البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة

كتاب الجهاد الأول
من سماع ابن القاسم من مالك رواية سحنون بن سعيد
من كتاب أوله حلف ألا يبيع رجلاً سلعة سماها
قال سحنون : أخبرني ابن القاسم ، قال : سمعت مالكاً يقول في القوم يكونون في الغزو ( فيغنمون الغنائم ) ، فيقولون أشياء مثل القصعة ، وأشباه ذلك ، لا يبتغونها ويسلمونها ، فيأخذ الرجل ؛ أترى أن تكون له ؟ قال إذا أسلموها فارتحلوا عنها ، فأراها له ولا أرى فيها خمساً .
قال محمد بن رشد : وهذا كما قال ، لأن ما غنمه المسلمون من متاع العدو فلم تكن له قيمة ، ولا وجد له ثمن لزهادة الناس فيه ، وعجز الإمام عن حمله فلم يقبله ، ولا ضمه إلى غنائم المسلمين ، فالواجب أن يخلى بين الناس وبينه لمن أخذه على غير قسم دون سائر الجيش ، ولا يكون فيه خمس ؛

(2/515)


لأن الوجه فيه - إن لم يأخذه أحد ، أن يحرق ولا يترك للعدو ينتفعون به ؛ فلما كان هذا هو الوجه فيه ، وجب أن يكون لمن أخذه وانصرف إلى بلده حلالا ، ولا يكون عليه أن يتمخى من شيء منه ؛ والأصل في هذا قوله عليه الصلاة والسلام في ضالة الغنم : "هي لك أو لأخيك أو للذئب" .
هذا فيما تقرر الملك عليه ، فكيف بما لم يتقرر عليه الملك للمسلمين ، لكونه بعد في حوزة المشركين ؛ وكذلك إن أخذ ذلك أحد فجازه ، ثم عجز عن حمله فألقاه وتركه ، كان لمن أخذه بعده فاحتمله ؛ ولا اختلاف في هذا - أعلمه ، وإنما اختلفوا فيمن صار إليه شيء من غنائم المسلمين باشتراء أو قسم ، فضعف عن حمله وتركه على وجه اليأس من هفي حوزة العدو ، فوجده أحد من الناس فأخذه واحتمله ؛ فقيل هو كالأول يكون لمن أخذه واحتمله - وإن كان مما له ثمن من السبي والمتاع ، وهو قول ابن حبيب ؛ وقيل إنه للأول - وعليه أجر الحمل والمؤنة ، وهو قول أصبغ ، وسحنون ؛ وجه القول الأول أن الأول لم يملكه ملكاً تاماً فأشبه ما أخذه مما أسلم وترك من غنائم المسلمين بغير شراء ولا قسم ؛ ووجه القول الثاني : أن الأول لما كان قد اشتراه أو صار له في سهمه ، كان لمن وجده فاحتمله - حكم الشاة الضالة يجدها الرجل في الفيفاء فيقدم بها إلى الأحياء ،أن ربها بها أولى ؛ وأما إن كان ترك ذلك في حوزة الإسلام ، فهو للذي تركه ، وعليه مؤونة حمله قولاً واحداً ؛ قال ابن حبيب : فإن كان في ذلك شيخ أو عجوز فهم أحرار ، لأن تركه مثل أولئك ، إنما هو على وجه التخلية لهم والتحرير ؛ وأما ما كان من متاع العدو يقبله الإمام ولا يضعف عن حمله ، وله

(2/516)


ثمن وإن قل ، فأخذه غلول ؛ قال صلى الله عليه وسلم "أدوا الخياط والمخيط ، فإن الغلول عار ونار وشنار على أهله يوم القيامة" .
مسألة
وسئل مالك عن القوم يخرجون إلى الغزو ويخرجون معهم بفضل أموال يشترون من الغنائم إذا سبوا الجواري والخرثى ، قال : لا بأس بذلك .
قال محمد بن رشد : قوله لا بأس بذلك أمر جائز للرجل إذا خرج للجهاد أن يخرج معه بفضل مال ليشتري به من مغانم المسلمين ما يرجو الربح فيه ، ولا ينقص ذلك من أجر جهاده ، ولا يقدح في نيته ، يريد إذا كان أصل خروجه لله ، ولم يكن أصل خروجه ابتغاء التجارة ، كما لا يقدح في نيته ما يرجوه من الغنيمة ؛ وقد قال الله عز وجل{قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين} . يريد الشهادة أو الغنيمة . وقد أباح الله تعالى التجارة في الحج بقوله {ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم} . يريد في مواسم الحج ؛ وقد قرئ ذلك ؛ وكذلك الجهاد ، بل هو فيه أجوز ؛ لما في ذلك من النفع لأهل الجيش ، لأن الشأن أن تقسم الغنائم في بلد لحرب قبل القفول ، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والخلفاء بعده ؛ فما كان منها ما لا ينقسم ، باعه الإمام

(2/517)


وقسم ثمنه ؛ فلو لم يكن مع أحد من أ÷ل الجيش فضل مال ، لما أمكنه أن يقسم ما لا ينقسم ، إلا بعد الخروج إلى قاعدة يكون فيها الأسواق ، ويمكن فيها البيع ؛ وفي ذلك ضرر على الجيوش لما لهم من الرفق في تفرقهم من طريقهم إلى بلادهم ، وترك رجوعهم إلى بلد واحد ؛ ولهذا المعنى قال ابن حبيب : إنه لا ينبغي للإمام أن يبيع شيئاً من متاع الغنيمة الذي لا ينقسم ، إلا بالنقد إلا أن يرى في ذلك ضرراً على الناس فيبيع ويكتب على المبتاعين الأثمان حتى يخرجوا ، ثم يتقاضاه منهم ويقسمها ب ين الناس قبل أن يترفقوا .
مسألة
وسئل مالك عن الرجل يعطي الذهب في سبيل الله ، أو في حج يحج به فتضل الفضلة ؛ أيردها إلى أهلها ؟ أم كيف يصنع ؟ قال : أرى أن يعطي أهل سبيل الله ، فقيل له ولا ترى أن يردها ؟ قال : لعله لا يجد صاحبها ، وأحب إلي أن يجعلها في سبيل الله يعطيها غيره . وقال في الحج يردها إلى أهلها .
قال محمد بن رشد : مذهب مالك أن من أعطى رجلاً شيئاً في السبيل - عيناً كان أو عرضاً ، فأمره محمول على أنه قد بتل ذلك في السبيل ، فلا ينفق المعطى شيئاً منه إلا في سبيل الغزو منذ يخرج إلى أن يبلغ رأس مغزاه ؛ واختلف هل ينفف منه في فعله حتى يرجع إلى أهله ، فأجاز ذلك له ابن حبيب ، ومنع منه مالك في رواية أشهب عنه في رسم الوضوء والجهاد ؛ ولا يستحق منه ما فضل بعد الغزو ملك ، ولا يرجع ذلك إلى معطيه ملكاً أيضاً ، ويجعله في السبيل - إن رده إليه ؛ واستحب فيه هذه الرواية ألا يرد الفضلة إلى صاحبه مخافة ألا يجده ، وأن يجعلها هو في السبيل .
وقال في رسم الوضوء والجهاد من سماع أشهب ذلك واسع إن رد الفضلة إلى صاحبها ، أو جعلها هو في السبيل ، ونحوه في رسم طلق بعد هذا ؛ وإن قال معطي الشيء في السبيل لم يبتله في

(2/518)


السبيل ، وأراد أن يأخذ الفضلة نوى في ذلك ، وكان القول قوله على ما في رسم حديث طلق بعد هذا من هذا السماع ( وكذلك إن قال : أردت أن يكون للمعطي ما فضل من ذلك بعد غزوه - ملكاً يضع به ما شاء ، نوى من زكاة أيضاً ، وكان من بمنزلة أن لو نص على ذلك فقال له : افعل به ما شئت إذا بلغت غزوك ؛ وهو كذلك على ما يأتي في رسم باع غلاماً من هذا ( السماع ) أيضاً ؛ فمذهب مالك في هذه المسألة على ما ذكره في موطئه عن عبد الله بن عمر ، أنه كان إذا أعطى شيئاً في سبيل الله ، يقول لصاحبه إذا بلغت وادي القرى ، فشأنك به ؛ خلاف ما ذكر فيه عن سعيد بن المسيب من أنه كان يقول إذا أعطى الرجل الشيء في الغزو فبلغ به رأس مغزاته فهو له ؛ وقول عبد الله بن عمر الذي ذهب إليه مالك أظهر من قول سعيد بن المسيب ، لأن ظاهر اللفظ التبتيل في السبيل ، فينبغي أن يحمل على ذلك حتى ينص المعطي على خلاف ذلك ، أو يدعي أنه نواه ، وقد روي عن سحنون كان من أعطى شيئاً في السبيل يستحقه المعطى ملكاً ببلوغه رأس مغزاه - على قول سعيد بن المسيب ؛ وحكى الفضل أنه مذهب مالك وأصحابه ، وليس ذلك - عندي بصحيح ؛ ومكحول يرى أنه يستحقه بالأدراب ، وتأول فضل أن ذلك هو مذهب ابن عمر في الموطأ ، وهو تأويل بعيد ؛ وقد روي عن سحنون أنه إن أعطيه لينفقه في السبيل - على نفسه ، رد الفضل على صاحبه ؛ وإذا أعطيه لينفقه في السبيل - وليس على نفسه ، يرد ما بقي في السبيل ولم يرده على صاحبه ؛ واختلف إن كان الذي أعطى في السبيل فرساً أو سلاحاً ، فقيل إنه محمول على التحبيس حتى ينص على التبتيل ؛ حكى ذلك سحنون عن ابن القاسم عن مالك ، وقيل إنه محمول على التبتيل حتى ينص على التحبيس ، وهو

(2/519)


ظاهر ما يأتي في رسم طلق ،
وفي رسم باع غلاماً ، ورسم صلى نهاراً ؛ وأما من أعطى رجلاً شيئاً في حج ، فما فضل على الحج ، راجع إلى المعطى ملكاً ؛ والفرق عد مالك بين المسألتين : أن السبيل لا نهاية لهن فحمل على التبتيل ، والحج له نهاية ينقضي إليها ، فحمل على ذلك ، ولم يحمل على التبتيل ؛ فعلى قياس هذا لو أعطاه الذهب في غزوة بعينها ، لوجب أن يرجع إليه ما فضل له عنها ؛ ويأتي على قياس قول سعيد بن المسيب إن من أعطى رجلاً ذهباً في حج يحج به ، فما فضل عن الحج هو للمعطي ، لا يرجع إلى المعطي ؛ لأنه إذا قال ذلك في السبيل الذي لا نهاية له ، فأحرى أن يقول في الحج الذي له نهاية .
مسألة
وسئل مالك عن الرجل يهلك بالفسطاط ، أو بقرية من القرى ، فيوصي بالمال في سبيل الله ؛ أترى أن يبعث به إلى الثغور والرباط فيقسم ، أم يعطي إن وجد أحداً بموضعه ممن يغزو ؟ قال : أرى أن يعطى إن وجد أحداً ممن يغزو ، فقلت له : إنه يقول إني أخاف أن يموت الذي يعطي قبل أن يبلغ غزوه ؛ قال : وما ذلك عليه أن يقول أخاف أن يموت .
قال محمد بن رشد : إنما استحب أن يعطي ذلك بالبلد - إن وجد من يغزو منهم ، ولا يبعث به إلى الثغور - مخافة أن يبعث به إلى هناك ؛ فيضيع على ما قاله بعد هذا في رسم طلق ، وقد خير بين ذلك في رسم الوصايا من سماع أشهب من كتاب الوصايا ؛ قال ابن المواز : وإنما يعطيه لمن قد عزم لا لمن لا يخرج إلا بما يعطى ، وقوله يحمل على التفسير لقول مالك ، لا من لم يعزم على الخروج إذا أعطي على أن يخرج لعله يأخذ المال فلا يخرج .
مسألة
وسئل مالك عما ذبح الغزاة في أرض العدو من الجزر في

(2/520)


جلودها ، أترى أن تطرح في المقاسم ؟ أم يأخذها الذين يذبحونها ؟ قال : أرى إن كان لها ثمن أن تطرح في المقاسم ، وإن لم يكن لها ثمن ، لم أربه بأساً أن يأخذوها .
قال محمد بن رشد : قوله إن الذين يذبحونها يأخذون الجلود إذا لم يكن لها ثمن . يريد - وإن لم يحتاجوا إليها على معنى ما تقدم في أول مسألة من هذا الرسم ، وقد مضى بيان ذلك ؛ وأما إن كان له الثمن فلا يجوز لهم أخذها إذا لم يحتاجوا إليها ، لأن ذلك من الغلول وتطر في المقاسم ؛ واختلف إن احتاجوا إليها لشد قتب بعير أو نعل ، أو شبه ذلك ؛ فقال ابن نافع : لا يأخذونها إذا كان لها ثمن - وإن احتاجوا إليها . وروى ابن القاسم عن مالك في المدنية أنه لا بأس أن يأخذوها إذا احتاجوا إليها - وإن كان لها ثمن . ومثله في الواضحة ، وهو ظاهر ما في المدونة وبالله التوفيق .

ومن كتاب
أوله الشجرة تطعم بطنين في السنة
وسئل مالك أي ذلك أعجب إليك : الرباط أو الغازات في أرض العدو ؟ قال :أما الغارات ، فلا أدري كأنه كرهها ؛ وأما السير في أرض العدو على الإصابة - يعني إصابة السنة فإنه أعجب إلي .
قلت له يا أبا عبد الله إن عندنا مدائن على البحر ، وأنها قد ضيعت من الغزو وفيها جماعة حشو من نساء وصبيان ، ويخاف

(2/521)


عليهم ؛ أفرباطها أعجب إليك ؟ أم الدخول في أرض الروم ؟ قال : ما زالت الولاة يضيعون مثل هذا ، وما يدفع الله أكثر ؛ وما في هذا حد ، وما زال الله يدفع وما في هذا حد ، إلا على ما يرى من ذلك .
قال محمد بن رشد : قوله إن السير في أرض العدو على إصابة السنة أعجب إلي من الرباط ، وهو مثل ما روي عن ابن وهب أنه قال : سمعت مالكاً يقول : الغزو على الصواب ، أحب إلي من الرباط ؛ والرباط أعجب إلي من الغزو على غير الصواب ؛ ولا إشكال في أن الرباط أفضل من الغزو على غير الصواب ، فقد قال معاذ بن جبل ، الغزو غزوان : فغزو تنفق فيه الكريمة وتياسر فيه الشريك ، ويطاع فيه ذو الأمر ، ويجتنب فيه الفساد ؛ فذلك الغزو خير كله ؛ وغزو لا تنفق فيه الكريمة ، ولا تياسر فيه الشريك ، ولا يطاع فيه ذو الأمر ، ولا يجتنب فيه الفساد ؛ فذلك الغزو لا يرجع صاحبه كفافاً ، وإنما الكلام في الغزو على الصواب ، فجعله مالك في هذه الرواية أفضل من الرباط .
وروي عن عبد الله بن عمر أنه قال : فرض الجهاد لسفك دماء المشركين ، والرباط لحقن دماء المسلمين ؛ فحقن دماء المسلمين أحب إلي من سفك دماء المشركين ؛ ولا ينبغي أن يحمل هذا على أنه اختلاف من القول ، إذ لا يصح أن يقال إن أحدهما أفضل من صاحبه على الإطلاق ، وإنما ذلك على قدر ما يرى وينزل ؛ فيحمل قول ابن عمر - رضي الله عنه - على أن ذلك عند شدة الخوف على الثغور ، وخوف هجوم العدو عليها ؛ وما روي عن مالك من أن الجهاد أفضل عند قلة الخوف على الثغور ، والأمن من هجوم العدو عليها ، وذلك بين من قول مالك في هذه الرواية ، لما ذكر له تضيع المدائن التي على البحر ، والخوف على ( من فيها ) من النساء والصبيان ؛ قال : ما في هذا حد ، إلا على ما يرى من ذلك ؛ ومن قوله في رسم صلى نهاراً ثلاث ركعات بعد هذا : أن

(2/522)


جهاد المصيصة أعجب إلي من الرباط ، إلا إذا خيف على موضع الرباط ، ولم يكن فيه غناء وقد قيل إن قول ابن عمر حين دخل الجهاد ما دخل ، والتأويل الأول أولى - والله أعلم ؛ وإنما كره مالك الغارات في الرواية استثقالاً لاسمها لا لمعناها إذا كانت على وجهها ، وهذا نحو من قوله عليه الصلاة والسلام لما سئل عن العقيقة : لا أحب العقوق كراهية الاسم . وقال : من ولد له ولد ، فأحب أن ينسك عن ولده فليفعل .
مسألة
وسئل مالك عن الابرة أهي من الغلول ؟ فقال إن كان ينتفع بها ، فلا أرى ذلك . - يعني لا بأس بالانتفاع بها ، كما ينتفع بالجلود للنعل والخف وما أشبهه يرفع به ذلك .
قال محمد بن رشد : وهذا كما قال : أن الإبرة إذا أخذها للانتفاع بها - ولم يأخذها مغتالاً لها ، فليست من الغلول ، وليس عليه إذا قضى حاجته بها أن يردها في المغانم ، إذ لا قيمة لها ولا يقبلها منه صاحب المغانم ؛ وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم "أدوا الخيط والمخيط" . كلام خرج منه على التحذير من قليل الغلول وكثيره ، إلا أن هذا القدر على الحقيقة يلزم أداؤه ورده إلى الغنيمة ؛ وقد قال مالك في رسم كتاب الغزو من سماع أشهب في الذي يأتي بالكبة من الخيط يشتريها بدانق فيطرحها في المقاسم ، هذا شيء يراءون به ،

(2/523)


وما هذا التضييق على الناس ؛ فهو يبين ما قلناه في معنى قوله عليه الصلاة والسلام "أدوا الخياط والمخيط" . من أنه كلام خرج على التقليل ، كقوله في الأمة إذا زنت في الثالثة بيعوها ولو بضفير . وكقوله : من بنى مسجداً ولو كمفحص قطاة ، بنى الله بيتاً في الجنة . ومثل هذا كثير .
مسألة
وسئل مالك عن الرجل يحمل رمحه وسلاحه في الغزو ومعه من يحمله له ، فقال : لا بأس بذلك ، فقيل له ويحمله غلامه فقال لا بأس بذلك ، ولعله يكون ذلك خيراً له ؛ وأقوى له إن احتيج إلى قتاله ألا يتعب نفسه ، فما أرى بذلك بأساً ، وأراه حسناً يحمله غلامه ويحمله عنه .
قال محمد بن رشد : وهذا كما قال : إن ذلك جائز لإكراهه فيه ، بل هو حسن من الفعل ؛ لما فيه من إبقاء قوته لوقت لقاء العدو ، وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس بالفطر في رمضان في سفره عام الفتح ، وقال : تقووا لعدوكم . فالتقوى للعدو بكل ما يقدر عليه مرغب فيه ومندوب إليه ، وبالله التوفيق .

(2/524)


مسألة
وسئل مالك عن أموال الرهبان في أرض العدو ، قال : يترك لهم من ذلك ما يصلحهم ، والبقرتان تكفيان الرجل ؛ ولو قبل قوله لأدعى الشيء الكثير ، ولكني أرى أن يترك لهم ما يصلحهم .
قال محمد بن رشد : معنى هذه الرواية ، أن الرهبان إذا وجدت عندهم الأموال ، وادعوا أنها لهم ولم يعرف صدق قولهم ، لم يصدقوا ، وترك لهم من ذلك ما يصلحهم ؛ والبقرتان تكفيان الرجل ، وذلك بين من قوله ولو قبل قوله لادعى الشيء الكثير ؛ وأما إذا علم أنها أموالهم فلا يؤخذ لهم منها شيء - وإن كثرت على ظاهر ما يأتي في رسم اغتسل بعد هذا ، وهو نص رواية ابن نافع عن مالك ؛ فليس شيء من ذلك باختلاف من قول مالك في العتبية أو سحنون ، ويذهب إلى أنه لا يترك للراهب من ماله إلا ما يستر عورته من الكسوة ويعيش له الأيام من الطعام ؛ قال : وكذلك يترك للشيخ الكبير مثل ما يترك للراهب ، وهو نحو قول مالك في المدونة ؛ وقد كان بعض أ÷ل النظر يقول معنى هذه الرواية أنه لا يترك لهم من أموالهم وإن علم أنها أموالهم ، إلا ما يصلحهم : البقرتان للرجل وشبه ذلك نحو قول سحنون ، وما في المدونة خلاف ما في رسم اغتسل من أنه لا يؤخذ لهم من أموالهم شيء ؛ ومنهم من كان يقول معنى ما في رسم اغتسل أن ذلك يسير بقدر ما يصلحهم ، نحو قول سحنون ، وقول مالك في المدونة ، وما في هذه الرواية فلا يأتي في المسألة على هذا التأويل اختلاف ، والصواب ما بدأنا به أن ذلك ليس اختلاف من قول مالك في العتبية ، وإنما الخلاف قول سحنون وما في المدونة والله أعلم ، وبه التوفيق .
مسألة
قال : وسئل مالك عن رجال بالاسكندرية يتهيأون يوم

(2/525)


العيد بالسلاح ويلبسون عليها ثياباً من حرير ليتهيبوا بها العدو . قال مالك : ما يعجبني لبس الحرير ، ولم ير ابن القاسم بأساً أن يتخذ منه راية في أرض العدو .
قال محمد بن رشد : أما اتخاذ الراية فلا اختلاف في جواز ذلك ، وأما لباسه عند القتال ، فقد أجازه جماعة من الصحابة والتابعين ، وهو قول ابن الماجشون ، وروايته عن مالك ؛ لما عندهم في ذلك من المباهاة بالإسلام ، والارهاب على العدو ، ولما بقي عند القتال من النبل وغيره من السلاح ؛ أو هو قول محمد بن عبد الحكيم ، وحكاه ابن شعبان عن مالك من رواية عيسى عن ابن القاسم عنه من أنه قال من قتل عصفورة فما فوقها بغير حقها سأله الله عز وجل عن قتلها ، قيل يا رسول الله وما حقها ؟ قال : "تذبحها فتأكلها ولا تقطع رأسها فترمي بها" . ولهذا قال أبو بكر الصديق ، رضي الله عنه ليزيد بن أبي سفيان إذ شيعه إلى الجهاد : "ولا تعقرن شاة ولا بعيراً إلا لمأكله" وما روي عنه صلى الله عليه وسلم من نهيه عن المثلة ، وبالله التوفيق .
مسألة
( قال ) : وسئل مالك عن الرجل يغل في أرض العدو ، ثم يتوب

(2/526)


ويرد ما غل ؛ أترى أن يعاقب ؟ قال : ما سمعت فيه بشيء ، ولو فعل به لكان ذلك أهلاً ؛ قال ابن القاسم : إذا جاء تائباً ، لم أر عليه أدباً ؛ قال كالمرتد والراجع عن شهادة شهد بها .
قال محمد بن رشد : معنى هذه المسألة - عندي - إذا تاب قبل القسم ، ورد ما غل في المغانم ، فحينئذ يسقط عنه الأدب ، عند أبي القاسم وسحنون ، كالمرتد والراجع عن شهادة شهد بها عند الحاكم قبل الحكم ؛ وقول مالك لو فعل به ذلك لكان له أهلاً ، هو مثل ما في كتاب السرقة من المدونة في الشاهد يرجع عن شهادة شهد بها قبل الحكم ، ويدعي الوهم والتشبيه ، ولا يتبين صدق قوله ؛ وأما لو تاب بعد القسم وافتراق الجيش ، لما سقط عنه الأدب عند جميعهم على قولهم في الشاهد يرجع عن شهادته بعد الحكم بها ؛ لأن افتراق الجيش في معنى نفوذ احكم ، بل هو أشد! إذ قد يقدر أن يغرم للمحكوم عليه ما أتلف عليه بشهادة ، ولا يقدر أن يوصل إلى الجيش بعد افتراقه ما وجب لكل واحد منهم من المال الذي غل ؛ قال مالك في كتاب ابن المواز : ولو ظهر عليه قبل أن يتوب أدب وتصدق به أن افترق الجيش ، وإن لم يفترق في المغانم ؛ وقال الليث إن لم يعرف الجيش جعل خمسه في بيت المال وتصدق بما بقي ، وقال عبد المالك وأصبغ وسهمه فيه قائم كيف كان .
ومن كتاب طلق بن حبيب
وسئل عن الرجل يجعل المال في سبيل الله بالمدينة ، فيجد من يخرج ؛ أفأحب إليك أن يعطى قوم يخرجون من ههنا ، أم يبعث

(2/527)


به إلى المصيصة فيعطى ؟ ثم قال : أحب إلي إن وجد من يثق به ههنا أن يدفع إليه ذلك ، ولا يؤخره إلى المصيصة ، ولعله يبعث به إلى هناك فيضيع .
قال محمد بن رشد : يبين في هذه المسألة وجه استحبابه في أن يدفع المال إلى من يغزو به من هنا ، ولا يبعث به إلى المصيصة ، فذلك مفسر لقوله في أول رسم من هذا السماع .
مسألة
وسئل مالك عن الرجل يعطي الرجل الفرس فيقول له تقو به في سبيل الله ، فيغزو عليه ، ثم يموت ، فيطلبه الرجل ؛ فقال : كيف يأخذه وقد مات الذي أعطيه ؟ قيل له إن صاحبه يقول إنما أعطيته ليتقوى به في سبيل الله ولم أبتله ؛ قال مالك : ذلك له هو أعطاه وهو أعلم بنيته ؛ وسئل مالك عن الرجل يعطي الشيء في سبيل الله فيغزو فيه وتفضل منه الفضلة ، أتراها له ؟ قال : بل أرى أن يردها إلى صاحبها ، أو يجعلها حيث جعل ذلك ؛ فقيل له فالرجل يغزو وينفق على أهله ، فقال يعطى الشيء في سبيل الله ، ثم يشتري به الدجاج والقمح ويقعد يأكله ؛ ما أرى ذلك له ، ولقد كان ههنا رجال من أهل الفضل والخير يعطون الشيء في سبيل الله فلا يقبلون .
قال محمد بن رشد : قد مضى القول في هاتين المسألتين مستوفى في أول رسم من هذا السماع ، فلا معنى لإعادته ؛ وفي قوله في آخر المسألة ولقد كان ههنا رجال من أ÷ل الفضل والخير يعطون الشيء في سبيل الله فلا

(2/528)


يقبلون ، دليل على أنه قد كان منهم من يقبل ذلك ؛ وهذا في أهل الغناء ، منهم : من كره ذلك ورآى الغزو بماله أعظم لثوابه ، ومنهم من لم ير بأساً أن يقبل ما أعطي من غير مسألة ؛ فإن احتاج إليه أنفقهن وإن استغنى عنه فرقه في السبيل ؛ وأما الضعيف الفقير فقبول ما أعطي من غير مسألة أفضل بإجماع ، لما في ذلك من إعلاء كلمة الله بالقوة على الجهاد في سبيل الله .
مسألة
وسأل رجل مالكاً فقال له : إن علي ألفاً وستمائة درهم لنا ( شتى ، في أقطار الأرض ، منهم من قد مات ، وله ورثة ، ومنهم من هو حي ، ومنهم من قد مات - ولا أعرف له ورثة ؛ والذي لهم علي يختلف ، منهم من له المائة درهم ، والخمسون ، والألف ، وأقل من ذلك وأكثر ؛ وهم في بلدان شتى ، وقد عجزت عنه ، وطلبت فيه نحواً من ثلاثين سنة ) . فلم أقو على أدائها ، ولم أرزق شيئاً ، فأحببت أن أخرج إلى المصيصة فأجاهد بها ، فإن يدركني بها موت ، فأحب المواضع إلي ؛ وإن أرزق بها شيئاً قضيت بها ديني ؛ قال مالك : ما أرى بأساً ، وآمره أن يفعل ذلك ، وأن يخرج إليها .
قال محمد بن رشد : وهذا كما قال ، لأن الذي عليه الدين ، إذا كان عديماً ، فله أن يغزو بغير إذن الذي له عليه الدين ؛ إذ لا منفعة للذي له عليه الدين في تركه الغزو ، وقد يرزق في الغزو ما يودي به الدين عن نفسه ، ففي الغزو منفعة له ولصاحب الدين ؛ وأما من عليه الدين وهو مليء فلا يجوز له أن يغزو بغير إذن صاحب الدين ، إلا أن يكون الدين الذي عليه لم يحل بعد ، فيوكل من يقضيه عنه عند حلوله ، قال ( سحنون ) في كتاب ابنه ؛ وحكى

(2/529)


انب حبيب في الواضحة عن مالك : أنه كان يوسع لمن عليه دين أن يغزو إذا خلف وفاء من دينه ، أو إذن له غرماؤه بالخروج ؛ وإن لم يدع وفاء من دينه ، فظاهر قوله أنه ليس عليه أن يستأذن غريمه ، إلا إذا لم يدع وفاء وهو بعيد .
ومن كتاب أوله سن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال ابن القاسم : وكره مالك أن يقول الرجل للرجل اشتر هذا الفرس وأحملك عليه ، فلا يدري ما يبلغ من الثمن حتى يوقت له ثمناً ، قال سحنون أراه جائزاً وليس له معنى .
قال محمد بن رشد : هذه مسألة تكلم عليها ابن لبابة في منتخبه فقال : فيها الكراهة لمالك ، والتعليل بجهل مبلغ الثمن لابن القاسم ، وتعليل ابن القاسم ليس بشيء ؛ لأن من وكل رجلاً أن يشتري له سلعة بعينها ، أو مسماة بغير عينها ، ولم يسم له ما يشتريها به ، فاشتراها له بما يشبه من الثمن لزمه ، وكراهة مالك صحيحة بينة على مذهبهم ؛ لأن استأجره على ابتياع الفرس بحمله عليه ، فإن كان بتله له ،فقد أوجبه له في أجرته قبل أن يملكه ، ولا يجوز لأحد أن يبيع ما ليس في ملكه ، ولا أن يستأجر به ؛ وإن كان لم يبتله له وإنما أعطاه ركوبه ، دخله مع ذلك أيضاً الغرر ، إذ لا أمد للركوب ؛ هذا معنى قول ابن لبابة دون لفظه ، وليس قوله - عندي - صحيح ؛ بل لا وجه للكراهة إلا ما عللت به من الجهل بمبلغ الثمن ، وهي كراهة ضعيفة ؛ ولذلك أجاز سحنون المسألة ولم ير لكراهيتها معنى ؛ وبيان هذا أن الفرس لم يأمر الرجل أن يشتريه له ، - أعني الآمر إذا لم يقل له اشتر لي هذا الفرس وأحملك عليهن وإنما قال : اشتر هذا الفرس وأحملك عليه ، فإنما أمره أن يشتريه للسبيل ويحمله عليه ، فهو بنفس الشراء يجب للسبيل

(2/530)


ويكون المشتري أحق بركوبه في السبيل من غيره ؛ وإن كان بتله له ، فلم يأمره أيضاً أن يشتريه له ، وإنما أمره أن يشتريه لنفسه ؛ فهو بنفس الشراء يجب للمشتري كالآمر ؛ فإن سمي له الثمن ، لم يكن لكراهة ذلك وجه ؛ لأنه بمنزلة من قال لرجل اشتر لنفسك فرس فلان بعشرة مثاقيل والثمن علي ؛ وإذا لم يسم له الثمن ، دخلته الكراهية ؛ إذ لا يدرس المأمور بما رضي الآمر أن يشتريه به ، ولعله سيقول له إذا اشتراه لم أرد أن يشتريه بهذا الثمن ؛ وقد كنت قادراً على أن تشتريه بأقل مما اشتريته به ، فتعديت علي وقصدت إلى الأضرار ؛ فيقع في ذلك بينهما خصومات ، فهذا وجه الكراهية في ذلك عند مالك - رحمه الله .
مسألة
وسئل مالك عن فرس اعتل على صاحبه بأرض العدو ، قال مالك : يعقره ولا يتركه واثقاً ذبحه .
قال محمد بن رشد : قد تقدمت هذه المسألة والقول فيها في رسم حلف بطلاق امرأته قبل هذا ، فلا معنى لإعادته ، وبالله التوفيق .
ومن كتاب
أوله أخذ يشرب خمراً
قال : وسئل مالك عن الرجل يعطى الفرس في سبيل الله ، أو السلاح ؛ أترى أن يقبله ؟ قال : إن كان غنياً عنه ، فلا أرى له ذلك ؛ وإن كان محتاجاً إليه ، فلا أرى به بأساً .
قال محمد بن رشد : قد تقدم في رسم طلق ذكر اختلاف أهل العلم في الأفضل في ذلك للغني على أن ينفقه إن احتاج ، وإلا جعله في السبيل ، وأما المحتاج ، فالاختيار له قبل ما أعطي في السبيل من غير مسألة قولاً واحداً .

(2/531)


ومن كتاب
أوله : سلف في المتاع والحيوان المضمون
قال :و سئل مالك عن الرجل ينتقل إلى الساحل وفيها دار قد جعلت في سبيل الله ، أترى أن يسكنها ؟ قال مالك : إن كان غنياً عنها ، فأحب إلي أن يسكن غيرها ؛ وإن كان سكنها ، لم أر بذلك بأساً .
قال محمد بن رشد : لا اختلاف في أن الاختيار للغني ألا يسكنها ، فإن سكنها لم يكن عليه في ذلك حرج ؛ وهذا إذا كان فيها فضل عن سكنى المحتاجين من أهل السبيل ، وقد مضى في الرسم الذي قبل هذا ما يدل على أن الاختلاف لا يدخل في هذا .
مسألة
وقال مالك : في المال يجعل في سبيل الله ، أيعطى منه المرضى ؟ قال : نعم - في رأيي ، ويستأذن صاحبه في ذلك ؛ فقيل لهيا أبا عبد الله ، إنها وصية ؟ فقال : الله أعلم وكأني رأيته يريد أن يخففه ، ولم يبين لنا فيه شيئاً ؛ قال ابن القاسم : ولا أرى بذلك بأساً ، إلا أن يكون المريض قد أيئس منه ، أو يكون به ضرر ، مثل المفلوج ، والأعمى ، وما أشبهه الذي لا قتال عنده ؛ فلا أرى أن يعطوا ذلك ؛ وسئل مالك عن الرجل يعطى المال في سبيل الله يفرقه ، فيكون في الثغر غلمان قد راهقوا الحلم ، ورموا عن القسي - ولم يحتلموا وقد راهقوا ؛ أترى أن يعطوا منه شيئاً ؟ قال : لا - وغيرهم أحب إلي ، قال ابن القاسم : فقيل له فلو قاتلوا أترى

(2/532)


أن يسهم لهم ؟ فقال : نعم - إذا بلغوا مبلغ القتال وقاتلوا ، ولا يعطوا من المال الذي يجعل في سبيل الله حتى يحتملوا .
قال محمد بن رشد : أما المريض الذي ترجى إفاقته ، فلا اختلاف في أنه يسهم له ويعطى من المال الذي يجعل في السبيل ؛ وأما المريض الذي قد يئس منه والمفلوج ، وشبههما ؛ فلا اختلاف في انه لا يسهم لهم إلا أن يصيبهم ذلك بعد وجوب السهم لهم ، ولا يعطون من المال الذي يجعل في السبيل ؛ وأما الأعمى فلا يعطى من المال الذي يجعل في السبيل . واختلف هل يسهم له أم لا ؟ فروى محمد بن سحنون عن أبيه أنه يسهم له ، والذي تدل عليه الرواية أنه لا يسهم له ؛ وكذلك المقعد ، والمرأة ، والصبي - إذا بلغا مبلغ القتال وقاتلاً ، لا يعطوا من المال الذي يجعل في السبيل شيئاً ؛ واختلف هل يسهم لهم ، فروى محمد بن سحنون عن أبيه في المقعد أنه يسهم له ، لأنه يقاتل راكباً ؛ وقال ابن حبيب في الصبي المراهق ، والمرأة - إذا قاتلاً أنه يسهم لهما ، مثل ما قال ههنا في الصبي الذي قد بلغ مبلغ القتل وقاتل ، خلاف ما في المدونة فيهما جميعً ؛ وأما المقطوع إحدى الرجلين ، أو المقطوع اليد اليسرى ، فإنه يسهم لهما ولا يعطيان من المال الذي يجعل في السبيل شيئاً .
مسألة
وسئل مالك عن رجل يكون في أرض المشركين ، فأبقت منه جاريته فأخذها المشركون ، ثم باعوها من رجل من المسلمين - والمشتري يعرف أنها للرجل ؛ قال : قال مالك : إن عرفها فليردها إلى صاحبها ، قال ابن القاسم ، يريد بالثمن وهو رأيي ؛ قال ابن

(2/533)


القاسم : وهو مصدق في الثمن ، إلا أن يأتي بأمر يستنكر حتى يستدل على كذبه حيث لا يشك في كذبه ، فيأخذها بالقيمة ؛ لأن مالكاً قال : ما أبق من المسلمين إلى العدو من رقيق المسلمين ، فهو مثل ما أسر ؛ وإذا وقعت فيه المقاسمة ، فلا شيء لصاحبه ، إلا أن يشاء أن يفتديه بالثمن الذي بيع به .
قال محمد بن رشد : قول مالك إن صاحب الجارية أحق بها بالثمن الذي اشتريت به ، أو وقعت به في المقاسم ؛ إن شاء أن يأخذها بذلك ، وسواء أبقت إليهم ، أو غلبوا عليها ؛ هو قول مالك في المدونة وغيرها ، ولا اختلاف في ذلك في المذهب ؛ وقول ابن القاسم إنه مصدق في الثمن إلا أن يأتي بأمر يستنكر حتى يستدل على كذبه حيث لا يشك في كذبه ، فيأخذها بالقيمة ؛ مبين لقول مالك ، إلا أنه قول مجمل إذ لم يبين فيه هل يصدق بيمين أو بغير يمين ؛ وتفسير ذلك أنه إن ادعى من الثمن ما يشبه ، فهو مصدق دون يمين ؛ وإن ادعى ما لا يشبه صدق بيمين ، وإن ادعى ما يستنكر حتى لا يشك فيه كذبه ، أخذها ربها بالقيمة ؛ - يريد قيمتها يوم اشتراها في الموضع الذي اشتراها فيه من بلد العدو - إن عرفت قيمتها بذلك الموضع ، وإن جهلت قيمتها بذلك الموضع ، ففي أقرب المواضع إلى ذلك الموضع الذي تعرف قيمتها به دون يمين أيضاً ؛ وهذا إن لم يدع صاحبها معرفة ما اشتراها به المشتري ، وأما إن ادعى معرفة ذلك فتداعيا فيه واختلفا ، فالقول قول المشتري مع يمينه - إن أتى بما يشبه ؛ فإن أتى بما لا يشبه ، كان القول قول صاحبها - إن أتى بما يشبه ؛ فإن أتى أيضاً بما لا يشبه ، حلفا جميعاً وأخذها بالقيمة على ما ذكرناه من الموضع الذي تقوم فيه ؛ وإن نكل أحدهما وحلف الآخر ، كان القول قول الحالف منهما ، وإن أتى بما لا يشبه لأن صاحبه قد أمكنه من دعواه بنكوله ؛ وهذا التفصيل الذي ذكرناه في هذه المسألة مبني على اختلاف الشفيع والمشتري في ثمن الشقص الذي فيه الشفعة ، فهو قائم

(2/534)


من مسألة الشفعة في المدونة ، ومن سماع أشهب من كتاب الشفعة ؛ لأن العلة فيك ون القول قول المشتري في المسألتين جميعاً ، كون الشيء المدعى فيه بيده ؛ فقف على ذلك ، وسيأتي في آخر رسم الجواب من سماع عيسى في اختلاف الفادي والمفدي ( في الفدية ) ما فيه بيان لهذا - والله الموفق .
من كتاب
أوله الشريكان يكون لهما المال
وسألت مالكاً عن الرجل يعطى الشيء في السبيل ، مثل الفرس يحمل عليه ، "أو الدنانير يعطاها ؛ قال مالك : أما الوالي ، فإني لا أرى بذلك بأساً . قال ابن القاسم : يعني الخلفاء ، وأما غيرهم فلا يجوز الأخذ منه ؛ وأما الناس بعضهم لبعض ، فإن كان غنياً فلا أحب ذلك ( له ) وتركه أحب إلي .
قال محمد بن رشد : قول ابن القاسم في تفسير قول مالك صحيح ، لأن الخلفاء إليهم الاجتهاد في إعطاء مال الله وقسمته ، فجائز لمن أعطوه شيئاً في السبيل أن يقبله ؛ وأما من دونهم من العمال ، فلا يجوز لأحد أن يأخذ منهم شيئاً ؛ لأنهم مضروب على أيديهم ، وكذلك الولاة ، إلا أن يكون الخليفة قد فوض إليهم النظر في قسمة المال وإعطائه ، فينزلون في ذلك منزلته ، ويجوز الأخذ منهم ؛ وقد مضى في رسم طلق بن حبيب ، ورسم أخذ يشرب خمراً الكلام في إعطاء الناس بعضهم بعضاً المال في السبيل ، فلا معنى لإعادته ، وبالله التوفيق .

(2/535)


ومن كتاب
أوله اغتسل على غير نية
وسئل مالك عن الذي يتجهز للغزو إذا بدا له أن يقيم ، أيدفع جهازه إلى غيره ؟ قال : إني لأحب ذلك .
قال محمد بن رشد : استحب ذلك له ولم يوجبه عليه ، لأنه نوى أن ينفقه في سبيل الله ، فكره له أن يرجع فيما نوى - ولم ينذر نفقته في السبيل ، فيكون ذلك عليه واجباً بالنذر ؛ ولو بدا له أن يؤخر خروجه إلى غزوة أخرى ، لأمر أن يرفع جهازه حتى يغزو به ؛ إلا أن يخشى عليه الفاسد ، فيبيعه ويرفع ثمنه حتى يغزو به ؛ إلا أن يكون مؤسراً يجد مثل جهازه إذا أراد الغزو فيفعل بجهازه ما أحب ؛ - قاله مالك في موطئه في الذي يريد الغزو فيمنعه أبواه أو أحدهما ، وهذا مثله سواء ، وبالله التوفيق .
مسألة
وسألته عن أموال الرهبان وعبيدهم وزروعهم يمر بهم الجيش ، فقال : لا أرى إذا علموا أنها للرهبان ، أن يمسوا منه شيئاً ولا يهيجوه .
قال محمد بن رشد : قد مضى القول في هذه المسألة في رسم أوله الشجرة تطعم بطنين في السنة ، فلا معنى لإعادته .
ومن كتاب البر
وسئل مالك عن الجاسوس من المسلمين يوخذ وقد كاتب الروم وأخبرهم خبر المسلمين ، ماذا ترى فيه ؟ قال : ما سمعت فيه

(2/536)


شيئاً ، وأرى فيه اجتهاد الإمام . قال ابن القاسم : أرى أن تضرب عنقه ، وهذا مما لا تعرف له توبة .
قال محمد بن رشد : قول ابن القاسم صحيح ، لأن الجاسوس أضر على المسلمين من المحارب ، وأشد فساداً في الأرض منه ؛ وقد قال الله تعالى في المحارب : {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله} - الآية . فللجاسوس حكم المحارب إلا أنه لا تقبل له توبة باستخفافه بما كان عليه ، كالزنديق ، وشاهد الزور ؛ ولا يخير الإمام فيه من عقوبات المحارب ، إلا في اقتل والصلب لأن القطع أو النفي لا يرفعان فساده في الأرض وعاديته على المسلمين عنهم ؛ وعلى هذا ينبغي أن يحمل قول مالك : أرى فيه اجتهاد الإمام ( أي ) بين أن يقتله أو يصلبه ؛ ومما يدل على وجوب القتل عليه ، أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لما قال في حاطب بن أبي بلتعة ، إذ كتب إلى أهل مكة يخبرهم بقصد النبي عليه السلام إليه من فأوحى الله تعالى بذلك إليه : دعني أضرب عنقه ، فإنه قد خان الله ورسوله ، ولم ينكر عليه النبي عليه الصلاة والسلام قولهن ولا قال له إن ذلك لا يجب في ذلك الفعل ؛ وإنما أخبر أنه لا يجب على حاطب ، لكونه من أهل بدر ، مع قبوله لعذره والذي اعتذر به لعلمه بصدقه في ذلك من جهة الوحي ؛ فذلك خصوص له ، لا يشاركه فيه غيره ، ولا يقاس عليه .
مسألة
وسئل مالك عن رجل أعطى سوارين في سبيل الله في

(2/537)


الحضر ، فأراد أن يبيعهما قبل أن يخرج ، وقبل أن يبلغ رأس مغزاه ، يتقوى بثمنهما في سبيل الله ؛ فقال : لا بأس بذلك ، وإنما ذلك بمنزلة ما لو أعطى من الدنانير والدراهم ما يتقوى بها ويتكارى ويأكل منها ؛ فقيل له أفيخلف لأهله منها نفقة ، قال لا آمره أن يتخلف من ذلك عندهم شيئاً .
قال محمد بن رشد : قد تكررت هذه المسألة في مواضع ، ومضى القول عليها موعباً في أول رسم من هذا السماع ، فلا معنى لإعادة ذلك .
مسألة
قال مالك : بلغني أن بلالاً كلم عمر بن الخطاب في هذا المال بالشام في قسمه - وكان من أشد الناس عليه كلاماً ، فزعم من ذكر أن عمر دعا عليهم ؛ فقال : اللهم اكفنيهم . قال مالك : فبلغي أنه ما حال الحول عليهم - وواحد منهم حي ؛ قال ابن القاسم : وإنما كان بلال وأصحابه سألوا عمر أن يقسم لهم الأرض التي أخذت عنوة بين الناس ، فأبى ذلك عليهم عمر ؛ قال ابن القاسم : وبلغني عن مالك - أنه قال : ليس من الشأن قسم الأرض ، ولكن تترك بحالها ؛ وكل ما افتتح بعد عمر من العنوة ، فالشأن فيه أن يترك كما فعل عمر رضي الله عنه . قال سحنون : وحدثني ابن القاسم عن ابن كنانة ، أنه كان يقول ذلك ، قال سحنون : وأخبرني به ابن نافع عن مالك .

(2/538)


قال محمد بن رشد : ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس أرض خيبر وقسمها بين الموجفين عليها بالسواء ، وأن عمر بن الخطاب أبقى سواد العراق ، ومصر ، وما ظهر عليه من الشام ؛ ليكون ذلك في أعطية المقاتلة ، وأرزاق المسلمين ومنافعهم ؛ فقل إنه استطاب أنفس المفتتحين لها ، فمن شح بترك حقه منها ، أعطاه فيه الثمن ؛ فعلى هذا لا يخرج فعله عما فعله النبي – عليه الصلاة والسلام – في أرض خيبر ، وإلى هذا ذهب ( بعض ) أهل العراق ؛ وقال إن أقر فيها أهلها لعمارتها كانت ملكاً لهم ، بدليل ما روي أن عمر وضع الخراج على بياضها وسوادها ؛ إذ لو كانت للمسلمين ، لكان وضع الخرج على سوادها ، بيعاً للتمر قبل أن يخلق ؛ وقيل إنه أبقاها بغير شيء أعطى الموجفين عليها ، وأنه تأول في ذلك قوله عز وجل في آية الحشر : {والذين جاءوا من بعدهم} – الآية .
وإلى هذا ذهب مالك وجميع أصحابه ، خلافاً للشافعي في قوله إنها تقسم كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في أرض خيبر ؛ وقد اختلف على هذا في آية الفيء هذه ، وآية الغنيمة التي في سورة الأنفال ؛ فقيل إنهما محكمتان على سبيل التخيير في أرض العنوة بين أن تقسم على ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في أرض خيبر - مبيناً لآية الأنفال - أنها على عمومها ، وبين أن تبقى كما أبقاها عمر بدليل آية الحشر ؛ وإلى هذا ذهب أبو عبيد - وهو قول أكثر الكوفيين أن الإمام مخير بين أن يقسمها - كما فعل الرسول عليه السلام في أرض خيبر ، وبين أن يبقيها كما فعل عمر في سواد العراق ؛ وقيل إن آية الحشر ناسخة لآية الأنفال ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم بين بفعله في أرض خيبر - أنها على عمومها في جميع الغنائم من الأرض وغيرها ، وإلى هاذ ذهب إسماعيل القاضي ؛ وقيل إن آية الحشر مخصصة لآية الأنفال ومفسرة لها ، ومبينة أن المراد بها ما عدا الأرض من الغنائم ،

(2/539)


وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما قسم أرض خيبر ، لأن الله وعد بها أهل بيعة الرضوان ، فقال : "وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها فعجل لكم هذه" . فهي مخصوصة بهذا الحكم دون سائر الأ{ضين المغنومة ؛ وإذا أبقى الإمام أرض العنوة ، وأقر فيها أهلها - لعمارتها ، ضربت عليهم الجزية على ما فعل عمر في السواد ، ووضع عليهم الخراج في البياض بقدر اجتهاد الإمام ؛ وهو وجه قول مالك في المدونة لا علم لي بجزية الأرض ، فأرى أن يجتهد الإمام في ذلك ومن حضره إن لميجد علماًيشفيه .
- أي إن لميثبت عنده مقدار ما وضع عمر رضي الله عنه ، عليها /ن الخراج ، لأنه إنما توقف في مقدار ذلك ؛ وقيل إنه إنما توقف : هل عليها خراج أم لا خراج عليها ، وتترك لهم فيستعينون بها على أداء الجزية دون خرج ؛ وقيل إنه إنما توقف فيما يوضع عليها من الخراج : هل يسلك بها مسلك الفيء أم مسلك الصدقة ، قال : ذلك الداودي ؛ وحكي عن ابن القاسم أنه قال : والذي ينحو إليه مالك أن يسلك به مسلك الفيء ، وهذا التأويل أبعد التأويلات - عندي ؛ وذهب ابن لبابة إلى أن جزية الأرض تتوضع فيما أوقف الأرض له الإمام ، فقال : إنما توقف مالك فيما يصنع بها إذا لم يدر لماذا أوقفها الإمام ، ولا إن كانت افتتحت عنوة بقتال ، أو عنوة بغير قتال ؛ واختار هو إذا جهل ذلك أن يحمل على أنها افتتحت عنوة بقتال ، فيكون أربعة أخماس ذلك لورثة من افتتحه - إن عرفوا ، وإلا كان سبيل ذلك كله سبيل الخمس ، والله الموفق .

(2/540)


ومن كتاب
أوله باع غلاماً بعشرين ديناراً
وسئل ( مالك ) عن الرجل يعطي الرجل الفرس في السبيل ، فيهلك الذي دفع إليه قبل أن يخرج ، فيقول ورثته نحن نغزو عليه ونأخذه ؛ قال : لا أرى ذلك لهم ، وأرى أن يأخذه صاحبه وينفذه في الوجه الذي جعله فيه في الغزو ، ولو أنه أعطاه دنانير ثم هلك قبل أن يخرج ، رأيتها بتلك المنزلة ، يأخذها الذي أعطاها وينفذها في سبيل الله .
قال محمد بن رشد : وإذا قال صاحبه لم أبتله في السبيل ، وإنما أردت عين الرجل ، وأراد أن يأخذه ؛ كان ذلك له على ما مضى في رسم طلق ، وإن لم تكن له نية ، مضى في السبيل ؛ وفي ذلك اختلاف سحنون في كتاب ابنه فيمن أوصى لفلان بمال في السبيل ، فمات فلان قبل أن يأخذه ، أنه يرجع ميراثاً للورثة ؛ وقال مالك ، والأوزاعي ، ومكحول ، إن الورثة يضعونه في السبيل ، وهو الذي يأتي على هذه الرواية .
مسألة
قال : من حمل على فرس في سبيل الله ، فلا أرى له أن ينتفع بشيء من ثمنه في غير سبيل الله ؛ إلا أن يقال له شأنك به ، فافعل به ما أردت ؛ وقال مالك في الدنانير تدفع إلى الرجل في سبيل الله ، فيستنفق منها في غزوة ثم يفضل معه منها فضلة ؛ قال:

(2/541)


لا أحب له أن ينفقها إلا في غزوه ، ولكني أحب أن يردها إلى صاحبها ويجعلا في سبيل الله - إذا هو رجع ؛ ولا أرى له أن ينفقها في غزوه ، إلا في سبيل الغزو ولا يضعها في غير ذلك - يعني لأي شتري بها - وإن كان في الغزو - إلا ما يجعل في الغزو ، ولا يشتري به لامرأته أو بناته شيئاً ، ولا يضعها في غير ذلك ؛ فذكر له حديث ابن المسيب وغيره ، فلم ير ذلك ، وقال : هذا الذي أرى ؛ قال : وأرى لو أن رجلاً دفع إلى رجل فرساً ، أو ذهباً في سبيل الله ، فيقول اصنع بها ما شئت هو لك ؛ قال : إن كان قال له ذلك ، فأراه لصاحبه مالاً من ماله ، يعمل به في غزوه إذا هو بلغه ما يعمل به في ماله ؛ وإن كان وصي ، قال : له ذلك ، لم أر أن قول الوصي في ذلك جائز أن يصرفه في غير سبيل الله ؛ قال سحنون : جيدة صحيحة .
قال محمد بن رشد : قد تقدمت هذه المسألة في مواضع ، ومضى القول عليها موعباً في أول رسم ، فلا معنى لإعادته وبالله التوفيق .
ومن كتاب
أوله صلى نهاراً ثلاث ركعات
وسألت مالكاً عن الرباط وجهاد المصيصة : أي ذلك أعجب إليك ؟ فقال : المصيصة ، إلا أن يكون ما عندكم

(2/542)


أخوف ؛ فإذا كان كذلك ، آثر الرجل ناحيته ؛ فإن كان فيه غنماً ، فالمصيصة أحب إلي ، ولا أرى أن يقاتلوا إلا أن يدعوا ورأيته يكره التبييت .
قال محمد بن رشد : روي في الرباط فضل كثير ، وقد قيل إنه أفضل من الجهاد ؛ وقد مضى القول في ذلك في رسم الشجرة تطعم بطنين في السنة ، فلا معنى لإعادته . وقوله رأيته يكره التبييت - يريد قبل أن يتقدم إليهم بالدعوة ؛ وأجاز التبييت محمد بن المواز ، واحتج بقصة كعب بن الأشرف - يريد أن ذلك جائز فيمن قد بلغته الدعوة ، أن التبييت تابع لها ، فهو لا يجوز حين تجب الدعوة ، ويكره حيث تستحب الدعوة ، ويجوز حيث لا تجب الدعوة ، وقد ق يل إن ذلك اختلاف من القول - حيث لا تجب الدعوة ، فمرة أجازه ، ومرة كرهه ، لما جاء من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا جاء قوماً بليل لم يغز حتى يصبح ، وذلك لوجهين : أحدهما مخافة أن يصيبوا الولدان والنساء . والثاني : مخافة أن يؤتي عليهم في ذلك لجهلهم البلد - والله أعلم ، وسيأتي في القول في الدعوة قبل القتال في أول نوازل أصبغ من هذا الكتاب .
مسألة
وسئل مالك عن النفقة يعطاها الرجل في سبيل الله ، فيفضل معه فضلة فيريد أن يخرج ، قال مالك ، ليردها إلى من دفعها إليه إن شاء ، أو يفرقها في سبيل الله ؛ قال مالك : ومن أعطي شيئاً في الحج للنفقة ، فليرد ما فضل من دفعها إليه ؛ إلا أن يكون استؤجر استئجاراً ، فيكون له ما فضل ؛ ومن أعطي شيئاً يقسمه في سبيل الله ، فليقسمه كما أعطي ، فإن لم يجده فليرده .
قال محمد بن رشد : وهذه المسألة متكررة في مواضع ، وقد مضى القول عليه ، موعباً في أول رسم من هذا السماع ، فلا وجه لإعادته .

(2/543)


مسألة
وسئل مالك عن الرجل يغزو أرض العدو فيصنع سرجاً ويصنع نشاباً ، فيرمي ببعضها ويبقى بعض ؛ قال مالك : ذلك يسير ، ما أرى أن يرد منها شيئاً في المقاسم ، مثل السرج والنشاب وما أشبهه .
قال محمد بن رشد : قول ذلك يسير ما أرى أن يرد منها شيئاً في المقاسم ، يدل على أن الكثير عنده بخلاف ذلك ؛ وقد اختلف فيه إذا كان كثيراً على ثلاثة أقوال ، أحدها : أنه له بيعه ويخرج به ولا شيء عليه فيه ، والثاني : أنه يأخذ إجارة ما عمل فيه والباقي يصير فيئاً ، وهذان القولان في المدونة . والثالث أن جميعه فيء ولا أجرة له في عمله ، وهو قول ابن القاسم في سماع سحنون ؛ وأما اليسير فلا اختلاف في أنه له ولا شيء عليه فيه ، وهذا الاختلاف إنما هو فيما عمل مما لا ثمن له ، أو مما له ثمن على مذهب من يرى أن للرجل أن يأخذ من أرض العدو ما لم يجزه إلى بيوتهم من أشيائهم المباحة ؛ وإن كان له في أرض العدو ثمن مثل المسن والدواء ، من الشجر ، والطير التي للاصطياد - إذا صادها ، وهو قول ابن وهب ، وابن عبد الحكم ؛ وأما على مذهب من يرى أنه ليس له أن يأخذ شيئاً من ذلك - إذا كان له ثمن ، وإن ما صاده للأكل ، حكمه حكم طعام الغنيمة - إن باع منه شيئاً ، جعل الثمن في المقاسم ، وهو قول ابن حبيب في الواضحة ، وعزاه إلى مالك وأصحابهن وقول ابن القاسم في رسم الجواب من سماع عيسى

(2/544)


بعد هذا ؛ فيتخرج الحكم إن من عمل من ذلك شيئاً على قولين ، أحدهما : أنه يرد في المقاسم ولا أجرة له ، والثاني : أن يكون له فيه إجارة مثله ، والباقي فيئاً .
مسألة
قيل له : يا أبا عبد الله ، أرأيت لو مات فرسه ، أيركب فرساً من خيل العدو ، ويقاتل عليه ( ويقفل عليه ) ؟ قال : نعم ، أرى أن يقاتل عليه ويقفل عليه ، فإذا بلغ بلاد المسلمين ، رده في المقاسم .
قال محمد بن رشد : قول مالك هذا ، مثل قول ابن القاسم في المدونة ، خلاف رواية ابن وهب ، وعلي بن زياد عنه - في أنه لا ينتفع بدابة ، ولا بسلاح ، ولا بثوب ، ولو جاز ذلك ، لجاز أن يأخذ دنانير فيشتري بها .
قال ابن رشد : وهذا الاختلاف إنما هو فيما عدا الانتفاع بالخيل والسلاح في معمعة الحرب ، إذ لا اختلاف في جواز الانتفاع ( بها ) في معمعة الحرب ؛ وإنما اختلفوا هل له أن يمسكها بعد الحرب حتى ينقضي القتال ، ويقفل على الخيل أم لا ؟ وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يأخذ دابة من المغنم فيركبها حتى إذا أنقصها ردها في المغانم ، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يلبس ثوباً من

(2/545)


المغنم ، حتى إذا أخلقه رده في المغانم" . فمن حمل الحديث على عمومه ، منع من ذلك إلا في معمعة الحرب ، ومن تأوله فقال : معناه إذا فعل ذلك على وجه الخيانة ، أو على غير حاجة إلى ذلك إلا ليقي ماله ؛ أجاز الانتفاع بذلك على كل حال - إذا احتاج - قياساً على ما أجمعوا عليه من إجازة أكل الطعام واستهلاكه ، لحاجة المسلمين إلى ذلك .
مسألة
وسئل مالك عن الذي يعطي الفرس في سبيل الله ، أيبيعه ؟ قال : نعم إذا كان يريد أن يشتري بثمنه غيره ، أو يتكارى بثمنه في سبيل الله ؛ فأما أن يبيعه ويأكل ثمنه في أهله ، فلا أرى أن يبيعه وهو في غير رباط .
قال محمد بن رشد : هذا مثل ما تقدم في رسم باع غلاماً ، وفي رسم طلق ، وقد قيل إنه محمول على التحبيس حتى ينص أنه أراد بذلك التبتيل ، وقد ذكرنا ذلك في أول رسم من هذا السماع .
مسألة
وسئل مالك عن أهل المصيصة إذا أغاروا في أرض الروم ، فأتوا حصناً لهم ، أترى أن يغروا حتى يؤذنوا ؟ قال مالك : لا أحب لهم أن يغروا حتى يؤذنوا . فقيل له : فإن الدعوة قد بلغتهم ، قال مالك : وإن كان ، فإني أرى أن لا يقاتلوا حتى يؤذنوا ولا يغار عليهم .
قال محمد بن رشد : قوه لا أحب لهم أن يقاتلوا حتى يؤذنوا ،

(2/546)


ولا يغار عليهم - يريد حتى يؤذنوا ، أي حتى يعلموا أنهم إنما يقاتلونهم على الدين ، لا على الغلبة - وإن كانت دعوة الإسلام قد بلغتهم ؛ إذ قد يجهلون ما يقاتلون عليه ، فاستحب إذا دخلوا أرض الروم فأتوا حصناً لهم ، أن يمسكوا عن الغارة عليهم حتى يدعوهم إلى الإسلام ؛ وذلك حسن ، لا سيما إن طمعوا أن يجيبوهم إليه ، ويدخلوا فيه ؛ وإنما استحب ذلك ولم يوجبه ، لاحتمال أن يكونوا قد علموا أيضاً على ما يقاتلون ، والاستحباب يرجع إلى نفي الوجوب ، وهو أحد قولي مالك في المدونة ؛ وقد قال يحيى بن سعيد : فيها إن ذلك من الحق عليهم ، وسيأتي في أول نوازل أصبغ بيان هذه المسألة - إن شاء الله تعالى ، وبه التوفيق .
مسألة
قال ملك في قوله تعالى : {وما قطعتم من لبنة} - الآية . قال : اللينة ما سوى العجوة من الثمار من الألوان .
قال محمد بن رشد : قد قيل في اللينة إنها لون من النخل ، روي ذلك عن ابن عباس ؛ وقال مجاهد : اللينة النخل كلها : العجوة وغيرها . ويشهد بصحة قول مالك ، ما روي عن ابن عباس وغيره : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقطع نخل بني النضير إلا العجوة ، وذلك لأنها كانت قوتهم الذي تعتمدون عليها ، وهي التي جاء الحديث في فضيلتها : قول النبي عليه الصلاة والسلام : "العجوة من الجنة ، وثمرها يغذو ما لا يغذو غيره" - والله أعلم ، فشق ذلك عليهم وقالوا : أنتم تزعمون أنكم تكرهون الفساد وهذا من الفساد ، دعوا النخل لمن غلب ، فأنزل الله تعالى الآية بتصويب فعل

(2/547)


النبي ، عليه السلام ، وأن ما أمر به كان عن إذنه عز وجل ؛ وقيل إنهم لما قطعوا بعضاً ، وتركوا بعضاً ، سألوا رسول الله عليه السلام هل لهم أجر فيما قطعوا ، أو عليهم وزر - فيما تركوا ؟ فأنزل الله الآية ، فهي دالة على إباحة القطع ، وعلى ألا حرج في الترك ؛ وتوقف مالك في المدونة في الأفضل من ذلك ، وتأول الآية على أنه لا بأس بالقطع ؛ والأظهر أن القطع أفضل من الترك ، لما في ذلك من إذلال العدو ، وإصغارهم ونكايتهم ، وقد قال عز وجل : {ولا ينالون من عدو نيلاً إلا كتب لهم به عمل صالح} . إلا أن يكون بلداً يرجى أن يصير للمسلمين ، فيكون التوقف عن القطع والتحريق والتخريب أفضل ، بدليل نهي أبي بكر أمراء جيوشه إلى الشام عن ذلك ، لما علم أن المسلمين يفتتحونها بقول النبي عليه السلام في الحديث المشهور : ويفتح الشام ، فيأتي قوم فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم ،و المدينة خير لهم - ولو كانوا يعلمون . وبحضه صلى الله عليه وسلم على الصلاة في بيت المقدس ، وبشد المطايا إليها . وما أشبه ذلك من الآثار الدالة على ذلك ، وإنما نهى صلى الله عليه وسلم عن قطع العجوة ، لأنها من ثمار الجنة ما روي عنه - والله أعلم ، وبه التوفيق .
مسألة
وسئل مالك عن رجل أوصى بسلاحه في سبيل الله ، أيعطاه

(2/548)


أهل الديوان ؟ قال مالك : لست أحب أن يعطاه أهل الغناء ، ولكن يعطاه أهل الحاجة .
قال محمد بن رشد : وهذا كما قال : إن أهل الحاجة أحق وأولى ، لأنهم إن لم يعطوا لم يقدروا على الخروج ، ففي جعل المال فيهم قوة على الجهاد ، واستظهاراً على العدو بكثرة العدد .
مسألة
قال مالك : فتحت مصر سنة عشرين .
قال محمد بن رشد : اختلف في مصر فقيل إنها افتتحت عنوة ، وقال الليث : نحن أعلم ببلدنا ، إنما أخذت صلحاً ، أخبرني بذلك جوهرتا البلدين - يريد ابن حبيب ، وعبيد الله بن أبي جعفر . - يعني أن الصلح وقع على أن تكون الأرض للمسلمين - كما فعل النبي عليه السلام ببعض أرض الحجاز ، لا على أنها تركت لأهلها ، لأن ذلك لا يبيح الدخول فيها ؛ وقد اختلف في السبب الذي دخل به الليث فيها ، فقيل بالاشتراك وقيل بالاكتراء ، وقيل بالانقطاع ؛ وإنكار الليث أن تكون أخذت عنوة يدل على أن مذهبه في أرض العنوة ، أن تخمس وتقسم ؛ وقيل إنها فتحت صلحاً ثم نقضوا ، فأخذها عمرو بن العاص عنوة ، وبالله التوفيق .
ومن كتاب
أوله نذر سنة يصومها
وسئل مالك : عن الرجل يبتاع الفرس فيحمل عليه في سبيل الله ، ثم يجد به عيباً ؛ أترى أن يرجع بقيمة العيب على الذي باعه منه ؟ قال : إن كان قد مضى وخرج به ، فأرى ذلك له ؛ وأما إذا كان

(2/549)


حاضراً - وكان بيده ، فإني أرى أن يرده على الذي ابتاعه منه ، ويبدل غيره بموضع ما أنفذه فيه .
قال محمد بن رشد : إنما كان له أن يرده بالعيب إن كان لم يخرج به الذي حمل عليه - وإن كان قد أنفذه في السبيل ، من أجل أنه لم يتعين للحمول عليه في عينه حق بالحملان ، ولا فات بتحبيس عينه في السبيل ، لجواز بيعه وإنفاق ثمنه في السبيل - على ما مضى في هذا الرسم وغيره ؛ فأشبه ذلك من اشترى داراً فتصدق بها على المساكين ، ثم وجد بها عيباً قبل أن تباع ليفرق ثمنها على المساكين ؛ إن ذلك ليس بفوت ، وترد بالعيب ، ويتصدق بالثمن على المساكين ؛ وعلى القول بأنه محمول على التحبيس ، يكون ذلك فوتاً ، ويرجع بقيمة العيب فيجعله في فرس حبيس ، أو في السبيل - على اختلاف في هذا الأصل ، قد مضى في سماع أصبغ من كتاب الضحايا .
مسألة
وسئل مالك عن الرجل يأخذ مسن الشيء من أرض العدو ، مثل الحجر والرخام والمسن والدواء ، من الشجر ، والعصا ؛ قال : أما العصا والدواء ، فلا أرى به بأساً ، وأما الرخام والمسن ففيه شك ، لأنه لم ينل ذلك الموضع إلا بجماعة الجيش فلا أحبه .
قال محمد بن رشد : قد قيل إنه لا يجوز له أن يأخذ شيئاً من ذلك - إذا كان له ثمن ، وقيل إنه يجوز له أن يأخذه وإن كان له ثمن ؛ لأنه مما لم يملكه العدو ، ولا حازوه إلى بيوتهم - على ما مضى في رسم صلى نهاراً ثلاث ركعات ، وتفرقة مالك ههنا بين ما أنبتته الأرض وما لم تنبته ، على ما فسر به قول مالك ابن القاسم في المبسوطة قول ثالث ، ولا يعضده أصل ؛ وأما ما لا ثمن له من ذلك كله ، فلا بأس بأخذه قولاً واحداً .

(2/550)


مسألة
وسئل مالك عن القوم يغزون في سبيل الله ( ويرابطون ، فيعطى رجل ذهباً في سبيل الله ) ثم ينزلون جميعاً ، وربما كانوا جماعة فيخرجون خراجاً ، ويخرج معهم الذي أعطى والذي أعطي ؛ أترى على الذي أعطى شيئاً فيما يأكل من أجل الذي أعطي في سبيل الله ؟ قال : لا بأس بهذا ، وليس هذا مما يتقي ؛ وقد قال الرسول ، عليه السلام في لحم بريرة : هو لها صدقة ، وهو منها إلينا هدية . وهذا لا بأس به وهو خفيف .
قال محمد بن رشد : استخف إذا ترافق في الغزو الذي أعطى والذي أعطي - أن يتخارجوا النفقة من عندهم ، فيأكلون معاً ، ولم ير ذلك مما يتقى - إذا لم يقصد المعطي أن يأكل أكثر مما أخرج ؛ وإنما فعلوا ذلك لم الهم فيه من الرفق ، وعلى العادة الحسنة في حسن المعاشرة بين الرفقاء في الأسفار ؛ فحجته بحديث بريرة ليست ببينة ، لأن من أعطى شيئاً بين الرفقاء في الأسفار ؛ فحجته بحديث بريرة ليست ببينة ، لأن من أعطى شيئاً في سبيل الله ، فلا يجوز له أن يرجع فيه ولا في شيء منه بوجه من الوجوه : من شراء ، أو عطية ، أو هبة ، أو صدقة ؛ لقوله عليه الصلاة والسلام لعمر بن الخطاب ، رضي الله عنه - إذ أراد شراء الفرس الذي كان حمل عليه في سبيل الله ، لما أضاعه صاحبه ، وأراد بيعه : لا تشتره وإن أعطاكه بدرهم واحد ، فإن الذي يعود في صدقته ، كالكلب يعود في قيئه . وإنما الحجة في جواز ذلك ، قوله تعالى : {وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم} - الآية .

(2/551)


فأباح للوصي خلط نفقته بنفقة يتيمه - إذا قصد بذلك رفق يتيمه ، لا الارتفاق بماله ، فكذلك هذه المسألة - سواء ؛ على هذا يأتي قول ابن القاسم في رسم يدير ماله من سماع عيسى من كتاب النذور - إن من حلف ألا يأكل من طعام رجل ، فاصطحبا في سفر ، واشتريا طعاماً فأكلاه ؛ أنه لا حنث عليه - إن لم يأكل أكثر من نصيبه ، وبالله التوفيق .
ومن كتاب
أوله المحرم يتخذ الخرقة لفرجه
وسئل مالك عن الحج : القفل أحب إليك أم الجوار ؟ قال : ما كان الناس إلى على الحج والقفل ، ورأيته يرى أن ذلك أعجب إليه ، فقلت له : والغزو يا أبا عبد الله ؛ فإن ناساً يقولون ذلك ، فلم يره مثله ؛ قال : وقد كانت الشام حين افتتحت - وكانت بحال حرب ، فأقام فيها غير واحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ( منهم ) أبو أيوب ، ومعاذ ، وبلال ، وأبو بعيدة .
قال محمد بن رشد : كره الجوار بمكة بعد الحج ، واستحب القفل إثر تمام الحج ، بخلاف الغزو - إتباعا للسلف ؛ ولذلك وجه من طريق المعنى ، قد ذكرته في رسم صلى نهاراً من سماع ابن القاسم من كتاب الحج ، فاختصرت ذكره ههنا اكتفاء بذكره هناك .
مسألة
قال مالك : ينبغي لإمام الجيش ألا يعجل على أصحابه ، وأن يكون في وسطهم ، ويبعث سراياه ليلاً يقطع بالناس ، وهو يستحب أن يكون في آخرهم ، ويقدم الناس ؛ وقد كان عمر بن الخطاب إذا

(2/552)


كان في السفر ، كان في آخر الناس حتى يقدم المعتل بعيره والضعيف ؛ وهذا مما ينبغي لإمام الجيش أن يفعله : أن يكون في آخر الناس ، وأن يقدمهم ويرفق بهم ، ولا يعجلهم ؛ كأنه يقول إذا فعل ذلك ، فإن فيه هلاك بعضهم .
قال محمد بن رشد : المعنى في هذا بين ، ليس فيه ما يشكل ؛ ومن الحجة في ذلك ، قوله عليه الصلاة والسلام ، إذا صلى أحدكم بالناس فليخفف ، فإن فيهم الكبير ، والسقيم ، والضعيف ؛ وإذا صلى لنفسه فليطول ما شاء . وقد روي عنه أنه قال المضعف أمير القوم ، لما يلزمهم من الوقوف عليه إذا وقف ، والتأخير بسببه إذا تأخر ، والسير بسيره إذا سار ، وبالله التوفيق .
مسألة
وسئل مالك عن الرجل من أهل الأندلس ، أراد أن يلحق بالمصيصة والسواحل - وله ولد وأهل بالأندلس ؛ أترى له في ذلك سعة ؟ قال : نعم ، ثم قال : أيخشى عليهم الضيعة ؟ قال نعم ، فكأنه لم يعجبه ذلك حين خاف الضيعة .
قال محمد بن رشد : وهذا كما قال ، لأن قيامه على أهله وولده وترك إضاعتهم - واجب عليه ، بخلاف الغزو والرباط ، ولا ينبغي لأحد أن يضيع فرضاَ واجباً عليه لم اهو مندوب إليه .

(2/553)


مسألة
قال سحنون : أردت غزواً في البحر ، فسألت عن ذلك ابن القاسم فنهاني .
قال محمد بن رشد : إنما نهاه - والله أعلم - لأنه علم أنهم كانوا لا يغزون فيه على الصواب ، ولا يحافظون فيه على الصلاة في أوقاتها ؛ فخشي عليه إن غزا معهم ، ألا يقدر على محافظة ما يضيعون ، ولا على السلامة مما يصنعون ؛ لأن الغزو في البحر إذا كان على السنة وإصابة الحق ، فهو من أفضل أعمال البر ، بدليل حديث أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نام عند أم حرام ، ثم استيقظ وهو يضحك ؛ فقالت ما يضحك يا رسول الله ؟ قال : ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله ، يركبون ثبج هذا البحر ، ملوكاً على الأسرة ، أو مثل الملوك على الأسرة ، وأنه دعا لها أن يجعله منها بسؤالها إياه ذلك ؛ وهذا بين ، والله الموفق .
ومن كتاب
أوله مرض وله أم ولد فحاضت
قال ابن القاسم : وسمعت مالكاً يقول لما انهزم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين ، قبضت أم سليم امرأة أبي طلحة الأنصاري على عنان بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قالت يا رسول الله مر هؤلاء الذين انهزموا أن تضرب رقابهم ، فقال لها رسول الله : أو خيراً من ذلك يا أم سليم ؛ فقيل له أفأسهم لها ولمن

(2/554)


كان يخرج مع رسول الله من النساء في مغازيه لدواء الجرحى ، أو لغير ذلك ؟ فقال : ما علمت أنه أسهم لامرأة في شيء من مغازيه .
قال محمد بن رشد : قوله أو خير من ذلك يا أم سليم . - يردي الدعاء إلى الله عز وجل بإنجاز ما وعده به من النصر ؛ وكذلك فعل : رفع يديه إلى الله يدعو يقول : اللهم إني أنشدك ما وعدتني ونادى أصحابه وقبض قبضه من الحصى ، فحصب بها وجوه المشركين ونواحيهم كلها ، وقال : شاهت الوجوه ، فأقبل إليه أصحابه سراعاً يبتدرون ؛ فقال صلى الله عليه وسلم الآن حمي الوطيس فهزم الله أعداءه من كل ناحية ، حصبهم فيها رسول الله عليه السلام ، واتبعهم المسلمون يقتلونهم ، وغنمهم الله نساءهم وذراريهم وشاءهم ، وإبلهم . وفي ذلك يقول تبارك وتعالى : {وما رميت إذا رميت ، ولكن الله رمى} - الآية ، وقال عز وجل : "ويوم حنين إذا أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً - إلى قوله : وعذب الذين كفروا" . وأما قوله ما علمت أنهم أسهم لامرأة في شيء من مغازيه ، فهو مما لا اختلاف فيه : أنه لا يسهم للنساء ، ولا للصبيان ، ولا للعبيد ؛ وإنما اختلف هل يرضخ لهم من الغنيمة على غير وجه قسم ، فلم ير ذلك مالك - رحمه الله ، وذهب ابن حبيب إلى أن ذلك مما يستحب للإمام أن يفعله .

(2/555)


مسألة
قال : وسمعت مالكاً يقول حدثني يحيى بن سعيد ، عن أنس بن مالك ، أن النبي عليه السلام دعا الأنصار فأراد أن يقطع لهم بالبحرين ، فقالوا : لا يا رسول الله ، حتى نقطع لإخواننا من المهاجرين ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنه ستصبيكم أثرة من بعدي ، فاصبروا حتى تلقوني .
قال محمد بن رشد : مصداق هذا الحديث في كتاب الله حيث يقول في ثنائه على الأنصار "ويؤثرون على أنفسهم" - الآية . نزلت في الذي ضافه منهم ضيف ، فلم يكن عنده إلا قوته وقوت صبيانه ، فقال لامرأته نومي الصبية وأطفئي السراج ، فجعل يرى ضيفه أنه يأكل معه ولا يأكل .
مسألة
قال : وسمعت مالكاً يقول لما نزلت هذه الآية : {ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم} - الآية . فقال أبو بكر والذي بعثك بالحق إن كنت لفاعلاً .

(2/556)


قال محمد بن رشد : لا شك أن أبا بكر من القليل الذي استثنى الله تعالى في الآية ، فلا أحد أحق بهذه الصفة منه ، ويمينه على ذلك برة ؛ وفي هذا حجة لرواية ابن الماجشون عن مالك فيمن حلف في أمر قد سلف : لو كان كذا وكذا ، لفعلت كذا وكذا - مما يمكنه فعله ألا حنث عليه ، خلافاً لقول أصبغ أنه حانث ، لأنه لا يدري هل كان يفعل أو لا يفعل .
مسألة
قال مالك : بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "مثلي ومثلكم ، مثل قوم بعثوا طليعة إلى عدوهم ، فأراد أن يرجع إليهم ، فأعجله ما رأى منهم أن يرجع إليهم فألاح إليهم ، أتيتم ، أتيتم" .
قال محمد بن رشد : هذا مثل ضربه رسول الله صلى الله عليه وسلم لقرب : قيام الساعة ، والحض على المبادرة بالأعمال قبل حلول الآجال ؛ قال صلى الله عليه وسلم : بعثت أنا والساعة كهاتين . ولما نزلت وأنذر عشيرتك الأقربين ، ناداهم فقال اعملوا إلى ما عند الله ، فإني لا أملك لكم من الله شيئاً ، وقال إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد .
مسألة
وقال مالك : في الفرس إذا كلب وامتنع ، فلا أرى بخصاه بأساً - إذا كان على هذا الوجه .

(2/557)


قال محمد بن رشد : قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن خصاء الخيل ، ومعنى ذلك عند مالك إذا فعله لغير ضرورة ؛ بدليل هذه الرواية ، وبالله التوفيق .
ومن سماع أشهب وابن نافع من مالك
رواية سحنون من كتاب الجهاد
قال أشهب : سمعت مالكاً وسئل عن الرهبان ، فقيل إنهم يعتزلون في ديارات ليس في صوامع ، أيسبون ؟ قال : لا أرى أن يهاجوا ، فقيل له وسواء عليك الرهبان في الديارات ، أو أصحاب الصوامع ؟ قال هاه يقول الله سبحانه وتعالى : {قسيسين ورهباناً} - الآية . ولم ير أن يهاجوا ، فقيل له فالرهبان من النساء ؟ قال النساء عندنا - والله - أحق ألا يهجن .
قال محمد بن رشد : إنما سأله عن الرهبان إذا اعتزلوا في الديارات ، ولم يعتزلوا في الصوامع ؛ لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من نهيه ، قتل أصحاب الصوامع ، روي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا بعث جيوشه ، قال : "أخرجوا بسم الله ، تقاتلون من كفر بالله ؛ لا تغدروا ، ولا تمثلوا ، ولا تغلوا ، لا تقتلوا الولدان ، ولا أصحاب الصوامع" . فرأى مالك لرهبان الديارات حكم رهبان الصوامع ، لاستوائهم في العلة التي من أجلها

(2/558)


نهى عن قتلهم - وهي اعتزالهم لأهل دينهم ، وترك معونتهم لهم بقتال أوراي ؛ واستدل أيضاً بظاهر قوله عز وجل ، {قسيسين ورهباناً} . إذ لم يخص لترهبهم موضعاً من موضع ، وقد روي عن النبي عليه السلام أنه نهى عن قتال الرهبان ، ولم ينه عن قتلهم لخير عندهم ، بل هم أبعد من الله ، لاستبصارهم في كفرهم ، وإنما نهى عن قتلهم ، لاعتزالهم أهل دينهم ، وترك معونتهم لهم بيد أو رأي ؛ مع أنه ظاهر قوله عز وجل : {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر .} -الآية ، لأن المقاتلة مفاعلة من الفريقين ، ودليل قول الرسول عليه السلام في المرأة التي وقف عليها وهي مقتولة ، فقال هاه ما كانت هذه تقاتل . إذ يدل ذلك من قوله على أنه إنما يقتل من أهل الكفر من يقاتل ، وكما لا يقتل الرهبان ( فلا يسبون - رجالاً كانوا أو نساء ، - وهو ظاهر هذه الرواية ، وقد قيل في الرهبان ) من النساء أنهن يسبين . - ذكره ابن سحنون ؛ ووجه قول مالك ، إن الرهبان من النساء تبع لرجالهم في ألا يسبوا ، كما أن النساء من غير الرهبان تبع لرجالهم في أنهم يسبون ؛ ووجه قول سحنون إن السناء لما كن بمنزلة سواء في أنهن لا جزية عليهن ولا يقتلن ، رواهب كن أو غير رواهب .
وجب أن يكون بمنزلة سواء في أنهن يسبين رواهب كن أو غير وراهب ؛ وكما لا يقتل الرهبان ولا يسبون ، فلا تضرب عليهم الجزية ؛ لأن الجزية إنما هي ثمن لتأمينهم ، وحقن دمائهم ؛ وقد اختلف فيمن ترهب من أهل الذمة بعد أن وضعت الجزية ، فقيل إنها توضع عنه ،و هو قول ابن القاسم ، وظاهر قول مالك وسفيان الثوري وأبي حنيفة في الواضحة ؛ وقال مطرف وابن الماجشون عن مالك أيضاً أنها

(2/559)


لا توضع عنه . وقد روي عن مالك أن الرهبان يقتلون ، لأن فيهم التدبير والبغض للدين ، فهم أنكأ من غيرهم ، وكذلك الشيخ الكبير الذي لا يدع الجيوش والسرايا ، وقع ذلك في بعض روايات المدونة .
مسألة
وسئل مالك ، أواجب على المسلمين افتداء من أسر منهم ؟ قال : نعم ، أليس واجب عليهم أن يقاتلوا حتى يستنقذوهم ؟ قال : بلى . قال : فكيف لا يفتدونهم بأموالهم ؟ قال : قال عمر بن الخطاب ما أحب أن افتتح حصناً من حصونهم بقتل رجل من المسلمين .
قال محمد بن رشد : معنى قول مالك هذا ، أن ذلك واجب على الجملة ، لقوله عليه الصلاة والسلام : "فكوا العاني" . لأنه أمر فهو محمول على الوجوب ، بدليل ما احتج به مالك في الرواية ؛ فواجب على الإمام أن يفك أسارى المسلمين من بيت مالهم ، فما قصر عنه بيت المال ، تعين عل جميع المسلمين في أموالهم - على مقاديرها ، ويكون هو كأحدهم - إن كان له مال ؛ فلا يلزم أحداً في خاصة نفسه من فك أسرى المسلمين ، إلا ما يتعين عليه في ماله على هذا الترتيب ؛ فإذا ضيع الإمام والمسلمون ما يجب عليهم من هذا ، فواجب على كل من كان له مال من الأسارى ، أن يفك نفسه من ماله ؛ إذ لا يحل له أن يبقى نفسه أسيراً في دار الكفر ، ويمسك ماله ؛ وهذا وجه قول مالك ، وأكثر العلماء يقولون إن من فك أسيراً بغير أمره وله مال ، أن

(2/560)


له أن يرجع عليه بما فداه به ؛ وقد قيل لا يرجع عليه بشيء ، روي ذلك عن ابن سيرين ، والحكم وغيرهما ؛ واحتج بعض من ذهب إلى هذا بأن النبي عليه السلام قال : "فكوا العاني" . فإنما يجب ذلك على المسلمين ، فلا يعود ذلك على الأسير - وهو قول له وجه إذا حملنا قول النبي عليه السلام "فكوا العاني" ، على عمومه فيمن له مال وفيمن ليس له مال ؛ لأن الأول أظهر ، ويحتمل أن يكون معنى الحديث فيمن لا مال له ، فلا يلزم أحد أن يفتك من له مال ، ولا يلزم الإمام ذلك أيضاً من بيت مال المسلمين ، إلا أن يرى ذلك على وجه النظر كالجائزة يجزيها لمن له مال ؛ وأما من فدى أسيراً لا مال له بغيره أمره ، فالصحيح الذي يوجبه النظر والقياس ، أنه ليس له أن يتبعه بما فداه به ؛ لأن ذلك إنما يتعين على الإمام وجميع المسلمين ، وظاهر الروايات خلاف ذلك وهو بعيد .
مسألة
قال : وسئل مالك عن قول عمر بن الخطاب لا يجلب إلينا من هؤلاء العلوج أحد مرت عليه المواسى ؛ ما تراه أراد بذلك ؟ فقال : أراد بذلك ألا يستحيوا .
قال محمد بن رشد : مذهب مالك أن الإمام مخير في الأسارى على وجه الاجتهاد بين خمسة أشياء : إما أن يقتل ، وإما أن يأسر ويستعبد ، وغما أن يعتق ، وإما أن يأخذ فيه الفداء ، وإما أن يعقد عليه الذمة ويضرب عليه الجزية ؛ لأنه استعمل الآيات الواردة في ذلك في القرآن ، وفسر بعضها ببعض ، ولم ير فيها ناسخاً ولا منسوخاً ؛ فإن كان الأسير من أهل النجدة والفروسية والنكاية للمسلمين ، قتله ولم يستحيه ؛ وإن لم يكن على هذه الصفة وامتدت عليه غائلته وله قيمة استرقه للمسلمين ، أو قبل فيه الفداء ، إن بذل فيه أكثر من قيمته ؛ وإن لم تكن له قيمة ولا فيه محمل لأداء الجزية ، كالزمني أعتقه ؛ وإن لم تكن له قيمة وفيه محمل لآداء الجزية ، عقد له الذمة ، وضرب عليه الجزية ؛ واختلف قوله - إذا لم يتعرف حاله : هل هو من أهل النجدة

(2/561)


والفروسية ، أو له غائلة ، أم لا ؟ فمرة قال إنه لا يقتل إلا أن يكون معروفاً بالنجدة والفروسية ، أو تعرف له غائلة ؛ ومرة قال : إنه يقتل ويحمل إن لم يكن معروفاً بالنجدة والفروسية على أن له غائلة ؟ وهو الذي ذهب إليه عمر بن الخطاب في هذا الحديث ؛ وإن رأى الإمام باجتهاد مخالفة ما وصفناه من وجوه الاجتهاد ، كان ذلك له ، مثل أن يبذل الفارس المعروف بالنجدة والفروسية في نفسه المال الواسع الكثير ، فيرى الإمام أخذه أولى من قتله ، لاستعانته بذلك على جهاد المشركين ، وما أشبه ذلك من وجوه الاجتهاد ؛ فهذا تحصيل القول في حكم الأسارى على مذهب مالك . ومن أهل العلم من قال أن الأسير يقتل على كل حال ، لقوله عز وجل : {فإما تثقفنهم في الحرب فشر بهم} - الآية ، ومنهم من ذهب إلى أنه لا يجوز قتل الأسير - صبراً ، لقوله عز وجل : {فإما منا بعد وإما فداء} .
والصحيح ما ذهب إليه مالك - رحمه الله ، لأن النبي عليه السلام قتل وأسر ، فوقع فعله موقع البيان لما في القرآن ، لأن قوله تعالى : {فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم} - الآية ، معناه قبل الاثخان ، وقوله عز وجل : {فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب} - الآية ، ليس على

(2/562)


الإلزام ، وإنما معناه إباحة شد الوثائق وترك القتل بعد الاثخان ؛ بدليل قوله ، عز وجل : {ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض} . وقد حكى الداودي أن أكثر أصحاب مالك يكرهون فداء الأسرى بالمال ، ويقولون : إنما كان ذلك ببدر ، لأن النبي ، عليه السلام ( علم ) أنه سيظهر عليهم ، وإنما يتفق على جواز فدائهم بأسرى المسلمين .
مسألة
قال : وقيل ( له ) إنه يقال إن بأرض الروم أشجاراً تبلغ إذا حملت إلى أرض العرب ثمناً كثيراً ، وشأنها هنالك خفيف ، وحملها يسير ؛ قال : ما أرى بهذا بأساً ، وإن أخذه للبيع وإن جاء بذلك العود وتلك الشجرة إلى صاحب المقاسم ، لم يقبله ولم يقسم على الجيش .
قال محمد بن رشد : وهذا كما قال : أنه إذا لم يكن لها ثمن في بلاد العرب ، ولا قبلها صاحب المقاسم ؛ فله أن يأخذها ، ولا اختلاف في ذلك أعلمه ؛ وقد مضى بيان هذا في أول رسم من سماع ابن القاسم ، وفي رسم نذر سنة يصومها منه .

(2/563)


مسألة
(
قال ) : وسئل مالك عن رجل من المسلمين يحمل على الجيش من العدو وحده ، قال : قال الله تعالى : {الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً} - الآية . فجعل كل رجل برجلين بعد أن كان كل رجل بعشرة ، فأخاف هذا يلقي بيده إلى التهلكة وليس ذلك بسواء أن يكون الرجل في الجيش الكثيف فيحمل وحده على الجيش ، وأن يكون الرجل قد خلفه أصحابه بأرض الروم أحاطوه فتركوه بين ظهراني الروم ، فهو يخاف الأسر فيستقتل فيحمل عليهم ؛ فهذا – عندي – خفيف ، والأول عندي في كثف وقوة ؛ وليس إلى ذلك بمضطر ، يختلف أن يكون الرجل يحمل احتساباً بنفسه على الله ، كما قال عمر بن الخطاب "الشهيد من احتسب نفسه على الله ، أو يكون يريد بذلك السمعة والشجاعة .
قال محمد بن رشد : أما إذا فعل ذلك إرادة السمعة والشجاعة ، فلا إشكال ولا اختلاف في أن ذلك من الفعل المكروه ؛ وأما إن اضطر إلى ذلك بإحاطة العدو به ، ففعله مخافة الأسر ؛ فلا اختلاف في أن ذلك من الفعل الجائز ، إن شاء أن يستأسر ، وإن شاء أن يحمل على العدو ويحتسب نفسه على الله ؛ وأما إذا كان في صف المسلمين وأراد أن يحمل على الجيش من العدو وحده محتسباً بنفسه على الله ، ليقوي بذلك نفوس المسلمين

(2/564)


ويلقي به الرعب في قلوب المشركين ؛ فمن أهل العلم من كرهه ورآه مما نهي الله عنه من الإلقاء إلى التهلكة ، لقوله عز وجل : {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} . وممن روي ذلك عن عمرو بن العاص ؛ ومنهم من أجزه واستحبه لمن كانت به قوة عليه - وهو الصحيح ، وروي أن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه ، حين لاحمه القتل يوم مؤتة ، اقتحم عن فرس ( له ) شقراء ثم عرق بها وقاتل حتى قتل ، فلم ينكر ذلك عليه من كان معه من بقية الأمراء وسائر الصحابة ، ولا أنكره النبي - عليه الصلاة والسلام - عليه ، إذ لا شك في تناهى علم ذلك إليه ، ولا نهى المسلمون عن مثل ذلك ؛ فدل على أن ذلك من أجل الأعمال ، وأن الثواب عليه أعظم الثواب ؛ وروي أن رجلاً خرج من صف المسلمين بالقسطنطينية ، فحمل على الروم حتى دخل فيهم ، ثم خرج إليه ؛ فصاح النسا به سبحان الله ألقى بيده إلى التهلكة! فقام أبو أيوب الأنصاري فقال : يا أيها الناس ، إنكم لتتأولون هذه الآية على غير تأويلها ، إنما أنزلت فينا معشر الأنصار ، إنا لما أعز الله دينه ، وكثر ناصروه ؛ قلنا فيما بيننا سراً من رسول الله عليه السلام : إن أموالنا قد ضاعت ، فلو قمنا فيها فأصلحنا منها ما ضاع ، فأنزل الله عز وجل في كتابه - يرد علينا ما هممنا به - فقال : "وأنفقوا في سبيل الله ، ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة" .
فكانت التهلكة الإقامة التي كنا هممنا بها ، فأمرنا بالغزو ، فما زال أبو أيوب غازياً في سبيل الله حتى قبضه الله ، عز وجل . والقولان قائمان من الرواية : قوله فيها - فهذا عندي خفيف ، والأول عندي في كثف وقوة ليس

(2/565)


إلى ذلك بمضطر ، يدل على الكراهة ؛ وقوله يختلف أن يكون الرجل يحمل احتساباً بنفسه على الله ، كما قال عمر بن الخطاب إلى آخر قولهن يدل على الجواز ، وهو قول القاسم بن مخيمرة ، وبالله التوفيق ، والحمد لله كما يجب لجلالة .
ومن كتاب الغزو
مسألة
قال أشهب : سئل مالك عن البعوث المكروهة تقطع على الناس إلى المغرب ومثلها ، فيتجاعلون فيها ، فيغرم المتخلفون للخارجين ، ويكون للوالي الهوى في بعضهم من أهل الصلاح والفضل ، فيرفعهم فيجعلهم في رفعة ، لئلا يكون عليهم غرم من المتخلفين الجاعلين لمن خرج ؛ فقال : ما أدري ما هذا : يخرجهم من الغرم ويغرم غيرهم ، ماله لا يعطيهم من ماله - وكأنه كرهه : قيل له : إن الوالي يكون له رفع على كل حال لابد له منهم يرفعهم ، فإن احتاج إليهم استعان بهم - إن بدا له ، فإذا وقع البعث المكروه الذي يكون فيه الغرم ، جاء الرجل منهم الذي له الصلاح والفضل ، فطلب الرفع في رفع الوالي لأن ينجو من الغرم ؛ فقال مالك ليس هذا بالذي سأل عنه الرجل ، وأرى هذا شيئاً قد

(2/566)


جعل إلى السلطان ، فهو أحق من الأول ؛ فقيل له : لا ترى بهذا بأساً ؟ فقال هذا أخف .
قال محمد بن رشد : يريد بالبعوث المكروهة المخوفة التي يكره الخروج إليها لخوفها ، فيكثر الغرم على الجعلين فيها من أهل الديوان للخارجين إليها منهم ؛ لأن المجاعلة إنما تجوز لأهل الديوان فيما بينهم ، فكره مالك للوالي أن يحابي أحداً من أهل الصلاح ، بأني جعله في أهل رفعة الذين يمسكهم مع نفسه لحاجته إليهم ، ولا يتركهم يخرجون في ذلك البعث ليسقط بذلك عنهم ما كان يلزمهم من الغرم مع المتخلفين الجاعلين للخارجين ؛ وخفف له إذا لم يقصد إلى محاباة أحد ، ولم يكن له بد من أن يمسك مع نفسه بعضهم لحاجته إليهم ؛ وأن يجيب من سأله من أهل الصلاح أن يجعله منهم إلى ما سأله من ذلك ، وذلك مكروه للسائل ؛ فإذا قصد الوالي إلى محاباة أحد بهذا الفعل دون أن يسأله ذلك ، كانت الكراهة في حيزه دون الرجل ، وإذا سئل ذلك ففعله ، كان الأمر أخف عليه منه على الرجل السائل ، فهذا معنى قول مالك عندي في هذه المسألة ، وبالله التوفيق .
مسألة
وسئل مالك عن الذي يصيب القربة أو العسل في أرض الروم - وربما لت بالعسل جريرته ، أينصرف إلى بلاده يأكله ؟ قال : لا بأس بذلك إذا كان يسيراً .
قال محمد بن رشد : وهذا صحيح على معنى ما في المدونة وغيرها

(2/567)


من أن للرجل أن يأكل في أرض الإسلام فضلة ما يخرج به من طعام العدو إذا كان يسيراً .
مسألة
فقيل له أفرأيت الغازي يجد الغرارة يحتاج إليها يجعل فيها متاعه ، والجلد يحتذيه ، والشيح لدواء البطن ؛ فقال ما أرى به بأساً أن يأخذه ، وهذا تضييق على الناس ، وما كل الناس يكون معه في الغزو ما يكفيه مما يحتاج إليه ؛ قيل له فإن أحدهم أتى بكبة الخيط فيشتريها بدانق ، فيطرحها في المقاسم ، قال هذا شيء يراؤون به ، وما هذا التضييق على الناس ؟!
قال محمد بن رشد : أما ما لم يكن له من هذا كله ثمن ، فله أن يأخذه - احتاج إليه أو لم يحتج إليه ؛ وأما ما كان له من ذلك ثمن ، فله أن يأخذه إن احتاج إليه على ما في المدونة ، خلاف قول ابن نافع ؛ وقد مضى بيان هذا كله في أول رسم من سماع ابن القاسم ؛ وهذا إذا كان الشيخ مما قدر حازه الروم في بيوتهم ؛ وأما إن كان من نبات الأرض المباح الذي لم يحوزوه إلى بيوتهم ؛ فقد مضى القول فيه في رسم نذر سنة من سماع ابن القاسم .

(2/568)


مسألة
وسئل مالك عن الوالي يخرج معه بالخيل في أرض العدو فيأتيه الرجل فيستعيره فرساً من خيله يقاتل عليه ، فيعيره فيقاتل عليه ؛ لمن ترى سهماً الفرس ؟ فقال سهمه للذي استعاره ، أرى ذلك له .
قال محمد بن رشد : وكذلك لو اشتراه ، أو اكتراه ، أو تعدى عليه أو وجده عابراً عند حومة القتال فقاتل عليه ، لكان سهماه إليه ؛ وكذلك لو أعاره ذلك ( على أن ) يكون سهماً الفرس بينهما ، أو على أن يكونا لصاحب الفرس ، إلا أنه يكون عليه ( فيه ) أجرة مثله ، ولو لم يكن للرجل إلا فرس واحد فتعدى عليه رجل فركبه ، وقاتل عليه - وصاحبه حاضر ، أو وجده عند القتال - وهو عاثر ، لكان سهماه لصاحبه ، بخلاف الاشتراء والعارية والكراء ؛ وبخلاف التعدي إذا لم يكن صاحبه حاضراً ، وهذا على مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك في أن السهم إنما يستحق بالقتال لا بالإيجاف ؛ وأما على مذهب ابن الماجشون الذي يرى أن السهم يستحق بالإيجاف ، فلا يكون للذي قاتل على الفرس سهمانه في شيء من هذه الوجوه ، إلا أن يوجف عليه أو يصير بيده بحدثان الإيجاف وقبل مشاهدة القتال ، حتى يتمكن في كينونته له وفي يده .

(2/569)


مسألة
وسئل فقيل له أفرأيت الذي يغزو بفرسين ، أيسهم لهما جميعاً ؟ فقال : لا يسهم إلا لفرس واحد .
قال محمد بن رشد : هذا مذهب مالك وأصحابه في المدونة وغيرها ، وقد جاء في بعض الأحاديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسهم لفرسين ، ولا يسهم لأكثر من ذلك . وذهب إلى ذلك غير واحد من العلماء ، وعمل به عمر بن عبد العزيز في خلافته ، وأخذ به ابن وهب من أصحاب مالك .
مسألة
وسئل مالك فقيل له إنا ( إذا ) أردنا الغزو استؤجر لنا أعوان يكونون في المراكب قذافين ، وغير ذلك من الأعمال من رفع الصواري ، ووضعها ، وإمساك الحبال والأرجل ، وما يحتاج إليه المركب ، يكون ذلك لهم شيئاً لازماً لذلك استؤجروا ؛ فإذا قدموا أرض الروم ، كان منهم المسلم والمولد الحر ، ترك منهم من كان كذلك ، فشهدوا القتال ، وأبلوا بلاء عظيماً ، فلا يقسم

(2/570)


لهم ؛ أفترى أن يقسم لهم ؟ فقال : وأين هذا ؟ فقيل في البحر ؛ فقال يتخذون مثل هذا في الصوائف ؟ فقيل نعم ، يستأجرون فعلة لتسوية الطريق ، وقطع الشجر ، وإصلاح المواضع التي فيها ضرر على المسلمين : يوسعون ضيقها ،و يرفعون حجارتها عن الطريق ، وغير ذلك مما يحتاج إليه ؛ يستأجرونهم رصدة ذلك وعدة ، ثم يشهدون القتال مع الناس فيقاتلون ؛ أفيعطي هؤلاء شيئاً ؟ فقيل لا ؛ فقال : فهؤلاء مثلهم - وكأنه لم ير لهم شيئاً ؛ قيل له إن ابن معيوف كان يحلف الرجل يخرج مع عمه أو مولاه يخدمه وينفعه ، فيحلفه على أنه لم يخرج لخدمته ؛ فإن لم يحلف لم يسهم له ؛ فقال بئس ما صنع ابن معيوف ، وفي الغزو أيمان ؟ وإن الرجل ليخرج مع أبيه أو مع مولاه في الغزو يعينه ويكفيه ، فبئس ما صنع .
قال محمد بن رشد : هذا خلاف ما في المدونة ، والواضحة ، من أن الأجير يسهم له إذا شهد القتال وقاتل ؛ وفي كتاب محمد بن المواز أنه يسهم له إذا شهد القتال - وإن لم يقاتل ؛ وأما إذا لم يسهد القتال ، فلا اختلاف في أنه لا يسهم له ؛ قال محمد عن أبيه : والذي يكرى للغزو لا يسهم له إلا أن يقاتل ؛ وكذلك مكتري الدواب في الغزو مثل الأجير ، قال سحنون : ويحط عن الأجير من أجرته بقدر ما اشتغل عن خدمة الذي استأجره ، ومن أهل النظر من ذهب إلى أن رواية أشهب هذه ، ليست بمخالفة لما في المدونة ، وغيرها ؛ وقال : معنى هذه الرواية في الإجارة العامة ، ومعنى ما في المدونة

(2/571)


وغيرها في الإجارة الخاصة ، وليس ذلك بصحيح ؛ لأن الإجارة العامة هي أقرب أن يكون له فيها السهم - إذا قاتل من الإجارة الخاصة ، فإذا لم يوجب له السهم في الإجارة العامة ، فأحرى ألا يوجبها له الإجازة الخاصة - والله أعلم ؛ وإنما أنكر على ابن معيوف تحليف الرجل خرج مع ابن عمه أو مولاه ، أنه لم يخرج لخدمته ، إذ لم يره كالأجير ؛ وكان الحكم فيه عنده أن يسهم له قاتل أو لم يقاتل ؟ وأما من ادعي عليه أنه أجير فأنكر ، فلا يبعد عليه اليمين - إن لم يقاتل على ما في المدونة ، وإن قاتل على هذه الرواية ، وبالله التوفيق .
ومن كتاب الأقضية
وسئل مالك عن رفع الأصوات بالتكبير على السواحل ، أو في الرباط بحضرة العدو ، أو بغير حضرتهم ؛ هل ينكره ، أو يسمع الرجل نفسه ؟ فقال : أما بحضرة العدو فلا بأس ، وذلك حسن ؛ وأما بغير حضرتهم على السواحل فلا بأس بذلك أيضاً ، إلا أن يكون رفع صوته يؤذي الناس ، لا يستطيع أحد أن يقرأ ولا يصلي ، فلا أرى ذلك .
قال محمد بن رشد : هذا مثل ما في كتاب الجهاد من المدونة ، وزاد فيه أنه أنكر التطريب ؛ وأنكر ابن حبيب أن يتقدمهم واحد بالتكبير ، أو التهليل ، ثم يجيبه الآخرون بنحو من كلامه جماً غفيرا ؛ وأجاز أن يحزن تكبيره وأنكر في رسم أحد يشرب خمراً من كتاب الصلاة - التكبير دبر الصلوات بأرض العدو ، وسكت عن التكبير في غير دبر الصلوات ؛ فذلك كله مفسر بعضه لبعض ، ليس فيه اختلاف من قول مالك ؛ وما حكى ابن حبيب من

(2/572)


استحباب التكبير ثلاثاً دبر صلاة العشاء والصبح ، في الثغور والمرابطات والعساكر ، خلاف لمذهب مالك - ومذهبه أظهر ؛ لأنه أمر محدث لم يكن في الزمن الأول ، ولو كان ، لنقل وذكر - والله أعلم .
مسألة
وسئل مالك عمن أسلم من المشركين بعد إساره ، أيمنعه ذلك من القتل ؟ قال : نعم في رأيي .
قال محمد بن رشد : هذا ما لا اختلاف فيه ، قال صلى الله عليه وسلم : "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، فإذا قالوها ، عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها ، وحسابهم على الله" . أي والله يحاسبهم عما في نفوسهم إن كانوا أظهروا للإسلام وهم لا يعتقدونه بقلوبهم . وقد روي أن المقداد قال لرسول الله عليه السلام : أرأيت إن لقيت رجلاً من الكفار فقاتلني فضرب إحدى يدي بالسيف فقطعها ، ثم لاذ بشجرة فقال : أسلمت لله ؛ أأقتله يا رسول الله بعد أن قالها ، فقال رسول الله : لا تقتله ، فإن ق تلته فإنه بمنزلتك - قبل أن تقتله ؛ وأنت بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال . وقال صلى الله عليه وسلم : لأسامة لما قتل الكافر بعد أن قال : لا إلاه إلا الله - ظناً منه أنه قالها تعوذاً ، فكيف يصنع بلا إله إلا الله ، وأعاد ذلك عليه حتى تمنى أنه أسلم ذلك اليوم ، وبطل ما كان قبل ذلك من عمله ، وبالله تعالى التوفيق ، إلا إلاه إلا هو .

(2/573)


ومن كتاب الجنائز والذبائح والنذور
قال : وسئل مالك عن القوم يغزون أرض الروم فيقتلون من أبقارهم بالسيوف ، فتعرقب ثم تذبح فتقطع بالسيف ؛ فقال : ما هذا بحسن ، ولا أحب أكله .
قال محمد بن رشد : يحتمل أن يكون معنى هذه الرواية أنها عرقبت ثم ذبحت قبل أن تنفذ مقاتلها بالسيوف ، فيكون وجه كراهيته لأكلها قطعهم إياها بالسيوف بعد ذبحها على سبيل الانتهاب للحمها ، - لما جاء في النهبة ، وقد مضى القول فيها في رسم سن من سماع ابن القاسم من كتاب العقيقة ؛ ويحتمل أن يكون معناها إنما ذبحت بعد إنفاذ مقالتها بالسيوف لامتناعها ، فيكون قوله ما هاذ بحسن ، ولا أحب أكله ، ليس على ظاهره في التخفيف ؛ لأن المعلوم من مذهبه أن الأنسي لا يذكي بما يذكي به الصيد - وإن امتنع ، ولا يؤكل إلا أن يذبح أو ينحر ، كان له أصل في التوحش أو لم يكن ؛ خلاف ما ذهب إليه ابن حبيب من أن البقر الانسية وما أشبهها مما له أصل في التوحش - إذا ندت وامتنعت ؛ كان سبيلها سبيل الصيد في ذكائها ؛ بخلاف الإبل وما أشبهها مما الأصل له في التوحش ؛ وحكى ذلك البخاري عن ابن مسعود ، وابن عباس ، وعلي بن أبي طالب ، وابن عمر ، وعائشة ؛ وبوب باب ما ند من البهائم ، فهو بمنزلة الوحش ؛ وأدخل حديث رافع بن خديج - وفيه قال : وأصبنا نهب إبل وغنم ، فند منها بعير فرماه رجل بسهم فحبسه ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"إن لهذه الإبل أوابد كأوابد الوحش ، فإذا غلبكم منها شيء ، فافعلوا به هكذا" . وهذا لا حجة فيه ، لاحتمال أن

(2/574)


يكون السهم حبسه دون أن ينفذ مقاتله فذكي ؛ وكذلك ما حكى ابن حبيب من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إذا استوحشت الانسية أو امتنعت ، فإنه يحلها ما يحل الوحشية ؛ يحتمل أن يريد بذلك الانسية من الوحش ، فتتخرج الأحاديث على مذهب مالك .
مسألة
وسئل عن الجيش يغيرون في أرض الروم ، فيوافون قدروهم على النار مملوءة لحماً ، أتؤكل ؟ فقال : وما يمنعه أن يأكل ؟
قال محمد بن رشد : وهذا كما قال أن آكل ذلك له حلال ، لقول الله عز وجل : {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم ، وطعامكم حل لهم} . إلا أن يدع رجل في خاصة نفسه ، مخافة ألا تكون قدورهم طاهرة - على ما مضى في أول سماع ابن القاسم من كتاب الذبائح .
ومن كتاب الوضوء والجهاد
وسئل مالك عن السرية كم هي ؟ قال : وما يقال فيها ؟ فقيل : يقال خير السرايا أربع مائة . قال : قد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة على سرية فيهم ثلاثمائة ، وكان صلى الله عليه وسلم ، وكان صلى الله عليه وسلم يبعث الرجل والرجلين على سرية ، أفكانت سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعمائة ؟ .

(2/575)


قال محمد بن رشد : قد روي عن النبي عليه السلام أنه قال : "خير الصحابة أربعة ، وخير السرايا أربعمائة ، وخير الجيوش أربعة آلاف ، ولن تغلب اثنا عشر ألفاً من قلة ، إلا أن تفترق كلمتهم" . ولهذا وقع سؤال مالك عن خير السرايا ، فأنكر سؤال السائل ، إذا لم يعرف الحديث ، قد وري ، فإذا اتفق أن تكون السرية أربعمائة ، والجيش أربعة آلاف ، كان الخير لهم مرجواً والنصر لهم مأمولاً أكثر من غيرهم - وإن زاد عددهم - إن شاء الله .
مسألة
وقال مالك لما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر غشيها في برد شديد ، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنا لا نستطيع القتال ، فقال لهم عليه السلام : لم ؟ فقالوا البرد والجوع والعري ، فقال الرسول عليه السلام : اللهم اف تح عليهم اليوم أكثرها طعاماً وودكاً ، ففتح الله عليهم خيبر .
قلت لمالك : أفرأيت خيبر افتتحت عنوة أم بقتال ؟ فقال : افتتحت بقتال شيء يسير منها .
قلت : فخمست ؟ قال : نعم خمست ، إلا ما كان منها عنوة أو صلحاً ، فإن ذلك لم يخمس وهو يسير .
قلت له العنة والقتال أليس بواحد ؟ فقال لي : إنما أردت الصلح ، وقد سمعت ابن شهاب يقول : افتتحت عنوة منها بقتال ،

(2/576)


وإنما أردت الصلح ، وقد قال ابن شهاب ، عنوة وقتال ، ولست أدري ما أراد بذلك ، وقال مالك قسمت خيبر ثمانية عشر سهماً على ألف وثمانمائة رجل ، لكل رأس سهمه ؛ لعمر بن الخطاب سهمه ، ولبلال سهمه ، ولفلان سهمه - حتى سمى رجالاً ؛ قال مالك ، وصدقات رسول الله عليه السلام كانت من أموال بني النضير - ولم تخمس ، لأنها كانت صافية ؛ وخمس رسول الله عليه السام قريظة ، لأنها كانت بقتال ، وقال مالك : أجلى عمر أو النبي أهل خيبر ، وأما أهل فدك فصولحوا على النصف لهم ، والنصف للمسلمين! فلما كان عمر بن الخطاب أجلاهم منها ، وأقام لهم النصف الذي كان لهم ، فأعطاهم به حبالاً وأقتاباً ؛ وما فضل لهم أعطاهم به ذهباً ، اشترى ذلك عمر بن الخطاب منهم ؛ فقال المسلمون : اشتراه عمر لنفسه ، فبلغ ذلك عمر بن الخطاب ، فخطب الناس وأخبرهم بالذي بلغه ، وقال : بأي شيء اشتراه ابن الخطاب ، أبمال أبيه وأمه ؟ إنما اشتراه من بيت مال المسلمين ؛ فقال له أفرسول الله صالح أهل فدك ؟ قال : نعم ، وعمر بن الخطاب الذي أجلاهم .

(2/577)


قال محمد بن رشد : إنما قال رسول الله عليه السلام في خيبر "اللهم افتح عليهم اليوم أكثرها طعاماً وودكا" ، لأنه كان لخيبر حصون كثيرة ، ففتح الله عليهم ذلك اليوم بدعاء النبي عليه السلام خيبر نفسها ؛ ولا شك أنها كانت أكثرها طعاماً وودكاً ، وقد قيل في حصن الصعب بن معاذ إن لم يكن في حصون خيبر أكثر طعاماً وودكاً منه ، وكانت خيبر نفسها أكثر طعاماً وودكاً منه ؛ بدليل الحديث المذكور – والله أعلم . – وقول مالك في خيبر إنها افتتحت بقتال شيء يسير منها – يريد إنما قوتل اليسير من حصونها ، وأكثرها غلبهم عليها المسلمون دون مناصبة لقتال ، فخمس جميع ذلك ؛ إذ كان مما أوجب عليه بالخيل والركاب - وإن لم يكن فيبعضها قتال ، وإنما كان عنوة بغير قتال ؛ وقوله إلا ما كان منها عنوة أو صلحاً ، فإن ذلك لم يخمس وهو يسير . معناه : إلا ما كان منها عنوة وصلحاً ، لأن أو قد تكون بمعنى الواو ، قال تعالى : {ولا تطع منهم آثماً أو كفوراً} . – "يريد آثماً ولا كفوراً . وقال صلى الله عليه وسلم في حديث الجهاد – مع ما نال من أجر أو غنيمة . يريد من أجر وغنيمة ، لأن الغنيمة لا تحبط الأجر ، فالمراد بقوله إلا ما كان منها عنوة أو صلحاً . أي إلا ما اجتمع فيه الأمران جميعاً .
لأنهم لما خافوا الغلبة وأيقنوا بها ، أرسلوا إلى النبي عليه السلام في أن يصالحهم على أن يحقن لهم دماءهم ، ويخلوا له الأموال ، ففعل صلى الله عليه وسلم ، وكان ذلك في حصنين من حصونهم الوطيح ، والسلاليم ؛ فكان لهذين الحصينين حكم ما لم يوجف عليه بخيل والركاب - على ما ذهب إليه مالك ، وابن شهاب ؛ فلم تخمس ؛ ولا كان لأحد فيها مع رسول الله عليه السلام شيء ، فقطع منها لأزواجه على ما قال في آخر السماع ، وكذلك الكتيبة قيل فيهان إنها كانت صلحاً صافية لرسول الله ،

(2/578)


عليه السلام ، كبني النضير ، وقدك ، التي قال فيها الله : {وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب} - الآية . وذهب ابن اسحاق إلى أن خيبر كانت عنوة كلها . وإلى هذا ذهب ابن عبد البر ، فقال : الصحيح ما قاله ابن إسحاق ، وأن رسول الله ، عليه السلام - خمس أرض خيبر كلها ، وقسمها بين من شهد الغزاة وهم أهل الحديبية ؛ لأن أرض ذينك الحصنين مما غلب عليه المسلمون كسائر أرض خيبر ؛ وإنما كان الصلح في الرجال والذرية والعيال .
ومعنى قول ابن شهاب عنوة وقتال يريد صلحاً لجؤوا إليه لما خافوا الغلبة والأسر في ذينك الحصنين ، وقتالاً فيما سواهما ؛ أو ماله حكم القتال مما أوجب عليه بالخيل والركاب ، ولم يكن فيه صلح ولا قتال ، فهذا معنى قول ابن شهاب على ما يعرف من مذهبه في أن بعض خيبر افتتحت بصلح ، فما أوجف عليه بالخيل والركاب ، فاستفتح بغير قتال ، مثل أن يفر عنه أهله قبل وصولهم إليهم ، أو ينزلوا إليهم وتسأسروا في أيديهم ، أو يصالحوهم على جزء من أموالهم وأراضيهم ، أو على ذهب يعطونهم على أن ينصرفوا عنهم ؛ فذلك كله بمنزلة ما استفتحوه وغنموه بقتالهم ، بخمس ويقسم الباقي بينهم على حكم الغنيمة ؛ وما جلى عنه أهله مخافة أن يغزوا أو أرسلوا فصالحوا مخافة ذلك ، فهي فيء لا تخمس ، ويكون له ( كله ) حكم الخمس ؛ وذهب ابن لبابة

(2/579)


إلى أن العنوة على وجهين ؛ فما كان منها بقتال يخمس وتكون الأربعة الأخماس بين الموجفين ؛ وما كان منها بغير قتال ، فهو كالصلح يكون فيئاً ولا يخمس ؛ وقال : إن ذلك معنى ما في المدونة ، وتبينه رواية أشهب هذه ؛ وتؤول أن معنى قوله فيها افتتحت خيبر بقتال شيء يسير منها ، أن القتال كان يسيراً ، والإصابة كثيرة ؛ وقال إن الذي دل عليه قول مالك ، وابن شهاب فيها ، أنه افتتح أكثرا عنوة بقتال ، وهو الذي خمسه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقسمه ؛ وافتتح بقيتها - وهو اليسير منها بعضه عنوة بغير قتال ، وبعضه صلحاً ، فلم يخمس وكان صافياً لرسول الله صلى الله عليه وسلم . وقوله فيما ذهب إليه من تفصيل العنوة بعيد من الصواب .
وقول مالك قسمت خيبر ثمانية عشر سهماً ، يريد إلا ما كان منها صلحاً على سبيل العنوة بغير قتال ، فلم يخمس ولا قسم على ما تقدم من قولهن وعلى ما يأتي له في آخر السماع ؛ وقد مضى في رسم البز من سماع ابن القاسم ، القول في وجه قسم رسول الله عليه السلام أرض خيبر على مذهب مالك ، وما ذكر من الاختلاف في ذلك ؛ وقول مالك أن صدقات رسول الله عليه السلام كانت [من أموال بني النضير ، ولم تخمس ، لأنها] صافية ، يبين أن ما وقع في المدونة من أنه قسم النضير بين المهاجرين وثلاثة من الأنصار ، معناه ما بقي بعد صدقاته منها ؛ وإنما خص بذلك المهاجرين ( دون ) الأنصار ، حاشا سهل بن حنيف ، وأبا دجانة ، والحارث بن الصمة ؛ لأنه كان شرط على الأنصار في بيعة العقبة أن يواسوا من يأتيهم من المهاجرين ، فكانوا يكفونهم المؤونة ، ويقاسمونهم في الثمر ؛ فلما جلى بنو قينقاع وبنو النضير ، قال لهم رسول الله عليه السلام :

(2/580)


"إن شئتم بقيتم لى ما كنتم عليه وقسمت لكم ، وإن شئتم رجعت إليكم أموالكم وقسمت لهم دونكم ، فاختاروا ذلك . ففعله رسول الله عليه السالم ، والشك في قوله أجلى عمر أو النبي عليه الصلاة والسلام أهل خيبر ، إنما هو ممن دون مالك من الرواية - والله أعلم ؛ لأنه قد علم أن النبي عليه السلام أقرهم لعمارة الأرض ، وأن عمر بن الخطاب هو الذي أجلاهم في خلافته ، لما صح عنده أن النبي عليه السلام قال : "لا يجتمع دينان في جزيرة العرب" . فأخذ المسلمون سهامهم فتصرفوا فيها تصرف المالكين ، وجزيرة العرب مكة والمدينة واليمن - قاله مالك .
مسألة
قال : وسئل مالك عن رجل من المسلمين رهنه أبوه في أيدي العدو ، ثم مات أبوه ، فخرج رجل من المسلمين إلى أرض العدو فافتكه وجاء به ؛ على من ترى ما افتكه به الرجل ، أعلى الغلام في حصته من مال أبيه ؟ أم من جملة مال أبيه ، لأنه هو الذي رهنه ؟ فقال : لو افتداه السلطان أيترك رجل من المسلمين في أرض العدو ؟ .
قال محمد بن رشد : قوله لو افتداه السلطان يريد من بيت مال المسلمين صحيح ، لأنه هو الذي يجب في جميع من أسر من المسلمين ؛ وقد مضى القول على هذا المعنى في أول رسم من السماع ، فإن لم يفعل السلطان ذلك ، ولا تطوع به أحد من المسلمين ؛ فالواجب أن يكون ما افتكه

(2/581)


به من رأس مال أبيه الذي رهنه ، فإن لم يف ماله بذلك ، كان ما بقي في مال الابن المفدي - إن كان له مال - اتبع به ديناً في ذمته على ظاهر الروايات ؛ والذي يوجبه النظر إلا يتبع بشيء من ذلك ، وهذا إذا كان الأب أسيراً فرهن ابنه مكانه ؛ وأما إن كان رهنه في تجارة أخذها ، فلا يلزم السلطان ( أن يفتكه ) إن كان في تركته وفاء بذلك ؛ قال سحنون : وإن كان رهنه في مصلحة المسلمين ، وما ينزل بينهم وبين العدو ، ثم التاث الأمر ، فعلى الإمام فداؤه واجب .
مسألة
وسئل مالك عن السرية تخرج في أرض الروم مغيرة . وهم إذا هلكت دابة أحدهم لم يعطفوا عليه ولم يتخلفوا له ؛ وقالوا له غيض حتى يرجع العسكر ، فيدعونه في أرض الروم ، وتوجهوا ؛ فإن ظفر به الروم أخذوه ؟ أفيعجبك أن يدخل معهم - وهم هكذا ؟ فقال : إذا كان هكذا ، فما يعجبني ذلك .
قال محمد بن رشد : وهذا كما قال ، لأن الغرر في ذلك بين ، والهلاك فيه أغلب ؛ ولا ينبغي للرجل أن يغرر بنفسه ، ولا أن يدخل في السرية ، إلا إلى موضع تكون فيه النجاسة عنده أغلب ، والله تعالى أعلم .
مسألة
وسئل عن الإقامة بأرض العدو والانقطاع إليها ، أذلك أفضل ، أم الإقبال والإدبار ؟ فقال : ذلك حسن واسع .

(2/582)


قال محمد بن رشد : إنما لم يفضل أحد الوجهين على الآخر ، من أجل أنه لا نص في ذلك ؛ والفضائل لا تدرك بالقياس ، ونما هي عطايا من الله على قدر نية العبد ؛ قال صلى الله عليه وسلم : في عثمان بن مظعون إن الله قد أوقع أجره على قدر نيته ، وقال : نية المؤمن خير من عمله .
مسألة
(
قال ) : وسئل مالك عن البقر من بقر الروم ، لا يقدر المسلمون على أخذها إلا بالعقر والطعن ؛ فإذا عقرت ذبحت بد ذلك ؛ فقال : إنسية ؟ فقيل نعم بقر الروم ؛ فقال : لا أرى ذلك ، هؤلاء قوم يطلبون الخير في الغزو وهم يفعلون هذا ، فقيل له إن لم يفعلوا بها هذا لم يقدروا عليها ؛ فقال : أرأيت البدنة إذا لم يقدروا على نحرها - وكانت هكذا ، أيعقرها ثم ينحرها ؟ هذه الأباطيل!
قال محمد بن رشد : قد مضى القول على هذه المسألة في رسم الجنائز ، والذبائح ،و النذور ، فلا معنى لإعادته .
مسألة
قال : وسئل مالك عن الجيش يصاح فيهم بأرض الروم : السلاح ،فيأخذ الرجل عليه سلاحه ، ثم يتوجه فيلقى جيشهم ؛ أترى بأساً أن ينحازا راجعاً - إلى أصحابه ؟ فقال لا أرى بذلك بأساً .

(2/583)


قال محمد بن رشد : وهذا بين - كما قال إنه إنما انحاز إلى فيئه ، وقد قال عز وجل : {ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة} .
مسألة
وسئل عن تحريق بيوت الروم وأشجارهم ، فقال : لا أرى بذلك بأساً ، قد قطع رسول الله عليه السلام - النخيل ، قيل له فترى أن يقتل خنازيرهم ؟ فقال : نعم ( تقتل ) .
قال محمد بن رشد : قد مضى القول في رسم صلى نهاراً من سماع ابن القاسم ما في تحريق بيوت الروم وتخليهم ، فلا معنى لإعادة ذلك ؛ وأما خنازيرهم ، فلا إشكال في أن الواجب فيها أن تقتل .
مسألة
وسئل مالك عن الرجل يشتري الجارية في مقاسم الروم ، فإذا انصرف بها وجد معها الحلي ، فقال : لا أرى بما كان من هذا يسيراً بأساً من القرطين وأشباهها ، فأما ما كان منها كثيراً له بال ، فلا أرى ذلك ؛ فقيل له إنهم أيضاً ربما باعوا بأرض

(2/584)


الروم الكبب والخيوط ، وما أشبه ذلك - بالدرهم ونحوه ؛ فإذا انصرف الرجل إلى بلده ، فاحتاج إلى تلك الخيوط ، ففتحها وجد فيها الصليب من الذهب ، يكون فيه سبعون مثقالاً ؛ فقال : أرجو ألا يكون بذلك بأس ، كيفي صنع به وقد تفرقوا وصار إلى بلده ، وهؤلاء ههنا بالشام لا يدري ما يصنع به .
قال محمد بن رشدك قوله فيما يجد من الحلي مع الجارية التي اشترى في المقاسم ، فأما ما كان منه كثيراً له بال - فلا أرى ذلك . - يريد وإن كان يشبه أن يكون من هيئتها ولباسها ، خلاف ظاهر ما في رسم إن خرجت من سماع عيسى من كتاب التجارة إلى أرض الحرب ، وهذا هو الصحيح ؛ إذ إنما يصح أن يكون للمشتري ما يكون من هيئتها ولباسها - وإن كان كثيراً ، إذا كان ذلك عليها حين البيع فعلمه البائع ؛ وأما ما أخفته عنه فلم يعلم به فهو له ، يبين هذا ما في أول سماع ابن القاسم من كتاب جامع البيوع ؛ وقوله فإذا انصرف بها - يريد إلى رحله لا إلى بلده ؛ بدليل قوله في مسألة الصليب بعدها ، أرجو ألا يكون بذلك بأس إذا رجع على بلدهن وجه قوله أرجو ألا يكون بذلك بأس ، هو أنه لما لم يمكنه قسمة ذلك عن الجيش لافتراقه ، وكان قد حصل عنده بأمر جائز ، لا عن غلول ؛ صار حكمه حكم اللقطة بعد التعريف واليأس من وجود صاحبها - في جواز أكلها لملتقطها ،

(2/585)


لقوله صلى الله عليه وسلم : شأنك بها . لأن مالكاً إنما كره له أكلها بعد التعريف ، ( مخافة أن يأتي صاحبها فيجده عديماً لا شيء له ؛ ولو علم أنه لا يجد صاحبها أبداً ، لما كره ) له أكلها ؛ وافتراق الجيش في هذه المسألة كاليأس من وجود صاحب اللقطة ، وهذا في الأربعة الأخماس الواجبة للجيش ؛ وأما الخمس ، فواجب عليه أن يضعه في موضع الخمس ؛ ولو كان قد غل السبعين مثقالاً ثم تاب بعد افتراق الجيش ، لوجب عليه أن يتصدق بها ، ولما جاز له أكل شيء منها على ما مضى في رسم حلف بطلاق امرأته من سماع ابن القاسم .
مسألة
قال : وسئل مالك فقيل له : أترى علينا بأساً في تخليفنا أهلنا بالاسكندرية وإقامتنا عندكم ، ولم ندرك الاسكندرية نزل بها عدو قط ، وغنهم ليخافون ؛ فقال : أنتم تخبروني أن ما ثم ضائع ، وأنه مخوف ، وإن أهلها قليل ، وإن محارسها خالية ؛ فأرى لو لحقتم بها ، فإني أرجو لهم في ذلك خيراً ؛ تكونون مع أهليكم ومن ورائهم ، ومن وراء المسلمين أيضاً ؛ فقيل له : أتخاف علينا مأثماً في مقامنا عن أهلنا ، وتخليفنا إياهم هناك - وهم على

(2/586)


ما وصفت لك ؟ فقال : أما مأثم ، فلا أدري ما المأثم ؟ ولكني أرى في ذلك خيراً ، وأنتم أعلم بقدر خوفكم عليها ، والخوف الذي هم فيه ؛ وإني لا أرى حسناً أن يكون الرجل في مثل هذا عند أهله ، ويكون من وراء المسلمين ؛ ولا أدري ما المأثم في تركهم ، ولكن ذلك أحب إلي .
قال محمد بن رشد : رأى مالك - رحمه الله لأهل الاسكندرية المقام بها ، إذ هي محرس يخشى العدو فيها ، أفضل لهم من الإقامة عنده لتعلم العلم ، ولم ير ذلك فرضاً عليهم فيأثمون بتركه ؛ فقال : لا أدري ما المأثم ؟ ولكن أرى في ذلك خيراً ؛ وإذ رأى ذلك لهم أفضل من الإقامة على تعلم العلم ، فهو عنده أفضل لهم من الجهاد ؛ لأن تعلم العلم أفضل من الجهاد - على ما روي عن النبي عليه السلام ، وذلك ملا اختص بهم من حفظ محارسهم التي هي بلادهم ؛ بخلاف الرباط ، إذ من قوله "إن الغزو على إصابة السنة أفضل من الإقامة" - على ما مضى في رسم الشجرة تطعم بطنين في السنة من سماع ابن القاسم .
مسألة
وسئل مالك عن الرجل يعطى الشيء من المال يقسمه في سبيل الله على المجاهدين وهو أحدهم ، أيأخذ منه لنفسه شيئاً ؟ فقال : أحب إلي أن يعلم رب المال إذا كان من المجاهدين ؛

(2/587)


قال : وسئل مالك عمن أعطي ثلاثين ديناراً أو أربعين ديناراً ، فقيل له خذ هذه فاقسمها في سبيل الله ، فإن احتجت إلى شيء منها فخذه ؛ فخرج بها فيحتاج منها إلى دينار يقضي به ديناً عليه ، فيأخذه فيقضيه رب الدين ، وإنما يعطي الناس منها نصفاً ، نصفاً ؛ قال : إن كان الذي أعطاه إياها أراد هذا ، فال بأس عليه في ذلك ؛ فقيل له : أما هو فقال إن احتجت إلى شيء منها فخذه ، وكان عليه دينار ، فأخذه منها فقضاه ؛ قال : إني أخاف أن يكون عليه لآخر ثلاثون ديناراً ، فإن كان صاحب الدنانير أراد هذا فلا بأس بذلك .
قال محمد بن رشد : استحب مالك لمن أعطي مالاً يقسمه على صنف من الناس - وهو منهم ، ولم يقل له معطيه إن احتجت إلى شيء منه فخذه - وكان عليه دينار فأخذه منها - ألا يأخذ لنفسه منه شيئاً ، إلا أن يعلمه بذلك ؛ فإن أخذ ولم يعلمه ، أعلمه بذلك ؛ - قاله في سماع ابن القاسم من كتاب البضائع والوكالات ؛ فإن استأذنه في الأخذ -ولم يأذن له لم يجز له أن يأخذ ، وإن أعلمه بما يأخذ فلم يمضه له ، وجب عليه غرمه ، لأنه أعلم بما أراد بماله ؛ وإن لم يستأذنه في الأخذ ولا أعلمه بما أخذ حتى فات إعلامه ، تخرج ذلك على قولين ، أحدهما : ( أنه ) لا شيء عليه فيما أخذ ، لأنه من ذلك الصنف ؛ فهو يدخل مدخلهم بالمعنى ، وهو مذهب مالك ، لأنه إنما استحب له استئذانه وإعلامه ولم يوجب ذلك عليه . والثاني :

(2/588)


أنه يجب عليه إخراج ما أخذ حتى يضعه في الصنف الذي أمره أن يضعه فيهم ، وهذا جار على اختلاف أهل الأصول في الآمر بالشرع ، هل يدل في الأمر أم لأي دخل فيه ؟ لأنه يأتي على مذهب من رأى أنه يدخل في الآمر ؛ لأنه من جنس المأمورين المشروع لهم الشرع أن يأخذ منهم المقاسم ؛ لأنه من جنس المقسوم عليهم ، وكان صاحب المال أعلم قاسمه الذي دفعه إليه أنه قد أوجبه لذلك الصنف ، فدخل مدخلهم فيه ؛ وأما إذا قال له إن احتجت إلى شيء منه فخذه ، فجائز له أن يأخذ منه مثل ما يعطي غيره بالمعروف دون أن يحابي نفسه ؛ ولا يجوز له أن يأخذ منه لنفسه أكثر مما يعطي غيره ، إلا أن يعلم أن صاحب الدنانير يرضى بذلك ويريده .
مسألة
قال : وسئل مالك فقيل له إني ربما أعطيت الدراهم لأقسمها في سبيل الله ، فأجد الرجل قد قضى رباطه وهو يريد الانصراف إلى أهله ، فلا يجد ما يتحمل به ؛ أفترى أن أعطيه منها ؟ فقال : إنما أعطيتها لتجعلها في سبيل الله ، وهذا منقلب ليس في سبيل الله ، فأحب إلي أن تعطيها غيره . قال : وسألته عمن أعطي شيئاً في سبيل الله فقضى رباطه ، وأراد الانصراف إلى أهله ، وقد بقي معه منه فضل ؛ أينصرف به فيأكله في انصرافه أم في أهله ؟ فقال : ما يعجبني ذلك ، وأرى أن يعطيه غيره من أهل السبيل ، أم يرده إلى الذي أعطاه إياه .
قلت : فأيهما أحب إليك ، أيعطي بقية ذلك رجلاً من أهل

(2/589)


سبيل الله ؟ أم يرده إلى الذي أعطاه إياه ؟ قال لي : كل ذلك واسع .
قال محمد بن رشد : أما في بلده بعد انصرافه ، فلا يجوز له أن يأكل منه شيئاً باتفاق ؛ واختلف هل يأكل منه في انصرافه أم لا ؟ وقد مضت هذه المسألة فيم واضع من سماع ابن القاسم ، والقول عليها موعباً في أول رسم منه ، فلا وجه لإعادة شيء منه ، وبالله التوفيق .
مسألة
قال : وسئل مالك عن القوم يخرجون في أرض الروم مع الجيش ، فيحتاجون إلى العلف لدوابهم ، فتخرج الجماعة إلى هذه القرية ، وهذه الجماعة إلى هذه القرية الأخرى - يتعلفون لدوابهم ، فربما غشيهم العدو فيما هنالك - إذا رأوا غرتهم وقلتهم ، فقتلوهم أو أسروهم ، أو نجوا منهم ؟ فقال لهم : لا أرى ذلك لكم أن تغروا بأنفسكم فتخرجوا في غير كثف تخرجون في قلة ؛ فإذا فعلتم ، فلا تبيعوا من ذلك شيئاً ؛ فقيل له : ما يفعل ؟ قال : قد بلغني ذلك عندكم ، فلا أرى ( لكم ) أن تبيعوا منه شيئاً ؛ فقيل له : إنه ربما تعلفنا ولا نستأذن الإمام ، وربما يخرج علينا ، فإن تركنا دوابنا هلكت ؛ قال : أرى إن استطعتم استئذان الإمام أن تستأذنوه ، ولكن الناس أكثر من ذلك ؛ فلا أرى أن تغرروا بأنفسكم فتعتلفون في غير عدة ولا كثرة ، لا أرى ذلك . وسئل مالك عن العدو ينزل بساحل من سواحل المسلمين ، أيقاتلهم المسلمون بغير استئمار الوالي ؟

(2/590)


فقال : أرى إن كان الوالي قريباً منهم - أن يستأذنوها في قتالهم قبل أن يقاتلوهم ، وإن كان بعيداً لم يتركوهم حتى يقعوا بهم ؛ فقيل له بل الوالي بعيد منهم ، فقال : كيف يصنعون أيدعونهم حتى يقعوا بهم ، أرى أن يقاتلوهم .
قال محمد بن رشد : وهذا كله كما قال أنه لا ينبغي لهم أن يغرروا بأنفسهم في تعليفهم ، وأن الاختيار لهم أن يستأذنوا الإمام في ذلك إن استطاعوا ، ويلزمهم ذلك إذا كان الوالي عدلاً على ما قاله ابن وهب في سماع زونان ؛ وأنه لا يجوز لهم أن يبيعوا شيئاً من ذلك ؛ لان سنة الطعام في أرض الحرب أن يؤكل ويعلف ولا يباع ، فإن بيع شيء منه صار مغنماً ؛ وأن قتال العدو بغير إذن الإمام لا يجوز ، إلا أن يدهمهم فلا يمكنهم استئذانه .
مسألة
قال : وسألته عن افتتاح فدك ، فقال : افتتحت عنوة بغير قتال على النصف لرسول الله عليه السلام ، والنصف لهم ؛ فلم يكن لمن دخلها مع رسول الله فيها شيء ، ولم يكن فيها خمس ؛ لأنها افتتحت عنوة بغير قتال . قال : ولم يوجف عليها بخيل ولا ركاب ، فلم يكن فيها خمس ولم يكن لأحد دخلها مع رسول الله عليه السلام فيها شيء ؛ فهي اليوم قائمة ليس لأحد فيها شيء ، ولم يكن فيها خمس ؛ وافتتحت خيبر ، فمنها ما افتتح عنوة بغير قتال ، ومنها ما افتتح بقتال ؛ فأما ما افتتح عنوة بغير قتال ، فلم

(2/591)


يكن فيها خمس ، ولم يكن لأحد ممن دخلها مع رسول الله عليه السلام فيها شيء ، قطع رسول الله لأزواجه منها ؛ وأما ما فتتح منها بقتال ، فخمسه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقسم ما بقي على الذين افتتحوها ؛ كانوا ألفاً وثمانمائة ، فقسم ذلك رسول الله على ثمانية عشر سهماً ، كل مائة رجل لهم سهم ؛ فإنما يكون الخمس فيما غنمه المسلمون بقتال ، لأنه أوجف عليهم بالخيل والركاب ؛ وأما ما افتتح عنوة بغير قتال ، فليس لأحد ممن افتتح ذلك في شيء ، ولا خمس فيه ؛ لأنه لم يوجف عليه بالخيل والركاب . قال مالك : والعنوة من الصلح يطيعون لهم بغير قتال فيفتتح ذلك بغير قتال ، ولا إيجاف خيل ولا ركاب .
قال محمد بن رشد : كان فدك مما أفاء الله على رسوله بما نصره به من الرعب ، وخصه به ؛ فلم يكن لأحد معه فيه شيء ، كبني النضير ، وبني قينقاع ؛ قال الله عز وجل : {ما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب} . وما افتتح بعد النبي عليه السلام عنوة ، فهو للذين افتتحوه بالإيجاف عليه ، وفيه الخمس وإن لم يكن بقتال وما جلى عن أهله من العدو فتركوه بغير إيجاف ولا قتال ، فهو كله فيء حكمه حكم الخمس ؛ وقد مضى القول في افتتاح خيبر في أول هذا الرسم ، فلا معنى لإعادته .
من سماع عيسى بن دينار من ابن القاسم
من كتاب أوله أوصى أن ينفق على أمهات أولاده
قال عيسى بن دينارك قال ابن القاسم : لا أمان مع

(2/592)


السيف - إذا قالوا له تؤمننا ؛ وإلا قتلناك ؛ فأمنهم على ذلك ، فلا أمان لهم ، ويقتلون ؛ فإذا خلوه ثم قالوا تؤمننا فأمنهم ، فهو أمان بمنزلة ما لو قالوا له نخليك على أن تؤمننا ؛ قيل له : إن كان يخاف إن لم يفعل أن يقتلوه ، قال : وما يدريه - أو يحملوك إلى موضع آخر ويذهبوا به ؛ وفي المسألة : ولو شاؤوا أن ينفذوا نفذوا ، وفي بضعها بعدما أشرف عليهم المسلمون ، ليس هذا كله بأمان ، إلا أن يخلوه ولا يشترطوا عليه شيئاً .
قال محمد بن رشد : اضطرب قوله في الرواية إذا قالوا له نخليك على أن تؤمننا ، فقال : في أولها إن ذلك أمان بمنزلة إذا أمنهم بعد أن خلوه . وقال في آخرها ليس ذلك بأمان ، إلا أن يخلوه ولا يشترطوا عليه شيئاً ؛ وهو نص قول ابن حبيب في الواضحة ، واختلف إذا أمنهم وهو أسير دون أن يخلوه ، فقال : في سماع أصبغ بعد هذا إن أمانه جائز - إن كان آمناً على نفسه ، وقوله في ذلك مقبول ؛ قال ابن المواز : فإن اختلف قوله في ذلك أخذ بقوله الأول ، وقال سحنون : لا يجوز أمانه ولا يصدق أنه كان آمناً على نفسه ، وهذا من الضرر على المسلمين ، وما يقدر الأسير إذا طلب منه الأمان إلا أن يؤمنهم ؛ ولا اختلاف في جواز أمانة بعد أن خلوه ، ولا في أن أمانه لا يجوز - إذا قالوا له تؤمننا وإلا قتلناك .
مسألة
وقال في الهدية تأتي الإمام في أرض العدو من العدو ، أتكون له خاصة أم للجيش ؟ قال : لا أرى هذا يأتيه إلا على وجه

(2/593)


الخوف ، فأراه لجماعة الجيش ، إلا أن يعلم أن ذلك إنما هو من قبل قرابة أو مكافأة كوفئ بها ؛ فأراها له خاصة - إذا كان كذلك ؛ ومثل الرومي يسلم فيولى فيدخل فيهدي ( له ) القرابة وما أشبه ذلك ، قيل له فالرجل من الجيش تأتيه الهدية ، قال : هذا له خاصة لا شك فيه ؛ ومثل أن يحلوا بحصن فيعطيه بعض أقاربه المال - وهو من الجيش ، فهو له خاص .
قال محمد بن رشدك قال في الهدية تأتي الإمام في أرض العدو إنها لجماعة الجيش ، إلا أن يعلم أن ذلك من قبل قرابة أو مكافأة - ولم يرفق بين أن تأتيه من الطاغية ، أو من رجل من الحربيين ؛ وذلك يفترق ، أما إذا أتته من الطاغية ، فلا اختلاف في أنها لا تكون له ، واختلف هل تكون غنيمة للجيش ، أو فيئاً لجميع المسلمين ؛ فقال : ههنا إنها تكون للجيش - يريد غنيمة لهم ، وتخمس ؛ وقيل إنها تكون فيئاً لجميع المسلمين لا خمس فيها كالجزية ، وهذا يأتي على ما حكى ابن حبيب فيما أخذه والي الجيش صلحاً من بعض الحصون التي نزل عليها ؛ وأما ما أتته من رجل من الحربيين ، فقد روي عن أشهب أنها تكون له إذا كان الحربي لا يخاف منه ؛ واختلف إذا أتت الأمير الهدية من الطاغية أو غيره من العدو قبل أن يدرب في بلاد العدو ، فحكى الداودي في كتاب الأموال أنها تكون له ، والصحيح المشهور المعلوم أنها تكون فيئاً لجميع المسلمين ، وأن الأمير في ذلك بخلاف النبي عليه الصلاة والسلام فيما قبل من هدايا عظماء الكفار ، ككسرى ، والمقوقس صاحب مصر ، وملك ذي يزن ، والنجاشي ، وغيرهم ؛ لأن الله اختصه في أموال الحرب بخاصة ، خالف فيها بينه وبين غيره من أمته ؛ بما نصره به من الرعب ، فقال :

(2/594)


{وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه} - إلى قوله سبحانه : {ولكن الله يسلط رسله على من يشاء} .
من ذلك أموال بني النضير - كانت صافية لرسول الله ، عليه السلام ، فكان ينفق منها على أهله نفقة سنة ، ويجعل ما بقي في الخيل والكراع ؛ فكذلك هداياهم إنما كانت تأتيه إجلالاً له لحرمته وهيبة النبوءة ، وما خصه الله به من الرعب لا لهيبة السلطان ؛ إذ لو زال عنه السلطان ، لما نقصت حرمته وهيبته ، لما خصه الله به من النبوة والكرامة والمنزلة الرفيعة ، صلى الله عليه وعلى آله وجميع الرسل ؛ وقد روي أن عياض بن حمار - وكان حرمي رسول الله - أهدى له دية فردها ، وقال : إنا لا نقبل رفد المشركين فقيل : إنما رد على عياض بن حمار هديته ، وقبل من غيره من الكفار ، لأن عياض بن حمار كان المشركين الذي لا يؤمنون بالبعث ؛ فهم في العرب كالمجوس في العجم ، لا تؤكل ذبائحهم ، ولا تنكح نساؤهم . وغيره ممن قبل الهدية منهم ، كانوا أهل كتاب ، وقد قال الله فيهم : {ولا تجادلوا أهل الكتاب} - الآية . فكان قبول هديتهم أحسن من ردها ، وقيل كان ذلك قبل أن ينزل الوحي عليه بقوله عز وجل : {وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم} - الآية - والله أعلم . وأما الرجل من الجيش تأتيه الهدية في أرض الحرب من بعض قرابته وما أشبه ذلك ، فلا اختلاف - أعلمه - في أنها له .

(2/595)


مسألة
وسئل ابن القاسم عن الرجل يغزو أرض العدو فيشهد القتال فيغنما وهو حي ، ثم يموت فيغنموا بعده مغانم وفتوحاً ؛ أيقسم له فيما غنم بعد موته مع ما غنم قبل موته ؟ قال : إن ذلك الشيء دائماً متتابعاً في ذلك الفوز فتحوا حصناً ، ثم مات ففتحوا آخر بعده ، أو قاتلوا قبل أن ينقطع ذلك ؛ قسم له في ذلك ، فإن كانوا رجعوا قافلين وما أشبه ذلك ثم غنموا بعد ذلك ، فلا يقسم له إلا فيما شهد .
قال محمد بن رشد : هذه مسألة يتحصل فيها أربعة أقوال في المذهب ، لكل قول منها وجه ؛ أحدها قول ابن الماجشون : أن الرجل من الجيش يستحق سهمه من كل ما غنم الجيش إلى حين قفوله إذا مات بالادراب - وإن لم يكن في حياته لقاء عدو . والثاني : أنه لا يستحق ذلك بالادراب إلا أن يكون في حياته لقاء عدو فشاهد القتال ، وهو قول ابن القاسم في رسم الكبش ( من سماع يحيى ) بعد هذا . والثالث : أنه لا يستحق بمشاهدة القتال - إذا مات بعده إلا ما غنم ، أو افتتح بقرب ذلك ، وهو قول ابن القاسم في رواية عيسى هذه . والرابع : أنه لا يستحق بمشاهدة القتال إذا مات بعده إلا ما غنم وافتتح بذلك القتال خاصة ، ومثل أن يكون حصن تحت سور فأخذ ربض ثم مات فتخطى بعده إلى ربض آخر ؛ وأما ما ابتدئ قتاله من الحصون بعد موته ، فلا سهم له فيه - وإن كان قريباً .

(2/596)


مسألة
وسئل أصبغ بن الفرج عن الفرس يوجد في المغنم موسوماً في فخذه : حبس في سبيل الله ، قال : أرى ألا يجعل فيئاً ، وأن يكون في سبيل الله حبساً ؛ قال سحنون مثله وكذلك لو كان في فخذه لله ؛ ولم يكن فيه حبس ؛ وكان حبساً إذا علم أنه من خيل الإسلام ولم يشك فيه ، وكان بمنزلة فرس لم يقع في المقاسم حتى أتى صاحبه أو عرف صاحبه ، فإنه يرد إليه لأن المسلمين كلهم فيه أشراك .
قال محمد بن رشد : لسحنون فيك تاب ابنه أن ذلك لا يمنعه من القسم ، لأن الرجل قد يرشم في فخذ دابته : حبس في سبيل الله ليمنعه ممن يريده منه ، قال : ولو باع رجل فرسه وفي فخذه : حبس في سبيل الله ،لكان ذلك له - إن علم أنه لم يرد به التحبيس في السبيل ، وهو القياس إذ لا يجب الحكم بالرشم لو وجد في يد رجل فرس مرشوم بالحبس لم يصح إخراجه من يده ( بذلك ) ؛ كذلك إذا وجد في المغنم ، لأن أهل الجيش قد استحقوه بالغنيمة ، فلا يخرج من أيديهم إلا بما تستحق به الحقوق ؛ والقول الأول استحسان - مراعاة لقول من يقول إن العدو لا يملكون على المسلمين ما حازوه من أموالهم ، وأن صاحب المال أحق بماله بغير ثمن ، قسم أو لم يقسم ؛ لأن الواجب على هذا القول ألا يقسم في الغنيمة

(2/597)


ما علم أنه من أموال المسلمين ، وأن يوقف لهم - إن لم يعلموه ؛ كما يفعل فيما يوجد بأيدي اللصوص ، فيأخذ من ادعاه بالشبهة - وإن لم تكن له بينة ؛ واختلف قول الأوزاعي أيضاً في هذه المسألة ، فمرة قال إنه يقسم كالسيف يود فيه مكتوب حبس في السبيل ، ومرة قال : إنه يحمل عليه في السبيل ولا يقسم ، بخلاف السيف ولا فرق في القياس بين السيف والفرس ، وبالله التوفيق .
ومن كتاب
أوله سلف ديناراً في ثوب
قال ابن القاسم : قال مالك : في الرجل يحمل على الفرس في سبيل الله - ولا يذكر ثغرً ولا مغزى ، قال يجعل حيث ما كان أنكى للعدو مثل المصيصة ونحوها .
قال محمد بن رشد : هذا كما قال ، لأنه يعلم أنه إنما قصد التقرب إلى الله تعالى بفعله ، والتقرب إليه إنما يكون على قدر الثواب ؛ فوجب إذا لم يسم موضعً أن يجعل في أهم الثغور وأخوفها وأكثرها نكاية للعدو ؛ لأن الأجر في الجهاد ، إنما هو على قدر النكاية في العدو ، والإرهاب عليه ، والنيل منه ؛ قال عز وجل : {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل} - الآية . وقال تعالى : {ولا ينالون من عدو نيلاً إلا كتب لهم به عمل صالح ، إن الله لا يضيع أجر المحسنين} .

(2/598)


مسألة
قلت لابن القاسم : فالكلب يوجد في أرض العدو - وهو ثمن دنانير كثيرة أيدخل في المغانم ؟ قال : نعم يدخل في المغانم ، وكذلك الظباء ، وما أشبهه يصاد في أرض العدو ؛ وقال إنه يدخل في غنائم المسلمين .
قال محمد بن رشد : روي أن رسول الله - عليه السلام - نهى عن ثمن الكلب . فحمله مالك على عمومه في جميع الكلاب - ما أذن في اتخاذه منها وما لم يؤذن ؛ واستحسن ابن القاسم ههنا ، وفي رسم المكاتب من سماع يحيى - أن يجعل الكلب المأذون في اتخاذه في المغانم ، ويقسم في المقاسم مراعاة لقول من يجيز بيعه ، ويخصصه من عموم الحديث ؛ وهو مذهب جماعة من العلماء ، وسحنون من أصحابنا ، وجاء ذلك مفسراً في بعض الأحاديث ، فروي أن الرسول عليه السلام نهى عن ثمن السنور ، والكلب ، إلا كلب الصيد . ووجه استحسان ابن القاسم لبيع الكلب المأذون في اتخاذه في المغانم ، هو أن الله تعالى لما أباح لنا ما غنم من أموال الكفار

(2/599)


بقول الله عز وجل : {واعلموا أنما غنمتم من شيء} - الآية . وكان الكلب المأذون في اتخاذه من أموالهم ، وجب ألا يخرج من الغنيمة بلفظ محتمل ، ورواية معن بن عيسى عن مالك في آخر رسم المكاتب من سماع يحيى ، أنه لا يدخل في المقاسم ، هو القياس على مذهبه .
ومن كتاب
أوله إن خرجت من هذه الدار
قال : وسئل ابن القاسم عن رجل أبق عبده إلى أرض الحرب ، ثم خرج برقيق استألفهم ؛ لمن تكون تلك الرقيق ؟ أو هل فيها خمس ؟ قال : الرقيق لسيد العبد ولا خمس فيهم ، وكذلك لو استألفهم رجل فخرج بهم ، كانوا له ولا خمس فيهم ؛ قال عيسى : إنما هذا إذا استألفهم على أن يكونوا عبيداً له ، وأما إذا استألفهم على أن يكونوا أحراراً ، فذلك عهد ولا يكونون له .
قال محمد بن رشد : قول عيسى تفسير لقول ابن القاسم ، وقوله إنه لا خمس فيهم صحيح ، لأن الخمس لا يكون إلا فيما غنم وأوجف عليه بالخيل والركاب . وأما قوله إن الرقيق لسيد العبد ، فمعناه أنه له انتزاعهم منه ؛ لأن العبد ماله له حتى ينتزعه منه سيده على مذهب مالك في أن العبد يملك .
ومن كتاب
أوله أسلم وله بنون صغار
وسألته عن رجل من المسلمين يلحق بأرض الشرك فيتنصر فيصيب دما المسملين وأموالهم ، ثم يؤخذ أسيراً فيشهد بالتوحيد

(2/600)


ويجيب إلى الإسلام ؛ فقال إن كان ما أصاب من ذلك أصابه وهو على ارتداده ثم أجاب إلى الإسلام حين أخذ ، هدر عنه القتل وما أصاب من ذلك ؛ وإن كان على الإسلام يوم أصاب ذلك ، أقيد منه ؛ وكذلك روى سحنون عن ابن القاسم في كتابه . وقال يحيى سألت عنها ابن القاسم فقال لي على الإمام أن يقتله ولا يستبقيه ، ولا يجعل أمره إلى أولياء الذي قتل من المسلمين ؛ لأن أمره كأمر المحارب الخارج على المسلمين بالسلاح ، وهو يقتل ولا يستتاب كاستتابة المرتد في دار المسلمين ، ولا يجوز لأولياء المقتول الدفع عنه .
قال محمد بن رشد : رواية يحيى عن ابن القاسم هذه ، ليست بخلاف لرواية عيسى التي ق بلها ؛ لأنه إنما تكلم في رواية عيسى على أنه أسلم - إذا أخذ بعد أن حارب في بلد الحرب ؛ وتكلم في رواية يحيى على أنه لم يسلم ، فهي مسألة أخرى ، فوهم العتبي في سياقته إياها عليها ، وقوله فيها : وسألته عنها وهي ليست هي ، ولا اختلاف في أنه إذا لحق بدار الشرك فتنصر وأصاب الدماء والأموال ، ثم أخذ فأسلم ، أنه يهدر عنه جميع ما أصاب كالحربي - إذا أسلم سواء ؛ وهذا إذا صح ارتداده بكونه على بصيرة منه في الكفر ، وأنه لم يفعل ذلك مجوناً وفسقاً ؛ ولو ارتد وأصاب الدماء والأموال في بلد الإسلام ، ثم أسلم لهدرت عنه حقوق الله ، هي : الربى ، والسرقة ، وحد الحرابة ؛ وأخذ بحقوق الناس من الأموال والدماء ، والجراح - على مذهب ابن القاسم ؛ وحكى ابن حبيب عن أصبغ واختاره ، هو أن الردة لا تسقط عنه الطلاق ، ولا الحدود من الزنا ، والسرقة ، وشرب الخمر ، لأنه يتهم أن يرتد في الظاهر ليسقط ذلك عن نفسه ؟ واختلف قول ابن القاسم : هل ينظر إلى

(2/601)


حاله في الجراح والقتل يوم الجناية ، ( أو يوم الحكم - على ثلاثة أقوال ، أحدها : أنه ينظر إلى حاله في جميع ذلك يوم الجناية . والثاني أنه ينظر إلى حاله في جمع ذلك يوم الحكم . والثالث أنه ينظر إلى حاله في القود يوم الجناية ) ، وفي الدية يوم الحكم . ولا اختلاف أيضاً في أنه إذا لحق بدار الشرك فتنصر وأصاب الدماء والأموال بخروجه عن المسلمين ، ثم أخذ على ارتداده ؛ أنه يقتل ولا يستتاب كما يستتاب المرتد في دار الإسلام - إذا لم يحارب ؛ لأنه إذا حارب في بلد الإسلام ، فأخذ على ارتداد ، يقتل أيضاً لحرابته ولا يستتاب ، ولا يجوز لأولياء من قتل العفو عنه ؛ فلا يفترق حكم ما أصاب المرتد في بلد الحرب ، أو في بلد الإسلام - إذا لم يسلم ، وإنما يفترق ذلك - إذا أسلم على ما قد ذكرناه .
وقوله : وإن كان على الإسلام يوم أصاب ذلك ، أقيد منه ؛ - معناه إن كان أصاب ذلك - وهو على الإسلام - قبل أن يرتد ، لأن الارتداد يسقط عنه حكم الحرابة إذا أسلم ، ويقاد منه لمن قتل .
مسألة
وسألته عن الرجل يحمل الرجل عن الفرس في سبيل الله على إن سلم فهو رد عليهن فيصاب ذلك الفرس فيجعل أمير الجيش الخلف لمن أصيب له فرس ؛ لمن يكون ذلك الخلف ؟ فقال لسيد الفرس ، ليس للمحمول عليه منه شيء .
قال محمد بن رشد : وهذا بين كما قال ، لأن الإمام إنما قصد أن يجبر على من تلف له فرس - فرسه ، لا أن يعطي فرساً لمن أصيب ( تحته ) فرس لغيره .

(2/602)


ومن كتاب حبل حبلة
قال عيسى : قلت لابن القاسم : فالأسارى من المسلمين يصيبهم العدو في البحر ، فيوثقونهم ويوجهون بهم إلى بلادهم ، فيثب عليهم الأسارى ، فيقتلون بعضهم ؛ ( ويأسرون بعضهم ) ، ويصيبون متاعهم ومركبهم ؛ هل ترى للإمام فيه خمس ؟ فقال إن كان يسار بهم في البحر إلى أرضهم ولم يصلوا بعد إلى أرضهم ؛ فأراهم بعد في حربهم ، وأرى فيما أصابوا الخمس ؛ وإن كانوا قد وصولا بهم إلى بلادهم ، ثم خلصوا منهم على ما ذكرت ؛ فأرى ما أصابوا لهم ، وليس للسلطان فيه خمس .
قال محمد بن رشد : الوجه في هذا ، أنهم إن فعلوا ذلك قبل أن يستحكم أسرهم ، فهم بعد في حربهم ، يكون فيما أصاب منهم الخمس ؛ وإن فعلوا ذلك بعد أن يستحكم أسرهم ، فما أصابوا لهم ، ولا خمس عليهم فيه ؛ وإنما يستحكم أسرهم - إذا ساروا بهم إلى موضع يأمنون فيه لحوق مراكب المسلمين بهم ، فمعنى الرواية : إذا علم أنهم لا يأمنون إلا بالوصول إلى أرضهم ، لكثرة مراكب المسلمين عليهم . ولو أمنوا قبل الوصول إلى أرضهم ، لكان لهم بالوصول إلى موضع الأمن حكم الوصول إلى أرضهم - والله أعلم ؛ يبين هذا الذي قلناه - مسألة آخر سماع سحنون من هذا الكتاب في حد الموضع الذي يجعل فيه تجار الحريبيين إذا أخذوا في انصرافهم - وبالله التوفيق .

(2/603)


مسألة
قلت : فالأسير يكون مخلى بأرض الحرب ، هل يجوز له أن يعدو على بعض متاع الذي هو في يديه أو غيره ، فيهرب ولم يخله بعهد ؟ قال : الذي كنا نحفظ من قول من يرضى - وأنا أشك أن يكون مالكاً - أنه إن كان أرسل على أمان لم يحل له أن يهرب ، ولا أن يأخذ من أموالهم شيئاً ؛ وإن أرسلوه على غير أمان بمنزلة ما يملكون من الرقيق قوة عليه لا يخافونه ، فليقتل وليأخذ ما شاء ؛ ما خرج به من ذلك فه وله ، وليس للسلطان فيه خمس ؛ لأنه لم يوجف عليه ، وهذا الذي سمعت - وهو رأيي .
قال محمد بن رشد : هذا مثل ما في سماع أصبغ بعد هذاه ، وفي الواضحة لمطرف وابن الماجشون ، وروايتهما عن مالك ؛ أن له أن يهرب بنفسه وإن أطلقوه على وجه الائتمان له والطمأنينة إليه ، ما لم يأخذوا على ذلك عهده ؛ وفي المبسوطة للمخزومي ، وابن الماجشون ، أن له أن يهرب ، وأن يأخذ من أموالهم ما قدر عليه ، ويقتل إن قدر - إن ائتمنوه ووثقوا به واستحلفوه ؛ فهو في فسحة من ذلك كله ، ولا حنث عليه في يمينه ، لأن أصل أمره الإكراه ؛ فهي ثلاثة أقوال ، أصحها في النظر قول ابن الماجشون ، ومطرف ؛ وروايتهما عن مالك في الواضحة : أنهم إن ائتمنوه على أن لا يهرب ولا يقتل ، ولا يأخذ من أموالهم شيئاً ، فله أن يهرب بنفسه ، وليس له أن يقتل ، ولا يأخذ من أموالهم شيئاً ؛ لأن المقام عليه ببلد الكفر حرام ، فلا ينبغي له أن يفي بما وعدهم به من ذلك ؛ بخلاف القتل ، وأخذ المال ، لأن ذلك جائز له وليس بواجب عليه ، فوجب عليه الوفاء به ؛ وأما قوله إن ما خرج به من

(2/604)


المال فهو له ، ولا خمس عليه فيه ؛ فهو مثل ما تقدم في المسألة التي قبل هذه ، وهو المشهور في المذهب ؛ وقال ابن المواز إن عليه الخمس فيما خرج به إن كان خرج للإصابة ، فأسر ببلد الحرب ؛ لأنه لم يصل هو إلا بالإيجاف ، بخلاف إذا أسر من بلاد المسلمين . وقوله بعيد على أنه إنما ساقه في كتابه على جهة التفسير للمذهب .
ومن كتاب
أوله جاع فباع امرأته
وسألته عن القوم يغنمون الرقيق ، هل يشتري منهم - وهم لم يؤدوا خمسها .
قال : لا يشتري منهم إذا لم يؤدوا خمسها .
قلت : فإن كانوا قوماً صالحين يظن بهم أنهم لا يحبسون خمسها .
قال : لا يشتري منهم إلا أن يعلموا أنهم يؤدون خمسها .
قال محمد بن رشد : أما إذا كانوا قوماً صالحين لا يظن بهم أن يحبسوا خمسها ، فلا وجه للمنع من الشراء منهم ؛ وأما إذا لم يعلم حالهم فترك الشراء منهم ، هو وجه التورع ؛ وأما إذا علم أنهم يبيعون ولا يؤدون الخمس ، فاختلف في جواز الشراء منهم ؛ روى يحيى بن عمر عن أبي المصعب أنه يشتري منهم وتوطأ الأمة ، وإنما الخمس على الذي يبيع ؛ وعلى هذا يأتي ما قاله ابن حبيب في الوالي يعزل الظلمة العمال ، فيرهقهم ويعذبهم في غرم يغرمهم لنفسه ، أو ليرده على أهله ، فيلجئهم

(2/605)


ذلك إلى بيع أمتعتهم ورقيقهم ، أن الشراء منهم جائز ؛ وقيل إن الشراء منهم لا يجوز - إذا علم أنهم يبيعون ولا يؤدون الخمس ؛ لأنه بيع عداء ، وهو قول سحنون ؛ وعلى قياس هذا يأتي قول ابن القاسم في رسم الجواب من سماع عيسى من كتاب زكاة الماشية : إن الصدقات والعشور لا يحل الاشتراء منها - إن كانوا لا يضعون أثمانها في مواضعها ، وهذا الاختلاف عندي إنما ينبغي أن يكون إن كانت الرقيق لا تنقسم أخماساً ، فكان الواجب أن تباع ليخرج الخمس من أثمانها ؛ وأما إذا كانت تنقسم أخماساً فلم يخروا منها الخمس ، وباعوها ليستأثروا بها ، فهم كمن تعدى على سلعة لغيره فباعها ، فلا يجوز لمن علم ذلك شراؤها .
ومن كتاب الجواب
وسألته عن الرجل من العدو يأتي أرض المسلمين بغير أمان ، فيؤخذ في أرض الإسلام ؛ أو قبل أن يصل إلى أرض الإسلام ، فيقول جنحت إلى الإسلام ، هل يقبل ذلك منه - وهم ربما تلصصوا الواحد والاثنان ؛ قال ابن القاسم : أما الذي يؤخذ قبل أن يدخل أرض الإسلام ، فهو الذي لا يشك فيه أن يقبل منه ، أو يرد إلى مأمنه ؛ وكذلك قال مالك فيه ، وكذلك إن قال : جئت أطلب الفداء على مثل ذلك سواء ؛ وأما الذي يؤخذ في أرض الإسلام ، فهو على مثل ذلك سواء أيضاً عندي - إذا كان أخذه بحدثان سفره وقدومه ، وبإثر ذلك وفي فوره ووجهه ؛ فأما أن يطول زمانه وإقامته بين أظهر المسلمين لا يعلم به ، فإذا ظهر عليه ، قال : جنحت إلى الإسلام ، أو جئت أطلب الفداء ، أو ما أشبه ذلك ؛

(2/606)


فلا أرى أن يقبل ذلك منه ، وأراه رقيقاً يرى الإمام فيه رأيه بالاجتهاد ، وليس هو لمن أخذه ؛ ولا أرى أن يقتل إلا أن يعلم أنه أتى جاسوساً يتجسس عورات المسلمين ليطلع عليها .
قال محمد بن رشد : هذه مسألة فيها اختلاف كثير ، وتحصيله مخلصاً مقرباً : أن فيها ثلاثة أقوال ، أحدها : أنه لا يقبل قولهم فيما ادعوا من أنم جنحوا إلى الإسلام ، أو جاؤوا يطلبون الفداء أو التجارة - بعد أن يؤخذوا إذا لم يظهروه قبل أن يؤخذوا ، ويكونون فيئاً للمسلمين ؛ يرى فيهم الإمام رأيه : إن شاء قتل ، وإن شاء استرق ؛ وسواء أخذوا في بلد الإسلام ، أو قبل أن يصلوا إلى بلد الإسلام ؛ وسواء كانوا من أهل بلد عودوا الاختلاف إلى بلاد المسلمين( لمثل ما ادعوا ، أو لم يعودوا - وهو قول أشهب في الواضحة وغيرها . والثاني أنه يقبل قولهم أو يردوا إلى مأمنهم ، أن يتبين كذبهم فيما ادعوا ، مثل أن يقولوا نحن تجار أردنا التجارة - وليس معهم أسباب التجر ، ومعهم السلاح ؛ قيل إن أخذوا قبل أن يصلوا إلى ) بلاد المسلمين ؛ وأما إن أخذوا في بلاد المسلمين ، فهم فيء للمسلمين ، وهو قول يحيى بن سعيد في المدونة ، وظاهر قول مالك فيها ، وقول سحنون ؛ وقيل إن أخذوا في بلاد المسلمين - إذا كان أخذهم بحدثان قدومهم ، وهو قول ابن القاسم في هذه الرواية . وقيل وإن أخذوا بعد أن طال مقامهم في بلاد المسلمين ، إلا أن يتبين كذبهم ، وهو ظاهر قول ابن القاسم في ( أول ) رسم الصلاة من سماع يحيى . والقول الثالث أنهم إن كانوا من

(2/607)


أهل بلد قد عودوا الاختلاف لما ادعوه من الفداء ، أو التجارة ، أو الاستئمان ، قبل قولهم ، أو ردوا إلى مأمنهم ، وإلا فهم فيء للمسلمين ؛ وإلى هذا ذهب ابن حبيب في الواضحة ، وعزاه إلى مالك من رواية المدنيين والمصريين ، وهو قول ربيعة في المدونة ، وسحنون في سماعه بعد هذا ، وعيسى في تفسير ابن مزين ، وإليه نحا ابن القاسم فيه ؛ وأما إن أظهروا ما ادعوا قبل أن يؤخذوا ، وقبل أن يصلوا إلى بلاد المسلمين ، فلا اختلاف في أنهم لا يسترقون ، ويقبل منهم ما ادعوا ، أو يردوا إلى مأمنهم .
مسألة
وسألته عن الطير والحيتان تصاد في أرض العدو ، وتباع ، هل يجعل أثمانها في المقاسم ، أم هي لمن أصابها ؟ قال ابن القاسم : بل تدفع في المقاسم لا شك فيه ، ولا يحل غيره ؛ وإن أراد أن يخرج بالطير حياً ، فإن كانت من الطير التي لها الأثمان للاصطياد ، وما أشبه ذلك ، لم يخرج بها ، وردها في المقاسم ؛ وإن كانت طيراً للأكل وأراد أن يتزود منها أو من الحيتان ما يبلغه ، فلا بأس بذلك ؛ فإن فضلت معه فضلة منها بعد رجوعه ، باعها وتصدق بثمنها ؛ إلا أن يكون ذلك الشيء يسيراً تافهاً لا قدر له ، فلا أرى عليه بيعه ، ولا بأس عليه في أكله ( في أهله ) .
قال محمد بن رشد : حكم ابن القاسم في هذه الرواية لما صاد الرجل في بلاد الحرب من الحيتان والطير - بحكم طعام العدو الذي قد حازوه وملكوه ، فكذلك على هذه الرواية ما كان له ثمن من أشيائهم المباحة ،

(2/608)


حكمه حكم ما حازوه إلى بيوتهم من أموالهم ؛ وقد مضى القول في هذه المسألة - مجوداً - في رسم صلى نهاراً ، ورسم نذر من سماع ابن القاسم ، وفي غيره من المواضع أيضاً .
مسألة
وسألته عن القوم من أهل الذمة ينزع رجالهم ويحاربون ، فيظفر بهم ؛ هل يستحل بذلك ذراريهم ونساؤهم ومن يزعم من ضعفاء رجالهم أنه استكره ، ومن يرى أنه مغلوب على أمره ولا يملك من أمره شيئاً - دخلوا أرض الحرب ، أو لم يدخلوا ؟ قال ابن القاسم : إن كان الإمام عدلاً قوتلوا أو قتلوا ، واستحلت نساؤهم وذراريهم وأولادهم المراهقون ؛ والابكار تبع لهم يستحلون ويسبون ، وهم من النساء والذرية ؛ وأما من يرى أنه مغلوب على أمره ، وأنه لم يعن مثل الضعيف والشيخ الكبير الزمن ؛ فلا أرى أن يستحلوا ، ولا يقتلوا ، ولا يسترقوا على حال . قال وإن نقضوا وقاتلوا وظهر على الذرية قبل أن يظهر عليهم ، واستحلوا أيضاً وسبوا ، وكانوا كسبيل ما فسرت لك ؛ وذلك إذا كان الإمام عدلاً لم ينقموا منه شيئاً ، وإن نقضوا وخرجوا إلى دار الحرب ، وبقيت الذرية بين أظهر المسلمين ؛ لم تستحل الذرية ، ولم يكن إلى الذرية سبيل بوجه من الوجوه ؛ وإن تحملوا الذرية معهم ، وظفر بهم قبل أن يصلوا إلى دار الحرب ؛ فهم كلهم فيء بحال ما فسرت لك - إذا كانوا قد نقضوا وامتنعوا ، وكان الإمام عدلاً - كما أخبرتك ، وإن كان الإمام غير عدل ونقموا شيئاً يعرف ما قاموا به ، لم يقاتلوا ولم يقتلوا ؛ قال مالك : وإلى من يردونهم إلى من يستحل نساءهم وبناتهم ، فإن ظهر عليهم في تلك الحال ، لم يسترقوا ولم يستحلوا ، ولا شيء من

(2/609)


نسائهم ولا ذريتهم ، وتركوا على حالهم ، وذمتهم ؛ وإن تحملوا إلى أرض الحرب بذريتهم ثم ظهر عليهم ، لم يستحل منهم شيء من الأشياء - كما فسرت لك - إذا كان الإمام غير عدل ؛ إلا أن يعينوا على المسلمين بعد دخولهم إلى العدو ، أو يقاتلوا مع العدو فيستحلون بفعلهم ذلك ، ويسن بهم وبذراريهم عند ذلك سنة أهل الحرب ، لأنهم قد صاروا حينئذ حرباً وعدواً .
قال محمد بن رشد : اتفق أصحاب مالك على اتباع قول مالك في أن أهل الذمة إذا نقضوا العهد ، ومنعوا الجزية ، وخرجوا من غير عذر ؛ أنهم يصيرون حرباً وعدوا ، يسبون ويقتلون ؛ إلا أشهب في المدونة ، فإنه قال لا يعود الحر إلى الرق ؛ وما اتفق عليه مالك وأصحابه أصح في النظر من قول أشهب ، لأن الحرية لم تثبت لهم بعتاقة من رقم متقدم ، فلا ينقض ؛ وإنما تركوا على حالهم من الحرية التي كانوا عليها آمنين على أنفسهم ودمائهم بين أظهر المسلمين ، بما بذلوه من الجزية عن يد وهم صاغرون مساناة ما بذلوه ، لقول الله عز وجل : {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر} – الآية . فإن منعوا الجزية لم يصح لهم العوض ، وكان للمسلمين الرجوع فيه . وذلك أيضاً كالصلح ينعقد بين أهل الحرب وبين المسلمين على شروط ، فإذا لم يفوا بها ، انتقض الصلح بقول الله عز وجل : {فمن نكث فإنما ينكث على نفسه} - الآية .
وكمن اكترى داراً

(2/610)


مشاهرة ، فإذا منع الكراء ، أخرج م الدار ؛ وقد احتج لذلك ابن الماجشون في كتاب ابن الموماز بأن قال : وكذلك فعل النبي ، عليه السلام ، في سبي قريظة ، وغيرهم ، وقاله محمد ، ولا حجة في ذلك - عندي ، لأن الذي كان بين النبي ، عليه السلام ، وبين قريظة وغيرهم من اليهود ؛ إنما كانت مهادنة ومعاهدة - وهم في بلادهم ؛ ولم يكونوا كأهل الذمة الذين غلبوا ، فأقروا تحت ملكة المسلمين على أداء الجزية ؛ ومما يدل على هذا أن ابن القاسم لم يحتج به في المدونة ، وإنما قال فيها قد مضت في ذلك السنة من الماضين ؛ فذكر قتال عمرو بن العاص - الاسكندرية - ثانية ، فلو كانت عنده في ذلك سنة عن النبي عليه الصلاة والسلام ، لذكرها - والله أعلم ؛ وفرق في الرواية بين النساء والذرية ، وبين الشيوخ والزمني ، وساوى بين ذلك ابن الماجشون ، وأصبغ ، وجعلا نقض كبارهم نقضاً عليهم ؛ كما أن صلحهم صلح عليهم ،و اختار ابن حبيب ، ولا ينبغي أن يختلف فيهم ، إذا علم أنهم مغلوبون مكرهون غير راضين ، لقوله عز وجل : {ولا تزر وازرة وزر أخرى} . ويحمل الخلاف على أنه إذا جهل أمرهم وادعوا الإكراه والغلبة على ما يحملون فلا يستباحون على مذهب ابن القاسم إلا بيقين ، ولا يمتنع من سبيهم وقتلهم على مذهب إليه ابن حبيب إلا بيقين - والله أعلم .
مسألة
وسألته عن الكبير والكبيرة من المسلمين يصيبها العدو ، ثم

(2/611)


يصيبهما المسلمون ، ولا يدعيان شيئاً حتى تجري عليهما المقاسم ، ويتداولهما المشترون ؛ ثم يثبت أمرهما ويظهر ويعرف ؛ وهل الكبير والصغير في هذا سواء ؟ قال ابن القاسم لا أرى عليهما غرم شيء من أثمانهما ، وهما بمنزلة الصغير في ذلك - إذا كان ممن يجهل مثل هذا ، ولا يعلمان بأنهما لا يسترقان ، ويظنان أن ذلك عليهما ، ويعذران في ذلك ؛ فإن كانا ممن لا يعذران في ذلك وسكتا على علم ،وتعمدا ذلك ؛ رأيت عليهما غرم أثمانهما ؛ وإن كانت الجارية قد وطئت في ذلك ، لم أر عليها شيئاً - إذا عذرت بنحو ما أخبرتك من الجهالة والتأويل والنسيان ؛ وقد قال في سماع يحيى بن يحيى من كتاب يشتري الدور والمزارع ، ليس اشتراؤه إياهما في الأسر بمنزلة اشترائه إياهما في المغانم ؛ لأنهما في أرض العدو في رق استنقذهما منه ، وهما حين صار بأيدي المسلمين فقد خرجا من ذلك الرق ، وصار إلى الحرية التي كانا عليها ؛ قال يحيى : قلت لابن القاسم فما ترى في حق المشتري إن كان أخذهما في سهامه ، أو اشتراهما في المقاسم ؟ قال : أرها مصيبة دخلت عليه ، إلا أن يدرك ذلك قبل القسم فيسقط عنه الثمن .
قال محمد بن رشد : لا اختلاف إذا عذرا بجهل أنه لا شيء عليهما ، وإنما اختلف قول ابن القاسم إذا لم يعذرا بجهل وسكتا - وهما يعلمان أن الاسترقاق لا يلزمهما ؛ فأوجب عليهما في رواية عيسى عنه غرم أثمانهما للمشتري إن فات القسم ، ولم يكن له على من يرجع ، ولم يوجب ذلك له عليهما في رواية يحيى ، وهو قول سحنون ، واختيار ابن المواز ؛

(2/612)


قال : وذلك بخلاف العروض أو الرقيق ، أو الحيوان ، أو غيره مما قسم في المغنم ، أو بيع فيه ؛ فلا يأخذه صاحبه إلا بالثمن الحر والحرة - إن بيعا في المغنم يخرجان حرين ، ولا يتبعان بشيء ، وسواء كانا مسلمين أو ذميين ؛ قال : ولم يقل أحد من أصحابنا إنه يرجع عليهما - إلا أشهب ، وقد قاله ابن القاسم في رواية عيسى هذه ، وهو قوله أيضاً في رسم ليدرك في سماع عيسى من كتاب الاستحقاق في الرجل والمرأة يقران بالمملكة ، فيباعان فتوطأ المرأة فتلد - وقد مات بائعها أو فلس - أن أثمانها تكون للمشتري ديناً عليهما ؛ وهذا الاختلاف جار لى مجرد الغرور بالقول : هل يلزم به غرم أو لا ، وعلى رواية عيسى هذه التزم الموثقون أن يكتبوا في عهد الرقيق - إذا كان العبد أو الأمة : قد بلغا إقرارهما بالرق لبائعهما ، ليكون للمشتري إتباعهما بأثمانهما - إن استحقا بحرية ، وثبت عليهما العلم بذلك ، والبائع ميت أو عديم - وهو ضعيف ؛ لأن السكوت عند ابن القاسم في رواية عيسى عنه في هذه المسألة كالإقرار ، يجب به للمشتري الرجوع ؛ وعلى رواية يحيى وقول سحنون وما اختاره ابن المواز ، وحكي أنه إجماع من أصحاب مالك - إلا أشهب ، لا فائدة في كتابه ، إذ لا يوجب شيئاً ؛ وقد قال ابن حبيب إن الغلام إذا استحق حرية والبائع غائب ، أنه يرفع مع المشتري إلى موضع البائع ، ليأخذ رأس ماله منه ، كما لو استحق برق ؛ ومعنى ذلك إذا علم بحريته وغر من نفسه ، وكذلك قال ابن كنانة ؛ وأما إن كان الرق قد جرى عليه من الصغر - ولم يعلم بحريتهن فلا يجب أن
يرفع معه ؛ وحكى ابن عبدون عن ابن القاسم في الجارية أنها لا ترفع معه ، وإنما يكتب له السلطان بصفتها ، معناه وإن غرت من نفسها ، فالاختلاف في هذا ، إنما هو إذا غرت من نفسها على قياس الاختلاف في وجوب اتباعها بالثمن ، إذا كان البائع ميتاً ، أو عديمًا ، والله أعلم .

(2/613)


مسألة
وسألت عن الرجل يفدي الرجل المسلم من العدو ، فإذا بلغا بلاد المسلمين ، اختلفا في الفدية : يدعي المفدي أكثر مما يقول المفدى ، قال ابن القاسم : القول قول المفدى فيما أقر به من ذلك ، قليلاً كان أو كثيراً ، كان يشبه فداء مثله أو لا يشبهه ؛ لأن مالكاً قال لو أنكر أن يكون فداه أصلاً وقد خرجا من بلاد العدو ، كان القول قوله ، إلا أن يكون للآخر بينة أنه فداه ؛ قال ابن القاسم : ولو ادعى كل واحد منهما أنه الذي فدى لاصحبه - وقد خرجا جميعاً من بلاد الحرب ، ولا يدري علم بذلغك ؛ فإنهما يحلفان جميعاً ، ويتتاركان ، ولا يكون لواحد منهما على صاحبه شيء ؛ لأن كل واحد منهما مدع على صاحبه .
قال محمد بن رشد : قول ابن القاسم : إذا اختلف الفادي والمفدي في مبلغ الفدية : إن القول قول المفدى ، أشبه قوله ، أو لم يشبه ، ليس على أصولهم في مراعاة دعوى الاشتباه في التداعي ، لاتفاقهما على أنه فداه ، فذلك بخلاف إذا ادعى أحدهما على صاحبه أنه فداه فأنكر ؛ والذي يأتي على أصلوهم إذا اختلفا في مبلغ الفدية ، أن يكون القول قول المفدي - إذا أتى بما يشبه ؛ فإن أتى بما لا يشبه ، كان القول قول الفادي - إن أتى بما يشبه ، فإن أتى بما لا يشبه أيضاً ، حلف جميعاً ؛ وكان للفادي ما يفدي به مثله من ذلك المكان ؛ وكذلك إن نكلاً جميعاً ؛ وكان للفادي ما يفدي به مثله من ذلك المكان ؛ وكذلك إن نكلا جميعاً ، وإن نكل أحدهما وحلف الآخر كان له ما حلف عليه وإن لم يشبه ؛ لأن صاحبه قد أمكنه من ذلك بنكوله ؛ وقال سحنون : القول قول الفادي - إذا كان الأسير بيده . ولابن

(2/614)


أبي حازم في المدنية مثله ؛ وزاد : إلا أن يدعي ما لا فيد به مثل في ذلك المكان فيكون له ما يفدي به مثله في ذلك المكان ؛ وفي ذلك من قولهما نظر ، إذ ليس الأسير بمال فيكون إذا كان بيده شاهداً له على ما يدعي كالرهن ؛ فإذا لم يكن شاهدهاً له على ما يدعي ، ولا كان في كونه بيده دليل على قلة الفدية من كثرتها ، وجب أن يكون القول قول المفدي - فيما يقر به من الفدية - إذا أشبه على ما قلناه ؛ وإنما كان ينتفع الفادي بكون الأسير في يده - لو أنكر أن يكون فداه ، لأن كونه في يده ، دليل على أنه فداه ، وليس بدليل على ما يدعي أنه فداه به ؛ وهذا كله بين ، فلا يصح في المسألة إلا ما ذكرناه ؛ وقد روي عن الأوزاعي أنه قال القول قول الفادي ، وهو يعيد أيضاً وما كان بيده أو لم يكن ؛ إلا أن يكون معناه إذا أشبه قوله ، ولم يشبه قول المفدى ، والله سبحانه وتعالى أعلم ، وبه التوفيق ، لا رب غيره ، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم .

(2/615)