البيان
والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة
كتاب النذور
الأول
من مساع ابن القاسم من كتاب الرطب باليابس
مسألة
أخبرنا ابن عمر قال ، أخبرنا محمد التابعي قد
أخبرنا سحنون قال أخبرنا ابن القاسم ، قال سئل
مالك عن مملوك لرجل حلف لغريم له يقضينه حقه
إلى عشرة أيام ، فلما مضت تسعة أيام ولم يقضه
حقه خاف الحنث فعمد إلى غريم لسيده فتقاضى منه
بغير إذن سيده فقضى غريمه فلما علم السيد بعد
أنكر ذلك فأخذ من الغريم ما قضاه الغلام بغير
إذن سيده هل تراه حانثاً ؟ قال أراه حانثاً ،
وكذلك لو سرقها فقضاه إياها كان حناثاً قيل له
يا أبا عبد الله ، أرأيت لو أجاز السيد بعد
العشرة أيام ؟ قال مالك : ما أرى من أمر بين ،
قال ابن القاسم في هذا أراه حانثاً حين لم
يجزه له قبل أن يقضي الأجل لأنه لو شاء أن
يأخذ ما أعطاه عبده من ماله أخذه فإنما وقع
القضاء بعد الأجل .
قال محمد بن رشد : وهذه المسألة لا يخلو الأمر
فيها من وجهين أحدهما أن يعلم السيد بذلك قبل
العشرة الأيام . والثاني أن لا يعلم بذلك إلا
(3/93)
العشرة الأيام
، فأما إذا علم بذلك قبل العشرة الأيام فإن
أجاز ذلك بر العبد وإن لم يجز وأخذ ديناره حنث
العبد إلا أن يقضي غريمه ثانية قبل العشرة
الأيام ، ولا اختلاف في هذا الوجه . وأما إذا
لم يعلم بذلك إلا بعد العشرة الأيام ففي ذلك
ثلاثة أقوال ، أحدها قول ابن القاسم ها هنا أن
العبد حانث أجاز السيد الأمر أو لم يجزه وأخذ
ديناره إن لم يجزه انتقض القضاء فكأنه لم يكن
، وإن أجازه فكان القضاء إنما وقع يوم الإجازة
إذ كان له ألا يجيزه ، وهو ظاهر ما في المدونة
إذا استحق مستحق ما قضى إذ لم يفرق فيها بين
أن يأخذ المستحق ما استحق أو لا يأخذ ، وظاهر
ما في نوازل سحنون في مسألة السوار وعلى قياس
هذا يأتي قول أشهب في العبد يباع بيعاً فاسداً
قبل يوم الفطر فيمضي يوم الفطر وهو بيد
المشتري لم يفت أن الفطرة فيه على البائع ،
وإن فات بعد يوم الفطر فلزمت المشتري فيه
القيمة ولم يرد إليه والثاني قول ابن كنانة
إنه إن أجاز السيد لانقضاء بر العبد في يمينه
وإن لم يجز وأخذ ديناره وحنث لأنه إن رد وأخذ
ديناره انتقض القضاء ، وإن أجازه فكأنه لم يزل
جائزاً من يوم وقوعه على أصولهم فيمن اغتصب
عبداً فباعه وأعتقه المشتري ثم استحقه سيده
أنه إن أجاز البيع نفذ عتق المشتري فيه ، لأن
البيع كأنه لم يزل جائزاً من يوم وقوعه ، وإن
لم يجزه وأخذ عبده انتقض العتق ولهذا المعنى
توقف مالك في الإجازة فقال ما أرى من أمر بين
وعلى قياس هذا يأتي قول ابن الماجشون في العبد
يباع قبل يوم الفطر بيعاً فاسداً فيمضي يوم
الفطر وهو بيد المشتري لم يفت أنه إن نقض
البيع فيه ففطرته على البائع ، وإن لم ينقض
لفواته عند المشتري وإن بعد يوم الفطر ففطرته
على المشتري .
والقول الثالث أنه لا حنث على العبد أجاز
السيد القضاء أو لم يجزه وأخذ ديناره ، لأن
الأجل ما مضى إلا وقد اقتضى الغريم حقه
(3/94)
وذلك في ضمانه
ولو تلف كانت مصيبته منه ، فوجب أن يبر العبد
بذلك ، وإن لم يجز السيد ذلك وأخذ ديناره .
وهو قول أشهب في سماع أصبغ بعد هذا في الذي
عليه لرجل طعام من ابتياع إلى أجل فيحلف
ليقضينه إياه قبل الأجل فيقضيه طعاماً ابتاعه
قبل أن يستوفيه فلا يعلم ذلك إلا بعد الأجل أن
القضاء يفسخ ويبر الحالف بيمينه بذلك القضاء
الفاسد وإن نقض لكون المحلوف عليه ضامناً لما
قبض ، وعلى قياس هذا يأتي قول ابن القاسم في
مسألة العبد يباع فاسداً فيمضي يوم الفطر وهو
عند المشتري أن فطرته عليه لأن ضمانه منه
ونفقته عليه وإن رده على البائع بعد يوم الفطر
. وقول ابن القاسم أولى الأقوال بالصواب ، لأن
الحنث يدخل بأقل الوجوه ، وهذا الاختلاف كله
إنما هو إذا قامت البينة على الدينار بعينه
عند الغريم أنه هو الذي سرقه العبد أو اقتضاه
من غريم سيده فقضاه إياه على القول بأن
الدينار يتعين ، وأما إذا لم تقم عليه بينة أو
قامت عليه بينة على القول بأن الدينار لا
يتعين وهو قول أشهب وأحد قولي ابن القاسم في
المدونة فلا يكون للسيد على غريم العبد سبيل
ويرجع على عبده بالدينار ، وإن كان وكيلاً له
على الاقتضاء أو على غريمه إن كان العبد
متعدياً في الاقتضاء ويبر العبد في يمينه
وبالله التوفيق .
مسألة
وسئل مالك عن رجل حلف أن لا ينفع فلاناً بشيء
والذي حلف وصي لرجل قد أوصى أن يقسم على
المساكين أوسقاً من ماله لفلان وفلان والذي
حلف عليه أن لا ينفعه منهم ، هل ترى أن يجري
تلك الصدقة على يديه كالذي أوصى به صاحبه
فيكون هذا
(3/95)
قد انتفع بذلك
مما جرى على يد الحالف الذي حلف ألا ينفعه ؟
قال : ذلك إلى نيتهن وإن كان إنما نوى ألا
ينفعه بشيء هو له بعينه أو يعطيه إياه ولعله
أن يكون قد كانت تكون إله أشياء غير واحدة من
صنائع المعروف ، فإن كانت هذه نيته فليس عليه
بأس أن يدفع إليه ديناً له قبله أو ميراثاً أو
وصية أو ما كان مما لا يكون من مال الحالف .
قال ابن القاسم وإن لم تكن له نية فلا يجري
عليه شيئاً وهو وجه ما سمعت من مالك .
قال محمد بن رشد : وهذا كما قال : لأنه عم
جميع الوجوه والمنافع كانت من ماله أو من مال
غيره بحلفه ألا ينفعه بشيء ، فوجب أن يحنث
بإجراء تلك الصدقة عليه لأنها داخلة تحت عموم
لفظه إلا أن تكون له نية في أنه إنما أراد ألا
ينفعه بم اله فتكون له نيته التي نوى ، ويصدق
فيها ، وإن لم تكن كانت إليه منه قبل ذلك
صنيعة من صنائع المعروف إذ لمي جعل ذلك شرطاً
في قبول نيته ، وإنما قال ولعله أن يكون قد
كانت إليه منه شيئاً من صنائع المعروف فيكون
ذلك بيناً في قبول نيته ، وهذا إذا كانت يمينه
التي حلف بها مما لا يقضي عليه بها ، وأما إن
كانت يمينه التي حلف بها بعتق أو طلاق وما
أشبه ذلك مما يقضي به عليه فلا ينوي ويحكم
عليه بالعتق أو الطلاق إلا أن يكون قد كانت
إليه منه قبل ذلك أشياء من صنائع المعروف
فينوي فيما ادعاه مع يمينه هذا الذي يأتي في
هذا على أصولهم إذ من قولهم إن من ادعى نية
مخالفة لظاهر لفظه فيما يحكم به عليه لا يصدق
فيها إلا بسبب يدل على صدق قوله .
(3/96)
وقال ملك فيمن
سيم بسلعة له فأعطى بها عشرة ، فقال والله ما
قامت علي بعشرة وقد قامت عليه بدون العشرة ،
فلا ينبغي إلا أن يكون ينوي الكراء والمؤونة
فذلك له مخرج وإن لم يسمه .
قال محمد بن رشد : الأصل في معرفة ما يحتاج
فيه من ذلك إلى النية مما لا يحتاج فيه إلى
النية أن ما كان في السلعة عيناً قائمة يحسب
في المرابحة ويحسب له ربح كالصبغ والكمد
والفتل وتما أشبه ذلك فهذا لا يحنث إن قامت
عليه السلعة دون أن يحسب هذه الأشياء بدون
العشرة إذا كانت قد قامت عليه بها بفوق العشرة
وإن لم تكن له نية ، وأما سوى ذلك مما يحسب في
أصل الثمن ولا يحسب له ربح أو لا يحسب رأساً
فهو حانث إلا أن ينويه ولو كانت يمينه بغير
الله مما يقضي به عليه لوجب على أصولهم ألا
ينوي إلا فيما يحسب ولا يحسب له ربح إلا فيما
لا يحسب رأساً كنفقة نفسه وكراء ركوبه وما
أشبه ذلك .
مسألة
قال مالك من حلف ألا يدخل بيتاً بليل فدخل بعد
الفجر لم يحنث وإن كان قد قال نهاراً فقد حنث
.
قال محمد بن رشد : وهذا كما قال ، لأن النهار
في الشرع من طلوع الفجر إلى غروب الشمس ،
والليل من غروب الشمس إلى طلوع الفجر ، لأن
النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إن بلالاً
ينادي بليل فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم
مكتوب" فبين بذلك أن طلوع الفجر آخر الليل
وأول النهار - وقال صلى الله عليه وسلم :
(3/97)
"إذا أقبل
الليل من هاهنا وأدبر النهار من هاهنا فقد
أفطر الصائم" . فبين بذلك أيضاً أن غروب الشمس
آخر النهار وأول الليل ، فوجب أن لا يحنث من
حلف ألا يدخل بيتاً بليل إذا دخله بعد الفجر ،
وألا يحنث من حلف ألا يدخل يتاً بنهار إذا
دخله بعد غروب الشمس ، ولولا وجوب اتباع ما
أحكمه الشرع من هذا لوجب أن يحنث الذي يحلف
ألا يدخل بيتاً بليل إذا دخله بعد طلوع الفجر
وقبل طلوع الشمس ، كما يحنث إذا دخله بعد غروب
الشمس وقبل مغيب الشفق ، ولأن الذي يوجبه
النظر أن يكون النهار من طلوع الشمس إلى
غروبها ، والليل من غروبها إلى طلوعها إلا أن
ينوي دخله بعد الفجر أو قبل مغيب الشفق على
معنى ما لأصبغ في نوازله من كتاب الأيمان
بالطلاق في الذي يحلف لتدخلن عليه امرأته ليلة
الجمعة فدخلت عليه بعد الفجر من تلك الليلة
أنه لا حنث عليه إن كانت عادة الناس في تلك
البلدة إدخال النساء على أزواجهن بعد طلوع
الفجر وبالله التوفيق .
مسألة
وقال مالك في العبد يجعل على نفسه الشيء في
سبيل الله ثم يجيء العلم أنه حر حين جعل ذلك
على نفسه أن ذلك عليه وكذلك الحدود .
قال محمد بن رشد : وهذا كما قال لأن ما أوجب
العبد على نفسه من النذر والحدود يجب أن يلزمه
ولا يسقط عنه منها شيء يظنه أنها لا تجب
(3/98)
عليه لأنه لم
يعتق ، كما يجب على الحر البالغ ما أوجب على
نفسه من ذلك ولا يسقط عنه شيء منه يظنه أنها
لا تجب عليه لأنه لم يبلغ وبالله التوفيق .
مسألة
وقال مالك من قال لشيء من ماله دابة أو عبد
أهديك ، فهو مخير في قيمته أو ثمنه ما بلغ
يجعله في هدي .
قال محمد بن رشد : قال في المدونة فيمن أهدى
عبده إنه يخرج بثمنه هدايا ، فذهب بعض أهل
النظر إلى أن ذلك خلاف لهذه الرواية إذ لم يقل
إنه يخرج بثمنه أو بقيمته هدايا كما قال في
هذه الرواية ، وخلاف لما في رسم البز من سماع
ابن القاسم من كتاب الصدقات والهبات في المرأة
التي جعلت خلخالين لها في سبيل الله إن شفاها
الله من مرض أنه كره لها أن تحبسهما وتخرج
قيمتهما . وقال سحنون إنما كره من أجل الرجوع
في الصدقة ، وليس ذلك عندي على ما ذهب إليهن
بل هذه الرواية مفسرة لما في المدونة وما في
رسم البز من كتاب الصدقات والهبات ، مسألة
أخرى فلا اختلاف في شيء من ذلك ، فإذا أهدى
الرجل ما يهدي من الإبل والبقر أو الغنم ، أو
جعل في سبيل الله ما ينتفع بعينه فيه من الخيل
والسلاح فلا اختلاف في أنه لا يجوز له أن
يمسكه ويخرج قيمته لقول النبي عليه السلام
لعمر بن الخطاب في الفرس كان حمل عليه في سبيل
الله ، ثم أراد ابتياعه : لا تشتره ولا تعد في
صدقتك ، لأن العائد في صدقته كالكلب يعود في
قيئه ، وإذا أهدى ما لا يمكن أن يهدي من ثوب
أو عبد فجائز أن يمسكه ويخرج قيمته إذا لم
يتعين في عينه حق الله ، وإنما يجب على من
أهداه إخراج العوض عنه ، وإذا جعل في السبيل
ما لا ينتفع فيه بعينه ولابد من بيعه لينفق
ثمنه في السبيل كالخلخالين وشبههما فيكره له
إخراج قيمة ذلك وإمساكه من
(3/99)
ناحية الرجوع
في الصدقة لإمكان إخراجه بعينه في السبيل وليس
ذلك بحرام إذ لا ينتفع بالذي أعطيه في السبيل
بعينه ، فعلى هذه الثلاثة أقسام ينقسم هذا
الباب .
ومن كتاب أوله سلعة سماها
مسألة
وعن رجل كان له على رجل حق فمطله بذلك ، فقال
الذي عليه الحق : عليه عتق ما يملك إن قضاه
حتى يسجن له ثم يسجن يريد بذلك أياماً ، وحلف
الآخر بالعتق إن أنظره إلا أن ينظره السلطان
فارتفع إلى السلطان فضرب له الأجل أياماً ،
فلما كان في آخر الأجل تغيب عنه فقال له عمه
أنا أقضيك حقاً عنه ، أفترى عليه شيئاً ؟ قال
ما أرى بذلك بأساً أن يقتضي من عمه ، وقال ليس
عليه حنث وإن علم بقضاء العلم عنه غير أن
اليمين عليه في قضائه عنه كما كانت لصاحب الحق
لا يقضيه حتى يسجن أياماً كمن حلف وإلا حنث .
قال محمد بن رشد : هذه مسألة لأن الأيمان إنما
هي على المعاني فيها والمقاصد بها ، فالذي حلف
ألا ينظر غريمه حتى يأخذ حقه منه لا شيء عليه
إن قبضه من غيره لأنه إنما أراد ألا ينظره حتى
يصل إليه حقه ، والذي حلف ألا يقضي الحق الذي
عليه حتى يسجنه فيه الطالب تلزمه اليمين لمن
قضاه عنه لتحول الحق الذي حلف ألا يقضيه حتى
سجن فيه إليه ولا يحنث بعلمه بقضاء الحق عنه
إذ ليس له أن يمنعه من ذلك ، وقال إنه لا يقضي
الحق الذي عليه لعمه الذي قضاه عنه حتى يسجن
له فيه أياماً ظاهرة في مرة واحدة ، وإنما رأى
أنه يبر بذلك لأنه قال في السؤال يريد بذلك
(3/100)
أياماً وروي عن
ابن القاسم في غير العتبية أنه قال أحب إلي أن
يقيم في كل مرة يوماً وليلة ثم يطلق ثم يستعدي
عليه فيسجن كلك حتى يسجن ثلاث مرات ، ولا معنى
لهذا الاستحباب لأنه إن كان أتى مستفتياً فله
نيته ، وإن كان مشهوداً عليه ومخاصماً فيتخرج
ذلك على قولين ، أحدهما وهو الأصح منهما أنه
يبر حتى سجن ثلاث مرات يقيم في كل منهما يوماً
وليلة فأكثر ، والثاني أنه يبر ويسجن مرة
واحدة إذا أقام فيه أياماً ، والأصل في هذا
اختلافهم في الذي يقول إذا حملت امرأتي فيه
طالق وهي حامل ، هل التمادي في الحمل كابتداء
حمل وتطلق عليه أم لا تطلق عليه إلا إذا حملت
حملاً آخر وبالله التوفيق .
مسألة
وسئل مالك عن رجل حلف ألا يعين بطعام ولا بزيت
فكان زيت مقتته أترى أن يعين به ؟ فقال : لا
أرى ذلك .
قال محمد بن رشد : يعني بمقتت مطيب يريد
بأشجار الأرض لا بصريح الطيب ومثله لمالك رحمه
الله في المجموعة ، وقال غيره فيها إن نوى
الزيت خاصة لم أبلغ به الحنث لأني أكره بعضه
ببعض متفاضلاً ، كما أكره التفاضل في السرح
والزنيق ، ولم ير مالك ما يقتت بأشجار الأرض
يخرج من صنفه ، وإنما يخرج ذلك إذا طيب بصريح
الطيب كالمسك والعود وشبهه ، وقول غير يذلك في
المجموعة إذا نوى الزيت خاصة لم أبلغ به الحنث
لا معنى له ، لأن اللفظ أقوى من النية ، وهو
قد لفظ بالزيت في الجواب
(3/101)
فيه إنه يحنث
بالزيت المطيب ما لم يخرجه ما فيه من الطيب عن
صنفه حتى يجوز فيه التفاضل إلى أجل إلا أن
ينوي الزيت الخالص فلا يحنث بالمطيب على حال
إذا أتى مستفتياً والله أعلم .
مسألة
وسئل عمن حلف بعشرين نذراً إن قبل لأبيه هبة
أبداً وأبوه الذي يمونه قال هل جعل لذلك
مخرجاً من صيام أو حج ؟ قال : لم يجعل لذلك
مخرجاً من صيام ولا حج إنما كانت مسجلة ، قال
يكفر عشرين يميناً .
قال محمد بن رشد : وهذا كما قال لأن ما يمونه
به هبة له فقبوله منه ذلك بعد يمينه قبول
لهبته إلا أن ينوي سوى ما يمونه به أو يكون
ليمينه بساط يدل على ذلك فلا يحنث في استمرار
مؤنته إياه ، وقوله له إنه يكفر عشرين يميناً
إذا حنث ولم يسم لنذره مخرجاً صحيح على ما في
المدونة وغيرها أن من نذر نذراً ولم يجعل له
مخرجاً فكفارته كفارة يمين وقد روي ذلك عن
النبي ، عليه السلام ، من رواية عقبة بن عامر
الجهني ولم يختلف فيمن قال علي نذر ثلاثة أو
أربعة إن فعلت كذا ولا نية له فحنث أن عليه
ثلاث كفارات أو أربعاً ، واختلف إذا قال علي
ثلاث أيمان أو أربع إن فعلت كذا وكذا فحنث
فقيل عليه ثلاث كفارات أو أربع ، وقيل عليه
كفارة واحدة إلا أن ينوي ثلاث كفارات أو
أربعاً حكاه ابن أبي زيد عن ابن المواز .
مسألة
وسئل عن رجل حلف في بيع طعام ألا يزيد في عامه
هذا على ثلاثة أرادب وويبتين بدينار فبعث إليه
أخ له بذهب يبيعه به
(3/102)
طعاماً بعشرين
ديناراً ، فكتب إليه أني قد بعتك بثمانية عشر
ديناراً ثلاثة أرادب ويبتين لكل دينار ،
وبدينارين حمص وجلبان بأكثر مما يكون به
سعرهما ، يكون قد جعل الدينار له دينارين أو
ثلاثة في رخصه قال : أراه قد حنث .
قال محمد بن رشد : وهذا كما قال لأنه إذا رخص
له فيما باعه إياه من الحمص والجبلان مع
الطعام في صفقة واحدة فقد رخص له في الطعام
وزاد له في سعره على ثلاثة أرادب وويبتين فحنث
، والله الموفق .
مسألة
وسئل عن رجل دخل على امرأته فوجد عندها قرابة
لها فعاقبها في ذلك وغضبت فحلفت بالمشي إلى
بيت الله إن دخل عليها منهم أحد ، فمات أو
طلقها أترى لها أن تدخلهم عليها ، فقال أرى أن
تنوي فإن كانت إنما أرادت بذلك ألا تدخلهم وهي
عنده لم أر عليهم شيئاً ، وقيل له أرأيت إن لم
تحضرها نية ، قال فأحب إلي أن تأخذ بالاحتياط
وألا تدخلهم عليها .
قال محمد بن رشد : إذا لم يكن لها نية فالواجب
أن ينظر إلى ما قرن يمينها من عتاب زوجها
إياها فإن كان إنما عاتبها لعصيانها إياه في
أن تدخلهم بيتها وهو يكرههم ويشنأهم فلا حنث
عليها بعد موته أو طلاقه ، وإن كان إنما
عاقبها لما كره لها من مخالطتها إياهم فهي
حانثة إن أدخلتهم عليها بعد موته أو طلاقه ،
وإن لم يتحقق أحد الوجهين كان الاستحباب أن
تأخذ بالاحتياط كما قال مالك .
(3/103)
مسألة
وسئل عن الرجل يسأل عن الأمر فيقول علي صدقة
أو مشي وهو كاذب إنما أراد بذلك أن يمنعه ،
فقال لا شيء عليه ، إنما يكون ذلك عليه في
العتق والطلاق يعني إذا قامت على ذلك بينة .
قال محمد بن رشد : هذا بين كما قال إن ما لا
يحكم به عليه فهو موكول إلى أمانته ، وحسابه
على الله يوم تبلى السرائر .
مسألة
وسئل عن رجل حلف لامرأته أنت علي حرام إن
أنفقت عليك حتى تستأذني علي وقالت الأخرى مالي
في المساكين صدقة إن استأذنت عليك فكيف ترى ؟
قال : هو كما قالا ، واليمين عليهما ، فإن
شاءت أن تقيم تنفق على نفسها فعلت ، قيلا له
فإن استأذنت قال : أرى أن تخرج ثلث مالها
فتتصدق به ، فقيل له أفترى على زوجها بأساً إن
هي استأذنت أن ينفق عليها أكثر من قوتها ؟ قال
لا بأس بذلك إلا أن يكون نوى ذلك حين حلف ألا
ينفق عليها أكثر من قوتها ، وإن لم تكن له نية
فلا أرى ذلك عليه إذا استأذنت عليه وأنفق
عليها إنما أراد ألا ينفق ولم يرد ألا يفضل
فلا أرى عليه شيئاً إلا أن يكون نوى ذلك .
محمد بن أحمد : وهذا كما قال لأنه إنما حلف
على الإنفاق ولم يحلف على الإفضال إذ ليس مما
يستأذن عليه فإذا استأذنت عليه في الإنفاق ،
لم يكن عليه شيء في الإفضال .
(3/104)
مسألة
وسئل عن الرجل يكون بينه وبين الرجل الدار
فيحلف بيمين غليظة ألا يبيعه صفقة ثم يريد
بيعه بعد ذلك ، فيقول إني إذا بعت أخذ صاحبي
بالشفعة فهل ترى عليه حنثا ؟ قال أرى أن لا
يبيعه ممن يظن أنه إما يشتري له أو من ناحيته
. فقال : لا ، ليس هو منه بسبيل إلا رجل يشتري
لنفسه أخذ ذلك أو ترك ، إلا أنه يقول الحالف
علي في يميني شيء إن أخذ ، فقال : لا شيء عليه
وذلك أن تباعة بيعه على الذي يأخذ منه ولو
أراد أن يجعل تباعته على شريكه الأول وكتابة
عهدة شرائه عليه لم يكن ذلك له ، فلا أرى عليه
شيئاً في يمينه .
قال محمد بن رشد : هذا بين أنه إذا لم يكن
الذي باع منه وكيل شريكه المحلوف عليه أو من
هو بسببه وناحيته كالصديق ، والملاطف وشبهه
ممن هو في عياله أنه لا حنث عليه ، لأنه لم
يره في المدونة حانثاً ، وإن اشترى للمحلوف
عليه ، فكيف إذا اشترى لنفسه فأخذه ذلك منه
المحلوف عليه بالشفعة ، فإن كان وكيله أو من
سببه فباع منه ولم يعلم بذلك فنص في المدونة
في الوكيل على أنه إذا لم يعلم أنه له وكيلاً
فلا حنث عليه ، وكذلك قال أشهب فيمن هو بسببه
أنه إذا باع ولم يعلم أنه من سببه فلا حنث
عليه ، وروى ذلك عن مالك . وقد تأول بعض الناس
على ما في المدونة أنه حانث وإن لم يعلم أنه
من سببه بخلاف الوكيل وهو بعيد إذ لا فرق في
ذلك بين الوكيل وبين من هو بسببه والله أعلم ،
وعلى تعليله في هذه المسألة بالتباعة أن يحنث
إن اشترى للمحلوف عليه لا لنفسه وإن لم يكن من
سببه
(3/105)
لأن تباعته
تكون عليه فكيف إذا كان من سببه ولم يعلم بذلك
؟ وابن حبيب يقول في الوكيل ومن هو بسببه إنه
حانث وإن لم يعلم أنه وكيل ولا أنه من سببه ،
ولا يرى أنه يكون من سببه إلا من يقوم بأمره
من وكيل أو قريب ، وأما من لا يقوم له بأمر
وإن كان صديقاً أو جاراً فهو عنده كالأجنبي ،
وقوله إن تباعة الشفيع على المشتري وليس له أن
يجعلها على البائع هو المعلوم في المذهب . وقد
وقع في كتاب الشفعة من المدونة لفظ يدل على
أنه مخير في أن يجعل عهدته على من شاء منهما ،
والأول هو الصحيح في المذهب ، وسواء كان
المشتري قبض أو لم يقبض قال أبو حنيفة إن قبض
الشقص من يد المشتري فعهدته عليه وإن قبضه من
يد البائع فعهدته عليه . وقال ابن أبي ليلى :
العهدة على البائع بكل حال والله الموفق .
مسألة
وسئل عن امرأة جعلت لزوجها عند موته أن مالها
في سبيل الله وأن عليها عشرة نذور ، قال ابن
القاسم ولا أعلم إلا أن في المسألة وعليها عهد
الله إن تزوجت ووكلها بولده وقد كان سألها ذلك
في وصيته أن عليها ذلك وأنه أعطاها خلافته على
ولده منها بذلك على أن لا تتزوج حتى يبلغ ولده
وأنها تزوجت الجارية بقي اللام وهو صغير ، قال
أرى عليها الوفاء بالعهد الذي جعلت من ذلك ،
ولا أعلم لها كفارة فإن الله يقول : { وأوفوا
بالعهد } وإنما جعلت ذلك له بالذي أعطاها فقيل
له فإن هي تزوجت أترى خلافتها من ولدها تنفسخ
؟ قال نعم ، لأنها تركت الذي أعطاها وإنما
(3/106)
استحلفها للذي
أعطته ، فقيل له فإن هي فعلت فما كفارتها ؟
فقال لا أعلم لها كفارة وأرى إن توفي بالذي
عاهدته عليه ، وكأنه قال هو عهد .
قال محمد بن رشد : قوله إنها تنفسخ خلافتها
على ولدها إن تزوجت صحيح لأنه إنما استخلفها
على ولدها ألا تتزوج فذلك بمنزلة في وصيته إن
تزوجت فلا وصية لها ، ولو استخلفها على ولدها
بغير شرط وقال في وصيته إن تزوجت فانزعوا
الولد منها فتزوجت ، قال مالك : إن عزلتهم في
مكان عندها مع نفقة وخادم فهي أولى بهم وإلا
نزعوا منها .
قال محمد ابن المواز : لأن الميت لم يقل إن
تزوجت فلا وصية لها ، وإنما قال : إن تزوجت
فانزعوا الولد منها ، وقوله إنه لا كفارة لها
في العهد الذي عاهدته عليه صحيح ، ومثله في
كتاب ابن المواز والواضحة إن العهد إذا لم
يخرج مخرج اليمين وإنما خرج مخرج المعاهدة
والمعاقدة مثل أن يقول الرجل للرجل لك علي عهد
لله أن أنصحك وألا أخونك وألا أفعل كذا وكذا
فهو أعظم من أن يكون فيه كفارة فيلزمها إذا
تزوجت أن تتوب إلى الله وتستغفره وتتقرب إليه
بما استطاعت من الخير وتكفر عشرة أيمان لقوله
وعليها عشرة نذور وتجعل ثلث مالها في السبيل
لما أوجبته على نفسها من أن مالها في سبيل
الله وبالله التوفيق .
ومن كتاب أوله شك في طوافه
مسألة
وسئل عن رجل سأل رجلاً أمر يخبره قال : فاحلف
لي أنك لا تخبره أحداً ولتكتمنه قال : كل
مملوك لي حر إن أخبرت به أحداً
(3/107)
واستثنى في
نفسه إلا فلاناً ، قال : لا أرى ذلك له ، ولا
أرى الثنيا إلا ما حرك به لسانه فأما استثناؤه
في نفسه فلا أرى ذلك له ثنيا ، وسئل مالك عن
هذا ، فقال : إذا حرك به لسانه فله ثنياه ،
فقيل لابن القاسم وإن لم يعلم المحلوف له ،
قال : نعم وليس عليه أن يعلمه وسئل عنها سحنون
فأنكرها وقال : وليست له ثنيا وإن حرك لسانه
لأن اليمين للذي استحلفه .
قال محمد بن رشد : قوله في الاستثناء بإلا لا
أرى الثنيا إلا ما حرك به لسانه هو المشهور في
المذهب أنه لابد فيه من تحريك اللسان وقد روى
أشهب عن مالك بعد هذا في رسم الجنائز والنذور
أن النية تجزئ في ذلك ، وقاله ابن حبيب في
الذي يحلف بالحلال عليه حرام ويستثنى في نفسه
إلا امرأته ، وقول ابن القاسم إن استثناءه
ينفعه إذا حرك به لسانه وإن لم يعلم المحلوف
له وليس عليه أن يعلمه نص منه في أن اليمين
على نية الحالف لا على نية المحلوف له ، وذلك
خلاف رواية عيسى عنه في رسم حمل صبياً من
سماعه من كتاب الأيمان بالطلاق وخلاف قول
سحنون ها هنا ومثل ما لمالك في رسم البز من
سماع ابن القاسم من كتاب الأيمان بالطلاق ،
ولابن وهب في سماع زونان وعيسى من الكتاب
المذكور ، وقد اختلف في هذا اختلافاً كثيراً ،
فقيل إن اليمين على نية الحالف وقيل إنها على
نية المحلوف له ، وقيل إن كان مستحلفاً
فاليمين على نية المحلوف له ، وإن كان متطوعاً
فاليمين على نية الحالف وهو قول ابن الماجشون
وسحنون ، وقيل بعكس هذه التفرقة وهو دليل ما
في سماع عيسى عن ابن القاسم في رسم أوصى من
هذا الكتاب ، ونص رواية يحيى عن ابن القاسم في
الأيمان بالطلاق ، وقيل إنما يفترق أن يكون
مستحلفاً أو متطوعاً باليمين فيما يقضى به
(3/108)
عليه ، وأما
فيما لا يقضي به عليه فلا يفترق ذلك ، وتكون
النية نية الحالف ، وهو قول ابن القاسم في أول
سماع أصبغ بعد هذا ، وقيل إن ذلك لا يفترق
أيضاً وتكون النية في الوجهين نية المحلوف له
، وهو قول أصبغ في سماعه المذكور ، وهذا ما لم
يقتطع بيمينه حقاً لغيره ، فإن اقتطع بها حقاً
لغيره فلا تنفعه في ذلك نية إن نواها بإجماع ،
وهو آثم عاص لله عز وجل داخل تحت الوعيد .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"من اقتطع
حق امرء مسلم حرم الله عليه الجنة وأوجب له
النار" ، الحديث .
مسألة
وسئل مالك عن رجل حلف بالله لأفعلن كذا وكذا
فقيل له : إنك ستحنث فقال : لا والله لا أحنث
فما ترى عليه ؟ فقال : عليه كفارتان .
قال محمد بن رشد : يريد عليه كفارتان إن حنث ،
كفارة لحنثه في يمينه ليفعلن ، وكفارة ثانية
لحنثه أيضاً في يمينه والله لا أحنث ، وقد قيل
ليس عليه إلا كفارة واحدة وهو قول ابن القاسم
في المبسوطة ، قال لأن الكلام في ذلك في معنى
واحد وجه القول الأول أن يمينه الثانية لما
كانت على غير لفظ اليمين الأول لم تحمل أنه
أراد بها التأكيد لها وحملت على أنه أراد
يميناً أخرى يوجبها على نفسه كالنذر إن حنث ،
كأنه قال علي كفارة أخرى إن حنثت لما قيل له
إنك ستحنث ، ويجب عليك الكفارة ، ووجه القول
الثاني أن اليمين الثانية لما كانت بغير لفظ
اليمين الأولى وفي معناها حملت على أنه أراد
بها غيرها ، وقد قال في المدونة إذا نوى
باليمين الثانية غير الأولى فعليه
(3/109)
يمين واحدة حتى
يريد إيجاب الكفارتين على نفسه كالنذور ،
والأصل براءة الذمة فلا توجب عليه كفارة ثانية
إلا بيقين .
ومن كتاب أوله ليرفعن أمراً
مسألة
وسئل مالك عن رجل باع سلعة فحلف ألا يضع من
ثمنها شيئاً فأوفاه المشتري ثمنها ، ثم قال له
بعد ذلك هب لي ما شئت ، فقال مالك إن كانت
عليه يمينه غليظة فلا يفعل ولا يهب شيئاً ،
وإن كانت يميناً يكفرها فليفعل وليكفر .
قال محمد بن رشد : وهذا كما قال لأن ما رد
إليه في المجلس من الثمن الذي قبضه منه فكأنه
لم يقبضه منه ، إذ لم ينتفع به والحالف ألا
يضع من حقه شيئاً إنما مقصوده قبض جميع حقه
ليبين به وينتفع به ، فوجب أن يحنث على أصولهم
في أن الإيمان يراعى فيها قصد الحالف بها لا
مجرد لفظه ، وسيأتي له نحو هذا في رسم الجنائز
من سماع أشهب في الذي يحلف ألا يضع في بيع
سلعته من كذا وكذا ، فيبيع بما حلف عليه ، ثم
يضع له من الثمن في المجلس إذا لا فرق بين
المسألتين عنده ، ولو رد إليه من الثمن شيئاً
أو وضعه عنه في غير المجلس بنية حدثت له في
هبته وأتى مستفتياً لنوي ولم يكن عليه حنث على
أصولهم ، ولو كانت يمينه بعتق أو ما يقضى به
عليه لم يصدق إلا بعد اليومين أو الثلاثة مع
يمينه ، قاله مالك في رسم طلق من سماع ابن
القاسم من كتاب العتق ، وهو على أصله في
المدونة في مسألة الصرف من كتاب الصرف ومسألة
القراض من كتاب القراض وغير ما مسألة من الحكم
بالذرائع ، وبالله التوفيق .
(3/110)
مسألة
وسئل مالك عن رجل حلف إن نام حتى يوتر فعليه
صدقة دينار ، فنام ليلة من ذلك قبل أن يوتر
أترى عليه في ليلة أخرى إن نامها شيئاً أم قد
أجزأ عنه الأمر الأول ؟ قال ذلك إلى ما نوى ،
وهو أعلم بما أراد به من ذلك ، وما رأيت أحداً
يفعل هذا الوجه ليس الوتر أعني ، ولكن ما يوجب
على نفسه في غير هذا من هذه الأشياء ، إلا أن
عليه في كل ما فعل ما حلف عليه وما يريد أحد
في مثل هذه الأشياء مرة واحدة إلا أن ينوبه .
قال محمد بن رشد : هذه الرواية مخالفة لما في
المدونة ، من ذلك مسألة من حلف ألا يكلم رجلاً
عشرة أيام فكلمه فحنث ، ثم كلمه مرة أخرى بعد
أن كفر أو قبل أن يكفر أنه ليس عليه إلا كفارة
واحدة ، ومخالفة أيضاً لجميع روايات العتبية ،
من ذلك أول مسألة من سماع أشهب في الذي يحلف
إن أبق غلامه ليضربنه ، ومن ذلك أول مسألة من
رسم من باع غلاماً من سماع ابن القاسم من كتاب
طلاق السنة ، وأول مسألة من رسم شك من سماع
ابن القاسم من كتاب الأيمان بالطلاق في الذي
يحلف إن خرجت امرأته إلى بيت أهلها أن يضربها
فخرجت فضربها أنه ليس عليه أن يضربها مرة أخرى
إلا أن ينوي ذلك ، ومسألة في سماع أبي زيد من
هذا الكتاب المذكور ، وهذا الاختلاف جار على
اختلاف الأصوليين في الأمر المقيد بصفة هل
يقضي تكراره بتكرار الصفة أم لا ؟ فمسألة
الوتر على القول بوجوب تكراره بتكرار الصفة
لأنه أوجب عليه صدقة دينار لكل ليلة نام فيها
قبل أن يوتر إلا أن ينوي مرة واحدة وكذلك ما
يوجب على نفسه من هذه الأشياء ، ومسايل
(3/111)
المدونة
والعتبية على القول بأن الأمر لا يجب تكراره
بتكرار الصفة لأنه لم يوجب عليه ما حلف به
كلما تكرر الفعل الذي جعله شرطاً فيما حلف به
إلا أن ينوي ذلك .
ومن كتاب طلق ابن حبيب
مسألة
وسئل عن رجل حلف على جارية له بعتق ما يملك في
عود كان في يده ليكسرنه على رأسها فكسر العود
ثم ضربها حتى انفلق ، قال أرى أن قد وقع عليه
الحنث ، ولا أراه بر .
قال محمد بن أحمد : هذا بين كما قال لأن الذي
فعل ليس هو المعنى الذي حلف عليه ، وبالله
التوفيق .
مسألة
وسئل عن رجل حلف ألا يساكن رجلاً فسافر معه ،
قال أرى أن ينوبه ما أراد ، وإن جل ما يحلف
الناس فيه لما يدخل بين الناس في العيال
والولد ، وما السفر من السكنى ، ولكن أرى ا ،
ينوي ما أراد ، قال عيسى قلت لابن القاسم فإن
لم تكن له نية . قال فلا شيء عليه إلا أن يكون
نوى شيئاً .
قال محمد بن رشد : هذا صحيح على ما في المدونة
في الذي يحلف ألا يساكن رجلاً فزاره أن
الزيارة ليست سكنى ، وينظر إلى وجه يمينه ،
(3/112)
فإن كان لما
يدخل بين العيال والصبيان فهذا حق ، وإن كان
أراد التنحي عنه فهو أشد ، فكذلك هذه المسألة
لا حنث عليه إلا أن يكون أراد مجانيته والتنحي
عنه وهو معنى بين .
ومن كتاب سن رسول الله صلى الله عليه وسلم
مسألة
وسئل عن رجل حلف بالمشي إلى الكعبة ليقضي
فلاناً ثم هلك الذي حلف عليه ، قال مالك : إن
كان إنما حلف على وجه القضاة فلا أرى عليه
شيئاً ، قال ابن القاسم : ورأيت معنى قول مالك
إن كان أراد أن يوصله إليه وبتله في يديه وتلك
نيته فهو حانث إذا كان قد أقام بعد اليمين ما
لو شاء أن يوصله إليه أوصله إليه ، قال ابن
القاسم وذلك رأيي .
قال محمد بن أحمد : وهذا كما قال إن كان إنما
حلف على وجه القضاء فلا حنث بموت المحلوف عليه
لأنه يبر بقضاء الورثة ، وإن أراد أن يحنث
نفسه ويمشي إلى البيت كان ذلك له لأن يمينه
على حنث ، وإن كان أراد أن يوصله إليه وبتله
في يديه فهو حانث كما قال إذا كان قد أقام بعد
اليمين ، ما لو شاء أن يوصله إليه أوصله ، فإن
أراد أن يحنث نفسه ها هنا ويمشي إلى بيت الله
كان ذلك على مذهب ابن القاسم ، ولم يكن ذلك
عند ابن المواز ، لأن موت المحلوف عليه عنده
كالأجل فلا يجزئه المشي إلا بعد موته ، فإن لم
تكن نية فلا يحنث بموت المحلوف عليه ، ويحمل
يمينه على وجه القضاء حتى يريد أن يوصله إليه
وبتله في يديه ، هذا مذهب مالك
(3/113)
في المدونة
وغيرها ، لأن مقصد الحالف بيمينه أداء ما عليه
من الدين لا منفعة صاحب الدين بدفع دينه إليه
، فيحمل يمينه على ذلك حتى يريد سواه ، وفي
رسم من سماع ابن القاسم من كتاب العتق ما
ظاهره أنه محمول على أن يوصله إليه وبتله في
يديه إذا لم تكن له نية ، وقد قيل في الحالف
أن يفعل فعلاً ولم ينو تعجيل ما حلف عليه ولا
تأخيره إنه على التعجيل ويحنث إن أخر فعل ذلك
الفعل ، فلا يفترق على هذا القول إذا حلف
ليقضين فلاناً الحكم بين أن يحلف على وجه
الضاء أو يريد بيمينه أن بتله في يديه وهذان
القولان جاريان على الاختلاف في الأمر هل
يقتضي الفور أم لا وسنزيد هذه المسألة بياناً
في رسم سن من سماع ابن القاسم من كتاب العتق .
ومن كتاب أوله أخذ يشرب خمراً
مسألة
قال : وسئل عن رجل حلف ألا يضع من ثمن خادم
باعها شيئاً وأنه باعها بالثمن الذي حلف عليه
، ثم إن المبتاع ندم فسأل البائع أن يقيله ،
قال لا خير في ذلك ، رب إقالة هي خير من وضيعة
، فلا يعجبني ذلك . قال ابن القاسم فإن أقاله
فكانت قيمتها أقل من الثمن حنث .
قال محمد بن رشد : هذه مثل مسألة المدونة سواء
في الذي يحلف ليقضين فلاناً حقه فيشتري به منه
سلعة ، فقال مالك فيها إن كانت السلعة تسوى
حقه ذلك فلا حنث عليه ، مثل قول ابن القاسم
هنا وهناك ، ثم كرهه بعد ذلك هناك ، مثل قوله
ها هنا ، وقال إن كانت السلعة تسوى ذلك فلم لا
يعطيه
(3/114)
دنانيره خلاف
قول ابن القاسم ، فلا اختلاف في أنه حانث إذا
أقاله وقيمتها أقل من الثمن ، قال ابن أبي
حازم في المدنية إلا أن يكون حلف ألا يضع له
وهو ينوي الإقالة ، فإن نوى أن يقيل ولا يضع
فلا شيء عليه . قال عيسى ، قال ابن القاسم :
لا تنفعه النية إلا أن يتكلم بها حين حلف .
وقول ابن القاسم إن النية لا تنفعه في ذلك إلا
أن يتكلم بها صحيح على ما قاله ابن المواز في
أن الاستثناء بإن وبإلا لابد فيه من تحريك
اللسان باتفاق ، لأن النية ها هنا ليست بنية
وإنما هي استثناء بإلا أن ، كأنه قال والله لا
أضع عنك من ثمنها شيئاً إلا أن أقيلك منها ،
وقول ابن أبي حازم خلاف لما حكى ابن المواز
أنه اتفاق ، وقد ذهب الناس ممن لم ينعم النظر
إلى أن قول مالك في المدونة في الذي يحلف ألا
يفارق غريمه فيفر منه أنه حانث إلا أن يكون
نوى ألا يفارقه مثل ما يقول الرجل لا أخلي
سبيلك إلا أن تفر فلا شيء عليه ، مخالف لما
قاله ابن المواز في أن الاستثناء بإلا أن لابد
فيه من تحريك اللسان باتفاق ، ولم يقل مالك
إنه إن نوى ألا يفر غريمه فلا شيء عليه ،
وإنما قال إن نوى ألا يفارقه ، فهو في المعنى
مثل أن يقول بلسانه لا أخلي سبيلك إلا أن تفر
فلا يكون عليه شيء .
وقول بين لأن المفارقة مفاعلة منهما جميعاً ،
فإذا نوى هو بقوله لا أفارق غريمي لا أفارقه
أنا في خاصتي لم يكن عليه شيء إن فر عنه غريمه
لأنه يحصل بما نواه كالقائل لا أفارق غريمي
إلا أن يفر عني ولو حلف ألا يفارق غريمه ونوى
إلا أن يبدو له أو إلا أن يرى خيراً من ذلك
وما أشبه ذلك لم ينتفع بذلك على مذهب مالك وما
قاله ابن المواز ، واختلف إذا حلفه أن لا يضع
عنه فأنظره ففي أول رسم الأقضية الثالث من
سماع أشهب من كتاب الأيمان بالطلاق ما يقوم
منه أنه لا حنث عليه ، وروى ابن وهب عن مالك
أنه حانث وقال : رب نظرة خير من وضيعة ، وحكى
عنه ابن حبيب مثل ذلك ولو حلف ألا ينظره فوضع
عنه لم يحنث ولا أعلم في ذلك خلافاً .
(3/115)
مسألة
وسئل عن رجل حلف ألا ينقص جارية له من خمسين ،
وأنه باعها من رجل بخمسين وأجبها له ، فقال له
رجل عند ذلك : إن استقالك بائعك فأقله فأنا
آخذها منك بأحد وخمسين ، أفترى أن يقيله ؟ قال
: لا ، رب إقالة خير من وضيعة ، كأنه يرى أن
إقالتها ثمن حتى كأنه قد نقص من الخمسين فيما
أظن به قاله .
قال محمد بن رشد : ساوى بين هذه المسألة والتي
قبلها في الإقالة إذ لا فرق عنده في الوضيعة
بين أن يحلف ألا يضع من الثمن شيئاً بعد أن
باع وبين أن يحلف ألا يضع في بيع سلعة من كذا
وكذا ، فيبيع بما حلف عليه ثم يضع من ذلك ،
وقد ذكرنا هذا المعنى في رسم حلف ليرفعن أمراً
، وفرق ابن حبيب في الإقالة بين المسألتين ،
فقال إن من حلف ألا ينقص سلعة من ثمن سماه
فباعها بذلك الثمن ، ثم أقال المبتاع منها لا
حنث عليه ، غير أنه إن كان أقاله بحضرة البيع
فاليمين عليه بحالها ، وإن لم يقله بحضرة
البيع فقد خرج من يمينه وليبعها بعد بما شاء ،
وقال فيمن حلف ألا يضع من ثمن سلعة باعها
فأقال منها ما قال ابن القاسم إنه إن كانت
السلعة تساوي الثمن فلا حنث عليه ، وحكى ابن
عبدوس عن غير ابن القاسم أنه إذا أقاله بحضرة
البيع نظر ، فإن كان بيعه صحيحاً لأمد السنة
فيه فقد خرج من يمينه وليبعها بعد بما شاء ،
وسيأتي أيضاً بيانه في رسم الجنائز من سماع
أشهب .
ومن كتاب يسلف في المتاع والحيوان
مسألة
وسئل مالك عن رجل باع بيعاً فحلف البائع ألا
يقيل
(3/116)
ولا يضع ، ثم
إن المشتري وجد في بيعه جراداً وذلك فيما أرى
تمراً باعه ، فقال له المشتري أنا أخرجك من
يمينك أنا أعطيك ديناراً وأقبل مني الطعام ،
فكره ذلك وقال : لا أقبله إلا بأمر السلطان
يخاصمه ، فإن رده كان مخرجاً ليمينه ، وإن
ألزمه صبر على ذلك .
قال محمد بن أحمد : هذا كما قال : لأنه حلف
ألا يقبله ولا يضع عنه ، فإذا أخذ منه طعامه
وديناراً فقد أقاله بزيادة دينار ، فوجب أن
يحنث إذ لم يستثن إلا بزيادة ، ولعل أيضاً
قيمة الطعام الذي أخذ مع الدينار أقل من الثمن
الذي كان له عليه ، فيكون قد وضع عنه فيحنث
بالوجهين جميعاً ، فإن رده السلطان عليه
بالعيب لم يحنث إذ ليس الرد بالعيب من معنى ما
حلف عليه من الإقالة الوضيعة في شيء ، إذ لا
يجب الحكم عليه بالإقالة ولا بالوضيعة ، ولو
اطلع المبتاع على عيب فسأل البائع أن يضع عنه
من الثمن شيئاً بسبب العيب أو يرده عليه
ويعطيه ثمنه ، فحلف البائع ألا يفعل شيئاً من
ذلك فحكم عليه بأحد الوجهين يحنث على ما في
آخر سماع أشهب من كتاب الأيمان بالطلاق فيمن
حلف ألا يفعل فعلاً فقضى به عليه السلطان ،
وعلى ما يقوم من كتاب التخيير والتمليك من
المدونة ، خلاف قول ابن الماجشون في الواضحة .
ومن كتاب أوله تأخير صلاة العشاء
مسألة
وسئل مالك عمن حلف على آخر لينتقلن من داره
فانتقل ثم بدا له أن يرده إليها ، قال منذ كم
انتقلت ؟ قال منذ خمسة عشر يوماً ، قال زد على
ذلك ، قال ابن القاسم لا أرى عليه إن رجع بعد
خمسة عشر ليلة شيئاً ، وأحب إلي أن يبلغ الشهر
ونحوه ، إلا أن يكون أراد ألا يساكنه فإن كانت
تلك نيته فلا يساكنه أبداً .
(3/117)
قال محمد بن
أحمد : استحب ابن القاسم ألا ينتقل حتى يبلغ
الشهر ليكون ذلك أبرأ من الحنث ، لأن الشهر قد
جعل حداً في وجوه كثيرة من العلم ، من ذلك
الزكاة لا يقدم قبل محلها بشهر والمعتق إلى
أجل ينتزع ماله قبل حلول أجله بشهر ، والذي
يحلف أن يطيل هجران رجل يبر بشهر ، ونحو ذلك
كثير ، ولم ير عليه حنث إن رجع بعد خمسة عشر
يوماً ، وكذلك لو رجع عبد أن أقام أكثر من يوم
وليلة لم يحكم عليه بالحنث ، فقد قال ابن
المواز في ذلك في الذي يحلف أن يخرج من
المدينة إن القياس فيه ألا يلزمه أن يخرج إلا
إلى مكان لا يلزمه أن يأتي منه إلى الجمعة
فيقيم فيه ما قل أو كثر ، وما قيل فيه سوى هذا
فهو استحسان ، وسنتكلم على هذه المسألة إذا
مررنا بها في رسم الطلاق الأول من سماع أشهب
من كتاب الأيمان بالطلاق إن شاء الله ، وسيأتي
في آخر رسم منه إذا حلف الرجل لينتقلن عن جاره
على ما هو محمول القول في ذلك إن شاء الله ،
واختلف إذا أبى المحلوف عليه بالانتقال من
الانتقال وكان ممن ليس للحالف أن يجبره على
الانتقال على قولين ، أحدهما أنه يضرب له من
الأجل بقدر ما يرى أن الحالف أراده بيمينه فإن
انتقل إلى ذلك الأجل وإلا حنث الحالف ، واختلف
إن كانت اليمين بالطلاق هل للحالف أن يطأ في
التلوم ؟ فإن كان أجل التلوم من أربعة أشهر
دخل على الحالف الإيلاء على القول بأنه لا يطأ
. والقول الثاني أنه كالحالف على فعل نفسه
يؤمر المحلوف عليه بالانتقال ولا يجبر على ذلك
ولا يضرب له في ذلك أجل ، ولا يحنث الحالف إلا
بموت المحلوف عليه ، فإن كانت يمينه بالطلاق
لم يكن له أن يطأ وضرب له أجل الإيلاء إن طلبت
امرأته ذلك .
(3/118)
مسألة
وسئل عن الرجل يحلف ألا يشتري لامرأته شيئاً
فيشتري لنفسه أو لبنته شيئاً ثم تسأله امرأته
أن يوليها شيئاً مما اشترى لنفسه أو لبنته .
قال لا أحب له أن يفعل ، ولكن يوكل غيره يشتري
لها .
قال محمد بن أحمد : قال مالك في هذه الرواية
لا أحب له أن يفعل ، يريد أنه يحنث إن فعل
وكان بحضرة ذلك ، وهو نحو ما لمالك في رسم سلف
من سماع ابن القاسم هناك : إن كان عند مواجبة
البيع وبحضرته حنث لأن التباعة على البائع ،
وفي التفسير ليحيى إذا صح ذلك منهما فلا حنث
عليه ، وإن عملا على وجه الدلسة فهو حانث وإن
ربح عليها ، لأن الربح يكون مع الدلسة أجرة
للزوج ويكون إنما اشترى لها ، وتحصيل الاختلاف
في هذا عندي أنهما إن عملا على ذلك فهو حانث
وإن ولاها بربح بعد افتراقهما ، وإن لم يعملا
على ذلك واشترى لنفسه أو لابنته شراء صحيحاً
ثم ولاها ذلك بربح وإن كان ذلك عند مواجبة
البيع أو بعد افتراقهما بربح أو بغير ربح فلا
حنث عليه ، واختلف إن اشترى لنفسه شراء صحيحاً
ثم ولاها ذلك بالثمن دون ربح عند مواجبة البيع
على ثلاثة أقوال . أحدها أنه حانث وإن كانت
التباعة على الزوج المولى وهو ظاهر قول مالك
في هذه الرواية وفي رسم سلف من سماع عيسى .
والثاني أنه لا حنث عليه وإن كانت التباعة على
البائع وغير حانث على القول بأن التباعة على
الزوج المولي ، وهو الذي ذهب إليه ابن القاسم
في رسم سلف من سماع عيسى ، وقد اختلف قول مالك
في التباعة ، فقال في موطإه إن التباعة على
المولي وقال في رسم سلف من سماع عيسى إن
التباعة على البائع واختلف في ذلك أيضاً
(3/119)
قول ابن القاسم
، فقال في رسم السلم من سماع عيسى من كتاب
السلم والآجال إن التباعة على البائع وقال في
رسم أسلم من سماع عيسى من كتاب العيوب إن
التباعة على المولى ، وهذا أتى الزوج مستفتياً
أو كانت يمينه مما لا يحكم به عليه ، وأما إن
كان مشهوداً عليه ومخاصماً فلا يحكم عليه
بالحنث إن كانت التولية بربح أو بعد الافتراق
، وإن كانت قبل الافتراق بغير ربح فعلى
الثلاثة الأقوال ، ولا يمين عليه في مجرد دعوى
التباعة حيث لا يجب عليه الحكم بالحنث ، هذا
الذي يأتي على أصولهم في هذا ، والله أعلم .
ومن كتاب أوله اغتسل على غير نية
مسألة
وعن امرأة حلفت في عبد لها ألا تبيعه ولا تهبه
فأرادت أن تتصدق به على ولدها ، فقال لا
يعجبني ذلك ، وأرى هذا على نحو الهبة .
قال محمد أحمد : وهذا كما قال وهو بين ، لأن
الهبة تعتصر ، والصدقة لا تعتصر ، فإذا حنث
بالهبة فالصدقة أحرى أن يحنث بها ولا تنوى في
ذلك إن ادعت نية وكانت يمينها مما يحكم به
عليها ولو حلفت ألا تتصدق به فوهبته لابنها
وهو ممن لها أن تعتصر منه ، فادعت أنها إنما
حلفت على الصدقة من أجل أنها لا تعتصر لوجب أن
تنوي في ذلك .
مسألة
وسئل عن الرجل يبيع الجارية فيحلف ألا يضع من
ثمنها شيئاً فتمكث عنده ثم يجد بها الذي
ابتاعها عيباً فيردها منه فيضع له السلطان ،
فقال ما أرى على صاحبها حنثاً لأنه لم يحلف
على ذلك .
(3/120)
قال محمد بن
أحمد : وهذا كما قال ، لأنه إنما حلف ألا يضع
عن المبتاع من حقه الواجب عليه شيئاً . وذلك
ما لا يصح أن يحكم به عليه فوضيعة السلطان عنه
لمكان العيب إنما هو حكم له بإسقاط ما لا
يلزمه ، وذلك ما لم يحلف عليه البائع ، ولو
سأله المبتاع ذلك فحلف عليه فرفعه المبتاع إلى
الحكم فحكم عليه به يجري ذلك على الاختلاف
الذي ذكرناه في رسم تسلف في المبتاع والحيوان
وبالله التوفيق .
ومن كتاب البز
مسألة
وسئل مالك عن رجل حلف ألا تواكله امرأته عن
صحفة واحدة شهراً ، فجاءته برطب في طبق فإذا
فيه بضعة لحم ، فقال لها ما هذه البضعة ؟ قالت
إن الخادم وضعتها والمرأة لا تأكل معه ، وكان
الرجل يأكل في طبق رطباً وهي لا تأكل معه ،
فتناولت المرأة البضعة لتأكلها فأخذها من يدها
، فقال قد حلفت ألا تأكل معي في صحفة ، ثم
أمسكها في يده ووامر نفسه ثم قال إنما قلت في
صحفة فناولها إياها فأكلتها ، قال مالك أخاف
عليه الحنف ، وكان طلاقه إياها واحدة فأمره أن
يطلقها واحدة ثم يرتجعها ، قال فقلت له الطبق
والصحفة واحد ؟ من حلف ألا يأكل في صحفة فأكل
في طبق حنث ؟ قال نعم وهو واحد .
قال محمد بن رشد : هذه مسألة صحيحة على الأصل
في أن الأيمان إنما ينظر فيها إلى معانيها لا
إلى مجرد ألفاظها كما يقول أهل العراق ، لأن
الحالف ألا تواكله امرأته في صحفة إنما معناه
ألا تواكله في إناء واحد ،
(3/121)
فخرجت يمينه
على الصحفة لأن الصحاف هي التي يأكل الناس
فيها في غالب الأمر لا لأنه قصد الصحفة دون
غيرها من الآنية والظروف ، فوجب أن لا يعتبر
بتسمية الصحفة لهذه العلة ، ولو اعتبر لوجب
ألا يحنث إذا أكلت معه في جفنة أو في برمة أو
في صحفة صغيرة ، وهذا ما لا يمكن أن يقال بوجه
لكونها في معنى الصحفة سواء ، فلو سمي - على
هذا القياس الذي اصلناه وهو صحيح - ما لا يوكل
فيه في غالب الأمر ، لوجب أن يراعى تسميته ولا
يحنث إذا واكلته في غيرها لما يظهر من قصده
إلى الحلف على ما سمي دون سواه ، فإذا حلف ألا
يأكل مع امرأته في طبق لم يحنث إذا أكلت معه
في صحفة ، وكذلك لو سمى الطبق مما لم تجر
العادة أن يوكل فيه إلا نادراً ، ولو حلف ألا
يأكل معها فاكهة في طبق فأكل معها فاكهة في
غير طبق : صحفة أو غيرها من الآنية لحنث ، لأن
الفاكهة لما كانت لا توكل في غالب الأمر إلا
في الأطباق على أن يمينه إنما خرجت على الطبق
لذلك لأنه قصد إلى الطبق دون ما سواه من
الآنية والظروف ، وهذا أصل يطرد ، من ذلك
قولهم من حلف ألا يأكل خبزاً فأكل كعكاً أنه
يحنث ، ومن حلف ألا يأكل كعكاً فأكل خبزاً أنه
لا يحنث ، ومن حلف ألا يدخل على فلان بيتاً
فدخل عليه الحمام أو السجن حنث ، ومن حلف ألا
يدخل على فلان حماماً ولا سجناً فدخل عليه
بيتاً ليس لحمام ولا سجن لم يحنث ، ومثل هذا
كثير ، وقوله في المسألة فأمره أن يطلقها
واحدة كلام ليس على ظاهره من أنه أمره أن
يستحدث لها طلاقاً ، وإنما معناه أنه أمره أن
يعد ما قد وقع عليه من الحنث بأكلها بالبضعة
من الطبق طلقة واحدة ثم يرجعها ، ولو استحدث
لها طلاقاً على ظاهر لفظه لكانت طلقة أخرى سوى
الطلقة التي حنث
بها وهذا بين لا إشكال فيه .
(3/122)
مسألة
وسئل عن رجل حلف ألا يبتاع من رجل سلعة فاشترى
منه رجل سلعة فأراد أن يشرك ذلك الرجل فيما
اشترى ، قال لا يعجبني ذلك ، قيل له أيشتري
منه غلامه ؟ قال : لا أرى ذلك له .
قال محمد بن أحمد : إنما قال في الذي حلف أن
لا يشتري من رجل سلعة فاشترى منه سلعة فأشركه
فيها لا يعجبه ذلك ، لأن عهدته تكون عليه
فضارع عهدة من حلف ألا يشتري من فلان سلعة
فوكل غيره فاشتراها له منه أنه حانث ولم يكن
عنده بمنزلة ذلك سواه ، ولذلك قال لا يعجبني
ولم يقل لا يجوز لأنه من حلف ألا يشتري سلعة
من فلان فأمر غيره فاشتراها له منه هو حانث
على كل حال إلا أن يكون نوى ألا يلي هو الشراء
منه بنفسه فبينوا في ذلك أنه إن أتى مستفتياً
، أو كانت يمينه مما لا يقضي عليه بها ، أو في
شراء غلامه منه تفصيل ، أما إن كان الغلام
يعمل بمال سيده فاشترى منه بأمره فلا إشكال في
أنه حانث بمنزلة الذي يحلف ألا يشتري السلعة
من رجل فوكل غيره على أن يشتريها له منه ، ولم
يتكلم في الكتاب على هذا الوجه وإنما تكلم إذا
اشترى منه بغير أمره وهو يعمل أيضاً بمال سيده
، لأن معنى قوله أفيشتري منه غلامه بغير إذنه
يريد بغير علمه فقال لا أرى ذلك له يريد أنه
يحنث إن فعل لأن الشراء يجب له والعهدة تكون
على المحلوف عليه ، فذلك بمنزلة المسألة التي
قال فيها لا يعجبني ، وأما إن كان العبد يعمل
بمال نفسه فيتخرج ذلك على الاختلاف في الذي
يحلف ألا يركب دابة لغيره فيركب دابة عبده ،
والقولان في النذور في المدونة .
(3/123)
مسألة
وسئل مالك عن رجل جاء أخ له يستسلفه خمسة عشرة
ديناراً فحلف بالمشي إلى الكعبة إن كان معه
إلا عشرة ففتح كمه فلم يجد إلا تسعة دنانير ،
قال مالك لا أرى عليه حنثاً ، قال ابن القاسم
ولو كان معه أحد عشر ديناراً حنث وإنما سقط
عنه الحنث حين لم يجد معه إلا تسعة لأنه حلف
على أنه ليس معه أكثر من عشرة فلذلك لم يكن
عليه شيء .
قال محمد بن أحمد : هذا بين لا إشكال فيه ولا
اختلاف ، لأن معنى يمينه أنه ليس معه أكثر من
عشرة إذا طلب منه المستسلف خمسة عشر ديناراً
وإلى ذلك قصد بيمينه لا إلى أن معه عشرة .
مسألة
وسئل مالك عن رجل قال بعيراي هذان بعد سنة في
سبيل الله فأقاما في يديه ثم هلك الرجل قبل
السنة ، أتراهما من رأس المال أم من الثلث ؟
قال ما علمت أن هذا يفعل فإن جعل شيئاً في
سبيل الله فلينفذه ، قيل له أفلا تراه مثل
الذي يعتق إلى سنة ؟ قال : لا ، قد يدبر العبد
وليس في الإبل تدبير ، فكأنه يقول ليس هذا
بشيء .
قال محمد بن أحمد : قوله إنه إن هلك الرجل قبل
السنة بطل ذلك ولم يكن في رأس مال ولا ثلث ،
صحيح على أصولهم ، لأنه صدقة في الصحة لم تحز
عنه حتى مات فوجب أن تبطل ، وكذلك لو أتت
السنة وهو مريض فمات من مرضه ذلك على مذهب ابن
القاسم ، وقد قيل فيما أحسب إن ذلك يكون من
الثلث ، وإن أتت السنة وهو حي صحيح نفذا في
(3/124)
السبيل ،
واختلف هل يحكم عليه بذلك إن أبى أن ينفذه على
الاختلاف في الذي يتصدق على المساكين فيأبى أن
ينفذ ذلك ، والقولان في المدونة على اختلاف
الرواية في ذلك ، وليس له أن يبيعهما ولا
يفوتهما قبل السنة ، واختلف هل يحكم عليه بذلك
أم لا على الاختلاف المذكور ، ولو قال بعيراي
هذان بعد سنة صدقة على فلان لحكم عليه ألا
يبيعهما قبل السنة وأن يسلمهما إليه بعد السنة
إن أتت وهو صحيح قولاً واحداً على ما قاله ابن
القاسم في رسم الجواب من سماع عيسى من كتاب
الصدقات والهبات ، فقوله في آخر المسألة فكأنه
يقول ليس هذا بشيء يريد أنه يبطل إن مات قبل
السنة إلا أن قوله لا يوجب حكماً ويبطل في كل
حال لأن حكم فيه يجري على ما قلناه وبالله
التوفيق .
ومن كتاب أوله باع غلاماً
مسألة
وسئل مالك عن ابني عم وقع بينهما ميراث
فتشاجرا فحلف أحدهما بيمين غليظة إن دفع إليه
شيئاً حتى يقضي به عليه السلطان ، فاختصما
فقضي على الحالف باليمين وأراد أن يفتدي من
اليمين ويدفع إليه في ذلك حقاً ، فكره ذلك ،
وقال لا يدفع إليه شيئاً ويحلف إن كان باراً ،
فقيل له لو أن رجلاً قضي عليه بيمين فأراد أن
يفتدي منها قال لا بأس بذلك .
قال محمد بن أحمد : قوله إنه لا يفتدي من
اليمين بثمن يدفعه إليه صحيح لأنه قد حلف ألا
يدفع إليه شيئاً إلا بقضاء سلطان ، والسلطان
لم يقض عليه إلا باليمين بما افتدى به منها ،
وقوله ويحلف إن كان باراً
(3/125)
صحيح أيضا ،
لأنه إن نكل على اليمين فحلف ابن عمه وأخذ ما
ادعى حنث هو في يمينه ، فإن كان غير بار لم
يحل له أن يحلف ويحلف ابن عمه ويأخذ ما ادعى ،
ويحنث هو في يمينه إذ كان إنما حلف وهو عالم
بصحة دعواه ليقتطع حقه فإن اجترأ على الله
وحلف بر في يمينه وأثم في اقتطاع حق ابن عمه
بيمينه الفاجرة ، كمن حلف أن يسرق أو يزني أو
يشرب خمراً ، وكذلك إن لم يعلم إن كان ما يدعي
ابن عمه حقاً أو باطلاً إذ لا يجوز له أن يحلف
على غير يقين ، وقد وقع في أول رسم البراءة من
سماع عيسى من كتاب الإيمان بالطلاق ، لفظ ،
قال فيه بعض الناس إنه يدل على أن له أن يحلف
فيما لا يوقن به ، وهو بعيد ، فالصواب أن
يتأول على ما تأولناه عليه هناك ، فلا يدل على
أنه يجوز له أن يحلف على ما شك فيه وبالله
التوفيق .
مسألة
قال مالك كان حلف عبد الله بن أبي حنيفة في
الجرو القتاء بعد أن احتلم .
قال محمد بن أحمد : قوله صحيح لأنه لو كان لم
يحتلم لما لزمه النذر لقوله ، عليه السلام :
"رفع القلم عن ثلاث" فذكر فيهم الصبي حتى
يحتلم ، ولا اختلاف أعلمه في أن الصبي لا
يلزمه بعد بلوغه ما نذره على نفسه قبل بلوغه ،
إلا أنه يستحب له الوفاء به ، وقد قال ابن
كنانة إن الصغير إذا حلف به قبل بلوغه لزمه
إذا حنث فيه بعد بلوغه ، ومن أهل العلم من ذهب
إلى أن المشرك إذا نذر في حال الكفر يلزمه
الوفاء بعد الإسلام لما
(3/126)
روي من أن عمر
بن الخطاب ، رضي الله عنه ، قال للنبي ، عليه
السلام ، إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف يوماً
في المسجد الحرام ، فقال له النبي : فِبنذرك ،
وهو عندنا وعندك أكثر أهل العلم على أن ذلك
على الندب لا على الوجوب ، وما يدل على ذلك
أيضاً أن - فِ- لا تستعمل إلا فيما ليس بواجب
، يقال وفي بالوعد وأوفى بالحق والنذر ، فيلزم
على قول من أوجب على الكافر الوفاء بالنذر بعد
إسلامه أن يوجب على الصغير الوفاء بالنذر بعد
بلوغه ، بل هو أحق أن يجب عليه على مذهبه ،
لأن الصغير وإن كان لا تكتب عليه السيئات
فتكتب له الحسنات على الصحيح من الأقوال ،
والكافر لا تكتب له الحسنات وتكتب عليه
السيئات ، وبالله التوفيق .
مسألة
وسئل عن امرأ حلفت على أختها ألا تشهد لها
محياً ولا مماتاً فماتت ابنة أختها فأرادت أن
تنظرها عند باب المسجد فتصلي عليها وقد كانت
حلفت بالمشي إلى الكعبة فكره ذلك لها .
قال محمد بن أحمد : وهذا كما قال لأنه إذا صلت
عليها فقد شهدت جنازتها فوجب أن تحنث وإن كانت
لم تشهدها ولا عزتها ولا قامت معها في شيء من
أمرها لأن الحنث يقع بأقل الوجوه ، وقوله فكره
ذلك لها معناه الوجوب وأنها إن فعلت حنث ،
والله أعلم .
مسألة
وسئل عن رجل كان له شريك فحاسبه ثم لقيه ،
فقال له قد بقي عندك كذا وكذا وكان من شريكه
دنانير في يده ، فقال عند ذلك : هذه الدنانير
صدقة على المساكين إن كان لك عندي شيء .
(3/127)
ثم ذهب إلى
منزله فنظر إلى كتب عنده فإذا هو ما قاله
شريكه حق ، قال أرى أن يتصدق بالدنانير ، ولا
ينفعه إن كان حلف وهو يرى أنه إنما حلف على حق
، وإنما ينفعه ذلك في الحلف بالله ، فأما
الصدقة والعتق والمشي فلا ينفعه في الحلف
بالله ، فأما الصدقة والعتق والمشي فلا ينفعه
ذلك ، وليس اللغو في الصدقة والمشي ، إنما
اللغو في الحلف بالله ، لا يكون إلا في اليمين
بالله أو بشيء من صفاته وأسمائه أو في نذر لا
يسمى له .
قال محمد بن أحمد : وهذا كما قال ، وهو مما لا
اختلاف فيه وحكمه في المذهب في أن اللغة مخرج
لأن الله لم يذكره إلا في اليمين التي أوجب
فيها الكفارة ، فقال تعالى : { لا يؤاخذكم
الله باللغو في أيمانكم } الآية ، ويجييء على
مذهب من أوجب كفارة اليمين بالله في الحلف
بالمشي والصدقة وما أشبه ذلك مما فيه قربة
وطاعة أن يكون اللغو في ذلك .
مسألة
وسئل مالك عن رجل كان له على رجل حق ، فقال
لغريمه إن لم تقض صدراً من حقي يوم كذا وكذا
فعلي المشي إلى بيت الله إن لم ألزمك بحقي كله
، قال مالك : أرى الصدر الثلثين ، ولو أن
رجلاً قال النصف لكان قولاً ، ولكن الثلثان
أحب إلي إلا أن يكون حين حلف قد أجمع على أمر
شيء من أمره فهو على ما أجمع .
(3/128)
قال محمد بن
أحمد : لابن نافع في المبسوطة أنه إذا قال :
جل ، فذلك أكثر من الثلثين ، وإذا قال صدراً
فذلك الثلث فما فوقه ، وهو في القياس أظهر لأن
صدور الأشياء هي الجمل من أوائلها ، فالصدر ثم
النصف ثم الجل ، والله أعلم .
ومن كتاب أوله صلى نهاراً ثلاث ركعات
مسألة
وسئل مالك عن رجل قال علي نذر ألا أكلم فلاناً
قال : ليكلمه ولا أرى عليه ، إنما ذلك مثل ما
يقول علي نذر أن أكلمه أو أحمل هذا الحجر فلا
شيء عليه ، إنما كان نذره في كلامه .
قال محمد بن أحمد : وهذا كما قال علي نذر أن
أكلم فلاناً أو لا أكلمه إنه لا شيء عليه كلمه
أو لم يكلمه إذ لا طاعة لله في كلامه ولا في
ترك كلامه ، وقد قال صلى الله عليه وسلم :" من
نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصيه فلا
يعصه" ، فالنذور تنقسم على أربعة أقسام ، نذر
في طاعة يلزم الوفاء به ، ونذر في معصية يحرم
الوفاء به وترك الوفاء به وسواء كان لك كله في
فعل أو في ترك فعل ، ولا كفارة عند مالك ،
رحمه الله على من لم يف بما نذر إما لأن معصية
لا يجوز له الوفاء به وإما لأنه عجز عن الوفاء
به ، ومن أهل العلم من أوجب في ذلك الكفارة
لما روي من أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
"لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين" وإنما
تجب الكفارة عند مالك في اليمين بالنذر ، مثل
أن يقول علي نذر إن فعلت كذا وكذا أو إن لم
أفعل كذا وكذا ، كان ذلك للذي حلف على فعله
مما يجوز له
(3/129)
فعله أو مما لا
يجوز ، وكان الذي حلف على تركه مما يجوز له
تركه أو مما لا يجوز ، غير أنه إن كان ذلك مما
لا يجوز أمر بالحنث والكفارة ، فإن اجترأ وبر
سقطت عنه الكفارة .
ومن كتاب أوصله مرض وله أم ولد فحاضت
مسألة
وسئل مالك ، رحمه الله ، عن رجل كان له عند
امرأته ذهب فأسلفت منه أخاً لها فعلم الزوج
بذلك فحلف ألا يخرج حتى يأخذ حقه منه أو يقضي
به عليه سلطان ، فقالت امرأته أنا التي أسلفته
وأنا له ضامنة وقد كان يريد سفراً . قال : لا
يخرج حتى يأخذها ولا يقبل ضمانها إلا أن يوخره
السلطان إذا رأى السلطان ذلك .
قال محمد بن أحمد : وهذا كما قال لأن الزوج
مخير له أن يأخذ بماله من شاء منهما ، إن شاء
زوجته التي تعدت على ذهبه فأسلفته ، وإن شاء
أخاها الذي أسلفته إياه فإن أخذ بذهبه الزوجة
كان لها ان تتبع أخاها بذلك ، وأن أخذ به أخ
الزوجة سقطت التباعة عن الزوجة ، فإذا حلف ألا
يخرج حتى يأخذ حقه من أخي الزوجة إلا أن يوخره
السلطان فليس له أن يترك اتباعه ويرجع عن
امرأته ، فإن فعل ذلك حنث بما حلف به ، وفي
قوله إلا أن يوخره السلطان إن رأي ذلك دليل
على أن للسلطان أن يخر الغريم بما حل عليه من
الديون على ما يراه موجب للنظر في ذلك ، ومثله
في أول رسم ابن القاسم من كتاب المكاتب ،
وبذلك جرت الفتيا عندنا بقرطبة ، خلاف ما كان
يحكم به في غيرها أن الغريم إذا حل أجل ما
عليه من دين لم يوخر ساعة ولا حيناً وبيعت
عليه عروضه بالغة ما بلغت إن لم يكن له ناض
يؤدي منه ما عليه وهو خلاف ظواهر الروايات عن
مالك وأصحابه ، وبالله التوفيق .
(3/130)
مسألة
قال مالك من حلف بالمشي إلى بيت الله فحنث ،
فإنه يمشي من حيث حلف وكانت يمين صاحبه ألا
يفعل كذا وكذا حتى ينتقل من منزله وكان صاحب
خيمة ، قال مالك ولا أحب أن يحولها إلى مكان
قريب حتى ينتقل نقلة يعرف أنها نقلة من ذلك
الموضع إلى غيره ثم يفعل ما حلف عليه إن أراد
إن كان إنما أراد بذلك مخرجاً من يمينه .
قال محمد بن أحمد : تكررت هذه المسألة في هذا
الرسم من هذا السماع من كتاب الحج ، وقوله
فيها هنا وهناك إنه يمشي إذا حنث م حيث حلف لا
من حيث حنث يأتي على ما في كتاب ابن المواز
العتق الأول من المدونة في الذي يقول إن كلمت
فلاناً فكل مملوك أملكه من الصالبة فهو حر
فيشتري بعد يمينه وقبل أن يكلمه صقالبة ثم
يكلمه إنهم يعتقون عليه خلاف ما في سماع عبد
الملاك من كتاب الأيمان بالطلاق الذي يقول إن
كلمت فلاناً فكل امرأة أتزوجها بمصر طالق
فتزوج ثم كلمه أنه لا شيء عليه في التي تزوج
قبل يمينه ، وإنما يلزمه الحنث فيما تزوج بعد
كلامه ، ولم ير إذ كانت يمينه ألا يفعل كذا
وكذا حتى ينتقل من منزله أن اليمين تنحل عنه
حتى يكون له أن يفعل ما حلف عليه وإلا لحنث
إلا بانتقال من ذلك الموضع إلى غيره من
المواضع ، وخشي إن حولها إلى مكان قريب ألا
يكون ذلك انتقالاً تنحل عنه اليمين ، فقال ولا
أحب أن يحولها إلى مكان قريب حتى ينتقل نقله
تعرف ، وبالله التوفيق .
(3/131)
ومن كتاب
المحرم يتخذ خرقة
مسألة
وسئل مالك عن رجل حلف في رقيق لابنه ألا
يبيعهم بثمن سماه وللحالف أب فقال له أن
أبيعهم ليس هم لك فقال له أسفيه هو ؟ يريد
الحالف فقالوا لا فقال لا أرى أن يبيعهم .
قال محمد بن أحمد : في قوله لا أرى أن يبيعهم
إذا لم يكن سفيهاً دليل على أن له يبيعهم إذا
كان سفيهاص فجعله في حكم الوصي على ولد ابنه
ما دام ابنه سفيهاً فيلزم على هذا أن يكون وصي
الأب وصياً على ولد الولد الذين إلى نظره
بإيصاء الأب وهو نحو ما في مختصر ابن شعبان عن
مالك أن للوصي أن يزوج بنات يتيمة بعد بلوغهن
فإن رضي الأب بذلك قبل أن يبلغن فلا يلتفت إلى
رضاه لسقوط ولايته فهن كاليتامى ، قال ابن وهب
في أصل سماع أصبغ : والرفع إلى السلطان أحسن ،
وليس من ذلك ما في كتاب ابن المواز أن المولى
عليه إذا قتل وله ولد أصاغر أن وصي الأب أولى
من عمومة الصبي ، بالدم ، وقد كان بعض شيوخه
لا يرى وصي الأب وصياً على صغار الولد الموصي
بهم ، وبالله التوفيق .
مسألة
وسئل مالك عن الرجل يحلف أن يحمل الشيء على
عنقه إلى بيت الله فيكون ممن لا يقدر على
المشي فيركب أترى عليه هديين أم هدياً واحداً
؟ قال : يهدي واحداً وليس هذا من الأمور
(3/132)
التي مضت فيها
سنة ولا أمر ، قيل له فهدي واحد يجزئ عنه ؟
قال : نعم .
قال محمد بن أحمد : أوجب مالك على الحالف في
هذه المسألة الهدي لركوبه ولم يوجب عليه شيئاً
لما وضع عن نفسه من حمله الشيء على عنقه فلو
مشي ولم يركب لم يجب عليه شيء على هذه الرواية
خلافاً لما في المدونة في الذي يقول أنا أحمل
هذا العمود أو هذه الطنفسة أو ما أشبه ذلك إلى
بيت الله أنه يحج ماشياً ويهدي لموضع ما وضع
عل نفسه من المشقة في حملان تلك الأشياء إلا
أن يفرق بين النذر واليمين مراعاة لقول من لا
يرى الشيء واجباً باليمين ، والأظهر أن ذلك
اختلاق من القول ، وألا يكون على الذي قدر أن
يحمل الشيء على عنقه إلى بيت الله إلا المشي
راجلاً كما قال في الذي نذر أن يمشي إلى بيت
الله حافياً أنه ينتعل وإن أهدى فحسن وإن لم
يهد فلا شيء عليه ، وهو خفيف إذ لا طاعة لله
في حفائه ولا في حمله الشيء على عنقه ، وقد
قال صلى الله عليه وسلم :" من نذر أن يطيع
الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه" ،
فوجب أن يسقط عنه ما قدره على نفسه مما لا
طاعة لله فيه ولا يلزمه في ذلك شيء ولو لزمه
في ذلك شيء لكان الواجب في ذلك كفارة يمين لما
جاء في ذلك عن النبي ، عليه السلام ، وأخذ به
جماعة من العلماء على ما قدر ذكرناه في رسم
صلى نهاراً ثلاث ركعات قبل هذا .
مسألة
وسئل مالك عن المرأة المولى عليها تحلف بصدقة
ما تملك
(3/133)
على المساكين
أو بأنها تحمل ابن عم لها إلى بيت الله إن
تزوجته فقدر له أن تزوجته . فقال أرى أن تمشي
إلى بيت الله ، قال إنها لا تستطيع أن تمشي ،
قال فلتركب ولتهد قال إنها صرورة ، قال فلتدخل
بعمرة إن أحبت وتمشي بعد حجتها عن نفسها قال
أيجزيها أن تدخل بعمرة في مشيها فتحج لنفسها ؟
قال : نعم ، قال : أفترى عليها هديين ؟ قال :
نعم إن اعتمرت في أشهر الحج ، فعليها هدي
لتمتعها وهدي لما ركبت ، وهديان في هذا يجيزان
عنها . فقيل له أفتأكل منهما جميعا ؟ فقال :
نعم ، وأرى عليها صدقة ثلث ما لها ، قال سحنون
: هذا خطأ وما ينفعها الولاية إذا كان تنفق
مالها ؟ فليس هو كما قال .
قال محمد بن أحمد : حملك مالك ، رحمه الله حلف
المرأة بحمل ابن عمها إلى بيت الله على أنها
أرادت حمله على عنقها فأوجب عليها إذا حنثت
المشي إلى بيت الله والهدي إن لم تستطع المشي
فركبت ، وذلك خلاف لما في المدونة في موضعين .
أحدهما حمل يمينها على أنها أرادت حمله على
عنقها لأنه قال في المدونة فيمن قال أنا أحمل
فلاناً إلى بيت الله أنه يحج راكباً ويحج معه
بالرجل إلا أن ينوي حمله على عنقه ، والموضع
الثاني قوله أنها تمشي إلى بيت الله وتهدي إن
لم تستطع المشي فركبت على ما قاله في المسألة
التي قبلها ، لأنه قال في المدونة إن أراد
حمله على عنقه حج ماشياً وأهدى يريد لما وضع
عن نفسه من حملانه على عنقه ، فعلى قوله فيها
يهدي إن لم يستطع المشي فركب هديين ، هدياً
لكروبه وهدياً لما وضع من المشقة في نفسه ،
وقوله إنها إن كانت صرورة كان لها أن تدخل
بعمرة وتحج بعد ذلك لنفسها وتهدي لتمتعها إن
كانت عمرتها في أشهر الحج صحيح مثل ما في
المدونة وغيرها لا اختلاف في ذلك ، وقوله وأرى
عليها صدقة ثلث ما لها معناه إن ملكت أمرها
وصار مالها إليها وكان ذلك هو المال الذي كان
(3/134)
لها يوم حلفت
فإن كان قد زاد لم يكن عليها أن تتصدق بثلث
مالها الزائد ، وإن كان قد نقص لم يكن عليها
أن تتصدق إلا بثلث الباقي وأما ما وجب عليها
من الهدي لتمتعها ومشيها فإن كان الولي منعها
من مالها ولم تصم فعلهيا إذا ملكت أمر نفسها
أن تهدي من مالها كان ذلك المال أو غيره ، وفي
آخر أول رسم من سماع ابن القاسم من كتاب
النكاح أنه لايلزمها في مالها صدقة ولا شيء
قبسبب الولاية مثل قول سحنون هنا ، وهو أظهر
لأنه إنما حجر عليها نظراً لها ، فلو كان
يلزمها إذا رشدت ما فعلت في حال الولاية لما
أغنت عنها شيئاًن بخلاف العبد والزوجة ذات
الزوج والغريم الذي يقع التحجير عليهم لحق
غيرهم ، وهذا الاختلاف في المولى عليها إنما
هو إذا لم يرد الولي فعلها حتى ملكت أمر نفسها
وصارت مالها بيدها ، وبالله التوفيق لا رب
غيرهز
ومن كتاب الشجرة تطعم بطنين في السنة
مسألة
وسئل عن امرأة حلفت لزوجها ألا تتزوج ، بعشرة
نذر إلا أن يغلبها أمر لا تملكه فطلقها زوجها
فاحتاجت وأرادت التزويج ، فقال لها هل جعلت
لذلك مخرجاً من حج أو عمرة أو عتق أو صيام ؟
قالت : لا ، ولكن كانت مني مسجلة ، قال فاطعمي
مائة مساكين بالمد الأصغر لكل مسكين مد ، فإن
لم تقدري فصومي ثلاثين يوماً .
قال محمد بن أحمد : قولها إلا أن يغلبها أمر
لا تملكه معناه إلا أن تشتهي الرجال أو تخاف
على نفسها العنت ، وعلى هذا حمل مالك
استثناءها ولذلك لم ير الحاجة مما يسقط عنها
اليمين ، وقوله إنها تطعم مائة مسكين إن
(3/135)
كانت لم تجعل
لما نذرت مخرجاً صحيح على أصولهم في أن من نذر
نذراً ولم يجعل له مخرجاً فكافرته كفارة يمين
، وبالله التوفيق .
من سماع أشهب وابن نافع من مالك من كتاب
الأقضية
مسألة
قال سحنون : أخبرني أشهب وابن نافع قالا سئل
مالك عمن أبق له غلام فأخذه فحلف له إن عدت
لأضربنك ، فعاد فابق فلم يضربه ثم عاد فابق له
فضربه أتراه خرج عن يمينه ؟ قال : لا أراه وقت
وقتاً ولا أرى ذلك قد أخرجه عن يمينه إذا ضربه
الضرب الذي حلف عليه ضرباً لا عذاباً ولا دون
.
قال محمد بن أحمد : هذا خلاف ما مضى في رسم
حلف ليرفعن أمراً من سماع ابن القاسم في مسألة
الوتر ، وقد مضى القول على ذلك هناك فلا معنى
لإعادته ، وبالله التوفيق .
ومن كتاب الأقضية
مسألة
وسئل عن الرجل يقول لله علي إن جاءني الله
بأبي يوم كذا وكذا أن أتصدق أو أعتق أو أصوم
أو أصلي ، قال لا بأس بذلك ، قال عز وجل : {
يوفون بالنذر } ، { قالت رب إني نذرت لك ما في
بطني محررا } - آل عمران ، 35 .
(3/136)
قال محمد بن
أحمد : أجاز مالك ، رحمه الله ، أن يقول الرجل
لله علي أن أفعل كذا وكذا من الخير ولم ير به
بأساً ، وقد كره جماعة من أهل العلم من أصحاب
النبي وغيرهم النذر ، لما روي أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم نهى عن النذر ، وقال :
"غنه لا يغني شيئاً" ولكن يستخرج به من البخيل
ولما روي عنه أيضاً من رواية أبي هريرة أنه
قال لا تنذروا فإن النذر لا يغني من القدر
شيئا . وإنما يستخرج به منا لبخيل ويحتمل أن
يكون النهي لم يصح به عند مالك ويحتمل أن يكون
معنى النذر المنهي عنه في الحديث تعجيل ما يجب
تعجيله أو تأخير ما يجب تأخيره مما لا عمل
للنذر فيه إذ لا يغني من القدر شيئاً كما قال
صلى الله عليه وسلم .
فالنذر على مذهب مالك ينقسم ثلاثة أقسام :
نذر مستحب وهو النذر المطلق الذي يوجبه الرجل
على نفسه شكراً لله على ما كان ومضى .
ونذر جائر وهو النذر المقيد بشرط يأتي .
ونذر مكروه وهو المؤقت الذي يتكرر مع مرور
الأيام فقد كرهه في المدونة لشدته مخافة
التفريط في الوفاء به ، والله أعلم .
مسألة
وسئل عمن ابتاع من رجل سلعة ثم سأله أن يضع
عنه عشرة دنانير فقال له البائع الله يعلم أني
لا أضع لك أله مخرج ؟ فقال :
(3/137)
نعم لو كفر عن
يمينه ، قيل له لو كفر عن يمينه ؟! قال نعم
يطعم عشرة مساكين .
قال محمد بن أحمد : ظاهر قول البائع الإخبار
عن الله تعالى بأنه يعلم أنه لا يضع له وهو
قول علمه عز وجل بألا يعلم إذ لا يدري هل يضع
عنه أم لا يضع فإن كان سبق في علم اله تعالى
أنه ضع عنه فهو عالم أنه يضع عنه وإن كان سبق
في علمه أنه لا يضع عنه فهو عالم أنه لا يضع
عنه ، إلا أنه لما قصد البائع بما قاله من هذا
الامتناع من الوضيعة احتمل عنده أن يكون قصد
بذلك اليمين بأن يجعل يعلم صفة لله بمعنى عالم
، فتكون إرادته الله العالم أقسم به أني لا
أضع لك ، فأمره بالكفارة احتياطياً إن لم يضع
عنه ، فإن كان أراد اليمين وقعت الكفارة في
موضعها ، وإن كان أراد الإخبار ولم يرد اليمين
رجا أن تكون الكفارة تكفر عنه الإثم في أن قال
على الله ما لا يعلم هذا وجه هذه الرواية عنده
، والله أعلم .
وقد روي عن سحنون فيمن قال علم الله إن فعلت
كذا فقال إن أراد العلم فهو كالحالف بصفة من
صفات الله تعالى ، وإن لم يرد العلم فلا شيء
عليه ، يريد بذلك أنه أراد فعلم العلم ، فكأنه
قال : وعلم الله ، وقد يحذف واو القسم ، وإن
لم يرد العلم فقوله إخبار لا يلزمه به شيء وهو
يريد ما قلناه ، والله أعلم .
مسألة
قال أشهب ، وسئل مالك عن قول ابن عمر : من حلف
فقال إن شاء الله فقد استثنى ، فقال إنا لنقول
غير هذا نقول إذا حلف وقال إن شاء الله ينوي
به الاستثناء فذلك له ولا حنث عليه ، وإن
(3/138)
كان إنما قال
إن شاء الله لهجاً بذلك مثل قول الله عز وجل :
{ ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غداً إلا أن
يشاء الله } ، ومثل قوله : { لتدخلن المسجد
الحرام إن شاء الله آمنين } ، فليس ذلك
باستثناء ولا يغني عن ذلك شيئاً .
قال محمد بن أحمد : قول مالك إن قول الرجل إذا
حلف وقال إن شاء الله لا يكون استثناء إلا أن
ينوي به الاستثناء ويقصد به إلى حل اليمين
صحيح ليس مما يختلف فيه ، لقول النبي ، عليه
السلام : "إنما الأعمال بالنيات" ولا يمكن أن
يقول ابن عمر ، رضي الله عنه ، خلاف ذلك ،
فقول مالك إنا لنقول غير ذلك معناه إنا لنقول
ما هو أفسر من قوله وأبين من كلامه لما جاء من
إجماله ، والله أعلم .
ومن كتاب الحج
مسألة
وسئل مالك عن رجل كان عليه مشي إلى بيت الله
فمشي في حج حتى انتهى إلى مكة وقد فاته الحج
فطاف بالبيت وركع ركعتين وسعى بين الصفا
والمروة فصار حجه عمرة فحل أقد انقضى مشيه ؟ .
فقال نعم قد انقضى مشيه وعليه حج قابل ، قلت
له أرأيت إذا حج قابلاً أعليه أن يمشي من مكة
إلى منى حتى يقضي حجه ؟ قال ليس عليه ذلك ،
قيل له إنه قد كان مشي في حج ففاته الحج ،
فقال
(3/139)
قد كان مشى في
حج وليس ذلك عليه فإذا فاته الحج فقد صار عمرة
وقضى مشيه ولا شيء عليه فيما يستقبل .
قال محمد بن أحمد : هذا مثل قوله في المدونة
إنه إذا كان عليه مشي فجعله في حج ففاته الحج
أن يحمل العمرة ويجزيه المشي ويحج عاماً
قابلاً راكباً ، وليس عليه أن يمشي بقية مناسك
الحج التي فاتته بخلاف إذا نذر المشي في حج ،
هذا عليه إذا فاته الحج فحل بعمرة ثم حج عاماً
قابلاً راكباً أن يمشي بقية مناسك الحج التي
فاتته . وقال فضل القياس أن يكون عليه إذا رجع
أن يمشي ما بقي عليه من المناسك إذا جعل مشيه
في حج ففاته الحج وإن كان لم ينذره في حج ،
وقوله عندي صحيح إذ لا اختلاف في وجوب مشي
المناسك عليه إذا جعل مشيه في حج وإن كان لم
ينذره في حج ، فإذا وجب عليه أن يمشي جميع
مناسك الحج لجعله مشيه فيه وجب إذا فاتته أن
يقضيها ماشياً ، كما لو أن نذر وقد قال بعض
أهل النظر إن القياس على أصل ابن القاسم في
الحج الثالث من المدونة ألا يجزئ شيء لأنه
متحلل بعمل العمرة ولست عنده بعمرة صحيحة ،
قال لحلف فيه قول ابن القاسم يريد في المدونة
لأنه قد نص فيها أن الذي يصير إلى العمرة
وتحلل بعمرة على ما قاله مالك في هذه الرواية
من أن حجه بصير قال بما في الذي يجامع بعد أن
فاته الحج أن لا عمرة عليه وكان القياس على
قوله أن يصير عمرة أن يكون عليه قضاء العمرة
إذا وطئ بعد أن فاته الحج . وقال أيضاً في
الذي
(3/140)
يتعدى الميقات
فأحرم بالحج بعدما تعداه ثم فاته الحج أنه لا
دم عليه لتعديه الميقات وكان القياس أيضاً على
قوله إن حجه يصير عمرة أن يكون عليه الدم لترك
الميقات كمن جاوز الميقات ثم أحرم بعمرة وإلى
هذه المسألة من الحج الثالث أشار بعض أهل
النظر والله أعلم . ووجه ما ذهب إليه أنه لما
كان ما ترك من الإحرام من الميقات لا يعتبر
فيه فيلزمه فيه الهدي إذ قد فاته الحج الذي
أحرم به فذلك لا يجزيه المشي الذي مشى في
إحرامه بالحج إذ قد فاته الحج ، والله أعلم .
مسألة
وسئل مالك عمن حلف بالمشي من الأندلس أترى له
سعة في ركوب البحر ؟ قال : نعم كيف يصنع إلا
ذلك لابد له منه .
قال محمد بن رشد : وهذا كما قال لان الذي يحلف
بالمشي إلى مكة إنما تقع يمينه على مشي ما
يمكن مشيه من الطريق الناجد كمن نذر صوم سنة
بعينها أو صلاة يوم بعينه إنما يصح نذره على
ما يصح صيامه من الأيام وصلاته من الأزمان
وليس عليه أن يحلق في طريقه حتى يقل ركوبه
للبحر ، بل لا يسوغ له ذلك لأنه يتعب نفسه
فيما لا طاعة فيه ولا قربة ، إذ لو نذر رجل
بالمدينة أن يمشي إلى مكة على الشام أو على
العراق أو من الأندلس على غانة وشبهها لم
يلزمه ذلك ولا ساغ له ، ولو أن رجلاً أراد أن
يحلق في طريقه إلى المسجد لتكثر خطاه لما جاء
من الثواب في ذلك لكان مخطئاً في فعله وبالله
التوفيق .
مسألة
وسألت امرأة فقالت إن ابني استخبأني دراهم ،
ثم إنه سألها مني فرددتها عليه فأخذها ثم رد
علي منها خمسة دراهم فخبأتها في
(3/141)
خماري فلما كان
بعد ذلك طرحت الخمار عني وأقبلت على عمل بيتي
، فجاءني ابني فقال هات الدراهم الخمسة التي
استخبأتك ، فقالت له ما استخبأتني شيئاً إلا
التي رددت عليك ، فقال بل رددت علي الدنانير
والدراهم ثم استخبأتك بعد ذلك خمسة دراهم ،
فقالت : ولا والله ، فقال أنظري إن كنت خبأتها
في الفراش أو الخصفة ، فقلت على المشي إلى مكة
إن كنت خبأتها في فراش أو خصفة أو شيء ، ثم
ذهبت أطلب فوجدتها في خماري كما جعلتها
فذكرتها ، فما ترى علي ؟ فقال لها أليس إنما
حلفت ناسية لإعطائه إياك ؟ قالت : بلآن فقال
فامش إلى بيت الله ، فإن كنت لا تقدرين فامش
واهدي ، وليس عليك عجلة حتى تجدي وتقوي على
ذلك ، وأرجو ألا يكون عليك بأس إن شاء الله
أشرى ، قال لنا : وما هدي مثل هذه ؟ قال : أرى
هديها شاة ، ثم قال : كان يقال : "إن الله لا
ينظر إلى صوركم وأموالكم إنما ينظر إلى قلوبكم
وأعمالك" ، لئن دخلت هذه السوداء الجنة فما
ضرها سوادها ، خافت يمينها هذا الخوف وأخرى
أهيأ منها لا تخاف خوفها .
قال محمد بن أحمد : قال لها أليس إنما حلفت
ناسية لإعطائه إياك ، فقالت : بلى ، من أجل ما
رأى بها من الفزع لأنها أتت وهي ترعد على ما
ذكر في هذه الحكاية في غير هذا الموضع مخافة
أن تكون قد وقعت من الإثم والحرج فيما لا مخلص
لها منه ، ويدل على ذلك قوله خافت يمينها هذا
(3/142)
الخوف فلم يكن
عليها في يمينها إثم ولا كفارة لأنها كانت
لغواً إذ حلفت بالله تعالى ناسية لإعطائها
إياها الخمسة الدراهم ، ووجب عليها المشي إلى
بيت الله إذ لا يكون اللغو في المشي ولا فيما
سوى اليمين بالله تعالى . وقوله : فإن كنت لا
تقدرين فاركبي واهدي ، معناه فاركبي إذا عجزت
عن المشي بعد أن تمشي ما قدرت عليه واهدي ،
ولم يأمرها أن ترجع ثانية فيحتمل أن يكون رأي
من حالها أنها لا تقدر أن تمشي الطريق كله في
مرتين ، ولذلك مل يأمرها بالرجوع ثانية إذ لم
يختلف قوله فيما علمت أن الحالف بالمشي يلزمه
الرجوع ثانية لمشي ما عجز عنه فركبه ، ويرى
عليه الهدي مع ذلك لتفريق المشي ، وأهل
المدينة سواه يرون عليه الرجوع ثانية دون
الهدي ، وأهل مكة يرون عليه الهدي دون الرجوع
، ومن أهل العلم من لم يوجب عليه الهدي ولا
الرجوع ، وقد روي ذلك عن النبي عليه السلام ،
وقوله وليس عليك عجلة حتى تجدي وتقوي ، تخفيف
منه عليها لما رأى بها من الضعف على القول بأن
الأمر لا يقتضي الفور فإن الحج على التراخي ،
ولتخفيفه عنها في هذا . قال لها وأرجو أن لا
يكون عليك بأس ، وقال لها : أبشري لم ارجاه
لها من النجاة والخير لشدة ما رآه بها من
الخوف ، وبالله التوفيق .
ومن كتاب العتق
مسألة
وسئل عن امرأة طلقها زوجها فحلفت بالعتق ألا
تقبل منه منفعة فندم وخدمته جاريتها وقامت
عليه ، فلما أراد الخروج
(3/143)
كسا جارية لها
ثوباً وأعطاها دريهمات ، فقال : لا أرى أن
تقبل ذلك وأرى أن ترده عليه لأن تلك الكسوة هي
تنفع بها تكف عنها كسوة خادمها ، وتلك
الدريهمات تنفع بها خادمها وتقوى بها على
عملها فلا أرى لها أن تقبل ذلك وأرى أن ترده
عليه فإن كان غائباً فلتبعث به إليه ، وإن هلك
الرجل قبل أن تبعث به إليه ولم تقبله فلا شيء
عليها ، فإن كان ذلك أمراً قد فات وقبلته فأرى
أن تدين في ذلك ، فإن قالت لم أرد هذا ، وليس
هذا الذي أردت ولم أرد خادمي ولا عبدي رأيت أن
تنوي فتحلف على نيتها ولا حنث عليها إلا أن
تكون انتفعت بذلك ، فإن كانت انتفعت بشيء منه
قليلاً أو كثيراً فقد حنثت ، ورأيت ذلك لازماً
لها لأنها حلفت ألا تقبل منه منفعة فقد انتفعت
وإن كان الذي نالت منه الوليدة إنما هو طعام
أكلته رأيت ذلك خفيفاً .
قال محمد بن أحمد : المسألة صحيحة على أصولهم
لا كلام فيها إلا قوله في آخرها وإن كان الذي
نالت منه الوليدة إنما هو طعام أكلته رأيت ذلك
خفيفاً ، فمعناه في الطعام اليسير الذي لا
ينحط به عنها من مؤنة نفقة خادمها شيء ؟ وكذلك
قال مالك في أول سماع ابن القاسم من كتاب
الأيمان بالطلاق ، وهو مفسر لهذا والله أعلم .
وإيجابه اليمين عليها إن قبلت ما وهبه إياها
لخادمها وادعت أنها لم ترد خادمها صحيح ،
لأنها نية محتملة لا يشهد بصحتها شاهد من ظاهر
حال أو دليل لفظ أو عرف مقصد وما أشبه ذلك
فتسقط عنها اليمين من أجل ذلك ولا هي أيضاً
مخالفة لظاهر لفظ اليمين فلا تصدق فيها بيمين
ولا بغير يمين ، لأن ما يدعي الحالف من النية
فيما
(3/144)
يحكم به عليه
إذا لم يأت مستفتياً لا يخرج عن هذه الثلاثة
الأقسام ، وأما إذا أتى مستفتياً أو كانت
يمينه مما لا يحكم به عليه فينوي فيما نواه
دون يمين وإن كانت نيته التي نواها مخالفة
لظاهر لفظه وبالله التوفيق .
ومن كتاب الأقضية
مسألة
وسئل مالك عن رجل كان مع أخ له في منزله وكانت
له شاة فحلف بالمشي إلى مكة ليبيعنها
وليخرجنها عنه ، فباعها وأخرجها عنه ثم باعها
المبتاع من آخر والآخر من آخر ثم أراد أن
يبيعها بثمن وكس فأراد صاحبها الأول أن
يشتريها فخاف أن يدخل على أخيه في يمينه شيء ،
وألا يكون خرج من يمينه ، فقال لا يشتريها .
نعم يدخل عليه يمينه شيء وخاف إن اشتراها ألا
يكون أخوه خرج من يمينه .
قال محمد بن رشد : حمل يمينه على أخيه أن يبيع
الشاة ويخرجها عنه على أنه إنما أراد ألا تكون
معه في داره خلاف ما لفظ به ، فرأى عليه الحنث
إن ردها بعد أن باعها وأخرجها وتداولتها
الأملاك . وقال في رسم تأخير العشاء من سماع
ابن القاسم في الذي يحلف على رجل لينتقلن من
داره فانتقل أنه لا حنث عليه إن رده إليها بعد
أن انتقل عنها إلا أن يكون أراد ألا يساكنه
فحمل يمينه على الانتقال الذي لفظ به حتى يريد
ترك المساكنة وذلك تعارض بين في الظاهر ،
وبينهما من جهة المعنى فرق ظاهر ، وهو أن يكون
الرجل مع الحالف في داره لفظاً يختص به وهو
السكنى ، فلما عدل
(3/145)
الحالف إلى
الانتقال حملت يمينه إذا لم تكن نية على ما
لفظ به من الانتقال لاحتمال أن يكون أراد
معاقبته بذلك ، وليس لكون الشاة معه في داره
لفظ يختص به ، فلما لم يكن لذلك لفظ يختص به
فعدل عنه إلى ما لفظ به حملت يمينه على أنه
إنما أراد ألا تكون الشاة معه في داره إذ لا
غرض يظهر في بيعها وإخراجها من داره إلا ذلك
والله أعلم .
مسألة
ومن حلف ألا يدخل على فلان بيتاً حياته فدخل
عليه ميتاً حنث ، ولو حلف ألا يأخذ لفلان
مالاً فمات المحلوف عليه فأخذ الحالف من تركته
مالاً فإنه لا حنث عليه إلا أن يكون الميت
المحلوف عليه أوصى بوصية أو كان عليه دين فإنه
حانث بذلك .
قال سحنون وكذلك حلف ألا يأكل من طعام رجل
فمات المحلوف عليه فأكل الحالف من المال قبل
أن يجمع ويقسم ، فإن كان عليه دين أو أوصى
بوصايا فإنه حانث وذلك أن المال للميت إذا كان
عليه دين وعنه يقضي ، وليس للورثة مراثاً إلا
بعد قضاء الدين ، وكذلك إذا كانت وصايا ولم
يكن عليه دين فهو شريك للورثة بوصاياه في
الثلث ، فإن أكل من ذلك شيئاً حنث ، وقد قال
تعالى : { من بعد وصية يوصي بها أو دين } ،
فإنما يكون للورثة ما بعد الدين قاله أصبغ .
(3/146)
قال محمد بن
أحمد : قوله فيمن حلف ألا يدخل على فلان بيتاً
حياته فدخل عليه ميتاً إنه يحنث هو مثل ما لا
لأصبغ في نوازله بعد هذا في من حلف ألا يدخل
بيت فلان ما عاش .
وقال سحنون لا حنث عليه ، وجه القول الأول أن
قول الحالف حياته أو ما عاش لا يحمل على أنه
أراد بذلك أجلاً وقته ليمينه ، لأن الظاهر من
إرادته أنه أراد ألا يدخل عليه أبداً ، فعبر
عن ذلك بحياته أو ما عاش لأن ذلك هو الغاية
التي يقصد بها الناس التأبيد في عرف كالمهم ،
من ذلك قول الرجل لا أدخل هذه الدار حياتي أو
ما عشت أو لا آكل من هذا الطعام حياتي أو ما
عشت ولا أكلم فلاناً حياته أو ما عاش إذا أراد
أنه لا يفعل شيئاً من ذلك كله أبداً ، ووجه
قول سحنون اتباع ظاهر اللفظ دون مراعاة المعنى
، فقول مالك أولى بالصواب ، ولو قال الرجل لا
أدخل على فلان بيتاً أبداً فدخل عليه ميتاً
حنث إلا أن يريد حياته قولاً واحداً على ما في
أول رسم الطلاق الأول من سماع أشهب من كتاب
الإيمان بالطلاق ، وما في سماع أبي زيد منه ،
وقوله فيمن حلف ألا يأخذ لفلان مالاً فمات
فأخذ من تركته أنه حانث إن كان أوصى بوصية أو
كان عليه دين . قال ابن القاسم في المجموعة
وإن لم يكن الدين محيطاً به وقد قيل إنه لا
حنث عليه وإن أحاط الدين بتركته ، وقال أشهب
وهو الأظهر ، لأن الميت إذا مات فقد ارتفع
ملكه من ماله ووجب لمن يجب له منه أخذه من
ورثته وأهل وصاياه وغرمائه إن كان عليه دين ،
وهذا الاختلاف إنما هو إذا لم يكن للحالف نية
ولا كان ليمينه بساط فإن كانت يمين الحالف
كراهية للمال لخبث أصله فهو حانث على كل حال
كان على الميت دين وله وصية أو لم يكن ، وإن
كان كراهية لمنه عليه فلا حنث عليه على حال
كان على الميت دين أيضاً وكانت له وصية أو لم
يكن .
(3/147)
مسألة
وقال أشهب سئل مالك عن رجل حلف على صديق له
بعتق رقبة إن كلمه حتى يمنع امرأته النفقة فلا
ينفق عليها ما دخلت عليها فلانة وكف عن كلامه
فكان الرجل يلقاه ويسلم عليه فلا يرد عليه
السلام مخافة أن يحنث ، فلما أكثر عليه من ذلك
عمد إلى أخ له فقال تعلم أني حلفت على فلان
ألا أكلمه حتى يكف عن النفقة على امرأته فلا
ينفق عليها ما دخلت عليها فلانة وأنه يلقاني
فيسلم علي وإني أخاف أن أرد عليه فأحنث ، فقال
له الرجل أنا أكفيكه ، ثم إن الرجل زوج المرأة
لقي الحالف فسلم عليه فرد عليه فخاف أن يكون
قد حنث فذهب إلى ذلك الرجل الذي كان استعان به
. فقال له تعلم أن فلاناً لقيني فسلم علي
فرددت عليه ، إني أخاف أن أكون قد حنثت ، فقال
له الرجل : لم يحنثك الله قد لقيته قبل أن
يلقاك ويسلم عليك فذكرت له ما ذكرت لي فقال لي
: إني كنت قد منعتها النفقة قبل ذلك وأنا مجمع
على ألا أنفق عليها فيما أستقبل ، قال مالك
وما يدريه أن هذا الرجل قد صدقه لعله قد كذبه
، أحب إلي أن يعتق رقبة ، فقال له السائل لا
والله ولكنه قد صدقه ، فقال له مالك : من يضمن
له ذلك أنت ؟ أحب إلي أن يعتق رقبة لأنه لا
يدري لعله قد كذبه والناس يهونون على الناس في
مثل هذا من القول فأحب أن يعتق رقبة .
قال محمد بن أحمد : استحب له أن يعتق رقبة
لأنه لا يدري هل
(3/148)
صدقه أو كذبه ،
فدل ذلك من قوله أنه لو استيقن أنه صدقه لم
يكن لاستحبابه له العتق وجه ، ففي ذلك من قوله
نظر ، لأنه وإن صدق هو فيما أخبر به عن الرجل
فقد يكون الذي أخبره قد كذب فيما أخبره به عن
نفسه من أنه قد منع امرأته النفقة أجمع على
ألا ينفق عليها فيما يستقبل ، فالاختيار له أن
يعتق رقبة إلا أن يستيقن أن الرجل قد منع
امرأته النفقة قبل أن رد عليه السلام ، والذي
يستيقن به ذلك شهادة رجلين عدلين بذلك . قال
سحنون في كتاب ابنه في نحو هذا المسألة وفي
أول رسم الأقضية الثالث من سماع أشهب من كتاب
الشهادات في نحو هذه المسألة إنه لا يقبل في
ذلك شهادة أربع نسوة ، وهو دليل ما في رسم
العرية من سماع عيسى بعد هذا من هذا الكتاب ،
ولو أخبره مخبر عدل قبل أن يكلمه أنه قد منع
امرأته النفقة لجاز له أن يكلمه ولا يكون عليه
شيء من طريق قبول خبر الواحد لا من طريق
الشهادة ، فاعرف الفرق في ذلك بين أن يكون
الأخبار قبل أن يكلمه ، أو بعد أن كلمه ، لأنه
قبل أن يكلمه بمعنى الإخبار وبعد أن كلمه
بمعنى الشهادة وبالله التوفيق .
ومن كتاب الجنائز والذبائح والنذور
مسألة
قال أشهب : وسئل مالك عمن تجهز يريد العمرة
حتى إذا حضر مسيره ، قالت له امرأته : إيذن لي
إلى المخارج التي كنت أخرجها ، فحلف ألا يأذن
لها حتى يقدم ، فبلغه شدة الحر ومرض رقيق كان
يريد المسير بهم فأراد المقام بهم حتى يبرد
الزمان ويبرأ رقيقه أله أن يأذن لها ؟ فقال إن
كان نوى ألا يأذن لها في غيبته لأنه لا واعظ
لها ولا معاتب وخاف كثرة الخروج فهو أخف .
قال محمد بن أحمد : يريد أنه إن نوى ذلك فهو
أخف وله أن يأذن لها
(3/149)
إن لم تخرج
للعلة التي ذكر ولا يكون على شيء ، وإن لم يكن
نوى ذلك فليس له أن يأذن لها إلى مقدار ما كان
يرجع إليه من عمرته لو خرج إليها ولم يعقه عن
ذلك عائق ، فإن أذن لها حنث ، وفي سماع أصبغ
من كتاب الإيمان بالطلاق في الذي يحلف بالطلاق
ألا تدخل امرأته موضعاً سماه حتى يقدم من سفر
الحج كان أو غيره ثم يبدو له ألا يخرج إن
اليمين عليه إلى مقدار رجعته من سفره ولا ينوي
في ذلك ، فالظاهر أن ذلك خلاف رواية أشهب لأنه
لم ينوه ، ونواه في رواية أشهب ، وعلى الخلاف
كان الشيوخ يحملون الروايتين . وليس ذلك بصحيح
، والفرق بين المسألتين أن يمين الحالف في
رواية أشهب خرجت على سؤال امرأته إياه أن يأذن
لها في الخروج في غيبته على المخارج التي كانت
تخرجها وكان بساط اليمين شاهداً لما ادعاه من
أنه أراد ألا يأذن لها في غيبته فوجب أن يصدق
في ذلك لا سيما وهو مستفت إذ لم يأذن لها بعد
، وإنما سأل هل يحنث إذا أذن لها ، ولعل يمينه
أيضاً مما لا يقضي به عليه ، ورواية أصبغ خرجت
يمين الحالف فيها ابتداء على غير سبب فلم يصدق
فميا ادعى من النية إذ هي مخالفة لظاهر لفظه
ولا دليل عليها من بساط ولا غيره ، فوجب أن لا
يصدق في ذلك لأن يمينه بالطلاق وهو مما يقضي
به عليه ولم يأت مستفتيا ، وأما لو كانت
اليمين مما لا يقضي به عليه أو أتى مستفتياً
لنوي على كل حال باتفاق وإن كانت النية التي
يدعي مخالفة لظاهر لفظه وبالله التوفيق .
مسألة
وسألته عن اليمين والنذور في الغضب .
فقال : تلزم صاحبها .
قال محمد بن أحمد : لا اختلاف في المذهب في أن
النذور واليمين بالطلاق لا زمان في الغضب كما
يلزم فيه جميع الحدود من القتل والقذف وغير
ذلك إذ ليس الغاضب بمجنون فالقلم عنه غير
مرفوع ، وما روي من أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال : "لا نذر في غضب وكفارته كفارة
يمين" ليس بصحيح من جهة الإسناد ولا من جهة
المتن أيضاً ، لأنه إن كان في حكم المجنون فلا
ينبغي أن تلزمه كفارة ، وإن كان في حكم الصحيح
فينبغي أن يلزمه النذر الذي سماه بعينه إن لم
تكن معصية ، وقد تأول بعض من ذهب إلى أن من
نذر معصية فكفارته كفارة يمين إلى أن معنى لا
نذر في غضب أي في غضب الله يريد في معصيته ،
وهو تأويل بعيد ، وما روي من أن
(3/150)
رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال : "لا طلاق ولا إعتاق في
إغلاق" معناه عندنا في إكراه لأن الإغلاق هو
الإطباق من أغلقت الباب فكأن المكره قصر عن
الفعل وأغلق عليه حتى فعله ، وقول من قال إن
الإغلاق الغضب لا يصح لأن الطلاق أكثر ما يكون
في الغضب ، وإلى ذلك نحا البخاري لأنه بوب باب
الطلاق في الأغلاق والكره واستشهد بقوله ،
عليه السلام ، إنما الأعمال بالنيات وبقول ابن
عباس الطلاق عن وطر ، والعتاق ما أريد به وجه
الله تعالى .
مسألة
قال وسألته عمن حلف في جارية له بمشي إلى بيت
الله ألا يبيعها بثلاثمائة دينار حتى يزاد
فباعها بثلاثمائة دينار فسأله ابن عم له بعد
أن انتقد الثمن أن يهب له خمسة عشر ديناراً
بعد أن فرغا من البيع ولم يكن ذلك على شرط ولا
موعد ، فوهبها له فأعطاها ابن عمه المشتري ،
فخاف أن يكون قد حنث فقال مالك والله إني
لأخاف ذلك قد علم أنه إنما يعطيه إياها .
(3/151)
قال محمد بن
أحمد : وهذا كما قال لأن ما رد إليه من الثمن
في المجلس فكأنه لم يبع به ولا قبضه فوجب أن
يحنث ، إذ لا فرق بين أن يردها هو عليه أو
يعطيها لمن يعلم أنه يردها عليه وقد مضى بيان
هذا في رسم حلف ليرفعن أمراً ، ورسم أخذ يشرب
خمراً من سماع ابن القاسم ولو لم يعلم أنه
يعطيه إياها وظن أنه إنما استوهبه إياها لا
ليردها عليها لما كان بذلك حنث ولا يصدق في
ذلك إن كانت يمينه مما يقضي عليه به إلا أن
يأتي مستفتياً لأن ظاهر الأمر خلاف ما يدعيه .
مسألة
وسئل عن الحالف يحلف ويستثني فيقول علمي ،
فقال : ذلك له إن شاء الله ما أوجدها إن كان
صادقاً أن ذلك علمه .
قال محمد بن أحمد : استثناء الرجل علمه إنما
يتصور في الماضي فلا يوجب حكمه إلا فيما يكون
فيه اللغو من الأيمان لأن من حلف بالله ما دخل
فلان أمس الدار وذلك يقينه وعلمه ، ثم انكشف
أنه قد كان دخلها فلا شيء عليه لأن يمينه لغو
. ولو قال على المشي إلى بيت الله ما دخل فلان
أمس الدار وذلك يقينه وعلمه ثم انكشف له أنه
قد كان دخلها وجب عليه المشي إلا أن يكون قد
استثنى في يمينه فقال علي المشي إلى بيت الله
ما دخل فلان أمس الدار في علمي فينفعه عليه
استثناؤه ولا يكون عليه مشي إن انكشف له أنه
قد كان دخلها أمس ، وقد وقعت من هذا مسألة في
رسم الشجرة تطعم بطنين في السنة من سماع ابن
القاسم من كتاب الإيمان بالطلاق وهذا من
الاستثناء الذي يكون بغير حرف الاستثناء في
شرط
(3/152)
اتصاله الكلام
وتحريك اللسان وهو أن يقيد عموم لفظ يمينه
بصفة لأن تقييد اللفظ العام بالصفة يخرج منه
ما ليس على تلك الصفة فهو بمنزلة أن يستثنيه
بإلا أو بسائر حروف الاستثناء ، مثال ذلك أن
يحلف فيقول والله لأعطين أخوال فلان درهماً
درهماً فإن لم يعمهم بالإعطاء حنث إلا أن
يستثني بعضهم بتقييد صفة مثل أن يقول متصلاً
بيمينه قبل أن يسكت الصغار ويحرك بذلك لسانه
فينفعه استثناؤه ولا يكون عليه أن يعطي الكبار
، بمنزلة أن يقول متصلاً بيمينه قبل أن سكت
إلا الكبار لأن تقييد لفظ الأحوال بالصغار
يخرج منهم الكبار وعلى هذا فقس ما شابهه من
هذا النوع وبالله التوفيق .
مسألة
وسئل عمن يحلف بالمشي إلى بيت الله ثلاثين حجة
إن بات مع أمه في قاعة الدار سنة ، فقال أحب
إلي ألا يبيت معها في قاعدة الدار سنة فما
أقرب ذلك ، قيل له إن يبت معها في السطح من
بيتها وإنما قال في قاعة الدار ؟ قال يسأل عما
أراد .
قال محمد بن أحمد : قوله أحب إلي ألا يبيت
معها في قاعدة الدار سنة معناه أحب إلي أن لا
يبيت معها في قاعدة الدار سنة فيبر من ا ،
يبيت معها فيها فيحنث ويجب عليه المشي فلا
يمشي إذ لا يتعلق الاستحباب إلا في المشي إذا
حنث ، وقال في ذلك أحب إلي وإن كان واجباً
عنده إذ ليس بمتفق على وجوه وقوله يسأل عما
أراد إن بات معها في سطح بيتها صحيح ، إذ قد
يريد التنحي عن المبيت معها ومجانبة ذلك وإنما
قال في قاعة الدار لأن عادته كانت أن يبيت
معها فيها فخرجت يمينه على ذلك من غير قصد
إليه ، وقد يريد ألا يبيت معها في قاعدة الدار
لمعنى أصابه فيها مما يختص بها من حر أو برد
أو ما أشبه ذلك ، فغن أراد مجانبة المبيت معها
فهو حانث حيثما بات معها ، وإن أراد ألا يبيت
معها في قاعة الدار فلا شيء عليه إن بات معها
بغير
(3/153)
قاعتها ، وإن
لم تكن له نية فله أن يبيت معها في غير قاعدة
الدار ، لأن الأيمان إن عريت عن النيات وعما
يدل عليها من بساط أو عرف تحمل على مقتضى
ألفاظها .
مسألة
قال : وسئل عن امرأة بعثت إلى زوج ابنتها أن
ابعث إلي ابنتي ، وحلفت لئن أنت لم تفعل إلى
الليل لا أدخل لك بيتاً سنة ، فذهب الرسول ولم
يجده فغاب حتى الليل ثم جاء فأخبر وقال : لم
أعلم ، ولو جاءني الرسول لم أمنعها فأطرق فيها
ثم قال ذهبت فوجدته قد مات ، ذهب إلى السوق قد
سافر قد ذهب إلى العقيق ، كنت أرى في مثل هذا
أن تدين ، يقول : لم أرد أن أجده قد مات إنما
أردت التغليظ عليه ليلاً يمنعني ، ولم أرد أن
أجده قد سافر وغاب ، ومثل ذلك أن يرسل الرجل
إلى أخ له إن لم تأتني الآن فعلي كذا وكذا ،
فيجده الرسول قد مات أو غاب أو سجن .
قال محمد بن رشد : إذا كانت نيتها ذلك فهو بين
أن لا شيء عليها ، وإن لم تكن لها نية فيمينها
محمولة على ذلك أيضاً ، لأن المعنى المفهوم من
قصدها بيمينها فلا شيء عليها إلا أن تكون
أرادت ألا تدخل له بيتاً إن لم يرسل غليها
ابنتها ذلك اليوم إلى الليل وصل إليه رسولها
بذلك أو لم يصل وجد أو لم يوجد وبالله التوفيق
.
مسألة
قال مالك : وسئل عن رجل حلف على رجل إن أدخلت
فلاناً
(3/154)
بيتك لا أدخل
لك بيتاً سنة وحلف بالحرية ، ثم إن الحالف أرد
أن يدخل الرجل منزله الذي كان حلف عليه ألا
يدخله ، وأبى الذي حلف عليه أن يدخله ، فقال :
إذا أدخله رأيته قد حنث إلا أن يكون استثنى
إلا برضاي ، فإن أدخله ولم يكن استثنى إلا
برضاي فقد حنث .
قال محمد بن رشد : هذا بين أنه يحنث إن أدخله
المحلوف عليه برضى الحالف لأنه أبهم يمينه
فعمت رضاه وسخطه ، فوجب أن يحنث إن أدخله
برضاه إلا أن يكون استثنى فقال إلا برضاي
متصلاً يمينه محركا بذلك لسانه على المشهور في
المذهب ، أو يكون كان أراد أن أدخله بيته بغير
رضاه ونوى ذلك بنية عقد عليها يمينه ، فينفعه
ذلك وتكون له نيته ولا يحنث أيضاً إن أدخله
برضاه وبالله التوفيق .
مسألة
وسئل عن رجل قال لامرأته أعاهد الله عهداً لا
أخيس به ألا تدخلي بيت أمك أو أهلك ثم أراد أن
يأذن لها بذلك ، فقال : يكفر كفارة يمين يطعم
عشرة مساكين ويزيد أحب إلي على ذلك يتقرب إلى
الله تعالى ، وقال أبو لبابة حين أصاب الذنب
لرسول الله : "أجورك وأنخلع من مالي صدقة إلى
الله ورسوله" ، فقال له رسول الله صلى الله
عليه وسلم : "يجزيك من ذلك الثلث" وقال تعالى
: { وآخرون اعترفوا بذنوبهم } الآية . وقال
على إثر هذا : { خذ من أموالهم صدقة تطهرهم
وتزكيهم بها } .
(3/155)
قال محمد بن
أحمد : قول الرجل أعاهد الله ألا أفعل كذا
يمين كفارتها كفارة اليمين ، له أن يحنث ويكفر
إن شاء ، كقوله علي عهد الله لا أفعل كذا سواء
عند مالك ، ولم ير ما زاده في اليمين بالعهد
من قوله عهداً مما لا أخيس به مما يخرج به
اليمين عن حكم اليمين إلى حكم العهد الذي يخرج
مخرج المعاقدة والمعاهدة فلا يكون له مخرج إلا
الوفاء به ، ويكون أعظم من أن يكون فيه كفارة
وأن يأذن لها ويكفر كفارة يمين ، واستحب أن
يزيد على ذلك تقرباً لله لحلفه على منع أهله
من دخول بيت أمها وأهلها لما في ذلك من قطع ما
أمر الله بوصله من صلة الرحم حيث يقول : {
واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام } يريد
أن تقطعوها على ما جاء في تفسير الآية ، فرأى
ذلك ذنباًن واستحب له الصدقة من أجله لما جاء
فيها من أنها تكفر الذنوب ، واستدل على
استحباب الصدقة لها زيادة على الكفارة بما
ذكره من حديث أبي لبابة حين أصاب الذنب إلى
سائر ما ذكره في الرواية ، ومما وكد الإثم
عليه عنده في حلفه على امرأته ألا تدخل بيت
أمها وأهلها استلحاحه على منعها من ذلك أبداً
بقوله عهداً لا أ×يس عليه به لأن معنى لا أخيس
به لا أرجع فيه بأن آذن لها وأكفر على ما ندب
إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من حلف
على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليفعل الذي
هو خير وليكفر عن يمينه } ، ومما يدل على أنه
أثم في يمينه ما روي من أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم : "من استلحح على امرأته فهو أعظم
إثما" يريد من غيره من الحالفين على ما سوى
ذلك والله أعلم ، وقد روي ابن أبي جعفر عن ابن
القاسم في هذا رواية شاذة خارجة عن الأصول .
قال : سئل ابن القاسم عمن قال علي عهد الله
عهداً لا أخيس به إن أذنت لامرأتي ، قال ليس
في هذه كفارة ، قيل له هذا أعظم لأنه قال لا
أخيس
(3/156)
به قال برأسه
نعم . وإنما قلنا فيها إنها خارجة عن الأصول
لأنه يلزم على قوله فيها أن هذه اليمين أعظم ن
أن تكون فيها كفارة إلا أن للحالف بها أن يحنث
نفسه فيها بالإذن لامرأته ، وهذا باطل لا سيما
إن كان حلف ألا يأذن لها فيما يلزمه الإذن لها
فيه ، ويكون في الإصرار على الامتناع من ذلك
عاصياً أو قاطعاً الرحم . وقد روي أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال : "من حلف على
قطيعة رحم أو معصية فحنث فذلك كفارة" ، يريد
واله أعلم كفارة من الذنب ، وعليه كفارة يمين
، وإنما العهد الذي يكون أعظم من أن يكون فيه
كفارة ما خرج مخرج المعاهدة على ما يسأل الرجل
إياه فيقول لك عهد الله أن أفعل لك ما سألتني
إياه ، فهذا الذي لا يحل إلا الوفاء بما عاهد
الله لصاحبه عليه ، وهذا بين كله ، والحمد لله
.
مسألة
قال وسئل عن رجلين كان بينهما منزل فوقع فيه
شيء فحلف أحدهما بمشي إلى بيت الله إن بنى معه
فيه لبنة على لبنة ، أترى من ذلك إن بنى
الجدار بينهما في القسم . فقال ذلك إلى نيته
إن كان أراد إلا جدار القسم فذلك له وإن لم
يكن أراد شيئاً فهذا بنيان ويخرجه من يمينه أن
يمشي إلى بيت الله . قال أشبه لا يجوز ذلك إلا
أن يكون تكلم بلسانه في استثنائه .
قال محمد بن رشد : قول أشهب إن الاستثناء بإلا
لابد فيه من تحريك اللسان هو المشهور في
المذهب ، وكلك سائر حروف الاستثناء ،
(3/157)
وقد مضى ذلك في
رسم شك في طوافه من سماع ابن القاسم ، وأما
الاستثناء ، بإن وبإلا أن ، فحكى ابن المواز
أنه لا بد من تحريك اللسان فيه باتفاق ، وقد
مضى القول في ذلك في رسم أخذ يشرب خمراً من
سماع ابن القاسم أيضاً ، وإن دعا المحلوف عليه
الحالف إلى أن يبني معه جداراً بينهما لم
يلزمه ذلك إلا أن يشترطاه في قسمتهما ، ويقال
هل أستر على نفسك في حظك ، وإن اشترطاه لزمهما
، وأخذ من حظ كل واحد منهما نصف بنائه ، وكانت
النفقة بينهما بنصفين إلى أن يبلغ حد السترة
إن لم يشترطا في ذلك حداً ، وسواء كانت
أنصباؤهما متفقة أو مختلفة ، ولا يدخل في هذا
الاختلاف الذي في أجرة القسام أن كانت تكون
على قدر الانصباء أو على عدد الرؤوس .
مسألة
وسئل عمن جعل على نفسه طعام مساكين ، فأراد أن
يطعم كل مسكين خمس ثمرات . فقال : ما هذا وجه
إطعام المساكين إلا أن يكون نوى ذلك فأرى ذلك
له وإن لم يكن نوى شيئاً فأرى أن يطعم كل
مسكين مداً بالمد الأصغر . قال عز وجل : {
فإطعام عشرة مساكين } وليس فيه تسمية كم يطعم
كل مسكين ؟ فكان هذا لكل مسكين فأرى أن يطعم
كل مسكين مداً بالمد الأصغر .
قال محمد بن رشد : وهذا كما قال إنه لا ينبغي
أن يبر بإطعام خمس ثمرات لكل مسكين إذ ليس وجه
ما حلف عليه إلا ما يرد جوعه إن كان جائعاً ،
فلا يبر بأقل مما يعينه على الغداء أو العشاء
، وليس قياس ما يبر فيه في اليمين على كفارة
اليمين بواجب عند مالك ، وإنما ذلك استحسان
منه ،
(3/158)
والله أعلم لأن
الله تعالى قد وصف قدر الإطعام فيها بقوله : {
من أوسط ما تطعمون أهليكم } فلذلك كان مداً
لكل مسكين ، ألا ترى أن ما كان من الإطعام لم
يوصف قدره في القرآن لم يجز فيه مد واحد كفدية
الأداء فوجب أن يقاس ما يبر به في اليمين على
ما في القرآن لكان الأولى إن يقاس على فدية
الأداء التي سماها الله في القرآن صدقة ، ولم
يصف قدرها فيه فلا يبر بأقل من مدين لكل مسكين
، فالصحيح أنه إذا لم يكن للحالف نية أن يبر
بما يرد به جوع المسكين غداء أو عشاء كما
قلناه ، لأنه أقل ما يقع به الانتفاع للآكل ،
وسيأتي في سماع سحنون ما يبر به من حلف بصدقة
ولم تكن له نية ، وهو يبين ما ذهبنا إليه إذ
لم يرد ذلك إلى ما في القرآن ، وبالله التوفيق
.
مسألة
وكان ابن مسعود يشير إلى الشيء فيقول : ما أحب
أن أقسم إلا لمحمد هذا لأن البلاء موكل بالقول
.
قال محمد بن رشد : وهذا كمال قال ، لأن القلوب
بيد الله هو مالكها ومقلبها ، وقد كان رسول
الله صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يحلف لا
ومقلب القلوب فالحالف على ذلك حالف على ما لا
يملك متجرئ على الله في يمينه على ما يملك
دونه فلا يأمن بأن يعاقبه الله بأن يريه عجزه
عما حلف مما لا يملكه .
مسألة
وكان عيسى بن مريم يقول يا بني اسرائيل إن
موسى كان ينهاكم أن تحلفوا بالله إلا وأنتم
صادقون ، ألا وإني أنهاكم أن تحلفوا بالله
كاذبين أو صادقين .
(3/159)
قال محمد بن
أحمد : ظاهر قول عيسى بن مريم صلى الله عليه
أن شرعه مخالف لشرع موسى ، عليه السلام ، قبله
في إباحة الحلف بالله على الصدق ومخالف لشرعنا
أيضاً لأن الله تعالى أمر نبيه ، عليه السلام
بالحلف باسمه تعالى في غير ما آية من كتابه ،
فقال : { قل إي وربي إنه لحق } ، وقال : { قل
بلى وربي لتأتينكم } ، وقال : { قل بلى وربي
لتبعثن } . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم
كثيراً ما يحلف : لا والذي نفسي بيده ، ولا
ومقلب القلوب ، ولا وجه لكراهة ذلك لأن القصد
إلى الحلف بالشيء تعظيم له ، فلا شك أن في ذكر
الله تعالى على وجه التعظيم له أجر عظيم ،
ويحتمل أن يكون عيسى بن مرين ، عليه السلام ،
إنما كره لهم اليمين بالله صادقين مخافة أن
يكثر فيهم فيكون ذريعة إلى حلفهم بالله على ما
لم يقولوه يقيناً أو يواقعوا الحنث كثيراً
ويقصروا في الكفارة فيواقعوا الإثم من أجل ذلك
لا من أجل اليمين ، وبالله التوفيق .
مسألة
وسئل عن امرأة نذرت لتسيرن إلى مسجد الرسول
فماتت قبل أن تقضي ذلك هل يقضي ذلك عنها أحد ؟
قال : لا يصلي أحد عن أحد ، قيل له ما ترى ؟
قال ما مسيرة ذلك إلى المدينة ؟ قال خمس ليال
، قال فأرى أن تتصدقوا عنها وما زادوا في
الصدقة فهو خير ، قالوا له فكم ؟ فقال إني
أريد أن أقدر كراها وزادها مقبلة ومدبرة ،
ولقدومها مثله فيتصدق بذلك عنها .
قال محمد بن أحمد : ولا يلزم ورثها ذلك إلا أن
توصي بذلك ، أو بأن يقضي عنها الواجب عليها في
نذرها ، وكذلك لو كان نذرها بالمشي إلى مكة
(3/160)
فأوصت أن يقضي
عنها الواجب عليها في ذلك ، لوجب أن يخرج عنها
من ثلث ما لها قدر الكراء والنفقة إلى مكة لا
غير ذلك ، يجعل في هدايا ، لأن الهدايا لمكة
أفضل من الصدقة ، قاله في سماع سحنون من كتاب
الحج ، وقد مضى في رسم حلف ليرفعن أمراً من
سماع ابن القاسم منه القول فيما إذا أوصت أن
يمشي عنها فلا معنى لإعادته ، وبالله التوفيق
.
من سماع عيسى من ابن القاسم من كتاب نقدها
نقدها
مسألة
قال عيسى : وقال ابن القاسم في أخوين يسكنان
الريف فأراد أحدهما الخروج إلى مكة فحلف الآخر
وهما بالريف إلا يكلمه حتى يرجع من مكة ، فرجع
فلقيه هاهنا بالفسطاط فأراد أن يكلمه ، قال :
لا يكلمه حتى يرجع إلى الريف ، وقال أرأيت لو
لقيه بالجحفة أكان يكلمه ؟ .
قال محمد بن أحمد : في كتاب ابن المواز : إن
كلمه بالفسطاط فلا شيء عليه إلا أن يكون نوى
موضعه ، وقول ابن القاسم هو الذي يوجبه النظر
والقياس ، لأن مقتضى يمينه ألا يكلمه حتى يرجع
إلى المكان الذي كان معه فيه حين حلف ، وما في
كتاب محمد بن المواز استحسان يقرب ما بين
الموضعين كنحو ما في سماع أبي زيد في الذي
يقول إن قضى الله عني مائة دينار فعلي صيام
ثلاثة أشهر ، فقضاها الله عنه إلا ديناراً
ونصفاً فصام الثلاثة الأشهر ، ثم قضى الله عنه
الدينار والنصف أن صيامه يجزيه على ضعف ، ولو
حلف وهو معه بمكة ألا يكلمه حتى يرجع من حجه
فكلمه بعد رجوعه من مكة بالطريق قبل أن يصل
إلى بلده ولا نية له يجزي في ذلك على
(3/161)
الاختلاف في
المتمتع لا يجد الهدي فيصوم السبعة الأيام
التي قال الله فيها : { وسبعة إذا رجعتم } في
الطريق قبل أن يصل إلى بلده ، وقد ذكرنا ذلك
في رسم شك في طوافه من سماع ابن القاسم من
كتاب الحج .
مسألة
وقال في رجل قال : مالي هدي ، قال : يهدي ثلثه
وتكون النفقة عليه وكل شيء حتى يبلغه من غير
الثلث ، وذلك أني سمعت مالكاً ، وسئل عن الذي
يجب عليه صدقة ماله وهو بموضع ليس فيه مساكين
، فقال يحمله إلى المساكين ويكري من عنده حتى
يبلغه ، فمسألتك مثل هذه ، وقال من قال إبلي
هدي قال يكون عليه أن يبلغها ولا يبيع منها
شيئاً .
قال محمد بن رشد : قوله في الذي قال مالي هدي
إن النفقة على الثلث الذي يلزمه أهداؤه منه
يكون من غير الثلث صحيح في القياس والنظر ،
ولا إذ لو سمى الثلث فقال ثلث مالي هدي لوجب
عليه أن يهدي جميع ثلث ماله ينفق عليه من غيره
، لأنه أوجبه هدياً ، والهدي لا يكون إلا بالغ
الكعبة كما قال تعالى ، فكذلك إذا لم يسم
الثلث وقال جميع مالي ، وأما إذا قال عبدي هذا
أو إبلي هدي فالأمر في أنه يجب عليه أن يبلغها
ولا يبيع منها شيئاً واضح بين لا إشكال فيه ،
وقال في الذي يجب عليه صدقة ماله وهو في موضع
ليس فيه مسكين أن يحمله إلى المساكين ويكري
عليه من عنده حتى يبلغه ، ولم يبين إن كانت
صدقة أوجبها على نفسه مثل أن يقول لله علي أن
أتصدق بهذا الطعام أو صدقة زكاة ماله ، فأما
إن كانت صدقة أوجبها على نفسه فبين أن عليه أن
يوصلها إلى المساكين من ماله ، لأن ذلك مقتضى
(3/162)
نذره ، كمن قال
إبلي هدي أن عليه أن يوصلها إلى الكعبة ، وأما
إن كانت صدقة زكاة ماله فلا يلزمه ذلك ، وإنما
يؤمر به استحباباً لأن الله قال : { خذ من
أموالهم صدقة } فالواجب أن تؤخذ منهم الزكاة
في مواضعهم ولا يكلفون حملها ، فإذا لم يأخذها
منهم الإمام ولا بعث فيها إليهم جاز لهم من
الكراء عليها منها ما يجوز للإمام ، وقد مضى
في رسم العشور من سماع عيسى من كتاب زكاة
الحبوب ما فيه بيان هذا .
مسألة
قال : وسئل عن رجل قال لرجل امرأته طالق إن
كلمه إلى الصدر أي الصدرين فكلمه ، قال : آخر
الصدرين ، فإن كلمه في الصدر الأول فلا شيء
عليه ، الصدر الأول لمن تعجل في يومين ، قيل
له فإن قال إن لم أكلم فلاناً في الصدر
فامرأته طالق . قال يكلمه في الصدر الأول ،
فإن لم يفعل حتى الصدر الآخر فلا شيء عليه .
قال محمد بن أحمد : ساوى بين الصدرين في وجوب
البر والحنث لأن الله خير بينهما فجعلهما
بمنزلة سواء ، وفرق بينهما فيما يأمره به من
البر والحنث ابتداء لأن ذلك أنزه لنفسه وأبلغ
في علم البراءة من يمينه ، والله أعلم .
مسألة
وعن رجل حلف ألا يأكل طعام رجل فتسلف منه
قمحاً فأكله ، قال أرى أن ينوي ، فإن كان أراد
وجه ما يمن به عليه يهبه له
(3/163)
أو يصله به ولم
يرد وجه أن يبتاع أو يتسلف فلا شيء عليه ، وإن
لم تحضره نية في الابتياع والسلف فهو حانث .
قال محمد بن رشد : قوله إن لم تكن نية في
الابتياع والسلف ، فهو حانث في السلف يدل أنه
حانث أيضاً في البيع عنده إن لم تكن له نية
فيه ، وذلك بين إذ لا فرق بين البيع والسلف في
انتقال الملك إلهي بكل واحد منهما ، فإذا لم
تكن له نية أصلاً وجب أن يحنث بكل واحد منها ،
كما لو كانت يمينه لرداءة مكسبه وأما إذا كانت
يمينه لمنة عليه فلا حنث عليه في الاشتراء إذا
لم يحابه ، ويحنث في السلف . وقال يحيى بن
عمرك أخاف عليه فيه ، وحنثه به بين ، ألا أن
تكون يمينه خرجت منه على منة مما سواه من
الهبة والصدقة وإطعام الطعام ، وبالله التوفيق
.
مسألة
وقال ابن القاسم في رجل حلف لرجل ليقضينه حقه
إلى أجل أن يؤخره رسوله أو يؤخره ، فلما حل
الأجل أبي صاحب الحق أن يؤخره فأخره رسوله ،
قال إذا أخره رسوله فلا حنث عليه .
قال محمد بن رشد : حكى يحيى أنا أبا زيد روى
عن ابن القاسم أنه لا يجوز تأخير رسوله إذا
أبى صاحب الحق أن يؤخره . قال يحيى في الرواية
الأولى على أن الحالف ينتفع بتأخير الرسول في
ألا يجب عليه الحنث إذا لم يقضه حتى حل الأجل
، ولم يقل إن تأخيره إياه يلزم صاحب الحق إذا
أي أن يؤخره إذ لا يصح أن يقال ذلك ، لأنه
معروف يصنعه في مال صاحب المال وهو كاره له ،
وتكلم في الرواية الثانية على أن تأخيره إياه
لا يجوز عليه
(3/164)
ولا يلزمه ،
ولم يقل إن الحالف يحنث إذا لم يقضه حتى حل
الأجل إذا كان قد أخره ، إذ يبعد أن يقال ذلك
لأنه قد استثنى في يمينه تأخير رسوله ، ولم
يشترط أن يكون ذلك برضاه ، فهو يحمل على عمومه
إلا أن يقر على نفسه أنه أراد أن يؤخره رسوله
برضاه فيلزمه ذلك ويحنث إن لم يقضه حتى حل
الأجل إلا أن يؤخره هو أو رسوله برضاه وهذا
بين ، والله أعلم .
ومن كتاب العرية
مسألة
قال سفيان بن عيينة التوكيد والله ، ثم والله
ثم والله .
قال محمد بن أحمد : هذا قول مالك وجميع أصحابه
إن التوكيد حلف الإنسان في الشيء الواحد يردد
فيه الأيمان يميناً بعد يمين ، وكفارته كفارة
واحدة مثل كفارة اليمين ، وما روى مالك عن ابن
عمر في الوطأ من أنه كان يقول من حلف بيمين
يؤكدها ثم حنث فعليه عتق رقبة أو كسوة عشرة
مساكين ، ومن حلف بيمين فلم يؤكدها ثم حنث
فعليه لكل مسكين مد من حنطة ، وهو استحسان منه
دون إيجاب ، بدليل قوله فيه إنه يكفر عن يمينه
بإطعام عشرة مساكين مد من حنطة لكل مساكين ،
وكان يعتق إذا وكد اليمين ولا اختلاف في ذلك ،
لأن الله خير الحالف في تكفير يمينه بين
الإطعام والكسوة والعتق ولم يخص تأكيداً من
غيره وقوله عز وجل : { ولا تنقضوا الأيمان بعد
توكيدها } معناه في المعاهدة في الواجب ، يقول
أوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا عهدكم
بعد تأكيدها وقد جعلتم اله عليكم كفيلاً بما
التزمتم من دينه والسمع والطاعة لنبيه ، عليه
السلام .
(3/165)
مسألة
وقال في رجل استأذنته ابنته في أن تضع عن
زوجها مهرها ، فقال لها كل شيء له حر وامرأته
طالق وماله صدقة وعليه المشي إلى بيت الله إن
وضعته عنه إن حضرت لك فرحاً أو حزناً ، فقالت
له والله لقد تصدقت به عليه منذ سنين ، وشهد
أربع نسوة على الصدقة بذلك عليه منذ سنتين ،
قال ما أرى عليه حنثاً إلا أن يكون أراد إن
كانت وضعت ذلك عنه ، وإن كان لم يرد فيما
يستقبل فما أرى عليه شيئاً إذا استيقن أنها
وضعت ذلك عنه قبل يمينه .
قال محمد بن أحمد : وإن لم تكن له نية في مضي
أو استقبال فلا حنث عليه لأن يمينه على
الاستقبال الذي حلف عليه حتى يريد غيره ،
ومثله في رسم سلف من سماع عيسى من كتاب العتق
، وقوله في آخر المسألة فما أرى عليه شيئاً
إذا استيقن أنها وضعت ذلك قبل يمينه وهو قد
قال إن الصدقة قد شهد عليها أربع نسوة منذ
سنتين يدل على أن الاستقبال في ذلك لا يكون
بشهادة النساء . وقد حكى محمد بن سحنون أن هذه
الرواية ذكرت لأبيه فسر بها ، وقال لا يستيقن
ذلك بالنساء ولكن بشاهدي عدل ، وقد مضى هذا
المعنى في رسم الأقضية من سماع أشهب ، والله
تعالى هو الموفق .
ومن كتاب أوصى لمكاتبه
مسألة
قال وسألته هل يكسي الصغار أو يطعمون من
الكفارات ، قال مالك : نعم يكسون ويطعمون في
الكفارات ، ولكن إنما
(3/166)
يطعمون ويكسون
مثل ما يطعم الكبار ومثل ما يكسون ، إن أطعمهم
أعطاهم من الطعام مثل ما يعطي الكبار ، وإن
كان إنما يصنع لهم طعاماً يغذيهم ويعشيهم فلا
يجوز له أن يغذي ويعشي إلا الكبار ، قلت له
فإن غذي وعشي هل له أن يعطي الصغار من الخبز
واللحم وما يطعمهم مثل ما يطعمهم بقدر ما يأكل
كل رجل منهم كبير فيعطي الصغير قدره ، قال :
نعم ، وأما الكسوة فإنه إن كسا الصبيان الصغار
فإنه لا يجوز له أن يعطيهم أقمصة صغاراً ولكن
يعطي كل صغير منهم قميصاً كبيراً مثل ما يعطي
الكبير ، فإن كسا الجواري الصغار كسا كل واحدة
منهن درعاً وخماراً كبيراً ، مثل كسوة الكبيرة
، والكفارة واحدة لا ينقص منها للصغير ولا
يزاد فيها للكبير .
قال محمد بن أحمد : قوله إن أطعم الصغار
أعطاهم من الخبز واللحم قدر ما يأكل الكبار
معناه إذا كانوا قد بلغوا أن يأكلوا الطعام ،
قال ابن القاسم عن مالك في كتاب الظهار من
المدونة ، وابن المواز أيضاً ، وليس إطعامهم
اللحم بواجب ، ويجزئ ما دونه من أدم البيت ،
وقوله إن كسا الصغار فإنه لا يجوز له أن
يكسوهم أقمصة صغاراً هو نحو قول محمد بن
المواز من رأيه ، خلاف ما حكي عن ابن القاسم
من أنه لم يكن يعجبه كسوة الأصاغر بحال ، وكان
يقول من أمر بالصلاة منهم فله أن يكسوه قميصاً
مما يجزئه ، ومعنى ذلك إذا لم يقصد إليهم
لصغرهم كي تخف عنه الكفارة ، وإنما تحرى
الصواب وقصد أهل الحاجة فكان فيمن علم منهم
صغير قد أمر بالصلاة فيراه أحق من غيره لشدة
مسكنته فيكسوه على هذه الرواية قميصاً مما
يجزئه ، ولعله أن يكون في كبر ثيابه وطول
قامته وإن كان قريب الاثغار تقرب كسوته من
كسوة الكبار . قال ابن حبيب إنه إن كسا
الصبايا الصغيرات اللواتي لا صلاة عليهن كساهن
درعاً بغير خمار ، ومثله حكى ابن المواز في
كسوة الصغار عن
(3/167)
أشهب ، ومعناه
ذلك على ما فسرنا به مذهب ابن القاسم في كتاب
ابن المواز في كسوة الصغار ، وبالله التوفيق .
ومن كتاب أوصى أن ينفق على أمهات أولاده
مسألة
قال : وسمعته يقول في رجل حلف لينتقلن وانتقل
وترك من السقط ما لا حاجة له به مثل الوتد
والمسمار والخشبة وما أشبه ذلك فتركه ، قال لا
شيء عليه .
قال محمد بن أحمد : أما إذا تركه رافضاً له
على ألا يعود إليه فلا اختلاف في أنه لا حنث
عليه بتركه واختلف إن تركه ناسياً ففي كتاب
ابن المواز أنه لا حنث عليه ، وما في سماع عبد
المالك بن وهب أنه يحنث بتركه ناسياً ، وإما
إذا تركه على أن يعود إليه فيأخذه فإنه حانث
إلا على مذهب أشهب الذي يقول إنه لا يحنث بترك
متاعه كله إذا انتقل بأهله وولده لأنه إذا
انتقل بأهله وولده فليس بمساكن وإن بقي متاعه
، وقول ابن القاسم أظهر لأنه لا يسمي من خرج
من الدار بأهله وولده وترك فيها متاعه منتقلاً
عنها وإنما يسمى خارجاً عنها بأهله وولده ،
والله أعلم .
مسألة
وسألته عن الرجل استخان رجلاً وهو معه في سفر
، فقال احلف لي أنك لم تخني فحلف له أنه ما
خانه منذ صحبه وهو يريد منذ صحبه في سفره هذا
ولم يحرك به لسانه وقد كان صحبه في أسفار قبل
ذلك وخانه فيها فقال ما أرى عليه إذا كان لذلك
سبب مثل أن يقول إنما استخانه في سفره ذلك ،
يقول خنتني في هذا القمح وهذا الشيء فاستحلفه
ولم يكن هو ابتداء باليمين متطوعاً من عنده من
غير أن يسأله ذلك ، فإنه إن ثبتت خيانته التي
خانه في غير
(3/168)
سفره ذلك وعلى
يمينه بينة فادعى هذه النية كان ذلك له ولا
يطلق عليه القاضي إذا كان الأمر على ما وصفت
من سببه ووجهه وأراها نية وليست ثنيا إذا قال
هذا ، قال أصبغ وذلك رأي كله .
قال محمد بن أحمد : قوله ما أرى عليه شيئاً إن
كان لذلك سبب مثل أن يكون إنما استخانه في
سفره ذلك يريد ما أرى عليه حنثاً بما حلف به
من الطلاق لأنه مصدق فيما ادعاه من النية على
أصولهم وإنما وجب أن يصدق في النية مع يمينه
على ذلك ، وإن كانت مخالفة لظاهر لفظه لأجل
البساط الذي خرجت عليه يمينه وهو استخانته
إياه في ذلك السفر ولو حلف بالطلاق ابتداء على
غير بساط أنه ما خانه منذ صحبه فلما شهد عليه
أنه قد خانه في غير هذا السفر ادعى أنه نوى
منذ صحبه في سفره هذا لم يصدق ، كمن حلف أنه
ما كلم فلاناً بالطلاق فلما شهد عليه أنه كلمه
أمس ، قال إنما نويت أني ما كلمته اليوم ، أو
حلف ألا يكلم فلاناً بالطلاق فكلمه بعد ذلك ،
وقال نويت اليوم أو شهراً أنه لا ينوي في شيء
من ذلك ولا يصدق فيما ادعاه وهذا مما لا
اختلاف فيه في المذهب ، وقوله لم يكن هو
ابتداء باليمين متطوعاً من عنده من غير أن
يسأله ذلك يدل على أنه لو تطوع له باليمين لم
ينو وإن كانت يمينه خرجت على سبب استخانته
إياه ، ولزمه الطلاق على نية المحلوف له ،
وذلك يأتي في مثل قول أصبغ في سماعه بعد هذا ،
ومثل ما في سماع يحيى من كتاب الأيمان بالطلاق
أن اليمين على نية المحلوف له إن كان الحالف
متطوعاً باليمين وعلى نية الحالف إن كان
مستحلفاً خلاف قول ابن الماجشون وسحنون ، وقد
مضى تحصيل الخلاف في هذه المسألة في رسم شك في
طوافه من سماع ابن القاسم ، ومعنى قوله وأراها
نية وليست ثنيا أنه لو كانت ثنيا لم ينفعه إلا
أن يحرك لسانه على المشهور في المذهب ، وقد
مضى ذلك في رسم الجنائز من سماع أشهب وفي رسم
شك من سماع ابن القاسم وغيره .
(3/169)
مسألة
وقال فيمن حلف على أمر ألا يفعله إلا أن يقضي
الله عز وجل غير ذلك : هذا ليس ثنيا أو يريد
الله غير ذلك كذلك أيضاً ليس ثنيا . قال عيسى
: هو في اليمين ثنيا وهو مثل قوله إن شاء الله
. وقوله إلا أن يريني الله غير ذلك ثنيا .
قال محمد بن أحمد : قال عيسى بن دينار إن
الاستثناء في اليمين بالله بإلا أن يقضي الله
أو يريد الله استثناء مثل إلا أن يشاء الله
وهو الذي يوجبه القياس والنظر الصحيح لأن قضاء
الله ومشيئته وقدره هي إرادته فلا فرق بين
الاستثناء بقدر الله وقضائه ومشيئته وإرادته ،
وجه قول ابن القاسم أن الحالف بالله ألا يفعل
فعلاً أو ليفعلنه قد علم أنه لا يفعله ولا
يترك فعله إلا بقضاء الله وقدره وإرادته
ومشيئته فعلى ذلك انعقدت يمينه ، وهي نيته
ورادته إذا كان من أهل السنة ، فكان الأصل إذا
وجبت عليه الكفارة بالحنث ولم ينفعه ما نواه
من ذلك كله ألا ينفعه الاستثناء بشيء منه وأن
يكون لغواً إذ لا زيادة فيه على ما نواه وعقد
عليه فخرج من ذلك الاستثناء بمشيئة الله
بالسنة والإجماع وبقي ما سواه على الأصل في
ألا يسقط الكفارة الواجبة بالحنث ، والله
تعالى الموفق . وقول عيسى في قوله إلا أن
يريني غير ذلك ثنيا صحيح إذ لا فرق بين ذلك
وبين أن يقول إلا أن أرى غير ذلك وهو قول ابن
القاسم ، وفرق أصبغ بينهما في كتاب ابن المواز
فلم ير قوله إلا أن يريني الله غير ذلك أنه
ثنيا وليس قوله شيء ولا وجه له .
مسألة
وسئل عمن حلف ألا يأكل لحماً فأكل مرق لحم ،
قال إني أخاف أن يحنث .
قال محمد بن أحمد : الحنث في ذلك بين لأن
المرق قد أماع فيه
(3/170)
الشحم وذبل فيه
اللحم وتهرى فأكل مرق اللحم أكل اللحم ، قال
ابن المواز فلا نية له في ذلك إن ادعاها يريد
مع قيام البينة فيما يحكم به عليه ، وقال ابن
حبيب إن أراد اللحم ما كان لحماً فله نيته
وكذلك يقول ابن القاسم في الشحم من اللحم
والنبيذ من التمر والزبيب والعصير من العنب
والخبز من القمح ، هذه الخمسة الأشياء يحنث
عنده فيها سواء حلف ألا يأكلها أو لا يأكل
منها وما عدها من الأشياء إذا حلف ألا يأكله
فأكل ما يخرج منه فلا حنث عليه إلا أن يحلف
ألا يأكل منه كالجبن من اللبن والسمن من الزبد
والبسر من الطلع والتمر من الرطب والرطب من
البسر ، وقد روي عن ابن القاسم أنه أخرج القمح
من هذه الخمسة الأشياء إلى حكم ما عداها ،
وألحق ابن وهب بالخمسة الأشياء غيرها كالسمن
من الزبد والتمر من الرطب ولم ير أشهب البسر
من الطلع لبعد ما بينهما ، فمن حلف عنده ألا
يأكل هذا الطلع أو من هذا الطلع فلا شيء عليه
في أكله بسراً .
مسألة
وقال في رجل اشترى لأهله حيتاناً فسخطتها وكان
بينهما في ذلك كلام فقال لها أنت طالق إن
اشتريت لك ثلاثة أشهر عشاء لحماً ولا حيتاناً
ولم ينو شيئاً فحلف خرجت يمينه هكذا ألا نية
له في شيء فأراد أن يشتري لها لحماً أو
حيتاناً في الغداء : إنه لا بأس بذلك ولا شيء
عليه في ذلك إذا لم تكن له نية ولا يكون فيما
اشترى فضل عن الغدا ، ولو أنه غدى رجلاً عنده
قدم طعامه إلهي فحلف بطلاق امرأته إن غداه
أبداً ولا نية له لم يكن عليه شيء إن عشاه ،
وإنما مثل ذلك مثل رجل آذاه جار له في داره
فقال : امرأته طالق إن جاورتك أو ساكنتك في
هذه الدار أبداً فأراد أن ساكنه أو يجاوره في
غيرها فلا بأس بذلك إذا لم يكن أراد أن لا
يساكنه ولا يجاوره
(3/171)
أبداً ، فإن لم
تكن له نية وكانت يمينه مسجلة لا نية فيها فلا
بأس بذلك ولا شيء عليه ، وكذلك لو حلف ألا
يساكنه بمصر أبداً فساكنه بغيرها مثل ذلك سواء
، أو حلف لينقلنه من داره لأذاء آذاه به وشتمه
فنقله منها ثم أراد بعد إن طال ذلك ا ، يرده
فلا بأس إذا لم تكن له نية ، فكذلك الذي حلف
ألا يشتري عشاء لحم ولا حيتا فاشتراه في
الغداء فلا شيء عليه إلا أن يكون أراد ألا
يشتري تلك الأشهر التي حلف فيها ، فإن لم يكن
أراد ذلك فلا شيء عليه وإنما هو أحد وجهين إن
كان أراد شيئاً قلنا له تجنب ما أردت وإن لم
يكن أراد شيئاً ولا نواه فلا شيء عليه إلا
فيما حلف ، وكذلك لو كساها قرقل كتان فسخطته ،
فقال لها أنت طالب إن كسوتك قرقل كتان سنة
فكساها قرقل خز ولا نية عليه فلا شيء عليه ،
قال ولا بأس في المسألة الأولى أن يشتري لها
عشاء غير اللحم والحيتان كأنه يقول إلا أن
يكون أراد ترك العشاء .
قال محمد بن أحمد : قوله في الذي حلف ألا
يشتري لامرأته ثلاثة أشهر لحماً ولا حيتاناً
لما سخطت الحيتان التي كان اشتراها لها أن لا
بأس أن يشتري لها لحماً أو حيتاناً للغداء إذا
لم يكن فيها فضل عن الغداء للعشاء ، وأنه لا
بأس أن يشتري لها عشاء غير اللحم والحيتان إذا
لم تكن له نية ، صحيح على أصولهم لأن يمينه
لما خرج على كراهتها للحيتان التي شاتراها لها
ولم تخرج على كراهية التوسع في الإنفاق عليها
وجب ألا يحنث فيما عدا ما لفظ به وحلف عليه من
شراء اللحم والحيتان للغداء والعشاء أو شراء
ما عداهما للعشاء إلا أن يكون نوى ذلك ، وكذلك
قوله في الذي غدى رجلاً ثم حلف ألا يغديه
أبداً ولا نية له أنه لا شيء عليه إن عشاه
صحيح أيضاً لأن يمينه لما لم تخرج على كراهية
كذا لمؤن الإنفاق عليه ولعله
(3/172)
إنما حلف ألا
يغديه لما رأى من تقصيره في الأكل ورجا أن
يكون أكله في العشاء أكثر وجب ألا يحنث إلا
فيما حلف عليه من الداء وألا يحنث إن عشاه إلا
أن ينوي ذلك ، وكذلك قوله أيضاً في الذي حلف
ألا يجاور الرجل أو ساكنه في دار عينها أنه لا
بأس أن يجاوره أو يساكنه في غيرها إذا لم يكن
أراد ألا يساكنه أو يجاوره أبداً صحيح أيضاً
لأن يمينه لما كانت بسبب إذايته في الدار ولم
يكن لما يدخل بين العيال والصبيان في السكنى
وجب ألا يحنث إلا بالسكنى معه في الدار التي
عينها وألا يحنث بالسكنى معه في غيرها إلا أن
يكون نوى ذلك وأراده بيمينه ، وكذلك القول في
الذي حلف ألا يساكن رجلاً بمصر فساكنه في غير
مصر ، والقول في الذي حلف لينقلن رجلاً من
داره لأذى أذاه به وشتمه فنقله عنها ثم رده
إلهيا إذ هما من شرح المسائل التي بينا وجه
صحة قوله فيها .
وكذلك قوله أيضاً في الذي حلف ألا يكسو امرأته
قرقل كتان سنة لما سخطت قرقل كتان كان كساها
إياه ، فكساها قرقل خز أنه لا حنث عليه صحيح
أيضاً لأن مخرج يمينه على ألا يكسوها ما تكره
لباسه ، فلو كساها في السنة قرقل غير الكتاب
وهو أدنى من الكتان لحنث إلا أن يكون نوى أن
يكسوها ما هو أدنى من قرقل الكتان ، ولو
أعطاها في هذه المسألة من الدراهم لكسوتها ما
تشتري به أرفع من قرقل كتان فاشترت به لنفسها
ثوباً لم يحنث ، فليست هذه المسألة مخالفة
لمسألة المدونة في الذي يحلف ألا يكسو امرأته
فأعطاها دراهم فاشترت بها ثوباً أنه حانث لأنه
إذا أعطاها دنانير فقد كساها وهو قد حلف ألا
يكسوها ولم تكن ليمينه بساط تحمل عليه كهذه .
مسألة
وقال في الذي يحلف يقول لعمر الله وأيم الله :
إني أخاف أن
(3/173)
يكون يميناً .
قال أصبغ هي يمين إذا حلف بذلك ليفعلن أو لا
يفعل فحنث .
قال محمد بن أحمد : أما أيم الله فلا إشكال في
أنها يمين ، لأن أيمن الله وأيم الله ومن الله
كلها لغات للعرب في القسم . فمن النحاة من ذهب
إلى أنه بدل من حرف القسم كما أبدلوا الواو
والتاء من الباء ومنهم من ذهب إلى أن الأصل
فيها عندهم أيمن الله جمع يمين ، ثم حذفوا على
عادتهم في الحذف ما كثر استعماله فقالوا أيم
الله لا فعلت أو لأفعلن كما قالوا يمين الله
لا فعلت أو لأفعلن . قال الشاعر : .
فقلت يمين الله أبرح قاعداً ... ولو قطعوا
رأسي لديك وأوصالي
ومنهم من ذهب إلى أن ألف أيمن وصل وإنما فتحت
لدخولها على اسم غير متمكن واشتقاقه من اليمن
والبركة ، وأما لعمر الله ففي القول بأنها
يمين نظر ، لأن الأيمان التي تكون أيماناً
ويجب فيها كفارة اليمين بالله عز وجل باسم من
أسمائه وبصفة من صفات ذاته كعلمه وقدرته
وإرادته وحياته وما أشبه ذلك من صفاته ،
والعمر هو العمر وليس ذلك بصفة لله تعالى إذ
لا يوصف بأنه ذو عمر بإجماع من الأمة . فوجه
قوله في لعمر الله إنها يمين هو أن الحالف
بذلك محمول على أنه أراد بعمر الله بقاء الله
تعالى ، فكان ذلك يميناً على قولهم فيمن لفظ
بكلمة ليست من حروف الطلاق فأراد بها الطلاق
وأنه طلاق . وقد قال في المدونة في الذي يقول
لا مرحباً يريد بذلك الإيلاء أنه مول ، فجعل
قول لا مرحباً بمنزلة قوله والله لا أطأ
امرأتي إذا أراد به ذلك ، على أنه قد ذهب بعض
الناس إلى أن معنى هذه مسألة المدونة إذا قال
والله لا مرحباً وأراد بـ لا مرحباً لا أطأ
امرأتي ، وأما إن قال لا مرحباً وأراد بذلك
الله لا أطأ امرأتي فلا يكون مولياً إذ لا
يعبر عن اسم الله تعالى بما ليس له بإسم ،
والأمر محتمل على ما قلناه وإنما لم يحقق ابن
القاسم أن ذلك يمين . وقال أخاف أن يكون
يميناً لاختلاف أهل العلم في القدم والبقاء
(3/174)
فمنه ممن
أوجبهما صفتين لله تعالى ومنهم من نفي ذلك
وقال إنه باق لنفسه قديم لنفسه لا لمعنى
موجودية ، وأن معنى القديم الذي لا أول لوجوده
ومعنى الباقي المستمر الوجود ، والذي عليه
الأكثر والمحققون إثبات البقاء صفة لله ونفي
أن يكون القدم صفة لله ، وقال أخشى أن يكون
يميناً إذ من أهل العلم من يثبته صفة لله
تعالى ، وذهب أصبغ إلى قوله من أثبته صفة لله
فحقق القول بأن ذلك يمين وهو مثل ما في
المدونة لابن القاسم .
مسألة
وقال في الذي يحلف بالقرآن أو بالكتاب أو
بالمصحف أو بما أنزل الله أفترى ذلك كله
يميناً واحدة ؟ فقال أحسن ما سمعت والذي
تكلمنا فيه أن يكون يميناً كل ما سمي من ذلك ،
قال سحنون عن علي بن زياد عن مالك في قوله لا
والقرآن لا والمصحف ليست بيمين ولا كفارة فيه
على من حلف به فحنث .
قال محمد بن أحمد : في كتاب ابن المواز عن
عطاء مثل رواية علي بن زياد في غير كتاب ابن
المواز أن الناقل عن عطاء شك فقال سئل عن
اليمين بالكعبة أو بكتاب الله ، قال بعض أهل
النظر وهذا أشبه أن يكون شكاً عن الناقل عن
عطاء . وقال أبو محمد ابن أبي زيد في رواية
علي بن زياد عن مالك يحتمل إن صحت الرواية أن
يريد جسم المصحف دون المفهوم منه ، والله أعلم
، والذي كان يمضي لنا فيها عند من أدركنا من
الشيوخ أنها رواية ضعيفة شاذة خارجة عن الأصول
مضاهية لقول أهل القدر القائلين بخلق القرآن
لأنه قد جمع فيها بين القرآن والمصحف ، فإن
تأول في المصحف ما قال ابن أبي زيد بقي القرآن
لا وجه له من التأويل ، وهو الذي أقول به إن
له وجهاً صحيحاً من التأويل يصح عليه وهو أن
القرآن قد يطلق على كلام الله
(3/175)
القديم الذي هو
صفة من صفات ذاته المتلو في المحارب المكتوب
في المصاحف ، قال تعالى : { إنه لقرآن كريم في
كتاب مكنون } - الآية ، وقد يطلق أيضاً على ما
هو مخلوق ، من ذلك أنه يطلق بإجماع على
المصاحف من أجل أنه مكتوب ومفهوم فيها ،
والدليل على ذلك ما في كتاب رسول الله صلى
الله عليه وسلم لعمرو بن حزم من أن لا يمس
القرآن إلا طاهر يريد المصحف بإجماع لاستحالة
مس ما ليس بمخلوق ، ونهيه صلى الله عليه وسلم
عن أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو ويريد
المصحف أيضاً بإجماع لاستحالة السفر بما ليس
بمخلوق ، وقد يطلق أيضاً على القراءة المخلوقة
المتعبد بها لأنها مصدر قرأت قراءة وقرآناً ،
قال عز وجل : { فإذا قرأناه فاتبع قرآنه } أي
قراءته .
وقال الشاعر :
ضجوا بأشمط عنوانه السجود به ... يقطع الليل
تسبيحاً وقرآناً
وقد يطلق أيضاً على السور المجموعة المؤلفة
المختلفة في الطول والقصر من قولهم قريت الماء
في الحوض إذا جمعته ، فإذا حلف الرجل بالقرآن
وأراد به كلام الله تعالى القديم فلا اختلاف
بين أحد من أهل السنة في أن ذلك يمين يجب فيها
كفارة اليمين ، وإذا حلف بالقرآن ولم يرد به
كلام الله وأراد به ما لا اختلاف في جواز
إطلاقه عليه مما هو مخلوق كالمصحف دون المكتوب
فيه والقراءة دون المفهوم منها أو السور
المجموعة المؤلفة
(3/176)
المختلفة
بالطول والقصر دون المفهوم منها من الأمر
والنهي والوعد والوعيد والاستخبار والخبر فلا
اختلاف بين أحد من الأمة في أن ذلك ليس بيمين
، وإذا حلف به ولم تكن نية فحمله مالك في
رواية ابن القاسم عنه وهو المشهور عنه على
كالم الله القديم فرآه يميناً أوجب فيها كفارة
اليمين ، وحمله في رواية علي بن زياد عنه على
ما جاز إطلاقه عليه مما سوى كلام الله تعالى ،
فلم ير ذلك يميناً ولا أوجب فيه كفارة يمين
وهذا على القول بأن القرآن اسم لغوي من قولهم
قريت الماء في الحوض إذا جمعته فيه ، فقد يطلق
على نفس كلام الله تعالى ، فلم ير ذلك يميناً
ولا أوجب فيه كفارة يمين ، كلام الله تعالى ،
ويطلق على ما هو أصل موضعه في اللغة ، والقول
الأول أظهر ، إذ قد بان أن القرآن اسم ديني
لكلام الله القديم يقع عليه حقيقة ولا يقع على
ما سواه إلا مجازاً ، والعدول بالكلام عن
الحقيقة إلى المجاز لأي جوز إلا بدليل ، ووجه
القول الثاني إن القرآن لما كان يجوز أن يطلق
على كلام الله القديم الذي ليس بمخلوق وعلى ما
سواه مما هو مخلوق على ما ذكرناه وجب أن يحمل
إذا لم يعلم المراد به على ما يصح إطلاقه عليه
مما هو مخلوق لأن الأصل براءة الذمة فلا توجب
فيها الكفارة إلا بيقين وكذلك الذي يحلف
بالمصحف ولا نية له حمله ابن القاسم وهو
المعلوم من مذهب مالك على المكتوب في المصحف
المفهوم منه
فرأى ذلك يميناً أوجب فيها الكفارة ، وحمله
مالك في رواية علي ابن زياد عنه على نفس
المصحف دون المكتوب فيه المفهوم عنه فلم ير
ذلك يميناً ولا أوجب فيه كفارة ، والقول الأول
أظهر أيضاً لأن الحلف بنفس المصحف دون المكتوب
فيه المفهوم عنه لا يجوز لقول النبي ، عليه
السلام : "من كان حالفاً فليحلف بالله أو
ليصمت" ، فحمل يمين الحالف على ما يجوز له
الحلف به أولى من حملها على ما لا يجوز له
الحلف به ، وقول ابن القاسم أحسن ما سمع وتكلم
فيه في الذي يحلف بالقرآن أو بالكتاب أو
بالمصحف أن يكون يميناً ، كل ما سمي من ذلك
ظاهره أنه إذا جمعها في يمين واحدة فقال وحق
(3/177)
القرآن والكتاب
والمصحف لا فعلت كذا وكذا أو لأفعلن فحنث أن
عليه ثلاث كفارات لاختلاف التسميات وإن كان
المحلوف به واحداً وهو كلام الله تعالى القديم
، وهو خلاف قول سحنون في نوازله من حلف
بالتورية والإنجيل في كلمة واحدة أن عليه
كفارة واحدة ، ويلزم على ظاهر قول ابن القاسم
هذا أن يلزم الرجل إذا قال والله والرحمان
والسميع والعليم لا فعلت كذا فحنث أربع كفارات
لاختلاف التسميات أيضاً وإن كان المحلوف به
واحداً وهو الله عز وجل ، وليس في المدونة في
هذا بيان وذهب أبو إسحاق التونسي إلى أنه لا
يجب في ذلك إلا كفارة واحدة ، لأن المحلوف به
واحد قال وكذلك الصفات إذا كان معناها واحداً
مثل العظمة والجلال والكبرياء ، وأما إن كانت
معانيها مختلفة كالقدرة والعلم والإرادة فعليه
إذا جمعها في يمين واحدة كفارة لكل ما سمي
منها ، لأن كل واحد منها تفيد معنى في الموصوف
بخلاف معنى الآخر ، وليس بين الصفات المختلفة
المعاني والأسماء المشتقة منها فرق ين لأن اسم
المشتق من الصفة يفيد معناها فإذا وجبت في
الحلف بعلم الله وقدرته وإرادته في يمين واحدة
ثلاث كفارات من أجل أن كل صفة تفيد في الموصوف
صفة تخالف الصفة الأخرى وجب أيضاً في الحلف
بالعالم والقادر والمريد في يمين واحد ثلاث
كفارات من أجل أن كل اسم منها يفيد في المحلوف
به صفة تخالف ما يفيده الاسم الآخر من الصفة ،
فإن قال قائل إن العالم هو المريد وهو القادر
وليس العلم هو الإرادة ولا الإرادة هي القدرة
. قيل وإن لم يكن العلم هو الإرادة ولا
الإرادة هي القدرة فليس هي غيرها إلا في
المحدث لا في القديم ، فليس من أوجب في العلم
والإرادة كفارتين من أجل أن العلم ليس هو
الإرادة بأظهر قول ممن لم يوجب فيهما إلا
كفارة واحدة من أجل أن العلم ليس هو غير
الإرادة ، والله أعلم .
مسألة
وقال فيمن حلف فقال علي عهد الله وغليظ ميثاقه
وكفالته
(3/178)
وأشد ما اتخذ
أحد على أحد أن فعلت كذا وكذا ففعله ، فإن كان
لم يرد العتاق ولا الطلاق وعزله عن ذلك فليكفر
ثلاث كفارات ولا شيء عليه ، في قوله عهد الله
كفارة وقوله وغليظ ميثاقه كفارة وقوله أشد ما
أتخذ أحد على أحد كفارة وإن لم تكن له نية حين
حلف فليكفر كفارتين في قوله هد الله وغليظ
ميثاقه ويعتق رقيقه ويطلق نساءه ويمشي إلى بيت
الله ويتصدق بثلث ماله لقوله وأشد ما اتخذ أحد
على أحد .
قال محمد بن رشد : إما أوجب عليه كفارتين في
قوله عهد الله وغليظ ميثاقه لأن ذلك كنذر
أوجبه على نفسه مثل أن يقول علي كذا وكذا
يميناً أو كذا وكذا نذراً ، ولو أقسم بها في
يمين واحدة ، فقال وعهد الله وغليظ ميثاقه لا
فعلت كذا وكذا لما وجب عليه إن حنث إلا كفارة
واحدة لرجوعهما جميعاً إلى معنى واحد وهو كلام
الله تعالى إلا على ظاهر ما مضى من قول ابن
القاسم في المسألة التي قبل هذه في الذي يحلف
بالقرآن والكتاب والمصحف في يمين واحدة ،
وإنما لم يوجب في قوله وكفالته كفارة ثالثة
لأنه حمل يمينه على أنه أتى بكافلته مخفوضة
عطفاً على ميثاقه فلم يوجب على نفسه إلا شيئاً
، أحدهما عهد الله والثاني غليظ ميثاقه
وكفالته ، ولو حمل على أنه أتى بها مرفوعة
مقطوعة معطوفة على العهد والميثاق لأوجب عليه
فيها كفارة ثالثة ، لأنه بذلك يكون موجباً لها
على نفسه كالعهد وغليظ الميثاق ، فليس ذلك
بخلاف لما في المدونة على ما ذهب إليه بعض
الناس ، وإيجابه عليه في أشد ما اتخذ أحد على
أحد الطلاق والعتاق والمشي والصدقة بثلث ماله
صحيح وله وجهان من النظر ، أحدهما أن أشد ما
يتوثق به الرجل من الرجل فيما يريده منه يختلف
باختلاف أحوال الناس فرب رجل قادر على المشي
ولا عبيد له ولا مال وله زوجة يشق عليه فراقها
فيكون أشد ما يتخذ عليه في التوثق منه فراقها
، ورب رجل قادر على المشي لا زوجة له وقال
(3/179)
سوى عبيده
فيكون أشد ما يتخذ عليه في التوثق منه عتق
عبيده ، ورب رجل قادر على المشي ولا زوجة له
ولا عبيد وله مال فيكون أشد ما يتخذ عليه في
التوثق منه الصدقة بماله ، ورب رجل لا عبيد له
ولا زوجة ولا مال ويشق عليه المشي فيكون أشد
ما يتخذ عليه في التوثق منه المشي ، فلما كان
كل واحد من هذه الأشياء قد يكون أشد ما يتوثق
به من الرجل ولم تكن له نية في أحدها وجب أن
تجب عليه كلها ، كما حلف ولم يدر بما حلف به
أن كان بعتق عبيده أو بطلاق نسائه أو بصدقة
ماله
أو بمشي إلى بيت الله . والوجه الثاني أن
يمينه محمولة على أنه أراد بها أشد ما جرت به
عادة الناس به من التوثق ، وهو ما كان الناس
يؤخذون به من الأيمان في البيعات وقد كانوا
يؤخذون فيها بذلك فوجب أن يلزمه ويجب عليه ،
وعلى هذا كان من أدركنا من الشيوخ ومن لم
ندركه منهم فيما بلغنا عنهم يحملون يمين
الحالف بالأيمان اللازمة فيوجبون على الحانث
فيها الطلاق ثلاثاً وعتق رقيقة ذكروهم وإناثهم
والصدقة بثلث ماله والمشي إلى مكة في حج أو
عمرة وكفارة يمين وإيجاب ذلك كله في ذلك صحيح
لأن الأيمان لفظ يعم جميع الأيمان فإذا قال
الرجل الأيمان لي لازمة إن فعلت كذا أو إن لم
أفعله لم يكن بد من أحد وجهين ، إما أن يحمل
يمينه على نوع من الأيمان أرادها بعهد يعلم أن
يمينه خرجت عليه وهو ما كان الناس يؤخذون به
من الأيمان في البيعات وإما أن يحمل على جميع
الأيمان لاستغراق لفظ يمينه جميع الجنس فتلزمه
جميع الأيمان اللازمة ما كان الشيوخ يلزمونه
منها وما كانوا لا يلزمونه .
وقد كان بعض الشيوخ يلزمه في ذلك أيضاً كفارة
ظهار فلا وجه لمن أسقط عن الحالف بهذه اليمين
شيئاً مما كان الشيوخ يلزمونه فيها ولا لمن
جعل الطلاق فيها طلقة بائنة ولا طلقة رجعية
ولا لمن لم يوجب عليه في ذلك إلا كفارة يمين
قياساً على قول ابن وهب في سماع عبد المالك بن
الحسن فيمن قال
(3/180)
علي عهد الله
واشد ما اتخذ أحد على أحد أن عليه في العهد
كفارة يمين وليس عليه في أشد ما أخذ أحد على
أحد إلا كفارة يمين ، لأن لفظ أشد ما اتخذ أحد
على أحد لفظ إفراد فحمله ابن القاسم في هذه
الرواية على توثق واحد أيمان البيعة التي
كانوا يؤخذون بها لأنه المفهوم عنده من ذلك ،
وحمله ابن وهب في رواية زونان عنه على يمين
واحد ورآها اليمين بالله تعالى لأنها أعظم
الأيمان قدراً وأشدها على من تهاون بها وأثم
فيها ، قال صلى الله عليه وسلم : "من اقتطع حق
امرئ مسلم بيمينه حرم الله عليه الجنة وأوجب
له النار" ، وجاء في الحديث في اليمين الغموس
إنها من الكبائر وأنها تذر الديار بلاقع ،
فرأى شدتها في الكذب فيها والمخادعة بها وترك
تعظيمها لا فيما يلزم الحنث فيها من الكفارة
فهذا وجه قول ابن وهب ، والله أعلم .
مسألة
قال ابن القاسم : ولا تكون الثنيا إلا ما حرك
به لسانه والنية تنفعه وإن لم يحرك به لسانه
ومثل ذلك في النية أن يقول امرأته طالق البتة
إن دخل دار فلان ولا كلم فلاناً فكلمه بعد شهر
وقال إنما نويت شهراً ، قال مالك إن كانت عليه
بينة فرق بينه وبينها ، وإن أتى مستقيماً وذكر
أنه إنما نوى شهراً دين وكان القول قوله ،
والثنيا أن يقول إن كنت صحبت اليوم قرشياً
ويستثني في نفسه إلا فلاناً وإن كنت أكلت
اليوم طعاماً ويستثني في نفسه إلا لحماً
فامرأته طالق فهذا لا ينفعه إلا أن يحرك به
لسانه فإن لم يحرك به لسانه وإنما هي ثنيا في
نفسه حنث فما ورد عليك من هذه الأشياء بعضه
على هذين الوجهين .
قال محمد بن رشد : تفرقته في النية والثنيا في
اليمين صحيحة لأن النية هي أن يريد الرجل
بيمينه ما يحتمله كلامه وإن كان مخالفاً
لظاهره فإذا عقد يمينه على ما نواه صحت له
نيته وإن لم يحرك بها لسانه على ما ذكر ،
(3/181)
وهذا ما لا
خلاف فيه ، وأما الثنيا فهو ما يستدركه الرجل
بالاستثناء بعد أن فرطت منه اليمين دون نية
وذلك على وجهين ، أحدهما استثناء يخرج من
الجملة بعد ما اقتضاه اللفظ العام والعدد
المسمى في جميع الأحوال .
والثاني استثناء يخرج به جميع الجملة في بعض
الأحوال ، فأما الاستثناء الذي يخرج به بعض ما
اقتضاه اللفظ العام أو المعدد المسمى في جميع
الأحوال فهو الاستثناء بإلا وسائر حروف
الاستثناء ، مثاله أن تقول والله لأعطين
القرشيين إلا فلانا ثلاثة دراهم إلا درهماً
فأخرجت من القرشيين فلاناً بالاستثناء وأخرجت
من الثلاثة دراهم درهماً بالاستثناء فهذا
القسم من الاستثناء المشهور فيه في المذهب أن
النية فيه لا تنفع وأنه لابد فيه من تحريك
اللسان كما قال في هذه الرواية ، وقد مضى في
آخر سماع أشهب لمالك خلافه ، وجه القول الأول
القياس على ما أجمعوا عليه في الاستثناء
بمشيئة الله أنه لابد فيه من تحريك اللسان ،
ووجه القول الثاني أن حقيقة الكلام إنما هو
المعنى القائم بالقلب وتحريك اللسان عبارة عنه
كالرمز والإشارة والكتابة فإذا استثنى في نفسه
وجب أن ينفعه استثناؤه وإن لم يحرك به لسانه ،
وعلى هذا تأتي رواية أشهب عن مالك في كتاب
الأيمان بالطلاق وإن من أجمع في نفسه على أن
قد طلق امرأته فقد لزمه الطلاق ، والأصل في
ذلك إجماعهم على أن من اعتقد الإيمان بقلبه
فهو مؤمن عند الله وإن لم يلفظ بكلمة التوحيد
وإن من اعتقد الكفر بقلبه فهو كافر عند الله
وإن لم يلفظ بكلمة الكفر ، وأما الاستثناء
الذي يخرج به جميع الجملة في بعض الأحوال فهو
الاستثناء بإن وبإلا أن ، مثاله أن يقول والله
لأعطين القرشيين ثلاثة دراهم إن كان كذا وإلا
أن يكون كذا فهذا لابد فيهم ن تحريك اللسان
قولاً واحداً لأنه في معنى الاستثناء بأن شاء
الله وبإلا أن يشاء الله ، ومن أهل العلم من
شذ فأجاز الاستثناء في القلب بمشيئة الله وعلى
هذا يحمل ما روي عن ابن عباس من إجازة
الاستثناء بعد عام أنه أظهر بعد عام من
الاستثناء ما كان اعتقده حين اليمين منه ، إذ
لا اختلاف بين أحد من أهل العلم في أن
الاستثناء لابد أن يكون موصولاً
(3/182)
باليمين ، بل
قد قال ابن المواز إنه لابد أن
ينوبه قبل آخر حرف من اليمين يريد من الكلام
الذي به تمت اليمين ، هذا معنى قوله الذي يجب
أن يحمل عليه كلامه ، وقد قيل إن الاستثناء من
العدد لابد أن يعقد عليه يمينه كالنية ، ولا
يجوز له أن يستدركه وإن أوصله بيمينه أو قبل
آخر حرف من كلامه ، مثال ذلك أن يقول امرأتي
طالق ثلاثاً إلا وحدا حدة والقولان قائمان من
المدونة بالمعنى ، وذلك أنه قال في كتاب
الأيمان بالطلاق منها في الذي يقول لامرأته
قبل أن يدخل بها أنت طالق وأنت طالق وأنت طالق
إنها ثلاث تطليقات إلا أن يريد بتكرار الطلاق
إسماعها ، وقال في كتاب الظهار منها في الذي
يقول لامرأته أنت طالق البتة وأنت علي كظهر
أمي إنه لا يلزمه فيها الظهار أن تزوجها بعد
زوج وذلك اختلاف من القول فعلى ما في كتاب
الظهار لا يلزم الذي قال لزوجته قبل أن يدخل
بها أنت طالق وأنت طالق وأنت طالق إلا طلقة
واحدة ، وعلى ما في كتاب الأيمان بالطلاق يلزم
الذي قال لامرأته أنت طالق ثلاثاً وأنت علي
كظهر أمي الظهار أن تزوجها بعد زوج ، فإذا قال
الرجل أنت طالق ثلاثاً إلا وحدة كان له
استثناؤه ، على ما في كتاب الأيمان بالطلاق من
المدونة إذا وصله بيمينه وإن لم يعقد يمينه
عليه ، وعلى ما في كتاب الظهار لا يكون له
استثناؤه ولا ينفعه فيه إلا أن ينويه من أول
ويعقد عليه يمينه ، والقول الأول أظهر لأن
الطلاق لا يقع على المطلق في الصحيح من
الأقوال بنفس تمام اللفظ حتى يسكت بعده سكوتاً
يستقر به الأمر وعلى هذا تأتي مسألة الأيمان
بالطلاق التي ذكرناها من المدونة فقف على ذلك
كله وتدرب ، وبالله التوفيق .
مسألة
وسئل عمن قال مالي لوجه الله ، قال يخرج ثلثه
، قال أصبغ ويجعله في الصدقة دون ما سواها من
سبل الخير فهو مخرج النذر به كما لو قال في
عبده هو لوجه الله كان مخرج العتق ، وكما لو
قال
(3/183)
في ماله هو
لسبيل الله أو في سبيل الله كان مخرجه الغزو
والجهاد خاصة دون سائر السبل .
قال محمد بن أحمد : وهذا كما قال لأن ما أنفق
الرجل من ماله رجاء ثواب الله ولوجه الله ،
إلا أن سبيل الله قد تعرف بالجهاد دون سائر
السبل فإذا جعل الرجل شيئاً من ماله في سبيل
الله كان مخرجه الجهاد وإذا قال فيه الله
ولوجه الله كان مخرجه الصدقة إلا أن يكون له
وجه يختص به فيحمل عليه ، كالعتق في العبد
والهدي فيما يهدى بمكة ، وبالله التوفيق .
ومن كتاب أوله بع ولا نقصان عليك
مسألة
وسئل عن رجل باع من رجلين سلعة إلى أجل واتخذ
عليهما صاحب الحق يميناً إلى أجل أن يقضياه
فحل الأجل فقضاه أحدهما جميع الحق بغير أمر
صاحبه ، قال هو حانث إلا أن يكونوا حملاء
بعضهم عن بعض ، قلت فإن كان شريكه فيها شريك
عقد فقال : الشريك والأجنبي سواء في هذا هو
حانث إن لم يأمره ولم يتحمل بعضهم عن بعض ،
والشريك والأجنبي في ذلك سواء ، ولو أن رجلاً
حلف بطلاق امرأته أن يوفي حقه إلى أجل فغاب
عند الأجل فقضاءه عنه رجل لم يأمره كان حانثاً
.
قال محمد بن رشد : إذا اشترى الرجلان من رجل
سلعة بثمن إلى أجلو حلفا أن يؤدياه إليه إلى
الأجل فإن لم يكن أحدهما حميلاً بصاحبه فيبر
كل واحد منهما بأن يقضي عن نفسه ما يجب له من
الثمن ولا يبر بما يقضي عنه صحابه إلا أن
يأمره بذلك إذ ليس بوكيل له على أن يقضي عنه ،
وإن كان كل واحد منهما حميلاً بصاحبه فيبر كل
واحد منهما بأن يقضي عن نفسه
(3/184)
ما يجب عليه من
الثمن وبأن يقضي ذلك عنه صاحبه ، لأن الحمالة
تقتضي أن يكون كل واحد منهما وكيلاً صاحبه عن
صاحبه على أن يقضي عنه ما تحمل به عنه وإن كان
كل واحد منهما حميلاً بصاحبه ولصاحب الحق أن
يأخذاه من شاء منهم بحقه فلا يبر واحد منهم
إلا بأن يقضي جميع الحق لأنه مطلوب به
كالشريكين المتفاوضين يشتريان السلعة بثمن إلى
أجل ويحلفان أن يؤديا إلى البائع حقه إلى أجل
فعلى هذه الوجوه الثلاثة تفترق أحكام البر
والحنث في هذه المسألة وشريك العقد الذي قال
فيه إنه والأجنبي سواء معناه أن يتعاقد
الرجلان على أن اشتريا السلعة بدين على أن
يكونا شركيين فيها لا يريد بذلك عقد المفاوضة
لأن المتفاوضين لا يبر واحد منهما إلا بأداء
جميع الحق على ما ذكرناه لأنه حميل له ، وقوله
إن من حلف ليقضين رجلاً حقه لا يبر بأن يقضيه
عنه رجل بغير أمره صحيح وكذلك لو كان وكيله
على البيع والتقاضي والقيام بحوائجهن قال ابن
القاسم في رسم أسلم من سماع عيسى منك تاب
الأيمان بالطلاق فلا يبر الحالف على القضاء
إلا بأن يقضي هو الحق عن نفسه أو يقضيه عنه
رجل بأمره أو وكيل مفوض إليه في جميع الأشياء
أو مجعول إليه فيها جعل القضاء ، وبالله
التوفيق .
ومن كتاب لم يدرك من صلاة الإمام إلا الجلوس
مسألة
وقال في رجل خطب إليه رجل ابنته وهي بكر ،
فقال عليه المشي إلى بيت الله وهو يحملها إلى
بيت الله إن زوجها إياه ، فقال له هؤلاء لأي
شيء لا تزوج فلاناً ، فقال علي فيه يمين وليتك
أخرجتني من يميني فزوجه المولي بعلمه وأعرس
ودخل بها ، قال النكاح ثابت ، وعليه المشي .
قال محمد بن أحمد : وهذا كما قال لأنه إذا
زوجه هؤلاء بعلمه فكأنه
(3/185)
هو الذي زوجه
لأن يد الوكيل كيد موكله فمن حلف ليضربن عبده
فضربه غيره بر إلا أن ينوي أن يضربه هو ب يده
، ومن حلف ألا يضرب عبده فضربه غيره بأمر حنث
إلا أن يكون نوى ألا يضربه بيده ، قال عز وجل
: { ومن يطع الرسول فقد أطاع الله } فجعل طاعة
رسوله طاعة له حقيقة ، وعلى هذا يضاف فعل
المأمور إلى الآمر فيقال ضرب السلطان وقطع
وقتل وكتب وإن لم يفعل شيئاً من ذلك بيده
وإنما فعله أعوانه بأمرهن وقد أضاف الله عز
وجل أعوان ملك الموت إلى ملك الموت : { قل
يتوفاكم ملك الموت } ، وأعوانه هم الذين يلون
قبض الأرواح بإذنه ثم يلي هو قبضها منهم فيرفع
روح المؤمن إلى ملائكة الرحمة وروح الكافر إلى
ملائكة العذاب على ما روي في تأويل قوله عز
وجل : { حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا
} ، الآية بلفظ الجماعة وهذا كله بين والحمد
لله كثيراً .
"تم النذور الأول"
(3/186)
|