقد روي عن جابر بن سمرة

(2/239)


أن رجلاً نحر نفسه بمشاقص ، فلم يصل عليه النبي - صلى الله عليه وسلم . فتعلق بذلك من ذهب إلى أنه لا يصلي على من قتل نفسه ، منهم : الأوزاعي ، وابن شهاب ، ولا حجة لهم في ذلك ؛ إذ لم ينه عن الصلاة عليه ، وإنما ترك هو الصلاة عليه ، إن كان من سنته ألا يصلي على المذمومين ، ويصلي عليهم غيره ؛ كالقاتل والمديان ، وشبههما ، أدباً لهم وزجراً عن مثل فعلهم ؛ وقال أحمد بن حنبل لا يصلي الإمام على من قتل نفسه ، ويصلي عليه الناس ؛ وحكم قاتل النفس في ذلك ، حكم من قتل نفسه . وقوله في الرواية وما سمعت أن أحداً ممن يصلي القبلة ينهي عن الصلاة عليه .
يروي : ينهى ، وينهي ، والصواب ينهى على لفظ ما لم يسم فاعله ؛ وهذا يدل على أن قوله في القدرية والإباضية : لا يصلي عليهم ؛ إنما معناه أن الصلاة تترك عليهم أدباً لهم ، إذ لا يغرب في الصلاة عليهم ، لا لأنهم يتركون بغير صلاة أصلاًح وقد بين ذلك في كتاب ابن شعبان ، فقد قال فيه إنه لا يصلي عليهم ولا على من يذكر بالفسق والشر ؛ وإنما يرغب في الصلاة على من يذكر فيه خير ؛ ومما يدل على صحة رواية من روى ينهى على لفظ ما لم يسلم فاعله ، ما احتج به مالك من قول عمر – رضي الله عنه – للنبي – صلى الله عليه وسلم – في صلاته على عبد الله بن أبي سلول المنافق ، وما أنزل الله من النهي عن الصلاة عليهم ، إذ هم كفار معدودون في غير أهل القبلة ، لأن صلاتهم إليها بغير نية ولا اعتقاد .
مسألة
قال : وسئل مالك عمن أتى جنازة فوجدهم قد سبقوه ببعض التكبير عليها ، أيكبر مكانه ؟ أم ينتظر حتى يكبر الإمام فيكبر بتكبيرة ثم يقضي ما فاته ؛ فقال بل يكبر تكبير واحدة حين يجيء سراً ، ثم يقف عما سبقوه من التكبير بعد التكبيرة الواحدة التي يكبرها حين يقف سراً ؛ ثم يترك التكبير حتى يكبر الإمام ، فيكبر بتكبيرة ،ثم يقضي

(2/240)


ما بقي عليه من الأربع تكبيرات - بعد فراغ الإمام ، ولا يكبر مما فاته مع الإمام شيئاً إذا جاء فوقف مع ، إلا تكبيرة ( واحدة ، ثم يقف عما بقي حتى يكبر الإمام فيكبر معه ، فإذا فرغ الإمام صلى بقدر ما بقي عليه من التكبير ، وإنما يكبر مع الإمام التكبيرة الأولى ، لأن ذلك بمنزلة الصلاة المكتوبة يفوت الرجل منها ركوع ركعة أو ركعتين ، ففي ذلك تكبيرة ، فإن جاء لم يكبر مما سبقوه به إلا تكبيرة ) الإحرام قط ، ولم يقض ما سبقوه به من التكبير فيما مضى من الركوع ، وقد كبر التكبيرة الأولى معهم حين وقف معهم في الصلاة ؛ فهذا هكذا في الجنازة إذا فاته من تكبيرها تكبيرتان أو ثلاث ، ثم جاء كبر من ذلك تكبيرة واحدة ، وأمسك عما بقي حتى يقضيه بعد فراغ الإمام .
قال محمد بن رشد : قياسه في هذه الرواية ، ما فاته مع الإمام من التكبير على الجنازة على ما فاته من تكبير الصلاة ، لا يستقيم ؛ لأن تكبير الصلاة لا يجب منه إلا تكبيرة واحدة ، وهي تكبيرة الإحرام ، وهي لا تفوته بفواتها ، مع الإمام ، بل يكبرها متى ( ما ) جاء - وإن لم يدرك الإمام إلا في آخر الصلاة ؛ وسائر التكبير سنة وفضيلة ، فلا يجب على الرجل مع الإمام قضاء ما فاته منه ، وإنما يجب عليه قضاء ما فاته من الركعات ؛ ألا ترى أنه لو قضى ما فاته مع الإمام من الركعات ، ونسي التكبير فيهن ؛ لأجزأته صلاته ولم يكن عليه إلا سجود السهو ، والأربع تكبيرات في صلاة الجنائز متساوية في الوجوب ، كتساوي ركعات الصلاة في الوجوب ؛ ويجب على من فاته منها شيء مع الإمام

(2/241)


أن يقضيه ، كما يجب عليه أن يقضي ما فاته معه من ركعات الصلاة ؛ فإنما الصحيح أن يقاس ما فاته مع الإمام من التكبير ، على الجنازة ، على ما فاته معه من ركعات الصلاة على ما ذهب إليه في المدونة ، إلا أن جوابه في هذه الرواية أصح من جوابه في المدونة ؛ وأخرى على أصله فيها ؛ لأنه إذا نزل التكبيرة في صلاة الجنازة ، منزلة الركعة في الصلاة في وجوب القضاء ، وكان له أن يكبر مع الإمام معاً ، والأحسان أن يكبر بعده ؛ فلا ينبغي أن يفوته التكبير بتكبير الإمام ، حتى يكبر الإمام التكبيرة التي بعدها ؛ فإذا جاء وقد كبر الإمام تكبيرتين ، فإنما فاتته الأولى ، ولم تفته الثانية فيكبرها ويدعو إن أدرك أن يدعو - إلى أن يكبر الإمام التكبيرة الثالثة ، فيكبرها معه أن بعده وهو أحسن ؛ وإن جاء وقد كبر ثلاث تكبيرات ، فإنما فاتته الأولى والثانية ولم تفته الثالثة ،فيكبرها ثم يدعو - إن أدرك أن يدعو - إلى أن يكبر الإمام الرابعة فيكبر بتكبيره ، ويقضي تكبيرتين بعد سلامه ؛ وإن جاء بعد أن كبر التكبيرة الأولى قبل أن يكبر الثانية فلم تفته بعد التكبيرة التي كبر الإمام ، فيكبرها ويدعو - إن
أدرك أن يدعو - إلى أن يكبر الإمام التكبيرة الثانية ، فيكبر بتكبيرة ، إذ لا يفوته التكبير بأخذه في الدعاء ، ولا بتمامه منه ؛ إذ لو وجب ذلك ( لوجب ) أن يفوته بأقل ما يجزئ منه في كل ركعة ، وهو أن يقول اللهم اغفر له ؛ ولوجب إذا لم يكبر مع الإمام معاً وتراخى في ذلك حتى يقول الإمام اللهم اغفر له ، أن يكون قد فاته التكبير ، وهذا ما لا يصح أن يقال . فجواب مالك في هذه الرواية أصح من قياسه ، لأنه جار على أصله في المدونة ، وهو أصل صحيح ؛ وجوابه فيها - أعني في المدونة ليس بصحيح .
مسألة
وسئل عمن فاتته الصلاة على جنازة فسار معها حتى ( إذا )

(2/242)


وضعت على قبرها ، استقبل القبلة فصلى عليها ، فقال لا يفعل - وكرهه .
قال محمد بن رشد : قد تقدم القول على هذه المسألة في ( أول ) الرسم فلا وجه لإعادته .
مسألة
وسئل عن شق النساء ثيابهن على الميت ، فقال بئس ما صنع ، من صنع هذا ؟ قيل له : ويحترمن ويصحن بالحرب والويل ، فقد غاظنا ذلك ؛ فقال وأنا والله ليغيظني وأكرهه ولا أراه حسناً ؛ ولكن هذا أمر لا يقدر أن يغيره أحد إلا السلطان ؛ قال مالك : وكانت زينب تقول لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لست كأحد من نسائك ، لأن الله زوجنيك ؛ قال مالك : قال الله تبارك وتعالى : {فلما قضى زيد منها وطراً زوجناكها} .
قال محمد بن رشد : وهذه المسألة قد مضت - والقول فيها في أول رسم من هذا السماع ، فلا معنى لإعادته ؛ وأما ما ذكر من وقل زينب - رضي الله عنها - فلا تعلق له بالمسألة ، وإنما ذكره لسبب جرى في المجلس ، فذكرت الحكاية وقيدت عنه دون السبب - والله أعلم .
مسألة
(
قال ) وسألته عن جنائز الرجال والنساء إذا اجتمعوا كيف

(2/243)


يصل عليهما ؟ فقال لي يجعل الرجال مما يلي الإمام ، ويجعل النساء من ورائهم مما يلي قبلة ؛ قلت له كيف يفعل بهم ؟ فقال لي إن كانا رجلين وامرأتين ، جعل الرجلان مما يلي الإمام سطراً واحداً ، لا يجعل سرير أحدهما من وراء سرير صاحبه ، ولكن يجعل بلصقه سطراً واحداً عرضاً - هكذا - وخط بيده في الأرض من نحو يساره حتى ذهب بهما إلى يمينه ، ويجعل المرأتان من ورائهما ( كذلك ) ؛ إن كثروا ، جعلوا صفين سطرين ، أو أكثر من ذلك -

(2/244)


على هذه الصفة ؛ فقال له ابن كنانة أرأيت إن كانا رجلين قط كيف يصلي عليهما ؟ أيجعلان سطراً واحداً ؟ أم يجعل أحدهما أمام صاحبه إلى القبلة ؟ قال بل يجعل أحدهما أمام صاحبه إلى القبلة ، والآخر من ورائه أحب إلي ؛ وإني لأرى ذلك واسعاً كله - إن جعلا سطراً ، أو جعل أحدهما أمام صاحبه ؛ فقيل له فأيهما ترى أن يجعل مما يلي الإمام ، فإن أحدهما أفضل وأشرف ؟ قال أرى ذلك إلى الاجتهاد ، قيل له أرأيت إن كثرت جنائز الرجال كيف يصلي عليهم الإمام الذي يصلي عليهم ؟ قال يجعل أحدهم بين يديه - معترضاً ، ثم يجعل الآخرين معه عن يمينه وشماله - سطراً هو وسطهم ؛ ثم يصلي عليهم ولا يجعل أحدهما مما يلي الإمام ؛ والآخر من ورائه ، ثم الآخر من ورائه .
قال محمد بن رشد : أما إذا كثرت جنائز الرجال ، أو النساء أو الرجال والنساء ؛ فإنهم يجعلون سطرين ، سطرين ، أو أكثر من ذلك – كما قال قولاً واحداً ؛ فإن كانت الأسطر وتراً وهو الاختيار أن يكون قام الإمام في وسط الأوسط منها ، وإن كانت شفعاً قام فيما بين رجلين الذين عن يمينه ، ورأس الذي على يساره ؛ ويكون الأفضل منهم الذي على يمينه ، ثم الذي يليه في الفضل الذي على شماله ، ثم الذي يليه في الفضل الذي يلي الذي على يمينه ، ثم الذي يليه في الفضل الذي يلي الذي على شماله ؛ ثم ينتقل إلى الصف الذي أمامه على هذا الترتيب ، ثم إلى الذي بعده على هذا – أبداً ؛ وأما إذا قل عدد الجنائز فكانوا اثنين ، أو ثلاثة ، أو نحو ذلك ؛ قال ابن حبيب : إلى ما دون العشرين ، فكان مالك – أول زمانه – يرى الأحسن أن يجعل واحد أمم واحد إلى القبلة وهي رواية ابن كنانة عه في هذه الرواية ، ثم رأى ذلك كله واسعاً : أن يجعلوا سطراً واحداً من الشرق إلى الغرب ، أو يجعل واحد أمام واحد إلى القبلة ، ولم يفضل إحدى الصورتين على الأخرى ؛ وهذا الاختلاف قائم من المدونة ، ويقدم إلى الإمام الذكور على الخنائي المشكلين صغاراً كانوا أو كباراً ، أحراراً كانوا أو عبيداً ؛ والخنائي المشكلون على النساء صغاراً كانوا أو كباراً ، فتنتهي المراتب على هذا إلى اثنتي عشرة مرتبة ، أعلاها الرجال الأحرار ، ثم الصبيان الأحرار ، ثم الخنائي المشكلون الأحرار الكبار ، ثم الخنائي المشكلون الأحرار الصغار ؛ ثم العيد الكبار ، ثم العبيد الصغار ، ثم العبيد الكبار الخنائي المشكلون ، ثم العبيد الصغار الخنائي المشكلون ، ثم النساء الأحرار ، ثم الصبايا الأحرار ، ثم النساء الاماء ، ثم الصبايا الاماء ؛ ويقدم من أهل كل مرتبة من هذه المراتب الأفضل ، فالأفضل ، ثم الأسن ، فالأسن ؛ وهذا الترتيب متفق عليه ، إلا في تقديم الحر الصغير على العبد ، فقد قيل إنه يقدم العبد الكبير
عليه ؛ لأنه يؤم ولا يؤم الحر الصغير ، وهو ظاهر ما في آخر سماع موسى بن معاوية لابن القاسم ، وقول

(2/245)


مالك في المبسوطة ، خلاف قوله في الواضحة ، وخلاف قول أبي حازم ، وخلاف ما حكى الفضل أن العتبي ذكره عن ابن القاسم .
مسألة
قال وقلت له أبلغك أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - صلى عليه صهيب ؟ قال : لم أسمع ذلك ، ولكني أظن ذلك لقول عمر بن الخطاب : يصلي بكم صهيب - ثلاثاً ، وهو ظني أن صهيباً صلى عليه ، وذلك لقوله يصلي بكم صهيب .
قال محمد بن رشد : قد تقدم هذا القول فيه في رسم الشريكين من سماع ابن القاسم ، فلا معنى لإعادته .
مسألة
قال : وقال أسيد ابن الحضير : لو كنت في حالي كلها مثلي ( في ثلاث ) - إذا ذكر النبي ، وإذا قرأت سورة البقرة ، وإذا شهدت جنازة ؛ ما شهدت جنازة قط فحدثت نفسي إلا بما تقول ، أو ما يقال لها حتى انصرف .
قال محمد بن رشد : هذا مما كان عليه السلف الصالح تعظيم الموت بالسكينة والكآبة - عند حضور الجنازة ، حتى لقد كان الرجل يلقى الخاص من إخوانه في الجنازة له نده عهد ،فما يزيده على التسليم ، ثم يعرض عنه ، كأن له عليه موجدة ، اشتغالاً بما هو فيه من شأن الميت ؛ فإذا خرج من الجنازة سأله عن حاله ولاطفه ، وكان منه أحسن ما كان يعهد ، فيكره الضحك في الجنازة ، والاشتغال فهيا بالحديث والخوض في شيء من أمور الدنيا .

(2/246)


مسألة
( قال ) : وسئل عن المرأة تموت بفلاة من الأرض ومعها ابنها أيغسلها ؟ قال ما أحب أن يبلغ ذلك منها ؛ قيل له أفيؤممها ؟ قال أو يصب الماء عليها من وراء الثوب ، أحب إلي من أن يؤممها .
قال محمد بن رشد : اختلف في غسل الرجل ذوات محارمه إذا لم يكن ثم نساء يغسلنها على أربعة أقوال ، أحدها : أنه لا يغسلها ويؤممها وهو قول أشه . والثاني أنه يصب الماء عليها صباً ولا يباشر جسدها بيده من فوق الثوب ولا من تحته ، وهو قول مالك في رواية أشهب هذه . والثالثة أنه يغسلها من فوق الثوب ، فلا يفضي بيده إلى جسدها ، وهو قول مالك في المدونة .و الرابع قول ابن حبيب إنه يغسلها - وعليها ثوب يصب الماء فيما بينها وبينه ، لئلا يلصق بجسدها فيصف بابتلاله عورتها ، وظاهره أنه يفضي بيده في غسله إياها إلى جسدها ، ومعنى ذلك - عندي - فيما ( عدا ما ) بين السرة إلى الركبة ، فإنه لا يفضي بيده إلى ذلك منها دون أن يجعل عليه خرقة ؛ إلا أن يضطر إلى ذلك - كما يفعله الرجل بفرج الرجل ، إذا غسله ؛ إذ لا يختلف في أن الفخذ والسرة من المرأة عورة ، ولا يحل أن ينظر إليه من عدا المرأة ممن لا يحل له الفرق باتفاق ؛ وتنظر إليه المرأة على القول بأن الفخذ ليس بعورة ، وكذلك يختلف أيضاً في غسل المرأة ذوي محارمها من الرجال - إذا لم يكن ثم رجال يغسلونه ؛ فقال أشهب أنها تؤممه ولا تغسله . وقال في المدونة إنها تغسله ، ولم يشترط من فوق الثوب ؛ وقال ابن القاسم في سماع موسى بن معاوية أنها تغسله من فوق الثوب ؛ كما قال في المدونة في غسل الرجل ذات محرمه ، والأظهر ألا يغسل الرجل ذوات محارمه ، لقوله - عليه الصلاة والسلام - في

(2/247)


أمه استأذن عليها ، أتحب أن تراها عريانة - وأن يغسلنه ، لأن المرأة في نظرها إلى ذوي محارمها من الرجال ، كالرجل في نظره إلى الرجل ، فهذا تحصيل الاختلاف في هذه المسألة .
مسألة
وسئل عن النصراني يموت وله ابن مسلم ، أغسله ويكفنه ويشهد جنازته ؟فقال يغسله إلى النار ، أهل دينه أولى بذلك ؛ وما يعجبني أن يفعل ذلك ؟ قيل له فيمشي معه ؟ قال يمشي معه - يقول لا يضيع .
قال محمد بن رشد : وقع في بعض الروايات يقول لا يضيع ، وفي بعضها يقول لا يصنع ، والروايتان صحيحتان ، إن لم يخش عليه الضيعة فلا يمشى معه ، وإن خشي عليه الضيعة مشى معه - معتزلاً عن الحاملين له من أهل دينه ؛ وقد مضى تمام القول في هذه المسألة في رسم حلف بطلاق امرأته من سماع ابن القاسم .
مسألة
( قال ) : وسألته أيحمل الرجل لجنازة وينصرف ولا يصلي عليها ؟ فقال لا بأس بذلك .
قال محمد بن رشد : قد مضى القول في هذه المسألة في رسم القبلة ، ورسم شك في طوافه من سماع ابن القاسم - موعباً فلا وجه لإعادته .

(2/248)


مسألة
وسئل عن الذي يصلي على الجنازة أيرفع يديه مع كل تكبيرة ؟ فقال : ما سمعت في هذا بشيء لازم للناس ، وذلك حسن واسع كله أن يرفع يديه مع كل تكبيرة ، وأن يرفع يديه في التكبيرة الأولى .
قال محمد بن رشد : قوله ما سمعت في هذا بشيء لازم للناس ، صحيح لا اختلاف بين أهل العلم في أن رفع اليدين في الصلاة على الجنائز ليس بواجب ، ونما يتكلم في هذا على ما يستحب منه ؛ ففي المدونة أنه يرفع يديه في التكبيرة الأولى خاصة ، وفي أصل الأسدية أنه لا يرفع يديه لا في أول تكبيرة ولا فيما بعدها . وفي رواية ابن وهب عن مالك في المدونة : أنه يرفع في الأولى وفيما بعدها ، واستحب في هذه الرواية أنه يرفع في الأولى ، وخيره فيما بعد الأولى ، إن شاء رفع ، وإن شاء لم يرفع ، كل ذلك حسن واسع ؛ فوجه قوله إنه يرفع في الأولى - خاصة ، القياس على المشهور عنه في الصلاة أنه لا يرفع إلا في تكبيرة الإحرام ؛ ووجه قوله إنه يرفع في التكبيرات كلها ، أنه قاس سائر التكبيرات على التكبير الأول ، لاستوائهما في الوجوب ؛ وما في أصل الأسدية أنه لا يرفع في الأولى ولا فيما بعدها ، هو على ما فيبعض ورايات المدونة من كتاب الحج الأول من تضعيف رفع اليدين في تكبيرة الإحرام ، وعلى ما في سماع أبي زيد من كتاب الصلاة من إنكاره لذلك ؛ وقد مضى التكلم على ذلك كله في سماع أبي زيد المذكور ، وفي رسم يتخذ الخرقة لفرجه من سماع ابن القاسم من كتاب الصلاة أيضاً .
مسألة
قلت لأشهب : أرأيت الرجل الجنب يقتل شهيداً في المعترك ،

(2/249)


هل يغسل ويصلي عليه ؟ فقال : لا يغسل ولا يصلي عليه ، وإن كان جنباً قد ترك غسل من قد اجتمعت الأمة على غسله من موتى المسلمين ، وكذلك يترك غسل الجنب إذا كان شهيداً ، وقال ابن الماجشون مثل قول أشهب .
قال محمد بن رشد : وهذا كما قالا ، لأن غسل الجنابة من العبادات المتوجهة على الأحياء عند القيام إلى الصلاة ، قال تعالى : {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة} - الآية - إلى قوله سبحانه : {وإن كنتم جنباً فاطهروا} . فإذا مات الميت ارتفعت عنه العبادات من الصلاة والغسل لها وغير ذلك ، وغسل الميت إنم هي عبادة للأحياء تعبدوا ( بها ) فيه ؛ فهي واجبة عليهم على الكفاية بإجماع ، قيل وجوب السنن ، وقيل وجوب الفرائض ؛ ووجه احتجاج أشبه ، هو أنه يقول ملا سقط وجوب غسل الميت بالشهادة ، وقد كان واجبه وإن لم تكن به جنابة ، وجب أن يسقط بها - وإن كان جنباً ؛ إذ لا تأثير للجنابة فيما كان يلزم من غسله - لولا الشهادة ، وهو احتجاج صحيح من جهة القياس والنظر ، وقد جاء بذلك الأثر ؛ ذكر أهل العلم بالسير ، أن حنظلة بن أبي عامر الراهب ، كان قد ألم بأهله في حين خروجه إلى أحد ، ثم هجم عله من الخروج في النفير ، ما أنساه الغسل وأعجله عنه ؛ فلما قتل شهيداً ، أخير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأن الملائكة غسلته ؛ وروي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سأل امرأته ما كان شأنه ؟ فقالت : إنه كان جنباً وغسلت أحد شقي رأسه ، فلما سمع الصيحة خرج فقتل ؛ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : لقد رأيت الملائكة تغسله ، فسمي حنظلة الغسيل - وكان من الأوس ؛ روي أنها افتخرت على الخروج - وكانا يتنافسان ، فقالت الأوس

(2/250)


منا غسيل الملائكة ، ومنا من حمته الدبر : عاصم بن ثابت بن ( أبي ) الأفلح ، ومنا من أجيزت شهادته بشهادة رجلين خزيمة بن ثابت ، ومنا من اهتز العرش لموته : سعد بن معاذ ؛ فقال الخزرجيون : منا أربعة جمعوا القرآن على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم : زيد بن ثابت ، وأبو زيد ، ومعاذ بن جبل ، وأبي بن كعب .
- يريدون ولم يقرأه كله أحد منكم ، إذ قد قرأه كله جماعة من غير الأ ،صار ؛ منهم عبد الله بن مسعود ، وسالم مولى أبي حذيفة ، وعبد الله بن عمرو بن العاص . وغيرهم .
من سماع عيسى بن دينار من عبد الرحمان بن القاسم
من كتاب العرية
قال : وسئل عن الميت يغسل بالعشي فلا يكفن إلا من الغد ، أترى ذلك الغسل يجزئه ؟ قال : نعم ، أرجو أن يجزئه .
قال محمد بن رشد : الاختيار أن يكون غسل الميت عند ما يحمل ، فإن أخر حمله بعد غسله ، أو بات ، لم يعد غسله ؛ وإن خرج منه شيء

(2/251)


غسل مخرجه ، وموضعه من الثوب فقط ، حكاه ابن حبيب عن أصبغ وغيره ؛ وأما إن خرج منه شيء في حال الغسل ، فقد قال بعض العلماء ، إن خرج منه شيء بعد أن غسل ثلاثاً ، غسل خمساً ، فإن خرج منه شيء ، غسل سبعاً ؛ فإذا بلغ السبع ، لم يزد على ذلك ، وذلك مستحب غير واجب عنده - وبالله التوفيق .
ومن كتاب أوله بع ولا نقصان عليك
مسألة
وقال في المرأة تموت ولا مال لها ، على من ترى كفنها - وثم أبوها زوجها ؟ فقال : أما إن كانت بكراً فعلى أبيها ، وإن كانت متزوجة - وقد دخل بها زوجها فليس ذلك على أبيها ، ولا على زوجها ، إلا أن يطوعا بذلك ؛ ولو كان لها - ولد ، كان ذلك عليه .
قال محمد بن رشد : اختلف في وجوب كفن الزوجة على الزوج على ثلاثة أقوال ، أحدها : أنه لا يجب على الزوج مليئة كانت أو معدمة ، وهي رواية عيسى هذه ؛ والثاني : أنه يجب عله مليئة كانت أو معدمة ، وهو قول ابن الماجشون ؛ والثالث : أنه يجب إن كانت معدمة ، ولا يجب عليه إن كانت مليئة ، وهو قول مالك في رواية ابن الماجشون عنه ؛ فوجه القول الأول : أن النفقة إنما كانت واجبة عليه بحق المعاوضة والاستمتاع ، وذلك ينقطع بالوفاة ؛ ووجه القول الثاني ، أن الكفن تابع للنفقة ، لأن ذلك من توابع الحياة ؛ وأما القول الثالث : فهو استحسان ليس على حقيقة القياس ؛ وكذلك اختلف في وجوب كفن الابن الصغير ، أو الزمن الذي لا مال له على الأب ؛ وفي وجوب كفن الأب المعدم على الابن ، فقيل إن ذلك عليهما كالنفقة ، لأنه من توابع الحياة ، وهو رواية عيسى هذه ، وقول ابن الماجشون ، وروايته عن مالك ؛ وقيل إن ذلك لا يجب عليهما ، إذ لست النفقة في ذلك ثابتة ، لأن نفقة الأب تحدث ، ونفقة الابن تزول ، وهو قول سحنون ؛ وقيل إنه يجب على الأب كفن ابنه الصغير ، ولا يجب على الابن كفن أبيه ، وهو أحد قولي سحنون ؛ ولا اختلاف في وجوب كفن العبد على سيده .

(2/252)


مسألة
وسألته هل تكفن المرأة في الثياب المصبوغة ؟ قال : نعم . وتكفن في الورس ، والزعفران ، وغير ذلك من الألوان ، إلا أن مالكاً كره المعصفر ، إلا ألا يجد غيره .
قال محمد بن رشد : هذا مثل ما في المدونة ، لأنه ( إذا ) كره المعصفر للمرأة ، فهو للرجل أكره ، لأنه من الزينة ؛ وأجازه مالك في رواية علي بن زياد عنه للرجل والمرأة ، وأجازه ابن حبيب للمرأة دون الرجل ؛ وأما الورس والزعفران ، فهو جائز للرجل والمرأة ، لأنه من الطيب ، وليس من الزينة ، - قاله ابن حبيب في الرجل إذا غسل وإن لم يخرج منه لونه - وبالله التوفيق .
ومن كتاب لم يدرك من صلاة الإمام إلا الجلوس
مسألة
وسئل عن الرجلين يؤتي بجنازتيهما ، والواحد أحسن حالاً والآخر أسن ، أيهما يقرب إلى الإمام ؟ قال الأحسن حالاً ، وقال سحنون مثله .
قال محمد بن رشد : هذا مما لا اختلاف فيه أحفظه ، أن الأحسن حالاً يقدم على الأسن ، وإنما يقدم الأسن على من هو أدنى منه سناً إذا

(2/253)


استوت حالتهما في الفضل ، والأعلم يقدم على الأفضل ، وهذا من ناحية التقديم للإمامة - وبالله التوفيق .
ومن كتاب العشور
مسألة
وسئل ابن القاسم عن قول عمر عند موته : ولا تجعلوا علي حجراً ؟ قال : ما أظن معناه إلا من فوق على وجه ما يبني على القبر بالحجارة . وقد سألت مالكاً عن القبر يجعل عليه الحجارة يرصص بها عليه بالطين ؟ وكره ذلك ، وقال : لا خير فيه ؟ وقال : لا يجبر ولا يبني عليه بطوب ولا بحجارة .
قال محمد بن رشد : البناء على القبر على وجهين ، أحدهما : البناء على نفس القبر ، والثاني : البناء حواليه ؛ فأما البناء على نفس القبر ، فمكروه بكل حال ؛ وأما البناء حواليه ، فيكره ذلك في المقبرة من ناحية التضييق فيها على الناس ، ولا بأس به في الأملاك - وبالله التوفيق .
ومن كتاب النسمة
مسألة
وسئل ابن وهب عن ميت دفن فسهوا عن الصلاة عليه ، ولم يذكروا إلا بعد ما أردوا الانصراف عنه ؛ قال قد سمعت من يقول في هذا : إنه لا ينبش ولكن يصف على قبره حتى يصلي عليه ، ويكبر عليه أربع تكبيرات بإمام ؛ فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سأل عن مسكينة سوداء كانت تقوم على المسجد ، فقيل له : يا رسول الله توفيت البارحة ودفناها ، فكرهنا أن نخرجك ليلاً ؛ قال : فانطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمن معه حتى وقف على قبرها ،

(2/254)


فصلى عليها وكبر أربع تكبيرات .قال عيسى : أرى أن ينبش إذا كان بحضرة ذلك - ويصلي عليهن وإن فات صلى على قبره . قال ابن القاسم - مثله .
قال محمد بن رشد : اختلف فيمن دفن ولم يصل عليه : فقيل إنه يخرج ويصلي عليه ما لم يفت ، فإن فات صلي على قبره ، وهو قول ابن القاسم ، وابن وهب ؛ وقيل إنه يخرج ما لم يفت ، فإن فات ( ترك ولم يصل ) على قبره ؛ لئلا يكون ذريعة إلى الصلاة على القبور ، وهو قول أشهب ، وسحنون ، ومثله في المبسوط لمالك ؛ واختلف بماذا يكون الفوت على ثلاثة أقوال : أحدها ، أنه يكون بأن يهال عليه التراب بعد نصيب اللبن ، أو دون اللبن ، وهو قول أشبه . والثاني : أنه يكون بالفراغ من الدفن ، وهو قول ابن وهب - ههنا . والثالث : أنه يكون بان يخشى عليه التغيير ، وهو قول سحنون ، وقول عيسى ، وروايته عن ابن القاسم - هنا ؛ وإنما يصلي على القبر عند من رأى ذلك - ما لم يطل ذلك حتى يذهب الميت بفناء أو غيره ؛ وذهب أبو حنيفة إلى أنه لا يصلي على قبر بعد ثلاث ، قال : لأنه يصير بعد ثلاث إلى حد لا يصلي عليه ، وقد لا يتغير الميت إلى أبعد من هذه المدة ؛ مع أنه قد روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى على قبر بعد ثلاث .
مسألة
وسئل ابن القاسم عن امرأة نصرانية قال لها ختنها : أسلمي يا فلانة حتى نغسلك ، ونصلي عليك . فقالت : نعم ، وأمرت

(2/255)


بغسلها ثيابها ، وقالت : كيف أقول ؟ قال : قلت لها قولي : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً عبده ورسولهن وأن عيسى بن مريم روح الله وكلمته ؛ فقالت : كل هذا ثم ماتت ، فدفنت في قبور النصارى ؛ فقال ابن القاسم : اذهب فانبشها ثم اغسلوها وصلوا عليها ، إلا أن تكون قد تغيرت .
قال محمد بن رشد : وهذا كما قال ، لأن الكفار يعذبون في قبورهم ، وهي تتأذى من أجل ذلك لمجاورتهم ؛ فواجب أن تنبش وتحول إلى مقابر المسلمين ، وبالله تعالى التوفيق .
من سماع يحيى بن يحيى من ابن القاسم
من كتاب أوله يشتري الدور والمزارع
وسألته عن الميت ينبش ، أيغسل ويكفن ؟ قال :لا يعاد غسله ، ولكن يكفن ويدفن ؛ قلت : أواجب على أهله أن يكفنوه ، أم يستحسن ذلك ؟ وإن ترك لم تر به بأساً ؟ قال : بل واجب عليهم أن يكفنوه . قلت : أفمن رأس المال بمنزلة الكفن الأول ؟ قال : نعم ، قلت : وإن كان عليه دين يحيط بماله ، بدئ أيضاً كما يبدئ الكفن الأول ، قال نعم . قلت : أفيصلي عليه الثانية ؟ قال : الصلاة الأولى تجزئه .
وسئل سحنون عن رجل مات وكفته أهله ، فدفن وقسم ماله ، ثم وجد الميت فوق الأرض منبوشاً ، ليس عليه أكفانه ؛ هل يكون على

(2/256)


ورثته أن يكفنوه مرة أخرى من رأس المال ؟ أو من الثلث إن كان الميت أوصى بثلث ماله ؟ فقال : ليس على أهله أن يكفنوه - مرة أخرى ، إلا أن يتطوعوا ، ويدفن من غير كفن ، ولا يكفن من ثلث ولا غيره ؛ لأنه قد كفن وصلي عليه على سنة الإسلام .
قال محمد بن رشد : ذهب بعض أهل النظر إلى أن قول سحنون مبين لقول ابن القاسم ، لأنه تكلم على أن المال قد قسم ، وكلم ابن القاسم على أنه لم يسقم ؛ وذلك بعيد من جهة اللفظ والمعنى ، أما بعده من جهة اللفظ ، فهو أن القسمة ذكرت في السؤال - ولم يعلل بها في الجواب ، وإما علل بأنه قد كفن وصلي عليه على سنة الإسلام ؛ وأما بعده من جهة المعنى ، فهو أن الحقوق الطارئة على الشركة لا يسقطها قسمة المال ، فهو اختلاف من القول ؛ فعلى مذهب ابن القاسم ، على الورثة أن يكفنوه من بقية المال - قسم أو لم يسقم ، وذلك بين من قوله : إنه بمنزلة الكفن الأول ، يبدأ على الدين ، وعلى مذهب سحنون لا يلزم الورثة أن يكفنوه - ثانية مما بقي من التركة ، قسمت أو لم تقسم ؛ ووجه القول الأول أن الكفن في ضمان الورثة - وإن دفن الميت به ، إذ ليست ممن يقبض لنفسه ، ولا يجوز لها ؛ وعلى الورثة أن يشتروه بماله من الكفن قبل الدفن وبعده - إذا عري ، إذ ليست حرمته بعد الدفن بأدنى من حرمته قبلهن فهو بمنزلة ما لو استحق من عليه بعد أن دفن ؛ أو بمنزلة ما لو سرق من عليه ، أو اختلس قبل الدفن ؛ ووجه القول الثاني أنه بالدفن يخرج من ضمان الورثة ، ويحصل الميت في حكم القابض له بإدخاله به في قبره - وإن كان ممن لا يصح منه القبض ، لأنه بينه ؛ ألا ترى من سرق منه يقطع ، وأن الوصي إذا جهز اليتيمة من ماله أو أورده بيت بنائها ، يبرأ من الضمان ، وتحصل اليتيمة قابضة لذلك ، وإن كانت ممن لا يصح منها القبض ، إذ ذلك أكثر المقدور عليه - وبالله التوفيق .

(2/257)


ومن كتاب المكاتب
( مسألة )
وسألته هل يصلي على المنبوذ إذا مات قبل أن يعرف الصلاة ، وفي البلد الذي طرح فيه يهود ، ونصارى ؛ قال : نعم . يصلى عليه ، ولا تترك الصلاة عليه ، لما في بلده من اليهود والنصارى ؛ لان السنة ألحقته بأحرار المسلمين في تمام عقله على قاتله - وهو حر لا سبيل لأحد عليه ؛ قال وترك أخذه أحب إلي ، إلا أن يخشى عليه الهلاك إ ، ترك .
قال محمد بن رشد : وهذا كما قال ، لأنه على دين من التقطه من المسلمين ، زاد ابن حبيب - وإن وجد في كنيسة ، وإن كان عليه زي النصارى - إذا كان في جماعة المسلمين ؛ وهو معنى ما في كتاب تضمين الصناع من المدونة ، قال : وذلك بخلاف الكبير يوجد ميتاً ، أو الغريب يموت ولا يعلم أنه كان مسلماً ؛ فإنه لا يصلي عليه - وإن كان مختوناً ، لأن النصارى قد يختتنون ؛ وفي سماع عبد الملك عن ابن وهب أنه يصلي عليه إن كان مختوناً - وبالله التوفيق .
ومن كتاب الأقضية
مسألة
قال يحيى وسألت ابن القاسم في الكفن أيجعل فيه عمامة ، أو قيمص ؟ أو هل يؤزر الميت ؟ فقال : أحب ما كفن فيه الميت إلينا ثلاثة أثواب بيض ، وكذلك كفن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يجعل فيه قميص ، ولا عمامة ، ولا يؤزر ؛ ولكن يدرج فيهن

(2/258)


إدراجاً ؛ قلت له : فالمرأة أتدرج درج الرجال ؟ فقال : أحب إلي أن تؤزر وتخمر ، وذلك سواء ، ثلاثة أثواب تدرج فيهن لمن وجد لذلك سلعة .
قال محمد بن رشد : هكذا وقعت هذه الرواية هنا لابن القاسم ، والمعروف من مذهبه وروايته عن مالك في المدونة ، وغيرهما ، أن من شأن الميت أن يعمم ؛ وقد وقع في العشرة في الكتاب الذي أوله يغتصب الأرض براحاً ؛ قال يحيى : وسألت ابن نافع عن الكفن - المسألة إلى آخرها على نصها - والله أعلم - أنها من قول ابن نافع ، لا من قول ابن القاسم - وبالله تعالى التوفيق .
من سماع
موسى بن معاوية من ابن القاسم
قال موسى بن معاوية : حدثنا جرير ، عن مسعر ، قال : كان يقال إذا أدخل الميت القبر ؛ قال له القبر : ماذا أعددت لبيت الوحدة ،وبيت الوحشة ؟ وبيت الدود ؟ قال موسى . وحدثنا وكيع ، عن مالك بن مغول ، عن عبيد الله بن عمير الليثي ، عن أبيه ، قال : إن القبر ليبكي ( ويقول ) : أنا بيت الدود ، وبيت الوحشة ، وبيت الوحدة! .
قال محمد بن رشد : هذا على المجاز لا على الحقيقة ، أي لو كان القبر ممن يصح منه البكاء والكلام ، لبكى وقال هذا القول ؛ وهذا مثل قوله عز وجل : {جداراً يريد أن ينقض} ، والجدار لا تصح منه الإرادة ، ومثل قول عنترة :

(2/259)


وشكا إلى بعبرة وتحمحم
- يعني فرسه .
ومثل قول الحارثي :
يريد الرمح صدر أبي براء ... ويرغب عن دماء بني عقيل
ومثل قول غيره :
وعظتك أحداث صمت ... ونعتك أزمنة خفت
وأرتك قبر كفي القبو ... ر وأنت حي لم تمت
وتكلمت عن أوجه تبلى ... وعن صور سبت
وهذا كثير في كلام العرب وأشعارهم .
مسألة
قال موسى : وسئل ( ابن القاسم ) عن المرأة ذات الشعر تغسل كيف يصنع بشعرها : أيظفر ؟ أم يفتل ؟ أم يرسل ؟ وهل يجدل بين الأكفان ؟ أم يعقص ويرفع مثل ما ترفعه الحية بالخمار ؟ وكيف صفة غسلها وكفنها ؟ وكيف يصنع بخمارها وشعرها وأكفانها ؟ قال ابن القاسم لم يكن للميت في غسله حد عند مالك ، إلا أنه يغسل

(2/260)


وينقي ؛ وأما الشعر ، فليفعلوا فيه كيف شاؤوا ، وأما الظفر فلا أعرفه .
قال محمد بن رشد : وهذا كما حكي ابن القاسم عن مالك : أنه لا حد عنده في غسل الميت – يريد في عدد الغسلات ، وإنما الحد في ذلك عنده الإنقاء ؛ ويستحب فيه الوتر ، وأدناه ثلاث ؛ قال – صلى الله عليه وسلم – في ابنته ؟ اغسلنها ثلاثاً ، أو خمساً ، أو أكثر من ذلك – إن رأيتين – الحديث . كما أنه لا توقيت عنده في الوضوء ، وإنما الحد فيه الإسباغ ، ولأعداد مستحبة ؛ وقوله في الظفر أنه لا يعرفه – يريد أنه لا يعرفه من الأمر الواجب ، وهو – إن شاء الله – حسن من الفعل ؛ وروي عن أم عطية قالت : توفيت ابنة لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – فلما غسلناها ضفرنا شعرها ، فجعلناه ثلاث ضفائر : ناصيتها ، وقرنيها ، ثم ألقيناها من خلفها . وقد روي عن بكر بن عبد الله المزني أنه سأل أعلم بيت من قريش بالغسل عن صفة الغسل ، فقالوا نصنع بالميت ما نصع بالعروس ، غير أنه لا يخلق ولا ينور – والله تعالى أعلم .
مسألة
وسئل ابن القاسم عن الرجل يموت ، هل تغسله أمته ؟ أو مدبرته ؟ أو مكاتبته ؟ فقال ابن القاسم : لا أرى بأساً أن تغسله أمته ، أو مدبرته ، كل من كان يحل له ، مثل المرأة قال لي مالك في المرأة تغسل زوجها ، وأما المكاتبة فلا .
قال محمد بن رشد : وهذا - كما قال - إنه جائز أن يغسل الرجل

(2/261)


أمته أو مدبرته ، كما يجوز ذلك لامرأته ، لأنهن حلائله ؛ وهذا إذا أذن في ذلك أولياؤه . وأما إذا لم يأذنوا في ذلك ، وأردوا أن يلوه بأنفسهم ، فذلك لهم في الأمة ، والمدبرة قولاً واحداً ، إذ لا حق لهما في ذلك معهم ، وأما الزوجة فهم أحق بذلك منها ، لا يقضي لها عليهم بغسله ؛ وقد قيل إنه يقضي لهم عليها بغسله ؛ وأما الرجل فإنه يقضي له بغسل زوجته الحرة ، والأمة ؛ وقيل لا يقضي له بغسل زوجته - إذا كانت أمة ؛ وأهل العراق لا يجيزون للرجل غسل زوجته - لانقطاع ما بينهما بالموت ،ولا يجيزون للمرأة غسل زوجها - إذا نقضت عدتها منه بوضع حمل إن كان بها ، وهو بعيد ؛ إذ لو انقطع ما بينهما بالموت ، كما ينقطع بالطلاق البائن ، لما توارثا ؛ ويكره مالك للرجل أن يغسل زوجته إذا تزوج أختها ، وبالله التوفيق .
مسألة
وسئل ابن القاسم عن الرجل المسلم يموت وليس معه من يغسله إلا أمة ، أو أخته ، أو امرأته ، أو من ذوات المحارم ؛ وليس معهن رجل إلا مشرك ؛ وهل يغسل الرجل أمه ، أو أخته ، أو ذات رحم محرم منه ؟ فقال ابن القاسم : يغسله ذوات محارمه من النساء من فوق الثوب : أمه أو ابنته أو أخته ؛ وأما المرأة فإنها تستر عورة أبيها ، وأخيها ؛ والمرأة تغسل زوجها ، والزوج يغسل امرأته في الحضر والسفر ، وهو قياس قول مالك ؛ وأما الحضر والإقامة فهو قول مالك ، قال : تغسل المرأة زوجها والزوج يغسل امرأته .

(2/262)


قال محمد بن رشد : قد مضى في رسم لجنائز والصيد والذبائح من سماع أشهب - تحصيل القول في غسل ذوي المحارم بعضهم بعضاً ، ومضى في المسألة التي قبل هذه القول في غسل أحد الزوجين صاحبه ، فلا فائدة في إعادته .
مسألة
وسئل عن إمام جنازة صلى عليها وهو جنب لم يشعر بجنابته حتى دفنت ، وكيف إن علموا قبل أن تدفن - بجنابته بعد دخولها اللحد ؟ أترد للصلاة عليها ؟ قال ابن القاسم : أرى صلاتهم جائزة ولا تعاد ، ألا ترى أن المكتوبة لو أن رجلاً صلى بهم جنباً ناسياً ، ثم سلم فعلم ، أجزأت عنهم صلاتهم ؛ فكذلك الجنازة إذا صلي عليها ، أجزأت عنهم صلاتهم عليها .
قال محمد بن رشد : قياسه صلاة الجنازة في هذا على صلاة الفريضة صحيح ، لا إشكال في صحته ، فيدخل في صلاة الجنائز من الخلاف ما في صلاة الفريضة ؛ لأن أهل العراق يقولون : إنها تبطل على المأمومين ، كما بطلت على الإمام ، وهو القياس على القول بأن صلاة المأمومين مرتبطة بصلاة الإمام ؛ وحجة مالك حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إذ صلى الصبح بالناس - جنباً ، فأعاد ولم يأمر الناس بالإعادة ؛ وله وجه من النظر مع الاتباع ، وهو أن الإمام إذا صلى بالناس جنباً ، أو على غير وضوء - ولم يعلم بذلك ، فقد سقط الفرض عنه وعنهم ؛ لقوله - عليه الصلاة والسلام : "تجاوز الله لأمتي عن الخطأ والنسيان" - الحديث . فإن ذكر بعد ذلك ، وجبت عليه الإعادة دونهم ، لأنهم صلوا بطهارة ، إذ ليس سهو الإمام عن الطهارة سهواً لهم عنها ،

(2/263)


فيجب عليم الإعادة ، وإنما يكون سهو الإمام سهواً لمن خلفه ، أو إن لم يكن منهم سهو إذا سها عما يحمله عنهم ، كالقراءة ؛ فلهذا وجبت الإعادة على المأمومين إذا سها الإمام عن القراءة وإن قرأوا هم ، فإذا صلى الإمام بقوم على غير طهارة - وهو لا يعلم ثم علم ، أعاد ولم يعيدوا ؛ لأن الصلاة فرض على الأعيان . وإذا صلى على الجنازة - وهو على غير طهارة ثم علم ، جازت الصلاة ، ولم تجب إعادتها عليه ولا عليهم ؛ أما هم ، فمن قبل إنهم صلوا على طهارة ؛ وأما هو ، فمن قبل أن الفرض قد سقط عنه بصحة صلاتهم ؛ لأنها من فروض الكفاية ، ولو صلى عليها هو وهم على غير طهارة ثم علموا ، لوجب أن تعاد الصلاة عليها .
مسألة
وسئل ابن القاسم عن إمام جنازة صلى على جنازة متوضئاً - ورجل خلفه على غير وضوء ، ثم ذكر قبل دفنها ، أو بعد ما دفنها . قال ابن القاسم : ليس عليه شيء ، فصلاته مجزئة عنه .
قال محمد بن رشد : أما قوله ليس عليه شيء ، فصحيح بين ، إذ لا يصلي على من قد صلي عليه ، وقد مضى ذلك في رسم لجنائز والصيد والذبائح من سماع أشهب ؛ وأما قوله فصلاته مجزئة عنه ، فمعناه أنه ليس عليه إعادتها ، إذ لا يصلي على من قد صلي عليه ، وأن له أجر صلاته إذ لم يعلم بكونه على غير وضوء ؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم : تجاوز الله لأمتي عن الخطأ والنسيان ، وعما استكرهوا عليه . لأن صلاة الجنازة على غير وضوء تصح ، فهو في صلاته على الجنازة بغير وضوء ، كمن أوتر بغير وضوء فلم

(2/264)


يعلم حتى صلى الصبح ، فيقال إنه يجزئه وتره ؛ بمعنى أنه ليس عليه قضاؤه - وبالله التوفيق .
مسألة
وسئل عن إمام جنازة قهقه في صلاته ، هل عليه وعلى من خلفه إعادة الصلاة ، وكيف به إن أحدث وليها ؟ هل يجوز له أن يستخلف على ما بقي من الصلاة ، أم يعيدون الصلاة ؟ أم يمكثوا قياماً حتى يذهب وليها - إن كان هو الإمام فيتوضأ ويرجع فيصلي بإعادة الصلاة ؟ وكيف إن رعف فذهب يتوضأ ، أله أن يستخلف من يتم بهم بقية صلاتهم ؟ وكيف إن ذهب ولم يستخلف : كيف يصنع الناس ، أيقدمون رجلاً منهم ؟ أم لا يحدثون شيئاً حتى يرجع الولي أو الإمام ؟ وكيف إن لم يكن ( لها ولي ولا إمام جماعة ؟ قال ابن القاسم : لا نبالي كان لها ولياً أو لم يكن لها ولياً إن أحدث أو رعف ، فينبغي أن يقدم رجلاً ) ليتم بهم بقية الصلاة ؛ وإن لم يقدم أحداً وانصرف وجهل ذلك ، تقدم رجل فأتم بهم بقية صلاتهم ؛ وأما الذي قهقه ، فإنهم يقطعون جميعاً ويبتدئون الصلاة من أولها ، لأن الإمام قطعها ، وكذلك لو أحدث متعمداً ابتدؤوا الصلاة عليها .
قال محمد بن رشد : وهذا صحيح على ما قاله ، لأن الصلاة على الجنائز صلاة ، فيقطعها ما يقطع الصلاة ؛ ويجب على الإمام من الاستخلاف فيها ، ما يجب عليه من الاستخلاف في الصلاة .
مسألة
وسئل ابن القاسم عن قوم جهلوا القبلة فصلوا على جنازتهم

(2/265)


إلى غير القبلة ، ثم علموا بذلك قبل دفنها ، أو بعد دفنها ؛ أيعيدون الصلاة عليها ؟ قال ابن القاسم : إن دفنوها فلا شيء عليهم ، وإن لم يدفنوها ، فإني أستحسن أن يصلي عليها ، ولست أرى ذلك عليهم بواجب .
قال محمد بن رشد : أشهب يرى إعادة الصلاة عليها ما لم تدفن ، وسحنون لا يرى ذلك ؛ واستحباب ابن القاسم أن تعاد الصلاة عليها ما لم تدفن ؛ راجع إلى إسقاط وجوب الإعادة مثل قول سحنون ، فوجه إعادة الصلاة عليها ما لم تدفن ، أن من صلى إلى غير القبلة إنما يعيد في الوقت ، فجعل حضور الجنازة كحضور الوقت ، ودفنها كفواته ؛ ووجه قول من لم ير الإعادة ، أن إعادة الصلاة في الوقت ، إنما هي لإدراك فضيلة الوقت ، فلما لم يكن للصلاة على الجنازة وقت معين ، كان السلام منها كخروج وقتها ، كما قال ابن القاسم فيمن طاف بثوب نجس ، فعلم بذلك بعد إكمال الطواف ، أنه لا إعادة عليه ، كمن صلى بثوب نجس فلم يعلم حتى خرج الوقت ؛ وقيل تعاد الصلاة عليها - وإن دفنت ، ما لم ينقض النهار - إن كان صلي عليها نهاراً ، أو الليل - إن كان صلي عليها ليلاً ، وهو قول ابن نافع ؛ فجعل بقية النهار أو الليل لها كالوقت القائم للصلاة المفروضة ، فإن ترك الإعادة عليها حتى تدفن على قول من يرى أنها تعاد ، تخرج ذلك على قولين : أحدهما أن الصلاة قد مضت فلا تعاد ، والثاني أن إعادتها قد وجبت ، فيصلي عليها في قبرها ؛ أو تخرج ما لم يخش عليه التغير ، كمن دفن دون أن يصلي عليه .
مسألة
وسئل عن القوم ينسون الصلاة على الجنازة فلا يذكرون حتى تدفن ، أتنبش ؟ أم يصلي عليها في قبرها ؟ ويؤمهم وليها في الصلاة ؟ قال ابن القاسم إن كان عندما دفنوها ، فأرى أن تخرج ويصلي عليها ؛

(2/266)


وإن خافوا من ذلك تغييراً ، صلوا عليها في قبرها ؛ وسئل ابن القاسم عن الميت يجهل القوم الصلاة عليه فيدفنوه ولم يصلوا عليه ولم يغسل ، فيأتي قوم من المسلمين فيخبرون بذلك ساعتئذ ؛ قال ابن القاسم إن كان بحدثان أمره لم يتغير ، ولم يخافوا عليه أن يكون قد دخله غير في قرب ذلك وحدثانه عندما دفنوه ؛ رأيت أن يخرج ويغسل ويصلي عليه ، وإن خافوا أن يكون قد تغير ، رأيت أن يصلوا على قبره ويتركوه .
قال محمد بن رشد : ترك الغسل ، والصلاة على الميت أو الغسل دون الصلاة ، أو الصلاة دون الغسل - جهالة أو نسياناً ، سواء في وجوب الحكم في ذلك ؛ لأن الصلاة لا تجزئ دون غسل ،فترك الغسل كترك الصلاة ؛ وقد مضى تحصيل القول في ذلك في رسم النسمة من سماع عيسى ، فلا معنى لإعادته .
مسألة
وسئل ابن القاسم عن إمام جنازة صلى عليها ، فذكر بعدما دخل في الصلاة ، أن عليه صلاة نسيها ؛ كيف يصنع ؟ أيمضي في الصلاة ولا يعيدها - وتجزئ الذين معه ؟ أو يقطع ويقضي ما نسي ثم يصلي على الجنازة ؟ وهل تحبس الجنازة عليه - إن كان إمام المصر ، أو ولي الميت ، أو ممن يبصر السنة إن كان مع جهال لا يبصرون السنة ، حتى يصلي ما نسي ثم يعود فيصلي على الجنازة ؟ وكيف الأمر فيه إن خيف على الجنازة الفساد ؟ قال ابن القاسم يمضي في الصلاة على الجنازة ولا يقطع .

(2/267)


قال محمد بن رشد : إنما قال إنه يمضي في الصلاة ولا يقطع ، بخلاف الإمام يذكر صلاة نسيها ، أنه يقطع ويقطعون ، أوي قطع ويستخلف من يتم بهم الصلاة – على اختلاف قول في ذلك ؛ لأن الترتيب فيما قل من الصلوات لازم ، ولا ترتيب فيما بين صلاة الفريضة ، والصلاة على الجنازة ؛ ومثل قول ابن القاسم هذا حكى ابن حبيب في الواضحة عن ابن الماجشون ، وأصبغ ، ولم يذكر في ذلك اختلافاً ؛ ولا فرق بين أن يكون في خناق من وقت الصلاة التي نسيها ، أو لا يكون في خناق من وقتها ، وذلك خلاف لأصله ؛ والذي يأتي فيها على أصله ، أني خرج ويستخلف إذا كان في خناق من وقت الصلاة التي ذكرها .
مسألة
وسئل ابن القاسم عمن أقيد منه في قصاص ، أيصلي عليه الإمام ؟ وعن الذي يقتله الإمام في المحاربة والحرابة ، أيصلي عليه الإمام ويغسل ؟ وكيف به إن رأى الإمام صلبه ، أيقتله ويغسله ويصلي عليه ، أم لا ؟ وكيف الأمر فيه في القتل والصلب ، أيصلب حياً ثم يقتل ويصلي عليه مصلوبا ؟ أم لا يصلي عليه على حال ؟ قال ابن القاسم : أما كل من قتل بالسيف أو قوداً ، وما قتل به من خنق أو غيره ، فإنه يغسل ويصلي علي ؛ وأما السلب فإن سألنا مالكاً عنه ، فقال ما سمعت فيه بشيء ، وما علمت أنه كان من عمل من مضى ؛ قال مالك ولقد صلب عبد الملك بن مروان الحارث الذي تنبأ وطعنه هو بيده ، قال ابن القاسم ولم يصلبه إلا حياً ؛ قال مالك وأرى اجتهاد الإمام يسعه في ذلك على المحارب إذا أراد أن يقتله ويصلبه ، أو يصلبه حياً ؟ وسعة ذلك على أشنع ذلك ، يريد على قدر جرمه ؛ قال ابن القاسم فإن قتل قبل أن يصلب ، رأيت أن يصلي عليه ثم يصلب ؛ وأما الذي يصلب حياً فإني لم أسمع فيه بشيء ، قيل لسحنون : فإذا

(2/268)


صلبه الإمام حياً وقتله في خشبته كيف يصلي عليه ؟ قال ينزل ويكفن ويصلي عليه أهله ؛ قلت ولا يعاد في الخشبة لما يريد الإمام من شنعة ذلك من فعله ، ونكالاً لغيره ؛ فقال لا أرى ذلك ، وفيما فعل به ما يجزئ ، وأرى إذا صلى عليه أن يدفن ؛ وقول مالك يجزئه من هذا كله يصلي على كل من قتله الإمام .
قال محمد بن رشد : سأله عن صلاة الإمام عن الذي يقتله في قود ، أو على حرابة ؛ فلم يجبه على ذلك ، ومذهبه وروايته عن مالك ، أنه لا يصلي عليه ، ويصلي عليه أهله والناس ؛ قيل على سبيل الردع والزجر ، كما يكره له ولمن سواه من أ÷ل الفضل - الصلاة على أهل الكبائر والشر ؛ وقيل إنما لم يصل عليه الإمام ، من أجل أنه منتقم لله بقتله ، فلا يكون شافعاً إليه بالصلاة عليه ؛ والتأويل الأول صحيح في المعنى ، إلا أنه لا يسعد قوله لتفرقته فيه بين القتل وتغيره ، وهذا أسعد به ؛ إلا أن فيه نظارً ، إذ لا يمنع أن ينتقم لله منه بما شرعه من القتل في الدنيا ، ويشفع له في ألا يعاقبه في الدار الأخرى ؛ وقد روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى على الجهنية المرجومة . وذهب إلى ذلك محمد ابن عبد الحكم ، وقال ابن نافع يصلي الإمام على من قتله في قصاص ، أو حد من الحدود ؛ وليس لترك صلاة الإمام عليه وجه ، ولا فرق بينه وين غيره ؛ ويحتمل أن يفرق على قول محمد بن عبد الحكم بين المرجوم ، والمقتول في حرابة أو قود ، فإن الرم كفارة للزنا بإجماع ، وليس القتل في القود والحرابة بكفارة للذنب ، بدليل قوله تعالى : {ذلك لهم خزي في الدنيا ، ولهم في الآخرة عذاب عظيم} . ولا اختلاف في أن المقتول في حد أو قود يصلي

(2/269)


عليه الناس ، إذ لا يخرج بما اجترمه مما أوجب عليه القتل عن الإسلام ، لا سيما وقد قيل إ ، القتل كفارة له ؛ وأما المصلوب ، فقيل إنه يقتل ثم يصلب ، وهو قول أشهب ؛ وقيل إنه يصلب حياً ثم يقتل في الخشبة ، وهو قول ابن الماجشون ؛ وجعل ابن القاسم الإمام مخيراً في ذلك باجتهاد على قدر ما رأى من جرمه وقول ابن الماجشون أظهر ، لأن الله إنما خير في صفة قتله ، ولو كان إنما خير في صلبه بعد قتله ، لقال : أن يقتلوا ثم يصلبوا .
فإذا قتل قبل أن يصلبن صلى الله عليه قبل أن يصلب ؛ وأما إذا صلب حياً ،فقيل إنه لا يصلي عليه ؛ وقيل إنه يصف خلف الخشبة ويصلي عليه ؛ اختلف في ذلك قول ابن الماجشون ، وقيل إنه ينزل عن الخشبة ويصلي عليه ويدفن ، ولا يعاد في الخشبة ؛ وقيل بل يعاد فيها ليذعر بذلك أهل الفساد ، اختلف في ذلك قول سحنون –وبالله التوفيق .
مسألة
وسئل ابن القاسم عن أناس ثاروا على خارجي ، فظفر وقاتل أولئك الذين ثاروا عليه ، فقتل بعض أصحابه وقتل من أولئك الذين ثاروا عليه وليس فيهم من يرى أنه أراد بصيرة ولا ديناً أكثر من طلب الدنيا ؛ أيصنع بقتلاهم ما يصنع بالشهداء ؟ أم يغسلون ويصلي عليهم ؟ أم ليس على من لم يهو هواهم ولم يشهد معهم - أن يغسلهم ، ولا يصلي عليهم ؟ وأنهم يقتتلون بين أحياء المسلمين ، فيكون بين الفئتين قتلى ؛ هل يجب غسلهم ودفنهم على أصحاب

(2/270)


كل قرية ؛ أم على من سمع ذلك أو رآهم من أهل ذلك المحوز أن يذهبوا فيغسلوهم ويصلوا عليهم ؟ أم يصنع بهم ما يصنع بالشهداء ؟ قال ابن القاسم ليس هؤلاء مثل الشهداء ، ويغسلون جميعاً الظالم والمظلوم ،ويصلى عليهم ؛ وأما دفنهم ، فإني أرى ذلك من الحق أن يدفنوا جميعاً ولا يتركوا ، لأنهم من المسلمين ،يغسلون ويصلى عليهم ويدفنون ؛ وأرى للسلطان أن يواريهم ولا يكره أحداً على ذلك ، وقد سئل مالك عن النصراني يموت مع المسلمين ، فقال يحفر ويوارى للذمة ،فكيف للمسلمين! وسئل ابن القاسم عن طائفتين من الخوارج مثل الحرورية ، والقدرية ، ونحوهم ، يقتتلون فيقتل من الفريقين قتلى ، هل يجب على من بقي من الطائفتين دفن قتلاهم ، والصلاة عليهم ؛ وهل يدفنون بدمائهم كالشهداء ، أو كيف بهم إن تركوهم ولم يدفنوهم ؟ هل يجب على من كان قريباً منهم دفنهم ، والصلاة عليه ؟ قال ابن القاسم يغسلون ويصلى عليهم ، وعلى من كان قريباً منهم أن يواريهم ويغسلهم ويصلي عليهم ، وليس بواجب ، ولكني استحسنه ؛ وسئل ابن القاسم عن الطائفتين من المسلمين يقتتلان فيقتل بينهما قتلى ، أيصلي عليهم أم لا ؟ وهل يدفنون بدمائهم ، أم يغسلون ؟ وكيف إن كانت إحداهما باغية والأخرى عادلة ؟ قال وجه ما سمعنا من مالك أنه يغسل جميع المسلمين ، ويصلي عليهم - كان ظالماً أو مظلوماً ، لأنه سمعته يقول في

(2/271)


الذي يقتل نفسه ، إنه يغسل ويصلي عليه ، وإثمه على نفسه ؛ وليس أحد
في الظلم أظلم ممن قتل نفسه ، وكل القتلى عند مالك يغسلون ويصلي عليهم ، إلا الشهيد في سبيل الله ، الذي يموت في المعركة ، فإنه لا يغسل ولا يصلي عليه ، ويدفن بثيابه ولا تجرد له ؛ قال مالك وما علمت أنه ينزع منه شيء .
قال محمد بن رشد : هذه المسائل كلها صحاح بينة في المعنى والحجة ، فلا إشكال فيها ، ولا اختلاف في المذهب في شيء منها ؛ إلا أنه قد اختف التأويل على مالك في قوله في أهل الأهواء والبدع ، إنهم لا ينكحون ولا ينكح غليهم ولا يسلم عليهم ، ولا يصلي خلفهم ، ولا شهد جنائزهم ؛ فقيل إن ذلك على وجه التأديب لهم ، والكراهة لمخالطتهم ؛ وقيل إ ، ذلك لأنهم عنده كفار ، بدليل قوله في سماع ابن القاسم من كتاب المحاربين والمرتدين على ما آية أشد على أهل الأهواء ، وأ÷ل البدع ، من هذه الآية : {يوم تبيض وجوه وتسود وجوه} - الآية . قال فأي آية أبين من هذه ؟ ورأيته يتأولها في أهل الأهواء ، والتأويل الأول أولى ؛ وقد مضى من قوله في رسم الجنائز والصيد ، ما سمعت أن أحداً ممن يصلي القبلة ينهي عن الصلاة عليه ، ومضى من كلامنا في هذا المعنى فيرسم الصلاة الثاني ، من سماع أشهب من كتاب الصلاة - ما فيه شفاء .
مسألة
وسئل ابن القاسم عن تغطية القبر بالثوب على المرأة حين

(2/272)


تدفن ،أواجب ذلك على الناس ؟ ومن أولى من يفعل ذلك ؟ ومن أولى من يدخل القبر لدفن المرأة في قرابتها ؟ وكيف إن لم يكن لها قرابة ؟ قال ابن القاسم زوجها أولى الناس بها من أبيها وولدها ؛ وأما الثوب فأراه حسناً أن يعمل به ، أنه ستر لها ألا يرى منها شيء من خلفها ؛ فإن لم يكن قرابة من ذوي محرم ، كان أهل الفضل - عندي - وأهل الصلاح أفضل في دخولها .
قال محمد بن رشد : أما استحسانه لستر قبر المرأة بالثوب عند الدفن فيبين في المعنى ، وأما قوله : إن أولى الناس بإدخالها في قبرها زوجها ، فإنه صحيح على أصله في أن له أن يغسلها ، وأنه أحق بذلك من قرابتها من النساء ؛ وخالف في ذلك أهل العراق ، وتعلقوا بما روي عن أنس بن مالك قال : ماتت إحدى بنات النبي - عليه الصلاة والسالم - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : لا يدخل ( القبر ) أحد قارف أهله الليلة ؛ فلم يدخل زوجها ، ولا حجة لهم في ذلك ، لأن المعنى فيه أنه هو الذي كانت المقارفة بينه وبين أهله تلك الليلة ، فعلم ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكره أن يدخل قبرها ، وأن يواجهه بذلك ، إذ كان - صلى الله عليه وسلم -لا يواجه أحداً بما يكره ، وإنما كان يقول ذلك تعريضاً لأخلاقه الكريمة ، فامتنع زوجها عثمان -رضي الله عنه - من الدخول في قبرها ، لما سمعه من قوله ، وفهمه من إرادته - وبالله التوفيق .

(2/273)


مسألة
وسئل ابن القاسم عن الميت يحرف على القبلة فيوضع على شقه الأيسر ، ثم يعلم بذلك قوم يعرفون السنة ساعتئذ ؛ كيف الأمر فيه ؟ قال ابن القاسم : إن كانوا لميواروه بحدثان ذلك ، وألقوا عليه شيئاً يسيراً ؛ فأرى أن يحول ويوجه إلى القبلة ؛ وإن كانوا دفنوه وفرغا من دفنه ، فليترك ولا ينبش .
قال محمد بن رشد : إنما يوجبه الميت في لحده إلى القبلة ، لأنها أشرف الجهات ، إذا رضيها الله تعالى قبلة لبعاده في صلواتهم ، وليس ذلك بواجب فرضاً ، لقول الله تعالى : {فأينما تولوا فثم وجه الله} . ولذلك لم ير ابن القاسم - رحمه الله - أن ينبش الميت إذا كانوا قد فرغوا من دفنه ، لما في ذلك من كشفه لمعنى غير واجب .
مسألة
وسئل ابن القاسم عن الذي يسبق الجنازة إلى المصلى ، أيجلس حق يؤتي بها ، أم يقوم ؟ وكيف إن سبقها الرجل إلى القبر ، أيجلس قبل أن توضع على الأرض أم لا ؟ فقال : قال مالك يجلس ولا بأس به في هذا كله .
قال محمد بن رشد : روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال إذا رأيتم الجنازة فقوموا لها حتى توضع أو تخلفكم . وروي عنه - صلى

(2/274)


الله عليه وسلم - إذ مر عليه بجنازة فقام فقيل : أنه يهودي ، فقال أليس ميتاً ؟ أو أليس نفساً ؟ وروي عنه - عليه الصلاة والسلام - أنه قال : إذا رأيتم الجنازة فقوموا ، فمن تبعها فلا يقعد . فكان القيام للجنائز مأموراً به في ثلاثة مواضع : حدها من كان جالساً فمرت به أن يقوم حتى يخلفه ، والثاني من اتبع جنازة ألا يجلس حتى توضع ، والثالث من سبق الجنازة إلى المقبرة فقعد ينتظرها : أن يقوم إذا رآها حتى توضع ؛ ثم نسخ ذلك كله بما روي من أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقوم في الجنائز ، ثم جلس ، وأمرهم بالجلوس ؛ وروي أنه فعل ذلك مرة ، وكان يتشبه بأهل الكتاب ، فلما نهى انتهى .وأما القيام على الجنازة حتى تدفن فلا بأس به ، وليس ذلك مما نسخ ؛ روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام على قبر حتى دفن ، وقد قيل إنه منسوخ وليس ذلك بصحيح ؛ روي أن علي بن أبي طالب قام على قبر المكفف ، فقيل له ألا تجلس يا أمير المؤمنين ؟ فقال قليل لأخينا قيامنا على قبره ، وهو الذي روى النسخ ؛ فدل ذلك على أنه لم يدخل فيه عنده القيام على القبر - عند الدفن وبعده - والله أعلم . وذهب ابن حبيب إلى أنه إنما نسخ من القيام في الجنائز الوجوب فيمن جلس في سعة ، ومن قام فمأجور ، وبالله تعالى التوفيق .
مسألة
وسئل ابن القاسم عن اللوح واللبن والقصب توضع على اللحد ، ويجعل الرجل في تابوت من خشب ، ويدفن فيه أو يبني عليه الأجر ؛ فقال ابن القاسم أما التابوت فأكرهه ، ولا يعجبني أن يدفن

(2/275)


فيه أحد ؛ وأما اللبن فهي السنة ، والشأن ، وأما الألواح فلا أرى ذلك إلا ألا يوجد لبن ولا أجر .
قال محمد بن رشد : فيبعض الروايات ولا ثرى - مكان - ولا آخر ( والصواب : ولا آجر ) لأن الأفضل فيما يجعل على الميت في قبره اللبن ، ثم الألواح ، ثم القراميد ، ثم الآجر ، ثم الحجارة ، ثم القصب ، ثم سن التراب ، وسن التراب خير من التابوت ، قال ذلك ابن حبيب ؛ وقد روي عن ابن القاسم وأشهب ، أنه لا بأس أن يجعل على اللحد اللبن ، أو القصب أو اللوح ، وذلك خفيف ؛ وروي عن سحنون أنه قال ما سمعت أحداً كره اللوح إلا ابن القاسم .
مسألة
وسئل ابن القاسم عن قبة النعش التي تصنع للنساء ، أواجب ذلك لكل امرأة بلغت المحيض أم لا ؟ وكيف المرأة التي تموت في السفر ، هل تستر بقية كما يصنع أهل الحضر ؟ أم كيف يصنع بها إذا وضعت على سريرها ؟ وكم حد ( طول )قبة النعش الذي لا يجوز أن يرفعه فوقه ؟ قال ابن القاسم قد فعله عمر بن الخطاب ، وأخبرني مالك أن أول من فعله به ذلك ، زينب زوج النبي - عليه الصلاة والسلام - فقال عمر للتي فعلته بها : سترتها سترك الله . فقد أستحسنه عمر ، فأرى ألا يترك في سفر ولا حضر ،

(2/276)


وهو يقدر على ذلك ؟ وأما حد طوله فليس فيه حد إلا ما وارى ، وأكره ما أحدث الناس فيه من المباهاة والفخر مع طول ذلك ، حتى صار عندهم زينة من الزينة ، فأنا أكره ذلك .
قال محمد بن رشد : ليس في هذه المسألة معنى يشكل ، فيحتاج إلى التكلم عليهن وبالله تعالى التوفيق .
مسألة
وسئل ابن القاسم عن نفر من المسلمين - وفيهم رجل مشرك - وقع عليهم بيت فهلكوا ، أيغسلون جميعاً ويصلى عليهم ؟ فقال ابن القاسم ما سمعت من مالك فيه شيئاً ، وأرى أن يغسلوا ويصلى عليهم ، وتكون نيتهم في الصلاة على المسلمين منهم .
قال محمد بن رشد : هذه مسألة صحيحة لا اختلاف فيها ، وإنما الاختلاف إذا كان نفر من المشركين وفيهم رجل مسلم لا يعرف بعينه ، فقال أشهب إنه لا يصلي عليهم ؛ وقال سحنون إنهم يغسلون ويصلى عليهم ، وتكون نيتهم في الصلاة على المسلم منهم ، ولا تترك حرمة مسلم تضيع ، هكذا وقع هذا الاختلاف في سماع ابن غانم من بعض الروايات .
مسألة
وسئل ابن القاسم عن الميت يوجد بفلاة من الأرض ، ولا يدري أمسلم هو أو كافر ؟ أيغسل ويكفن ويصلى عليه ؟ أو الميت يوجد أحد شقيه بلا رأس ، أو يوجد أحد شقيه برأسه ؟ فقال ابن القاسم لم أسمع من مالك فيه شيئا ، وأرى أن يوارى ولا يصلى عليه ، ويوارى بلا غسل ؟ وكذلك لو وجد في مدينة من المدائن ميت في زقاق ، ولا يدري أمسلم هو أو كافر .
قال محمد بن رشد : وإن كان مختوناً ، إذ قد علم أن اليهود يختنون أولادهم ؛ وقال ابن حبيب : وإن لم يدر أن كان مسلماً ، أو نصرانياً ، فإنه لا يغسل ولا يصلي عليه ،

(2/277)


وإن كن مختوناً ، إذ من النصارى من يختتن ؛ وقال ابن وهب في سماع عبد الملك : أنه يجر يده على ذكره ، فإن كان مختوناً غسله وصلى عليه ، وبالله تعالى التوفيق .
مسألة
وسئل ابن القاسم عن القوم يصلون على الجنازة فيضعون الرأس موضع الرجلين ، ثم يعلمون بذلك قبل دفنها ؛ أيعيدون الصلاة ( عليها ) ؟ قال ابن القاسم : ما أرى ذلك ، وصلاتهم مجزئة عنهم .
قال محمد بن رشد : وهذا كما قال ، لأنه قد صلى عليه وهو أمامه إلى القبلة ، فالأمر في ذلك واسع ، وكذلك لو أخطأ في ترتيب الجنائز للصلاة عليها ، فقدم النساء على الرجال والصغار على الكبار ، لمضت الصلاة ، ولم تجب إعادتها - وإن علم بذلك بالقرب قبل الدفن .
مسألة
وسئل ابن القاسم عن قوم أدركوا إمام جنازة حين سلم ، أتحبس لهم الجنازة حتى يصلوا عليها فرادى ، أم لا تحبس إذا كان قد صلي عليها ؟ قال ابن القاسم لا تحبس ولا تعاد الصلاة عليها .

(2/278)


قال محمد بن رشد : قد تقدمت هذه المسألة في رسم الجنائز والصيد والذبائح في موضعين ، ومضى الكلام عليها في الموضع الأول منهما ، فلا وجه لإعادته هنا .
مسألة
وسئل ابن القاسم عن الميت لا يوجد له رأس ، أو يوجد جسده تام ، أيغسل ويصلى عليه ؟ أو الميت يوجد أحد شقيه بلا رأس ، أو يوجد أحد شقيه برأسه ، أو يوجد صدره برأسه ، أو توجد فخذاه من السرة إلى أسفل ، أو يوجد يد أو رجل بائنة من الجسد ؟ أيصلي عليه على هذه الصفة ؟ وهل يجب دفن شيء من ذلك على من وجده ؟ وكيف إن وجد رأسه منفرداً من لجسد ولم يوجد غيره ؟ أو وجد أعضاؤه متفرقة بغير رأس ؟ أو وجد الرأس ؟ أيجمعها ويصلي عليها ؟ فقال ابن القاسم قال لي مالك : لا يصلي على يد ولا فخذ ، ويصلى على الجسد - وإن لم يكن فيه رأس - فقلنا لماك فما حد ذلك ؟ فقال إذا وجد جله أو أكثره ، صلي عليه ، وأما يد أو رأس ، أو فخذ ، فغني أرى أن يدفن ولا يصلى عليه ؛ وأما ما ذكرت إذا وجد متقطعاً ، فإنه ينظر إلى ما وجد من ذلك ،فإن كان هو جله أو كله ، فلا يبالى كان متقطعاً أو مجتمعاً ، فإنه يغسل ويصلى عليه ؛ وإن كان ذلك يسيراً حتى يكون مثل الرجل

(2/279)


أو اليد أو الرأس لم يصل عليه ، ولا يغسل ؛ لأني لا أرى أني غسل إلا ما كان منه يصلي عليه ، وإن كان يسيراً لم يصل عليه ؛ وإن وجد متشدخاً لا يستطاع أن يغسل ، صب عليه الماء صباً ، وكذلك صاحب الجدري وما أشبهه من القروح التي إذا مسخ سلخ ، فإنه يصب عليه الماء ويترفق به ، وكذلك قال مالك .
قال محمد بن رشد : هذا مثل قوله في المدونة : إنه لا يصلي على يد ، ولا على رجل ، ولا على رأس ، ولا يصلى إلا على جل الجسد ؛ قال ههنا وجد مجتمعاً أو متفرقاً . وقال في كتاب ابن حبيب : إذا وجد مجتمعاً ؛ والمعنى في ذلك عند مالك ، أنه لا صلى على غائب ، فإذا وجد بعض الميت وغاب بعضه ، جعل القليل تبعاً للجل مما غاب أو حضر ؛ ولم يجعل الأقل تبعاً للأكثر حتى يكون الأكثر هو الجل ، وإن أدى ذلك إلى أن لا يصلى عليه أصالً ؛ إذ قد يوجد منه أكثر من النصف ودون الجل فلا يصلى عليه ، إن وجدت بقيته لم يصل عليها - كما قال أشهب إنه إذا وجد أحد شقيه برأسه لم يصل عليه ، والأظهر أن يجعل الأقل منه تبعاً للأكثر فيصلي عليه ، لأنه إذا صلى عليه وهو أكثر من النصف ، فقد أمر أن يصلى على الباقي منه - إذا وجد ، وأن يصلي على النصف أيضاً إذا وجد ؛ لأنه إن لم يصل عليه - وكان من وجد النصف الثاني لم يصل عليه أيضاً ، بقي الميت بلا صلاة ؛ فلأن يصلى عليه مرتين ، أولى من أن لا يصلى عليه ؛ إلا أنهم لم يعتبروا شيئاً من ذلك إلا بقاءه بلا صلاة ، ولا الصلاة عليه مرتين ؛ فقد روي عن ابن الماجشون أنه يصلى على الرأس ، لأن فيه أكثر الديات ؛ فإذا كان عنده يصلى على الرأس ، ويصلى على البدن دون رأس ، فلمتبق الصلاة عليه مرتين ؛ فإنما العلة عند مالك وأصحابه

(2/280)


في هذه المسألة ، ما ذكرناه من أن الصلاة لا تجوز على غائب لا ما سوى ذلك ؛ واستخفوا إذا غاب منه اليسير الثلث فدون ، إلا ما كن من قول ابن الماجشون : إنه إذا وجد الرأس يصلى عليه ، لأن فيه أكثر الديات ، فمن علل مذهب مالك في أنه لا يصلى إلا على جل الجسد بإبقاء الصلاة عليه مرتين ، أو بقائه دون صلاة فقد أخطأ ؛ وعبد العزيز بن أبي سلمة يرى أن يصلى على ما وجد منه من يد أو رجل ، وغن لم يوجد منه شيء وعلم أنه قد مات غريقاً ، أو أكلته السباع ، صلي عليه أيضاً عنده ؛ وحجته صلاة النبي - عليه الصلاة
والسلام - على النجاشي بالمدينة - وهو ميت بأرض الحبشة ، وإلى هذا ذهب ابن حبيب ، واحتج من نصر قول مالك بم اروي عن عمران بن حصين ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أن أخاكم النجاشي قد مات فصلوا عليه . قال ونحن نرى أن الجنازة قد أتت ، قال فصففنا فصلينا عليه ، وإنما مات بالحبشة فصلى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين دخل المدينة . قال فإذا كان الله قد حمله إلى المدينة بلطيف قدرته - حتى وضعه بين يديه بالمصلى فصلى عليه ، بطل تعلق عبد العزيز بن أبي سلمة بالحديث ؛ وفي خروج النبي - عليه الصلاة والسلام - إلى المصلى للصلاة عليه ، دليل على أنه كان بها ؛ إذ لو كان بمكانه بأرض الحبشة ، لم يكن لخروجه إلى المصلى للصلاة عليه معنى ؛ واحتج أيضاً أن النبي - صلى الله عليه وسلم -لم يصل عليه بعد دفنه - مع ما في الصلاة عليه من عظيم الأجر ، والحجة الأولى أظهر ؛ إذ قد قيل إنما لم يصل على النبي - عليه الصلاة والسلام - بعد ذلك ، لئلا يكون ذلك ذريعة إلى أن يتخذ قبره مسجداً ، وقد نهى عن ذلك - صلى الله عليه وسلم .

(2/281)


مسألة
قال معن بن عيسى : وقال مالك إذا كان الصغير مع أبويه لم يكره على الإسلام وإن كان وحده أمر بالإسلام .
قال محمد بن رشد : قد مضى القول في هذه المسألة مجوداً في رسم الشجرة تطعم بطنين في السنة من سماع ابن القاسم ، فلا معنى لإعادة ذلك .
مسألة
قال موسى بن معاوية وسئل ابن القاسم عن الرجال والنساء والصبيان إذا اجتمعوا في قبر واحد من ضرورة ، فقال : يكون الرجال من داخل مما يلي القبلة ، والصبيان من خلفهم ، والنساء من ورائهم ؛ فقلت : فكيف يكونون في الصلاة ؟ فقال : يكون الرجال مما يلي الإمام ، والصبيان إن كانوا ذكوراً إليهم ، ثم النساء مما يلي القبلة ، وسواء كان الرجال عبيداً أو أحراراً يجعلون أبداً مما يلي الإمام ، والنساء إلى القبلة .
قال محمد بن رشد : ظاهر هذه الرواية أن العبد الكبير يقدم إلى الإمام ، ثم الحر الصغير من ورائه ، وقد مضى من تحصيل القول في هذه المسألة في رسم الجنائز والصيد من سماع أشهب ، ما لا مزيد عليه ، فلا معنى لإعادته هنا مرة أخرى ، وبالله تعالى التوفيق .
ومن سماع محمد بن خالد من ابن القاسم
مسألة
قال محمد بن خالد : سألت عبد الرحمن بن القاسم عن المرأة تتوفى في سفر مع رجال - ولا امرأة معهم فتيممها ، أتدفن في ثيابها ؟ فقال ابن القاسم : يفعل في ذلك أفضل ما يقدر علية ؛ قال ابن

(2/282)


القاسم : إن ناساً من أهل المغرب سألوا ملكاً عن المرأة تخرج معهم حاجة - وليس معها ذو محرم فتسألهم أن يحملوها على الدابة ، كيف ترى في ذلك ؟ فكان من قوله لهم وما أمرهم به أن يتطأطأ لها الذي يريد أن يحملها ، حتى تستوي عليه ثم تركب ، وهذا حين لم يقدر على أفضل من ذلك .
قال محمد بن رشد : وهذا كما قال ، وأحسن ما يقدر عليه في هذا ؛ أن تلف كما هي في ثيابها في ثوب تدرج فيه وتدفن ، والله تعالى أعلم .
مسألة
وسألت ابن القاسم عن الرجل تكون له امرأة نصرانية فتلد منه ، ثم يغيب عنها فيموت ولده منها في غيبته ، فيدفن ولده أولياء أمه مع أهل دينهم ، ثم يعلم بذلك من يومهم أو من الغد ؛ أفترى أن ينبش فيحول إلى مقبرة المسلمين ؟ قال ابن القاسم : إن كان بحضرة الذي - ولم يخف أن يكون قد تغير ، فلا أرى بأساً أن يخرج ، ثم يدفن في مقبرة المسلمين ؛ وإن خيف عليه التغيير ، فلا أرى أن يحرك .
قال محمد بن رشد : قوله فلا أرى بذلك بأساً ، يدل على أن ذلك جائز غير لازم ؛ والذي مضى في رسم النسمة من سماع عيسى أبين وأوضح ، لأنه إذا لم يكن في نبشة بأس ، فتحويله إلى مقبرة المسلمين لازم .
مسألة
قال وأخبرني ابن القاسم في الرجل يقتل ثم يصلب ، أنه يصلي عليه قبل أن يصلب ؛ وأما الذي يصلب حياً ثم يقتل ، فإني لم أسمع

(2/283)


فيه شيئاً . قال سحنون : ينزل عن الخشبة ويصلي عليه ، ثم يرد فيها ليذعر أهل الفساد .
قال محمد بن رشد : قد مضت هذه المسألة والقول فيها في سماع موسى ، فلا وجه لإعادته - وبالله التوفيق .
من مسائل نوازل سئل عنها سحنون
قيل لسحنون : فلو أن رجلين نزلا في قرية أحدهما مسلم ، والآخر يهودي ، قد عرف ذلك ، ولأحدهما مال ، والآخر لا مال له ،فسقط عليهما البيت فلم يدر من المسلم من اليهودي ؟ كيف يصنع بغسلهما والصلاة عليهما ؟ قال : يغسلان جميعاً ويصلى عليهما ، وتكون النية عليهما على من كان منهما مسلماً ؛ قيل له فالكفن ( كيف يكفنان ) جميعاً - وأحدهما كان معروفاً أنه كان ذا مال ، والآخر لا مال له ، إلا أنهما لما ماتا لم يعرف صاحب المال من الذي لا مال له ؟ فقال : يكون الكفن من المال الذي كان معهما ، قيل له فبقية المال أيكون موقوفاً عند السلطان ؟ قال : نعم .
قال محمد بن رشد : قوله إنهما يغسلان جميعاً بين ، لا سيما على قوله : إن النفر من المشركين إذا كان معم رجل مسلم فماتوا ولم يعلم المسلم منهم ؛ أنهم يغسلون جميعاً ، ويصلى عليهم ، ولا تترك حرمة مسلم ، هكذا يصنع وقد

(2/284)


مضى ذلك في سماع موسى بن معاوية ؛ وإذا كفنا جميعاً من المال الذي وجد معهما ، وأوقفت بقيته عند السلطان ، فاستحقه ورثة أحدهما دون صاحبه ، جبر عليه ما كفن به الآخر من بيت مال ( المسلمين ) ، لأنه لو علم أن لا مال له ، لكان الواجب أن يكفن من بيت المال ، وإن ادعاه ورثتهما جميعاً ولم يأتي أحدهما ببينة ، حلفا واقتسما البقية بينهما ، ولم يكن لأحدهما رجوع على صاحبه .
مسألة
قال سحنون : صاحب الصلاة إذا فوض الصلاة إليه الأمير ، أو صاحب الشرطة ، أو القاضي ؛ من كان صاحب الصلاة ؟ والمنبر منهم ، فهو أولى بالصلاة على الجنازة من الأولياء ؛ قال : وإن لم تكن الصلاة إلى القاضي ، فهو كغيره من الناس ، وإن صاحب المنبر أمير الجند ؟ وصاحب شرطة إذا كان موكلاً بالخطبة والصلاة ، أولى من الأولياء ، وليس للقاضي في هذا عمل ، إلا أن تكون الصلاة إليه ؛ قيل : فوكيل أمير الجند على الخطبة والصلاة – إذا غاب الأمير – إن لم يعرف الخطبة مثل وكيله بالناس وليس إليه شرطة ، ولا ضرب الجند ، ولا شيء من الصلاة ؛ قال : لا أرى لهذا في الصلاة على الجنائز شيئاً .
قال محمد بن رشد : في هذا الكلام التباس ، ومذهبه أنه لا يكون

(2/285)


أحق من الأولياء بالصلاة على ميتهم إلا الأمير ، أو قاضيه ، أو صاحب شرطة ، أو مؤمره على الجند - إذا كانت الخطبة والصلاة إلى كل واحد منهم ؛ فإن انفرد أحدهم بالخطبة والصلاة - دون أن يكون إليه حكم بقضاء ، أو شرطة أو أمارة على الجند ؛ أو انفرد بالحكم بالقضاء ، أو الشرطة ، أو الإمارة على الجند ، دون أن تكون إليه الخطبة والصلاة ، لم يكن له في الصلاة على الجنازة حق ؛ وكل من كان إليهم الحكم بوجه من الوجوه ، والصلاة فوكيله عليهما جميعاً بمنزلته في أنه أحق من الأولياء بالصلاة على الجنازة ؛ وأما إن كان وكله على الحكم دون الصلاة ، أو على الصلاة والخطبة دون الحكم ، فلا حق له في الصلاة على الجنازة ؛ وهذا مذهب ابن القاسم ، وروايته عن مالك ، في المدونة . وحكى ابن حبيب عن ابن القاسم ، وروايته عن مالك ، في المدونة .
وحكى ابن حبيب عن ابن القاسم أن ذلك لكل من كانت إليه الخطبة والصلاة - يريد وإن لم يكن إليه حكم ، ولا ويجد ذلك لابن القاسم نصاً ؛ وظاهر ما في سماع ابن الحسن عن ابن وهب أن القاضي أحق بالصلاة على الجنازة من الأولياء - وإن لم تكن الصلاة إليه ؛ وقال مطرف ، وابن الماجشون ، وأصبغ : ليس لواحد من هؤلاء في الصلاة على الجنازة حق سوى الأمير المؤمر الذي تؤدي إليه الطاعة ، فهي أربعة أقوال ؛ ولا اختلاف في أنه لاحق في الصلاة على الجنائز لمن انفرد بالصلاة دون الخطبة والقضاء ، أو بالحكم - دون القضاء ، والخطبة ، والصلاة ، فهذا تحصيل هذه المسألة ؛ وأولى الأولياء بالصلاة على الميت - الابن ، ابن الابن - وإن سفل ؛ ثم الأب ، ثم الأخ ، ثم ابن الأخ - وإن سفل ؛ ثم الجد ، ثم العم ، ثم ابن العم - وإن سفل ؛ ثم أب الجد ، ثم بنوه - على هذا الترتيب ؛ كولاية النكاح ، وميراث الولاء ؛ فإن استووا في القعد والقرب من الميت ، فأعلمهم أولاً ، ثم أفضلهم ، ثم

(2/286)


أسنهم ؛ فإن استووا في العلم والفضل والسن ، فأحسنهم خلقاً ؛ لقوله - عليه الصلاة والسلام - إن الرج ليبلغ بحسن خلقه درجة القائم بالليل الظامئ بالهواجر . فإن استووا في ذلك - وتشاحوا في الصلاة عليه ، أقرع بينهم ، وقيل يقدم أحسنهم خلقاً ؛ فإن أراد الأحق بالصلاة أن يقدم أجنبياً من الناس ، أو بعيداً من الأولياء على من هو أقرب منه ؛ فقد مضى في آخر أول رسم من سماع أشهب - الخلاف في ذلك ؛ وأما إن أوصى الميت إلى أحد بالصلاة عليه ، فهو أحق من الأولياء ، ومن الوالي - إن حضر قاله ابن حبيب ، وحكاه عن مالك : وروى ابن غانم عن مالك : أنه أحق من الولي ، وحكى عنه سحنون في نوازله : أنه أحق منه ؛ إلا أن يعلم أن بينه وبينه عداوة ، وإنما أراد بذلك نقصه ، فلا تجوز وصيته بذلك ، وقع في سماع ابن غانم ونوازل سحنون في بعض الروايات .
مسألة
وسئل سحنون عن رجل أوصى عند موته أن يكفن في ثوب واحد ، فزاد ورثته في كفنه ثوبين ؛ فقال بعض الورثة : لا نرضى ، ونحن نرد هذه الزيادة ؛ فقال : إن كان في مال الميت محمل لمثل كفنه الذي كفن فيه ، فلا أرى عليهم ضماناً .
قال محمد بن رشد : وهذا كما قال ، لأنه لا يلزم أن ينفذ من الوصايا إلا ما فيه قربة وبر ، ولا قربة ولا فضيلة في أن يكفن الرجل في ثوب واحد ، بل المستحب ألا يكفن في أقل من ثلاثة أبواب - كما كفن رسول الله - صلى الله عليه وسلم .
وفي كتاب ابن شعبان أنه إذا أوصى بشيء يسير في كفنه وحنوطه لم يكن

(2/287)


لبعض الورثة الزيادة فيه بغير ممالاة من جميعهم ، وذلك - عندي إلا أوصى بشيء يسير في قيمة الأكفان ، دون أن ينقص من العدد في الثلاثة الأثواب ؛ لأن الرخص في الكفن مستحب ، والمغالاة فيه مكروهة ؛ لأن للمهلة كما قال أبو بكر - رضي الله عنه - ؛ ولسحنون فيك تاب ابنه ، أنه إذا أوصى بسرف في كفنه ، أو الحفر له ؛ جعل في ثلثه الزائد على القصد - وهو بعيد لوجهين ، أحدهما : أنه لم يرد بذلك الثلث ، والثاني : أن ذلك مكروه لا طاعة فيه ، ولا ينفصل من وصية الميت ، إلا ما فيه طاعة ؛ وقيل إنه يرجع ميراثاً ، وهو قول مالك وابن القاسم وأشهب - وهو الصواب على ما ذكرناه من أنه لا ينفذ من وصية الميت إلا ما كان فيه طاعة .
من سماع عبد الملك بن الحسن وسؤاله ابن وهب
مسألة
قال عبد الملك بن الحسن سألت ابن وهب عن الجنازة يحضرها الولي ، والقاضي ؛ هل يستحب للولي أن يقدم القاضي ؟ أم تراه في سعة من ترك تقديمه ؟ فقال : إذا حضر القاضي جنازة لم ينبغ لولي الميت أن يتقدم ، والقاضي أولى وأحق ؛ قيل له فصاحب الشرطة ، أهو عندك مثل القاضي في مثل هذا ؟ قال : لا . قيل له فالقرشي الذي له الحال والصلاح يحضر الجنازة ، وولي الميت حاضر ، أهو عندك بمنزلة القاضي ؟ فقال : إذا كان على مثل ما وصفت من حاله ، وممن ترجى بركة دعائه ؛ فإن استحب لوليه أن يقدمه .

(2/288)


قال محمد بن رشد : ظاهر قول ابن وهب هذا ، أن القاضي أحق بالصلاة على الجنازة من وليها - وإن لم تكن الصلاة والخطبة إليه ؛ خلاف ما تقدم في نوازل سحنون ، وقد تقدم هناك تحصيل القول في ذلك ؛ وأما استحسانه لولي الميت : أن يقدم القرشي الذي له الصلاة والفضل ، فذلك حسن من الفعل ، لأنه شفيع للميت ؛ فينبغي أن يتوخى فيمن يتقدم للصلاة عليه من يرجى أن يشفع فيه .
مسألة
وسئل عن الرجل يمر بفلاة من الأرض ، فيجد رجلاً ميتاً لا يدري أمسلماً أو نصرانياً ؟ ما العمل فيه ؟ قال ابن وهب : إذا لم يعلم ، جر يده على ذكره من فوق الثوب ، فإن كان مختوناً ، غسله وصلى عليه ودفنه ، وإن لم يكن مختوناً واراه .
قال محمد بن رشد : وقال ابن حبيب : إنه يواريه ولا يغسله ولا يصلي عليه - وإن كان مختوناً ، إذ من النصارى من يختتن ؛ ولو لم يعلم أن كان مسلماً ، أو كافراً ، لواراه بلا غسل ؛ - قاله في سماع موسى بن معاوية . ولا اختلاف في هذا أعلمه ، إذ قد علم أن اليهود يختتنون .
مسألة
وسئل ابن وهب عن الميت إذا حضرته الوفاة ، هل يستقبل به القبلة ؟ فقال : نعم يستقبل به القبلة ، فقيل له فكيف يستقبل به القبلة ؟ فقال يجعل على شقه الأيمن - إن قدر على ذلك ، كما يصنع به في اللحد ؛ وإن لم يقدر على ذلك ، جعل مستلقياً على قفاه - ورجلاه مما يلي القبلة .

(2/289)


قال محمد بن رشد : اختلف في التوجيه : فروي عن مالك أنه مستحب ، وهو الذي عليه الجمهور ؛ وروى علي بن زياد عن مالك ، أنه قال في التوجيه : ما هو من الأمر القديم ، وذلك نحو ما روي عن سعيد بن المسيب أنه أنكر ذلك على من فعله به في مرضه ؛ وتأول ابن حبيب أنه إنما كره ذلك لاستعجالهم به قبل أن ينزل به أسباب الموت ؛ والأظهر أنه كرهه بكل حال ، والذي يدل أنه غير مشروع ، أن ذلك لم يرو أنه فعل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ولا بأحد من الصحابة المتقدمين الكرام ؛ ولو كان ذلك ، لنقل وذكر - والله أعلم ؛ وإلى هذا نحا مالك في رواية علي بن زياد ، لقوله ما هو بالأمر القديم ؛ وأما صفته عند مالك ، وجميع أصحابه ، فعلى جنبه الأيمن ، كما يجعل في لحده ، وكما يصلي المريض الذي لا يقدر على الجلوس عندهم ؛ واختلف الذين قالوا في المريض الذي لا يقدر على الجلوس ، أنه يصلي على ظهره - ورجلاه إلى القبلة في التوجيه ؛ فمنهم من قاسه على الصلاة ، ومنهم من قاسه على جعله في قبره ؛ لأن المعاينة سبب من أسباب الموت ، فقياس التوجيه فيها على حال الموت ، أولى من قياسه على الصلاة ، وإلى هذا ذهب أبو حنيفة .
مسألة
وسئل عن الرجلين يكونان في السفر ، فيجنب أحدهما ، ويموت الآخر - وليسم عهما من الماء إلا ما يتطهر به واحد ؛ قال : فالحي أولى بالماء من الميت ، قيل أيتيمم الميت ؟ قال : نعم .
قال محمد بن رشد : إنما كان الحي أولى بالماء من الميت ، من أجل أن الميت لا يقاومه إياه ؛ وإذا اغتسل الحي بالماء ، كان عليه قيمة نصيب الميت منه لورثته - إن كانت له قيمة ؛ وانظر لو أراد ورثته أن يقاوموه إياه ، هل يكون ذلك لهم أم لا ؟ وقد مضى في سماع سحنون ، وموسى بن معاوية ، من كتاب الوضوء ، ما يوضح هذه المسألة وبين معناه ، فقف على ذلك هناك - وبالله التوفيق .

(2/290)


مسألة
قلت : فالجنائز هل ينادى بها في المساجد ؟ قال : لا ينادى بها إلا على أبواب المساجد .
قال محمد بن رشد : هذا خلاف ما تقدم في رسم حلف من سماع ابن القاسم ، وقد مضى هناك القول على ذلك بأوعب ما فيه ، وبالله التوفيق . تم سماع عبد الملك بن الحسن بحمد الله .
من سماع أصبغ بن الفرج من ابن القاسم
من كتاب القضاء العاشر
قال أصبغ : سمعت عبد الرحيم بن خالد يقول : بلغني أن الروح له جسد ، ويدان ، ورجلان ، وعينان ، ورأس ، يسل من الجسد سلاً .
قال محمد بن رشد : ذكر هذه الرواية عن عبد الرحيم بن خالد ، أن الروح له جسد ويدان ورجلان وعينان ورأس ، يسل من الجسد سلاً ؛ وحكى ابن حبيب عنه أن النفس هي التي لها جسد ويدان عينان ورأس تسل من الجسد سلاً ، وأن الروح هو النفس المتردد في الإنسان ، ففرق عبد الرحيم بن خالد - فيما حكى ابن حبيب عنه - بين الروح والنفس ، وسمى نفساً ما سماه في هذه الرواية روحاً - وهو الجسد المجسد الذي

(2/291)


يحيى الجسم بكونه فيه ، ويموت بإخراجه منه - وهو الصواب - أن النفس والروح اسمان لشيء واحد ؛ وهو الذي يحيا به الجسم ، وإن كان كل واحد منهما قد يقع بانفراده على مسميات لا يقع عليها الآخر ، فيقع النفس على ذات الشيء وحقيقته ؛ وعلى الدم ، وعلى الحياة الموجودة بالإنسان ؛ ويقع الروح على الملك ، وعلى القرآن ، وعلى النفس المتردد في الإنسان ، وعلى الحياة الموجودة فيه وفي غيره من الحيوان ؛ فإذا عبر بالنفس والروح عن شيء واحد ، فالمراد به ما يحيا به الجسم ، ويتوفاه ملك الموت ، فيدفعه إلى ملائكة الرحمة ، أو لملائكة العذاب ؛ وهو النسمة التي قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها : إنما نسمة المؤمن طائر ، يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه . فالنفس ، والروح ، والنسمة ، شيء واحد ؛ وقد يسمى الإنسان نسمة اتساعاً ومجازاً ، والدليل على أن النفس والروح شيء واحد ، أن الله - تبارك وتعالى - قال : {يتوفى الأنفس حين موتها والتي لمت مت في منامها} . وقال ، صلى الله عليه وسلم : إذ نام عن الصلاة في الوادي ، حتى طلعت الشمس : إن الله قبض أرواحنا ، ولو شاء لردها إلينا في حين غير هذا .
فسمى - صلى الله عليه وسلم - روحاً ما سماه الله نفساً ، وهذا بين ؛ وإنما قلنا إنه هو الذي يحيا به الجسم ، ولم نقل إنه الحياة الموجودة به ، لأن الحياة الموجودة به معنى من المعاني ، والمعاني لا تقوم بأنفسها ، ولا يصح عليها ما وصف الله به الأنفس والأرواح في كتابه ، وعلى لسان نبيه من القبض والإخراج والرجوع والطمأنينة والصعود والتنعيم والتعذيب ؛ فمعنى قولنا الذي يحيا به الجسم ، أي ما أجرى الله العادة بأن الجسم يحييه بكونه فيه ،

(2/292)


ويميته بإخراجه منه ؛ لأن ما يحيا به الجسم وجوباً لإعادة ، هي الحياة ولا تكون إلا معنى ؛ لأن الجواهر والأجسام لا توجب الأحكام في الأجسام ؛ فإذا قلنا إن النفس والروح شيء واحد ، وأنه هو الذي أخبر الله تعالى أنه يتوفاه ند الموت وعند النوم بقوله تعالى : {الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها ، فيمسك التي قضى عليها الموت} . فقد قال بعض المتقدمين إن قبضه في حال النوم - هو أن يقبض وله حبل ممدود إلى الجسم كشعاع الشمس ، فإذا حرك الجسم رجع إليه الروح أسرع من طرف العين ، والأظهر - ( عندي ) - في ذلك أن قبضه في حال الوفاة هو بإخراجه من الجسم ، وقبضه في النوم ، ليس بإخراج له من الجسد ، وإنما معناه منعه من الميز والحس والإدراك ، وقبضه عن ذلك ؛ كما يقال قبض فلان عبده ، وقبض السلطان وزيره : إذا منعه مما كان مطلقاً عليه - قبل ؛ وإن لم يزله عن مكانه في الحقيقة ، فالقبض على هذا ، والتوفي في الوفاة حقيقة ، وفي النوم مجاز ، والله أعلم بحقيقة الصواب في ذلك ( كله ) ؛ قال الله عز وجل : {ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي} - الآية ، وبالله التوفيق .
مسألة
قال أصبغ : وسألت ابن القاسم عن ولد المسلم يولد مخبولاً ، أو يصيبه الخبل قبل أن يبلغ العمل ؛ قال ما سمعت فيهم شيئاً ، إلا أن الله تبارك وتعالى يقول : {والذين آمنوا وابتعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم} . فأرجو أن يجعلوا معهم ، فأما من احتلم وجرى عليه القلم ، ثم أصيب بعد ذلك ، فإني سمعت بعض أهل العلم والفضل يقول إنه يطبع على عمله بمنزلة من مات .
قال محمد بن رشد : الذي يولد مخبولاً أو يصيبه الخبل قبل أن يبلغ العمل ، فهو بمنزلة من مات صغيراً من أولاد المسلمين ، إذا لم يلحق بالمكلفين ، فهو مولود على الفطرة ، وصائر - بفضل الله ورحمته إلى الجنة ، وما رجاه ابن القاسم بتأويل الآية من أن يلحقوا بآبائهم ، فروي عن النبي ، عليه الصلاة والسلام ، روي عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إن الله ليرفع ذرية المؤمن معه في جنته - وإن لم يبلغها في العمل ، لتقر بهم عينه . ثم قرأ : {والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان

(2/293)


الحقنا بهم ذريتهم } - الآية . وأما من أصابه الخبل بعد أن احتلم ، وجرى عليه القلم ، فما حكي أنه سمعه من بعض أهل العلم فيه من أن يطبع على عمله بمنزلة من مات ، صحيح في المعنى ؛ لارتفاع القلم عنه بالخبل ، قال صلى الله عليه وسلم : رفع القلم عن ثلاثة - فذكر فيهم المجنون حتى يفيق .
مسألة
قال أصبغ سمعت ابن القاسم يقول عن مالك في رجل هلك فلم يكن له كفن ، فطلب له في الناس فجمع له عشرون درهماً ،

(2/294)


فكفنه رجل من عنده ،وبقيت الدراهم ؛ فأراد غرماؤه أخذها ، أو ورثته ؛ قال ليس هي لغرمائه ولا لورثته ، وترد إلى أهلها ؛ وقاله ابن القاسم ، إلا أن يشاء ويسلموها لورثته ، وأحب إلي لأصحابها أن يفعلوا . وفي سماع أبي زيد مثله عن ابن القاسم .
قال محمد بن رشد : قوله إن العشرين درهماً ترد إلى أهلها ، هو مثل ما في كتاب المكاتب من المدونة - في المكاتب إذا أعين في كتابته ، ففضلت عنده فضله مما أعين به ، أنه يرد ذلك على الذي أعانوه أو يستحلهم منه - إذا كان ذلك منهم على وجه الفكاك لرقبته ، ولم يكن صدقة عليه منهم ، ومعارض لما في سماع ابن القاسم من كتاب الصدقات والهبات في السائل يقف بالباب فيأمر له بدرهم فيجده قد انصرف ، أنه يتصدق به ولا يسترجعه ؛ فيأتي على قياس هذا في مسألة الكفن أن يجعل العرين درهمً أصحابها في كفن غيره ، ولا يسترجعونها لأنفسهم مالاً من مالهم ، واستحب ذلك في سماع ابن القاسم من كتاب العارية في مسألة السائل ، ولم يوجبه ؛ فكذلك مسألة الكفن يستحب لأصحابها أن يجعلوا العشرين درهماً في كفن مثله من غير إيجاب ؛ وأما استحبابه لأصحابها أن يسلموها للورثة ، ففيه نظر ، لأنهم لم يقصدوا بذلك الصدقة على الورثة ، والله أعلم وبه التوفيق .
ومن كتاب المجالس
وسئل أصبغ عن أهل الحرب يغيرون على بعض ثغور الإسلام ، فيقتلون الرجال في منازلهم في غير معترك ، ولا مجتمع ، ولا ملاقاة ؛ ما حالهم عندك : أحال الشهداء ؟ أم كيف يصنع بهم ؟ فقال لي سمعت ابن القاسم يقول في هؤلاء ؟ إنهم يغسلون ويصلى

(2/295)


عليهم ، ويقول لا يدفن بدمه وثيابه ، وتترك الصلاة عليه ، إلا من قتل فيم عترك ومزاحفة ؛ فأما من قتله أهل الحرب في غير معترك ، ولا مزاحفة ، فلا ؛ قال أصبغ فسألت عن ذلك ابن وهب فقال لي هم شهداء حيث ما نالهم العدو بالقتل ، في معترك أو مزاحفة ؛ وهو رأي على ما قال ابن وهب ، وهو كان أعلم بهذا وشبهه مما يشاكل الآثار والسنة من جميع أصحابنا ؛ قيل لأصبغ فسواء عندك ناصبوهم بالسلاح حين غشوهم في منازلهم ، أو قتلوهم معافصة نياماً ، أو غافلين ؛ قال أصبغ نعم ذلك سواء ، وهم شهداء يصنع بهم ما يصنع بالشهداء ؛ قيل أرأيت إن قتلوا امرأة بالغة ، أو صبية صغيرة ، أهم عندك مثل الرجال البالغين ؟ وبأي قتلة قتلوا فهم بتلك الحال ، يصنع بهم ما يصنع بالشهداء في ترك غسلهم ، والصلاة عليهم ، وقتلوا بسلاح أو بغير سلاح ؟ قال نعم ، هم عندي سواء في جميع ما ذكرت .
قال محمد بن رشد : المنصوص في المدونة مثل قول ابن وهب ، وفيها دليل على مثل قول ابن القاسم ؛ وجه قول ابن القاسم أن قتلى أحد الذين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بدفنهم بدمائهم ، ولم يصل عليهم ، وإنما قتلوا في المعترك ؛ ووجه قول ابن وهب ، أنه لما كان الذين قتلهم العدو في غير

(2/296)


المعترك لهم حكم المقتولين في المعترك في الشهادة ، وجب أن يكون لهم حكمهم فيما سوى ذلك ، مما يختص به المقتول في المعترك .
ومن مسائل نوازل سئل عنها أصبغ
وسئل أصبغ عن الميت هل يكفن في الحرير ؟ وعن لباس الملحم للرجال ؟ وكيف بالقلنسية منه ؟ قال أصبغ لا يكفن الميت في حرير لا رجل ولا امرأة ، إلا أن يضطروا إلى ذلك بموضع لا يوجد غيره ؛ ولا يجوز لابس الملحم للرجال : لا قميص ، ولا ساج ، ولا قلنوسة ، لا بما قل منه ولا بما كثر ، لأنه لباس كله ؛ ولو أن رجلاً حلف ألا يلبس الحرير ، أو الخز ، فلبس منه قلنسوة ، كان لباساً ، وكان حانثاً .
قال محمد بن رشد : الملحم الثوب الخالص من الحرير ، وسمي ملحماً لأنه ألحم فيه الحرير في الحرير ؛ بخلاف الخز ، لأنه ألحم فيه الخز في الحرير . وقوله إنه لا يكفن في الحرير الرجال ولا النساء ، هو مثل ما في المدونة من كراهيته الحرير والخز والمعصفر في أكفان الرجال والنساء . وإنما كره الحرير في أكفان النساء - وإن كان من لباسهن في حال الحياة ؛ لأنه من الزينة ، فجاز في الحياة دون الموت كالحلي ؛ ولأنه قد قيل إنه حرام على الرجال والنساء ، وممن ذهب إلى ( عبد الله ) بن الزبير ، تعلقاً بعموم قول النبي - عليه

(2/297)


الصلاة والسلام - إنما يلبس الحرير من لا خلاق في الآخرة . وروي عنه - رضي الله عنه - أنه خطب فقال يا أيها الناس ، لا تلبسوا نساءكم الحرير ، فإني سمعت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول من لبس الحرير في الدنيا ، لم يلبسه في الآخرة . قال ابن الزبير وأنا أقول من لم يلبسه في الآخرة لم يدخل الجنة ، لأن الله تعالى يقول : {ولباسهم فيها حرير} . وليس تأويل ابن الزبير كما تأول ، لأنه ( قد ) روي عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : من لبس الحرير في الدنيا ، لم يلبسه في الآخرة ، ولو دخل الجنة ، يلبسه أهل الجنة ، ولا يلبسه هو . وأجاز ابن حبيب أن يكفن في الحرير والخز والمعصفر النساء دون الرجال ، لأن ذلك من لباسهن في الحياة ، وقد وسع في سماع ابن وهب في ذلك للرجال ؛ لأن العبادة قد ارتفعت عنهم ، فاشبهوا الصبيان ، وفي ذلك بعد ؛ لأن العبادة - وإن كانت قد ارتفعت عنهم ، فأولياؤهم متعبدون فيهم ، فلا ينبغي لهم أن يقلبوهم إلى ربهم بعد وفاتهم ، بما حرم عليهم لباسه في حياتهم ؛ فهي ثلاثة أقوال ، القياس منها قول ابن حبيب ، وقول مالك استحسان ، وما في سماع ابن وهب توسعة بعيدة .
مسألة
وسئل عن الشهيد إذا عراه العدو ، أيكفن ؟ فقال نعم ، أرى ذلك حسناً ؛ قيل فإن استشهد وعليه ثيابه - وفيها ما يجزئه - فأراد

(2/298)


أولياؤه أن يزيدون كفناً على ثيابه ، فقال ما أرى به بأساً يفعلون - إن شاءوا .
قال محمد بن رشد : قوله في تكفين من عراه العدو من الشهداء أن ذلك حسن ، لفظ فيه تجاوز وتسامح ، بل ذلك لازم لا رخصة في تركه ؛ ومما يدل على ذلك ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كفن الشهداء يوم أحد اثنين في ثوب ، فلو كان ترك تكفينهم واسعاً ، لما جمع منهم اثنين في ثوب ، ولكفن من وجد ما يكفنه فيه وترك من لم يجد - والله أعلم ؛ وأما الزيادة على ثيابه - إذا كان فيها ما يجزئه ، فلا بأس به كما قال : إذ إنما الكراهية في أن ينزع عنهم ثيابهم ، لقوله صلى الله عليه وسلم : زملوهم بثيابهم .
مسألة
قيل من أي وجه تركت الصلاة على الشهيد ، فقال هي السنة ، من فعل رسول الله ، صلى الله عليه وسلم .
قال محمد بن رشد : وإن كانت هي السنة ، فلا يمتنع أن تعلل السنن إذا وجد لها علة ، والعلة في ترك الصلاة على الشهيد ، أن الصلاة على الميت شفاعة له ، ولا يشفع إلا للمذنبين ، والشهداء قد غفرت ذنوبهم ، وصاروا إلى كرامة الله ورحمته وجنته أجمعين ؛ فارتفعت حالهم عن أن يصلي عليهم ، كما يصلي على سائر موتى المسلمين - والحمد لله رب العالمين ؛ ولهذا لم يصل على النبي ، عليه الصلاة والسلام ، وإنما كان الناس يدخلون عليه أفواجاً فيدعون وينصرفون ؛ وقد روي عن ابن وهب أنه قال كيف يصلي على

(2/299)


حي ؟ وهذا اعتلال فيه نظر ، إذ لا شك في أنهم قد ماتوا وخرجوا من الدنيا ، وصاروا في عداد الموتى ؛ ووجب أن تنكح نساؤهم ، وتقسم أموالهم ؛ فليس كون أرواحهم حية عند الله ، بمانع من الصلاة عليهم ، كما لا يمنع ذلك من الصلاة على سائر المؤمنين ؛ وإن كانت لحياتهم مزية بأنهم ند ربهم يرزقون ، ويأكلون في الجنة وينعمون ، وعند النفخ في الصور لا يفزعون ، ولا يخمدون ، ولا يصعقون ؛ وأبو حنيفة يرى أني صلى على الشهيد ، ومن حجته ما روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى يوم أحد على حمزة وقد سئل مالك عن ذلك ، فقال ما سمعت ؛ وأما غسله فلا اختلاف أحفظه في أنه لا يغسل .
مسألة
وسئل أصبغ عن الرجل يأتي إلى الرجل في كفن يبتاعه منه ، فيقول له إن الرجل لم يمت بعد ، فأخذه منه بثمن قد سماه ، واشترط المبتاع على البائع - إن مات ، وإلا رددته ؛ قال لا يجوز ، قيل له فإن فات ، قال فلصاحب الكفن القيمة ؛ قيل فإن كانت القيمة أقل ، قال لم يكن له إلا القيمة ؛ ق يل له فإن كانت أكثر ، قال فله الأكثر ، إلا أن يشاء أن يمضيه له بلك الذي واجبه عليه ؛ قيل فإن الثياب أخذت لنصراني ، أترى إن ردت الثياب أن يطهرها ؟ قال أراه خفيفاً ، وما أرى أن تغسل إلا أن تلبس .
قال محمد بن رشد : قوله إن البيع على هذا الشرط لا يجوز صحيح ، وقوله فإن فات فلصاحب الكفن القيمة - بالغة ما بلغت ، كانت أقل من الثمن أو أكثر ، معناه إن فات بأن كفن فيه الميت ومضى ؛ وإما إن فات قبل موته ،

(2/300)


فمصيبته من ربه ؛ إلا أن يتلف بيد المبتاع ، ولا يعلم تلفه إلا بقوله ، فيلزمه فيه القيمة ؛ لأنه إنما هو كرجل اشترى سلعة من رجل بثمن معلوم ، إن مات فلان من مرضه ، فهو عقد فاسد ، يجب أن يفسخ ، وترد السلعة إلى بائعها ؛ فإن تلفت قبل موت فلا ، فمصيبتها من البائع - وإن كانت بيد المبتاع ؛ إلا ألا يعلم تلفها إلا بقوله ، فتلزمه فيها القيمة ، وإن تلفت أو فاتت بعد موت فلان ، بما تفوت به البيوع الفاسدة ، صحح البيع فيها بالقيمة ، بالغة ما بلغت ؛ فهذا وجه القول في هذه المسألة ، وليست من بيوع الثنايا ، فيكون للمبتاع فيها أن يسقط الشرط ، ويلتزم البيع ؛ كما يكون له ذلك في بيوع الثنيا ، لما للبائع في هذا الشرط من الحق ، إذ لم ينعقد به البيع إلا بموت فلان . وقوله إن الثياب إن كانت أخذت للنصراني وردت ، فلا تغسل إلا أن تلبس ، صحيح على ما في المدونة من الفرق بين ما نسج النصارى ، أو لبسوا - وبالله التوفيق .
مسألة
قال أصبغ في رجل أدرك الإمام على الجنازة وهو ممن يكبر خمساً ، ففاتته تكبيرتان ؛ قال أصبغ يكبر معه الثلاثة ويحتسب الخامسة ؛ فإذا سلم الإمام ، كبر واحدة ، فصارت له أربعاً ، ولا يكبر الخامسة ؛ قال سحنون : وقال أشهب لا آمر أن يكبر هذا الذي فاته بعض التكبير مع الإمام الخامسة ، فإن كبرها معه لم تجزه ، ورأيت إذا سلم الإمام ، أن يقضي ما فاته من التكبير .
قال محمد بن رشد : قول أشهب هو القياس على مذهب مالك ، لأن التكبيرة الخامسة إذا كانت عنده زائدة في الصلاة ، لا يراعى قوله فيها إنه

(2/301)


لا يتبع الإمام فيها إذا لم يفته من التكبير معه شيء ، كما قال في رسم الشجرة من سماع ابن القاسم ؛ فلا يصح أن يكبرها معه ، ويعتد بها مما فاته ، لأن أرفع أحوالها أن يحكم لها بحكم النافلة ؛ ومن مذهبه أنه لا يجوز لمن يصلي فريضة أن يأتم بمن يلي نافلة ، فكيف بمن ( يصلي ما يكره له ) أن يصليه ؟ وفي الواضحة لمالك من رواية ابن الماجشون عنه مثل قول أشهب - وهو قول مطرف ؛ وأما قول أصبغ فهو استحسان على غير قياس ، مراعاة لقول من يرى أن صلاة المأموم ليست مرتبطة بصلاة الإمام في الفرائض ، فاستخف ذلك في صلاة الجنائز ؛ إذ ( ليست بفرض ) عليه ، وإنما هي له نافلة ، إذ قد صحت الصلاة على الميت بصلاة الإمام ومن معه سواء ، وبالله تعالى التوفيق ، والصلاة على محمد وآله .
تم كتاب الجنائز بحمد الله وحسن عونه الجميل

(2/302)