البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة

البيان والتحصيل
والشرح والتوجيه والتعليل
في مسائل المستخرجة

لأبي الوليد ابن رشد القرطبي
المتوفى عام 520 هـ

وضمنه
المستخرجة من الأسمعة المعروفة بالعتبية
لمحمد العتبي القرطبي
المتوفى عام 255 هـ

تحقيق
الأستاذ أحمد الحبابي

الجزء الثالث

دار الغرب الإسلامي

(3/1)


بسم الله الرحمن الرحيم
صلى الله على سيدنا ومولانا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً
كتاب الجهاد الثاني
من سماع يحيى بن يحيى من كتاب الكسب
مسألة
قال يحيى وسألت ابن القاسم عن نفر من أهل الذمة من ثغرنا من النصارى يغزون من يليهم من العدو من غير المسلمين فيغنمون ، أترى أن يخمس ما يصيبون ؟ فقال لا أحب للإمام أن يأذن لهم بالغزو .
قلت : لم كرهت ذلك وهم ولا يغزون معنا في عساكرنا ؟
فقال : لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم للمشرك ارجع فلن نستعين بمشرك وغزو هؤلاء من العون وإن لم يكونوا من المؤمنين في عسكرهم .

(3/5)


قلت : فإن وقع الأمر فماذا ترى ؟
قال : لا أرى عليهم خمساً .
قلت : فإن قسم بينهم حكم المسلمين أيقسم على سنة الإسلام ؟ .
قال : نعم إذا حكموه ورضوا به فليقسم بينهم بقسم الإسلام ، وإن لم يحكموه فأمرهم إلى أساقفتهم وأهل دينهم يقسمون بينهم على سنتهم .
قال محمد بن رشد : لا يجوز عند مالك ، رحمه الله ، وجميع أصحابه للإمام أن يستعين بالكفار على قتال الكفار ولا أن يأذن لهم في الغزو مع المسلمين ولا منفردين أيضاً لأنه وجه من العون ولأنهم يستبيحون فيه ما لا يجوز في الغزو على ما قاله أصبغ في نوازله ، لقول النبي ، عليه السلام : "لن أستعين بمشرك" ، ولما روي من أن الأنصار قالوا يوم أحد ألا نستعين بحلفائنا من يهود ؟ فقال صلى الله عليه وسلم :"لا حاجة لنا فيهم" . وفي قول ابن القاسم في هذه الرواية لا أحب للإمام أن يأذن لهم بالغزو دليل على أنهم إن لم يستأذنوه لم يجب عليه أن يمنعهم وعلى هذا يحمل غزو صفوان بن أمية رسول الله حنيناً والطائف خلاف قول أصبغ في نوازله إنهم يمنعون من ذلك أشد المنع . وقد حكى أبو الفرج عن مالك أنه لا بأس على الإمام أن يستعين بالمشركين في قتال المشركين إذا احتاج إلى ذلك ، وهو دليل للأنصار لا حاجة لنا فيهم . وقد روي عنه ، عليه السلام ، أنه بلغه جمع أبي سفيان

(3/6)


ليخرج إلى يوم أحد ، استعان يهود النضير فقال لهم : "إنا وأنتم أهل كتاب وإن لأهل الكتاب النصر على أهل الكتاب فإما قاتلتم معنا وإما أعرتمونا سلاحاً" . فإن غزوا بإذن الإمام أو بغير إذن الإمام منفردين تركت لهم غنيمتهم ولم تخمس ، وإن غزوا مع المسلمين في عسكرهم لم يكن لهم في الغنيمة نصيب إلا أن يكونوا متكافئين أو هم الغالبون فتقسم بينهم وبين المسلمين قبل أن تخمس ثم يخمس سهم المسلمين خاصة . وأهل الكتاب وغيرهم عند مالك في هذا سواء . وحكى الطحاوي عن أبي حنيفة وأصحابه أنه أجاز الاستعانة بأهل الكتاب دون من سواهم من المشركين عبدة الأوثان والمجوس وصحح الآثار على ذلك . قال وإنما لم يستعن رسول الله بحلفاء الأنصار من يهود للحلف الذي كان بينهم وبين عبد الله بن أبي المنافق لأنهم خرجوا بذلك من حكم أهل الكتاب ، وهو من التأويل البعيد .
ولا بأس بأن يستعار السلاح من الكفار كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم . وأجاز ابن حبيب أن يقوى الإمام من سالمه ( 2م ) من أهل الحرب على من لم يسالمه منهم بالقوة والسلاح ، وأن يسايروه بحداء عسكر المسلمين ما لم يكونوا في داخله وسبيل أهله .
مسألة
قال يحيى : وسألت ابن القاسم عن أمير سرية خرج بأصحابه حتى إذا دنا من أرض العدو عرض لهم نهر ، فقال لأصحابه اعبروا النهر لعل الله أن يغنمنا ، فكره ذلك بعضهم وقالوا : لا تغرر بنا فإن إجازة هذا النهر شديد الخطر ، وذكروا له بعض ما اعتذروا له ، وأشاروا إليه ألا يجوزوه ، وأطاعه بعضهم فأجاز بهم

(3/7)


وتخلف العصاة ، فمضى بمن أطاعه فغنم غنائم كثيرة وسلم هو وأصحابه ، فلما رجعوا وجدوا المتخلفين عنهم بمكانهم لم يبرحوا . أترى لهم في الغنيمة حقاً ؟ وإن أنكروا أن يكونوا تخلفوا عنه أيجوز شهادة من زعم أنه أجاز مع الإمام ؟ أو هل يقبل قول الإمام على من تخلف ولمن زعم أنه أجاز معه ؟ فقال : إن أقروا بالتخلف أو شهد به عليهم رجلان ممن تخلف أو ممن ليس منهم ولا من الذين دخلوا مع الإمام فلا قسم لهم ، ولا حق في الغنيمة للذين غابوا على الذين أصابوها راضين بالتخلف عنهم ؛ وإن لم يشهد عليهم بالتخلف وأنكروا أن يكونوا تخلفوا إلا بعض الداخلين أو قول الإمام فالقول قولهم ، ولا يقبل عليهم قول الإمام ببينة تشهد من غير الداخلين ، لأن كل من دخل فهو إذا شهد عليهم جار إلى نفسه ، والإمام كأحدهم ، وقال ابن وهب مثله .
قال محمد بن رشد : لم يبين في الرواية إن كانت إجازة النفر على ما ذكره من كره إجازتهم من الغرر وشدة الخطر أم لا . فإن لم يكن على ذلك وكان قولهم اعتلالاً على جوازه فلا إشكال ولا اختلاف في أنه لا حق ولا نصيب لمن تخلف عن إجازته فيما غنمه من أجازه ، لأنهم قد رضوا بترك حقوقهم فيما غنموا ، إذ لا عذر لهم في ترك إجازته . وأما إن كانت إجازة النهر لى ما ذكروه من الغرر وشدة الخطر والمهلكة فظاهر الرواية أيضاً أنه لا حق لمن تخلف عن الإجازة فيما غنمه من جازه ولسحنون في كتاب ابنه أنهم يدخلون معه ، فيما غنموه لأن لهم عذراً في التخلف عن

(3/8)


إجازته . ودق أخطأ الذين جازوه . والذي ينبغي عندي على أصولهم أن ينظر في ذلك فإن ريء أن لمن أجاز النهر في وصول من لم يجزه معهم إلى وقوفهم بمكانهم إلى حين انصرافهم بغنيمتهم إليهم وجه منفعة ، مثل أن يكون بالنهر من الغرب من بلد العدو بحيث يمكن أن يكون العدو قد بلغه جمعهم وكثرة عددهم فيظنوا أنهم أجازوا النهر بجمعهم فيكون لهم الدخول فيما غنموه ، إذ لعل ما ظنه العدو من جوازهم هو الذي فت في أعضادهم فكان ذلك عوناً للغانمين على غنيمتهم ؛ وإن ريء أنهم لم يكن في وصولهم معهم إلى النهر ووقفهم عليه وجه منفعة لم يكن لهم دخول معهم في غنيمتهم . ولا اختلاف في أنه لا يجوز شهادة من جاز مع الإمام بالتخلف على من أنكره لأنه يجر بشهادته إلى نفسه ما يجب لهم من سهم المشهود عليهم ، إلا أن يكون الذي يجب لهم من ذلك يسيراً فيجري ذلك على الاختلاف في جواز شهادة العدل إذا شهد لغيره شهادة يجر بها إلى نفسه ما لا يتهم على مثله لنزارته ، فقد أجازها مالك في سماع أشهب من كتاب الأيمان بالطلاق ، وأما شهادة الإمام فقال ابن القاسم في هذه الرواية إنها لا تقبل على المتخلفين إلا بينة لأنه كأحد الحائزين في الجر إلى نفسه بشهادته .
ولسحنون في كتاب ابنه أن قول الإمام مقبول على من تخلف إذا كان عدلاً من غير طريق الشهادة ، وقوله بعيد ، لأنه إن حكم هو عليهم بألا حق لهم في الغنيمة كان حاكماً بعلمه جاراً بذلك لنفسه ، وإن رفع الأمر إلى غيره من الحكام فشهد عنده بعلمه استوى هو وغيره في الشهادة ووجب أن تبطل بما تبطل به شهادة من سواه . ووجهه أنه أجاز قوله في ذلك على قيس مذهبه في أن للقاضي أن يقضي بعلمه فيما أقر به عنده الخصم في مجلس قضائه .
مسألة
قال يحيى : وسألت ابن القاسم عن أهل حصن من

(3/9)


المسلمين حصرهم العدو فخرج نفر من أهل الحصن فقاتلوا العدو الذين حصروهم فأظفرهم الله بقتل رجال منهم فأصابوا خيلهم وأسلابهم وأسروا بعضهم ، أيقسم ما أصابوا بينهم وبين جميع أهل الحصن أو يكون لمن خرج متعرضاً للقتال أو لمن قاتل دون لمن ( 9م ) خرج ممن لم يقاتل ؟ فقال : بل يقسم بين جميع من خرج قاتل أو لم يقاتل ، وبين جميع أهل الحصن بعد إخراج الخمس . قلت : أيقسم لخيل من لم يخرج وخيل من خرج راجلاً وخلى فرسه في الحصن ؟ قال نعم إذا كانوا بموضع رباط وضعوا فيه رصدة للعدو ولذلك سكنوا ، ولو كانوا على غير ذلك لم يكن لهم شيء .
قال محمد بن أحمد : وهذا كما قال : لأن الحكم في الغنيمة أن تقسم بعد إخراج الخمس بين جميع الغانمين الرجال الأحرار البالغين ، من قاتل منهم ومن لم يقاتل ، لكون من لم يقاتل منهم ردءاً لمن قاتل وعوناً لهم على الغنيمة ، لأن نفوسهم تقوى بوقوفهم وتزيد في جرأتهم على العدو ، والعدو يرهبهم ، فربما كانوا هم السبب لانهزامهم . فكذلك الذين في الحصين بهم قويت نفوس من خرج لكونهم ردءاً لهم ، ولعل العدو إنما اهزموا بسببهم وهذا يبين ما ذهب إليه في المسألة التي قبل هذه ، وسيأتي هذه المسألة بعد هذا الرسم كاملة أكمل من هذه : وبالله التوفيق .
مسألة
قال يحيى : وسألت ابن القاسم عن ناس من العدو كانوا خرجوا إلى رجل كان في الثغر من أهل الخلاف للإمام ، وكان يلي مدينة من الثغر قد غلب عليها ، فأعطاهم عهداً فأمنوا بذلك عنده ، إذ كان فيما أحدث من الخلاف والاستعانة بالعدو على من أراده من

(3/10)


المسلمين ، فقلت أيوفي لهم بالعهد الذي كان أعطاهم أم يستحلون لأنهم خرجوا إليه وقبلوا عهده وقد علموا خلافه للإمام ؟ فقال لا تحل دماؤهم ولا ذراريهم ولا أموالهم لأحد لأن عهده عهد ، وهو رجل من المسلمين يعقد لهم أماناً على جميع المسلمين ، ولكن يقال لهم إن عهده لا يمضيه الوالي فارجعوا إلى مكانكم ، فإذا ردوا إلى أرضهم عادوا إلى حالهم الأول فكانوا من أهل الحرب ما هم فقلت فإن اختاروا الإقامة على الجزية أترى للإمام أن يقرهم ؟ قال : نعم لا أحب له ردهم إذا رضوا بالجزية .
قال محمد بن أحمد : قوله إنهم يحرمون على المسلمين بالعهد إن أعطاهم ( 10م ) المخالف على الإمام صحيح ، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم :" يجير على المسلم أدناهم" وذلك ما لم يغيروا بعد معاهدته إياهم على المسلمين أمراً بينه وبينهم وأمسكوا ، فإن أغاروا على المسلمين لمخالفة الإمام انتقض العهد الذي أعطاهم ووجب أن يقاتلوا ويستحلوا ، قاله أصبغ في نوازله بعد هذا وهو مفسر لقول ابن القاسم هذا .
مسألة
قال يحيى : وسألت ابن القاسم عن ناس من أهل الذمة هربوا إلى أرض العدو ليلاً فأدركتهم خيل المسلمين ، وقد دخلوا أرض الحرب فخمسوا وقسموا ، ثم أدعوا إنما كان هروبهم خوفاً من البيع والظلم ، وكانوا مجاورين لقوم من العرب أهل استطالة وظلم

(3/11)


وقهر لمن جاورهم من أهل الجزية ومن مثلهم هرب وخيف ، غير أنه لا يعرف ما ادعوا مما خافوا وهل أريد بهم سوء أم لا ؟ فقال : إن عرف التصديق في ناحية ما شكوا مما خافوا لسوء الذين خافوا وقدرتهم على من أرادوا ظلمه أخرجهم كرهاً أو يكونوا في يده لجورهم واستحلالهم للتعدي على من جاورهم ، فلا أرى أن يباعوا ولا يستحلفوا وليصدقوا للذي عرف من ظلم الذين خافوا على أنفسهم ، وليردوا إلى جزيتهم إن كان الذي أتى بهم إليه يقوى على دفع الظلم عنهم ، والوفاء بالعهد لهم ، وإن لم يأمن عليهم ظلم الذين هربوا خوفاً منهم أو ظلم غيرهم من أشباههم فليخل سبيلهم لسيروا حيث أحبوا إلى أرض عدو وغيرها ، قال أصبغ : وإن أشكل أمرهم فكذلك أيضاً لا يستحلوا حتى يتبين أنهم نقضوا العهد على غير شيء من تحت إمام عدل .
قال محمد بن أحمد : قول أصبغ تفسير لمذهب ابن القاسم لأن الذمة قد انعقدت لهم فلا تنقض إلا بيقين والمسألة كلها صحيحة على مذهب مالك وأصحابه حاشى أشهب في ان أهل الذمة إذا خرجوا ومنعوا الجزية ونقضوا العهد من غير ظلم يركبون به أنهم يصيرون حرباً وعدواً ويجوز سبيهم واسترقاقهم ، وقد مضى القول على هذا في رسم الجواب من سماع عيسى فلا وجه لإعادته .

(3/12)


مسألة
قال يحيى : وسألت ابن القاسم عن عبد لرجل من المسلمين ابق إلى أرض العدو ثم رجع طوعاً ومعه أموال وعبيد وقد أصاب ذلك في أرض العدو ، أترى أن يخمس ما خرج به ؟ فقال : ليس ذلك عليه ، وليس فيما خرج به العبد الآبق خمس ، وهو كله له ، ولسيده إن أراد أخذه منه .
قلت : أرأيت إن أنكر العبيد أن يكونوا غالب لهم خارجاً بهم على حال العبودية فقالوا نحن قوم أحرار حبب إلينا أرض العرب وذكر لنا عدلهم وحسن حالهم فتبعناه مصطحبين بأمن حتى نوصل إليكم ، لا سيل له علينا ؟ قال : القول قولهم ، وعلى الإمام أن يفي لهم بعهد العبد إن كان أعطاهم عهداً ، أو يردهم إلى مأمنهم ، وإن خرجوا بلا عهد فأمرهم إلى الوالي يرى فيهم رأيه قال أصبغ مثله ، قال : ولا يقبل قول العبد إلا أن يعلم أنه أخرجهم كرهاً أو يكونوا في يديه يحوزهم ، قال : قلت أرأيت إن كانوا في يد العبد في وثاق حتى تبين أنهم في يديه ؟ قال : أراهم عبيداً إذا تبين أنهم في ملكه وأنه لهم قاهر وعليم قادر ، قلت فإن ادعوا أنه إنما أوثقهم في دار الإسلام حين خافوا على أنفسهم ؟ فقال : إن استدل على تصديق ما قالوا بسبب ظاهر مثل أن يعينه على وثاقهم غيره أو يتبين أنه إنما قهرهم بعد خروجهم معه فالقول قولهم ، وإن لم يعرفوا عند

(3/13)


خروجهم إلا في ملكه ووثاقه فهم له عبيد ، وإن قالوا قهرنا في الطريق ونقض العهد فإنهم لا يصدقون ، لجماعتهم ووحدته وقدرتهم على الامتناع منه .
قال محمد بن رشد : قوله إنما خرج به العبد الآبق له ولسيده إن أراد أخذه منه ولا خمس عليه فيه ، مثل ما تقدم في رسم إن خرجت من سماع عيسى ، ولا خلاف في ذلك ، إذ لا يكون الخمس إلا فيما تعمد الخروج لإصابته فأوجب عليه بالخيل والركاب ، وإن كانوا عبيداً وخرجوا معه على أن يكونوا أحراراً فعلى الإمام أن يفي لهم بعهد العبد أو يردهم إلى مأمنهم ، ولا يجوز قتلهم ولا استرقاقهم ، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يجير على المسلمين أدناهم" . وقوله إنهم إن خرجوا معه بلا عهد فأمرهم إلى الإمام يرى فيهم رأيه ، ظاهره وإن عثر عليهم بفور قدومهم خلاف ما يأتي في هذا الرسم بعد هذا وخلاف ما مضى في رسم الجواب من سماع عيسى ، وقد مضى هناك تحصيل الخلاف في هذه المسألة فلا معنى لإعادته ، وأما إذا ادعى العبد أنهم خرجوا معه على أن يكونوا له عبيداً أو أنه سرقهم أو غنمهم وأنكروا ذلك وقالوا خرجنا معه على أن نكون أحراراً ، فالقول قولهم إلا أن يكونوا في وثاقه كما قال ، ومثل ذلك في سماع سحنون ، ولا اختلاف في ذلك ، لأن العبد مدع عليهم إلا أن يكونوا في وثاقه ، وقد أحكمت السنة أن : البينة على المدعي واليمين على من أنكر . وقد اختلف إن كان أسيراً فأطلقه على أن يأتيه بهم فأتاه بهم ، وزعم أنه سرقهم أو غنمهم وادعوا أنهم خرجوا معه على أن يكونوا أحراراً هل يكون خروجه على أن يأتي بهم شبهة توجب أن يكون

(3/14)


القول قوله أم لا ؟ على قولين : أحدهما ما في سماع أصبغ أراه لأشهب أن القول قول الذي أتى بهم وخروجه عنهم شبهة توجب أن يكون القول قوله ، وقال ابن المواز : القول قولهم ولم ير ذلك شبهة للعبد ، وهو القياس ، والأول هو اختيار أحمد بن ميسر وبالله التوفيق .
مسألة
قيل له : فالعبد يخرج متلصصاً في بعض قرى العدو فيصيب غنائم أتخمس أم لا ؟ فقال تخمس ، ويكون فضل ذلك له ، فما فرق بين العبد المتلصص والعبد الآبق إذا رأيت أن الخمس فيما أصاب العبد المتلصص ولا خمس فيما خرج به الآبق ؟ فقال : إنما الخمس فيما تعمد الخروج لإصابته فأوجب عليه بالخيل والركاب ، والعبد الآبق ليس للإصابة خرج ولا للقتال تعرض فلذلك لم أر فيما خرج به خمساً .
قلت : فإن خرج حر وعبد متلصصين فغنماً ؟ .
قال : يخمس ما أصابا ثم يقسم ما بقي بينهما .
قلت : ولم يقسم ما أصاب العبد والحر بينهما وأنت لا تجعل للعبد في الغزو من المغانم شيئاً ؟
قال : لا أرى حال التلصص والغزو واحداً .
قلت : فالذمي يخرج متلصصاً مع الحر المسلم فيغنمان ؟ .
قال : أرى أن يقسم بينهما ما أصابا فيخمس حظ المسلم ولا خمس في حظ النصراني .

(3/15)


قلت : ولم جعلت ما أصابها بينهما وأنت لا تقسم للنصراني إذا غزا مع المسلم ؟ .
قال : هذا مثل الأول ، لأن المسلمين لا يستعينون بالعبيد والنصارى في عساكرهم ، وهذا إنما خرج على وجه التلصص وحده ، أرأيت لو كان نصرانياً وحده أكان يؤخذ ما في يديه ؟ قال سحنون في العبد المسلم والحر يخرجان جميعا إلى أرض العدو متلصصين مثل ما قال ابن القاسم في الذمي والحر المسلم يكون ما أصاب العبد والحر بينهما نصفين فما صار للحر فعليه فيه الخمس ، ولا خمس على العبد في سهمه مثل قول ابن القاسم في الذمي .
قال محمد بن رشد : لأصبغ في نوازله بعد هذا في هذا الكتاب أنه لا خمس على العبد فيما غنم كالنصراني ، مثل قول سحنون خلاف قول ابن القاسم ، ووجه قول ابن القاسم أن العبد إذا لم يكن في جملة عسكر المسلمين كالحر في أن له ما غنم وجب أن يكون مثله في أن عليه فيه الخمس كأنه مومن ، والله تعالى يقول : { واعلموا أنما غنمتم } إلى قوله : { إن كنتم آمنتم بالله } ، ووجه قول سحنون وأصبغ أن الخطاب في الآية إنما هو للأحرار دون العببيد بدليل إجماعهم أنهم لا حق لهم مع الأحرار في الغنيمة إذا غزوا معهم في عسكرهم ، فوجب أن يكونوا كالنصارى في أن لا خمس عليهم فيما غنموه إذا لم يغزوا في جملة عسكر المسلمين لخروجهم من الآية ، وإنما لم يكن للعبيد والنصارى في الغنيمة حق مع الأحرار المسلمين إذا غزوا معهم في عسكرهم من أجل أنهم في حيز التبع لهم ، فإذا

(3/16)


لم يكونوا في حيز التبع لهم كان لهم حق في الغنيمة وكذلك إذا خرج العبد أو النصراني مع الرجل أو الرجلين أو الثلاثة الأربعة كان لكل واحد منهما سهمه من الغنيمة .
مسألة
قال يحيى : وسألت ابن القاسم عن العدو يغيرون على ناحية من ثغر المسلمين فيطلبهم خيل المسلمين ، والطلب متفاوت على قدر الطاقة ، فأدركهم بعض من طلب والناس في آثارهم متساربون فقاتلهم الأولون فأظفرهم الله فقتلوا وأسروا وأصابوا ما كان معهم ، أترى أن يقسموا على من حضر القتال أم يكون ما أصابوا لجميع من خرج في الطلب أم لأهل القرى التي خرج هؤلاء منها ؟ قال : إن كان خرجا من مسالح منصوبة للرباط أهلا مقيمون للذب عن جميع من وراءهم من الإسلام قسم ما أصابوا بين أهل تلك المسالح الخرج والمقيم من قاتل أو لم يقاتل أو خرج أو لم يخرج ، قال : وكذلك إن كانوا من أهل حصن في رأس الثغر ، قال وإن كانت قراً إنما فيها أهلها الذين يسكنون فيها بعيالهم ، وإنما فجأهم أمر فركبوا في طلب الذين أغاروا عليهم قسم ما أصابوا بين كل من طلب ، أدرك القتال أو لم يدركه ، حضره أو غاب عنه إذا تبين أنهم ممن خرج طالباً بالبت واليقين ، وليس لمن لم يخرج في الطلب من أهل تلك القرى شيء ، والخمس في جميع ذلك واجب .
قال محمد بن أحمد : هذه مسألة صحيحة حسنة ذكرها ابن سحنون

(3/17)


لأبيه فأعجبته ، وقد تقدمت في أول هذا الرسم والقول فيها ، وإن كانت هذه أكمل بالمعنى بينها جميعاً سواء ، وبالله التوفيق .
مسألة
قال يحيى : وسألت ابن القاسم عن قوم من أهل الذمة كانوا في أرض مدينة المسلمين ، فلما نزل بهم العدو مع رجل من المسلمين قادهم إليها هربوا إلى العدو طائعين ثم أصيبوا بعد ذلك أيستحلوا أم لا ؟ قال إن هربوا من ظلم كان يرتكب منهم لم يحل لهم شيء من نسائهم ولا دمائهم ولا أموالهم ، وإن هربوا من غير أن يتعدى عليهم ولم يخافوا ذلك من ناحية أحد معروف بالظلم فإنهم وإن أصيبوا وقد لحقوا بأرض العدو فارقوا دار الإسلام فقد حلوا ، قلت فإن أصيبوا عند الذي أخرج العدو على أهل الإسلام فماذا ترى في مرهم إن قالوا إن ارتحلنا إلى ناحية من دار الغٍلام ولم نخرج إلى دار العدو ولا إلى العدو وإنما خرجنا إلى هذا الرجل وهو رجل من المسلمين وإن كان قد أحدث خلافاً ؟ فقال لا أرى لأحد أن يستحلهم ما كانوا في دار الإسلام وإن كان نزوعهم إلى مثل ما وصفته فإن لهم في ذلك عذراً وشبهة يحرم بها دماؤهم وأموالهم .
قال محمد بن أحمد : إنما لم ير أن يستباحوا حتى يلحقوا بأرض العدو ويفارقوا دار الإسلام وإن كانوا قد صاروا مع العدو ، من أجل الرجل الذي قاد العدو ، فرأى في ذلك شبهة ولولا ذلك لكان حصولهم مع العدو الذي هربوا إليه كوصولهم إلى العدو ، ولا يستباحون إذا خرجوا إلى غير

(3/18)


عدو يريدون بلد العدو فأدركوا قبل أن يصلوا إلا أن يقاتلوا ويمتنعوا على ما قال في رسم الجواب من سماع عيسى ، فلا خلاف بين هذه الرواية وما في رسم الجواب من سماع عيسى المذكور ، ولا فيما بين ذلك وبين ما في آخر سماع يحيى ، وإنما هي زيادات يفسر بعضها بعضاً ، وبالله التوفيق .
مسألة
قال يحيى : سألت ابن القاسم عن ناس من أهل الذمة نصارى ويهود كانوا من أهل مدينة للمسلمين غلب عليها العدو فأقاموا بها بعدما غلب عليها العدو فشكا أهل مدينة للمسلمين تليهم أنهم يتجسسون للعدو ويكونون لهم عيوناً ، وإذا أغار المسلمون على أهل تلك المدينة فطلبهم العدو طلب معهم أولئك النصارى الذين كانوا أهل ذمة المسلمين فاستنقذوا ما أدركوا وقتلوا إن قدروا ، فإذا أصاب المسلمون منهم أحداً قالوا إنا نؤمن بالذي نصنع ونقهر عليه فنحن نخاف إن لم أفعل أن نقتل ، ولا يعرف ما يدعون من القهرة والتخويف بالقتل على ما يصنعون إلا بقولهم ، قلت أفترى أن يستحل قتلهم إذا ظفر بهم وقد علم أنهم ركبوا من المسلمين الذين وصفت لك من شكية أهل الحصن الذين جاوروهم ؟ فقال أرى أن يقتل فيهم من علم أنه قتل ، وأما من لم يعلم أنه قتل غير أنه يرى في الطلب للمسلمين واستنقاذ ما غنموا وما أشبه هذا فلا يستحل قتله ولكن أرى أن يحبسوا ويطال

(3/19)


حبسهم ، قلت أرأيت إن أقاموا مع العدو بعد الأجل الذي أجل إليهم في الرحل إلى أرض الإسلام فأغاروا مع من يغير العدو فسبوا وأضروا بالمسلمين فزعموا أنهم منعوا من الرحيل وأمروا بالغارة على المسلمين ولا يعرف الذين أدعوا إلا بقولهم ، أستحلوا أم لا ؟ .
قال محمد بن رشد : هؤلاء أهل ذمة لم يتبين نقضهم للعهد لكونهم بمكانهم ، فهم فيما يفعلون من طلبهم مع العدو واستنقاذهم ما أدركوا وقتلهم إن قدروا بمنزلة من حارب من أهل الذمة يحكم عليه بحكم المحارب من المسلمين ، إلا أن لهم شبهة فيما يدعون من الإكراه على ذلك وخوف القتل إن لم يفعلوا ، فيسقط عنهم حكم الحرابة فهذا عندي معنى الرواية ، وقوله فيها أرى أن يقتل من علم أنه قتل معناه يقتل قصاصاً به ويكون لأولياء المقتول العفو عه على حكم النصراني يقتل المسلم على غير حرابة ، ورأي أن يطال حبسهم اجتهاداً إذا لم يثبت ما ادعوه من الإكراه ، ولو ثبت ذلك لم يجب على من يقتل منهم شيء ، وهذا هو الحكم فيهم أيضاً إذا فعلوا ذلك بعد الأجل الذي أجل لهم وما دعوا أنهم منعوا من الرحيل وأكرهوا على الغارة لاحتمال صدقهم فيما يدعون .
مسألة
قال يحيى : وسألت ابن القاسم عن أعلاج من العدو وخرجوا إلى أرض الإسلام بغير عهد فلما أخذوا في دار الإسلام أو أخذوا في مفازة بين المسلمين والعدو مقبلين إلى دار الإسلام مرتحلين

(3/20)


ليسوا على حال الحرب ولا بحال من يتقنص فرصة يصيبها فزعموا أنهم إنما أرادوا السكنى في أرض الإسلام يكونون على حال الأحرار ولا يغرمون جزية ماذا يجوز للإمام أن يقرهم عليه ؟ فقال أما بيعهم فلا يحل للإمام ولا قتلهم ، ولكنه يفرض عليهم غرم الجزية فإن قبلوا أقرهم ، وإن كرهوا ردهم إلى مأمنهم ولم يستحلوا ، قال : وإن كانوا حين خرجوا دعوا إلى الجزية فقد لزم السلطان أن يقرهم على ذلك ، وليس له أن يقول لهم لا أقبل منكم إلا أن أبيعكم إن أجبت أو أردكم إلى مأمنكم ، قال وإنما يكون الإمام محتكماً في أمر من أخذ من العدو بغير عهد يرى فيهم رأيه إذ أخذ منهم قوم انكسرت سفينتهم واضطروا على موضع فصاروا فيه كالأسرى فأخذهم المسلمون بغير عهد وقد تبين أنهم لم يعتمدوا الخروج إلى دار الإسلام ، ولكنهم ألجئوا وصاروا بأيدي من ألجئوا إليه كالأسرى في أيدي المسلمين ، فأولئك إن رأى الإمام بيعهم باعهم أو يضعهم في أي منافع العامة رأى في اجتهاده لهم أي الأمور رأى فيهم مما ينظر به للعامة فذلك إلهي قلت أيجوز له قتلهم إن رأى ذلك ؟ قال : لا أحب له قتلهم ، وقد سألت مالكاً عن الأسارى أيقتلون ؟ قال : لا ، إلا أن يخاف منهم أحد فيقتل ، فإن كان في هؤلاء من يخاف مثل الرجل من العدو المشهور بالنجدة والفروسية ونحو ذلك فرأى أن يقتله فذلك له .
قال محمد بن رشد : قال في هذه المسألة : إنهم يصدقون فيما ادعوا إذا أخذوا في دار الإسلام ولم يفرق بين قرب ولا بعد ، فظاهره ، مثل ظاهر ما في أول رسم الصلاة بعد هذا خلاف ظاهر ما مضى في هذا الرسم من أن أمرهم إلى الإمام وخلاف ما مضى في رسم الجواب من سماع عيسى من التفرقة بين القرب والبعد ، وقد مضى هناك تحصيل الخلاف في هذه المسألة

(3/21)


فلا معنى لإعادته لك ، وقوله في الأسير إنه لا يقتل إلا أن يكون الفارس المعروف بالنجدة والفروسية خلاف ما يأتي في آخر الرسم الذي ذكره بعد هذا من أنه يقتل بعد الإسار المرأة والغلام إذا قاتلا ولا يتركان لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن قتال النساء والصبيان لأنهما قد استوجبا القتل بقتالهما ، وقد مضى القول في وجه هذا الاختلاف وتحصيل مذهب مالك في حكم الأسير وما الواجب في أمره في أول رسم من سماع أشهب مجوداً فلا معنى لإعادته .
مسألة
قال يحيى : وسألت ابن القاسم عن الرجل يقتل في المعترك في أرض العدو أو يخرج فيموت بعد أيام أو يمرض فيموت بعد شهود القتال ولا يكون فيمن شهد القتال غير أنه كان في الجيش فمات بعد المعترك أيقسم له أم لا ؟ فقال : يقسم له في كل ما سألت عنه ، قيل له أرأيت إن لم يكونوا غنموا إلا بعد قتله أو موته أيقسم له ؟ قال : نعم ، قيل له وإن لقي الجيش بعد موته أو قتله جيوشاً فقاتلوهم فقتلهم الله فغنم المسلمون ما كان معهم وافتتحوا حصناً بعد موته أو قتله أيقسم له من جميع ذلك أم لا يقسم له إلا ما غنموا قبل قتله أو موته ؟ قال : بل يقسم له مم غنموا قبل قتله أو موته ومما غنموا بعد ذلك كانت غنيمتهم من أسلاب أهل جيش قتلوهم بعد قتله أو بعد موته أو من حصن فتح أوجفت عليه الخيل مما يصيب سرايا العسكر أو على أي حال نالوا الغنيمة فسهمه يجري في جميع ذلك ، قيل له : أرأيت إن مات قبل القتال فلقي الجيش العدو

(3/22)


بعد موته أو قتله ولم يكن في حياته لقاء عدو غير أنه قد أدرب مع الناس ثم مات أيقسم له ؟ قال مالك : لا يقسم له .
قال محمد بن رشد : ظاهر هذه الرواية أنه إذا شهد القتال ثم قتل أو مات كان له سهمه من كل غنيمة تكون بعد ذلك إلى قفول الجيش قربت أو بعدت وقد مضى تحصيل الاختلاف في هذه المسألة في أول رسم من سماع عيسى فلا معنى لإعادة ذلك وبالله التوفيق .
مسألة
قال يحيى : وسألت ابن القاسم عن الأسير من المسلمين يخرج من أرض العدو هارباً منهم فيخرج بأموال أصابها لهم أبخمس ما خرج به أم لا ؟ فقال : لا خمس فيها عليه ، وإنما يخمس ما يوجف عليه بالخيل والركاب ، قلت أرأيت إن خرج برقيق فادعى راتن - كذا - منها نه حر مسلم فاستخبر فإذا هو فصيح ينتسب إلى قوم ويخبر بنعت منازلهم ويزعم أنه سي صغيراً فسئل القوم وفيهم عدول فيزعمون أن الذي ذكر حق غير أنهم لا يدرون أهو الذي أصيب يوم يصف أم لا ؟ فقال هو له مملوك حتى يقيم البينة على ما ادعى من جنسه بعينه من عدول المسلمين أو يثبت له أنه كان معروفاً بالإسلام في أرض الشرك فلا يجوز لأحد أن يسترقه بإخراجه من أرضه ولا بشيء يصيبه .
قال محمد بن أحمد : هذا صحيح كما قال ، لأن ما خرج به الأبق من الرقيق على أن يكونوا عبيداً باستيلافه إياهم أو كان قد سرقهم وغنمهم فقد صح أنه ملكهم فلا يصدق من ادعى منهم الحرية من الأصل إلا ببينة تثبت له دعواه .

(3/23)


مسألة
قال يحيى : وسألت ابن القاسم عن الآبق من عبيد المسلمين لحق بأرض العدو ثم إن أهل تلك البلدة أرادوا مصالحة العدو فقدم منهم ناس بعهد لما طلبوا من الصلح وقد معهم العبد الآبق فتعلق به صاحبه ، هل له إلى أخذه سبيل وهو يحتج والذين قدم معهم أنهم إنما خرجوا بعهد ؟ وكيف إن لم يخرج الآبق مع الرسل غير أنه أقام بأرض العدو حتى صالحوا ولم يستثن الإمام رد إباق ولم يستثنوا شيئاً أترى أن يؤخذ ما في أيديهم من ءابق وأسير ؟ .
فقال : أما الآبق الذي خرج مع الرسل فلا سبيل إلى حبسه وأرى أن يرد ليوفي لهم بعهدهم ، وأما كل من صالح من العدو على هدنة أو أداء جزية فلهم كل ما في أيديهم مما حازوه قبل ذلك من أموال المسلمين وما أصابوا من أحرار هم أسارى لا ينبغي للإمام أن يقضيهم شيئاً من ذلك ولا ينزعه منهم إلا أن يفادوا عن طيب أنفس منهم ، وسواء ما حازوا بالسبي والغلبة وما نزع إليهم من إباق عبيدنا ، هم أحق بهم للوفاء بالعهد لهم إذا لم يستثن ذلك عليهم حين صالحوا .
قال محمد بن أحمد : مساواته في هذه المسألة بين من صالح من الحربيين على هدنة أو أداء جزية في أنه لا ينتزع منهم ما في أيديهم من أسارى المسلمين الأحرار إلا أن يفادوا عن طيب أنفس منهم بعيد جداً لا يصح ، وهي من المسايل التي وقعت على غير تحصيل ، لأن هذا إنما يصح فيمن صالح منهم على هدنة ، لا فيمن صالح منهم على أداء جزية ، لأن من صالح منهم على هدنة فليسوا بأهل ذمة لأنهم بائنون بدارهم

(3/24)


لا تجري أحكامنا عليهم ، ومن صالح منهم على أداء الجزية فهم أهل ذمة تجري أحكامنا عليهم ، وأهل الذمة يباع عليهم من أسلم من رقيقهم ولا يتركون تحت ملكتهم بعد إسلامهم فكيف بأحرار المسلمين ؟ فالصحيح فيهم ما في سماع سحنون أنهم يعطون قيمتهم من بيت مال المسلمين ويخرجون أحراراً ، وإنما يستوي منهم من صالح على هدنة وعلى أداء الجزية في الأموال والرقيق الذين ليسموا بمسلمين ، وأما الآبق الذي خرج مع الرسل فلا سبيل لصاحبه إليه ألا أن يشتريه منهم برضاهم ، وسواء على مذهب ابن القاسم كان مسلماً أو كفاراً لأن الرسل مؤمنون ، ومذهبه أن المستأمنين كتجار الحربيين وغيرهم ممن دخل بأمان لا يباع عليهم العبيد المسلمون ولا ينزع منهم أسارى المسلمين من الرجل والنساء ، ويكون لهم الرجوع بهم إلى بلادهم خلاف ما ذهب إليه ابن حبيب من أنهم في حكم أهل الذمة يباع عليهم من أسلم من رقيقهم ويعطون قيمة أسارى المسلمين ، ولا يمكنون من الرجوع وحكى أن ذلك إجماع من قول مالك وأصحابه إلا ابن القاسم ، وسنزيد هذه المسألة بياناً في سماع سحنون إن شاء الله .
مسألة
قلت : أرأيت أهل ذمتنا لو سرقوا أموالاً لنا وعبيداً فكتموا ذلك كما تكتم السرقات وأخفوها حتى حاربوا وذلك في أيديهم ثم صالحوا على أن رجعوا إلى حالهم من غير غرم الجزية التي كانت عليهم أيؤخذ منهم ما كانوا سرقوا قبل المحاربة وقبل الصلح الذي استحدثوا ؟ قال : لا أرى إلا أن يوفي لهم بالعهد ولا ينزع منهم شيء مما حاربوا عليه ثم صالحوا وهو في أيديهم .
قلت : أفترى إذا اطلعنا على السرقات المتقادمة في أيديهم

(3/25)


وهم يوم سرقوها أهل ذمة لنا أن يخيرهم الإمام بين أن يردوها طوعاً أن يردوهم إلى حالهم من الحرب ثم يقاتلهم إن أبوا مردها .
قال : نعم أرى ذلك للإمام أن يشترطوها في صلحهم ، ولا أرى ما في أيديهم من السرقات التي وصفت بمنزلة ما حزوا في أوان حربهم فهو لهم ، ولا خيار للإمام في نقض صلحهم من أجلها كما يجوز له ذلك في هؤلاء .
قال محمد بن رشد : قد اختلف في تجار الحربيين إذا نزلوا بأمان فسرقوا أموال المسلمين وعبيدهم وأحرارهم ثم رجعوا إلى بلادهم فنزلوا ثانية على أمان وذلك في أيديهم أيؤخذ لهم أو يترك لهم ؟ وقع اختلاف قوله في ذلك في رسم يدير ماله من سماع عيسى من كتاب التجارة إلى أرض الحرب ، واختلف قوله داخل في هذه المسألة إذ لا فرق بين المسألتين في المعنى ، وأصح القولين أن يؤخذ ذلك منهم ولا يترك لهم ، لا سيما في مسألة أهل الذمة إذا حاربوا ثم رجعوا إلى غرم الجزية والدخول في الذمة لوجهين أحدهما أنهم يتهمون على أنهم قصدوا إلى أن يحاربوا ( ثم يرجعوا ) ليكون لهم ما أخذوا ، والثاني مراعاة قول من يقول إن ذمتهم لا تنتقض وإن جزيتهم لا تبطل والله أعلم وبه التوفيق .
ومن كتاب الصلاة
مسألة
وسألته عن العلج من العدو يخرج إلى دار الإسلام بلا عهد

(3/26)


فيوجد عند أقاربه فيقول أردت أن أكون من أهل الجزية أوديها إلى المسلمين وأقيم ببلدهم أو يقول جئت زائراً لقرابتي .
فقال : لا أرى للإمام أن يسترقه ولا يبيعه .
قلت : فالذي قدر عليه وأخذه عند قرابته ما ترى له فيه حقاً ؟
قال : لا حق له فيه ، ولكن إن رأي الإمام أن يقره على غرم الجزية فذلك له إن قبل العلج ، وإن كره غرمها كان على الإمام رده إلى مأمنه ولا يستحل دمه ولا رقه .
قال محمد بن أحمد : لم يفرق في هذه الرواية بين أن يوجد عند أقاربه بالقرب أو بالبعد فالظاهر منها أن ذلك عنده سواء خلاف ما مضى في رسم الجواب من سماع عيسى وقد مضى هناك تحصيل القول في هذه المسألة فلا معنى لإعادته .
مسألة
وقال ابن القاسم في العلج من العدو يخرج بأمان إلى أرض الإسلام فيستودع الرجل من المسلمين مالاً ثم يرجع إلى أرضه فيصيبه المسلمون بعد فيباع في المغانم إن ذلك المال المستودع يكون فيئاً للمسلمين بإصابتهم العلج وببيعهم إياه لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من باع عبداً له مال فالمال للبائع إلا أن يشترطه المبتاع .
قال : وإن أسر ثم قتل فالمال الوديعة أيضاً فيء للمسلمين

(3/27)


لأن رقبته قد صارت في ملكهم فما كان بأيدي المسلمين من ماله المستودع فهو كما أصابوا معه من ماله .
قال : وإن قتل في المعركة بلا أسر أو مات في أرضه رد المال المستودع إلى ورثته حيث كانوا لأنه اؤتمن عليه ثم لم يملك المسلمون رقبة العلج بعد ذلك ، فأحق الناس بماله إذا لم يصر رقا للمسلمين من ورث ذلك عنه .
قال محمد بن رشد : قوله إن الأسير إذا بيع في المقاسم أو مات أو قتل بعد الأسر يكون المال الذي كان له في بلد الإسلام مستودعاً للمسلمين معناه يكون غنيمة للجيش يخمس وتجري فيه السهام وكذلك قال ابن حبيب في الواضحة وحكاه عن ابن الماجشون وأصبغ وعزاه إلى ابن القاسم ، وذلك بين في المعنى قائم من قوله في الكتاب : فهو كما أصابوا معه من ماله ، وحمل فضل قول ابن القاسم على ظاهره من أنه يكون فيئاً لجميع المسلمين ولا يخمس وهو بعيد في المعنى ، وإن كان عليه دين فغرماؤه أحق به من الجيش بخلاف ما غنم معه .
مسألة
قال ابن القاسم : في سماع عيسى وأصبغ من كتاب التجارة إلى أرض الحرب وسيأتي القول على ذلك هناك إن شاء الله تعالى ، وأما إذا قتل في المعركة ولم يؤسر فجعله ابن القاسم بمنزلة إذا مات بأرضه يرد المال المستودع إلى ورثته ، وقال ابن حبيب إنه يكون فيئاً لجميع المسلمين وعزاه إلى ابن القاسم ولا يخمس ولكلا القولين وجه من النظر وبالله التوفيق .

(3/28)


قال : ولا بأس أن ترمى الحصون بالمجانيق حصون العدو وإن كان فيهم نساء وصبيان .
قلت : أيحرقون عليهم إذا اعتصموا بالغيران والقلاع التي لا تنال إلا بالتحريق أو يدخن عليهم حتى يغموا فيستأسروا وربما مات بعضهم إما ؟ والتدخين عليهم مكروه ، ولا يصح أن يقاتلوا به .
قلت : فكيف يصلح لنا أن نقاتلهم في السفن برمي النفط ؟
قال محمد بن أحمد : قوله لا بأس أن يرمي الحصون ، حصون العدو ، بالمجانيق وإن كان فيهم نساء وصبيان هو دليل ما في المدونة والحجة في إجازته ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى أهل الطائف بالمجانيق فقالوا يا رسول الله إن فيها النساء والصبيان فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "هم من آبائهم" ، وكراهيته التدخين عليهم والتحريق إذا اعتصموا بالغيران والقلاع معناه إذا كان معهم النساء والصبيان بدليل عطفه السؤال على مسألة النساء والصبيان ، فذلك مثل ما في المدونة سواء ، وقوله فكيف يصلح لنا أن نقاتلهم في السفن برمي النفط ؟ معناه إذا كان فيهم النساء والصبيان بدليل عطفه إياها على مسألة النساء والصبيان فلم يجبه على الفرق في ذلك بين الحصون والسفن ، والفرق بينهما الضرورة إلى ذلك في السفن لأنهم إن لم يرموهم بالنار رموهم به فأحرقوهم ولا يقدرون على ذلك في الحصون ، وفيما يجوز من ذلك كله مما لا يجوز اختلاف كثير في المذهب ، تحصيله أن الحصون إذا لم يكن فيها إلا المقاتلة فأجاز في المدونة أن يرموا بالنار ، ومنع من ذلك

(3/29)


سحنون ، وقد روي ذلك عن مالك من رواية محمد بن معاوية الحضرمي ، ولا خلاف فيما سوى ذلك من تغريقهم بالماء ورميهم بالمجانيق وما أشبه ذلك وأما إن كان فيهم مع المقاتلة النساء ولاصبيان ففي ذلك أربعة أقوال ، أحدها أنه يجوز أن يرموا بالنار ويغرقوا بالماء ويرموا بالمجانيق وهو قول أصبغ فيما كاه عن ابن مزين والثاني أنه لا يجوز أن يفعل بهم شيء من ذلك كله ، وهو قول ابن القاسم فيما حكاه عنه الفضل ، والثالث أنه يجوز أن يرموا بالمجانيق ويغرقوا بالماء ولا يجوز أن يرموا بالنار ، وهو قول ابن حبيب في الواضحة ، والرابع منه يجوز أن يرموا بالمجانيق ولا يجوز أن يغرقوا وال يحرقوا وهو مذهب مالك في المدونة ، وأما إذا كان فيه مع المقاتلة أسارى المسلمين فلا يرموا بالنار ولا يغرقوا بالماء واختلف في قطعه عنهم
ورميهم بالمجانيق ، فقيل ذلك جايز وهو قول ابن القاسم وأشهب في سماع سحنون وقيل لا يجوز وهو قول ابن حبيب في الواضحة وحكاه عن مالك وأصحابه المدنيين والمصريين ، وأما السفن فإن لم يكن فيها أسارى المسلمين جاز أن يرموا بالنار للعلة المتقدمة ، وإن كان فيها النساء والصبيان قولاً واحداً ، وإن كان فيها أسارى المسلمين فقيل إن ذلك جائز وهو قول أشهب في سماع سحنون ، وقيل لا يجوز وهو قول ابن القاسم فيه والله الموفق .
مسألة
وقال في المرأة والغلام الذي لم يحتلم من العدو يقاتلان مع العدو ثم يوسران إن قتلهما بعد الإ]سار حلال جايز كما كان يحل ذلك منهما في حال القتال والمكابرة قبل الأسر ، ولا يتركان لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان لأنهما قد استوجبا القتل بقتالهما .
قال محمد بن أحمد : يريد بقوله لا يتركان لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم أي لا يترك قتلهما تحرجا إذ لا تؤمن غائلتهما لأن قتلهما واجب وإن أمنت

(3/30)


غائلتهما وذلك بين من قوله في أول المسألة إن قتلهما حلال جائز وهذا خلاف ما مضى في الرسم الذي قبل هذا من أن الأسير لا يقتل إلا أن يكون من أهل النجدة والفروسية ، والاختلاف في هذه عائد إلى ما هو محمول عليه فمرة حمله على أن له غائلة حتى يتحقق أنه لا غائلة له ومرة حمله على أنه لا غائلة له حتى يتحقق أن له عائلة ، وكذلك أيضاً إن جهل حال الأسير هل هو من أهل النجدة والفروسية أو ليس من أهلها ، يجري على هذا الاختلاف ، وقد مضى في أول رسم من سماع أشهب تحصيل القول في حكم الأسير على مذهب مالك فلا معنى لإعادته .
ومن كتاب المكاتب
مسألة
قال : وسألته عن العدو يرسلون رجلاً إلى المسلمين للهدنة فإذا هو ممن نزع إليهم من المسلمين وارتد في دارهم أيستتاب أم يرد إليهم ؟ .
قال إن كان أمن فليرد إليهم وليوف له بالعهد ، وإن كان جاء بغير أمان ولا عهد فيستتاب فإن تاب وإلا قتل ، حاله حال المرتد في دار الإسلام .
قلت : أرأيت إن كان أبواه مسلمين أصابهما العدو فولد في دار الشرك فتنصر وترك دين أبويه وظفر به ؟
قال : لا ، يستتاب ولاكن حاله حال السبي والأسر إن أذن الإمام في قتله قتلوه وإن استحيي فهو فيء للمسلمين الذين أصابوه .
قلت : وليس حاله حال الذي يولد في دار الإسلام ؟ .
قال : لا : قلت فالذي يولد في دار الإسلام ثم يصاب صغيراً مع أبويه أو دونهما فتنصر أيستتاب إذا أصيب ؟ .

(3/31)


قال : لا يقتل ولاكن يجبر على الإسلام بالضرب والتهديد والغلظة والشدة مع الإمام عليه ، ويكون حراً لا يسترق ولا يكون فيئاً للذين أصابوه وذلك أنه ولد في دار الإسلام فأصابه العدو أو خرج به أبواه فهو من أبناء المسلمين الأحرار .
قال محمد بن أحمد : اختلف إذا أمن الرجل على أنه حربي فانكشف على أنه مرتد أو عبد لمسلم أو ذمي ، فقيل له الأمان ولا يستتاب إن كان مرتداً ولا يرد إلى سيده إن كان عبداً وهو قول ابن القاسم ، هذا واحد قولي أشهب ، وقيل لا أمان له وإن اشترط أن لي الأمان وإن كنت مرتداً أو عبداًن وإلى هذا ذهب ابن حبيب في الواضحة وحكاه عن مطرف وابن الماجشون وابن عبد الحكم وأصبغ وأشهب ، وقيل لا أمان له إلا أن يشترط ، روى ذلك عن ابن القاسم ، وهو دليل قول الاوزاعي وسحنون ومن يرى أن المحارب من المسلمين إذا امتنع فأمن على أن ينزلان له الأمان ، وما ذهب إليه ابن حبيب أظهر الأقوال ، لأنه إن لم يشترط فلا يكون له الأمان إذ قد انكشف من حاله خلاف ما أمن عليه ، وإن اشترط فالشرط إنما هو إبطال حد الله فيه إن كان مرتداً ، وإبطال حق صاحبه فيه إن كان عبداً وذلك مما لا يجوز ، وأما قوله إن كان أبواه مسلمين أصابهما العدو فولد في أرض الشرك فتنصر وترك دين أبويه وأخذ بغير عهد أنه لا يستتاب وحاله حال الأسير إن رأى الإمام أن يقتله قتله ، وإن رأى أني بقيه كان فيئاً لمن أصابه فالوجه فيه أنه حكم له بحكم الدار في الكفر لا بحكم أبويه في الإسلام ، فغلب حكم الدار على حكمهما الذي هو أن يكون الولد مثلهما بإسلامهما وجعل الدار له بمثابة أن لو كان أبواه كافرين في أنهما يهودانه أو ينصرانه ، كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث المشهور

(3/32)


المعروف ، وهذا على أصله في المدونة فيمن أسلم في بلد الحرب فغزا المسلمون تلك الدار فأصابوا فيها ماله وولده أنهم فيء لأنه حكم له بحكم الدار في الكفر ، ولم يرهم مسلمين بإسلام أبيهم خلاف قول بعض الرواة فيها ، ومذهب سحنون أن ماله تبع له في الإسلام ، فعلى قول بعض الرواة فيها ومذهب سحنون يكون حال الولد في هذه المسألة حال المرتد يستتاب فإن تاب وإلا قتل إذا كان أبواه مسلمين وإن ولد في دار الكفر ، وسواء على ظاهر قول
ابن القاسم هذا بقي أبواه معه في بلد الحرب أو لم يبقيا ، خلاف ما حمل عليه أبو إسحق التونسي قول ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة من أن معناه إذا خرج بعد إسلامه فسبي المال والولد بعد خروجه إلا أن يفرق بين المسألتين بكون الأبوين مسبيين في هذه المسألة ، فإذا لم يفرق بذلك بين المسألتين تحصل فيها ثلاثة أقوال : أحدها أنه يحكم للولد بحكم الدار ، والثاني أنه يحكم له بحكم الأب ، والثالث الفرق بين أن يكون الأب مقيماً مع ولده ببلد الحرب أو لا يكون ، ولا إشكال فيما اكتسب الأسير في بلد الحرب وهو فيه على وجه الملك لا على وجه الحرية أنه لا تراعى يده عليه ، وقوله بعد ذلك في الذي يولد في دار الإسلام ثم يصاب صغيراً مع أبوهي أو دونهما أنه لا يستتاب فيقتل إن أبى الإسلام وأنه يكون حراً لا يسترق استحسان على غير قياس ، إذ لم يحكم له بحكم الإسلام بولادته في بلد الإسلام ، فيقول إنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل كما قال إنه يكون حراً لا يسترق ولا يحكم له بحكم دار الكفر التي نشأ فيها فيقول إنه يسترق وكما قال إنه لا يقتل إذا أبى الإسلام ، والوجه فيما ذهب إليه أنه رأى ولادته في بلد الإسلام شبهة تمنع من استرقاقه ، ونشأته في دار الكفر من صغره على الكفر شبهة توجب ألا يقتل إن أبى الإسلام ، وما كان ينبغي أن يختلف إذا أصيب

(3/33)


صغيراً لا يعقل ابن سنة ونحوها دون أبويه فنشأ على الكفر في أنه يكون فيئاً ولا يجبر على الإسلام ، وبالله التوفيق .
مسألة
وسألته عن العبد يشتري من المقاسم فزعم أن له فداء يرغب في مثله فيرهن سيده ابنه أو ابنته ثم يطلقه ليأتي بالفداء فيحتبس ويقيم ببلده أيسترق الولد ؟
قال إن كان الولد كبيراً قد بلغ الحلم فإنه يسترق ويستخدم إن خاتر أبوه بسيده .
قلت له : أيبيعه كما كان يجوز له بيع الأب ؟
قال : نعم إذا تبين خبر الأب ونقض ما ترك عليه من العهد للرجوع بالفداء .
قال : وإن كان الولد صغيراً لم يبلغ الحلم رأيت أن يطلقه إذا تبين ختر أبيه بالعهد والترك للوفاء مما يطلق عليه .
قلت : فالابنة عندك بمنزلة الابن سواء ؟ .
قال : نعم إذا بلغت المحيض وعرفت ما يراد بها فأمرها وأمر الابن واحد .
قلت : أرأيت إن مات في أرضه بالطريق أو قتل فعلم أنه لم يختر سيده أو حبس عن الرجوع حتى يتبين عذره ما يحل للسيد من الولد المرتهن ؟ .

(3/34)


قال : إذا ثبت براءته حرم على السيد استرقاق ولد المرتهن ولزمه إطلاقه ورده إلى مأمنه .
قال محمد بن أحمد : أجاز في المدونة اشتراء أولاد الحرب من آبائهم إذا لم يكن بيننا وبينهم هدنة ، وإذا جاز اشتراؤهم منهم جاز ارتهانهم منهم وبيعهم فيما رهنوهم فيه على ما يأتي في سماع أصبغ عن أشهب ، ولم يجز في هذه المسألة لسيد العبد بيع ابنه الذي رهنه إياه إذا خاتر به وترك الرجوع لفدائه ، فالفرق بين المسألتين أن الحربي حاكم على ولده في بلده ، فجاز له اشتراؤه منه إذا باعه وارتهانه منه إذا رهنه وبيعه فيما رهنه به ، والعبد الأسير لا حكم له على ولده الباقي في دار الحرب ، فإذا رهنه عند سيده برضاه وهو صغير من غير أن يسترقه أو يأذن له في ذلك مالك أمرهم ووالي بلدهم ثم لم يرجع لفدائه لم يجز لسيده أن يبيعه إذا لم يرض بذلك ولا علم قدر ما أدخل فيه نفسه لصغره بخلاف الكبير ، ود ذهب كثير من أهل النظر إلى أن هذه المسألة معارضة لما في المدونة ولما في سماع أصبغ عن أشهب ، والصحيح ألا تعارض في ذلك على ما بيناه من حكم الفرق في ذلك .
مسألة
قال : وسألته عن الرجل يأسره العدو يسبون معه امرأته وأمته أيجوز له وطء الأمة والمرأة ؟ قال : إن أمن أن يطأهما الذي أصابهما من العدو وأيقن بالبراءة من ذلك فلا جناح عليه في وطئهما على التحليل غير أني أكره ذلك لما أخاف من بقاء ذريته في أرض الحرب وما أرجو له من السلامة .
قيل له : أفترى وطء الأمة والمرأة في ذلك سواء ؟ .

(3/35)


فقال : كأني أرى الذي سباهم من العدو قد ملك الأمة ملكاً لو أسلم لم تنتزع منه ، والحرة ليست كذلك ، فلو ترك الأمة لكان أحب إلي .
قال محمد بن أحمد : أما الحرة فالأمر في وطئها على ما قال باتفاق ، وأما الأمة فيتخرج جواز وطيها إذا أيقن بالبراءة على مذهب من قال إن أهل الحرب لا يملكون على المسلم مآله ، وأنه أحق به إذا غنم منهم قبل القسم وبعده بغير ثمن ، وتحريمه إن أيقن بالبراءة على مذهب من يرى أنهم يملكون عليه ماله فيكون إن غنم منهم غنيمة للجيش لا سبيل لصاحبه إليه وإن أدركه قبل القسم ، وكراهيته على مذهب مالك في أنه أحق بماله إن أدركه قبل القسم بغير ثمن وأنه إذا لم يعلم صاحبه بعينه وإن علم أنه للمسلمين .
مسألة
قال : وسألته عن الأسير أيقسم له ؟ قال : نعم إذا كان الإيسار بعد القتال .
قلت : ولفرسه إن أصيب معه أو عقر تحته أو خلفه عند أصحابه ؟ .
فقال : في ذلك كله : يقسم له ولفرسه إذا شهد القتال .
قال محمد بن أحمد : قد مضى تحصيل القول في هذه المسألة في أول رسم من سماع عيسى فلا معنى لإعادته .
مسألة
قال : وسألته عن الكلب يصيبه الرجل في أرض العدو أيجوز للإمام بيعه إذا كان له ثمن ؟
قال : نعم ، ولا يجوز لأحد يصيبه أن يحبسه دون الإمام ، ولا أرى بأساً ا ، يباع في المغانم وروى معن بن عيسى عن مالك أنه قال في كلاب العدو الصائلة وغيرها إنها لمن أخذها وليس عليه أن يأتي بها إلى صاحب المقاسم .
قال محمد بن أحمد : قد مضت هذه المسألة والقول فيها في رسم سلف ديناراً في ثوب إلى أجل من سماع عيسى فلا معنى لإعادته .

(3/36)


ومن كتاب الأقضية
مسألة
قال يحيى : وسألت ابن نافع عما جاء من سهمان الفرس إذ جعل له سهمان وللرجل سهم أيرفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم أم لا ؟ فقال حدثني عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض للفرس سهمين وللرجل سهماً قال وحدثني عن عبد الله بن عمر بن حفص عن رجل أخبره قال غزا أي على عهد عمر بن الخطاب غزاة

(3/37)


بهارلد فأصابوا غنائم كثيرة قال فأخبرني أنه قسم له ولفرسه ثلاثة وثلاثين ألفاً وقسم للراجل من الغزاة يومئذ أحد عشر ألفاً .
قال ابن نافع بذلك مضت السنة .
محمد بن أحمد : هذا أمر متفق عليه في المذهب ، وقال : ابن سحنون ما علمت من علماء الأمة من قال إن للفرس سهماً وللفارس سهماً غير أبي حنيفة ، وقد خالفه صاحباه أبو يوسف ومحمد بن الحسن وما أرى أن يدخل هذا في الاختلاف .
ومن كتاب أوله أول عبد ابتاعه فهو حر
مسألة
قال : وسألته عن ناس من أهل الذمة استألفوا عبيداً للمسلمين وجمعوا أموالهم ودراريهم أو الأموال بغير دراري أو خرجوا بأبدانهم مع العبيد الذي استالفوهم أو بغير عبيد فركبوا البحر فبينما هم يسحلون برية الإسلام ليمكنهم طيب الريح أو لعلهم أرادوا إلى مينا ليقلعوا منها ذاهبين إذ شعر بهم المسلمون فأسروهم ، أيحل دماؤهم وأموالهم بركوبهم البحر وخروجهم من دار الإسلام بغير علم الإمام أو علم أحد من المسلمين ؟ .
قال : لا أرى لأحد أن يستحلهم ولا أموالهم لأن لهم في ركوب البحر عذراً بأن يقولوا أردنا أن ننتجع ناحية للمير أو لرفق

(3/38)


يذكرون نزوعهم إليه ، قلت فإن لججوا في البحر حتى ينقطع عنهم ما اعتذروا به من مسايرة الساحل ؟ .
قال : ولا أرى أن يحلوا بذلك .
قلت : له : فيما تراهم يستحلون به ؟ قال إذا لحقوا بدار الحرب وصاروا في منعتهم .
قلت : أرأيت إن امتنعوا في الساحل حين أراد المسلمون إنزالهم وأنكروا عليهم ركوبهم فدفعوا وامتنعوا حتى أسروا وصنعوا مثل ذلك في لجج البحر .
قال محمد بن أحمد : ما لم يجاوب عليه في هذه المسألة قد تقدم جابه فيه في رسم الجواب من سماع عيسى ومضت المسألة هناك وفي رسم الكبش من هذا السماع باختلاف ألفاظ وزيادات في بعضها تبين غيرها ، ومضى القول على ذلك كله فلا معنى لإعادته .
مسألة
وسألته : عن أهل مركب غزوا في البحر بعض جزائر الروم فلما نزلوا ببعض مياههم أرسلوا رجلاً منهم إلى ناحية من الجزيرة ليخبر لهم ما فيها من مراكب المسلمين ، فأبطأ الرسول عنهم فأقلعوا إلى موضع فأصابوا فيه غنائم أيشركهم الرسول فيما أصابوا مما غاب عنه وقد كان الرسول حين أتى الموضع الذي أرسل إليه وجد مراكب المسلمين فدخلها ؟ .

(3/39)


قال : إن كان الرسول ذهب إلى ما أمر به وجاء فوجد أصحابه قد ذهبوا عنه فسهمانه فيما أصابوا واجب ، وإن كان قعد عنهم تاركاً لهم مستقلاً عنهم إلى الذي أقام عندهم فلا حق له فيما غنم أصحابه الذين تركهم .
محمد بن أحمد : هذا بين على ما قال ، لأن الرسول إنما أرسلوه فيما يخصهم من أمر عدوهم ، فإذا لم ينتقل عنهم إلى غيرهم وذهب لما أمر به ، فقد عليهم بعد أن غنموا فسهمانه في ذلك واجب لأنه كان معيناً لهم في مغيبة عنهم ، وكذلك لو أرسلوه قبل خروجهم فيما يخصهم من أمر عدوهم على أن يلحقهم فلم يدركهم إلا بعد أن غنموا لوجب أن يكون له سهمه معهم في ذلك ، وإنما اختلف أهل العلم من هذا المعنى في المدد يقدم على العسكر بأرض الحرب بعد الغنيمة ، فذهب مالك والشافعي إلى أنه لا حق لهم في الغنيمة ، وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أنهم يشركونهم في الغنيمة لأنهم ما كانوا ببلد الحرب لا يأمنون أن يطرأ عليهم من العدو من ينتزع الغنيمة منهم ، والحجة لمالك ما روي عن أبي هريرة قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبان بن سفيان على سرية من المدينة قبل نجد ، فقدم أبان وأصحابه على البين صلى الله عليه وسلم بخيبر بعدما افتتحت ، وسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقسم لهم فلم يقسم لهم شيئا ، واعتل من احتج لأبي حنيفة بأن قال : يحتمل

(3/40)


أن يكون النبي ، عليه السلم ، لم يقسم لهم لأنهم لم يقدموا عليه إلا وخيبر قد صارت داراً للمسلمين فاستغنى عن معونتهم .
قال : ويحتمل أيضاً أن يكون لم يقسم لها لأن خيبر كانت لأهل الحديبية بوعد الله إياهم إياها في سورة الفتح : روي عن أبي هريرة أنه قال ما شهدت لرسول الله صلى الله عليه وسلم مغنماً إلا قسم لي إلا خيبر فإنها كانت لأهل الحديبية خاصة .
قال وفي ترك إنكار رسول الله عليهم سؤالهم دليل على أنهم لم يسألوا محالاً والله أعلم .
مسألة
وسألته عمن تخلف من أهل برشلونة من المسلمين عن الارتحال عنهم بعد السنة التي أجلت لهم يوم فتحت في ارتحالهم

(3/41)


فأغار على المسلمين وأخافهم وسبى وقتل ولم يقتل غير أنه قد أصاب الأموال أيحل دمه وماله أو استرقاقه إن أسر وإنما إقامته على الإسلام تعوذا مما يخالف من القتل إن ظفر به ؟ فقال ما أراه إلا بمنزلة المحارب الذي يتلصص في دار الإسلام من المسلمين ، وذلك انه مقيم على دين الإسلام فإن أصيب فأمره إلى الإمام يحكم فيه بمثل ما يحكم به في أهل الفاسد والحرابة ، وأما ماله فلا أراه يحل لأحد أصابه ، قال وإن كان ما يصنع مما يكره عليه ويومر به فلا يستطيع عصيان من يأمره خوفاً على دمه فلا أراه حارباً ولا أرى عليه إن أخذ قتلاً ولا عقوبة إذ تبين أنه يخاف ويومر به .
قال محمد بن أحمد : قوله إنهم في غارتهم على المسلمين بمنزلة المحاربين صحيح لا اختلاف فيه لأن المسلم إذا حارب فسواء كانت حرابته في بلد الإسلام أو في بلد الكفر الحكم فيه سواء ، وأما قوله في ماله إنه لا يحل لأحد أصابه فهو خلاف ظاهر قول مالك في المدونة في الذي يسلم في بلد الحرب ثم يغزو المسلمين تلك الدار فيصيبون أهله وماله وولده إن ذلك كله فيء إذ لمي فرق فيها ين ا ، يكون غنم الجيش ماله وولد قبل خروجه أو بعد خروجه ، وذهب أبو إسحاق التونسي إلى ان معنى قوله إذا كانت غنيمة ماله وولده بعد خروجه فحمل قول مالك على الوجه الذي تكلم عليه ابن القاسم إذا كانت الغنيمة بعد خروجه ، وقد مضى في أول رسم المكاتب ما يدل على أنه لا يمتنع أن يدخل الخلاف في ذلك ويحكم للمال والولد بحكم الدار في السبي والدين وإن كان مقيماً به ولم يخرج بعد منه ،

(3/42)


وأما قوله لا أرى عليه إن أخذ قتلاً ولا عقوبة إذا تبين أنه مخالف ويؤمر به فمعناه لا يقتل بالحرابة لأن الإكراه يسقط عنه حكمها لا أنه يسقط القتل عنه قواداً بمن قتل ، ولو ادعوا الإكراه ولم يثبت وأشبه دعواهم ولم يتبين كذبهم لوجب أيضاً أن يسقط عنهم حكم الحرابة بالشبهة ويؤخذون بحقوق الناس من الدم والمال ويطال سجنهم أدباً لهم على قياس ما قال في رسم الكبش في أهل الذمة .
ومن كتاب أوله يشتري الدور والمزارع
مسألة
وسألته عن الرجل من سفلة الناس يأسره العدو أو الذمي ثم يغنمهم المسلمون فيشتريهما رجل في المقاسم أو يأخذهما في سهمانه ثم يتبين له أنهما حران ؟ فقال له : لا أرى له عليهما سبيلاً لأنهما حران ساعة أصابهما المسلمون ، قلت أفال يتبعهما بالذي اشتراهما به ؟ أرأيت لو كان اشتراهما في أرض العدو وهما أسيران أما كان يتبعهما بما اشتراهما به ؟ فقال : بلى ، وليس اشتراؤه إياهما في الأسر بمنزلة اشترائهما في المغانم ، لأنهما في أرض العدو في رق استنقذهما منه وهما حين صارا بأيدي المسلمين فقد خرجا من ذلك الرق وصارا إلى الحرية التي كانا عليها ، قلت فما ترى في حق المشتري إن كان أحدهما في سهمانه أو اشتراهما في المقاسم ؟ .

(3/43)


فقال : أراهما مصيبة دخلت عليه ، إلا أن يدرك قبل المقاسم فيسقط ذلك الثمن عنه .
قلت : فإن فات ذلك أينبغي للإمام أن يخلف له من الخمس أو من بيت المال ؟ فقال : نعم ذلك حسن .
قال محمد بن رشد : قد مضت هذه المسألة والقول عليها مستوفى قرب آخر سماع عيسى فلا معنى لإعادته .
من سماع سحنون وسؤاله ابن القاسم
قال سحنون : وسألت ابن القاسم عن الحصن يرمي بالنار والمنجنيقات ومعهم الصبيان قال المنجنيقات فذلك وجه الشأ ، فيه وإن كان معهم الصبيان ، وأما النار فلا أحب ذلك ، وليس هو مثل المراكب لأن المراكب ذلك هم بدأونا به ، وقاتلونا بالنار ، فمن ثم جاز لنا أن نقاتلهم بالنار .
قال محمد بن أحمد : هذه مسألة قد مضى القول عليها محصلاً مستوفى في رسم الصلاة من سماع عيسى فلا معنى لإعادته ، وكان مالك رحمه الله يكره أن يقاتل العدو بالنبل المسموم والسلاح المسموم ، قال لم يبلغني أن رسول الله قاتل أحداً بشيء من السم .
مسألة
قلت : فإن رمي على مركب المسلمين نار فخافوا النار أترى لهم سعة في أن يلقوا بأنفسهم في الماء فيموتوا ؟ قال : نعم ، كذلك قال مالك .

(3/44)


قال محمد بن رشد : مثل هذا في المدونة لمالك أجاز الفرار من موت إلى موت أيسر منه ولم ير ذلك عوناً على قتل نفسه ، واختلف فيه قول ربيعة فمرة قال لا يحل ذلك ، ومرة أجازه ، والصواب إن شاء الله أن ترك ذلك أفضل وفعله جائز لا إثم على فاعله فيه ، لأنه إذا أيقن بالهلاك ولم يشك فيه فلم يعن على قتل نفسه ، وإنما سعى في التخفيف عنها والله تعالى أسأل في العافية .
مسألة
قال : وقال مالك تعقر غنمهم وبقرهم إن لم يحتاجوا إلى ذلك ، وكل ما قدروا على أن يهلكوهم به .
قال محمد بن أحمد : يريد نها تعقر بالإجهاز عليها وتحرق بعد ذلك إن خشي أن ينتفع العدو بها بعد عقرها ، وذلك أفضل من تركها لهم يبغون بها لقوله تعالى : { ولا ينالون من عدو نيلاً إلا كتب لهم به عمل صالح } ، ونما نهى أبو بكر ، رضي الله عنه ، يزيد بن أبي سفيان بقوله : ولا تعقرن شاة أو بعيراً إلا لمأكلة لما علمه من ضعف العدو ورجائه من سرعة تصيير ذلك للمسلمين .
مسألة
قال : وقال ابن القاسم أرسل ملك الروم للخليفة رسلاً من الروم فأسلم بعضهم فقام عليهم أصحابهم وأرادوا ردهم معهم ، فقال مالك : ذلك لهم أن يردوا معهم إلى بلادهم . قال ابن القاسم وكذلك فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في أبي جندل .

(3/45)


قال محمد بن أحمد : ذهب ابن حبي إلى أن الرسول إذا أسلم يقبل إسلامه إلا أن يشترطوا ذلك ، فهي ثلاثة أقوال ، والحجة لمالك في أنه يرد إليهم بعد إسلامه إن لم يشترطوا ذلك ما روي عن أبي رافع قال أقبلت بكتاب من قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلما رأيته ألقي في قلبي حب الإسلام ، فقلت يا رسول الله إني والله لا أرجع غليهم ، فقال رسول الله إني لا أخيس بالعهد ولا أحبس البرد ولكن ارجع إليهم ، فإن كان في قلبك بعد أن ترجع إليهم الذي في قلبك الآن فارجع . قال : فرجعت إليهم ثم أقبلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأما ما احتج به ابن القاسم من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في أبي جندل فلا حجة فيه لأنه إنما رده إليهم بالشرط الذي كان بينه وبينهم أن يرد إليهم من جاءه مسلما من عندهم ، وقد قيل إن ذلك منسوخ بقوله تعالى : { وإما تخافن من قوم خيانة } – الآية ، وإلى هذا ذهب ابن حبيب ، والله أعلم ، في ترك إعمال الشرط ، وقال في حديث أبي رافع إنما رده رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأنه لم يكن أسلم بعد ، وإنما حبب إليه الإسلام فأحب المقام عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فهذا تأويل الحديث ، وإنما فيه إن الرسول إذا رفض ما أرسل فيه وأحب المقام بلا إسلام لم يجز للإمام أن يمكنه من ذلك .
مسألة
وسئل ابن القاسم عن قوم من العدو غلبوا على مدينة من مدائن المسلمين وعلى رجالهم ونسائهم ثم يكتبون إلى المسلمين أو خرج إليهم المسلمون فأرسلوا إليهم إن تهبونا ما أخذنا من أموالكم ورجالكم وجيبكم إلى الإسلام أو نعطيكم الجزية

(3/46)


خرجوا إليهم أو كتبوا هم إلى المسلمين ، قال أما الذي أرى الآن فإني أرى أن ينظر للمسلمين ، فإن كانوا يقووا عليهم لم أر أن يجيبوهم في شيء من الأحرار والمماليك ، وأما الأولاد فإني أرجو أن يكون ذلك سهلاً إذا لم يطمعوا أن ينالوهم إلا بقتل من المسلمين ، وإن علم أنهم لا يقووا عليهم رأيت ذلك للمسلمين ، وكانوا بمنزلة الروم أن لو أرسلوا إلينا يطلبون الإسلام وفي أيديهم أسارى من المسلمين أجبناهم وكانوا لهم مماليك ، فهؤلاء مثلهم إذا لم يطمع بهم ، وأما إذا أجابوا إلى الإسلام وهؤلاء في أيديهم عتقوا عليهم ، وإن لمي سلموا فصالحوا على الجزية لم تؤخذ منهم الأموال ورأيت أن يباع العبيد المسلمون عليهم بمنزلة من أسلم من مماليكهم ، وأما الأحرار الذين في أيديهم فإني أرى أن يدفع إليهم قيمتهم ويخرجوا أحراراً من بيت مال المسلمين .
قال محمد بن أحمد : لا اختلاف في أن أهل الحرب إذا أسلموا وفي أيديهم أسارى من المسلمين الأحرار يطلقونهم ، إذ لا يحل لهم أن يتملكوهم ، فقوله في هذه الرواية إنه ينظر للمسلمين فإن كانوا يقوون عليهم لم أر أن يجيبوهم للإسلام في شيء من الأحرار والمالكي على أن يعطوا قيمة الأحرار ويكون لهم المماليك ، وإن علم أنهم لا يقوون عليهم رأيت للمسلمين أن يجيبوهم إلى ذلك ، وقوله بمنزلة أن لو أرسلوا إلينا يطلبون الإسلام وفي أيديهم أسارى من المسلمين يريد أسارى من العبيد المسلمين ، يقول فكما يكون لهم إذا أسلموا ما كان في أيديهم من العبيد المسلمين أسارى فكذلك يكون لهم إذا أجبناهم إلى الإسلام قيمة ما في أيديهم من أسارى المسلمين الأحرار ويجوز لنا أن نجيبهم إلى الإسلام على ذلك إذا

(3/47)


لم نقو على غلبتهم عليهم ، وقوله إذا أجابوا إلى الإسلام وهؤلاء في أيديهم عتقوا عليهم يريد إذا أ"لقوا من أيديهم ولم يمكنوا من استرقاقهم لأنهم يعتقون عليهم فيكون لهم ولاؤهم وقوله إن لم يسلموا وصالحوا على الجزية لم تؤخذ منهم الأموال ، ورأيت أن يباع العبيد المسلمون عليهم إلى آخر قوله صحيح لا اختلاف فيه أيضاً ، يقضي على ما مضى في سمع يحيى مما وقع فيه على غير تحصيل على ما ذكرناه ، ولا اختلاف أيضاً في أنهم إذا صالحوا على هدنة لا يؤخذ ما في أيديهم من أسارى المسلمين ولا رقيقهم ولا أموالهم ، وإنما اختلف إذا استأمنوا قد خلوا بأمان فيما أسلم من رقيقهم وفيما الفيء في أيديهم من أسارى المسلمين ورقيقهم المسلمين ، فحكم لهم ابن حبيب في ذلك كله بحكم أهل الذمة وحكى أنه إجماع من مالك وأصحابه إلا ابن القاسم ، وذهب ابن القاسم إلى أنه لا ينتزع منهم شيء من ذلك ولا يحال بينهم وبين وطيء ولا رجوع بهم إلى بالدهم إلى أن يفادى منهم أو يبتاع برضاهم وطيبة أنفسهم كالمصالحين على الهدنة ، وبالله التوفيق .
مسألة
قال : وسألت ابن القاسم عن العبد يسبيه العدو ثم يقع في سهمان رجل ثم يبيعه ثم يتداوله رجال ثم يأتي سيده ، قال إن أحب أن يأخذ العبد بما وقع به في المقاسم أخذه ، وليس له أن يأخذه بأي ثمن شاء ، وإنما له أن يأخذه بما أخذ به في المقاسم وليس هو مثل الشقص يباع من الدار فيتداوله رجال ثم يأتي الشفيع فيأخذ بأي الأثمان شاء من قبل أن الشفيع لو باع شريكه من رجل فأجاز ثم باع الذي أجاز له رجع بشفعته فأخذوا الذي سبي عده ثم وقع في سهمان رجل لو جاء به الذي وقع في سهمانه ثم باعه ذلك الرجل لم يرجع على العبد أبداً ، فمن ثم يقال له إن أحببت أن تأخذ العبد

(3/48)


فخذه بما وقع في المقاسم ، وليس لك غير ذلك ، وكان للشفيع أن يأخذ بأي الأثمان شاء .
قال محمد بن أحمد : قوله إنه يأخذ العبد إذا تداولته الأملاك بالثمن الذي وقع به في المقاسم خلاف قوله في المدونة في الذي يشتري العبد في بلاد الحرب ثم يقدم به فيبيعه أنه ليس لصاحبه إلا ما بين الثمنين إذ لا فرق بين المسألتين ، وخلاف ما يأتي على قول غيره فيها أيضاً من أن يأخذه من المشتري الثاني ، بالذي اشتراه به ، وقد روي عن ابن القاسم أنه يأخذ بأي ثمن شاء ، وهو قول ابن الماجشون وأحد قولي سحنون ، فهي أربعة أقوال وجه قول ابن القاسم في المدونة أن له ما بين الثمنين وليس له أن يأخذ العبد هو أن البيع فوت لشبهة ملك العدو إياه ، إذ قد قيل لصاحبه إليه وإن أدركه قبل القسم فله ما استفضل فيه المبتاع إذا كان له أن يأخذه بالثمن ، ووجه قول غيره في المدونة أن يأخذه من المشتري الثاني بالثمن الذي اشتراه به هو أنه لا حجة للمبتاع الثاني إذا أعطاه جميع الثمن الذي وزن فيه كما لم يكن للذي اشتراه من المقاسم في ذلك حجة ووجه قوله في هذه الرواية أنه يأخذه بالثمن الأول هو أن ذلك حق وجب له القول النبي ، عليه السلام ، للذي وجد بعيره في المغنم وقد كان أصابه العدو : "وإن وجدته قد قسم فأنت أحق به بالثمن إن أدرته" فلا يسقط حقه في ذلك بيع المشتري إياه ولا تداول الأملاك فيه ، ووجه القول الرابع أنه يأخذه بأي ثمن شاء قياس ذلك على الشفعة إذا تداولت الأملاك الشقص .
مسألة
قلت : فإن تداوله رجال ثم سباه العدو ثانية ثم سبي فوقع في سهمان رجل فأتى ساداته ، قال ما لهم وله ؟ إنما الكلام للذي

(3/49)


سبي من يديه أخيراً من اشتراه أو سيده الأول ، إلا أن الذي اشتراه أخيراً أحق به أن يأخذه بعد أن يدفع إلى الذي هو في يديه ما وقع به في المقاسم أو يتركه ، فإن تركه فسيده الأول بالخيار إن شاء أن يأخذه بما وقع به في القسم الثاني وليس له أن يأخذ بما وقع به في القسم الأول لأنه مالك ثان أملك به من الأول .
قال محمد بن أحمد : وقع في أكثر الكتب مكان فإن تركه فسيده الأول بالخيار إن شاء فإن أخذه فسيده الأول بالخيار وكذلك نقله أبو إسحاق التونسي ووجهه بأن قال إن أراد أن ما فداه به ملغي لو جنى عبده جناية فافتداه بها أو يأخذه ربه بما كان أخرج هذا فيه في القسم الذي قبل هذا ، فلهذا وجه ، وهذا لا يصح بوجه ولا يستقيم على ما نص عليه في المسألة فهذا غلط في الرواية لا شك فيه ، والصواب فإن تركه ، وعلى هذا فتستقيم المسألة لأنه جعل الحق في أخذه بما وقع به في المقسم الثاني للسيدين جميعاً ، إلا أنه بدأ الثاني بالأخذ ، فإن أخذ بطل حق الأول ولم يكن له شيء ، وإن ترك لو لم يأخذ أخذ الأول وهذا بين ولا إشكال فيه ، وقد قيل إن الأول هو المبدأ بافتكاكه واختلف على هذا القول بماذا يفتكه ؟ فقال إنه يفتكه بالأكثر فإن كان الأكثر هو ما أخذ به المقتسم الثاني بطل حق الأول ، وإن كان الأقل كان للأول ما فضل ، وهذا قول سحنون في نوازله من كتاب الجنايات وقيل إنه يفتكه بالثمنين جميعاً ، وهو قول محمد بن المواز ، وكذلك إذا جنى العبد جناية ثم سبي فوقع في المقاسم يفتكه سيده على مذهب سحنون بالأكثر ،

(3/50)


وعلى مذهب ابن المواز بالأمرين جميعاً ، وقيل إنه الذي يأتي على مذهب ابن القاسم في المدونة ، فإن ترك السيد الأول افتكاكه بالأكثر من الثمنين أو بهما جميعاً على ما ذكرناه من الاختلاف في ذلك كان للسيد الثاني أن يفتكه بما وقع في المقسم الثاني .
مسألة
وقال ابن القاسم في الرجل المسلم يخرج من أرض العدو معه علج من أعلاج العدو فيقول المسلم أسرته أو اشتريته ، ويقول العلج بل خرجت معه رغبة في دار الإسلام : إن القول قول العلج وعلى مسلم البينة فيما ادعى وإلا فهو حر .
قال محمد بن أحمد : وهذا كما قال لقول النبي صلى الله عليه وسلم : "البينة على من ادعى واليمين على من أنكر" إلا أن يكون العلج في وثاقه فيصرف مع يمينه ، قال سحنون وابن حبيب ، ومضى مثل ذلك ، والقول فيه رسم الكبش من سماع يحيى ويأتي في سماع أصبغ أن القول قول الذي أتى به إن كان أسيراً في يد رجل فأطلقه سيده على أن يأتي به .
مسألة
قال : وسألت ابن القاسم عن رجلين نصرانيين خرجا من أرض العدو فادعى كل واحد منهما على صاحبه أنه عبده ، فقال : لا شيء لواحد منهما على صاحبه إلا أن يأتي ببينة على ما ادعى وإلا فهما حران جميعاً .

(3/51)


قال محمد بن رشد : هذه مسألة صحيحة وقد مضى ما يشبهها والقول فيها مستوفى في آخر سماع عيسى فلا معنى لإعادته .
مسألة
قال : وسألت ابن القاسم عن المراكب من الروم يغيرون على بعض المسلمين ثم يدركهم المسلمون فيقاتلونهم الروم بالنار ، أفترى للمسلمين أن يرموهم بالنار أم يكفوا لمكان من معهم من المسلمين ؟ فقال ابن القاسم لا أرى أن يرموهم بالنار لما معهم من المسلمين خوفاً أن يقتلوا مسلماً ، قال أشهب : نعم أرى أن يرموهم بالنار ، وكيف لا يرمون وهم يرموننا بها ، قال سحنون قلت لابن القاسم فإذا حصر المسلمون الحصن وفيه المسلمون مع الروم أيقطع عنهم المير والماء ويرمون بالمنجنيقات ؟ قال : نعم ، قال أشهب مثله لا بأس بذلك .
قال محمد بن أحمد : هذه مسألة قد مضى القول فيها موعباً في رسم الصلاة من سماع يحيى فلا معنى لإعادته .
مسألة
قال : وسألت أشهب عن العبد الحربي يدخل بلاد المسلمين فيسلم أو يدخل بأمان فيقيم على كفره ثم يقدم سيده على أثره فيسلم أو يثبت على كفره ، قال لا سبيل له إلى العبد ، قلت لأشهب فلو أن حربياً استأمن فدخل بلاد المسلمين فوجد كنزاً ، قال هو له بعد إخراج الخمس منه ، وقال سحنون قال أشهب في الحربي

(3/52)


يستأمن ويدخل بلاد المسلمين فيسلم أو يقيم على دينه ثم يستأمن عبد له فيدخل بلاد المسلمين ، قال : إن أسلم بيع على سيده ودفع إلى ثمنه وإن لم يسلم فهو لسيده .
قال محمد بن أحمد : قوله : إذا تقدم خروج العبد قبل سيده أنه لا سبيل لسيده إليه صحيح ، لأن العبد بنفس خروجه مسلماً كان أو كافراً على مذهب مالك وجميع أصحابه لا ولاء لأحد عليه ، لأن المعنى فيما جاء من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعتق يوم الطائف من خرج إليه من عبيد الطائف أنه عتقهم بخروجهم لا باستئناف العتق لهم بعد خروجهم ، وفي كتاب محمد أنه خرج ساداتهم قبل إسلام العبيد رجع إليهم ولاؤهم وإن خرجوا وقد أسلم العبيد لم يرجع إليهم ولاؤهم ، قال أبو إسحاق التونسي : وليس هذا بيناً لأنهم إنما عتقوا بنفس خروجهم ، فإن كان عتقهم لأنهم غنموا أنفسهم فيجب ألا يرجع ولاؤهم إلى ساداتهم بحال ، وإن كان إنما وقع العتق على السادة فيجب أن يرجع إليهم الولاء وإن قدموا بعد إسلام العبيد لأنهم عتقوا عليهم وهم كفار والعبيد كفار ، ووجه ما في كتاب ابن المواز أن العتق إنما يقع على السادة حين خروجهم أعني خروج السادة وذلك مراعاة لمذهب أبي حنيفة في أنه لا يكون حراً لخروجه إلا إذا خرج مسلماً ، وأما إذا خرج كافراً فهو غنيمة لجميع المسلمين بإحراز دار الإسلام إياه على قول أبي حنيفة ، أو لمن سبق إلى أخذه وهو قول صاحبيه أبي يوسف ومحمد بن الحسن ، قالا مرة بعد إخراج الخمس منه لأهله ، وقالا مرة لا خمس فيه ، وإما إذا تقدم خروج السيد مستأمناً قبل عبده فقوله إنه يكون لسيده ويباع عليه إن أسلم هو على قول بعض الرواة في كتاب النكاح الثالث من المدونة خلاف مذهب ابن القاسم وروايته عن ملك في الجهاد منه ، إذ حكما بحكم الدار لمال

(3/53)


الحربي وأسقطا ملكه عنه إذا أسلم وخرج أو لم يخرج على ما تقدم بيانه في رسم المكاتب من سماع يحيى ، والذي يأتي على هذا أنه حر بنفس خروجه خرج قبل سيده أو بعده ، وقوله في المستأمن يجد الكنز في بلاد المسلمين : إنه له بعد إخراج الخمس منه ، ظاهره حيث ما وجده من بلاد المسلمين مثل قول ابن نافع ، وأما على مذهب ابن
القاسم فلا يكون له بعد إخراج الخمس منه إلا إذا وجده في أرض حرة لم تفتتح بصلح ولا عنوة .
مسألة
وسألت ابن القاسم عن الرجل يعمل النشاب والملال والسروج والمحمل في أرض الروم ويصيد الحيتان والطير فيبيعه ، قال أرى ثمنه فيئاً ، قلت ولا يكون له أجرة مثله ؟ قال : لا .
قال محمد بن رشد : قد مضت هذه المسألة وتحصيل القول فيها موعباً في رسم صلى نهاراً ثلاث ركعات من سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادته .
مسألة
قلت له فالرجل يبيع الطعام في بلاد الروم ممن يأكله ثم يعلم بذلك عدما خرج والمال في يديه ما ترى أن يصنع به ؟ قال يرد في المقاسم ولا يرد على المشتري ، قال له فالوالي إن رأى أن يبيع الطعام من الناس في بلاد الحرب لحاجتهم في بلاد المسلمين وهم مستغنون في بلاد الحرب قال لا أرى بذلك بأساً .

(3/54)


قال محمد بن رشد : هذا كما قال ، وهو مما لا اختلاف فيه لأن الطعام غنيمة من أموال الكفار إلا أنه أبيح للناس أكله في بلد الحرب لحاجتهم إليه ، فإن باع أحد منهم شيئاً أو استغنى الناس عنه فباعه الإمام صار غنيمة لأهل الجيش بعد إخراج الخمس كسائر أموال الكفار .
مسألة
وسئل ابن القاسم عن تجار الروم إذا نزلوا برقيق فصالحناهم على عشر ما معهم من الرقيق فأسلم الرقيق أو صالحناهم على الدنانير فأسلم الرقيق ، ثم أردوا الرجوع بمن معهم من الرقيق بعدما أسلموا ، قال يؤخذ منهم ما صالحوا عليه ويرجعون بالرقيق وإن أسلموا .
قال محمد بن أحمد : هذا مثل ما في سماع سحنون من كتاب التجارة إلى أرض الحرب سواء ، وكذلك لو قدموا بعبيد لهم مسلمين لكان لهم الرجوع بهم إن شاءوا . قال في سماع أبي زيد بعد هذا : ويقدم إليهم في ذلك ألا يعودوا ، وهذا على أصل ابن القاسم في المستأمن في بلد المسلمين من الحربيين لا ينتزع منهم أسارى المسلمين ولا عبيدهم المسلمين ، ولا يباع عليهم من أسلم من رقيقهم ويرجعون بذلك كله إن شاءوا خلاف ما ذهب إليه ابن حبيب وحكى أنه إجماع من مالك وأصحابه إلا ابن القاسم وفي المدينة لابن نافع ، ولمالك من رواية داود بن سعيد عنه مثل قول ابن القاسم ، وقد مضت هذه المسألة محصلة في صدر هذا السماع .

(3/55)


مسألة
وسئل سحنون عن مراكب لقوا مراكب في البحر فقاتلوهم فوقع بينهم جراحات وقتال فسأل العدو المسلمين الأمان فأعطوهم فاستساروا في أيدي المسلمين فقدموا بهم برية الإسلام ، فهل ترى إلى مثلهم سبيلاً ؟ فإن كان لا سبيل إلى قتلهم فهل يباعوا أم هل يخلي سبيلهم ؟ وكيف ترى في أموالهم غ ، خلي سبيلهم أترد عليهم أم لا ؟ قال سحنون : إن كانوا إذا سألوا الأمان أمنوا على أن يكونوا ملكاً أو ذمة فالشرط لهم ، ولا سبيل إلى القتل ، فإن لم يكن شرط إلا أمنا مسجل فلا سبيل إلى قتلهم ولا إلى استرقاقهم ، وأرى أن يردوا إلى مأمنهم إلا أن يرضوا بالمقام على الجزية أو يسلموا .
قال محمد بن أحمد : وهذا صحيح على ما قال ، لأن الأمان إذا وقع مسجلاً وجب أن يحمل على عمومه في كل شيء من حقن دمائهم وترك استرقاقهم وأخذ أموالهم إلا أن يستثنى من ذلك شيء في الأمان فيصح للمسلمين بوقوع البيان ، وبالله التوفيق .
مسألة
وقال : لو أن مكاتباً أو مدبراً لحق بأرض الروض ثم قدم علينا منهم رجل معاهد ومعه المكاتب أو المدبر تكون كتابته له ، فإن كان حراً كان ولاؤه لسيده وإن عجز كان له رقيقاً ، وأما المدبر فتكون له خدمته . فإن مات سيده فحمله الثلث عتق وإن لم يحمله عتق منه ما حمل الثلث وكان ما بقي للمعاهد رقيقاً .

(3/56)


قال محمد بن أحمد : وجه قول سحنون هذا إنه لما كان من عرس من الحربيين على أن يكون ذمة ويؤدي الجزية أنه لا يؤخذ منه ما أبقى بيده من أموال المسلمين ورقيقهم وجب أن يكون للمعاهد على ذلك في المدبر والمكاتب ما كان لسيدهما فيهما من بقية الرق ، ولا يمكن من استرقاقهما إذ لو عوهد وبيده حر لم يمكن من استرقاقه يعطي قيمته ولا يؤخذ منه بغير شيء على ما مضى لابن القاسم في صدر السماع ، فكان القياس على هذا أن يعطي من بيت المال قيمة ما فيهما من الحرية أن لو كان ذلك رقيقاً وجاز بيعه على الرجاء والخوف بأن يقال كم يساوي هذا المكاتب على أنه إن أدى كتابته إلى سيده كان مملوكاً للمشتري ؟ وكم يساوي هذا المدبر على أن تكون خدمته لسيده ، فإن مات فحمله الثلث أو حمل بعضه كان ما حمل منه رقاً للمشتري ؟ وإن رأى الإمام أن يعطيه قيمتها ويعجل لهما العتق أو تطوع أحد بذلك لزم ذلك ، وعلى ما وقع آخر رسم الكبش من سماع يحيى يمكن المعاهد من استرقاق المدبر والمكاتب إلا أنا قد ذكرنا أنها رواية شاذة خطأ خارجة عن الأصول وقعت على غير تحصيل .
مسألة
قال سحنون : قال ابن القاسم في حصن مسلمين ارتدوا عن الإسلام فإنهم يقاتلون ويقتلون ولا تسبى ذراريهم وأموالهم فيئاً للمسلمين . قال سحنون قال أشهب : أهل الذمة وأهل الإسلام في هذا سواء لا تسبى ذراريهم ولا أموالهم ولا يعادون إلى الرق ويقرون على جزيتهم كما كانوا .

(3/57)


قال محمد بن أحمد : قول ابن القاسم ولا تسبى ذراريهم وأموالهم فيئاً للمسلمين يريد أن نسلهم وذراريهم لا يسبون وأن أموالهم لا تكون فيئاً وغنيمة للجيش الذين قاتلوهم كأموال الحربيين ، لأن حكم أموالهم على مذهبه في قوله إن ذراريهم لا يسبون حكم مال المرتد إذا قتل على ردته يكون لجماعة المسلمين على حكم الفيء ، وقد وقع في بعض الكتب ولا تسبى ذراريهم ، وأما أموالهم فهي فيء للمسلمين وهو الصحيح وفيه بيان ما تأولنا عليه قول ابن القاسم بنصب فيئاً على الحال ، وإلى هذا ذهب عامة العلماء وأئمة السلف ، وهو قول ابن الماجشون وربيعة فيما حكى عنهما ابن حبيب ، وقال أصبغ تسبي ذراريهم ونساؤهم ، وتقسم أموالهم ويقتل كبارهم على حكم الناقضين من أهل الذمة لأنهم جماعة ، وإنما يكون الارتداد في الواحد وشبهه ، وهذا هو الذي خالفت فيه سيرة عمر بن الخطاب سيرة أبي بكر الصديق في الذين ارتدوا من العرب بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، سار فيهم أبو بكرة بسيرة الناقضين فقتل الكبار وسبى النساء والصغار وجرت فيهم المقاسم وفي أموالهم ، فلما ولي عمر بعده نقض ذلك وسار فيهم سيرة المرتدين رد نساءهم وصبيانهم إلى عشائرهم وإلى الحرية وأخرجهم من الرق والسبي وحملهم محمل ذرية المرتدين أنهم على الإسلام إلا من أباه منهم بعد بلوغه وما أباه أحد منهم على عمر ولا قبل ذلك ، بل أقر كلهم بالإسلام ساعة سبوا ، حكى هذا ابن حبيب ، وفي قوله إنه رد نساءهم وصبيانهم إلى عشائرهم وأخرجهم من الرق بيان أن الذي قضى فيهم أبو بكر بالسبي هم الذين نقض فيهم عمر القضية ، وذلك خلاف ما قالوا من أن القاضي لا يرد ما قضى به غيره قبله باجتهاده فتدبر ذلك ، وقول أشهب إن أهل الإسلام في هذا سواء لا تسبى ذراريهم ولا أموالهم ولا يعادون إلى الرق ويقرون على الحرية مثل ما له في المدونة وغيرها فيتحصل في المسألة ثلاثة أقوال ، مساواة

(3/58)


أشهب بينهم في تحريم سبيهم ، ومساواة
أصبغ في إيجاب ذلك ، وتفرقة ابن القاسم بين ذلك ، وهو القول الصحيح من جهة النظر لأن المرتدين أحرار من القتل والسبي ، فإذا نقضوها رجعوا إلى الأصل فحل دماؤهم وسباه ، ، وقد مضى بيان القول في هذا في رسم الجواب من سماع عيسى .
مسألة
وسئل سحنون وذكرت له ثمار تكون في مفاز الأندلس بين عمران الإسلام وعمران الشرك كانت لأهل الإسلام وتركوها وصارت خارجة عن ملكهم بأرض مفازة وصار العدو لسيد أبقاؤه عليها ولأهل الإسلام وكلهم فيها سواء في الخوف فمر بها جيوش المسلمين وسراياهم وصوابقهم ، هل يحل لهم الأكل من تلك الثمار ؟ قال : أما الجيوش الغالبة العظيمة التي شأنها القهر والغلبة فلا أرى لهم الأكل منها لأنه يصير لتلك الثمرة ثمن ، وأما السرية والنفر اليسير الذي شأنهم التحلل فلا أرى بأساً إن أكلوا منها ، وهي عندي بمنزلة الضالة يجدها الرجل في الفلاة نائية عن القرى فإنه في سعة من أكلها لأنه قد جاء الحديث فيها ، فقال : هي لك أو لأخيك أو للذئب . وأما العسكر الكبير فإنما الثمرة بينهم بمنزلة الشاة الضالة توجد بقرب العمران وموضع الأمان ، فلا تحل لمن وجدها .

(3/59)


قال محمد بن أحمد : قول سحنون هذا صحيح ، وتفرقته بين العسكر العظيم والسرية الصغيرة ظاهرة ، واحتجاجه بالحديث بين ، وذلك إذا كان أهل تلك الثمار لم يبيدوا وأمكن أن يعرفوا لأن الواجب على الإمام إذا كان الأمر على هذا ومر بجيشه على تلك الثمار أن يأمر ببيعها في العسكر وتوقف أثمانها لأربابها وينشر بها ، وكذلك يجب على كل من أخ منها شيئاً أن يبيعه ويمسك ثمنه ويعرف به ليوصله إلى صاحبه ، وأما إن كان الأمر قد طال وباد أهل تلك الثمار وأيس من أن يعرفوا أو يعرف أحد ممن تصيرت إليه بالوراثة فالثمرة لأهل الجيش الكبير في حكم اللقطة إذا لم يوجد صاحبها بعد التعريف ، يجري الأمر في جواز أكلها على الاختلاف بين أهل العلم في جواز أكل اللقطة بعد التعريف لقوله صلى الله عليه وسلم :"فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها" . فمالك يكره له أكلها وإن كان محتاجاً غليها ويرى الصدقة له بها أفضل ، ومن أهل العلم من يبيح له أكلها وإن كان غنياً ، ومنهم من لا يبيح له أكلها إلا إذا كان فقيرا ، وقد مضى في رسم الوضوء والجهاد من سماع أشهب من قول مالك ما يدل على أن أكل ذلك أخف من أكل اللقطة بعد التعريف ، وقد بينا هناك الوجه في ذلك .
مسألة
وسئل سحنون عن الروم أو غيرهم إذا نزلوا بأمان فباعوا واشتروا ثم ركبوا البحر راجعين متى يحلون وإلى أي موضع من

(3/60)


البحر يحلون فيه ؟ قال لا يحلون أبداً حتى يصيروا من البحر إلى الموضع الذي يأمنون فيه من عدوهم ويذهب عنهم الخوف ، فإذا صاروا إلى تلك حلوا ، فقال له بعض أهل الغزو والمعرفة بالبحر إنهم اليوم لا يأمنون حتى يقعوا بلادهم ويخرجوا من البحر ، لأن مراكب المسلمين قد كثرت عليهم ، فقال لهم فلا يحلون إلا في الموضع الذي يأمنون فيه وهو الخروج من البحر إن كان الأمر كما وصفت وقد قال الله : { ثم أبلغه مأمنه } قلت له فهو حلال إذا جاءنا ما لم يعط الأمان وإن قرب من مرسانا أو بعد ، فقال أما من عرف بالتجارة من المسلمين فلا يحل إذا أخذ وهو مقبل إلى الأمان فيما قرب من المرسى ولا فيما بعد ، لا يحل أبداً إلا أن يؤخذ في بلده أو يؤخذ وهو يريد إلى غير المسلمين ، وأما قوم لم يعرفوا بالتجارة فهم حلال .
قال محمد بن رشد : قوله في تجارة الحربيين إذا ركبوا البحر راجعين وإنهم يحلون إذا صاروا من البحر إلى موضع الأمن ، وإن لم يصلوا بعد إلى بالدهم ينبغي أن يحمل على التفسير لما في المدونة في هذه المسألة إذ لم يفرق فيها هذه التفرقة ولمسألة حبل حبلة من سماع عيسى ، ويحمل عليها ما أشبهها من المسائل ، من ذلك إذا غنم العدو في بلاد المسلمين شيئاً من أموال المسلمين ثم غنمه المسلمون قبل أن يصلوا إلى بالدهم ، هل يقسم إذا لم يعرف صاحبه أم لا ؟ وهل يأخذه صاحبه إن قسم بغير ثمن

(3/61)


أم لا ؟ فقد كان يختلف في ذلك عندنا ، وهذه المسألة أصل ذلك ، وأما من قدم بلاد الإسلام بغير أمان فزعم لما أخذ فيما قرب أو بعد أنه أتى للتجارة أو طالباً لأمان أو راغباً في فدية أسير أو ما أشبه ذلك مما تقتضيه هذه المسألة ، فقد مضى القول فيها محصلاً مستوفى موعباً في أول رسم الجواب من سماع عيسى فأغنى ذلك عن إعادته .
مسألة
قلت له فلو أخذوا في البحر مركباً فيها يهود مقبلون من بلاد الإفرنج أو غيرها من بلاد الشرك ، فلما أخذوا قالوا نحن ذمة لصاحب الأندلس ، وإليه نؤدي الجزية قال يكلفوا البينة على ما ادعوا من ذلك ، فإن بينوا ذلك مل يعرض لهم ، وإلا كانوا فيئاً . قلت فإذا ثبت أنهم ذمة لصاحب الأندلس وادعوا على الذين أخذوهم أنهم أخذوا منهم أموالاً قال إن كان الذين أخذوهم قوماً أمناء صالحين مأمونين فلا يمين عليهم وإن كانوا ناساً غير مأمونين استحلفوا .
قال محمد بن أحمد : إنما قال إنهم يكونون فيئاً إن لم يبينوا ما ادعوا من أجل أنهم ادعوا ما لا يشبه لوجودهم مقبلين من بلاد الإفرنج إذ لا ينبغي أن تؤخذ الجزية إلا ممن هو في بلاد المسلمين أو حيث يمكن أن تجري عليهم أحكامهم على ما قال ابن وهب في سماع زونان بعد هذا لقول الله عز وجل : { عن يد وهم صاغرون } ولو ادعوا ما يشبه وضعفوا عن إثبات ذلك لوجب أن لا يستباحوا إلا بقين وأن يوقفوا وما وجد معهم حتى يكتب في خبرهم إلى حيث يتحقق به صدقهم من كذبهم فيعمل على ذلك ، وإنما قال

(3/62)


إنه لا يحلف الذين أخذوهم إن ادعوا عليهم أنهم أخذوا لهم مالاً إلا أن يكونوا غير مأمونين لأنهم ادعوا عليهم التعدي في الأخذ فهو باب يجوز إليهم بخلاف ما لو ادعوا عليهم مالاً من معاملة .
من سماع عبد المالك بن الحسن من ابن وهب
قال عبد المالك بن الحسن سئل عبد الله بن وهب عن القوم يواقعون العدو هل لأحد منهم أن يبارز بغير إذن الإمام ؟ فقال إن كان الإمام عدلاً لم يجز له أن يبارز إلا بإذنه ، وإن كان غير عدل فليبارز وليقاتل بغير إذنه ، قلت له والمبارزة والقتال عندك واحد ؟ قال : نعم .
قال محمد بن رشد : وهذا كما قال إن الإمام إذا كان غير عدل لم يلزم استئذانه في مبارزة ولا قتال إذ قد ينهاه عن عدة قد ثبتت له على غير وجه نظر يعضده لكونه غير عدل في أموره ، فتلزمه طاعته ، فإنما يفترق العدل وغير العدل في الاستئذان لا في طاعة إذا أمر بشيء أو نهى عنه ، لأن الطاعة للإمام من فرائض الغزو ، فواجب على الرجل طاعة الإمام فيما أحب أو كره ، وإن كان غير عدل ما لم يأمره بمعصية ، وقال صلى الله عليه وسلم : "السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب أو كره ما لم يؤمر بمعصية" فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة ، قال صلى الله عليه وسلم : "إتقوا الله وإن أمر عليكم عبد حبشي مجذع فاسمعوا وأطيعوا ما أقام لكم كتاب الله" ، وقد قيل في قول الله عز

(3/63)


وجل : { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم } إنهم أمراء المزايا وقد مضى طرف من هذا المعنى في أول سماع أشهب .
مسألة
وسئل ابن وهب عن القوم يحاصرون حصناً من حصون العدو فيدعوهم العدو إلى أخذ الجزية منهم ، هل ترى للمسلمين أن يقاتلوهم إذا دعوهم إلى أخذ الجزية ؟ فقال : إذا كان ذلك العدو الذين دعوا إلى الجزية هم بموضع لا يصل المسلمون إليه إلا بخوف شديد على أنفسهم فإني أرى أن يقول لهم المسلمون الحقوا بدار الإسلام تؤدوا الجزية ، فإن أبوا قوتلوا . وإن كانوا بموضع يقدر المسلمون على الاختلاف إليهم ولا يخافون على أنفسهم كفوا عن قتالهم وأخذوا الجزية منهم .
قال محمد بن رشد : وهذا كما قال ، لأنهم إذا كانوا بموضع لا يصل المسلمون إليهم إلا بخوف على أنفسهم لم يأمنوا إن انصرفوا عنهم أن ينكثوا عليهم ويكون ما سألوه مكيدة منهم ، وأيضاً فإن من شرط الجزية أن تؤدي بذلك وصغار كما قال عز وجل : { حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } وإن كانوا بائنين بدارهم لا يصل المسلمون إليهم إلا بخوف شديد على أنفسهم لم يلزم قبول الجزية منهم وهم على هذه الحال إذا لم يبذلوها على ما شرطه الله عليهم فيها ، وبالله التوفيق .
من سماع أصبغ من ابن القاسم من كتاب الجهاد
مسألة
قال أصبغ : سئل ابن القاسم عن الغزاة يقتلون رجلاً فلا يقاتلون على الخيل لاستغنائهم عنها وخيلهم في رحالهم أيقسم لها ؟ قال : نعم يقسم لها .
قال محمد بن رشد : هذا كما قال ، وهذا مما لا اختلاف فيه لأنه كما يقسم لمن شهد القتال وإن لم يقاتل فكذلك يقسم لفرس من شهد بفرسه وإن لم يقاتل عليه ، وبالله التوفيق .

(3/64)


مسألة
وقال عن مالك فيما أحرز العدو من متاع المسلمين ثم جاءوا به بأمان يبيعونه ولا يعرف له أهل أو يعرف أيحل اشتراؤه ؟ قال مالك : أحب إلي ألا يبتاعه أهل الإسلام .
قال محمد بن رشد : ابن المواز لا يرى بأساً أن يشتريه أهل الإسلام ، فإذا عرفه صاحبه كان له أخذه بالثمن إن شاء ، قال : واشتراء العبد المسلم من العدو إذا باعه الحربي أفضل من تركه فنحى مالك في قوله منحى الورع مراعاة لقول من لا يراعي ملك العدو ، ويراهم فيما غنموا من أموال المسلمين كاللصوص فيوجب لمن وجد متاعه بيد من اشتراه من العدو صار له في مقسم ان يأخذه بغير ثمن ، ورأى محمد شراء المتاع خيراً لصاحبه من أن يتركه فيرجع به الحربي إلى بلده ، وقول مالك أحسن إذ قد يكون في رجوع الحربي به إلى بلده خير لصاحبه إذ قد يغنمه المسلمون بعد

(3/65)


فيدركه قبل القسم فيأخذه من غير ثمن ، وأما العبد المسلم فلا شك أن شراءه أولاً أفضل من ترك الحربي يرجع به إلى بلده ، وكذلك الجارية ، ولا يحل له إذا علم صاحبها بعينه أن يطأها حتى يعرضها عليه ، وإن لم يعلمه بعينه ويعلم أنها للمسلمين فكيره له وطأها ، هذا ظاهر ما في المدونة وهو صحيح على أصولهم .
وقول محمد بن المواز إن شراء العبد المسلم إذا باعه الحربي أفضل من تركه صحيح على مذهب ابن القاسم في أن له الرجوع به إلى بلده إن شاء ، وأما على مذهب أصحاب مالك سواه فيباع عليه شاء أو أبى ولا يترك والرجوع به إلى بلده وقد تقدم ذلك في غير ما موضع ، وبالله التوفيق .
مسألة
قال : وسمعت ابن القاسم وسئل عن الرجل يركب البحر غازياً فيشتري بأرض الروم متاعاً من المقاسم أو غيرها للتجارة ويحمله في السفن التي هو فيها بغير إذن الوالي ، قال : لا أرى ذلك ولا أرى للوالي أن يأذن به لبعض الناس في حمل ما يضر بأصحابه ويتعب السفن .
قال محمد بن رشد : المعنى في هذا الذي قاله بين لا إشكال فيه لقول ، عليه السلام : "لا ضرر ولا ضرار" .
مسألة
قال أصبغ : سمعت ابن القاسم يقول يفرق بين الجدة وولد ابنها وولد ابنتها في البيع في المملكة وفي السباء .

(3/66)


قال محمد بن رشد : وهذا كما قال ، هو مما لا اختلاف فيه أحفظه لأن النهي عن التفرقة إنما ماء في الأم والولد خاصة ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا تولد والدة على ولدها" ، وقال : "لا يفرق بين الوالدة وولدها" ، وقال : "من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة" وإنما الاختلاف في حدها وهل هو من حقها أو من حق الولد على ما سيأتي القول عليه في رسم الشريكين في سماع ابن القاسم من كتاب التجارة إلى أرض الحرب .
مسألة
قال أصبغ : سمعت ابن القاسم يقول في الأسير إذا خلوه في بلادهم على وجه المملكة والقهر فهرب قلة فله أخذ ما قدر عليه من أموالهم وليقتل ما قدر عليه منهم ، وليهرب إن استطاع وليستق من نسائهم وذراريهم ما استطاع ، قال : وأما إذا كان عندهم في وثاق فخلوه على وجه الائتمان ألا يبرح ولا يحدث شيئاً فلا ، ولا يقتل منهم أحداً ولا يخونه ، قال أصبغ : ولا يهرب وهو كالعهد ولا ينقض العهد ، ولا يحبس به وسواء كان حين سايره على هذه السيرة في وثاق أو غير وثاق .
قال محمد بن رشد : قد مضى القول في هذه المسألة في رسم حبل حبلة من سماع عيسى فلا وجه لإعادته .

(3/67)


مسألة
قال أصبغ : سمعت ابن القاسم وسئل عن أناس يكونون في ثغرة من وراء عورة المسلمين هل يخرجون سراياهم لغرة يطمعون بها من عدوهم بغير إذن الإمام والإمام منهم على أيام ؟ قال : إن كانت تلك الغرة بينة قد تبينت لهم منهم ولم يخافوا أن يلجأوا بأنفسهم فلا أرى بأساً ، وإن كانوا يخافون أن يلقوا ما لا قوة لهم به أو يطلبون فيدركون فلا أحب ذلك لهم .
قال محمد بن رشد : إنما جاز لهم أن يخرجوا سراياهم لغرة قد تبينت بغير إذن الإمام لكونه غائباً عنهم على مسيرة أيام ، ولو كان حاضراً معهم لم يجز لهم أن يخرجوها بغير إذنه إذا كان عدلاً على ما مضى من قول ابن وهب في سماع زونان وق مضى طرف من هذا المعنى في آخر سماع أشهب .
مسألة
قال أصبغ : سئل ابن القاسم عن الرجل يعطى الفرس أو البرذون في سبيل الله هل يحرث على البرذون ويسافر عليهما في قضاء دين أو لحاجة ؟ قال : أما يحرث عليه بمرابطة الذي هو به الشيء الخفيف الذي هو له منفعة في قوته ولا يضر به وما أشبه ذلك فلا أرى به بأساً ، وأما أن ينزيه لغيره أو لنفسه أو يسافر عليه في حوائجه فلا يعجبني ذلك إلا أن يكون مل له مالاً من ماله

(3/68)


فيصنع به ما شاء وإلا فلا يتقوى بشيء من أمره ولا بثمنه إلا في سبيل الله .
قال محمد بن رشد : لسحنون في كتاب ابنه إنه لا يحرث عليه لنفسه ولا للفرس وإنما يأخذه من يضمن مؤنته ولو جاز أن يحرث لقوته جاز أن يكريه ممن يقضي عليه حوائجه لقوته ، وقال : لا يركب الفرس إلا لمصلحته وأما في حوائج نفسه فلا ، وإنما يركب في السفر الذي حبس فيه ، قال : فإن أعطاه المحبس عليه في ثغر آخر ضمن ، وقال الأوزاعي ، وتخفيف ابن القاسم أن يحرث عليه الشيء اليسير الذي لا يضر به لقوته بموضع مرابطة أحسن من تشديد سحنون في ذلك إن شاء الله ، لأن ذلك عون له على مقامه بموضع مرابطه فهو من سبيل الجهاد والعون عليه إن شاء الله ، وقد مضى في أول رسم من سماع ابن القاسم من حكم من أعطى شيئاً في السبيل ما يبين هذه المسألة .
مسألة
قال أصبغ : سمعت أشهب يسأل عن سرية ساروا فأصابوا أعلاجاً ثم أدركهم ما أدركهم فخافوا أن يعينوا عليهم فأرادوا أن يضربوا أعناقهم ، فقال : إن كان استحيوهم فليس لهم إلى قتلهم سبيل إلا أن يقاتلوهم حتى يتبين لهم منهم فيقتلونهم ، وإن كانوا لم يكونوا استحيوهم ضربوا أعناقهم إن شاءوا ، قيل له وما الاستحياء ها هنا ؟ فقال : إن كانوا تركوهم رقيقاً للمسلمين وفيئاً لهم ، فأما إن كانوا تركوهم على أن يأتوا بهم الإمام فيكون مخيراً إن شاء قتل وإن شاء استحيا كما يصنع ضربوا أعناقهم إن خافوهم وقاله أصبغ .
قال محمد بن رشد : قول أشهب هذا صحيح على أصولهم فلا وجه للقول فيه .

(3/69)


مسألة
وسئل عن خيل العدو يخرجون على المسلمين في بلاد الإسلام فيهزمهم الله على غير قتال فتشتت أمورهم فينهزمون هل فيما أصابه المسلمون منهم الخمس ؟ أو هل هم فيء ؟ أو لكل إنسان منهم ما أصاب ؟ فقال : هذا لا يكون ، ولو كان يكون لكان مما قد أوجب عليه بالخيل والركاب ، فكان فيه الخمس ، وكان مقسوماً بين الذين ولوا الإيجاف عليهم والقتال لهم .
قال محمد بن رشد : أبعد أن يكون ما سأله عنهم من انهزامهم دون هازم لهم أو خارج إليهم أو موافق لهم ؟ فلم يعطه فيه جواباً بيناً ، وما هو ما سأله عنه إلا في الممكن مثل أن يموت رئيسهم فتشتت أمروهم ويتراءى لهم على البعد سواد فيظنون ذلك عسكراً لمسلمين فيفرون على وجههم ويتفرقون ويختفون في الشعاري لظنهم أنهم يتبعون ويستأسرون لمن لقيهم من الملمين أو مروا به من قراهم ويتركون أمتعتهم ورحائلهم ودوابهم فهذا لو كان لوجب أن يكون ما أصابه المسلمون منهم فيئاً لجميعهم حكمه حكم الخمس ولو نزلوا على بعض ثغور المسلمين فتداعى عليهم المسلمون فانهزموا على غير قتال ولا لقاء فأصابوا غنائهم لخمست وكان سائرها لأهل المكان الذي كان منهم التداعي في النفير إليهم لأنهم منهم رعبوا فانهزموا فهو إيجافهم ، قاله ابن حبيب في الواضحة وهو صحيح يؤيد ما قلنا .

(3/70)


مسألة
وسئل عن ثلاثة نفر أقبلوا على خيولهم وعليهم سلاحهم حتى دخلوا قرية في آخر عمران المسلمين فزعموا أنهم جنحوا إلى السلم والإسلام أو قالوا أردنا الجزية أيقبل قولهم ؟ قال : إن لم يظفر بهم حتى أظهروا ما ذكرت أن الدعوى إسلاماً أو أرادوا أن يكونوا ذوي عهد .
قال محمد بن رشد : المسؤول في هذه المسألة أشهب ، وقوله فيها معلوم من مذهبه في الواضحة وغيرها أن قولهم لا يقبل منهم إذا لم يظهروه قبل أن يؤخذوا ، قال في الواضحة : والمسلم كان أحق بالتصديق إذا أخذ سكراناً أو زانياً فقال : تزوجت أو أكرهت على الشرب فلا يقبل منه ويقام عليه الحد ، قال : فكذلك هؤلاء إذا لم يظهروا ذلك قبل أن يؤخذوا لم يقبل منهم ويكون الوالي فيهم بالخيار إن شاء قتل وإن شاء استحيي واسترق للمسلمين إلا أن يسلموا فيكونوا عبيداً للمسلمين ولا يقتلون ، قال عبد الملك وهو من أحسن ما سمعت فيه ، وقد سألت عنه غير واحد فقالوه واستحسنوه ، وقد مضى تحصيل الخلاف في هذه المسألة مجوداً في رسم الجواب من سماع عيسى فغنى ذلك عن إعادته ها هنا .
مسألة
وسئل عن الأسير من أهل الحرب يستأذن سيده المسلم أن يخيله على أن يأتيه بابن نفسه وبامرأته وبأبي نفسه على ذلك

(3/71)


فداؤه فيفعل فيأتي بهم فيزعمون أنهم خرجوا معه بعهد ويقول الآخر بل سرقتهم أو غنمتهم ما ترى في ذلك ؟ فقال : يقبل في ذلك قول الذي جاء بهم ولا يقبل قولهم فيه .
قال محمد بن رشد : المسؤول في هذه المسألة أشهب دليل عطفها على ما قبلها والله اعلم ، وإنما قال : إن القول في ذلك الذي جاء بهم من أجل أنه خرج من عند سيده على أن يأتي بهم جعل ذلك شبهته توجب أن يكون القول قوله وإلى هذا ذهب أحمد بن ميسر ونص على العلة فقال : لأنه سبق له أمان قبلهم ، وقال ابن المواز : القول قولهم ولم يراع ما أطلقه سيده عليه ، ولو أتى بهم دون سبب متقدم لكان القول قولهم باتفاق إلا أن يكونوا في وثاقه على ما مضى في رسم الكبش من سماع يحيى وفي سماع سحنون وبالله التوفيق .
مسألة
وسئل عن إمام الجيش هل يسهم له من الفيء كسهمان الناس أو أهل له رأس الفيء أو الخمس شيء أم لا ؟ فقال : إنما والي الجيش كرجل منهم له مثل الذي لهم وعليه مثل الذي عليهم .
قال محمد بن أحمد : لا حق للإمام من رأس الغنيمة عند مالك وجل أهل العلم وما جاء من أن النبي صلى الله عليه وسلم كان له شيء يصطفيه من رأس الغنيمة فرس أو عبيد أو أمة أو بعير على حسب حال الغنيمة خصوص له اجمع العلماء على ذلك إلا أبا ثور حكي عنه ما يخالف هذا الإجماع ، فقال : الآثار

(3/72)


في الصفي ثابتة ولا أعلم شيئاً نسخها فيؤخذ الصفي ويجري مجرى سهم النبي ، عليه السلام ، وكذلك لا حق له عنده في الخمس إلا الاجتهاد في قسمته بدليل قول النبي ، عليه السلام ، "ما لي مما أفاء الله عليكم ولا مثل هذه إلا الخمس والخمس مردود عليكم" ، ومن أهل العلم من ذهب إلى أن الخمس مقسوم على الخمسة الأصناف المذكورين في الآية بالسواء ، وأن سهم النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته للخليفة بعده ، وأن سهم قرابته لقرابة الخليفة بعده وفي هذا أثر مرفوع إلى النبي ، عليه السلام ، أنه قال : "إذا أطعم الله نبياً طعمة فهي للخليفة بعده" .
مسألة
وسئل أيضاً عن العبد من أهل الحرب يخرج بامرأته وولدها وملكه للمسلم فيقول العبد خرجوا معي بعهد وينكر ذلك سيده والعبد معروف بالسبي والتلصص في أرض العدو ، قال : القول قول العبد في ذلك .
قال محمد بن رشد : وهذا كما قال لقول النبي ، عليه السلام : "يجير على المسلمين أدناهم" .

(3/73)


مسألة
وسئل عن سرية خرجت فشد منها رجل فأسره العدو فذهبوا به فطلبتهم الخيل فلما أحسوا طلبوا من الأسير الذي في أيديهم الأمان فأمنهم وأدركتهم الخيل هل يجوز لهم أمان المسلم على تلك الحال أم لا ؟ قال : إن كان أمنهم وهو آمن على نفسه فذلك جائز ، وإن كان خائفاً فليس ذلك بجائز ، وقول الأسير في ذلك مقبول .
قال محمد بن رشد : زاد ابن المواز في هذه المسألة وإن اختلف قوله أخذ بقوله الأول ، وقال سحنون : لا يجوز أمانه ولا يصدق أنه كان غير خائف إذ لا يقدر إذا طلبوا منه الأمان إلا أن يؤمنهم ، واختلف أيضاً إذا أطلقوه على أن يؤمنهم بشرط ، ولم يختلف في أن أمانه جائز إذا أمنهم بعد أن أطلقوه وهو آمن على نفسه ، ولا في أن أمانه لا يجوز إذا قالوا له تؤمننا وإلا قتلناك ، هذا تحصيل هذه المسألة وقد مضى ذلك في أول سماع عيسى .
مسألة
وعن رجل أبقت منه علجة فأصابها بعد ذلك بسنين فوجد معها أولاداً فزعم أن أولادها منه ، قال : أولادها منه إن كانوا في بطن وإن كانوا ليس في بطن ألحق به البطن الأول منهم إلا أن يدعي استبراءاً قبل إباقتها فيكون ذلك له .
قال محمد بن رشد : وهذا كما قال إذ لا اختلاف فيمن ادعى ولد امرأة فزعم أنها كانت له زوجة أو ملك يمين أن قوله مقبول ويلحق به نسبه إلا أن يتبين كذبه بأن تكون قد ولدته لأكثر مما تلده النساء من يوم باعها

(3/74)


إن كانت أمة أو طلقها إن كانت حرة فإذا أبقت من الرجل العلجة بعد أن وطئها وقبل أن يستبرئها فوجد معها أولاداً لا يعلم متى وضعتهم فادعاهم وجب أن يلحقوا به إلا أن يكونوا ليسوا بني بطن فلا يلحق به إلا البطن الأول لتبين كذبه في البطن الثاني إذ لا يمكن أن يكون ولدان من وطء واحد ويكون بين وضعهما ستة أشهر فأكثر إلا أن يدعي استبراء قبل إبقاتها فلا يصدق ولا يلحق به الولد . وقوله في الرواية فيكون ذلك له ليس بوجه الكلام ، وإنما كان من حقه أن يقول فلا يصدق ولا يلحق به الولد ولو علم أنها وضعتهم لما يلحق به الأنساب لوجب أن يلحقوا به وإن لم يدعهم إذا ادعت أنهم منه ، إلا أن يدعي استبراء قبل إباقتها فيكون ذلك له ولا يلحق به الولد إلا أن تكون وطئت في بلد الحرب ، فإن كانت قد وطئت في بلد الحرب على وجه الملك لم يلحق به الولد إذا أنكره وأقر بالوطء ولم يدع الاستبراء إلا بالقافة ، ولو كانت إنما وطئت في بلد الحرب على وجه الزنى ما لحق به الولد بغير قافة ، لقول النبي ، عليه السلام : "الولد للفراش وللعاهر الحجر" وكذلك يلزم على قياس قول من يقول من أبق منه عبده إلى بلد الحرب أن صاحبه يأخذه ممن اشتراه من الحربي أو صار له في المغانم بغير ثمن ولو علم أنها وضعته لما لا يلحق به الأنساب منه لما أحلقوا وإن ادعاهم .
مسألة
وسئل عن فرس حبس أبدله صاحبه بفرس حبس فأصيب بأحدهما عيب هل ترى له أن يرده لما وجد به من العيب ويأخذ فرسه ؟ قال : نعم ، وبئس ما صنعا حين تبادلا ، ولو لم يجد به عيباً

(3/75)


ثم أراد أحدهما أن يرده رأيت ذلك له إلا أن يكونا تبايعا ذلك من عصاص أو حطم أو ضعف عن الجهاد فيجوز ولو كان ذلك في أحدهما والآخر سليم رأيت أن يرد السليم منهما إلى صاحبه .
قال محمد بن رشد : أما قوله إذا تبادلا بالفرسين الحبيسين فوجد بأحدهما عيب فصحيح لا اختلاف فيه إذ لايصح أن يلزم العيب من لم يرض به في المبادلة كما لا يصح في المبايعة . قال ابن أبي زيد : ولو وجد بأحدهما عيب وأصيب الآخر لرد المعيب وأخذ قيمة فرسه الفائت وحكاه عن ابن القاسم من كتاب ابن المواز وهو بعيد لا وجه له إلا أن يكونا تبايعا ذلك من عصاص أو حطم أو ضعف عن الجهاد لأن من اشترى فرساً حبيساً فتلف عنده كان له أن يرجع بالثمن ولو لم يكن عليه ضمان كمن اشترى عبدا فمات عنده ثم استحق بحرية . وأما قوله إن لمن أراد منهما الرد أن يرد وإن لم يجد عيباً فإنه كلام فيه نظر ، لأنه إذا لم ير المبادلة بينهما جايزة إلا أن يكونا تبايعا ذلك من عصاص أو حطم أو ضعف عن الجهاد وكما قال فكان يلزم على قوله أن يقول : إن الترداد لازم لهما لفساد المبادلة بينهما . والأظهر أنها جائزة وأنه لا رد لأحدهما إلا أن يجد عيباً على ما في المدونة من إجازة المبادلة في طعام العدو ببلد الحرب إذ لا فرق ين المسألتين لأن الطعام لا يملك أخذه في بلد الحرب وإنما له الانتفاع بأكله في بلد الحرب فهو كالفرس الحبيس الذي لا يملك وإنما للذي هو بيده الانتفاع بركوبه في السبيل ، فهذه الرواية تأتي على ما روي عن مالك من أن المبادلة في ذلك كالمبايعة لا تجوز . وأما قوله ولو كان ذلك في أحدهما

(3/76)


والآخر سليم رأيت أن يرد السليم منهما إلى صاحبه يريد ويرد المعيب أيضاً إلا أن يفوتا فتكون فيه القيمة على حكم البيع الفاسد إذ لا يختلف في فساد البيع إذا كان أحدهما سليماً لا يجوز بيعه والآخر منتقصاً لا يصلح للجهاد يجوز بيعه فإن كانا منتقصين جازت المبادلة فيهما باتفاق إلى على مذهب من لا يجيز بيع الفرس الحبيس وإن انتقص ولم ينتفع به في الجهاد ، وإن كان أحدهما منتقصاً لم تجز المبادلة فيهما باتفاق ، وإن كانا جميعاً متناقضين فعلى ما ذكرناه من الاختلاف .
مسألة
وسئل عن الحر المسلم يشتري في أرض العدو بأضعاف الثمن قال : يأخذه به أي يتبعه بكل ما اشتراه به قليل أو كثيراً على ما أحب أو كره وهو حر ولا يرق نفسه .
قال محمد بن رشد : قد مضى في أول رسم من سماع أشهب القول في هذه المسألة فلا وجه لإعادته وبالله التوفيق .
مسألة
وسمعته وسئل عن علج دخل بأمان في فداء امرأته ففداها بسبعين ديناراً من صاحبها وأرهنه ابناً له كان معه حتى يأتي بها فذهب فلم يأت ما سبيل ذلك الابن ؟ قال : يستأنى به ، فإن جاء وإلا بيع عليه رقيقاً واستوفى ماله فإن فضل فضل حبسه لصاحبه حتى يأتي .
قال محمد بن رشد : هذه مسألة صحيحة على ما في المدونة من أنه يجوز لنا أن نشتري من أهل الحرب أولادهم إذا باعوهم منا ولم يكن بيننا وبينهم هدنة . وذهب كثير من أهل النظر إلى أن مسألة رسم المكاتب من سماع

(3/77)


يحيى معارضة لهذه المسألة ولما في المدونة ، والصواب ألا تعارض على ما مضى القول فيه هناك وبالله التوفيق .
مسألة
وسئل عن علج من العدو أسر فبلغ الإمام بالصياح عليه فبلغ أحد عشر ديناراً ثم رأى الإمام قتله فأراد أن يقتله . قال ذلك له يقتله . قال اصبغ : بل أرى إن كان إنما صاح على بيعه تجربة ليعرف ما يبلغ فيرى رأيه ، فذلك له كما قال ، وإلا فلا .
قال محمد بن رشد : قول أصبغ صحيح ينبغي أن يحمل على التفسير لقول القاسم لأن الأمان شديد ، فإذا أمر الإمام بالصياح على الأسير لبيعه ويقسم ثمنه عازماً على ذلك فقد استرقه للمسلمين وحرم قتله .
مسألة
قال أصبغ : وسألت ابن القاسم وسئل عن السرية تبعث في أرض العدو فيجعل لها ثلث ما أصابت أو ربعه أو جزء منه ، فكره ذلك ونهى عنه ، وقال أصبغ : ولا أرى للوالي أن يفعل ذلك بالناس فيفسد نياتهم في الجهاد ويرغبون في الإصابة ويخرج منهم من لا يريد إلا الدنيا وطلبها ، فهذا فساد عظيم يصنع بالناس يقتتلوا في طلب الدنيا والتماسها وغير الجهاد في سبيل الله ، ولا أرى لمن خرج معهم في مثل هذا ان يأخذ منهم شيئاً مما جعل ، ولا يخرج

(3/78)


في سريتهم ولا أرى بالخروج معهم بأساً لمن لا يريد أن يأخذ من ذلك شيئاً إذا صحت نيته ولم يخرجه إلا حب الجهاد والرغبة فيه ، وقد بلغني عمن بلغه أنبعض أهل العلم والفضل قد خرج معهم ، ولا أرى ما يأخذون حراماً ولا أرى بخروج السرايا افتداء على غير هذا ، ولا ببعثة السرايا وانتشارها سراً وعلانية بأساً ولم تزل السرايا من أمر الجهاد وسيرته وقوته ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يرد على المسلمين أقصاهم ، فالسرايا من ذلك تصير وتصيب وترد على الجيش والعسكر وعنهم ، ولا أرى أن تكون السرايا إلا كتيفة وتقاوة وشجاعة وإن قلوا ، فقد يكون الرجل خيراً من كثيبة وخيراً من عدد وخيراً من مائة ما لم يبعثوا القلة على الجماعة الحصون وما أشبهه من الجموع ولا ينبغي أن تكون السرية غدراً ولا إلى الموضع غرة ولا غرراً ، قال : ووهن السرية وهن العسكر وغررها غرر العسكر .
قال محمد بن رشد : هذا معلوم من مذهب مالك في المدونة وغيرها أنه لا يجوز للإمام أن ينفل قبل القتال ليلاً يرغب الناس في المال فتفسد نيتهم في الجهاد فإن وقع ذلك مضى للاختلاف الواقع في ذلك والآثار المروية فيه ، من ذلك ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمرو بن العاص : هل لك أن أبعثك في جيش فيسلك الله ويغنمك وأرغب لك في المال رغبة صالحة وما روي من أنه كان ينفل السرايا في البدأة الثلث وفي الرجعة الربع وانه نفل صلى الله عليه وسلم في البدأة الربع وحين نفل الثلث . وذهب إليه جماعة من

(3/79)


العلماء ، وقال أكثرهم لا يزيد على الثلث لأنه أكثر ما روي ، ومنهم من ذهب إلى أنه إنما ينفل الربع أو الثلث بعد الخمس ومنهم من ذهب إلى أن له أن ينفل السرية كلما غنمت . وأما مالك ، رحمه الله ، فلا يجيز النفل قبل القتال ولا يراه بعد القتال إلا من الخمس لأن قسمة الخمس عنده مصروفة إلى اجتهاد الإمام والأربعة الأخماس للغانمين ، فلا يجيز للإمام أن يعطي أحداً منها فوق سهمه . ومن أهل العلم من قال إن النفل لا يكون إلا من خمس الخمس ذهب إلى هذا من رأي أن الخمس يقسم بالسواء ين الخمسة الأصناف المذكورة في الآية . ومنهم من أجاز للإمام أن ينفل من رأس الغنيمة قبل الخمس على ما قد ذكرنا من مذهب من أجاز الإمام أن ينفل السرية كلما غنمت ، ومنهم من قال لا ينفل من الخمس ، وإنما ينفل من الأربعة الأخماس بد إخراج الخمس على ما قد ذكرناه في حكم تنفيل السرية أيضاً وما ذكره من كراهة التغرير للسرية صحيح ينبغي للإمام ألا يأذن في ذلك ويمنع منه . قال سحنون في كتاب ابنه : وأصحابنا يرون في سرية تخرج في قلة وغرر بغير إذن الإمام أن للإمام منعهم الغنيمة أدباً لهم . قال سحنون : فأما جماعة لا يخاف عليهم فلا يحرمون الغنيمة وإن لم يستأذنوه يريد وإن أخطأوا .
مسألة
قال أشهب : سئل مالك عن الرجل من أهل الإسلام يسبى أعلى المسلمين أن يفتدوه بكل ما يقدرون عليه ؟ قال مالك : نعم إن لم يقدروا على افتدائه إلا بكل ما يملكون فذلك عليهم .

(3/80)


قال محمد بن رشد : قد مضت هذه الرواية لأشهب في أول سماعه والقول عليها هناك فلا معنى لإعادته .
مسألة
قال أشهب : في الروم يطلبون من المسلمين في المفادة الخمر والخير والسلاح قال : أما الخيل والسلاح فلا بأس ، وأما الخمر فلا يصلح لأنه لا ينبغي لأحد أن يدخل في نافلة من الخير بمعصية .
قال محمد بن رشد : ظاهر قول أشهب هذا أنه أجاز أن يفدي الأسير بالخيل والسلاح وإن كثر ذلك إذا لمي قدر إلا على ذلك ، وهو نص قول سحنون خلاف ما ذهب إليه ابن حبيب من أنه إنما يجوز ذلك ما لم يكن الخيل والسلاح أمراً كثيراً يكون لهم به القوة الظاهرة . وأجاز سحنون أيضاً أن يفدى منهم بالخمر والخنزير والميتة قال : ويأمر الإمام أهل الذمة أن يدفعوا ذلك إليهم ويحاسبهم بقيمته في الجزية فإن أبوا لم يجبروا على ذلك ، ولم يكن بأس بابتياع ذلك لهم ، وهذه ضرورة . وقد روي عن ابن القاسم أن المفاداة بالخمر أحق منها بالخيل والسلاح ، وهو كما قال ، إذ لا ضرر فيه على المسلمين في المفاداة منهم بالخمر وعليهم الضرر في المفاداة منهم بالخيل ، وقول أشهب في تفرقته بين الخيل والسلاح وبين الخمر : لأنه لا ينبغي لأحد أن يدخل في نافلة من الخير بمعصية ليس بصحيح ، لأن بيع الخيل والسلاح منهم معصية كما أن بيع الخمر منهم معصية ، فإذا جاز أن يعطوا الخيل والسلاح في فداء مسلم لحرمة المسلم كان أجوز يعطوا فيه الخمر لحرمة المسلم ، إذ لا ضرر في ذلك على المسلمين

(3/81)


والدخول في نافلة من الخير بمعصية إنما هو مثل أن يسرق مال أحد أو يغصبه فيفدي به أسيراً أو يفعل به خيراً وما أشبه ذلك ، وسواء على مذهب ابن القاسم كان الأسير في بلد الحرب أو قدم به بأمان إلى بلد المسلمين ، إذ له على مذهبه أن يرجع به إلى بلده غ ، شاء خلاف ما ذهب إليه ابن حبيب من أنه لا يمكن من الرجوع به إلى بلده ويؤخذ منه بالقيمة شاء أو أبى وقدم تقدم في سماع يحيى وسحنون ما دل على هذا المعنى ، ومن فدى مسلماً بخمر أو خنزير أو ميتة فلا رجوع له عليه بشيء إلا أن يكون المعطي ذمياً فليرجع عليه بقيمة الخمر والخنزير والميتة إن كانت مما يملكونها .
قال سحنون في كتاب ابنه ومعناه إذا فداه بذلك من عنده ، وأما إن ابتاعه ليفديه به فإنه يرجع عليه بالثمن الذي اشتراه به والله تعالى هو الموفق لا رب غيره .
ومن مسائل نوازل سئل عن أصبغ
قيل لأصبغ أرأيت من قد دعي إلى الإسلام أو الجزية غير مرة فأبى فجوهد وجاهدوا وحاربوا وسبوا أيدعى هؤلاء أبداً ؟ قال أصبغ : أما الجيوش الظاهرة الغالبة والصائلة فإني أرى الدعوة عليهم ولا أرى لهم أن يقاتلوا قوماً ولا حصناً إلا بدعوة ، لأن هؤلاء لم يخرجوا بطلب غرة ولا انتهاز فرصة وإنما خرجوا قاهرين ظاهرين لتخريب العامر وللإدخال في الإسلام وما أشبه هذا ، وأما السرايا وما أشبهها التي تطلب الغرر وانتهاز الفرصة فلا أرى على هؤلاء في مثل من وصفت دعوة ولو دعي مثل هؤلاء لكان إنذاراً على أنفسهم وتجليباً عليهم . قال : وهذا أحب ما سمعت إليه مع ما جاء من الاختلاف في الدعوة . قد قال جل الناس : إنها قد بلغت العالم

(3/82)


جميعاً . قال أصبغ : وقد بلغني أن عمر بن عبد العزيز كتب ألا تقاتلوهم حتى تدعوهم ، فإنا إنما نقاتلوهم على الدين وإنما تخيل إليهم وإلى كثير منا أنا إنما نقاتلوهم على الغلبة ، فلا تقاتلوهم حتى تبينوا لهم .
قال محمد بن رشد : الكفار في حكم دعائهم إلى الإسلام قبل القتال على ثلاثة أقسام : أحدها أن يكونوا ممن لم يبلغه أمر النبوة والإسلام ، والثاني أن يكونوا قد بلغه أمر النبوة والإسلام إلا أنهم يجهلون أنهم إنما يقاتلون ليدخلوا في الإسلام أو يؤدوا الجزية ويظنون أنهم يقاتلون ليغلبوا ويسترقوا لا لما سوى ذلك ، والثالث أن يكونوا يعلمون أنهم إنما يقاتلون على الإسلام ليدخلوا فيه أو يؤدوا الجزية . والدعوة في القسم الأول والثاني واجبة قبل القتال في الجيوش إلا أن الحكم يفترق فيهما ، إن قوتلوا قبل ، وبين أن يدعوا ويسبوا فلا يمضي ذلك في أهل القسم الأول ، ويمضي في أهل القسم الثاني . وقد قال جل أهل العلم ، إن دعوة الإسلام قد بلغت جميع العالم فعلى هذا يسقط القسم الأول وهي في القسم الثالث غير واجبة على السرايا لا يلزم أن يتقدم إليهم قبل بعث السرايا إليهم لعلمهم بما يتقدم به إليهم . وذلك جائز للإمام أن يفعله إن شاء ، وأما أمير السرية إذا دخل فلا يجوز له الدعوة ولا يحل لأن في ذلك تجليباً للعدو على نفسه وإهلاكاً لها ، واختلف في وجوبها على الجيوش والصوائف فأوجبها أصبغ في هذه الرواية ظاهر قوله وإن لم يرجوا أن يستجيبوا لهم إذا دعوهم . وقد قيل إنه إنما يجب عليهم أن يدعوهم إذا رجوا أن يجيبوهم إذا دعوهم أو أيقنوا

(3/83)


بذلك ، وهو قول يحيى بن سعيد في المدونة : ولعمري إنه للحق على المسلمين ألا ينزلوا بأحد من العدو في الحصون ممن يطمعون بهم ويرجون أن يستجيب لهم إلا دعوه . وقد قيل إنه إنما يجب عليهم إذا أيقنوا أنهم إن دعوهم أجابوهم لخوفهم من تغلب المسلمين عليهم .
وأما إن لم يوقنوا بذلك ورجوه استحبت لهم الدعوة ، وإن علموا أنهم لا يجيبونهم جازت لهم ولم تستحب ، والذي يأتي على مذهب مالك أنها غير واجبة وأن أيقنوا بإجابتهم ، وهو قول سحنون في كتاب ابنه لأنه أنكر التفرقة وقال : إن وجبت فعلى الجميع ، وإن لم تجب سقطت في الوجهين يريد أن تسقط في هذا القسم عن الجيوش كما تسقط عن السرايا ، وأنها تجب في القسم الأول والثاني أو في القسم الثاني إن سقط القسم الأول على السرايا كما يجب على الجيوش والصوائف ، وأما إن شك في بلوغ الدعوة إليهم فمن بد عن الدرب محمولون على أن الدعوة لم تبلغهم لم يختلف في ذلك قول مالك ، واختلف قوله فيمن قرب من الدروب في المدونة فمرة حملهم على أن الدعوة لم تبلغهم فأوجب دعاءهم قبل القتال ، ومرة حملهم على أن الدعوة قد بلغتهم فلم يوجب دعاءهم قبل القتال . فهذا وجه اختلاف قول مالك في المدونة والله أعلم ، وإذا سقطت الدعوة ووجب القتال لم يوذنوا واستعمل في حربهم ما أمكن من المكر والخديعة فقد قال صلى الله عليه وسلم : "الحرب خدعة" .
مسألة
قيل لأصبغ فلو أن عبداً من المغنم أبق ولحق بدار الحرب ثم غنم أيكون غنيمة مبتدأة أم يرد إلى الغنيمة الأولى ؟ قال بل يرد إلى الغنيمة الأولى الذين كانوا غنموه ولا يكون فيه إلا خمس واحد ، ولا يكون لهؤلاء الذين غنموه ءاخراً قليل ولا كثير إلا أن يكون إباقه

(3/84)


بحدثان الآخذ وفوره قبل استحكام الغنيمة ، فيكون كما لم يوسر مثل الذي ينفلت من الآخذ ومن الرباط وينسل ويختفي في سوقه وما أشبه ذلك .
قال محمد بن رشد : وهذا كما قال : لأن العبد إذا استحكمت غنيمته فقد وجب لغانميه بعد تخميسه ، فإذا أبق ثم غنمه آخرون فهم أحق به إن أدركوه قبل القسم بغير ثمن وبعده بالثمن إن شاؤوا أن يأخذوه .
مسألة
وسئل أصبغ عن أهل الذمة يخرجون غزاة إلى أرض الحرب متسررين متلصصين ليس معهم أحد من أهل الإسلام أو لعل معهم النفر إلا أنهم الغالب على السرية وإلا كثر ، أترى أن يتركوا وذلك ، أو يخرج منهم الواحد والإثنان والثلاثة متلصصين متسررين هل الواحد عندك والكثير سواء ؟ فقال أرى أن يمنعا من ذلك منعاً شديداً ويزجروا عنه ، وذلك لوجهين ، أما أحدهما فمن أجل أن الرسول ، عليه السلام ، قال : "لن أستعين بمشرك" ، والوجه الآخر أنهم يعملون بعمل الشرك فيستحلون ما نهي عنه من قتل النساء والصبيان والغلول وغير وجه واحد ، ولا يجهاد عدو الله إلا بسنة وإصابة ودعوة ، وإن أهل ذمة المسلمين بمنزلتهم لأن منعهم وتركهم إليهم ، فإن كانوا قد غزوا وأصابوا تقدم إليهم ونهوا عن العودة وتركت غنيمتهم بأيديهم ، ولا يؤخذ منهم شيء إلا أن يكون معهم مسلم فيخمس سهمانه وحده ، والقليل والكثير سواء إذا انفردوا ، هكذا يمنعون أشد المنع .
قال محمد بن رشد : قد تقدم القول على هذه المسألة في أول سماع يحيى فلا معنى لإعادته .

(3/85)


مسألة
قيل لأصبغ فالعبيد يجتمعون فيسرون كنحو هؤلاء وهم مسلمون فيصيبون العمل والسنة في الغزو والإصابة وقد أذن لهم أربابهم فقال هؤلاء مثلهم أرى أن يمنعوا أيضاً وليس من وجه أنهم لا يصيبون ، ولكن من وجه أنهم لا حق لهم في الفيء ولا خمس في غنيمتهم ، فإن وقع وغنموا رأيت أن يترك ذلك لهم ، ولا يخمسوا ويتقدم إليهم إلا يعودوا ويمنعوا أشد المنع .
قال محمد بن رشد : ابن القاسم يرى في غنيمتهم الخمس ، وقد مضى ذلك من قوله في سماع يحيى ، فعلى قوله لا يمنعون من الغزو منفردين لأن الخطاب في قول الله تعالى { واعلموا إنما غنمتم } الآية ، وإن كان متوجهاً إلى الأحرار والعبيد تبع لهم إذا كانوا في جملتهم ، فهو يراهم بمنزلتهم ، إذا انفردوا قياساً عليهم في أن الخمس عليهم والأربعة الأخماس لهم ، فكذلك يجب أن يكونوا بمنزلتهم في أن لا يمنعوا من الغزو ، وبالله التوفيق .
مسألة
وسئل أصبغ عن أناس من المسلمين كانوا في كمين ناحية العدو فغشيهم العدو فبادروا إلى دوابهم فأخذ كل واحد منهم دابة صاحبه على العمد ممن أخذ أو أخطأ فأصيب بعض الدواب وسلم بعضها ، وكيف إن أصيب خيارها كيف الأمر فيه ؟ قال : أراه ضامناً عمداً كان أو خطأ لأنها أصيبت تحته .

(3/86)


قال محمد بن رشد : لمالك في رسم يتخذ الخرقة من سماع ابن القاسم من كتاب الجنايات نحو هذه المسألة فإنه يعذر بالخوف في بلد الحرب في السفر ويسقط عنه الضمان . وقال سحنون هناك إنه ضامن مثل قول أصبغ ها هنا وهو الأظهر على أصولهم في أن الأموال تضمن في العمد والخطأ ، ونهاية ما في هذا أن يجعل بالخوف في حكم المغلوب عليه كالمكره ، ومن قولهم إن من أتلف مال غيره مكرهاً لا يعذر بالإكراه ويجب عليه الغرم .
مسألة
وسئل أصبغ عن الوالي ينزع من جماعة المسلمين وهو في حصن من حصون المسلمين فيصالح العدو الذي يلونه ويستمد بهم على المسلمين فهل يحرمون بذلك الصلح على الإسلام . قال : أما ما لم يغيروا بعد معاهدته إياهم وأمسكوا فلا أرى أن يستحلوا ، وأما إذا عابوا وأعاروا لهواء ما بينه وبينهم فقاتلوا المسلمين بهذا الوجه فأرى أن يقاتلوا وأن يستحلوا فأرى أمرهم حينئذ أن يكونوا كاللصوص هم وهو ويكونون ناقضين ، لأن هذه ليست معاهدة ، إنما المعاهدة الإمساك فإن لم يمسكوا قوتلوا .
قال محمد بن رشد : مثل هذا لأصبغ في الثامن من الثمانية حرفاً بحرف وهو مفسر لقول ابن القاسم في سماع يحيى .
مسألة
قيل لأصبغ فلو رجلاً دخل أرض الحرب بسويق له بلا لتات فلته بإدام من المغانم أو ثوباً فصبغه بصبغ من المغانم ثم

(3/87)


خرج به ، ما ترى في ذلك ؟ . قال أصبغ إن كان الذي زاد فيه اللت والصبغ الزيادة التافهة اليسيرة فلا أرى عليه تمخياً منه بمنزلة لو خرج بالإدام نفسه والصبغ ، وإن كان زاد فيه زيادة ذات بال وقد كان شريكاً بقيمة ثوبه أو سويقه بلا صباغ ولالت وتمخي من سائر ذلك .
قال محمد بن أحمد : وهذا بين كما قال لأن الصباغ واللتات عين قائمة في جميع الأحكام من المرابحة والعيوب والاستحقاق والسرقة وغير ذلك فوجب أن يكون في هذه المسألة كذلك إلا أن في مساواته في اليسير بين الصبغ والإدام نظراً لأن له أن يخرج من الإدام يسيراً وليس له أن يخرج من الصبغ بماله ثمن وإن قل ، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم "شراك وشراكان من نار" ، فالصواب أن عليه أن يتمخى في الصبغ من قليله وكثيره .
من سماع أي زيد بن أبي الغمر من ابن القاسم
مسألة
قال أبو زيد سئل ابن القاسم عن النصراني يشتري النصراني ثم يخرج العبد إلى أرض العدو فيسلم ثمة ، ثم يأسره المسلمون . قال هو حر ولا يقع في المقاسم .

(3/88)


قال محمد بن رشد : هذه مسألة خارجة عن أصل المذهب في أن أهل الذمة وأهل الإسلام سواء فيما حازه أهل الحرب من أموالهم ؛ بسببي منهم أو إباق من العبيد إليهم ثم سباه المسلمون بعد ذلك أنهم أحق به إن أدركوه قبل القسم بغير ثمن ، وإن لم يدركوه حتى قسم كان لهم أن يأخذوه بالثمن الذي وقع به في المقاسم إن شاؤوا ، والذي يأتي فيها على المذهب أنه لا يكون إذا سبي حراً ويكون سيده أحق به قبل القسم بغير ثمن وبعده بالثمن إن شاء ، ويباع عليه لإسلامه ، لأن إسلام عبد الذمي لا يسقط ملك سيده عنه بإجماع ، وكذلك إباقه إلى بلد الحرب لا يسقط ملك سيده عنه على المذهب فوجب أن يكون له إذا سبي أسلم أو لم يسلم ، ويباع عليه إن أسلم ، وإنما يصح جوابه فيها على مذهب من يقول إن أهل الحرب يملكون على المسلمين وأهل الذمة ما صار إليهم من أموالهم ، فلا يكون لهم إليها سبيل وإن أدركوا قبل القسم ، ولا يكون العبد حراً إذا أسلم في بلد الحرب فسباه المسلمون أو خرج إليهم مسلماً إلا إذا كان سيده حربياً كعبيد أهل الطائف الذين أسلموا أو خرجوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأعتقهم بخروجهم إليه ، وإنما كان يصح جوابه لو خرج النصراني بالنصراني الذي اشترى إلى بلد الحرب ناقضاً للعهد فأسلم العبد في بلد الحرب ثم غنمه المسلمون ، ولو قدم السيد الحربي قبله بأمان فأسلم أو لم يسلم ثم سبي العبد بعد ذلك لتخرج على الاختلاف الواقع في المدونة وغيرها في تغليب حكم الدار ، وقد ذكرنا ذلك في أول رسم المكاتب من سماع سحنون ، وفي سماع سحنون ، ويأتي أيضاً في رسم الجواب من سماع عيسى من كتاب التجارة إلى أرض الحرب ، وبالله التوفيق .
مسألة
وعن الرجل يجد الغنيمة في أرض العدو فيتركها ولا يأخذها

(3/89)


كراهية أن تتعب ذاته بحملها إلى العسكر . فقال : أراه في سعة من ذلك ولا يلزمه حملها إلا أن يكون شيئاً نفيساً من متاع أو جوهر فلا أرى أن يتركه .
قال محمد بن رشد : أوجب عليه فيما كان شيئاً نفيساً من متاع أو جوهر لا مؤنة عليه في حمله إلى الذي جمع عنده الغنائم في العسكر أن يحمله ولا يتركه يضيع ، بخلاف اللقطة التي اختلف في الأفضل من أخذها أو تركها على ثلاثة أقوال . أحدها أن تركها أفضل رجاء أن يرجع صحابها فيجدها والثاني أن أخذا أفضل مخافة أن يتركها فيجدها من يذهب بها ولا يعرفها . والثالث الفرق بين اليسير والكثير ، والأول مذهب أبي عمران والأخيران لمالك ، لأن اللقطة إن أخذها لزمه تعريفها ، وربما لم يجد صاحبها ، وإن تركها ربما رجع عنها صاحبها فوجدها حيث سقطت منه ، وهذا إن تركه ضاع ، وإن أخذه لم يلزمه لأنه يبرأ بدفعه إلى صاحب الغنائم ، فهو كمن وجد لقطة يعلم صاحبها ويوقن أنه إن تركها ولم يأخذها ضاعت ، وبالله التوفيق .
مسألة
قال ابن القاسم لو أن رومياً أهدى إلي ابنته لم يكن به بأس أن أطأها أو غير ابنته ، ولو سبى رومي جارية ممن بيننا وبينه هدنة مثل النوبة وما أشبههم لم ينبغ أن أشتريها ولا أطأها .
قال محمد بن رشد : هذا مثل ما في التجارة إلى أرض الحرب من المدونة سواء ، ومثل ما قد مضى لأشهب في سماع أصبغ في جواز الارتهان وليس ما مضى في سماع يحيى بخلاف لشيء من ذلك على ما بيناه فيه .

(3/90)


مسألة
وعن قوم خرجوا إلى العدو ، فلما التقوا دفع علج منهم إلى رجل من المسلمين دنانير ، قال هو أحق بها قيل له وإن دفعها إلى وال ؟ قال : أما الوالي فلا أدري كأنه يراها فيئاً للمسلمين .
قال محمد بن رشد : قد مضى القول على هذه المسألة مستوفى في أول رسم من سماع عيسى فلا معنى لإعادته .
مسألة
وعن الرجل من الروم يدخل أرض الإسلام بصلح في تجارة أو غير ذلك ، فيدخل معه رقيقاً له مسلمين أيباعون عليه فيعطى أثمانهم أم يعتقون أم يقرون بيده يخرج بهم إلى أرضه أم كيف يفعل بهم ؟ قال لا يتركون وذلك ، ويمنعون من ذلك أشد المنع يتقدم إليهم في النهي عن ذلك فإن عادوا عوقبوا .
قال محمد بن أحمد : قد مضى في سماع سحنون أن لهم أن يرجعوا بهم إن شاؤوا ومثله في سماع سحنون من كتاب التجارة إلى أرض الحرب أيضاً ، وهو المعلوم من مذهب ابن القاسم وقد مضى القول عليه في موضعين من سماع سحنون وفي سماع من كتاب التجارة إلى أرض الحرب من قول ابن القاسم ما يعارض المعلوم من مذهبه في ذلك ، وسنبين ذلك إذا مررنا به إن شاء الله .
مسألة
قال ابن القاسم في رجل اشترى المرأة من السبي أسرت فحملت منه ثم جاء أهلها يريدون لها الفداء ، أترى للسيد أن يفعل ؟

(3/91)


قال : لا ، قيل له : فلو أعتقها ؟ قال فلا أرى بأساً أن يدفعها في الفداء بعد أن يستبرئ رحمها من مائه . قيل له فلو كانت قد ولدت منه ؟ قال : نعم .
قال محمد بن أحمد : أما إذا كانت حاملاً منه فلا إشكال في أنه لا يجوز أن يدفعها في فداء مسلم ولا في مال يأخذه ، لأن ولده منها في بلد الحرب يتنصر أو ينصر إن فعل ذلك وأما إذا أعتقها أو ولدها فإنما يجوز أن يدفعها في فداء مسلم لا في مال يأخذه برضاهما على أن لا يسترقا . قال ذلك ابن أبي زيد قياساً على قول سحنون في إجازة دفع الذمي برضاه في فداء مسلم على ألا يسترق ، وبالله التوفيق .
مسألة
وسئل ابن القاسم عن الأسير هل يجوز قضاؤه في ماله إذا قامت على قوله البينة أم لا يكون ذلك إلا في ثلث ماله كيف الأمر في ذلك ؟ قال : قال مالك يجوز صدقته وعتق من رأس المال . قال مالك وتجوز وصيته في ثلثه إذا قامت على ذلك بينة وإنما تجوز صدقته وعتقه في المرض إذا قامت على ذلك بينة .
قال محمد بن رشد : إنما تجوز صدقته وعتقه من رأس ماله إذا كان قد طال مكثه عندهم وأمن من القتل ، وأما إن كان ذلك في فور أسره وبقرب ذلك فهو من الثلث كالذي يحبس للقتل ، قاله ابن حبيب في الواضحة ، وهو صحيح مفسر لقول ابن القاسم ، وبالله التوفيق ، حسبي الله ونعم الوكيل ، تم كتاب الجهاد بحمد الله وحسن عونه ، صلى الله على سيدنا ومولانا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً .

(3/92)