البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة

كتاب الصيام والاعتكاف
من سماع عبد الرحمان بن القاسم عن مالك
من كتاب أوله سلعة سماها
قال ابن القاسم سمعت مالكاً يقول في المعتكفة نحيض فتخرج إلى منزلها ، فيطلقها زوجها قبل أن ترجع إلى المسجد ، أين تعتد ؟ قال : إنما هو بمنزلة ما لو طلقها في المسجد ، فإذا طلقها في المسجد لم ينبغ لها أن تخرج من المسجد حتى تتم اعتكافها ؛ فهذه ينبغي لها أن ترجع إلى المسجد حتى تتم اعتكافها .
قال محمد بن رشد : وهذا كما قال ، لأن المعتكفة إذا حاضت في اعتكافها فخرجت إلى منزلها ، لا ينتقض اعتكافها ؛ فتكون إذا طهرت مبتدئة لاعتكاف ، بل هي باقية في حرمة الاعتكاف الذي دخلت فيه ؛ قيل في حرمته كله ، وهو قول سحنون ؛ وقيل في حرمته من جهة لذي الرجال خاصة ، وهي رواية أبي زيد عن ابن القاسم ؛ فإذا طهرت ، رجعت إلى تمامه ؛ فوجب أن

(2/303)


يكون حكم طلاق زوجها إياها بعد أن دخلت في الاعتكاف في حال الطهر ، أو الحيض سواء فيما يلزمها من التمادى على اعتكافها الذي قد سبق وجوب العدة عليها ؛ لأن الاعتكاف إذا سبق العدة ، لم تخرج منه حتى ينقضي اعتكافها ؛ كما أن العدة إذا سبقت الاعتكاف ، لم تخرج منها إلى الاعتكاف حتى تنقضي عدتها ؛ وإن كان اعتكافاً واجباً عليها في أيام بأعيانها ، قد كانت نذرت اعتكافها - قاله بعض شيوخ القرويين ، وهو صحيح ، فقف عليه ؛ وإذا طهرت في بعض يومها فرجعت إلى المسجد ، فلا تمسك عن الأكل بقية يومها ؛ ولا تعتد به في اعتكافها ، إلا أن تطهر قبل الفجر ، فتنوي صيام ذلك اليوم ، وتدخل معتكفها - حينئذ ، وهي رواية ابن وهب عن مالك ؛ وقيل إنها لا تعتد بذلك اليوم إلا أن تطهر قبل الغروب ، وتدخل معتكفها حينئذ في الوقت الذي يبتدئ المعتكف فيه باعتكافه ، وهو قول سحنون ؛ وقد قيل إنها إذا طهرت فيبعض النهار ، لا ترجع إلى المسجد بقية يومها ، قياساً على قول ابن القاسم في الذي يعتكف العشر الأواخر من رمضان ، فيمرض فيها ثم يصح فيغشاه العيد قبل أن يتم اعتكافه ؛ إنه يخرج إلى العيد ، ولا يرجع ذلك اليوم من أجل أنه غير صائم ؛ فتدبر ذلك .
مسألة
وسئل عن الذي ينذر صيام يوم الخميس ، فيمر يوم الخميس - وهو غير ذاكر له ، فإذا كان يوم الجمعة ، أصبح صائماً - وهو يرى أنه يوم الخميس ؛ أترى أن يجزئه من قضاء صيام يوم الخميس الذي جعله عليه ؟ قال نعم ، إني أرجو أن يجزئه - إن شاء الله - من صيامه ؛ وإني لأكره للرجل أن يجعله على نفسه الشيء هكذا يصومه حتى كأنه فريضة ، ولكن يصوم ولا يجعل على نفسه شيئاً ؛ فإن شاء صام ، وإن شاء أفطر .

(2/304)


قال محمد بن رشد : قوله في الذي أصبح يوم الجمعة صائماً يرى أنه الخميس الذي كان نذر صيامه ، أنه يجزئه من قضائه صحيح ؛ لأن صوم يوم الخميس واجب عليه كوجوب قضائه ، فناب في النية فرض عن فرض ؛ وذلك مثل قولهم في الأسير يخطئ في الشهور في صوم شوالا - وهو يرى أنه رمضان ، فلا اختلاف بينهم في أنه يجزئه ؛ وستأتي متكررة في رسم سلف ، ورسم جاع من سماع عيسى ؛ وكراهيته أن ينذر على نفسه صيام يوم بوقته أبداً ، هو مثل ما في المدونة ؛ وإنما كره ذلك لمشقة تكرره ، وقد يسهو عنه ؛ أو لعله يفرط فيه مع طول المدة فيأثم ، والله أعلم .
مسألة
وسئل مالك عمن نذر صياماً بمكة ، أو بالمدينة ، أو بعسقلان ، أو بالاسكندرية ، أو ببلد من البلدان ، رجا فيه الفضل ؛ قال : قال مالك : من ذر صياماً في مثل المدينة ، ومكة ، وساحل من السواحل ترجى بركة الصيام فيه ، فإني أرى ذلك عليه ؛ ومن نذر في غير ذلك مثل العراق ، وما أشبهه ، فلا أرى أن يأتيه ؛ قال ابن القاسم : ومعنى قوله : إنه يصوم ذلك الصيام بمكانه الذي هو فيه .
قال محمد بن رشد : فهذا مثل ما في المدونة ، والأصل فيه قوله - عليه الصلاة والسلام - من نذر أن يطيع الله فليطعه ، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصيه . فمن نذر أن يصوم في موضع يتقرب إلى إله بالصيام فيه ، لزمه الخروج إليه ؛ ومن نذر أن يصوم فيه موضع لا قربة لله في الصيام فيه ، صام بموضعه ولم يخرج إلى ذلك الموضع ؛ إذ ليس لله في ذلك طاعة ، وهاذ ما لا اختلاف فيه - وبالله التوفيق .

(2/305)


ومن كتاب أوله شك في طوافه
مسألة
وسئل مالك عن المعتكف يرقع ثوبه في المسجد ، ويكتب المصاحف ؛ قال ليس هذا من شأ ، المعتكف ، ليرقع قبل أن يدخل ، ويكتب المصاحف إن أحب ، ورأيته يرى أن وجه من يريد الاعتكاف ، أن يكون في مؤخر المسجد ورحابه .
قال محمد بن رشد : قوله ليرقع قبل أن يدخل ، ويكتب المصاحب إن أحب ؛ معناه ليرقع ويكتب المصاحف قبل أن يدخل إن أحب ، وهذا على مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك ، الذي يرى أن الاعتكاف يختص من أعمال البر بذكر الله تعالى ، وقراءة القرآن والصلاة ؛ وأما على مذهب ابن وهب الذي يبيح للمعتكف جميع أعمال البر المختصة بالآخرة ، فيجيز له مدارسة العلم ، وعيادة المرضى فيم وضع معتكفه ، والصلاة على الجنائز - إذا انتهى إليه زحام الناس الذين يصلون عليها ؛ فيجوز له أن يكتب المصاحف للثواب ، لا ليتمولها ، ولا على أجرة يأخذها ؛ إلا ليقرأ فيها ، وينتفع بها من احتاج إليها ؛ وأما ترقيعه ثوبه فمكروه ، ولا ينتقض به اعتكافه إذا كان شيئاً خفيفاً .
مسألة
وسئل مالك عن الاعتكاف يوماً أو يومين ، قال ما عرفت هذا من اعتكاف الناس ؛ قال ابن القاسم : قد سئل عنه قبل ذلك فلم ير به بأساً ، وأنا لست أرى بأساً ؛ لأن الحديث قد جاء أدنى الاعتكاف يوم وليلة .

(2/306)


قال محمد بن رشد : اختلف قول مالك في أدنى الاعتكاف ، فمرة قال أدناه يوم وليلة ، ومرة قال أدناه عشرة أيام ؛ وهو اختلاف في أدنى ما يستحب لرجل أن يعتكفه ، إذ لا يقول أحد إن من نذر أن يعتكف ما دون عشرة أيام ، يلزمه اعتكاف عشرة أيام على القول بأن أدنى الاعتكاف عشرة أيام ، فبان بذلك ما قلناه ؛ ويتصور الاختلاف في وجه آخر أ]اضص – وهو أن من نذر اعتكافاً مبهماً غير محدود ، ودخل فيه ولم ينو شيئاً ؛ يلزمه يوم وليلة على القول بأن أدنى الاعتكاف يوم وليلة ، أو عشرة أيام على القول بأن أدنى الاعتكاف عشرة أيام . وقال ابن حبيب أدنى الاعتكاف في الاستحباب يوم وليلة ، وأعلاه في الاستحباب عشرة أيام ، فجعل أعلاه في الاستحباب عشرة أيام على القول بأن أدناه يوم وليلة . ولم يتكلم في أعلاه في الاستحباب ، على القول بأن أدناه عشرة أيام ؛ والذي يصح أن يقال على هذا القول في أعلاه ، إنه شهر كامل ، ولا يستحب لأحد أن يعتكف أكثر من شهر ، بل يكره ذلك ( وله ) مخافة ألا يفي بشروطه ، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال ، قالوا فإنك تواصل يا رسول الله ، قال : إني لست كهيئتكم إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني .
مسألة
وسئل مالك عن المعتكف يخرج ليلة الفطر من اعتكافه ، أترى عليه إعادة ؟ قال : لا . قال سحنون : لا أقول ما قال ، وأرى ذلك يفسد اعتكافه ؛ لأن ذلك سنة مجتمع عليها ألا يخرج وأن

(2/307)


يبيت في معتكفه حتى يصبح ؛ وقال عبد الملك بن الماجشون بقول سحنون إ ، ذلك يفسد اعتكافه ، قال وإن أصاب أهلاً ، أو فعل ما ينقض اعتكافه في ليلة الفطر ، كان ذلك ناقضاً لاعتكافه ؛ لأنها من اعتكافه ، له فيه أما للمعتكف ، وعليه ما عليه ؛ وقاسها ابن الماجشون بركعتي الطواف ، وقال هو من بابه وجدت الطواف ينقضي بالركعتين ، ووجدته إن انتقض وضوؤه في الركعتين أو قبلهما ، انتقض طوافه ؛ وقد يرى أنهما ليستا من أشواطه السبعة ، كما أن ليلة الفطر ليست من ليالي صومه ، والاعتكاف لا يكون إلا بصومه .
قال محمد بن شد : قد احتج ابن الماجشون لقوله : وقول مالك أظهر ؛ ووجهه أن ليلة الفطر ليست من العشر الأواخر ، فلو أن رجالً حلف ألا يكلم فلاناً في العشر الأواخر ، فكلمه بعد غروب الشمس من ليلة الفطر لم يحنث ؛ فكذلك من نوى اعتكاف العشر الأواخر ، ودخل فيها أو نذرها ، لم يلزمه المقام ليلة الفطر في اعتكافه بموجب نذره ، وإنما يؤمر بذلك اتباعاً لفعل النبي - صلى الله عليه وسلم ؛ فإن لم يفعل فقد قضى ما لزمه من الاعتكاف ، وقصر في ترك السنة ؛ إذ ليس في مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الفطر في معتكفه ، ما يدل على أن الليلة من العشر ، ولا أن لها حكم العشر ؛ إذ قد زاد - صلى الله عليه وسلم - في كثير من الشرائع زيادات ، فكانت سنناً فيها ، ولم يكن لها حكمها في الوجوب ؛ من ذلك سنن الوضوء ، ورفع اليدين في الإحرام ، والركعتان عند الاهلال ؛ وقد اشترى صلى الله عليه وسلم من جابر بن عبد الله جملاً فقضاه الثمن زاده زيادة ، فلم يكن على من اشترى شيئاً ، أن يزيد البائع عند القضاء ؛ وإن زاد لم يكن للزيادة حكم الثمن المزيد عليه في جميع أحوال ، وفي دون هذا كفاية ؟ ولما كانت زيادة الليلة في الاعتكاف تختص باعتكاف العشر الأواخر دون ما سواه من الاعتكاف ، ضعف قياس ذلك على ركعتي الطواف ، لكونهما أصلاً في كل

(2/308)


طواف ، لا يختص بطواف دون طواف ؛ وقد ذهب ابن لبابة إلى أن على كل معتكف أن يزيد في اعتكافه ليلة يخرج في صبيحتها من اعتكافه على ما جاء في حديث أبي سعيد الخدري من قوله فيه : وهي الليلة التي يخرج فيه صبيحتها من اعتكافه وهو شذوذ من القول ، لا متابع له عليه من الفقهاء ؛ لأن أكثر الرواة يقولون في الحديث وهي الليلة التي يخرج فيها من اعتكافه - وبالله التوفيق .
مسألة
وسمعت مالكاً - وذكر أن جعفر بن سليمان أرسل إليه يسأله أن ينقص من قيام رمضان ، قال فنهيته عن ذلك ؛ فقيل له أفتكره ذلك ؟ قال نعم - وقد قام الناس هذا القيام ، فقيل له فكم القيام عندكم ؟ قال تسعة وثلاثون ركعة بالوتر .
قال محمد بن رشد : لما كان قيام رمضان مرغباً فيه ، لقوله صلى الله عليه وسلم : من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه . وكان للجمع فيه أصل للسنة ، وكان العمل قد استمر فيه على هذا العدد من يوم الحرة إلى زمنه ؛ وذلك أن عمر بن الخطاب كان أمر أبي بن كعب ، وتميماً الداري ، أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة ، فكانا يطيلان القيام ، حتى لقد

(2/309)


كانوا يعتمدون على العصى من طول القيام ، وما كانوا ينصرفون إلا في فروع الفجر ؛ فشكوا ذلك إلى عمر بن الخطاب ، فأمرهما أن يزيدا في عدد الركوع ، وينقصا من طول القيام ؛ فكانا يقومان بالناس بثلاث وعشرين ركعة ، وكان القارئ يقرأ بسورة البقرة في ثمان ركعات ؛ فإذا قام بها في اثنتي ركعة ، رأى الناس أنه قد خفف ؛ فكان الأمر على ذلك إلى يوم الحرة ، ثم شكوا ذلك ملا اشتد عليهم ، فنقصوا من طول القيام ، وزادوا في عدد الركوع ، حتى أتموا تسعاً وثلاثين ركعة بالوتر ؛ ومضى الأمر على ذلك من يوم الحرة ، وأمر عمر بن عبد العزيز أن يقوموا بذلك ، وأن يقرؤوا في كل ركعة بعشر آيات ؛ فكره مالك أن ينقص من ذلك ، إذا لا ينبغي أن يحمل الناس على انتقاص الخير ، وإنما ينبغي أن يرغبوا في الازدياد فيه ، ويحملوا على ذلك إذا أمكن ، وكان بالناس عليه طاقة ، وغليه نشاط ، وبالله تعالى التوفيق .
ومن كتاب الشجرة
مسألة
وسئل عن صيام العبد بغير إذن سيده ، قال لا بأس بذلك ، إلا أن يكون مضراً سيده .
قال محمد بن رشد : وهذا كما قال ، لأن العبد مكلف ، مثاب على طاعته ، فليس لسيده أن يمنعه مما يثاب عليه ، ولا يضر به ؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا ضرر ولا ضرار ، فإذا لم يكن لسيده أن يمنعه ، لم يكن عليه أن يستأذنه ؟ وكذلك خادم الخدمة ، بخلاف الزوجة ، والسرية ، وأم الولد ؛ إلا أن يكون غائباً أو مسنا لا ينبسط للنساء ، فلا إذن عليهن ؛ وذلك

(2/310)


في صيام التطوع ،و ما أوجبوه على أنفسهم من بنذر ، أو كفارة يمين ، أو ظهار ، أو فدية أداء ، أو جزاء صيد في الإحرام ، أو الحرم ؛ وقد قيل إنه إذا أذن له في النكاح ، كان له أن يصوم في الظهار ، وإن كان ذلك مضراً بسيده ، كما إذا أذن له في الإحرام ، فأصاب خطأ ما أوجب عليه الصيام ، والأول أظهر ؛ لأنه وإن أذن له في النكاح ، فهو أدخل على نفسه الظهار ، فهو بمنزلة إذا أذن له في الإحرام فأصاب عمداً ما أوجب عليه الصيام ؛ وأما قضاء رمضان ، فلا إذن عليهم فيه ، وإذا أذن لهم في صيام التطوع ، لم يكن له أن يرجع في الإذن ؛ وإذا صاموا بإذنه ، فلا يجوز لهم الفطر إلى الليل ، وبالله التوفيق .
ومن كتاب أوله حلف ليرفعن أمراً إلى السلطان
مسألة
وسئل مالك عن المؤذن يعتكف ، أيؤذن فوق المنار ؟ قال عيسى به وضعف ؛ وقال : وما رأيت مؤذنا يعتكف ، وكأنه كره الأذان له ؛ وقال ابن القاسم : وقد سمعته يكرهه غير مرة ، ويجيزه ؛ وجل رأيه فيما أعلم - الكراهية ؛ وقوله : في الكراهية أحب إلي .
قال محمد بن رشد : القولان في المدونة ، والكراهة أجرى على أصله في أن الاعتكاف يختص من أعمال البر بذكر الله ، والصلاة ، وقراءة القرآن ، وقد مضى ذلك في رسم شك في طوافه .
ومن كتاب طلق بن حبيب
مسألة
وسئل عن المعتكف ينصرف إلى منزله لأخذ طعامه ، قال لا يعجبني ذلك . قيل له أيغتسل في موضعه للجمعة الذي يخرج فيه لحاجته ، قال لا بأس بذلك ؛ ولغير الجمعة - إن أحب ذلك - تبرداً أو غير ذلك ، فلا بأس عليه في الغسل ؛ ولقد كان رجال من أهل الفضل يغتسلون في كل يوم لرواحهم ، منهم : عامر بن عبد الله بن الزبير ، عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم ، كانوا يغتسلون كل يوم .
قال محمد بن رشد : كراهيته للمعتكف أن ينصرف إلى منزله لأخذ طعامه ، معناه إذا كان له من يكفيه ذلك ؛ وأما إذا لم يكن له من يكفيه ذلك ، فلا يكره له ذلك ؛ لأنه مضطر إليه ، لكنه يكره له أن يدخل في الاعتكاف - إذا لم يكن له من يكفيه ذلك - على أحد قولي مالك في المدونة ، فاختلاف قوله فيها ، إنما يعود إلى الدخول في الاعتكاف إذا لم يكن من يكفيه الخروج عن طعامه ، فمرة أجاز ذلك له ، ومرة كرهه له ، ورأى ترك الاعتكاف خيراً له . وأما إذا دخل فيه ، فلا اختلاف في أن له أن يخرج عن طعامه - إذا لم يجد من يسوقه إليه ، لأنه مضطر إلى ذلك ، ولا يقطع اعتكافه ، لأنه قد لزمه . وأما خروجه للغسل إلى الموضع الذي يخرج فيه

(2/311)


لحاجة الإنسان ، فذلك جائز ، إذ لا يصح له فعله في المسجد ، وهو مما له أن يفعله تبدراً - وإن لم يكن واجباً عليه ؛ لأن ذلك يعينه على ما هو فيه ، ولأنه من النظافة المشروعة في الدين - وبالله التوفيق .
مسألة
وسئل عن الذي ينظر إلى أهله في رمضان على غير تعمد منه فيخرج منه المذي ، ماذا ترى عليه ؟ قال أرى أن يقضي يوماً مكانه ، ولقد كان رجل من أصحابنا من أهل الفضل إذا دخل رمضان ، لا يدخل بيته حتى يمسي ، خوفاً على نفسه من أهله ؟ قال ابن القاسم

(2/312)


وسمعت مالكاً قال ليس على من قبل امرأته في رمضان قضاء ، إلا أن يكون أنعظ ووجد اللذة ، فعليه القضاء - وإن لم يمذ إذا كان ذلك حرك منه اللذة التي وجدها ؛ وإن أمذي فعليه القضاء ؛ قال عيسى : قال ابن القاسم إذا قبل فلا شيء عليه ، أنعظ أو لم ينعظ ما لم يمذ ، وإذا باشر فانعظ فعليه فعليه القضاء ، أمذى أو لم يمذ ؛ أنكر سحنون قول ابن القاسم هذا - ولم يره شيئا .
قال محمد بن رشد : تحصيل القول في هذه المسألة : إنه إن نظر قاصداً إلى التلذذ بالنظر ، أو تذكر - قاصداً إلى التلذذ بذلك ؛ أو لمس ، أو قبل ، أو باشر فسلم ، فلا شيء عليه ؛ وإن أنعظ ولم يمذ ، ففي ذلك ثلاثة أقوال : أحدها أن عليه القضاء - وهي رواية ابن القاسم ، والثاني أنه لا شيء عليه ، وهي رواية أشهب عن مالك في المدونة ، والثالث الفرق بين ما بين المباشرة ، وما دونها من قبلة ، أو لمس ، فإن أنعظ من مباشرة فعليه القضاء ، وإن أنعظم فيما دونها فلا قضاء عليه ، وهو قول ابن القاسم الذي أنكره سحنون ؛ وإن أمذى فعليه القضاء ؛ وإن أنزل ، ففي ذلك ثلاثة أقوال : أحدها أن عليه القضاء والكفارة - وهو قول مالك في المدونة في القبلة ، والملامسة ، والمباشرة ؛ والنظر ، والتذكر للذة ، محمولان على ذلك ؛ والثاني أن عليه القضاء ، ولا كفارة عليه ، إلا أن يتباع حتى ينزل - وهو قول أشهب ، وأصح الأقوال ؛ لأن الكفارة لا تجب إلا على من قصد انتهاك حرمة الصوم ، وهذا لم يفعل إلا ما وسع له فيه ، فغلبه الإنزال ؛ والثالث الفرق بين اللمس ، والقبلة ، والمباشرة ، وبين النظر ، والتذكر ، فإن لمس أو قبل ، أو باشر فأنزل ، فعليه القضاء والكفارة - وإن لم يتابع ذلك ؛ وإن نظر وتذكر فأنزل ، فعليه القضاء ولا كفارة عليه ؛ وإلا أن

(2/313)


يتابع ذلك حتى ينزل ، وهذا القول هو ظاهر قول ابن القاسم في المدونة ؛ وأما إن نظر على غير قصد ، أو تذكر ، فأمذى دون أن يتابع النظر ، أو التذكر ؛ ففي ذلك قولان : أحدهما أن عليه القضاء - وهو قول مالك في هذه الرواية في النظر ، والتذكر محمول عليه ؛ والثاني أنه لا قضاء عليه ، إلا أن يتابع ذلك حتى ينزل ، وهذا القول رواه ابن القاسم عن مالك في غير المستخرجة في التذكر ، والنظر محمول عليه ، إذ لا فرق بينهما ؛ وهذا القول أظهر ، لأن المذي لا يجب به القضاء على أي وجه كان عند الشافعي ، وأبي حنيفة ، وأكثر أهل العلم ؛
والمتأخرون من البغداديين يقولن إن القضاء على من قبل وأمذى في مذهب مالك ، وإنما هو استحباب ، فقف على ذلك .
ومن كتاب أوله سن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال مالك : ولا أحب للصائم أن يباشر - وإن لم يحرك ذلك منه شيئاً ، ولا يقبل ؛ قال ابن القاسم : قال لي مالك في الصائم : إذا باشر فأنعظ ، فحرك منه اللذة ؛ رأيت عليه القضاء - وإن لم يمذ ، قال ابن القاسم : وذلك رأي .
قال محمد بن رشد : قد مضى القول على هذه المسألة في التي قبلها ، فلا معنى لإعادته .
ومن كتاب الشريكين
قال مالك في المسافر يقيم في المنهل يوماً ، أو ما أشبه ذلك ؛ قال مالك : يجوز له أن يفطر - ما كان يجوز له أن يقصر .

(2/314)


قال محمد بن رشد : هذا كما قال ، فهو مما لا اختلاف فيهن لقوله تعالى : {فمن كان منكم مريضاً ، أو على سفر} - الآية ؛ إلا أن مالكاً يستحب له الصيام ، ويكره له الفطر ، لقوله تعالى . {وإن تصوموا خير لكم} .
مسألة
قال : وبلغني أن رجلاً له شرف صنع صنيعاً ، فدعا فيمن دعا حسين بن رستم الأيلي - وكان صائماً ، وأنه لما خف الناس من عنده ، قال له ألا ندعو له بطعام ؟ قال : إني صائم ، فجعل يده عليه - و( يديره ) على الفطر ، ويقول : إنك ستصوم يوماً آخر مكانه ؛ فقال له حسين : إني بيت الصيام ، وإني أكره أن أخالف الله ما وعدته ؛ وقال : يقال دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ، فإنك لن تجد فقد شيء تكرهه لله .
قال محمد بن رشد : إنما قال ما قال ، فأبى أن يجيبه إلى ما أداره عليه من الفطر ، لأنه رأى ذلك من المشبهات التي قال فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم : فمن اتقى المشتبهات استبرأ لدينه وعرضه ؛ لاختلاف أهل العلم في جواز الفطر لمن أصبح صائماً متطوعاً ، ولما جاء في ذلك عن النبي - عليه الصلاة والسلام - مما يدل على جوازه والمنع له ؛ من ذلك : أنه قال إذا

(2/315)


دعي أحدكم إلى طعام فليجب ، فإن كان مفطراً فليأكل . وروي فإن شاء فليأكل ، وإن كان صائماً فليصل - أي ليدع . وروي وإن كان صائماً فلا يأكل . وروي عنه - عليه الصلاة والسلام - أنه قال : لا تصوم امرأة - وزوجها شاهد - يوماً من غير شهر رمضان ، إلا بإذنه . وهذا يدل على أن الفطر لا يجوز لها ، ولا يجوز لزوجها أن يفطرها ؛ وروي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان عند أم هانئ فأتي بشراب فشرب منه ، ثم ناول أم هانئ فشربت ، ثم قالت : يا رسول الله ، إني كنت صائمة ، ولكني كرهت أن أرد سؤرك! فقال لها : أكنت تقضين شيئاً ؟ قالت : لا ؛ قال : فال يضرك إن كان تطوعاً فهذا يدل على جواز الفطر لمن أصبح صائماً ، وقد جاء أن عائشة وحفصة أهدى لهما طعاماً فأفطرتا عليه ، فدخل عليهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته بذلك حفصة ، فقال لهما ( رسول الله ) : اقضيا مكانه يوماً آخر . فاحتمل أن يكون ذلك على الوجوب ، وأن يكون على الندب ؛ وكان ابن عباس يجيز الفطر لمن أصبح صائماً متطوعاً . وكان عبد الله بن عمر يجيزه ويشدد في ذلك ، فيقول ذلك الذي يلعب بصومه . وإلى قوله ذهب مالك فقال : إنه لا يفطر ، فإن أفطر لغير عذر فعليه القضاء ؛ لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعائشة وحفصة : اقتضيا مكانه يوماً آخر .
وقد قال

(2/316)


مطرف : إن حلف عليه أحد بالعتق ، أو الطلاق - أن يفطر ، فليحنثه ولا يفطر ، إلا أن يرى لذلك وجهاً ؛ وإن حلف هو ، فليكفر ولا يفطر ؛ وإن عزم عليه أبواه أو أحدهما في الفطر ، فليطعهما وإن لم يحلفا عليه إذا كان ذلك رقة منهما عليه ، ( لإدامة ) صومه ، وبالله التوفيق .
ومن كتاب أوله اغتسل عن غير نية
وسألته عن الرجل في رمضان يكون في المسجد ويكون بمنزله نائماً ، فيأتيه الطعام من أهله فيأكله في المسجد ، وقال : أرجو أن يكون خفيفاً ؛ وقال : لا أحب لأحد أن يتسوك في المسجد من أجل ما يخرج من فيه من السواك ، فليلقيه في المسجد ، ولا أحب لأحد أن يتمضمض في المسجد .
قال محمد بن رشد : معنى ما استخف من أكل الطعام في المسجد ، هو في الطعام الجاف ؛ وأما الألوان ، فقد كره في غير ما موضع أن يؤتي بها إلى المساجد فتؤكل بها ؛ من ذلك ما وقع في رسم سلعة سماها من سماع ابن القاسم من كتاب الصلاة وغيره ، وأما المتضمض في المسجد وإلقاء ما يخرج من فيه من السواك فيه ، فمكروهه بين ، مذكور في كتاب الصلاة وغيره .
مسألة
قال : إني لأستحب أن يقضي من أكل ناسياً في طوع ، وما أراه عليه بواجب ، مثل من أكل في رمضان ، وإني لأستحب ذلك .
قال محمد بن رشد : وهذا كما قال ، إن ذلك مستحب وليس بواجب ؛ لأن من أهل العلم من يجيز الفطر في صيام التطوع - عامداً ، ومنهم

(2/317)


من يكرهه ولا يرى عليه قضاء - إن فعله - وهو مذهب الشافعي ؛ ومنهم من لا يوجب القضاء على من أكل في رمضان ناسياً ، لحديث أبي هريرة : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : من أكل أو شرب في صومه ناسياً ، فليتم صومه ، فإن الله أطعمه وسقاه ، وهو مذهب الشافعي ، وأي حنيفة ، وجماعة من أهل العلم سواهما ؛ وروى عن أبي حنيفة أنه قال : لولا قول الناس ، لقلت إنه يقضي -يريد لولا طعن الناس لمخالفة الحديث - والله أعلم ؛ وقد راعى ابن القاسم هذا القول في الذي يحلف بالطلاق ، أو غيره ، أن يصوم غداً فيصبح صائماً ، ثم يأكل ناسياً ؛ فقال : إنه لا حنث في رسم سلف من سماع عيسى من هذا الكتاب ، ومن كتاب الأيمان بالطلاق ، وفي سماع أبي زيد من كتاب الأيمان بالطلاق ، وبالله التوفيق .
مسألة
وقال فيمن لم يأتهم خبر هلال الفطر ، إلا بعد ما زالت الشمس ، فلا أرى عليهم صلاة من الغدوة لا يخرجون إلى المصلى ، وليس عليهم ذلك ؛ وأنكر الخروج في غير يوم الفطر إنكاراً شديداً ، وقال من أخطأ يوم الجمعة ، أيجعله يوم السبت ؟ استنكاراً للخروج في غير يوم الفطر .
قال محمد بن رشد : قد روي أن الهلال خفي على الناس في آخر ليلة من شهر رمضان في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - فأصبحوا صياماً ، فشهد عند النبي - عليه الصلاة والسلام - بعد زوال الشمس ، أنهم رأوا الهلال الليلة الماضية ؛ فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالفطر ، فأفطروا تلك الساعة ؛ وخرج بهم من الغد ، فصلى بهم صلاة العيد ؛ وذهب إلى هذا قوم ، منهم : أبو يوسف ، وأكثر رواة الحديث لا يذكرون فيه

(2/318)


الصلاة ؛ وإنما قالوا : أمرهم أن يفطروا من يومهم ، ثم ليخرجوا لعيدهم من الغد ، أو إلى مصلاهم من الغد ؛ فإن صح الحديث فيحتمل أن يكون أمرهم بالخروج ، لترى كثرتهم ، فيتناهى ذلك إلى عدوهم ، فيعظم أمرهم عندهم لا للصلاة ؛ ولم يصح عند مالك الحديث ، ولا رأي الخروج ، ولا الصلاة ؛ وحجته على ذلك بالجمعة ، حجة صحيحة ، لأنها لما كانت كالجمعة في أنه لا تقضي بعد خروج وقتها في ذلك النهار ، وجب أن يكون مثلها في أنها لا تقضي في يوم آخر .
ومن كتاب أوله باع غلاماً
وسئل مالك عن المسافر في البحر يريد أن يفطر ، قال مالك ذلك لهز
قال محمد بن رشد : وهذا كما قال : إن المسافر في البحر والبر سواء في جواز الفطر ، ووجوب القصر ؛ لقوله عز وجل : {وهو الذي يسيركم في البر والبحر} ، وهذا ما لا اختلاف فيه أحفظه .
ومن كتاب صلى نهاراً ثلاث ركعات
وسئل مالك عن المرأة نذرت أن تصوم بنية شهر ، فاشتد عليها الحر وهي ترضع ، قال : تفطر وتطعم وتصوم بعد ذلك .
قال محمد بن رشد : وهذا كما قال : أنها تفطر وتطعم ، لأن حكم نذر الصيام المعين في الوجوب ، كحكم صوم شهر رمضان ، إلا في وجوب الكفارة على من أفطر فيه متعمداً ؛ وقد روي عن مالك أن عليها القضاء ، ولا إطعام ؛

(2/319)


ومن أهل العلم من يرى عليها الإطعام دون القضاء . قال بذلك من رأى قوله : ( وعلى الذين يطيقونه فديه طعام مساكين ) ـ الآية ، محكمة في المرضع ، والحامل ، والشيخ ، ولها على المشهور من مذهب مالك في الفطر ثلاثة أحوال ، ( حال ) لا يجوز لها فيها الفطر والإطعام ، وهي إذا قدرت على الصيام ولم يجدها الإرضاع ؛ وحال يجوز لها فيها الفطر والإطعام ، وهي إذا أجدها الإرضاع ولم تخف على ولدها ، إما بأنه يبقى لها من اللبن إن لم تفطر ما ترمقه به ، وإما لأنها تقدر على أن تستأجر له من ترضعه من ماله ، أو من مال الأب ، أو مالها - إذا كان يقبل غيرها ؛ وحال يجب عليها الفطر والإطعام ، وهي إذا خافت على ولدها : إما بأنه لا يقبل غيرها ، وإما بأنها لا تقدر على أن تسترضع له بحال ؛ فهي قول اشتد عليها الحر : أي اشتد عليها فأجهدها بسبب الإرضاع ، ولو لم يجهدها الإرضاع فأفطرت ، لكانت بمنزلة غير المرضع ، تكفر إن كانت في رمضان كفارة المتعمد ، وتقضي ؛ وإن كانت في نذر أيام بأعيانها أتمت وقضت ، ولم يجب عليها كفارة ولا إطعام .
مسألة
قال سحنون : قال ابن القاسم وسئل مالك عن رجل عليه نذر صيام ، هل له أن يتطوع قبل الفراغ منه ؟ قال : لا .
قال محمد بن رشد : وهذا كما قال ، لأن النذر المبهم يتخرج على قولين ، أحدهما : أنه على الفور ، والثاني : أنه على التراخي ؛ فأما على القول بأنه على الفور ، فلا يجوز له أن يتطوع بالصيام قبله ؛ لأن ذلك اليوم مستحق عليه

(2/320)


صومه في النذر ، إلا أن يكون يوماً مرغباً في صيامه ، كيوم عاشوراء ، وشبهه ؛ فيخرج جواز صومه قبل النذر - على ما روي من أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم : صلى إذ نام عن صلاة الصبح في الوادي حتى طلعت الشمس ركعتي الفجر قبل صلاة الصبح . وأما على القول بأنه على التراخي كقضاء رمضان الذي قد وسع فيه إلى شعبان ، فلا ينبغي له أن يتطوع بالصيام قبله ، لوجهين ؛ أحدهما : أن صيام التطوع لا يفوته ، فهو إن بدأ به فاته فضل بتعجيل النذر ؛ والثاني مخافة أن يموت قبل أن يقضي النذر ، فلا يتقبل منه التطوع ، على ما جاء عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - أنه قال : لا تقبل من أحد نافلة - وعليه فريضة - حتى يؤديها ؛ إلا أن يكون يوم مرغب في صيامه ، كيوم عاشوراء . فالاختيار على قياس هذا القول ، أن يصومه تطوعاً قبل النذر ؛ لأنه إن صامه للنذر ، فاته فضل اليوم ؛ وقيل إن الاختيار أن يصومه للنذر ، لأنه إن صامه تطوعاً ، فاته فضل تعجيل النذر ، ولم يأمن أن يموت قبل أن يصوم النذر ، فلا يتقبل منه الطوع على ما جاء عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه ، وعلى هذا الاختلاف يأتي اختلافهم في هل يصوم يوم عاشوراء من عليه صيام قضاء رمضان على ما يأتي في رسم المحرم بعد هذا .
مسألة
وسئل مالك عن الرجل يعتكف فيمرض أبوه أو أمه ، هل يخرج ؟ قال : نعم ، يخرج إليهما ويبتدئ اعتكافه ، ورواها في كتاب إن خرجت .
قال محمد بن رشد : وهذا كما قال ، لأن الخروج إليهما من برهما ، وبرهما فرض ينص القرآن ؛ فهو آكد عليه مما دخل فيه من الاعتكاف ،

(2/321)


لأن الاعتكاف يقضيه ، وما فاته من بر أبويه لا يستدركه ولا يقضيه ؛ وذلك بخلاف الخروج إلى جنازتهما ، لا يخرج من اعتكافه إلى جنازتهما - قاله مالك في موطئه ، إذ ليس في ترك شهود جنازتهما عقوق لهما .
ومن كتاب مساجد القبائل
( مسألة )
وسئل مالك عن صيام الغر الثلاثة الأيام : ثلاثة عشر ، وأربعة عشر ، وخمسة عشر ؛ قال : ليس هذا ببلدنا ، وإني أكره أن يعتمد صيامها ، قال : والأيام كلها لله .
قال محمد بن رشد : ( قد روي ) فيها وفي الأيام البيض : أول يوم من الشهر ، ويوم عشرة ، ويوم عشرين ؛ أنها صيام الدهر . وقد روي عن مالك أنه كان يصوم الأيام البيض ، وقد كتب إلى هارون الرشيد في رسالته يحضه على صيام الأيام الغر - ويذكر الحديث فيها ؛ فإنما كره في هذه الرواية صيامها ، ولم يحض عليها - مخافة أن يكثر العمل بذلك لكثرة إسراع الناس إلى الأخذ بقوله ، فيحسب ذلك من لا علم له من الواجبات .
ومن كتاب مرض وله أم ولد فحاضت
وقال فيمن كان منزله على أميال - وحضر شهر رمضان ، فأراد أن يعتكف في قريته في مسجد لا يجمع فيه ، وهو ينتاب الفسطاط

(2/322)


يصلي فيه الجمعة ؛ قال مالك : يعتكف في قريته ، أحب إلي من صلاته الجمعة بالفسطاط .
قال محمد بن رشد : رأي الاعتكاف له أفضل من صلاة الجمعة بالفسطاط ، لما كان ممن لا يجب عليه الإتيان إلى الجمعة لبعد منزله من الفسطاط ، وهذا على مذهبه في أن الاعتكاف لا يختص بالمسجد الذي تجمع فيها الصلوات ، لعموم قوله عز وجل : {وأنتم عاكفون} - الآية . فإذا كان ممن لا يلزمه الإتيان إلى الجمعة ؛ أو ممن لا تجب عليه الجمعة ، أو كان اعتكافه أياماً يسيرة لا تدركه فيها الجمعة ، جاز له أن يعتكف في غير المسجد الذي تجمع فيه الجمعة ؛ فإن مرض في تلك الأيام ثم صح فغشيته الجمعة قبل أن يفرغ من اعتكافه ، خرج إلى الجمعة – ولم ينتقض اعتكافه - قاله ابن الماجشون ، ورواه ابن الجهم عن مالك ؛ قيل لأنه دخل بما يجوز له ، بخلاف ما لو دخل لاعتكاف أيام تأخذه فيها الجمعة ، هذا يخرج إلى الجمعة ويبتدئ اعتكافه ، قاله ابن الماجشون أيضاً ؛ قيل لأنه دخل بما لا يجوز له ، وقد قيل إن ذلك اختلاف من القول ؛ ولا فرق بين أن يدخل بما يجوز له ، أو بما لا يجوز له ؛ وأما الاعتكاف في مساجد البيوت ، فلا يصح عند مالك لرجل ولا امرأة ، خلاف قول أبي حنيفة في أن المرأة تعتكف في مسجد بيتها ، وبالله التوفيق .
مسألة
وسئل عن المعتكفة إذا طلقت أو مات عنها زوجها ، أترى أن تخرج ؟ قال : لا تخرج بعد ما دخلت الاعتكاف ، لا من وفاة ، ولا من طلاق ؛ وكذلك المرأة المحرمة .
قال محمد بن رشد : يريد بقوله : وكذلك المرأة المحرمة ، أن المحرمة إذا طلقت أو مات عنها زوجها في الطريق ، تنفذ لوجهها ولا ترجع إلى بيتها ،

(2/323)


لتعتد فيه ؛ والمسألتان في المدونة ، الأولى في كتاب الاعتكاف ، والثانية في كتاب طلاق السنة ؛ والوجه في ذلك أنها قد دخلت في عمل بر لزمها إتمامه ، فلم يجز لها إبطاله ؛ قوله عز وجل : {ولا تبطلوا أعمالكم} . وقوله تعالى : {وأتموا الحج والعمرة لله} ، وهذا ما لا اختلاف فيه ، كما أنه إذا سبق الطلاق أو الموت - الاعتكاف والإحرام ، لم يصح لها أن تحرم ، ولا أن تعتكف ، حتى تنقضي العدة ؛ لأنها قد لزمتها ، فليس لها أن تنقضها ، وبالله التوفيق .
ومن كتاب نذر سنة
وسئل مالك عن الصيام قبل الاستسقاء أمما يعمل به ؟ قال : ما سمعت إنكاراً على من عمله .
قال محمد بن رشد : الصيام قبل الاستسقاء مما لم يأت به أثر عن النبي - عليه الصلاة والسلام ، ولا عن الخلفاء الراشدين المهديين بعده وإنما هو أمر أحدثه بعض الأمراء ، فاستحسنه كثير من العلماء ؛ فعله موسى بن نصير بافريقية حين رجع من الأندلس ، فاستحسنه الجذامي وغيره من علماء المدينة ؛ وإلى هذا ذهب ابن حبيب ، قال : استحب للإمام أن يأمر الناس قبل بروزه بهم إلى المصلى ، أن يصبحوا صياماً يومهم ذلك ؛ ولو أمرهم أن يصوموا ثلاثة أيام - آخرها اليوم الذي فيه يبروزن ، كان أحب إلي ؛ والمعلوم من مذهب مالك إنكار هذه الأمور المحدثات كلها ، من ذلك أنه كره في سماع ابن القاسم القراءة في المسجد ، والاجتماع يوم عرفة بعد العصر في المساجد للدعاء ، والدعاء عند خاتمة القرآن ؛ فيحتمل ما في هذه الرواية من قوله ما سمعت إنكاراً على من

(2/324)


عمله ، أن يكون أنهى كلام مالك إلى قوله ما سمعت ، أي ما سمعت أن ذلك يفعل ، ويكون إنكاراً على من عمله من قول ابن القاسم ؛ أخبر أن مالكاً أراد بقوله ما سمعت ، الإنكار على من عمله ، فيكون ذلك مطابقاً لمذهبه المعلوم ؛ ويحتمل أن يكون الكلام كله من قول مالك ، فيقتضي جواز ذلك عنده ؛ إذ قد نفى أن يكون سمع الإنكار على من علمه ، والأول من التأويلين أولى - وبالله تعالى أعلم ، وبه التوفيق .
ومن كتاب أوله المحرم يتخذ الخرقة لفرجه
( مسألة )
وسئل مالك عن الرجل يكون عليه قضاء رمضان ، أيصوم يوم عاشوراء قبل قضاء رمضان ؟ قال ما يعجبني ذلك ، وعسى به أن يكون خفيفاً ؛ قيل له أفيصومه في قضاء رمضان ؟ قال : لا بأس به .
قال محمد بن رشد : قوله ما يعجبني ، وعسى به أن يكون خفيفاً ؛ معناه أني أكره ذلك كراهية خفيفة ، وكراهيته له أن يصومه تطوعاً ، يقتضي أن المستحب عنده أن يصومه في قضاء ما عليه من رمضان ؛ وقوله بعد ذلك لا بأس أن يصومه في قضاء رمضان - مخالف لذلك ، إذ لا يقال في الشيء المستحب فعله : لا بأس أن يفعل ، وإنما يقال ذلك في المباح الذي فعله وتركه سواء ؛ وفي سماع ابن وهب ، قيل له : أفيصومه في قضاء رمضان ؟ قال : لا .
معناه لا ينبغي له أن يفعل ويصومه تطوعاً أحسن ؛ فهذه ثلاثة أقوال : أحدها أن الاختيار أن يصام لقضاء رمضان ، والثاني أن الاختيار أن يصام تطوعاً ويؤخر قضاء رمضان ، والثالث أن الأمرين سواء ، يفعل الفاعل أيهما شاء ؛ وهذا الاختلاف إنما يتصور على القول بأن قضاء رمضان على التراخي ، بدليل قول

(2/325)


عائشة - رضي الله عنها - إن كان ليكون على الصيام من رمضان ، فما أستطيع أن أصومه حتى يأتي شعبان ، للشغل برسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ لو كان القضاء على الفور ، لما منعها من ذلك الشغل ، والواجب على التراخي تعجيله أفضل ؛ فلما كان إن صام يوم عاشوراء تطوعاً ، وأخر القضاء ، أحرز فضل اليوم ، وفاته تعجيل القضاء ؛ وإن صامه للقضاء ، أحرز تعجيل القضاء ، وفاته فضل صوم النهار ؛ وقع الاختلاف ، فوجه القول بأن صومه تطوعاً أحسن ، وهو أن فضيلة صومه قد وردت الآثار عن النبي - عليه الصلاة والسلام - بنصها ، وقدرها ؛ وفضيلة تجيل القضاء إنما علمت بالنظر والقياس ، فذلك فيها معدو ؛ وأيضاً فقد روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى ركعتي الفجر بعد طلوع الشمس قبل صلاة الصبح ، وقضى الصلاة على الفور ، فكيف بقضاء الصيام الذي هو على التراخي ؟ ووجه القول بأن صيامه للقضاء أحسن ، هو أنه إن صامه تطوعاً لمن يأمن أن تخترمه المنية قبل القضاء ؛ فلا يقبل منه التطوع على ظاهر ما جاء عن أبي بكر الصديق ، من أنه لا يقبل من أحد نافلة - وعليه فريضة حتى يؤديها ؛ ووجه القول في تخيير الفاعل فيما شاء من ذلك ، وهو أن الدلائل استوت عنده ، واستواؤها دليل على التخيير ؛ وهذا نحو قوله في الإبل إذا زادت على العشرين ومائة - واحدة ، جعل الساعي مخيراً لما استوت عنده الأدلة في مقدار الزيادة المذكورة في الحديث ، إن كان المراد بها ما كانت من قليل أو كثير أو زيادة بغير الفرض ، ظاهر ما في كتاب الصيام من المدونة أن قضاء رمضان على الفور ؛ لأنه قال
فيمن أفطر في رمضان في سفر أو مرض ثم قدم فأقام شهراً ، أو صح شهراً ثم مات ، وأوصى أن يطعم عنه ؛ أن ذلك يكون في ثلثه مبدأ . وكذلك على مذهبه

(2/326)


فيما لو مرض شعبان كله بعد أن صح شهرا . لوجب عليه الإطعام ؛ فعلى هذا لا يجوز له أن يصوم يوم عاشوراء إذا كان عليه قضاء رمضان ، فيأتي في المسألة أربعة أقوال .
ومن كتاب أوله كتب عليه ذكر حق
( مسألة )
وسئل عن امرأة جعلت على نفسها يوماً سمته من الجمعة ما عاشت ، ثم نذرت بعد ذلك صيام سنة لأمر شكرت فيه ؛ أترى عليها قضاء ذلك اليوم الذي كانت نذرته قبل نذر السنة إذا هي قضت السنة ؟ قال لا أرى عليها قضاء ذلك اليوم .
قال محمد بن رشد : معناه : أن السنة التي نذرت سنة بعينها ، فلا تقضي اليوم الذي صامته بالنذر الواجب عليها ، ولا رمضان الذي صامته لفرضها ؛ ومثل هذا في المدونة أنها لا تقضي رمضان ، ولا يوم الفطر ، ولا أيام الذبح ؛ وقال فيها أيضاً فيمن نذر صيام ذي الحجة ، أن عليها أن تقضي أيام الذبح ؛ فحكي عبد الحق عن بعض شيوخه ، أن هذا الخلاف لا يدخل في شهر رمضان ، لأنه قد صامه ؛ وحكي عن غيره أنه يدخل في ذلك ، وأن ذلك موجود لمالك فيك تاب أبي بكر الأبهري ؛ فعلى هذا يدخل الخلاف أيضاً في هذه المسألة ، ويكون عليها قضاء اليوم الذي صامته لنذرها ؛ إذ لا فرق بين ما صامته لنذرها ، وبين ما صامته لفرضها ؛ وأما لو كانت السنة التي نذرت لأمر شكرت فيه سنة بغير عينها ، لكان عليها أن تصوم سنة كاملة ، سواء أيام نذرها ، وأيام صومها لفرضها - قولاً واحداً ، وبالله تعالى التوفيق .

(2/327)


من سماع أشهب ، وابن نافع ، عن مالك ، رواية سحنون
من كتاب الطلاق الثاني
قال أشهب وسمعته يسأل عن الرجل يصنع لأهل المسجد يوم الفطر من رمضان طعاماً ، فيدعوهم إليه ، أترى عليهم إجابته بمنزلة طعام الوليمة ؟ قال مالك ما أرى ذلك ، وإني لأكره مثل هذا لأهل المسجد أن يجيبوا إلى من دعاهم هكذا ، وهم يزرون عليه ويغمصون ؛ وما أرى ذلك لهم ، وإني لأكرهه وما يعجبني ذلك لهم .
قال محمد بن رشد : وهذا كما قال : لأن الدعوات إلى الأطعمة على قصد ما عليها بها ، فمنها ما لا ينبغي أن يحاب إليها ، كهذه وشبهها مما يقصد بها قصداً مذموماً من تطاول ، وامتنان ، وابتغاء محمدة ، وشكر ، وما أشبه ذلك ؛ ومنها ما يجب على المدعو إليها إجابة الداعي إليها ، ولا يجوز التخلف عنها لعذر ؛ وهي دعوة الوليمة التي أمر رسول الله ، صلى الله عليه وسلم بها ، وحض عليها ، وأوجب إجابة الداعي إليها ؛ ومنها ما يجوز إجابة الداعي إليها ولا حرج في التخلف عنه ، وهو ما سوى دعوة الوليمة من الدعوات التي تصنع على جري العاديات ، دون مقصد مذموم ؛ كدعوة العقيقة ، والنقيعة ، والوكيرة ، والخرس ، والأعذار ، وما أشبه ذلك ، ومنها ما يستحب الإجابة إليها - وهي المأدبة التي يفعلها الرجل للخاص من إخوانه وجيرانه ، على

(2/328)


حسن العشرة ، وإرادة التودد والألفة ؛ ومنها ما تحرم الإجابة إليها وهو ما يفعل الرجل لمن يحرم عليه قبول هديته ، كأحد الخصمين ، والقاضي ، وشبه ذلك .
ومن سماع عيسى بن دينار من ابن القاسم
من كتاب العرية
قال عيسى بن دينارك سألت ابن القاسم عن قوم صاموا شهر رمضان صاموا ثلاثين يوماً ، فلما كان في تسعة عشرين كان غيم ، فلما أصبحوا تمام ثلاثين ، رأى الناس الهلال في نصف النهار ، أو عند الزوال ؛ هل ترى على من أفطر تلك الساعة شيئاً ؟ وكان صيامهم قبل ذلك في غيم أيضاً ؟ قال ابن القاسم لا يجوز لأحد أن يفطر حتى الليل ، فإنما الهلال لليلة القابلة ، فمن أفطر ، فإنما عليه القضاء ، لأنه إنما أفطر على تأويل .
قال محمد بن رشد : هذا مذهب مالك وجميع أصحابه ، أن الهلال إذا رئي قبل الزوال أو بعده ، أن لليلة القادمة ؛ إلا ابن وهب فذكر عنه ابن مزين في تفسيره للموطأ ، أنه إذا رئي قبل الزوال ، فهو لليلة الماضية ؛ وإن رئي بعد الزوال فهو لليلة القادمة ؛ وأخذ بذلك عيسى بن دينار ، وإليه ذهب ابن حبيب ، وحكاه - مفسراً عن عمر بن الخطاب ؛ وقال ابن الجهم إن ذلك لا يصح عن مر ، والذي رواه عنه رجل مجهول ، وليس في رواية مالك عنه للزوال ذكر ، ولا فرق بين ذلك ؛ وهو قول ابن مسود ، وابن عمر ، وعثمان بن عفان ، وعلي بن أبي طالب ، وغيرهم من الصحابة ، والتابعين ، رضي الله عنهم أجمعين .
مسألة
وسئل عن رجل مرض في سفر ، فقال لله علي إن شفاني من

(2/329)


مرضي أن أصوم في أهلي خمسة أيام ، فقدم أهله فلم يصمها ، نسي أو غفل ، فذكر وهو في سفر ؛ قال يصومها وهي مجزئة عنه ، وليس في صيامها في أهله قربة إلى الله ، فليصمها حيث شاء .
قال محمد بن رشد : هذا كما قال ، وهو مما لا اختلاف فيه ؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : من نذر أن يطيع الله فليطعه ، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصيه . وقد مضى مثله في أول رسم من سماع ابن القاسم ، وبالله التوفيق .
( ومن كتاب أوله : بع ولا نقصان عليك )
قال ابن القاسم من قال لله علي صيام هذه السنة - وهو في سنة ست وثمانين ، وقد مضى نصفها ؛ قال عليه صيام اثني عشر شهراً .
قال محمد بن رشد : إلا أن يكون أراد ما بقي من السنة فتكون له نيته ؛ قال ذلك مالك في سماع أشهب من كتاب الأيمان بالطلاق ، فإن لم تكن له نية ، فقوله محمول على اثني عشر شهراً يستقبله ، من يوم حلف بعد اليوم الذي هو فيه على مذهب ابن القاسم ، ولا يقضيه ولا يعده على مذهب أشهب ، لأنه يقضيه فيصوم على مذهب ابن القاسم ما بقي من ذلك الشهر من الأيام ، ثم أحد عشر شهراًً على المشهور ، ثم يكمل على الأيام التي صام من الشهر الأول تمام تسعة وعشرين يوماً ، ويكمل عليها على مذهب أشهب ثلاثين يوماً ؛ لأنه يقضي اليوم الذي حلف فيه على قوله فيمن نذر أن يصوم اليوم الذي يقدم فيه فلان فقدم نهاراً ، أن يقضيه ، وبالله التوفيق .

(2/330)


ومن كتاب أوله لم يدرك من صلاة الإمام إلا الجلوس
( مسألة )
قال وسألته عن الأسير يكون في أرض الحرب فلايعرف الشهور ، فيتحرى فيصوم رمضان ثم يخرج إلى أرض المسلمين - وقد صام على التحري سنين ؛ قال يعيد كل رمضان صامه ، إذ لم يدر قبل رمضان صام أو بعده .
قال محمد بن رشد : إذا صام على التحري ثم خرج فلا يخلو أمره من أحد أربعة أحوال ، إما أن يعلم أنه صامه قبلهن وغما أن يعلم أنه صامه بعده ، وإما أن يعلم أنه أصابه بتحريه ، وإما أن يبقى على شكه ؛ فأما إن علم أنه صامه قبله ، فلا يجزئه باتفاق ؛ وأما إن علم أنه صام بعده ، فيجزئه باتفاق ؛ وأما إن علم أنه أصابه بتحريه ، فال يجزئه على مذهب ابن القاسم ، ويجزئه على مذهب أشهب ، وسحنون . وأما إن بقي على شكه ، فلا يجزئه على مذهب ابن القاسم ، ويجزئه على مذهب ابن الماجشون ، وسحنون ؛ ولابن كنانة في المدنية أنه يستحب أن يقي ، إذا علم أنه صام بعده ؛ قال ابن الماجشون ولو انكشف له أنه صام ثلاثة أعوام - شعبان ، شعبان ، فليعد الشهر الأول ، ثم كل شعبان قضاء عن كل رمضان . - يريد بقوله : فليعد الشهر الأول ، أن يلغي الشعبان الأول ، فلا يجزئه ، وليس يعني أن يعيد رمضان الأول ، لأنه عنه وقع شعبان الثاني ؛ والشعبان الثالث قضاء عن الرمضان الثاني ، ويبقى عليه الرمضان الثالث فيقضيه . وقال فضل : قول ابن الماجشون خطأ ، وعليه قضاء الرماضين الثلاثة . وقول فضل صحيح لا يجزئه ما صامه عن رمضان بعينه عن رمضان غيره ، كما لا يجزئه ما صلى عن يوم بعينه عن يوم غيره ، وقد قال ابن

(2/331)


القاسم في المدونة فيمن صام رمضان قضاء عن غيره : إنه يجزئه ، وعليه القضاء على إحدى الروايتين عنه فيها ؛ فعلى هذه الرواية يأتي قول ابن الماجشون ، قول وفضل على الراوي الأخرى ؛ وعلى القول بأنه لا يجزئ عن واحد منهما ، وهذا أصح القولين - والله أعلم
ومن كتاب
أوله سلف ديناراً في ثوب
وقال في الذي ينذر صيام الاثنين فيصبح يوم الاثنين – وهو يظنه يوم الأحد ، فيدعو بالطعام ، فيخبر أنه يوم الاثنين ؛ أنه يتم صيامه ولا شيء عليه إذا كان قد بيت صيامه قبل ذلك ، إذ أمر به ونواه – وإن كان قبل ذلك بأيام ؛ قال وإن أصبح يوم الثلاثاء صائماً – وهو يظنه يوم الاثنين الذي نذر فهو مجزئ عنه .
قال محمد بن رشد : قال فيمن نذر صيام يوم بعينه من الجمعة : إن النية لصيامه تجزئه قبل ذلك بأيام ، ومثله في رسم جاع بعد هذا ؛ ولمالك في مختصر ابن عبد الحكم - وهو قول أشهب ، فجعلوا النية مجزئة عن ذلك اليوم كلما تكرر ؛ وقد روي عن ابن القاسم أن ذلك لا يجوز وهو الصواب الذي يأتي على مذهب مالك في المدونة لأن ظاهر قوله فيها في المرأة تحيض في رمضان ثم تطهر ، أن الصيام لا يجزئها إلا أن تجدد النية ، ولا تجتزئ بالنية الأولى من أجل الفطر الذي يخلل الصيامين ؛ وقال ابن القاسم فيها إنها تجتزئ بالنية الأولى ، ولم يختلف قول ابن القاسم في ذلك ، كما اختلف في مسألة نادر يوم بعينه يوم الجمعة ؛ فيتحصل في المسألة ثلاثة أقوال ، أحدها : أنه لا بد من تجديد النية في المسألتين جميعاً وهو مذهب مالك في المدونة ، لكن النية الأولى إذا كانت

(2/332)


لا تجزئ في مسألة الحائض ، والأيام التي أفطرتها لا يصح لها صومها ؛ كان أحرى أن تجزئ النية الأولى في مسألة ناذر يوم في الجمعة ، لصحة صوم الأيام التي أفطرتها في اليومين .
والثاني أن النية الأولى تجزئ في المسألتين جميعاً ، وهي رواية عيسى هذه ، وقول مالك في المختصر ، وقول أشبه ؛ لأن النية الأولى إذا كانت تجزئ في مسألة ناذر يوم من الجمعة ، أن أحرى أن تجزئ في مسألة الحائض ، للعلة التي قدمنا ذكرها ؛ والثالث أنها تجزئ في مسألة الحائض ، لأن أيام الحيض لما كانت لا يصح صومها ، أشبهت الليل ، فصار صومها كالمتصل ؛ ولا جزئ في مسألة ناذر يوم الجمعة ، لتحلل الفطر بين الصيامين ، وهو أحد قولي ابن القاسم ؛ والصحيح من هذه الأقوال ، أنه لا بد من تجديد النية في المسألتين إذ لو أجزأت النية الأولى في الصيام الثاني ولم تراع ما بينهما من الفطر ؛ لوجب ألا يحتاج في أول رمضان إلى نية ، لتقدم النية في صيامه قبل دخوله ؛ وهذا لا يقوله أحد غير ابن الماجشون ، قد نحا إليه بقوله : أن أهل البلد إذا عمهم العلم برؤية الهلال ، أو بالشهادة فيه عند القاضي ، صح صيام من لم يعلم بذلك منهم متى أصبح ، وأجزأه ما لم يأكل ولم يشرب ؛ وكلك لو تخلل صيام شهر رمضان فطر لمرض أو سفر ، لم يحتج إلى تجديد النية عند صحتهن أو قدومه من سفره ، على قياس رواية عيسى هذه في ناذر يوم من الجمعة بعينه ، وهو بعيد ؛ والذي يوجبه النظر أنه لا بد من تجديد النية في ذلك ؛ وإن إيقاعها قبل غروب الشمس من ليلة الصوم لا يصح ، لقول رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل . فيصح إيقاعها في جميع الليل إلى الفجر ، وقد قيل إن إيقاعها مع الفجر معاً لا يصح ، والأول أصح ، قوله تعالى : {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر} . وإذ قد مضى تحصيل

(2/333)


القول في حكم النية في الصيام الذي يتخلله فطر .
- يريد بتخلله فطر نهاري ، فالصيام الذي لا يتخلله فطر ، ينقسم قسمين : أحدهما ما يجب متابعته بنص أو نذر ، والثاني ما لا يجب متابعته ؛ فأما ما تجب متابعته كشهر رمضان ، وشهري الظهار والنذر المتتابع ، وشبه ذلك ، بنية واحدة عند أول تجزئ في المشهور في المذهب ؛ إذ لا يتخلل ذلك فطر في زمن يصح فيه صوم ، فكان كاليوم الواحد . وقد حكي محمد بن عبد الحكيم عن مالك وجوب التبييت في كل ليلة ، وهو شذوذ . وأما ما كان من الصيام يجوز تفريقه كقضاء رمضان ، وصيامه في السفر ، وصيام كفارة اليمين ، وفدية الأذى ؛ فاختلف إذا نوى متابعة ذلك ، هل جزئه نية واحدة في أوله ؟ أو يلزمه تجديد النية لكل يوم ، لجواز الفطر على قولين ، الأظهر منهما أن تجزئه نية وحدة في أوله ، يكون حكمها باقياً ،و إن زال عينها ، ما لمي قطعها بنية الفطر عامداً ، وأما ما لم ينو متابعته من ذلك ، فلا اختلاف في أن عليه تجديد النية لكل يوم ، وقد مضى التكلم على المسألة الثانية في أول سماع ابن القاسم ، وسيأتي أيضاً في رسم جاع .
مسألة
وقال في الذي يحلف بالله ، أو بالطلاق ، أو غيره ، أن يصوم غداً ، فيصبح صائماً ثم يأكل ناسياً ؛ : إنه لا شيء عليه .
قال محمد بن رشد : إنما قال إنه لا شيء عليه إذا أكل ناسياً ، أي لا حنث عليه ؛ بخلاف ما لو أصبح مفطراً ناسياً ليمينه ، مراعاة للخلاف في وجوب القضاء على من أفطر في التطوع - متعمداً ، أو في رمضان ناسياً ؛ لما جاء في ذلك ، وقد مضى ذلك في رسم اغتسل على غير نية من سماع ابن القاسم ، وقد تكررت هذه المسألة في هذا الرسم من هذا السماع من كتاب الأيمان بالطلاق - ومضى من كلامنا عليها هناك ما فيه زيادة بيان .

(2/334)


مسألة
وقال في الأرعن يصيبه الضربان من الخوى ، أهو مرض من الأمراض إن جاءه من ذلك ما يحتاج معه إلى الفطر في رمضان ؟ فذلك له ، وهو مرض من الأمراض ؛ وأرخص مالك لصاحب الخوى الشديد أن يفطر ، ويتداوى إذا ألجئ إلى ذلك .
قال محمد بن رشد : قال تعالى : {وإن كنتم مرضى أو على سفر لعدة من أيام أخر} فللمريض أن يفطر وإن كان قادراً على الصوم - إذا أجهده الصوم باتفاق ، أو كان لا يجهده ، إلا أنه يخشى أن يزيده في مرضه – على اختلاف ؛ فصاحب الضربان يجهده الصيام ، وصاحب الخوى يخشى أن يزيده في مرضه تأخير العلاج إلى الفطر ، فلذلك قال فيه إنه رخصة – والله تعالى أعلم .
مسألة
قال ابن القاسم ولو أن رجلاً أصبح في الحضر صائماً في رمضان ، ثم بدا له أن يسافر ، فتأول أنه له الفطر ، فأكل قبل أن يخرج ، ثم خرج فسافر ؛ لم أر عليه إلا قضاء يوم ، لأنه متأول .
قال محمد بن رشد : هذه مسألة اختلف فيها على أربعة أقوال :

(2/335)


أحدها أن عليه القضاء والكفارة ، سافر أو لم يسافر . والثاني أن عليه القضاء ولا كفارة عليه ، سافر أو لم يسافر . والثالث الفرق بين أن يسافر أو لا يسافر ، والرابع أنه إن أكل قبل أن يأخذ في أهبة السفر كفر ، سافر أو لم يسافر ؛ وإن أكل بعد أن أخذ في أهبة السفر ، كفر إن لم يخرج . وأظهر الأقوال : ألا كفارة عليه بحال ، لأ ، الكفارة إنما هي تكفير للذنوب ؛ ومن تأول فلم يذنب ، وإنما أخطأ ، والله تعالى قد تجاوز لأمه نبيه - عليه الصلاة والسلام - عن الخطأ والنسيان ، وعما استكرهوا عليه . ووجه قول من أوجب عليه الكفارة في شيء من ذلك ، هو أنه يعذره بالجهل إذ كان ذلك عنده من الأمور البينة التي لا يسع أحداً جهلها ، فإذا لم يتعلم وكان يلزمه أن يتوقف حتى يسأل ، فإذا لم يفعل فإقدامه عليها قبل أن يسأل ، يوجب عليه الكفارة ؛ لقوله تعالى : {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} . ولابن القاسم في المجموعة أن من أراد سفراً فحبسه مطر فأفطر ، فإنه يكفر ، لأنه من التأويل البعيد .
مسألة
قال ابن القاسم من احتجم في رمضان ، فتأويل أن له الفطر فأكل ؛ فليس عليه إلا قضاء ذلك اليوم .
قال محمد بن رشد : أوجب عليه ابن حبيب في الواضحة الكفارة ، ورآه من التأويل البعيد ؛ وهذا من معنى ما تقدم القول فيه - وبالله تعالى التوفيق .
ومن كتاب جاع فباع امرأته
قال : وقال مالك من جعل عليه صيام يوم الخميس والاثنين ،

(2/336)


فأصبح يوم الخميس - وهو يظنه الأربعاء ، فلم يأكل حتى علم ؛ قال مالك يصوم ولا شيء عليه ، ويكفيه إيجابه على نفسه أولاً في نيته ؛ قال : ولو أصبح يوم الأربعاء صائماً وهو يراه الخميس ثم علم بذلك ، فإن عليه أن يتمم ذلك اليوم ويصوم الخميس ؛ قيل لمالك فلو جاوز يوم الخميس ، فلما كان يوم الجمعة أصبح صائماً وهو يراه يوم الخميس ؛ قال يجزئه من يوم الخميس .
قال محمد بن رشد : هذه ثلاث مسائل قد مضى القول على المسألة الأولى منها في رسم سلف قبل هذا ، وعلى المسألة الثانية في أول رسم من سماع ابن القاسم ، وإيجاب ابن القاسم عليه في المسألة الثانية أن يتمم ذلك اليوم يدل على أنه ( إن ) أفطره وجب عليه القضاء خلاف قول أشهب في المدونة .
مسألة
وقال مالك فيمن كان في أرض العدو فعمي عليه رمضان ، كان عليه صيام شهر نذره ، فصام رمضان لنذره -وهو لا يراه رمضان ، ثم تبين له ؛ قال لا يجزئه لرمضان ولا لنذره .
قال محمد بن رشد : أما قوله لا يجزئه لرمضان فبين ، لأنه لم ينو به رمضان ؛ ولا تكون الأعمال إلا بالنيات . وأما قوله ولا لنذره ، فيدخل ذلك الخلاف من مسألة الذي صام رمضان قضاء عن غيره ، وسيأتي القول عليها في أول سماع يحيى ، وبالله التوفيق .
مسألة
وسئل عن الذي يجعل على نفسه صيام يوم الخميس فأصبح

(2/337)


يوم الخمس مفطراً - وهو يراه الأربعاء ، فأكل وشرب ، ثم تبين له أنه الخميس ، أيكف عن الطعام في بقيه يومه ؟ قال نعم ، يكف عن الطعام في بقية يومه ، وعليه القضاء .
قال محمد بن رشد : هذه مسألة صحيحة بينة على أصولهم في أن حكم صيام النذر المعين في الوجوب ، كحكم صيام رمضان ، إلا في وجوب الكفارة على من أفطر متعمداً ، وبلله التوفيق .
ومن سماع يحيى بن يحيى
من عبد الرحمن بن القاسم من كتاب الصلاة
قال يحيى قال ابن القاسم في الرجل يصوم رمضان فينوي به قضاء رمضان قد كان أفطره في سفر ، أو مرض ؛ قال لا يجزئ عليه لشهر رمضان عامه ذلك ، ولا للذي نوى صيامه قضاء عنه . وعليه أن يبتدئ قضاء الشهر الذي أفسد صومه بما نوى ، وقضاء الأول الذي كان أفطره في مرض أو في سفر ؛ لأنه أفسد الأخر حين نواه قضاء لما كان عليه من الصوم ، ولم يجز عنه في القضاء ، لأن رمضان لا يكون قضاء عن غيره .
قال محمد بن رشد : هذا هو قول مالك في رواية أشهب ، وعلي بن زياد عنه ؛ وقول أشهب وسحنون وابن حبيب واختيار أحمد بن خالد وابن المواز ، أنه لا يجزئه عن واحد منهما ،لأن رمضان صومه مستحق لعينه ، فلا يصح أن يقضى فيه غيره ؛ ولأنه نوى به قضاء غيره ، فلا يجزئه عن فرضه ؛ وزاد ابن المواز أنه يكفر عن الأول بمد لكل يوم ، ويكفر عن هذا بكفارة العمد عن كل

(2/338)


يوم ، إلا أن يعزر بجهل ؛ وقال أشهب إنه لا كفارة عليه ، لأنه قد صامه ولم يفطره ـ وإن كان لا يجزئه صيامه ؛ وأما كفارة المفرط في الأولى ، فيجب عليه إن كان صحيحاً مقيماً ففرط حتى دخل عليه هذا الرمضان ؛ ووقع لابن القاسم في المدونة أنه يجزئهن وعليه قضاء رمضان الآخر - بفتح الخاء - على أنه يجزئه عن هذا الرمضان ، ولا يجزئه عن القضاء ، وهو الذي يدل على لفظه واحتجاجه ؛ إلا أنه يعيد في المعنى أن يجزئه عنه - وهو لم ينوه بصيامه ، وروي الآخر بكسر الخاء على أنه يجزئه عن القضاء ، ولا يجزئه عن هذا الرمضان ؛ وهو أشبه في المعنى ، لأنه نوى به القضاء ، ولم ينو به هذا الرمضان . إلا أنه بعيد مما يدل عليه لفظه ، والصحيح الذي يوجبه النظر ما تقدم : ألا يجزئه عن واحد منهما . ولقد روي عن ابن القاسم فيمن صام رمضان في سفر قضاء عن غيره ، أنه لا يجزئه ؟ فكيف بمن صامه عنه في حضر ، ورأى غيره أنه يجزئه إن فعل - وإن كان ذلك يكره له - وهو القياس ، لأن له فطره ؛ ولو نواه عنهما جميعاً ، لوجب أن يجزئه عن هذا الرمضان ، ولا يجزئه عن القضاء ؛ لأنه صامه عما وجب عليه أن يصومه له ، فلا يفسد نيته ما زاد فيها مما لا يجوز له من نية القضاء ، وهو قول ابن حبيب في الواضحة ؛ وقد روي عن أشهب أنه لا يجزئه عن واحد منهما . وأما إذا خلط النيتين في الحج والنذر ، فقال مالك إنه يجزئه عن النذر . وقال المخزومي إنه يجزئه عن الفرض .
واختلافهما جار على الاختلاف في الحج : هل هو على الفور ، أو على التراخي ؟ ولم يقل أحد فيما علمت أنه لا يجزئ عن واحد منهما ، وهذا يقضي بصحة قول ابن حبيب : إنه إذا صام رمضان ينوي به صيامه وقضاء غيره ، أجزأه عن الفرض ، ولم يجزه عن القضاء ، خلال قول أشهب
مسألة
وقال : إذا صام الرجل يوما متطوعا ثم أفطر من غير عذر ، كان عليه قضاؤه . ثم إن أفطر أيضاً يوم القضاء من غير عذر ، كان عليه

(2/339)


قضاء يومين : يقضي يوماً لليوم الأول الذي كان ابتدأ صيامه ، ويوماً لليوم الثاني الذي كان يصومه للقضاء ؛ قال فأما الذي يفطر في رمضان من مرض ، أو سفر ، ثم يقضي صيامه ، فيفطر يوماً من أيام القضاء بعدما أصبح صائماً للقضاء ، فإنما عليه أن يقضي يوماً مكانه ؛ ثم إن أفطر في قضاء القضاء ، كان عليه مكانه صيام يومين ؛ قال وأما الحج فمجمع على الذي يفسد حجة بإصابة النساء ثم يحج قابلاً ويهدي مكان ما أفسد من حجه أنه إن أفسد الحجة الثانية بإصابة النساء ، كان عليه أن يقضي حجتين مستقبلتين ، ويهدي هديين لكل حجة أفسدها .
فال محمد بن رشد : ظاهر قوله ، أنه فرق بين قضاء التطوع وقضاء رمضان ، وبين قضاء رمضان وقضاء قضائه ؛ فأوجب في فطر قضاء التطوع يومين ، وفي فطر قضاء رمضان يوماً واحداً ، وفي قضاء ( قضائه ) يومين فجعل قضاء قضاء رمضان كقضاء التطوع ، بخلاف قضاء رمضان ؛ ولا يصح أن يحمل الكلام على ظاهره في هذا ، إذ لا فرق في المعنى ، والقياس بين قضاء رمضان وقضاء التطوع ، ولا بين قضاء قضاء رمضان ، وقضاء قضاء التطوع . فمعنى قوله في الذي يقطر يوماً من أيام قضاء رمضان ، إنما عليه أن يقضي يوماً مكانه ، يريد لفطره يوم القضاء ، مع أن عليه يوماً آخر لرمضان سكت عنه للعلم بوجوبه عليه ؛ فالمفطر على هذه الرواية متعمداً في قضاء رمضاء رمضان ، كالمفطر متعمداً في قضاء التطوع ، يجب عليه يومان ههنا ، ويومان ههنا ؛ يوم لفطره في القضاء ، واليوم الذي كان وجب عليه ـ لإفطاره في رمضان ، أو لإفطاره متعمداً في التطوع ، ثم أفطر بعد ذلك متعمداً في قضاء القضاء ، كان عليه صيام ثلاثة أيام ، اليوم الذي كان ترتب في ذمته بالفطر في رمضان ، أو بالفطر

(2/340)


متعمداً في صيام التطوع ؛ ويوم في القضاء متعمداً ، ويوم
لفطره في قضاء القضاء متعمداً ؛ وقد روى عن ابن القاسم أنه ليس عليه في ذلك كله إلا يوم واحد ، وهو اليوم الذي وجب عليه لفطره في رمضان ، أو لفطره في صيام التطوع ـ معتمداً ، ولا شيء عليه لفطره متعمداً في القضاء ، ولا في قضاء القضاء ـ قاله في سماع عيسى من كتاب الحج ، وإليه ذهب أصبغ ، وضعف قول من أوجب القضاء في القضاء أو في قضاء القضاء ، ورأى ذلك في الحج استحساناً ؛ ورأى قول ابن القاسم وروايته عن مالك في ذلك وهماً وخطأ ، وقع ذلك في بعض روايات المستخرجة ؛ ووجه القول الأول ، أنه لما دخل في القضاء ، وفي قضاء القضاء ، لزمه اتمامه ؛ لقوله تعالى : {ولا تبطلوا أعمالكم} . فوجب عليه إن أفطره متعمداً قضاؤه ، ووجه القول الثاني أنه لم يجب عليه إتمامه إلا على الوجه الذي دخل فيه من القضاء ، فإن أفطره متعمداً ، لم يجب عليه إلا القضاء الذي كان عليه ؛ فعلى القول الأول لو دخل في القضاء ثم علم أنه ليس عليه شيء يجب عليه إتمام صيامه ، وهو قول ابن القاسم في المدونة ؛ وعلى القول الثاني لا يجب إتمامه ، وهو قول أشهب في المدونة أيضاً .
ومن سماع سحنون
من عبد الرحمان بن القاسم
قال سحنون : أخبرني ابن القاسم قال : سئل مالك عن الذي يكون عليه صيام رمضان ، وصيام تمتع ، ويحضره رمضان آخر ؛ قال : إن كان يقدر على أن يصوم صيام التمتع ورمضان قبل أن يدخل الآخر ، بدأ بالتمتع ، وإن لم يطمع بذلك ، بدأ برمضان ، ثم قضى التمتع .
قال محمد بن رشد : هذه مسألة المدونة ، وإنما قال إنه يبدأ بالتمتع إذا اتسع الوقت له وللقضاء ، لأن الاختيار ألا يفارق بين الثلاثة الأيام والسبعة

(2/341)


بصيام ، قوله عز وجل : {وسبعة إذا رجعتم} - الآية . وفي تأخير قضاء رمضان إلى الرمضان الذي بعده سعة ، لقول عائشة : أن كان ليكون علي الصيام من رمضان ، فما أستطيع أن أصومه حتى يأتي شعبان . وأما إذا ضاق الوقت عن أحدهما ، فالبداية بقضاء رمضان أوجب ، لأنه قد تعين في هذا الوقت ؛ ألا ترى أنه إن أخره عنه ، وجب عليه الإطعام .
مسألة
قال ابن القاسم : قال مالك : من كان عليه قضاء صيام يوم ، فصامه فأكل فيه - معتمداً ، كان عليه قضاؤهما ؛ قال ابن القاسم وكذلك الحج يفسده صاحبه ،فيحج حجة أخرى قضاء منها فيفسدها أيضاً : إن على حجتين : واحدة للأولى ، وأخرى للأخرى ، وهذا بين ؛ قال ابن وهب : ليس عليه إلا حجة واحدة ، وهديان : هدي لكل حجة أفسدها .
قال محمد بن رشد : أوجب في هذه الرواية القضاء في القضاء ، ولم يفرق بين أن يكون القضاء الذي أفطره - متعمداً من رمضان ، أو من تطوع ، إذ لا فرق بينهما على ما بيناه في سماع يحيى ؛ وساوى بين الحج والصيام ، وفرق بينهما على الرواية الثانية في سماع عيسى من كتاب الحج ؛ إذ لم يختلف قوله في الحج ، كما اختلف في الصيام ؛ وقد قال في سماع يحيى أن الحج مجتمع عليه - يريد من قول مالك وابن القاسم ، إذ قد خالف فيه ابن وهب ؛ ووجه الفرق بينهما ، أن الله قد نص على وجوب إتمام الحج والعمرة بقوله - عز وجل : {واتموا الحج والعمرة لله} . ولم ينص على وجوب إتمام الصيام ، وإنما أوجب بالقياس - وبالله التوفيق .

(2/342)


مسألة
( وسئل ) عن الرجل يقول لله علي أن أصوم اليوم الذي يقدم فيه فلان ، مثل أبيه أو أخيه ، فيأتي أبوه أو أخوه فينسي اليوم الذي قدم فيه ؛ قال أرى أن يصوم آخر أيام الجمعة - وهو يوم الجمعة ، لأن أول الجمعة السبت .
قال محمد بن رشد : معنى هذه المسألة : أنه نذر أن يصوم اليوم الذي يقدم فيه ( أبوه ) أبداً ، فلهذا جعله أن يصوم آخر أيام الجمعة - يريد أبداً ، ليكون في معنى القاضي ، وقد قيل إنه يصوم الدهر . وقيل إنه يصوم أي يوم شاء من الجمعة أبداً ؛ اختلف في ذلك قول سحنون ، وصيام الدهر هو القياس ؛ ليأتي على شكه ، كمن شك في صلاة من يوم لا يدري أي صلاة هي ؟ أن عليه أن يصلي خمس صلوات ، فصيام آخر يوم من الجمعة رخصة ، لما جاء من كراهة بعض العلماء صيام الدهر ، لما جاء في ذلك عن النبي - عليه الصلاة والسلام - من قوله : لا صام ولا أفطر من صام الدهر . يريد ما أفطر إذ لم يأكل ، ولا صام إذ لم يؤجر . وأما لو نذر أن يصوم اليوم الذي يقدم فيه خاصة ، لم يجب عليه قضاؤه ؛ إذ قد مضى اليوم الذي نذره ، أو قد جاز له الفطر - إن كان قد قدم نهاراً ما في المدونة . وقال أشهب يقضيه ، ويقضيه على مذهبه ، ومذهب ابن القاسم - إن كان يقدم

(2/343)


ليلاً - أي يوم شاء ؛ ولا وجه لتأخيره إلى آخر أيام الجمعة ، ولا اختلاف في هذا ، فتدبره .
مسألة
قيل لسحنون أرأيت من صام رمضان كله من أوله إلى آخره ، وهو جنب لم يغتسل فيه ، هل يجزئه صيامه ؟ قال لي : نعم يجزئه صيامه ، وإن كان عامداً لم آمره أن يعيد - وقد أخطأ ، وظلم نفسه - والله أعلم ؛ وأما الصلاة فلابد من الإعادة لها .
قال محمد بن رشد : وهذا كما قال ، والأصل فيه ما ثبت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصبح جنباً ، ثم يصوم ذلك اليوم - وبالله تعالى التوفيق .
مسألة
وسئل سحنون عمن نذر أن يصوم الدهر كله ، فأفطر يوماً ؛ قال سحنون إن أفطره ناسياً ، أو من عذر ، فلا شيء عليه ؛ وإن أفطره من غير عذر ، فعليه الكفارة ، قيل وما الكفارة ؟ قال إطعام مد ، أخبرنيه أبو زيد عن ابن القاسم .
قال محمد بن رشد : لسحنون في كتاب ابنه : أن عليه إطعام ستين مسكيناً ، ووجه هذا ، أنه لما أفطر متعمداً ما لا يجد له قضاء ، أشبه الفطر في رمضان متعمداً في أنه لا يجد له قضاء ؛ إذ قد جاء أنه لا يقضيه بصيام الدهر - وإن صامه . ووجه القول الأول ، القياس على كفارة التفريط ؛ لأنها كفارة وجبت للفطر - متعمداً فيم وضع لا يجوز فيه الفطر ، وهذا أفطر متعمداً في موضع

(2/344)


لا يجوز فيه الفطر ؛ واختلف فيمن نذر صيام الدهر ، فلزمه صيام ظهار ، أو كفارة يمين ؛ قال ابن حبيب يصوم ذلك ولا شيء عليه . وقال سحنون يصوم ويطعم عن كل يوم مداً . ومثل قول ابن حبيب في سماع أصبغ من قوله وروايته عن ابن القاسم في رسم الجامع في بعض الروايات - وبالله التوفيق .
من سما موسى من ابن القاسم
قال موسى بن معاوية : قال ابن القاسم سألت مالكاً غير مرة عن الرجل يبيت الصيام في السفر ، ثم يفطر بالطعام ، وفي بعض سؤالي إياه أقول له ويرى المسافر أن الفطر له واسع ، فيفطر على ذلك ؛ قال مالك أرى عليه الكفارة . وكذلك أن لو وطئ ؛ قال ابن القاسم والوطء لا يكون أشد من الطعام في شيء من رمضان ، وسمعت الليث يرى ذلك أيضاً ، ويقول عليه الكفارة في المسافر يبيت الصيام ثم يفطر .
قال محمد بن رشد : هذا يبين مذهب مالك في المدونة أن عليه القضاء والكفارة - وإن كان متأولاً ، وفي المدنية لمالك : أنه لا كفارة عليه - وإن كان متعمداً من غير عذر ، مثل قول ابن كنانة والمخزومي في المدونة ، وأشهب يرى عليه الكفارة ، إلا أن يكون متأولاً ؛ وهذا هو أظهر الأقوال ، لحديث النبي - عليه الصلاة والسلام : "أنه خرج عام الفتح إلى مكة في رمضان فصام حتى بلغ الكديد ، ثم أفطر فأفطر الناس" - الحديث .

(2/345)


مسألة
قال ولا يجزئه الصيام في السفر إلا أن يبيته في صيام رمضان .
قال محمد بن رشد : معناه أنه لا يجزئه الصيام في السفر في رمضان ، إلا أن يبيته في كل ليلة - ( ولو نوى أن يتابع الصيام في سفره ؛ وأما إذا لم ينو متابعة الصيام ، فلا اختلاف في أنه لا بد له من التبييت في كل ليلة ، وفي المبسوطة لمالك ، لا تبييت على من شأنه سرد الصيام ، ومثله في الواضحة ، وقال أبو بكر الأبهري ، ومحمد بن الجهم هذا استحسان ، والقياس أن عليه التبييت في كل ليلة ) لجواز الفطر له ؛ فما في المبسوطة لمالك ، خلاف قول مالك في هذه الرواية ؛ وقد مضى هذا المعنى في أول رسم تسلف من سماع عيسى - وبالله التوفيق .
من سماع أصبغ من ابن القاسم
من كتاب الزكاة والصيام
قال أصبغ سمعت ابن القاسم يقول فيمن كانت فيه نواة أو حصاة يعبث بها ، فنزلت في حلقه ؛ أنه لا قضاء عليه في صيام النافلة ، وفي الذباب يدخل الحلق وينزل إلى الجوف ولا يستطيع رده ، فلا قضاء عليه لا في النافلة ولا في الفريضة ؛ وليس ذلك بمنزلة النواة يعبث بها يقضي في النواة في الفريضة ، وعليه الكفارة مع القضاء وليس هذا بتأويل أحد يسقط به الكفارة ، وهذا تأويل خطأ ، وقاله أصبغ ؛ وذلك إذا عبث بها وتهاون حتى يبتلعها ، فهو بمنزلة المعتمد ، والمتعمد عليه في تعمده هذا - القضاء والكفارة ؛ وذلك أن للنواة غذاء ، وكذلك الطين في هذا ؛ وأما الحصاة فإن كان في فريضة -

(2/346)


وكان ساهياً - فلا شيء عليه ، لأن الحصاة ليس يصير لها غذاء ، لا تذبل في الجوف كذبول النواة ؛ وهي بمنزلة الدينار والدرهم يبتلعهما ساهياً ، فلا شيء عليه ؛ وإن تعمد شيئاً من ذلك ، كان عليه القضاء في الفريضة للتهاون ، وعظم حرمة الفريضة وحقها - احتياطاً عليه ؛ وكذلك اللوزة الصحيحة ، والجوزة ، والفستقة بقشرها ، تجري مجرى الحصاة والدينار ، والدرهم .
قال محمد بن رشد : قوله في النواة يعبث بها فتزل في حلقه ، أنه لا قضاء عليه في صيام النافلة ؛ معارض لقوله : إن عبث بها فنزلت في حلقه في الفريضة كانت عله الكفارة مع القضاء ، وإن كان ساهياً فعليه القضاء ؛ فكان يجب على قوله في الفريضة ، أن يجب عليه القضاء في النافلة ؛ وعلى قوله في النافلة ألا يجب عليه في الفريضة - الكفارة في العمد ، ولا القضاء في السهو ؛ وهذا كله خلاف أصل ابن الماجشون في الواضحة ، إذ لم يفرق في شيء من هذا بين ما له غذاء مما ليس له غذاء ؛ وقال لم يؤخذ هذا من جهة الغذاء ، وإنما أخذ من أن حلق الصيام مما لا تجاوزه شيء ، فإن كان ناسياً في شيء من ذلك كله ، كان عليه القضاء ؛ وإن كان عامداً ، كان عليه القضاء والكفارة ؛ وقال على هذا الأصل في الذباب يبذر في الحلق ، أن عليه القضاء ؛ ثم خالف أصله هذا فقال فيما بقي بين أسنانه من بقية طعامه كحبة التينة ، وفلقة الجريدة ،فابتلعه في نهاره - ناسياً ، أو متعمداً ، فلا شيء عليه ؛ لأنه ابتدأ أخذ ذلك في وقت يجوز له ، وكذلك قال في النخامة إنه لا شيء عليه في ابتلاعه إياها - ساهياً كان ، أو متعمداً - بعد فصلوها ، أو قبل فصلوها ؛ وقال إن كل ما وجب فيه في الفريضة القضاء والكفارة ، وجب فيه في النافلة القضاء ؛ وما لم يجب في الفريضة إلا القضاء ، فلا يجب فيه في النافلة قضاء ؛ ولم يلزم ابن القاسم هذا الأصل ، فقال في النواة يعبث بها فتنزل في حلقه : إنه لا قضاء عليه في النافلة ، وعليه في الفريضة والنافلة ؛ ووافق ابن القاسم في ما روى عنه أصبغ في بعض روايات

(2/347)


العتبية في النخامة أن لا شيء عليه في ابتلاعه إياها عامداً . وقال ابن نافع عليه القضاء وهو يفطره .
مسألة
قال أصبغ : قال ابن القاسم : وإن أتعب الصائم الحر ، أو العطش في رمضان ،فأرجو أن يكون في سعة من الفطر ، إذا كان قد بلغ ذلك منه ، ولم يقو ؛ وقاله أصبغ في سفر كان ، أو في حضر - إذا بلغ منه المجهود والخوف على نفسه الموت أو المرض .
قال محمد بن رشد : أما إذا خاف على نفسه الموت مما بلغه ، فلا اختلاف في جواز الفطر له ، واختلف إذا خاف المرض ، فقيل له أن يفطر ، وقيل ليس له أن يفطر لما يخاف من المرض ، ولعله لا ينزل به ؛ واختلف إذا أفطر ، فقال سحنون يأكل بقية يومه ، لأنه قد جاز له الفطر ، ورواه داوود بن سعيد عن مالك ؛ وقال ابن حبيب لا يفطر إلا بقدر ما يرد به رمقه ، ويمسك ؛ فإن أفطر بعد ذلك فلا شيء عليه ، لأنه قد دخل في حد المريض - وبالله التوفيق .
مسألة
قال ابن القاسم في الذي يصيبه الضربان من الخوى فهو مرض من الأمراض إذا جاءه من ذلك ما يحتاج معه إلى الفطر في رمضان ، فذلك له ، لأنه مرض من الأمراض .
قال محمد بن رشد : قد تقدمت هذه المسألة في رسم سلف من سماع عيسى ، فلا معنى لإعادة القول فيها وبالله التوفيق .

(2/348)


ومن كتاب الجامع
قال أصبغ سمعت ابن القاسم - وسئل عن النصرانية تحت المسلم - أيفطرها في صومها الذي تصومه مع أهل دينها ؟ قال لا أرى أن يكرهها على ما عليه أهل دينها وملتها - يعني شرائعها ؛ ولا على أكل مايجتنبون في صيامهم ، أو مايجتنبون أكله رأساً ، ليس ذلك له في القضاء ؛ قال أصبغ ولا عليه منعها إياه كرهاًن ولا له ؛ وقد قال الله تعالى : {لا إكراه في الدين ، قد تبين الرشد من الغي} وقرأ : {قل يا أيها الكافرون - حتى بلغ لكم دينكم ولي الدين} .
قال محمد بن رشد : وهذا كما قال ، وهو مما لا اختلاف فيه ، أنه ليس له أن يمنعها مما تنشرع به ؛ واختلف هل له أن يمنعها من شرب الخمر ، وأكل الخنزير ، والذهاب إلى كنسيتها ؛ فقال في المدونة ، ليس له أن يمنعها من ذلك ، وقال في كتاب ابن المواز أن يمنعها من أكل الخنزير ، وشرب الخمر ؛ لأن ذلك ليس من دينها ، وله أن يمنعها من الكنيسة إلا في الفرط .
من سماع أبي زيد ابن القاسم
قال أبو زيد بن أبي الغمر : أخبرني ابن القاسم ، قال في المعتكفة تحيض فتخرج إلى منزلها حتى تطهر ؛ قال تخرج في حيضتها إلى السوق ، وفي حوائجها ، وتصنع ما أرادت إلا لذة الرجال : القبلة ، أو الجسة ، لا تجتنب شيئاً إلا اللذة .
قال محمد بن رشد : أنكر سحنون هذه وقال هي في حرمة الاعتكاف ، إلا أنها تمتنع من المسجد ، فلا تتصنع إلا ما يصنعه المعتكف ، وقد مضى هذا في أول سماع ابن القاسم ، وما يتعلق به ، وبالله التوفيق .

(2/349)


مسألة
وقال في رجل استقاء في نافلة - وهو صائم ، قال أحب إلي أن يقضي ذلك ، لأن الحديث جاء من استقاء ، فعليه القضاء . وهو - عندي - في الفريضة والنافلة سواء .
قال محمد بن رشد : هذا خلاف أصل ابن الماجشون الذي ذكرناه في سماع أصبغ ، وقد حكى ابن لبابة عن ابن القاسم من رواية محمد بن خالد - مثل أصل ابن الماجشون ، فقف على ذلك .
مسألة
وسئل عن رجل جعل في نفسه إن كشف الله عني صيام شوال ، فلم يصح إلا في النصف من شوال ؛ قال يصوم النصف الذي صح فيه من شوال ، وليس عليه أن يتمه .
قال محمد بن رشد : وهذا كما قال ، لأن ما مضى قد جاز له فطره وهو مثل ما في المدونة .
مسألة
وسئل عن رجل تسحر في مرضان في الفجر ، فظن أن ذلك اليوم لا يجزئ عنه صيامه ، فأكل - متأولاً ؛ قال يقضي يوماً مكانه ، ولا كفارة عليه ؛ قال وكذلك من قدم من سفر قبل الفجر ، فظن أن ذلك اليوم لا يجزئ عنه صيامه فأكل فيه ؛ فرأيت في

(2/350)


معنى قوله كأنه لا يرى على من تأول شيئاً -وهو فيه مخطئ إلا القضاء فقط ، ولا يرى عليه كفارة .
قال محمد بن رشد : هذا كله بين مثل ما في المدونة ، فلا معنى للقول فيه .
مسألة
وقال في الذي يرى هلال شوال وحده ، هل يجوز له أن يفطر ؟ أو يرى هلال رمضان وحده ، هل يصوم ذلك اليوم ؟ قال : أما إذا رأى هلال رمضان وحده ، فإنه يصوم ، ولا ينبغي له إلا ذلك ؛ وأما إذا رأى هلال شوال ، فإنه لا يجوز له أن يفطر إلا باجتماع من الناس ، إلا أن يكون وحده في سفر ، وفي غير جماعة من الناس ؛ مثل المسافر يكون في مفازة ، فإنه يصوم برؤية الهلال ، ويفطر برؤيته ؛ إلا أن يغمى عليه هلال شوال ، فيعد ثلاثين يوماً من يوم رأى هلال رمضان ، يفطر .
قال محمد بن رشد : أما إذا رأى هلال رمضان وحده ، فلا خلاف في أنه يجب عليه أن يصوم ؛ فإن أفطر عالماً بوجوب الصيام عليه غير متأول ، فعليه القضاء والكفارة ، وكذلك إن رأى هلال ذي الحجة وحده يجب عليه أن يقف وحده دون الناس ، ويجزئه ذلك من حجة - . قال بعض المتأخرين ، وهو صحيح . وأما إذا رأى هلال شوال وحده دون الناس -وهو في جماعة ، فقال إنه لا يجوز له أن يفطر إلا باجتماع من الناس ، والفطر له فيما بينه وبين الله جائز ، بل هو الواجب عليه ، لنهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن

(2/351)


صيام ذلك اليوم ، لكنه حظره عليه لما فيه من تعريض نفسه للتهمة ، وعقوبة السلطان ؛ ومثل هذا في المدونة والموطأ وغيرهما من الدواوين ، وأبينه قول أصبغ في سماعه من كتاب طلاق السنة ، واستحب ابن حبيب أن ينوي الفطر ولا يظهر إفطاره ؛ والصحيح أن هذا هو الواجب عليه أن يفعله - - وإن كان ذلك مخالفاً للروايات ، لأن الصوم من أفعال القلوب ، فلا يجوز له أن يعتقد الصوم - وهو يعلم أنه عليه حرام .
ومن مسائل نوازل سئل عنها مطرف
وسئل مطرف عن المعتكف أيؤم الناس ؟ قال لا بأس بذلك ، وقد رأيت الحسن بن زيد اعتكف عندنا في المسجد - وكان يؤمنا ، وهو إذ ذاك أمير المدينة ، فلم أر أحداً أنكر ذلك عليه ، وما أرى به بأساً ؛ وقد اعتكف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يسمع أنه أمر أحداً يؤمهم ، ومحمل أمره عندنا على أنه هو الذي يؤمهم - وهو على اعتكافه - كما هو .
قال محمد بن رشد : قوله صحيح ، لأن الإمامة للمعتكف بالناس في مسجد معتكفه ، ليس فيها شغل عن اعتكافه ؛ واستدلاله على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو الذي كان يؤم الناس في اعتكافه - على حاله - التي كان عليها ، فإنه لو استخلف على الصلاة غيره ، لنقل ذلك وعلم ؛ استدلال واضح ، لأن هذا مما يعلم توفر الدواعي على نقله ، فلو كان ؛ لنقل .
مسألة
وسئل مطرف عن المعتكف يقبل امرأته ، والمتظاهر ، ما الذي

(2/352)


ترى فيهما ؟ قال أرى أن قد أفسدا ما هما فيه ، فأما المتظاهر فأرى أن يبتدئ صيامه ، وأما المعتكف فأرى أن يبتدئ اعتكافه ؛ قلت له في القبلة فقط ، فقال نعم في القبلة ، وكذلك لو جساهما بأيديهما ، كان ذلك مما يفسد عليما ما هما فيه ؛ قلت له فالحاج أو الصائم إذا قبلا ؟ فقال أما الصائم فلا شيء عليه ، إلا أن يمذي ؛ وأما الحاج فحجه تام مجزئ عنه ، إلا أن عليه الهدي لمكان ما قبل .
قال محمد بن رشد : أما المعتكف فلا اختلاف أحفظه في المذهب في أن القبلة والمباشرة تبطل اعتكافه ، وأما المتظاهر ، فلأصبغ في نوازله من كتاب الظهار ، أنه إن قبل في شهري صيامه استغفر الله تعالى ، وتمادى على صيامه ؛ وهذا أحد قولي سحنون ، قال لأن المعتكف ممنوع من كل امرأة ، والمتظاهر ليس بممنوع إلا من امرأته التي ظاهر منها ؛ ومن أهل العلم في غير المذهب من يبيح للمتظاهر من امرأته التي ظاهر منها ، ما دون الجماع قبل الكفارة ، كما أن منهم أيضاً من لا يبطل الاعتكاف بما دونه ، ويحمل قوله تعالى في الآيتين جميعاً : آية الظهار ، وآية الاعتكاف ، - على الجماع ، لا على ما دونه ؛ وأما الصائم فلا يبطل صيامه ما دون الجماع ، إلا أن ينعظ أو يمذي على اختلاف ، أو ينزل باتفاق ، وقد مضى تحصيل ذلك في رسم من طلق من سماع ابن القاسم ؛ وأما الحاج فلا يبطل حجه بما دون الجماع ، إلا أن ينزل ، غير أن عليه في ذلك كله الهدي - وبالله التوفيق .
تم الصيام والاعتكاف
بحمد الله وحسن عونه وتوفيقه

(2/353)