البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة

كتاب الصيد والذبائح
من سماع عبد الرحمان بن القاسم
من كتاب القبلة
مسألة
قال سحنون : أخبرني ابن القاسم قال : سمعت مالكاً يقول في بهيمة وقعت في ماء فلم يستطع صاحبها أن يذبحها إلا ورأسها في جوف الماء ، فقال إن وصل إلى مذبحها وهي حية فلا أرى بذلك ب أساً وإن رأسها في جوف الماء إذا اضطر إلى ذلك .
قال محمد بن رشد : قوله إذا اضطر إلى ذلك شرط فيه نظر ، إذ لا فرق في هذه المسألة في إعمال الذكاة بين أن يضطر إلى تذكيتها على تلك الحال أو لا يضطر إلى ذلك ، وإنما تفترق الضرورة من غير الضرورة في إباحة الفعل ابتداء فكيره له أن يفعل ذلك من غير ضرورة مراعاة لقول من يقول إن تذكيتها في حرف لا تجوز على حال ، وهو قول ابن نافع في المبسوطة ، قال إن رفع رأسها على الماء فذبحها ثم تركها فهي حلال ، وإن لم يرفع رأسها وذكاها تحت الماء فلا ذكاة فيها ، ووجه ذلك أنه لا يدري إن كانت ماتت من ذبحه أو من الغم في الماء لاشتراك الأمرين جميعاً فيها ، كما قال مالك في المدونة في الصائد يذكي الصيد والكلاب تنهشه وهو يقدر على أن يتخلصه منها لا يؤكل مخافة أن يكون إنما مات من نهشها ، وقال ابن القاسم إنه يؤكل إن كان ذكاه وه ويستيقن أن حياته فيه مجتمعة ، فقول مالك في المدونة خلاف قوله في هذه المسألة ومثل قول ابن نافع فيها ، وقول ابن القاسم في المدونة

(3/269)


مثل قول مالك في هذه المسألة خلاف قول ابن نافع فيها ، ولو ذكى الصائد الصيد والكلاب تنهشه وهو لا يقدر على أن يتخلصه منها لأكل باتفاق ، فهذه المسألة يفترق فيها الضرورة من غير الضرورة في إعمال التذكية لا مسألة الذبح في الماء ، فقف على ذلك واعلمه فإن المعنى في ذلك بين ، وهو أن الصيد يؤكل إذا قتلته الكلاب قبل أن يدركه الصائد بخلاف إذا مات في الماء قبل أن يدركه ، ولو قتله في جوف الماء بما يقتل به الصيد لم يؤكل لأنه قد صار أسيره ، قاله ابن حبيب جعل النهر كالحفرة بخلاف الغيضة والغار ، وبالله التوفيق .
مسألة
قال مالك في بهيمة طرحت جنيناً حياً فذكي وهو يركض ، قال ما أحب أن يؤكل قال ، قال مالك وكذلك الذي لم يتم خلقه .
قال محمد بن رشد : قوله لا أحب ليس على ظاهره ، ومراده لا يحل فتجوز في اللفظ وهو بين من إرادته بدليل تمثيله إياه بالذي لم يتم خلقه ، ولا يجوز تذكيته إلا أن يعلم أنه لو أرجئ عاش ، وأما إن علم أنه لو ترك لم يعش أو شك في ذلك فلا يصح تذكيته .
مسألة
قال ابن القاسم : وسمعت مالك يقول في ذبيحة السكران الذي لا يعقل والمجنون الذي لا يعقل إنها لا تؤكل إذا كانا لا يعقلان .
قال محمد بن رشد : وأما السكران الذي لا يعقل أصلاً فهو كالمجنون المطبق الذي لا يعقل فلا تؤكل ذبيحته بإجماع ، لأن من شرط التذكية النية وهو القصد إلى الذكاة ، وذلك لا يصح ممن لا يعقل له أصلاً ،

(3/270)


وأما السكران الذي يخطئ ويصيب فلا ينبغي لأحد أن يأكل ذبيحته لأنه لا يدري هل صحت منه النية في الذبح أم لا ؟ ولا يصدق في ذلك لأنه ممن لا تجو شهادته ولا يقبل قولهن ولو أتى مستفتياً في خاصة نفسه يزعم أنه عرف ما صنع وقصد الذكاة بذلك لوجب ان ينوي في خاصة نفسه ويباح له أكل ذبيحته وإن كان في تلك الحال ممن يقع عليه اسم سكران ، وقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون } . والخطاب لا يتوجه إلا لمن يعقل ، فدلت الآية أن السكران قد يعقل وهذا بين .
مسألة
قال ابن القاسم : وسمعت مالكاً يقول أكره جبن المجوس لما يجعل فيه من أنافيح الميتة ، وأما السمن والزيت فلا أرى به بأساً إذا كانت آنيتهم لا بأس بها ، فإن كان في آنيتهم بعض ذلك فلا أرى أن يؤكل ، وإن شككت في آنيتهم وكانوا يأكلون الميتة فلا أحب ذلك .
قال محمد بن رشد : أما جبن المجوس فبين أن هلا يخر فيه لأنه إنما يجعلون فيه من أنافيح ذبائحهم التي لا تحل لنا ، فقوله أكره ذلك لفظ فيه تجاوز ، وقد روي أن أبا موسى الأشعري ، رضي الله عنه ، كتب إلى عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، يذكر أن المجوس لما رأوا المسلمين لا يشترون جبنهم وإنما يشترون جبن أهل الكتاب عمدوا فصلبوا على الجبن كما يصلب أهل الكتاب ليشتري من جبنهم ، فكتب إليه عمر ، رضي الله عنه ، ما تبين لكم أنه من صنعتهم فلا تأكلوه ، وما لم يتبين لكم فكلوه ، ولا تحرموا على أنفسكم ما أحل الله لكم ، قال ابن حبيب وقد تورع عمر بن الخطاب وابن

(3/271)


مسعود وابن عباس في خاصة أنفسهم عن أكل الجبن إلا ما أيقنوا أنه من جبن المسلمين وأهل الكتاب خيفة أن يكون من جبن المجوس ، ولم يفتوا الناس به ولا منعوهم من أكله فمن أخذ بذلك في البلد الذي فيه المجوس مع أهل الكتاب فحسن وأما السمن والزيت فكما قال لا يحب أن يمتنع من أكله إلا أن يعلم بنجاسة آنيتهم فإذا شككت في نجاستها فالتورع أفضل .
مسألة
وقال مالك : ما ذبح أهل الكتاب لأعيادهم وكنائسهم وأعدوه فلا أحب أكله ، ولست أراه حراماً ، قال ابن القاسم ولا يعجبني أكله ، قال عيسى لا أرى به بأساً ، وابن وهب مثله سحنون كل ما ذبحوا لأعيادهم فلا يحل أكله ، وما ذبحوا لأنفسهم فلا بأس به .
قال محمد بن رشد : كره مالك ما ذبحوا لأعيادهم وكنائسهم لأنه رآه مضاهياً لقوله عز وجل : { أو فسقاً أهل لغير الله به } ، ولم يحرمه إذ لم ير الآية متناولة له وإنما مضاهية له ، لأن الآية عنده معناها ما ذبحوا لآلهتهم مما لا يأكلون ، ورأى سحنون الآية متناولة له فحرمه ، وأجازه من أجازه لأنه من طعامهم الذي يأكلونه ، وقد قال عز وجل : { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم } ، وقد مضى هذا المعنى في سماع عبد المالك من كتاب الضحايا فقف على ذلك وبالله التوفيق .

(3/272)


ومن كتاب أوله سلعة سماها
مسألة
قال : وسئل ملك عن الحوت يؤخذ حياً أيقطع قبل أن يموت ؟ قال لا بأس فيه لأنه لا ذكاة فيه ، وأنه لو وجد ميتاً أكل فلا بأس بأن يقطع قبل أن يموت وأن يلقى في النار وهو حي فلا بأس بذلك .
قال محمد بن رشد : قد كره هذا في رسم الجنائز والصيد من سماع أشهب كراهية شديدة . وظاهر هذه الرواية الإباحة والوجه في ذلك أن الحوت لما كان لا يحتاج إلى تذكية وكان للرجل أن يقتله بأي نوع من أنواع القتل في الماء ، وأن يقطعه فيه إن شا كان له أن يفعل ذلك به بعد خروجه من الماء ، والوجه في كراهية ذلك أن الحوت مذكي فالحياة التي فيه بعد صيده بمثابة الحياة التي تبقى في الذبيحة بعد ذبحها فيكره في كل واحد منهما ما يكره في الآخر .
مسألة
وسئل مالك عن جبن الروم الذي يوجد في بيوتهم ، قال ما أحب أن أحرم حلالاً وأما أن يكرهه رجل في خاصة نفسه فلا بأس بذلك ، وأما أن أحرمه على الناس فلا أدري

(3/273)


ما حقيقته ، قد قيل إنهم يجعلون فيه أنفحة الخنزير وهم نصارى ؟ وما أحب أن أحرم حلالاً ، وأما أن يتقيه رجل في خاصة نفسه فلا أرى بذلك بأساً .
قال محمد بن رشد : كره للرجل في خاصة نفسه من أجل ما قيل له إنهم يجعلون فيه من أنفحة الخنزير ، ولو لم يسمع ذلك لم يكن عليه أن يبحث عن ذلك ، لأن الله قد أباح لنا أكل طعامهم بقوله : { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم } . فأكل طعامهم جائز ما لم يوقن فيه بنجاسة ، فإن خشي ذلك الرجل لشيء سمعه استحب له أن يتركه ، ويبين هذا ما ذكرناه قبل هذا عن عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، وابن عباس وابن مسعود من تورعهم في خاصة أنفسهم عن أكل الجبن مخافة أن يكون من جبن المجوس .
مسألة
قال : وسألت ابن القاسم عن البازي يكون في يد صاحبه فيضطرب على الشيء يراه ولا يراه صاحبه فيرسله صاحبه فربما أخذ صيداً وربما أخذ الحية وما أشبهها مما ليست بصيد ، قال إذا كان إنما اضطرب على غير صيد فأرسله وهو لا يرى شيئاً فأخذ صيداً صيداً غيره إلا أن يستيقن أن اضطرابه إنما كان على الصيد الذي أخذ ، مثل أن يكون يراه غيره ولا يراه هو ، والطيرة يأخذها ولا يطير حولها شيء ، ومثل هذا مما يستيقن فلا بأس بأكله .

(3/274)


قال محمد بن أحمد : معنى هذه المسألة أنه أرسل البازي ينوي صيد ما اضطرب عليه ، وذلك بين من قثوله : ولعله أن يضطرب على صيد ويأخذ صيداً غيره ، وول كان لما اضطرب أرسله ينوي ما صاد كان الذي ضاطرب عليه أو غيره لأكل ما صاد على معنى ما في المدونة في الذي يرسل كلبه على الجماعة من الصيد وينوي ، إن كان وراءها جماعة أخرى لميرها فيأخذ ما لم ير أنه يأكله ، ويبين هذا التأويل أيضاً قول مالك في كتاب ابن المواز ، قال ومن رأى كلبه يحد النظر وكالملتفت يميناً وشمالاً فأرسله على صيد لم يره ، فليأكل ما أخذ وهو كإرساله في الغياض والغيران لا يدري ما فيها عرف أن فيها صيداً أو لم يعرف ، ومن الناس من حمل هذه الرواية على الخلاف لما في المدونة مثل قول أشهب إنه لا يصح أن ينوي في إرساله ما لم يره من الصيد ، ومثل قول سحنون في رسم لم يدرك من سماع عيسى أنه إذا أرسل كلبه في الحجر والغامصة ينوي اصطياد ما فيهما وهو لا يدري أفيهما شيء أم لا ، فأصاب فيهما صيداً أنه لا يؤكل ، والتأويل الأول أظهر والله أعلم .
ومن كتاب أوله شك في طوافه
مسألة
وسئل مالك عن الحوت يشتري فيوجد في بطنه حوت أخرى ، أترى أن يؤكل ؟ قال : نعم لا بأس بذلك .
قال محمد بن رشد : هذا صحيح على أصل مذهب مالك في جواز أكل ما وجد من الحوت ميتاً طافياً على الماء وغير طاف عليه قد حسر عنه

(3/275)


الماء على ظاهر قول النبي عليه السلام : "هو الطهور ماؤه والحل ميتته" . ولم يفرق بين ما صيد أو وجد ميتاً ، من أهل العلم من يقول إنه لا يؤكل الطافي من الحوت ، ومنهم من يقول لا يؤكل إلا ما صيد حياً . فعلى قول هؤلاء لا يجوز أكل الحوت يوجد في بطن الحوت .
مسألة
وسئل مالك عن بيع الجزرة من النصراني وهو يعلم أنه يريدها لذبح أعيادهم في كنائسهم ، فكره ذلك ، فقيل له أيكرون الدواب والسفن إلى أعيادهم ، قال يجتنبه أحب إلي . وسئل ابن القاسم عن الكراء منهم ، فقال ما أعلم حراماً وتركه أحب إلي .
قال محمد بن رشد : وهذا كما قالا إن ذلك مكروه وليس بحرام لأن الشرع أباح البيع والاشتراء منهم والتجارة معهم وإقرارهم ذمة للمسلمين على ما يتشرعون به في دينهم من الإقامة لأعيادهم ، إلا أن يكره للمسلم أن يكون عوناً لهم على ذلك ، فرأى مالك هذا على هذه الرواية من العون لهم على أعيادهم فكرهه . وقد روى عنه إجازة ذلك ، وهو على القول بأنهم غير مخاطبين بالشرائع أولاً يكون قد أعانهم على معصية إلا على أقول بأنهم مخاطبون بالشرائع ، وقع اختلاف قوله في ذلك في سماع سحنون من كتاب السلطان ، فإن وقع البيع والكراء منهم على هذا مضى ولم يفسخ ، وإن كان ازداد في ثمن الجزرة أو كراء الدابة بسبب أعيادهم شيئاً على القيمة أرى أن يتصدق بالزائد على القول مكروه استحباباً والله أعلم .

(3/276)


مسألة
وسئل مالك عن الذي يرمي الصيد بسهم مسموم ، فيدرك ذكاته أترى أن يؤكل ؟ قال : لا أرى أن يؤكل وإن ذكي ، قيل له إن السم يجتمع في بضعة واحدة ويقطع ، قال لا أرى ذلك ونهى عنه وقال أخاف أن يكون السم قتله وأخاف من يأكله الموت منه ونهى عنه .
قال محمد بن رشد : أما إذا لم ينفذ السهم بالسهم مقتله ولم يدرك ذكاته فلا يؤكل باتفاق ، واختلف إن أدركت ذكاته ، فقال في الرواية إنه لا يؤكل ، ومثله حكى ابن حبيب في الواضحة ، قال لأنه ساعة يمس السم الدم جرى به إلى قتله ، وقال سحنون إن يؤكل وهو أظهر ، لأنه قد ذكي وحياته فيه مجتمعة قبل أن ينفذ مقاتله ، وأما إذا أنفذ السهم بالسم مقاتله ، فقال ابن حبيب إنه لا يؤكل لأن السم قد شاركه في إنفاذ مقتله ويدخل في ذلك الاختلاف بالمعنى من مسألة الذبح في الماء على ما ذكرناه في أول رسم من السماع وبالله التوفيق .
مسألة
وسئل مالك عن حيتان في برك يقل ماؤها فيطرح فيها السيكران فيسكرها ذلك فتؤخذ أفترى أن تؤكل ؟ قال ما يعجبني ذلك ، ثم قال أفيخاف على الذين يأكلونها ؟ فقيل له : لا ، قد جرب

(3/277)


ذلك وإنه لا يضر ذلك ، قال ما يعجبني ذلك وكرهه ، وقال هذا من عمل العجم .
قال محمد بن أحمد : إنما كره أكلها من ناحية الخوف على من يأكلها وكأنه لم ير التجربة تصح في ذلك قد يضر بعض الناس ولا يضر آخرين لا من ناحية أن ذلك مما يؤثر في ذكاة الحيتان لأنها لا تحتاج إلى ذكاة ، وقد قال في رسم الصيد والجنائز إنه لا بأس بأكل ما مات منها بالسيكران أو السكر فأخذ باليد ، وهو مفسر لهذه الرواية في جواز أكلها إلا أنه لا يجوز بيعها إلا بعد أن يبين بذلك وبالله التوفيق .
ومن كتاب أوله حلف بطلاق امرأته
مسألة
قال مالك : لا أحب شراء قديد الروم ولا جبنهم الذي ينزلون به من بلادهم مثل أهل اطربلس .
قال محمد بن أحمد : قد مضت هذه المسألة ، والقول فيها في رسم حلف ألا يبيع سلعة سماها .
مسألة
قال : وسئل مالك عن الرجل يكون بينه وبين اليهودي أو النصراني شرك في شاة ، فيقول له اليهودي دعني أذبحها فإنا لا نأكل ذبائحكم ، قال مالك لا أحب له أن يمكنه من ذلك ، فقيل له ، فإنا لا نأكل ذبائحهم التي ذبحوا لأنفسهم ، قال إنما نأكل

(3/278)


ما ذبحوا لأنفسهم ، وأما إنا نعطيهم شيئاً أو يكون معهم شرك فتمكنهم فلا أحب للمسلم أن يفعل ذلك ولا ينبغي للمسلم أن يستأجرهم ولا يقارضهم ولا يأتمنهم
قال محمد بن رشد : قد مضى القول في هذه المسألة في سماع أشهب من كتاب الضحايا فلا معنى لإعادته وسيأتي هذا المعنى أيضاً في سماع أشهب وفي سماع يحيى وبالله التوفيق .
ومن كتاب أوله كتب عليه ذكر حق
مسألة
قال مالك : وكل متردية اندق عنقها أو أنكسر ظهرها أو خربت فأتيت وهي تتنفس فذكيت ، قال مالك ما أدرك من متردية اندق عنقها وإن كان مثلها لا يعيش أو ضرب ون تركت لم تعش فذكيت فهي توكل لأن بعضها مجتمع إلى بعض وأما كل شيء خرق جوفه حتى انتثر أمعاؤها وأحشاؤها أو أكل معاؤها فلا أرى أن تذكي ولا توكل ، قال مالك في المندقة العنق وما أشبهها وإن كان مثلها لا يعيش لو ترك فذكي فهو ذكي وتوكل إلا أن ينقطع نخاعها فذكى ، قال ولم يجز بيعه . وقد روي عن مالك ما يدل على جواز بيعه من ذلك ما وقع في رسم الشجرة من سماع ابن

(3/279)


القاسم من كتاب الصلاة في مسألة الصابون وما في سماع أشهب أيضاً من هذا الكتاب على ما سنذكره إن شاء الله إذا مررنا به .
ومن كتاب أوله باع غلاماً بعشرين ديناراً
مسألة
قال مالك : تنحر البدن قياماً أحب إلي ، وكأني رأيته يراه وجه الأمر فيها ، قال والبقر والغنم تذبح وتضجع ، قال : ويلي الرجل نحر بدنته وذبح ضحيته بيده أحب إلي ، ويقول بسم الله ، الله أكبر ، وإن أحب قال ربنا تقبل منا ، وكره أن يقول اللهم منك وإليك وعابه وشدد الكراهية فيه ، وقال إذا أعق اللهم منك وإليك ، وإذا تصدق قال اللهم منك وإليك ، فكره ذلك ولم يره من العمل ولم يستحسنه .
قال محمد بن رشد : هذا كله مثل ما في المدونة وإنما استحب أن تنحر البدن قياماً وقال إنه وجه الأمر فيها كما قال في الحج الثالث من المدونة إنه الشأن اتباعاً لظاهر قوله عز وجل : { فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها } ، أي سقطت إلى الأرض ، ولم ير ابن القاسم في المدونة أن تنحر معقولة إن امتنعت ولم يحفظ عن مالك هل تنحر معقولة أم تكون مصوففة ، وقوله عز وجل : { فاذكروا اسم الله عليها صواف } . أي مصطفة لا يدل على كونها معقولة ، فلذلك لم يستحب ابن القاسم أن تعقل إذا لم تمتنع ، وقد قرئ فاذكروا اسم الله عليها صوافن أي على ثلاث قوائم معقولة إحدى يديها ، واستحب ذلك بعض العلماء ، وقد قرئ صوافي أي صافية خالصة لله

(3/280)


تعالى ، واستحب أن يلي الرجل نحر هديه وذبح ضحيته بيده تواضعاً لله وتأسياً برسول الله في ذلك ، فإن ذبح له غيره بأمره أجزأه عند مالك ، قال ابن عبد الحكم في مختصر : وقد قيل لا يجزيه والأول أحب إلينا ، وأما إن ذبحها له نصراني أو يهودي فلا يجزيه إلا عند أشهب ، وقد مضى دليل قوله في سماع أشهب من كتاب الضحايا ، واستحب في صفة التسمية على الذبيحة أن يقول بسم الله والله أكبر وحده اكتفاه بذلك ، وكذلك لو قال لا إله إلا الله أو سبحان الله أو لا حول ولا قوة إلا بالله لاكتفي بذلك ، لأنه إنما أمر أن يسمي الله فكيف ما ذكره فقد سماه ، وأجاز أن يقول بعد التسمية صلى الله على رسول الله ، وكره أن يقول معها محمد رسول الله ، وظاهر المدونة أنه كره الأمرين جميعاً وما في الواضحة أبين ، لأن الصلاة على النبي دعاء له فلا وجه لكراهيته ، بخلاف ذكر اسمه بغير دعاء ذلك مكروه لأن الذبح إنما هو لله تعالى وحده فلا يذكر هناك إلا اسم الله تعالى وحده كما أمر حيث يقول : { ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام } .
وتسمية الله سنة في الذكاة وليست شرطاً في صحتها ، لأن معنى قوله عز وجل : { ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه } ، أي لا تأكلوا الميتة التي لم يقصد إلى ذكاتها لأنها فسق ، ومعنى قوله عز وجل : { فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين } . كلوا مما قصد إلى ذكاته ، فكنى عز وجل عن التذكية بذكر اسمه كما كنى عن رمي الجمار

(3/281)


بذكره حيث يقول : { واذكروا الله في أيام معدودات } ومن الدليل على أن مراده عز وجل بما لم يذكر اسم الله عليه ما لم يقصد إلى ذبحه قوله عز وجل : { وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم } . وبين بقوله : { حرمت عليكم الميتة } . إلى قوله : { ذالكم فسق } . فبين بتسمية هذه الأشياء التي حرمها الله في هذه الآية بقوله فسقاً أنها هي التي نهى عن أكلها لأنها فسق بقوله : { ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق } . فمن ترك التسمية ناسياً أكلت ذبيحته ، وأجاز ابن حبيب أن يقول مع التسمية على الضحية : اللهم منك وبك ولك ، أي منك الرزق وبك الهدي ولك النسك ، وحكاه عن علي بن أبي طالب وربيعة بن أبي عبد الرحمان ، وهو قول سحنون ، وكره ذلك مالك في هذه الرواية وشدد الكراهية في ذلك ، وقال في المدونة إن ذلك بدعة ، فالمعنى في ذلك والله أعلم أنه إنما كره التزام ذلك على وجه كونه مشروعاً في ذبح النسك كالتسمية ، فمن قاله على غير هذا الوجه في الفرط لم يكن عليه ثم ولا حرج ، وأوجر في ذلك إن شاء الله .
مسألة
وسئل مالك عمن وضع جبحاً للعسل في الجبل فدخل فيه ذباب النحل فأطعم فيه ، أتراه له دون الناس ؟ فقال : إنما ذلك

(3/282)


عندي بمنزلة الحبالة يضعها الرجل للصيد فهو لمن وضع حبالته إذا وقع فيها ، بذلك الجبح ما كان فيه من عسل فهو لمن جعله مثل الحبالة التي وصفت لك .
قال محمد بن أحمد : قال العتبي إنما ذلكم لمن جعلها بعيداً من العمران حيث لا ينتهي إليه سرح النحل ، وأما إن جعلها في موضع ينتهي إليه سرح النحل فلا يحل له ذلك ، ولو أن السلطان علم بذلك لكان عليه أن يؤدبه ، وقول صحيح مفسر لقول مالك ، لأن النحل إذا صارت في الأجباح كانت كحمام الأبراج لا يجوز لأحد أن يصيد حمام الأبراج ، وسنزيد هذه المسألة بياناً في نوازل سحنون إن شاء الله .
ومن كتاب أوله صلى نهاراً ثلاث ركعات
مسألة
وسئل مالك عن جبن الحبشة وهم مشركون ، قال أخاف أن يجعلوا فيه ميتة فأنا أكرهه .
قال محمد بن أحمد : في بعض الروايات وسئل عن سمن الحبشة وهو الصحيح في الرواية والله أعلم لأن المشركين ليسوا بأهل كتاب وإنما هم عبدة أوثان ، فذبائحهم محرمة علينا كذبائح المجوس ، فالامتناع من أكل جبنهم واجب لأنهم يجعلون فهي من أنفحة ذبائحهم وهي ميتة لا تحل ، وأما سمنهم فكرهه مالك مخافة أن يكون الإناء الذي هو فيه قد جعلوا فيه ميتة ، وقد مضى في أول رسم من هذا السماع ما يدل على هذا ، وبالله التوفيق .

(3/283)


ومن سماع أشهب وابن نافع
مسألة
قال سحنون : سمعت أشهب وعبد الله بن نافع يقولان : سمعنا المسور بن عبد المالك المخزومي يحدث مالكاً أن أبا الحويرث حدثه أن محمد بن جبير بن مطعم أمر بثلاثة ديكة له أن تسمن حتى إذا امتلأن شحماً أمر غلاماً له أن يذبحها فذبحها من أقفيتها فلما نظر إليها محمد بن جبير بن مطعم ، قال : لأظنه قد حرمها ، فقلت له : كلا ، فخرجت معه إلى سعيد بن المسيب حتى سأله عن أكلها ، فقال له ابن المسيب : لا تؤكل فليس ذلك بذكاة ، كل أنسية ذبحت من غير مذبحها فلا تؤكل ، ولكن لو كانت وحشية أكلت فقيل لمالك أترى ما قال سعيد بن المسيب أن هذه الديكة المذبوحة من أقفيتها لا تؤكل ؟ قال : نعم إذا ذبحت من أقفيتها فلا تؤكل ، وأرى أن تطرح ، وأما لو ذهب يذبح فأخطأ فانحرف شيئاً لم أر بأكلها بأساً .
قال محمد بن رشد : هذا مثل ما في المدونة وغيرها أن من ذبح من القفا لم تؤكل ذبيحته ، والمعنى في ذلك بين ، لأن من ذبح من القفا فقد قطع النخاع وهو المخ الذي في عظم الرقبة قبل أن يصل إلى موضع الذبح ، فيكون بفعله قد قتل البهيمة بقطعه نخاعها إذ هو مقتل من مقاتلها قبل أن يذبحها في موضع ذكاتها ، وقول سعيد بن المسيب ولو كانت وحشية أكلت

(3/284)


فذلك كلام فيه نظر ، لأن الوحشية إذا ملكت لا تذكي إلا بما تذكي به الأنسية من الذكاة في موضع الذكاة على وجه الذكاة ، فمراده والله أعلم إذا فعل ذلك لها في حال الاصطياد لها وهو غير قادر عليها وبالله تعالى التوفيق .
ومن كتاب الجنائز والصيد
مسألة
وسئل عمن ذبح ذبيحة على سفينة فجرت في الماء فماتت فيه ، فقال : لا يأكلها إلا إن كان قد تم ذبحه ، فقيل له إنا نخاف أن يكون قتلها الغم في الماء وإن كان قد تم ذبحه فلا بأس بها .
قال محمد بن رشد : هذا نص ما في المدونة إذا أكمل ذبحها قبل أن تسقط في الماء فأكلها جائز ، وهو مما لا اختلاف فيه ، بخلاف إذا ذبحها في جوف الماء ، وقد مضى القول على هذا في أول رسم من سماع ابن القاسم وبالله التوفيق .
مسألة
قيل لمالك فالرعاء يكونون عندنا صنارى فيأتي أحدهم بالشاة قد ذبحها ، فقال : أرجو ألا يكون به بأس ، قال : وقال لي ابن أبي حازم في ذلك ما كان في يدك ملكه فلا تولهم ذبحه ، وأما ما ذبحواهم لأنفسهم فكله ، وما وليتهم ذبحه فلا بأس بأكله وبئس ما صنعت .
قال محمد بن رشد : قد تقدمت هذه المسألة في رسم حلف بطلاق

(3/285)


امرأته من سماع ابن القاسم ، ومضت أيضاً والقول عليها في سماع أشهب من كتاب الضحايا فلا معنى لإعادته .
مسألة
وسمعت مالكاً يقول : أرى أن يؤدب الجزارون الذين ينفخون اللحم وأن يمنعوا من ذلك .
قال محمد بن رشد : يريد النفخ الذي يفعلون بعد السلخ ليظهر اللحم سميناً ، وأما النفخ عند السلخ فلا بأس به لأن فيه منفعة إذ لا يتأتى السلخ إلا به ففيه صلاح ، وأما الذي يفعلون بعد السلخ فيكره لوجهين ، أحدهما : إن ذلك غش إذ يوهم الجاهل بفعلهم فيظن أن ذلك الامتلاء من سمانة اللحم . والثاني : إن ذلك يغير طعم اللحم ، وكذلك قال مالك في سماع ابن القاسم من كتاب السلطان وبالله التوفيق .
مسألة
وسئل مالك عمن يذبح الحمام والطير هكذا وأشار بيده وهو قائم يذبحها ، قال : ما أراه بمستقيم هذا على وجه الاستخفاف ، فقيل له إن الصائد ربما فعل ذلك ، فقال إلا أنه غير فقيه ولا مفلح ، فقيل له فيؤكل ، قال : نعم إذا أحسن ذبحنا .
قال محمد بن رشد : وهذا كما قال مالك إن ذلك لا يفعله إلا المتهاون بالذبح المستخف بما يلزمه الاستثبات في الذكاة والتمكن فيها وأخلق بفاعل ذلك ألا يحافظ على ما يلزمه من التسمية واستقبال القبلة وف اعل ذلك غير فقيه ولا مفلح كما قال مالك .
مسألة
وقال مالك : مر عمر بن الخطاب على رجل قد أضجع شاة

(3/286)


وهو يحد شفرته فعلاه بالدرة ، فقال له علام تعذب الروح ؟ هلا حددت شفرتك قبل .
قال محمد بن رشد : هذا مروي عن النبي ، عليه السلام ، روي عنه من رواية ابن مسعود أنه مر برجل قد صرع شاة وجعل يديها من وراء قرنها ثم جعل رجله على عنقها ، فاقل هلم الشفرة ، فقال صلى الله عليه وسلم : "فهلا تركتها قائمة ولم تعذبها حتى تحضر شفرتك ثم تضعها وضعاً ليناً رفيقاً ثم تذبحها" ، وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه أمر بحد الشفار وأن يواري بها عن البهائم ، وقال : "إذا ذبح أحدكم فليجهز" ، هذا من سنة الذبح ومما ينبغي للذابح أن يتوخاه ، وقد روي عن ربيعة أنه كره أن يذبح الشاة وأخرى تنظر ، وخفف ذلك مالك واحتج بالبدن التي تنحر مصفوفة بعضها إلى جنب بعضو اختار ابن حبيب قول ربيعة ، ورأى صف البدن عند نحرها من سنتها ، قال : وليس ذلك في الذبائح .
مسألة
وسئل مالك عمن سرق شاة فذبحها أتؤكل ؟ قال : نعم تؤكل ، ولا يشك في ها أحد يعرف الذبح ، وإنما حرف عليه السرقة .
قال محمد بن رشد : هذا أمر متفق عليه في المذهب ولا خلاف فيه أيضاً بين فقهاء الأمصار ، وقد روي عن عكرمة أنه قال : لا تؤكل ذبيحة السارق والغاصب ، وهو قول إسحاق وداوود بن علي ، والحجة عليهم لفقهاء الأمصار ما وري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الشاة التي أخبر لما ألاك منها أكلة إنها ذبحت بغير إذن صاحبها أطعموها الأسرى وإذ لو لم تكن ذكية لما أطعمها رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً فأخبرت المرأة التي كانت دعت رسول الله إلى الطعام

(3/287)


أنها شاة بعث به إليه أهل أخيها بغير إذنه ، فمن دخل داره سارق فذبح له شاة ووجدها مذبوحة فإن كان بلداً فيه مجوس مع المسلمين وأهل الكتاب فلا يأكلها مخافة أن يكون ذبحها مجوسي ، وإن كان ليس فيه إلا المسلمون وأهل الكتاب فلا بأس بأكلها ، قال ذلك ابن حبيب في الواضحة ، وليس ترك أكلها إذا كان في البلد مجوس بلازم في وجه الحكم ، وإنما هو على سبيل التورع على ما مضى عن عمر بن الخطاب وعبد الله بن عباس وعبد الله بن مسعود في أول رسم من سماع ابن القاسم ، ويؤيد هذا ما وري عن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم سألوا رسول الله ، فقالوا : أغراب يأتوننا بحيتان مشروحة والجبن والسمن ما ندري ما كنه إسلامهم ؟ قال : "انظروا ما حرم الله عليكم فأمسكوا عنه ، وما سكت عنه فإنه عفا لكم عنه ، وما كان ربك نسياً ، واذكروا اسم الله عز وجل" ، وروي عن ابن عباس أنه قال : كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء ويتركون أشياء تقذراً فأنزل الله عز وجل نبيه وأنزل كتابه وأحل له حلاله وحرم حرامه فما أحل فهو حلال ، وما حرم فهو حرام ، وما سكت عنه فهو عفو ، ثم تلا : { قل لا أجد فيما أوحي إلي محرماً على طاعم } ، الآية .
وإلى هذا ذهب ابن بكير ، فقال : لا حرام إلا ما ذكر تحريمه في هذه الآية ، وما سواه من الخيل والبغال والحمير وذي الناب من السماع مكروه وليس بحرام ، إذ لا جائز أن تنسخ السنة القرآن وقد اختلف الذين ذهبوا إلى تحريم ما عدا ما ذكر تحريمه في الآية من الدواب أو ذوي الناب من السباع أو ذوي المخلب من الطير بسنة أو إجماع أو دليل خطاب ، كاستدلال مالك على أن الدواب لا تؤكل بأن الله إنما ذكرها للكروب والزينة في تأويل الآية على أقوال ، أحدها : أن ذلك نسخ لبعض ما اقتضته

(3/288)


الآية من التحليل ، قال بذلك من ذهب إلى جواز نسخ القرآن بالسنة . والثاني : أن ذلك ليس بنسخ لأن ما عدا ما ذكر تحريمه فيها عموم يتحمل الخصوص ، فيخصص بما يخصص به العموم من أخبار الآحاد والقياس والإجماع . والثالث : ما ذهب إليه الشافعي من أن الآية لا تتناول بظاهرها تحليل جميع ما عدا ما ذكر تحريمه فيها ، لأن معناها عنده قل لا أجد فيما أوحي إلي محرماً على طاعم يطعمه مما يأكلونه إلا أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير ، وقد كانوا لا يأكلون أشياء تقذراً ، منها السباع التي تعدو وتفترس والعقبان والرخم والنسورو الخنافيس وشبهها ، قال : فلم تدل الآية على تحليل شيء من ذلك ، ودخلت هذه الأشياء في معنى الخبائث التي ذكر الله ، وقوله وإنما حرمت عليه السرقة استدلال صحيح يقول لو كان السارق لا تؤكل ذبيحته إذا ذبح متاع غيره لوجب أن لا تؤكل ذبيحته إذا ذبح متاع نفسه ، كالمحرم لما لم تؤكل ذبيحته إذا ذبح متاع غيره لوجب أن لا تؤكل ذبيحته إذا ذبح متاع نفسه ، كالمحرم لما لم تؤكل ذبيحته إذا ذبح صيد غيره لم تؤكل ذبيحته إذا ذبح صيد نفسه .
مسألة
وسئل عن ذبيحة الخصي ، فقال أحب إلي ألا يذبح ، فإن ذبح أكلت قيل له فذبيحة العبد ؟ قال : هو يؤم الناس في النافلة وفي السفر ، فأما صلاة الجماعات في المساجد فلا ، قيل أرأيت إن أم خصي قوماً أيعيدون الصلاة حين علموا ؟ قال : لا .
قال محمد بن رشد : كره ذبح الخصي ولم يكره ذبح العبد وكلاهما لا يكون إماماً راتباً ولا تجب الإعادة على من صلى خلفه فالفرق بينهما أن الخصاء أمر ثابت فنحا به ناحية التأنيث ، والعبودية ليست بثابتة قد يعتق العبد ، وإنما لم يجز أن يكون إماماً رابتاً من أجل حق السيد في أن يصرفه في

(3/289)


حوائجه ويمنعه من ملازمة المسجد للصلاة بالناس فيه ، ولا يذبح الصبي ضحيته ، والأظهر أن لا تذبح المرأة ضحيتها إلا من ضرورة بدليل ما جاءني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحر عن أزواجه في الحج ولم يرو أنهن نحرن بأنفسهن ، وتجوز ذبيحة الجنب والحائض والأغلف والمسخوط في دينه وإن كان الأولى في ذلك الكمال في الطهارة والدين ، فقد كان الناس يبتغون لذبائحهم أهل الفضل والإصابة على ما مضى في رسم اغتسل من سماع ابن القاسم ، فستة لا تجوز ذبائحهم ، وستة تكره ذبائحهم ، وستة يختلف في جواز ذبائحهم ، فأما الذين لا تجوز ذبائحهم فالصغير الذي لا عقل والمجنون في حال جنونه ، والسكران الذي لا يعقل ، والمجوسي ، والمرتد ، والزنديق وأما الذين تكره ذبائحهم فالصغير الذي يعقل والمرأة والخنثى والخصي والأغلف والفاسق ، وأما الذين يختلف في جواز ذبائحهم فتارك الصلاة والسكران الذي يخطئ ويصيب والبدعي الذي يختلف في تكفيره ، والعربي النصراني والنصراني يذبح للمسلم بأمره ، والعجمي يجيب إلى الإسلام قبل البلوغ ، هذا كله على مذهب مالك وفي خارجه ما يخرج عن هذا التقسيم ، من ذلك ما وري عن سعيد بن المسيب أن المجوسي تؤكل ذبيحته ، وعن ابن عباس الأغلف لا تؤكل ذبيحته ، وقد ذكرنا ذلك في أول رسم من سماع ابن القاسم من كتاب الصلاة .
مسألة
وقال : سمعت أهل العلم يكرهون أن ينخع الرجل ذبيحته بشفرة أو بغيرها .

(3/290)


قال محمد بن رشد : يريد قبل أن تزهق نفسها ، وذلك مثل ما في المدونة وغيرها ولا اختلاف في كراهية ذلك .
مسألة
وسئل مالك عن الذبيحة يخرج من بطنها جنين ميت أيؤكل ؟ قال : نعم إذا كان قد نبت شعره ، قال : أيمر على حلقه السكين ؟ قال : نعم حتى يخرج الدم .
قال محمد بن رشد : هذا ما لا اختلاف فيه في المذهب لقوله صلى الله عليه وسلم : "ذكاة الجنين في ذكاة أمه" ، وقد مضى القول على ذلك في آخر رسم أبي زيد من كتاب الضحايا فلا معنى لإعادته .
مسألة
وسئل مالك عن المنخنقة أتذبح وهي في خناقها أم حتى تطلق من خناقها ؟ قال : لا والله ، لكن تذبح إذا كانت أهلاً للذبح ، قيل وما حد ذلك . قال : تكون تتنفس وعينها تطرف .
قال محمد بن رشد : يريد والله لا ينبغي أن تذبح وهي في خناقها ولكن تذبح بعد أن تطلق من خناقها إذا كانت أهلاً للذبح وذلك أن تكون تتنفس وعينها تطرف ، يريد وإن لم تكن مرجوة الحياة على قوله بعد هذا وما مضى له في رسم كتب عليه ذكر حق من سماع ابن القاسم خلاف ما مضى في سماع أشهب من كتاب الضحايا وقد مضى القول هناك على وجه الاختلاف ، ولم يجب في هذه الرواية هل تؤكل إن ذبحت في خناقها مع أن

(3/291)


تكون تتنفس وعينها تطرف على قياس إنها تؤكل إذا ذكيت بعد أن تطلق من خناقها ، ويتخرج ذلك على قولين أحدهما : كالذي يرمي الصيد بسهم مسموم فينفذ مقاتله أو يذبح في جوف الماء حسبما مضى القول في أول سماع ابن القاسم في رسم شك في طوافه منه .
مسألة
وسئل مالك أيشرب أبوال الإبل في الدواء ؟ قال : لا بأس بذلك ، قال : لا بأس بشرب أبوال الأنعام والإبل والبقر والغنم ، قيل له فأبوال الأتن قال : لا خير فيه ، قيل له فأبوال الناس ، قال : لا خير فيه ، قيل له فالشاة تحلب فتبول في اللبن ، قال : أرجو ألا يكون به بأس .
قال محمد بن رشد : هذا كما قال إنه لا بأس بشرب أبوال الأنعام في الدواء والديل على ذلك ما جاء في الرهط العرنيين الذين قدموا على النبي ، عليه السلام ، فاستوخموا المدينة فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا في لقاحه فيشربوا من أبوالها وألبانها ففعلوا حتى إذا صحوا وسمنوا قتلوا الراعي واستاقوا الدود ، الحديث ، وقاس مالك في المشهور عنه أبوال سائر ما يؤكل لحمه في الطهارة على أبوال الأنعام ، وروى أشهب عنه في جامع المستخرجة أنه فرق بين أبوال الأنعام وبين أوال سائر ما يؤكل لحمه من الحيوان ، وذهب ابن لبابة إلى أنه إنما فرق بين ذلك في إجازة التداوي بشربها لا في طهارتها على ما ذكرناه في آخر رسم شك في طوافه من سماع ابن القاسم من كتاب الصلاة ، وقاس أبوال ما لا يؤكل لحمه على أبوال بني آدم في النجاسة فأبوال الأتن نجسة إذ لا يؤكل لحمها فلا يجوز التداوي بشربها ، وما اختلف

(3/292)


في جواز أكله اختلف في نجاسة بوله حملاً على ذلك ، وذهب أبو حنيفة إلى أن الأبوال تابعة للدماء في النجاسة لا للحوم فرأى أبوال الأنعام وغيرها نجسة فأبعد في القياس وخالف الأثر ، وأما الألبان فهي تابعة للحوم في الطهارة فما كان من الحيوان لا يؤكل لحمه سوى بني آدم المخصوصة لحومهم بالطهارة فألبانهم نجسة ، فألبان الأتن نجسة ، وقد قال يحيى بن يحيى في سماعه من كتاب الوضوء أن من أصاب ثوبه لبن حمارة فصلى به يعيد في الوقت كمن صلى بثوب نجس إلا أنه جوز التداوي بها مراعاة للاختلاف في جواز أكل لحومها حكى ذلك ابن حبيب عن مالك وسعيد بن المسيب والقاسم وعطاء ، وروي إباحة التداوي بها عن النبي ، عليه السلام ، وإلى إجازة ذلك ذهب ابن المواز أيضاً .
مسألة
وسئل مالك عن الشاة يعدو عليها الذئب فتدرك وهي تركض ، قال أترى أن تذكي ؟ قال أما إن بعج بطنها أو أصاب مذبحها فلا أرى ذلك ، ولا أرى أن تؤكل إذا كانت في سبيل المذبوحة فإن الشاة تذبح وهي تركض ، فقيل له أرأيت إذا كان لو خيط بطنها عاشت ؟ فقال : لو كان هذا يكون كان ولكن لا أظنه يكون ، فقيل له فإذا أصابها ما لا تعيش منه لم تذك ؟ قال : نعم إذا كان جوفها أو مذبحها .
قال محمد بن رشد : قوله إنها لا تذكي ولا تؤكل إذا كانت في سبيل المذبوحة يريد بقوله إذا كانت في سبيل المذبوحة إذا يئس من حياتها وإن لم يصب مقتلها ، لأن بعج البطن ليس بمقتل عند جميعهم إذا سلم المصير

(3/293)


ولم ينثر الحشوة ، فقول مالك هذا مثل قوله بعد هذا ومثل ما في سماع أشهب أيضاً من كتاب الضحايا خلاف مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة وفي رسم كتب عليه ذكر حق من سماع ابن القاسم من هذا الكتاب وفي قوله في آخر هذه المسألة إذا كان جوفها أو مذبحها إشكال والمعنى في ذلك أنه رأى أن إصابته إياها إذا كان في جوفها أو مذبحها يصح أن يتحقق به أنها لا تعيش منه وإن لم يبلغ بذلك لها مقتلاًن وما سوى الجوف والمذبح لا يصح أن يتحقق به ذلك ففي هذا دليل أنه لو أشكل أمرها هل تعيش أو لا تعيش مما أصابها به لذكيت وأكلت خلاف قول ابن الماجشون وابن عبد الحكم في الواضحة فيتحصل في المنخنقة وإخواتها إذا سلمت مقاتلها ثلاثة أقوال ، أحدها : أنها تذكي وتؤكل علم أنها لا تعيش من ذلك أو أشكل أمرها كالمريضة سواء ، وهو مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك على القول بأن استثناء في الآية متصل ، والثاني أنها لا تؤكل ولا تذكي علم أنها لا تعيش أو أشكل أمرها بخلاف المريضة ، وهو قول ابن الماجشون وابن عبد الحكم على القول بأن الاستثناء في الآية منفصل ، والثالث : الفرق بين أن يعلم أنها لا تعيش أو يشكل أمرها وهو الذي يقوم من هذه الرواية ، وهو أيضاً على القول بأن الاستثناء في الآية منفصل لأنه لم يجز التذكية في التي قيس منها بهذه الأسباب وجعلها بخلاف التي يئس منها بالمرض ، وحمل التي أشكل أمرها محمل التي رجيت حياتها فأجاز تذكيتها خلاف مذهب ابن الماجشون وابن عبد الحكم في حملها إياها محمل التي يئس منها وبالله التوفيق .
مسألة
وسئل عن الحيتان تصطاد فيغمس رأسها في الطين لتموت فكرهه ولم يره سديداً .

(3/294)


قال محمد بن رشد : هذا نحو قوله بعد هذا في طرح الحوت في النار حياً قبل أن يموت ، وهو خلاف ما مضى في رسم سلعة سماها من سماع ابن القاسم ، وقد مضى هنالك توجيه القولين فلا معنى لإعادته .
مسألة
وقال مالك العتيرة شاة كانت تذبح في رجب يتبررون بها كانت في الجاهلية ، وقد كانت في الإسلام ولكن ليس الناس عليها .
قال محمد بن رشد : قول مالك إن العتيرة هي الرجبية الشاة التي كانت تذبح في الجاهلية في رجب على سبيل التبرر ، وإنها قد كانت في الإسلام يريد معمولاً بها كالضحايا مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم ، روي عنه قال بعرفة : " يا أيها الناس إن على كل بيت في كل عام أضحاة وعتيرية وهل تدرون ما العتيرية" ، قال الراوي للحديث مخنف بن سليم فلا أدري ما كان من درهم عليه ، قال هي التي يقول الناس الرجبية ، وقوله ولكن ليس الناس عليها يريد أنها نسخت بما روي عن النبي ، عليه السلام ، من قوله : "لا فرع ولا عتيرة" والفرع هو أنهم كانوا يذبحون في الجاهلية أول ولد تلده الناقة أو الشاة فيأكلون ويطعمون ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه لما سئل

(3/295)


عنه : "أن تدعه حتى يكون زخرفاً خير لك من أن تنحره فيحق لحمه بوبره فتكفأ إناه منه وتوله ناقتك" . يقول صلى الله عليه وسلم خير له أن يتركه حتى يشتد ولا يذبحه صغيراً فيختلط لحمه بوبره ، فتحزن ناقته وينقطع لبنها بذبح ولدها صغيراً فيكفأ إناه إذا لم يكن لها لبن ، وقد اختلف في قوله ، عليه السلام : "لا فرع ولا عتيرة" ، فقيل إن ذلك نهي عنها فلا بر في علها ، وقيل إن ذلك إنما هو نسخ للوجوب وفعل ذلك بر لمن شاء أن يفعله ، واحتج من ذهب إلى هذا بما روي عن الحارث بن عمر السهمي أنه لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع ، قال : فقلت يا رسول الله العتائر والفرائع ؟ قال : "من شاء أفرع ومن شاء لم يفرع ومن شاء عتر ومن شاء لم يعتر" ، وبما روي عن لقيط بن عامر من حديث وكيع أنه سأل النبي ، عليه السلام ، قال : إنا كنا نذبح في رجب ذبائح فنطعم من جاءنا ، فقال النبي ، عليه السلام لا بأس ، قال وكيع لا أتركها أبداً .
قال محمد بن أحمد : العتيرة هي الرجبية وقال الشافعي كقول مالك إن العتيرة هي الرجبية ، والفرع شيء كان أهل الجاهلية يطلبون به البركة في أموالهم بأن يذبح الرجل منهم بكر ناقته أو شاته ولا يعدوه رجاء البركة فيما يأتي بعده ، ويرد قول محمد بن الحسن قوله ، عليه السلام ، لا فرع ولا عتيرة .

(3/296)


مسألة
قال : وسئل مالك ، رحمه الله ، عن قوله تعالى : { وما أكل السبع إلا ما ذكيتم } الآية ، فقال من ذلك ما يؤكل ومنه ما لا يؤكل ، إذا سقطت فأصابها شيء فشق جوفها فلا أرى أن تؤكل ، وإذا ضرب وسطها فانقطعت بأي شيء تذكي أرأسها ما أرى أن تؤكل ، قيل أفرأيت قوله تبارك وتعالى وما أكل السبع الآية فقال مما فيه ذكاة .
قال محمد بن رشد : وقع في بعض الكتب فشق حشوتها مكان فشق جوفها ، والجواب صحيح على الروايتين جميعاً ، لأنه إذا شق حشوتها فلا تذكي ولا تؤكل باتفاق إلا على دليل رواية أبي زيد عن ابن القاسم في كتاب الديات لا ، ذلك مثل ، وإذا شق جوفها ولم يشق حشوتها فلا تذكي ولا تؤكل على مذهبه في رواية أشهب عنه ، وقد مضى القول على ذلك في المسألة التي قبل هذه المسألة .
مسألة
وسئل مالك عن فأره ماتت في جرة زيت فيها خمس مائة رطل فباعه صاحبه من رجل واشترط عليه أنه يبيعه إياه يدهن به الدلاء وصلاة الزرانيق والقنوات ولا يبيع منه شيئاً ، وإن كان لا يجوز بيعه فأخبرنا نذكره من قريب ، فقال : لا والله ما أرى أن يباع ولا يؤكل ثمنه ، قال صلى الله عليه وسلم : "قاتل الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فباعها وأكلوا أثمانها" ، قيل له إن المشتري يقول أنا اشتريته بما اشترطت وليست أريد أكله ، فمر أنت البائع بما بدا لك ، فقال

(3/297)


لا والله ما حرم على البائع فلا يحل للمبتاع ، ثم قال مالك بعد أن ذهب السائل : ولقد ندمت بأن لا أكون قد سألته بكم باعه ، فإن هؤلاء يوفون بما يشترطون ، فإن كان هذا إنما اشتراه لم اذكره فإنما يشتريه بأقل من نصف ثمنه ، ولكن هم يقولون مثل هذا ويشترونه بأقصى ثمنه أو قريب منه ثم يبيعونه ولا يوفون بما يشترطون .
قال محمد بن رشد : قوله في آخر المسألة فإن هؤلاء لا يوفون بما يشترطون ولكنهم يقولون ذلك ثم يشترونه بأقصى ثمنه أو قريب منه ولا يوفون بما يشترطون يدل على أنه إنما لم يجز بيعه على الشرط مخافة ألا يفي المشتري بما شرط عليه من ذلك ، ولو أمن من ذلك لأجازه فلما لم يأمن من ذلك لم يفسخ بيعه حماية للذرائع ، لا لأن بيعه حرام لذاته كالخمر والخنزير والميتة ، فعلى ها لو باعه ممن يعلم ثقته ويأمن من أن يغش به لجاز له البيع وساغ له الثمن ولم يحرم عليه ، وهذا قول ابن وهب وجماعة من السلف ، ودليل ما في رسم الشجرة من سماع ابن القاسم من كتاب الصلاة في مسألة الصابون . وقد روي عن موسى الأشعري أنه أجاز بيعه من غير المسلمين ، والمشهور عن مالك المعلوم من مذهبه في المدونة وغيرها أن بيعه لا يجوز ، وقد جعله في رسم اغتسل من سماع ابن القاسم قبل هذا كالميتة في أن بيعه لا يجوز ، والأظهر في القياس أن بيعه جائز ممن لا يغش به إذ بين ، لأن تنجسه بسقوط النجاسة فيه لا يسقط ملكه عنه ولا يذهب جملة المنافع منه ولا يجوز أن يتلف عليه ، فجائز له أن يبيعه ممن يصرف فيما كان له هو أن يصرفه فيه ، وهذا في الزيت على مذهب من لا يجيز غسله ،

(3/298)


وأما على مذهب من يجيز غسله ، وقد روي ذلك عن مالك على ما قد ذكرناه في سماع أصبغ من كتاب فسبيله في البيع سبيل الثوب النجس .
مسألة
وسئل مالك عن اللبس الذي يقال له ترس الماء ربما أخذ ميتاً وهو إذا أخذ حياً أقام أياماً حتى يذبح أتراه من صيد البحر ؟ فقال ما أراه إلا من صيد البحر ، إذا كان لا بأس على المحرم في صيده ، فما بأسه يؤكل ميتاً ؟ وما أرى ذبحهم إياه إلا يستعجلون بذلك موته ، قال عز وجل : { أحل لكم صيد البحر وطعامه } ، الآية ، فما أراه إلا من صيد البحر ، وما أرى من ذبحه إلا يستطيل حياته ، ومن الطير فيما بلغني من يطيل المكث في الماء ويعيش فيه وهو من صيد البر ، قيل له أرأيت إذا أخذ حياً أترى بأساً أن يذبح ؟ قال ما أرى بذلك بأساً إلا أن يكون ذلك يشكل أمره على الناس ، فقلت لقد شكك الناس فيه لما رأوا من ذبحه ، فقال لي هو كذلك ، قيل له إنه تطول حياته فأحب إليك أن يذبح أم يقتل ؟ قال ما أكره الذبح إلا لما يدخل على الناس فيه من الشك فإذا لم يكن ذلك فلا بأس بذبحه .
قال محمد بن رشد : اختلف أهل العلم في أكل ما عدا السمك من دواب البحر ، فذهب مالك إلى أنها كالسمك في جواز أكلها بغير ذكاة وجدت طافية أو سلم على الماء أو حسر عنها الماء فماتت أو أخذت حية وإن

(3/299)


كانت تعيش في البر فلا يحتاج فيها عنده إلى ذكاة الضفدع ودرس الماء وغيره إلا أنه كره خنزير الماء ، وقال أنتم تقولون خنزير ، وقال الليث بن سعد لا يؤكل خنزير الماء ولا إنسان الماء ، ومن أهل العلم من فرق بينهما وبين السمك فلم يجز أكلها على حال ، ومنهم من لم يجز أكلها إلا بذكاة ، ومنهم من أوجب الذكاة فيما كان منها يعيش في البر ، وهو قول ابن دينار من أصحاب مالك في المدينة لا أرى أن تؤكل ترس الماء إلا بذكاة لأنه يكون في البر والبحر ، وقد بلغني أنه لا يكون بيضه إلا في البر ، فإذا كان يعيش في البر والبحر فلا يؤكل حتى يذكي ، وقال عيسى عن ابن القاسم كل ما كان مستقره ومأواه الماء فهو يؤكل بغير ذكاة وإن كان يرعى في البر وما كان مأواه ومستقره في البر فلا يؤكل بغير ذكاة وإن كان يعيش في الماء ، فهذه الرواية عن ابن القاسم تفسر مذهب مالك واعتبار مالك في جواز أكل كل ما يعيش في البر من دواب البحر بغير ذكاة ، بأن المحرم يصيده صحيح ، لأنه إنما جاز له صيده من أجل أنه مذكى لا يحتاج إلى تذكية . فمن قال لا يؤكل إلا بذكاة وأجاز للمحرم صيده فقد تناقض ، واتفق أهل العلم كلهم في جواز أكل سمك البحر وهو كل ما له سفتق من الحوت إلا الطافي منه فإن منهم من لم يجز أكله ، وقد روي عن النبي ، عليه السلام ، من رواية جابر أنه قال : "ما ألقى البحر أو حسر عنه فكلوه وما طفا فلا تأكلوه" . ولم يصح عن مالك هذا الحديث فأجاز أكل الطافي وغيره ، وقد سأل عبد الرحمن بن أبي هريرة عبد الله بن عمر عما لفظ به البحر فنهاه عن أكله ثم انقلب فدعا بالمصحف فقرأ { أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعاً لكم وللسيارة } .

(3/300)


فأرسل إلى عبد الرحمن بن أبي هريرة أنه لا بأس بأكله ، وتأول من لم يجز أكله بأن طعام البحر ملحه لا ما لفظه أو مات فيه ، وبالله التوفيق .
مسألة
قال : وسألته عما صاد المجوسي من الجراد ، فقال لي لا خير فيه إلا إن ابتاعه منه مسلم حياً فأما ما قطعوا رأسه أو جاؤوا به مقتولاً فلا خير فيه ولا يؤكل فقلت له فما قطعوا رأسه أو عملوه قبل أن يأتوا به فلا باس به ؟ فقال لي نعم .
قال محمد بن رشد : هذا صحيح على أصل مذهبه وقول الجمهور إنه من صيد البر يحتاج إلى التذكية وفدية المحرم إذا قتله ، وعلى مذهب من جعله من صيد البحر وأجاز للمحرم أخذه وأكله يجوز أكله إذا صاده المجوسي ، وهو قول عروة بن الزبير وروي ذلك عن ابن عباس ، رضي الله عنه ، وهو مذهب كعب الأحبار على ما في الموطأ عنه من أنه أفتى أصحابه المحرمين أن يأخذوه ويأكلوه ، فقال عمر بن الخطاب ما حملك على أن تفتيهم بهذا ؟ قال إنه من صيد البحر ، فقال له وما يدريك ؟ قال يا أمير المؤمنين والذي نفسي بيده إن هي إلا نثرة حوت تنثره في كل عام مرتين .
مسألة
قال : وسألته عن الذبح بالقصبة والعظم ، فقال لي ليس بالذبح بالقصبة والعظم بأس إذا اضطررت إليه فلم تجد حديداً ، قال الله عز وجل : { وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس } .

(3/301)


قال محمد بن رشد : هذا مثل ما في المدونة وغيرها أنه لا باس بالذبح بما عدا الحديد إذا لم يجد حديداً ولا بأس بأكل ما ذبح بغير الحديد وإن كان واجداً للحديد إذا انهر الدم بذلك كله ، والأصل في جواز ذلك ما روي أن جارية لكعب بن مالك كانت ترعى غنماً لها بسلع فأصيبت شاة منها فذكتها بحجر فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : "لا بأس بها فكلوها" وما روي عن عدي بن حاتم قال ، قلت يا رسول الله أرسل كلبي فيأخذ الصيد فلا يكون معي ما أذكيه به إلا المدونة والعصا ، فقال : أنهر الدم بما شئت واذكر اسم الله إلا العظم والسن فإن أهل العلم اختلفوا في جواز الذبح بهما لما روي عن رافع بن خديج أنه قال يا رسول الله إنا لاقوا العدو غداً وليس معنا مدى ، قال : "ما أنهر الدم وذكرت اسم الله عليه فكل ليس السن والظفر ، فسأخبرك أما السن فعظم ، وأما الظفر فمدى الحبشة" على ثلاثة أقوال : أحدها جواز الذبح بهما منزوعين كانا أو مركبين ، والثاني أن الذبح لا يجوز بهما منزوعين كانا أو متركبين ، والثالث أن الذبح يجوز بهما إذا كانا منزوعين ولا يجوز إن كانا مركبين ، وإلى هذا ذهب ابن حبيب وهو الصحيح من الأقوال من جهة المعنى واستعمال الآثار ، أما المعنى فهو ما قال ابن حبيب من أن الذبح بهما إذا كانا مركبين إنما هو خنق ونهش وليس بذبح ، وإذا كانا منزوعين وعظما حتى أمكن إنهار الدم بهما فهما كسواهما مما ينهر الدم وإن لم يكونا ذكيين ، وأما وجه استعمال الآثار على ذلك فهو أن قول النبي ، عليه السلام ، في حديث علي ابن أبي حاتم أنهر الدم بما شئت لفظ عام في جواز الذبح بكل شيء يحتمل الخصوص ، ونهيه في حديث رافع بن خديج

(3/302)


على أن الذبح بالسن وكذا العظم خاص ، والخاص يقضي على العام فيحمل على البيان له والتخصيص لما قابله منه ، إلا أنه لما احتمل أن يريد النبي ، عليه السلام بنهيه في حديث رافع بن خديج عن الذبح بالسن والظفر السن والظفر المنزوعين
وأن يريد بهما المركبين لم يصح أن يخصص من ذلك إلا ما يتحقق أنه أراده منهما وهما المركبان لأنه إذا كان أراد بذلك المنزوعين فقد أراد المركبين لأنهما أولى بالنهي من المنزوعين وإن كان أراد المركبين فلم يرد المنزوعين فتحققنا بهذا أنه أراد المركبين لا محال وشككنا في المنزوعين ، فوجب أن لا يخص من اللفظ العام إلا ما يتحققه لا ما يشك فيه فخصصا منه المركبين وبقي المنزوعان على أصل الإباحة بالأمر العام وهذا أبين .
مسألة
فقيل له إن عندنا بالأندلس أنهاراً وبركاً ماؤها يكثر ثم يقل فتبقى فيها الحيتان لا مخلص له ، فيعمد إلى شجرة يقال لها السيكران فنطرحها في ذلك النهر فتأكلها الحيتان فتموت ومنها ما يسكر فنأخذها بالأيدي أيؤكل ما مات من ذلك وما سكر ؟ قال : لا بأس بذلك ، ثم قال لعل من أكل منها يسكر ؟ فقيل له : لا ، فقال لا بأس بذلك وفيها أيضاً من يموت بغير شيء فلا بأس بأكله .
قال محمد بن أحمد : إجازته في هذه الرواية لأكل ما مات أو سكر من الحيتان بالسيكران يبين أن كراهيته لذلك في رسم شك في طوافه من سماع ابن القاسم إنما هو للخوف على من يأكلها لا من أجل أن ذلك يؤثر في ذكاتها إذ لا يحتاج إلى ذكاته وقد ذكرنا هذا هنالك .
مسألة
وسئل مالك فقيل له إن بالأندلس إذا كان الشتاء قلة اللحوم

(3/303)


فلا يكاد يوجد إلا في مجزرة يهودي أفيشتري منه ؟ قال : أما أنا فلا أحب أن أفعل ذلك ولا أن يتخذ اليهودي إماماً .
قال محمد بن رشد : وهذا كما قال إنه لا ينبغي للمسلم أن يشتري اللحم في مجزرة يهودي وهو يجد من ذلك مندوحة ، فقد كانوا يبتغون لذبائحهم أهل الفضل والإصابة فكيف باليهودي والنصراني والكتابيين .
مسألة
وسئل مالك عن لبن ماتت فيه خنفساء ، أترى بأكله بأساً ؟ قال لا بأس بأكله إنما الخنفساء في هذا بمنزلة الذباب يموت في الطعام ، وهذا الخشاش مثل هذه الأشياء التي لا دم لها فلا بأس بما مات فيه أن يؤكل أو يشرب ، قيل له أرأيت إن باع ما ماتت فيه هذه الخنفساء أترى أن يبين ذلك للمشتري ؟ قال نعم إني لأرى ذلك إذا باعه أن يبين ما مات فيه لما يكره الناس من هذه الأشياء التي تموت فيها الدواب ، فأرى إذا باع ذلك أن يبين ما سقط فيه من هذه الأشياء ولا أرى بأكله بأساً ، والعقرب مثل ذلك لا بأس بأكل ما مات فيه .
قال محمد بن رشد : هذا مثل ما في المدونة وغيرها من أن كل ما لا لحم له ولا دماً سائلاً من الخشاش فلا يفسد ما وقع فيه ومات من طعام أو شراب ، والأصل في ذلك ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إذا وقع الذباب

(3/304)


في شراب أحدكم فليغمسه كله ثم يطرحه فإن في أحد جناحيه سما وفي الآخر شفاء وأنه يقدم السم ويؤخر الشفاء" ، وفي بعض الآثار فليملغه ومعلوم أنه لضعفه قد يموت إذا غمس في الشراب من ساعته ويلزم على قياس هذا أن يؤكل بغير ذكاة وهو ق ول عبد الوهاب في التلقين إن حكم هذه الأشياء التي لا لحم لها ولا دم سائلاً حكم دواب البحر لا تنجس في أنفسها ولا تنجس ما مات فيها خلاف ما ذهب إليه ابن حبيب من أنه لا يؤكل شيء من ذلك إذا احتيج إليه حتى يذكي بما يذكي به الجراد مثل الحية والعقرب وبنات وردان والذر والنمل والسوس والحلم والدود والبعوض والذباب وما أشبهه ذلك ، وفي تذكية الجراد اختلاف ، وإنما أوجب على البائع أني بين ذلك للمشتري لما قد يكره ذلك بعض الناس تقززاً كان للمشتري الرد وذلك في طافي الحوت أبين إذ من أهل العلم من لا يجيز أكله على ما مضى فوق هذا في هذا الرسم .
مسألة
وسئل مالك عن الجراد إذا طرح في النار وهو حي ، قال ما أرى بذلك بأساً تلك ذكاة ، وأحب إلي أن يقطع رأسه ، وأرجو ألا يكون به بأس وإن لم يقطع رأسه ، لأن الجراد يطير وهو يكبر

(3/305)


ويصغر فإن قطب رؤوسها كلها واحداً واحداً طال ذلك ، فلا أرى بأساً أن تؤخذ فتطرح في المرعف حياً وإن لم تنزع رؤوسها .
قال محمد بن رشد : اختلف في الجراد ، فقيل إنه لا يحتاج فيه إلى ذكاة ويجوز أكل ما وجد منه ميتاً ، وقبل إنه لابد فيه من الذكاة وذكاتها أن يفعل بها ما تموت به معجلاً باتفاق كقطع رؤوسها أو نقرها بالإبر أو الشوك أو طرحها في النار أو الماء الحار وما أشبه ذلك أو أن يفعل ما تموت به وإن لم يكن معجلاً على اختلاف كقطع أرجلها وأجنحتها وإلقائها في الماء البارد وما أشبه ذلك ، لأن سحنون وغيره لا يرى فيها ذكاة ، وقد قيل إن أخذها ذكاة وتوكل إن ماتت بعد أخذها بغير شيء فعل بها ، وهو قول ابن حبيب من أصحاب مالك ، وحكي ذلك عن بعض أصحاب النبي ، عليه السلام ، وجه القول الأول ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "أحلت لنا ميتتان ودمان الحوت والجراد والكبد والطحال" ، واختلف في تعليل جواز أكلها ميتة بغير ذكاة ، فقيل إن العلة في ذلك أنها من صيد البحر على ما روي عن كعب الأحبار أنها نثرة حوت ينثرها في كل عام مرتين ، فأجاز للمحرم أخذها وأكلها ، وقيل إن العلة في ذلك لا لحم لها ولا دم سائل ، فمن علل بالعلة الأولى أوجب الذكاة فيما لا لحم لها ولا دم سائل ، فمن علل بالعلة الأولى أوجب الذكاة فيما لا لحم له ولا دماً سائلاً من الحيوان لتحريم الله عز وجل الميتة ، وهو مذهب ابن حبيب ، ومن علل بالعلة الثانية لم يوجب الذكاة في شيء من الحيوان الذي لا لحم له ولا دم سائل ، لأنه يدخل في حكم الجراد المذكور في الحديث كما يدخل دواب البحر في حكم الحوت المذكور فيه ، وهو قول عبد الوهاب في التلقين ، ووجه القول الثاني أن الله تعالى لما حرم الميتة لقوله عز وجل : { حرمت عليكم الميتة } ، فعم

(3/306)


ولم يخص حيواناً من غيره ووجب أن يخص من ذلك ما قد أجمع أهل العلم على تخصيصه من ذلك وهو ما يصيده المحرم من صيد البحر .
مسألة
وسألته عن الحوت أيطرح في النار حياً ؟ فقال ما أكره كراهية شديدة وهو إن تركه قليلاً مات .
قال محمد بن رشد : هذا نحو ما تقدم في هذا الرسم خلاف ما مضى في رسم سلعة سماها من سماع ابن القاسم ، وقد مضى هناك توجيه القولين فلا معنى لإعادة ذلك .
مسألة
قال مالك وأمر عمر بن الخطاب منادياً ينادي ألا إن النحر في اللبة والحلق .
قال محمد بن رشد : أراد ألا إن الذكاة في الحلق واللبة فعبر عن الذكاة بالنحر لأنه جل عملهم في ذلك اليوم يوم النحر من أجل أنه جل عمل الناس وإن كان قد يذبح فيه ما يذبح كما ينحر فيه ما ينحر وإنما نادى بهذا على الناس في المسوم يوم النحر بمنى حين نحرهم لهداياهم ليلاً يتعدى أحد منهم اللبة في نحره ما ينحر مما ينحر والحلق في ذبحه ما يذبح مما يذبح وعرف مراده به ولم يرد ، رضي الله عنه ، أن يخير في النحر بين أن يكون في الحلق أو اللبة لأن النحر لا يكون في موضع الذبح كما أن الذبح لا يكون في موضع النحر ، ألا ترى لو أن أحداً نحر شاة في مذبحها لم تؤكل باتفاق لأن الذكاة لا تكون إلا بقطع الأوداج والحلقوم ، والنحر لا يأتي على ذلك

(3/307)


فهو ما نحر ولا ذبح ، وقد حمل بعض المتأخرين من المؤلفين قول عمر على التخيير بين اللبة والتحليق في النحر ، فقال وظاهر المذهب أنه حيث ما طعن بين اللبة والمذبح أجزأ إذا كان في الودج ، واحتج بقول عمر هذا وبقول مالك في المدونة : ما بين اللبة والمذبح مذبح ومنحر فغن ذبح فجائز وإن نحر فجائز ، وإلى هذا ذهب ابن لبابة في المنتخب ، وهذا لا يصح ، أما قول عمر ، رضي الله عنه ، فقد ذكرنا وجهه ، وأما قول مالك ، رحمه الله ، فلم يرد أن ما بين اللبة والمذبح هو موضع للنحر والذبح مع القدرة على ذبك ما يذبح في نحره ونحر ما ينحر في لبته ، وإنما معنى قوله إنه أجاز النحر والذبح فيما بين اللبة والمذبح إذا لم يصل إلى المذبح ولا إلى المنحر لسقوط البهيمة في البئر مراعاة لقول من أجاز نحرها ، حيث ما أمكن من جنب أو غيره عند الضرورة ، لا أنه يرى ذلك موضعاً للذبح والنحر من غير ضرورة ،
وهذا بين من مراده في المدونة إذا تأمل ، ولو كان المذبح من البعير موضعاً لنحوه لكان الذبح هو المختار فيه لأنه أجهز ، وهذا خلاف ما أجمعوا عليه من أن الإبل تنحر ولا تذبح وإنما اختلفوا هل تؤكل إذا ذبحت أم لا تؤكل وهذا كله بين .
مسألة
وعن عيسى بن الوليد عن أبي زيد بن عبد الرحمان ابن أبي الغمر عن ابن القاسم عن مالك في من ذبح ذبيحة فاخطأ بالغلصمة أن تكون بالرأس أن تلك الذبيحة لا تؤكل حتى تكون الغلصمة في الرأس . قال سحنون وأصبغ وأشهب مثله . وقال ابن وهب لا بأس بأكلها . وقال محمد بن عبد الحكم لا خير في أكله .

(3/308)


قال محمد بن رشد : الغلصمة هي آخر الحلقوم فإذا ألقاها إلى الجسد في الذبح فلم يقطع من الحلقوم شيئاً فالاختلاف في هذه المسألة على اختلافهم في قطع الحلقوم هل من شرط في صحة الذكاة أم لا ؟ فقول مالك في هذه المسألة إنها لا تؤكل هو على قوله في كتاب الذبائح من المدونة إنها لا تؤكل الذبيحة إلا بقطع الأوداج والحلقوم جميعاً ، وقد روي عن مالك ما ظاهره أن قطع الحلقوم ليس بشرط في صحة الذكاة ، من ذلك قوله في كتاب الصيد : إذا أدرك الصائد الصيد وقد فرى الكلب أو البازي أوداجه ، قال هذا قد فرغ من ذكاته ، وقوله في المبسوط في من ذبح ذبيحة فقطع أوداجها ثم سقطت في ماء أنه لا بأس بأكلها ، وهو ظاهر قول ابن عباس في الموطأ ما فرى الأوداج فكلوه ، وقد روي ذلك عن النبي ، عليه السلام ، من رواية أبي أمامة الباهلي ، وهو ظاهر ما في الصحيحين عن من قوله ، عليه السلام : "ما أنهر الدم فكلوه" ، لأنه وإن كان ورد فيما تصح به الذكاة فهو يقتضي موضع الذكاة ، فعلى هذا تؤكل الذبيحة وإن كان العقدة في الجسد ، وإلى هذا ذهب أبو المصعب وأنكر قول من قال إنها لا تؤكل ، وقال : هذه دار الهجرة وفيها المهاجرون والأنصار والتابعون لهم بإحسان لم يذكروا عقدة ولا غيرها ، أفكانوا لا يعرفون الذبح ؟ وعلى القول الأول لا تؤكل إلا أن تصير منها في الرأس حلقة مستديرة كالخاتم ، وإن قطع بعضها وبقي سائرها في الجسد لم تؤكل على القول الأول أيضاً ، هذا كله على ما لابن القاسم وابن كنانة في المدونة أنه إن قطع الودجين ونصف الحلقوم اجزأه ، وقال سحنون لا تؤكل ، وبالله التوفيق .
مسألة
قال ابن نافع سئل مالك عن النمس وصيده ، فقال : لا أعرف هذا ، فوصف له أمره وصيده ، فقال : إن أكل من صيده فلا خير

(3/309)


فيه ، قال ابن القاسم : لا أدري ما يأكل ؟ الكلاب والبزاة تأكل قبل أن تدرك ، ولكن إن كان نفعه وإلا فلا خير فيه .
قال محمد بن رشد : هذه المسألة وقعت في بعض الروايات من كتب المدنيين لابن نافع في الكتاب الذي أوله السارق الذي يدخل البيت ، والذي قاله ابن القاسم صحيح ، إذ ليس من شرط تعليم الجوارح على مذهب مالك إلا أن يقفه الزجر والإشلاء ، وأما أن يترك الأكل فلا ، وقال ابن حبيب : إنما ذلك في الكلاب ، وأما في الجوارح فتعليمها أن تدعي فتجيب ، وأما أن تزجر فتزدجر فليس ذلك فيها ولا يمكن ذلك منها ، وليس ذلك بخلاف لما في المدونة ، لأنه إنما شرط ذلك فيها إن كان يمكن ذلك منها ، وتكلم ابن حبيب على ما يعرف من أن ذلك لا يمكن فيها ، وليس قول مالك في النمس مخالفاً لأصله في أنه لا يعتبر بأكل الكلب من صيده إذا قفه الزجر والأشلاء ، ووجهه أنه لما وصف له من حاله أنه لا يقفه الزجر والأشلاء جعله بترك الأكل من صيده إن كان يمكن أن يقفه ذلك أيضاً ، فقال : إن أكل من صيده فلا يؤكل ، كما أن الطيور التي لا تقفه الزجر يكتفي من تعليهما بأن تدعي فتجيب ، وقال ابن حبيب في النمس إنه ليس يقفه شيئاً ، فلا يؤكل صيده إلا ان يدرك ذكاته وبالله التوفيق .
من سماع عيسى بن دينار من ابن القاسم
من كتاب نقدها نقدها
مسألة
قال عيسى : قال ابن القاسم وسئل عن الاصماء والانماء

(3/310)


فقال : الاصماء ما مل يبت والانماء ما بات ، يعني من الصيد .
قال محمد بن رشد : روي عن ابن عباس أنه قال : ما أصميت فكل ، وما أنميت فلا تأكل ، وأظنه مرفوعاً إلى النبي ، عليه السلام ، وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن أكل ما بات من الصيد ، وأنه قال : "لا أدري لعل هوام الأرض قتلته أو أعانت على حتفه" ، واختلف أهل العلم في هذا ، فمنهم من حمل النهي على عمومه ولم يجز أكل ما بات من الصيد ، إلا أن تدرك ذكاته ، وهو قول ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة ، ومنهم من قال معنى النهي إذا لم ينفذ الكلب أو البازي مقاتل الصيد ، وأما إذا أدركه من الغد قد مات وسهمه في مقاتله أو قد أنفذتها كلابه فلا بأس بأكله ، لأنه قد أمن مما خافه رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن يكون قد أعان على قتله بعض هوام الليل ، وهذا قول ابن الماجشون وأشهب وابن عبد الحكم ، ومنهم من فرق بين السهم والكلب ، فقال يأكله إذا وجده من الغد ميتاً وسهمه في مقاتله ، ولا يأكله إذا وجد الكلب قد أنفذ مقاتله ، إذ لا يؤمن أن ذلك من فعل الكلب ، وهذا قول أصبغ وهو أظهر الأقوال ، وهذه الثلاثة الأقوال إنما هي مع إنفاذ المقاتل وأما إذا وجده من الغد ميتاً غير منفوذ المقاتل فلا اختلاف في أنه لا يؤكل وبالله التوفيق .
من كتاب العرية
مسألة
وسألته عن الرجل يرسل كلبه فيعينه عليه كلب آخر معلم أو غير معلم ، فقال : لا يؤكل ذلك الصيد كان معلماً أو غير معلم إلا أن يكون الكلب الذي أعانه معلماً وقد أرسله صاحبه على الصيد بعينه إذا نوياه جميعاً فقتله كلباهما فهو حلال لا بأس بأكله .

(3/311)


قال محمد بن رشد : هذه مسألة صحيحة مبينة لما في المدونة لأنه قال فيها من أرسل كلبه على صيد فأعانه عليه كلب غير معلم لم يؤكل ، وهو لا يؤكل أيضاً وإن كان الكلب الذي أعانه عليه معلماً إلا أن يكون صاحبه قد أرسله أيضاً عليه بعينه كما قال في هذه الرواية إلا أن يعلم أن كلبه الذي أرسله هو الذي أنفذ مقاتل فإنه يأكله وبالله التوفيق .
ومن كتاب أوله بع ولا نقصان عليك
مسألة
وسئل ابن القاسم عن الذي يضرب فخذي الصيد بالسيف فيطيرهما هل يحل أكلهما ، فقال : كل ضرب ضرب بها من الورك إلى الرأس فجعله جزأين فجميعه حلال ، فأما إذا ضربه فأبان خذيه ولم يجز له باثنين ولم تبلغ ضربته إلى الجوف فلا يحل ما أبان منه ، وغيره ذكي طيب .
قال محمد بن رشد : لا اختلاف أنه لا يؤكل ما أبان منه إذا أبان فخذيه ولم يجز له باثنين ولا اختلاف في أنه يؤكل الجميع إذا أبانه بنصفين وبلغت ضربته إلى الجوف ، وليس في الرواية بيان إذا أبان وركيه مع فخذيه فجعله جزأين ولم يقسمه بنصفين ولا بلغت ضربته إلى الجوف ، وقد اختلف في ذلك ، ففي كتاب ابن المواز عن ربيعة ومالك أنه لا يؤكل ما أبان منه ، وقال ابن حبيب إنه لا يؤكل إلا أن يكون العجر كله في الجزء الأسفل لأنك قد قطعت من جوفه فكأنك قد قطعت وسطه ، والصواب أنه إذا أبان فخذيه مع وركيه فجعله جزأين وإن كان العجز كله أو بعضه في الجزء الأسفل أن يؤكل الجميع ، لأنه لا يمكن أن يتعيش ، فهذا هو الأصل لا مراعاة النصف

(3/312)


ولا الجوف ، ألا ترى لو قطع نصف رأسه لأكل الجميع ، إذ لا يمكن أن يعيش وقد قطع نصف رأسه لأن ذلك مقتل ، ولو أبا خطمه لم يؤكل الخطم إذ ليس بمقتل وإن كان لا يمكن أن يعيش إذ إنما يموت جوعاً ، إذ لا يمكن أن يرعى ولو صب في حلقه ما يتغدى به لا يمكن أن يعيش .
مسألة
قال ابن القاسم : إذا أصبت الصيد بسلاحك فأطرت رجله أو خسقت في لحمه ثم فاتك بنفسه فمات فأكله حلال وإن لم تدرك ذكاته .
قال محمد بن رشد : هذا مثل ما في المدونة وغيرها ، وهو مما لا اختلاف فيه لقوله تعالى : { تناله أيديكم ورماحكم } ، الآية .
ومن كتاب أوله لم يدرك من صلاة الإمام إلا الجلوس
مسألة
وسألته عن الرجل يأتي إلى الغار فيدخل كلبه فيه وهو لا يدري أفيه شيء أم لا ؟ وهو ينوي ما فيه هل يحل أكل ما قتل ؟ قال : سألنا مالكاً عن ذلك فقال : ما قتل فهو حلال ، قال سحنون في الذي يرسل كلبه في الجحر وهو لا يدري أفيه شيء أم لا وينوي إن كان فيه شيء أرسله عليه فأصاب فيه صيداً فقتله ، فقال : لا يحل أكله ، وكذا لو أن رجلاً أرسل كلبه في غايضة ولا يرى شيئاً ونيته إن كان فيها شيء صاده ، فأصاب صيداً أنه لا يؤكل .

(3/313)


قال محمد بن رشد : قول ابن القاسم على أصله في المدونة خلاف قول سحنون ، وقد مضى القول على هذا في رسم سلعة سماها من سماع ابن القاسم .
مسألة
قلت لابن القاسم : فالرجل يسرح كلبه على صيد بعينه فتتبعه صيود فتند كلها فيتوارى عنه فيجد كلبه قد قتل صيداً قال : لا يحل أكله حتى يعرفه .
قال محمد بن رشد : هذا كما قال صحيح على ما في المدونة وغيرها أنه لا يأكل ما قتله كلبه إلا أن ينويه أو يدرك ذكاته سواء رآه أو لم يره على مذهب ابن القاسم خلاف قول سحنون في المسألة التي قبل هذه وبالله التوفيق .
ومن كتاب أوله إن خرجت من هذه الدار
مسألة
قال ابن القاسم : ليس لأحد أن يسد في خليج بحر ، ولا واد ، أن يسد سد الصيد أن يمنع الناس من الصيد فيه ، وهو والناس والصيد فيه سواء .
قال محمد بن رشد : هذا كما قال لأن النهر لجميع المسلمين ، فليس أحد أحق فيه بالصيد من أحد وإن كان يليه بأرضه من جانبيه ، ولا له أن يسد فيه سداً للصيد ، ولا أن يعمل فيه منصباً للصيد ينفرد فيه دون غيره ، فإن فعل كان أحق بالصيد فيه حتى يأخذ قدر حاجته ثم يشترك جميع الناس معه

(3/314)


فيه ، قال ذلك مطرف ابن الماجشون في الواضحة ، وذلك عندي بعد أن يستغل منه قدر نفقته فيه وبالله التوفيق .
ومن كتاب التمرة
مسألة
قال ابن القاسم وابن وهب : إذا خلص الرجل الصيد من الكلب فبدر إلى شفرة فبينما يخرجها وهي في حزامه مات الصيد فلا بأس بأكله قال ابن القاسم : وهذا إذا كانت الشفرة معه وأما إن كانت في خرج فمات فلا تؤكل .
قال محمد بن رشد : هذا مثل ما في المدونة سواء ، والمعنى في ذلك بين لأن الشفرة إذا كانت معه في حزامه ولم يفرط وصار ذلك بمنزلة ما لو لم يدركها حتى قتلها الكلب ، وأما إن لم تكن الشفرة معه وكانت في خرجه أو مع رجل ينتظره حتى يلحق أو ما أشبه ذلك مما يكون فيه بعد فلا يؤكل ، لأنه عسى لو كانت الشفرة معه لأدرك ذكاته ، وبالله التوفيق .
ومن كتاب أوله جاع فباع امرأته
مسألة
وسألت ابن القاسم عن الرجل ينصب الحبالة للصيد أو الفخ أو يعمل الحفرة ليقع فيها الصيد ، فيخرج قوم فيطردون الصيد إلى ذلك المنصب فيه هل لصاحب الحفرة أو الفخ أو الحبالة شيئاً من الصيد ؟ : قال : نعم أرى أن يكون شريكاً معهم في ذلك الصيد

(3/315)


بقدر ما يرى له ، قال أصبغ : أراه للذي طرد الصيد إلى الحبالة أو الحفرة واضطره إليها وإلى الوقوف فيها ، وعلهي قيمة ما انتفع بالحبالة أو الحفرة ، وإنما مثل الحبالة مثل ما لو تعدى على قوس رجل فرمى به صيداً فصاده أو خرج بأكلبه أو بزاته متعدياً فصاد بها فالصيد له وعليه قيمة ما انتفع به من قوسه ونبله وكلابه وبزاته ، قال عيسى : قلت لابن القاسم فلو لم يكونوا طردوا الصيد إلى ذلك المنصب ولا أرادوه إلا أنهم طردوا صيداً فاتبعوه حتى وقع فيه فقال إن كان الصيد قد انقطع من الذين طردوه وهم مهم حيث شاء فسقط في ذلك المنصب فهو لصاحب المنصب دون الذين طردوه ، وإن كانوا قد أعيوه وأشرفوا منه على الرجاء والأخذ وكان كالشيء الذي قد حازوه لقدرتهم عليه حتى أسقطوه فوقع في ذلك المنصب فهو للذين طردوه دون صاحب المنصب وليس لصاحب المنصب فيه قليل ولا كثير إذا كان على ما وصفت لك ، وقال أصبغ مثله ، قلت له من حفر حفرة للصيد أو نصب حباله أو فخافخه فوقع فيه الصيد فهو له وإن وجد غيره قد وقع فيه الصيد لم يكن له أن يأخذه ؟ قال : نعم ذلك له دون جميع الناس وليس للذي وجده فيه قليل ولا كثير .
قال محمد بن رشد : قول ابن القاسم في هذه المسألة على معنى ما في المدونة في مسألة الصيد يطرده القوم حتى يدخل دار رجل وهم على بعد منه أو قرب فيأخذه فيه ، وعلى ما حكى ابن حبيب في الواضحة ، ولا إشكال على مذهبه إذا طردوه إلى المنصب وقصدوا إيقاعه فيه فوقع فيه

(3/316)


وهو متبوعون له على قرب منه أو بعد ما لم ينقطع عنهم أنهم فيه شركاء بقدر ما يرى له ولهم ، وكذلك لا إشكال على مذهبه إذا كانوا على بعد منه ويئس من أخذه فمشي باختياره وقد انقطع عنهم حتى وقع فيه أنه لصاحبه ولا حق لهم فيه ، وكذلك لا إشكال على مذهبه لو طردوا صيداً ليأخذوه وهم لا يريدون إيقاعه في المنصب فلما أعيوه وأشرفوا على أخذه وكان كالشيء الذي قد ملكوه وحازوه لقدرتهم عليه وقع في المنصب دون أن يقصدوا إيقاعه فيه أنه لهم ولا شيء لصاحب المنصب فيه ، وأنظر لو كانوا إنما طردوه وأعيوه وأكلوه وهم لا يريدون إيقاعه في المنصب فلما أشرفوا على أخذه قصدوا إيقاعه في المنصب ليخف عنهم في أخذه بعض النصب ، فلم يقع في ذلك من قوله في هذه الرواية ولا في الواضحة بيان ، والذي ينبغي في ذلك على مذهبهم أن يكون لهم ويكون عليهم لصاحب المنصب قيمة انتفاعهم بمنصبه ، وكذلك ينبغي أن يكون الجواب لو طردوا صيداً إلى دار رجل فأخذوه فيه ، وقد حكى عبد الحق في ذلك عن شيوخه قولين ، أحدهما : أنه لا حق لصاحب الدار في ذلك إذ لم يتخذ الدار للصيد ، والثاني : أن يكون معهم شريكاً فيه كالمنصب سواء وكلا القولين عندي بعيد ، والذي قلته أشبه وأولى ، ووجه ما ذهب إليه ابن القاسم في هذه المسألة أنه لم كان المنصب هو الذي أمسك الصيد على الطارد حتى أخذه صارم عاوناً له على الصيد ومشاركاً له فيه ، فوجب أن يكون بينه وين صاحب المنصب كما لو تعدى رجل على عبد رجل فخرج به وصاد معه صيداً أنه يكون بينهما ، ووجه قول أصبغ أنه جعل المنصب والحبالة كقوس الرجل أو كفرسه يتعدى عليه الرجل فيصطاد به عند
الجميع أو كبازه وكلبه على مذهبه ، ولو قيل إن الصيد يكون لصاحب المنصب ويكون عليه للذين طردوا الصيد إليه أجرة مثلهم إلا أن يشاء

(3/317)


أن يسلم الصيد إليهم قياساً على قول ابن القاسم في الذي يتعدى على كلب رجل أو بازه فيصيد به صيداً لكان قولاً وبالله التوفيق .
ومن كتاب العتق
مسألة
وقال ابن القاسم في طير يصاد بالخمر يوضع لها الحياض فتأتي فتشرب فتسكر ، قال لا بأس بأكلها وقد بلغني عن ابن القاسم بن محمد أنه قال في جدي رضع لبن الخنزيرة لا بأس بأكله ، ولا أرى أيضاً بأكله بأساً ، ولا بأكل الطير الذي يأكل الجيفة قبل حدثان ذلك أو بعد حدثانه ، قال نعم ذلك سواء لا بأس به ، قال وحدثني عن مالك عن ابن عمر أن ناقة له سقيت خمراً أو شحم خنزير فكره ركوبها .
قال محمد بن رشد : كراهية ابن عمر لركوب الناقة التي سقيت الخمر أو لحم الخنزير نهاية في التوقي ومبالغة في الورع ، والأمر في ذلك خفيف ، ووجه ما خافه من ذلك والله أعلم أن يصيبه شيء من عرقها أو بولها لأن ذلك ينجس بنجاسة ما سقيت إياه من ذلك ، وكلك يستحب أن لا يذبح شيئاً مما أكل النجس حتى يذهب ما في جوفه منها ، وقد مضى القول على بقية المسألة في رسم حمل صبياً من سماع عيسى من كتاب الضحايا .
مسألة
قيل لسحنون فالمرأة ترضع جدياً بلبنها هل يؤكل ؟ قال : نعم قيل لسحنون فأكل الخطاطيف هل يكره ؟ قال : أما أنا فلا ، وقد

(3/318)


أخبرني علي بن زياد عن مالك أنه كان يكره أكلها وكان ابن القاسم لا يكره أكلها .
قال محمد بن رشد : قد مضت هاتان المسألتان والقول فيهما في نوازل سحنون من كتاب الضحايا فلا معنى لإعادته وهي ساقطة أيضاً في بعض الروايات .
من سماع يحيى بن يحيى من ابن القاسم
من كتاب الصلاة
مسألة
قال يحيى : قال ابن القاسم في الطلب يصيد ما أرسل عليه فيتوارى به فيوجد على صيده قد قتله أنه لم يرد منه قريباً صيداً فشككه في أن يكون غير الذي أرسله عليه فأكله حلال ، وإن خفت أن يكن وقع غير الذي أرسلته عليه فلا تأكله ، قال وكذلك الذي تقتله برميك إذا توارى عنك إن عرفت سهمك ورمحك بعينه فكله وإن لم تده فيه فخفت أن يكون غير صيدك الذي رميت فلا تأكله بالشك .
قال محمد بن رشد : هذه مسألة صحيحة بينة المعنى لأن هذا الصيد وجده مقتولاً فلا يجوز له أن يأكله حتى يعلم أنه هو الذي رماه أو أرسل كلبه عليه .

(3/319)


ومن كتاب أوله أول عبد ابتاعه فهو حر
مسألة
قال : وسألته عن النصراني يخرج في طلب صيد مع المسلمين فيسبق إليه فيذكيه أتراه بمنزلة ما يعتمده به المسلم من ذبيحته ، أم تراه من طعام النصراني الذي يحل لنا أكله ؟ فقال : أما إذا كان بادر إلى ذبحه خوفاً من فواته وعلى حال الضرورة فهو حلال لمن أكله ، وإن كان الذي معه من المسلمين قد تمكنوا بذبحه فقدموه بذلك وبدأوه بالذبح فلا أحب أكله .
قال محمد بن رشد : ها هنا في ذبحه النصراني بتقديم المسلم إياه لذلك لا أحب أن يؤكل ، وقد مضى من قول ابن أبي حازم في سماع أشهب لا بأس بأكله وبئس ما صنعت ، وقد روى ابن أبي أويس عن مالك أنه قال : إنما يحل لنا أن نأكل ما ذبحوا لأنفسهم ، وأما ما نوليهم ذبحه فلا ، فظاهر هذا تحريم أكله إلا أن يتأول أنه أراد إنما يحل لنا أن نأكل دون كراهية ما ذبحوا لأنفسهم وأما ما نوليهم ذبحه فلا يحل لنا أن نأكله إلا بكراهية ، ، وقد مضى وجه كالكراهية في ذلك في سماع أشهب من كتاب الضحايا ومضت المسألة أيضاً في رسم حلف بطلاق امرأته من سماع ابن القاسم من هذا الكتاب .
من سماع سحنون وسؤاله ابن القاسم وأشهب
مسألة
قال سحنون : سئل أشهب عن الذي يرمي الصيد قريباً

(3/320)


من الحرم فيصيبه بسهمه إصابة لم تبلغ مقاتله ثم يتحامل فيدخل الحرم ثم يموت في الحرم أيؤكل ؟ قال : نعم .
قال محمد بن رشد : فهذا كما قال إنه لا يؤكل ولا جزاء عليه فيه لأنه فعل ما يجوز له من إصابته في الحل وبالله التوفيق .
من نوازل سئل عنها سحنون بن سعيد
مسألة
وسئل عن الذي يتعدى على فرس رجل فيركبه فيعقر عليه صيداً لمن يكون هذا الصيد ؟ فقال : الصيد لمن صاده ولرب الفرس أجر مثله ، قيل له فإن تعدى على باز رجل فاصطاد به صيداً ، فقال : هو الذي صاده ولرب الباز أجر بازه .
قال محمد بن رشد : هذا مذهب أصبغ خلاف مذهب ابن القاسم في تفرقته بين الفرس والبازي ، وستأتي هذه المسألة في سماع أصبغ بكمالها ، والقول عليها إن شاء الله .
مسألة
وسئل سحنون عن الصيد يعقره الناس في المغازي فيقطعونه قبل أن يموت وقد أنفذت الرماح مقاتله ، قال : لا ينبغي لأحد أن يفعله ولا أحرمه .
قال محمد بن رشد : أما قطعه قبل أن يموت على سبيل الاقتسام له من غير انتهاب فذلك مكروه كما يكره أن تنخع الذبيحة أو يقطع منها شيء قبل أن تزهق نفسها من غير أن يحرم ما قطع منها بعد كما ذكاتها ، وأما اقتطاعها على سبيل الانتهاب فذلك حرام لأن من صاده فيه شركاء بالسوية

(3/321)


فلا يحل لأحد منهم أني أخذ أكثر من حقه منه إلا برضا شركائه ، وقد جاء أن النهبة حرام ، وذلك فيما لم يأذن فيه صاحبه والله أعلم وسيأتي هذا المعنى في رسم سن من كتاب العقيقة وبالله التوفيق .
مسألة
وسئل سحنون عن شاة أو بقرة وقعت في ماء فغرقت فغطس عليها صاحبها بسكين فذكاها في داخل الماء وهو يعرف أنها حية مجتمعة الحياة وهو يذبح ، قال : لا بأس بأكلها .
قال محمد بن رشد : قد مضت هذه المسألة والقول فيها في أول سماع ابن القاسم من هذا الكتاب فلا معنى لإعادته .
مسألة
وسئل سحنون عن النحل يفرخ فيخرج الفرخ يضرب في شجرة ثم يخرج فرخ لرجل آخر فيضرب عليه ، قال : هو للأول ، ولو ضرب فرخ في بيت نحل لرجل آخر ، قال : فهو كذلك أيضاً هو لصاحب العامر .
قال محمد بن رشد : قال أبو إسحاق التونسي في هذه المسألة لعله أراد أن الفرخين دخلا في جبح الأول ، وأما لو دخلا فيجبح الثاني لكان له ولو بقيا في الشجرة فعاشا فيها وأفرخا لوجب أن يكونا وما أحدثا من عسل بينهما ، لأن أحدهما لا مزية له على الآخر ، وكلام أبي إسحاق التونسي تفسير ، وله تفسير وذلك إنما يصح أن يكون الفرخان جميعاً لمن دخلا في جبحه إذا لم يعلم ذلك بحدثانه حتى فات إخراج الفرخ من الجبح وقسمه

(3/322)


بينهما ، لأن حكم النحل في هذا حكم الأبرجة إذا دخلت حمام برج في برج آخر فإن أستطيع ردها إلى برجها وإلا في لمن ثبتت في برجه ، فكذلك فرخ النحل إذا لم يستطع أن يرد فرخ كل واحد منهما إلى صاحبه فهو لمن ثبت في جبحه .
مسألة
قال سحنون : قال عبد العزيز بن أبي سلمة يؤكل ما أصله الذبح بالنحر ، ويؤكل ما أصله النحر بالذبح وإن لم تكن ضرورة .
قال محمد بن رشد : هذا خلاف قول مالك في أنه لا يؤكل ما أصله النحر بالذبح ولا ما أصله الذبح بالنحر إلا من ضرورة ، والضرورة مثل أن يسقط بعير أو شاة في بئر فلا يستطاع نحر البعير ولا ذبح الشاة ، وقد قيل إن عدم ما ينحر به ضرورة تجيز ذبحه ، وإن عدم ما يذبح به ضرورة تجيز نحره ، وقد قيل إن الحبل في ذلك ضرورة ، وذهب ابن بكير أنه إن ذبح ما ينحر أكل ، ون نحر ما يذبح لم يؤكل ، وأما البقر التي جاء فيها الذبح النحر فالاختيار فيها عند مالك أن تذبح لقوله عز وجل : { إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة } ، فإذا نحرت من غير ضرورة أكلت ، ولا اختلاف في هذا أحفظه .
مسألة
قلت : أرأيت لو أن قوماً كانوا سائرين في طريق فوجد أحدهم عشقاً فقال هذا العش لي أنا رأيته قبلكم فلا تأخذوه ، فبادر إليه رجل فأخذه ، فقال هو لمن أخذه وليس قوله هو لي قبض منه له ولا حيازة ، قلت فلو وجدوه كلهم فبادرهم إليه أحدهم فأخذه ؟ قال

(3/323)


هو لمن أخذه ، قلت فلو وجدوه كلهم فأراده كل واحد منهم لنفسه وتدافعوا عليه ولم يترك بعضهم بعضاً يصل إليه ؟ قال إذا أقضي به بينهم خوفاً أن يقتتلوا عليه .
قال محمد بن رشد : هذه مسألة صحيحة لا اختلاف فيها وهي أصل لما يختلف فهيم ن النفر المتيممين يجدون من الماء في الصحراء قدر ما يتوضأ به واحد منهم يسلمونه لأحدهم ليتوضأ به هل ينتقض تيمم جميعهم أو ينتقض تيمم الذي أسلم إليه وحده ؟ وقد مضت هذه المسألة والقول فيها مستوفاً في سماع سحنون ونوازله من كتاب الوضوء فلا معنى لإعادته ، وبالله التوفيق .
من سماع محمد بن خالد من ابن القاسم
مسألة
قال محمد بن خالد : سألت ابن القاسم عن القوم يجتمعون فيخرجون للصيد ويتشكرون في كل ما يصيبون من ذلك الصيد على أن يكون بينهم شرعاً سواء ، فقال ابن القاسم إذا كانوا لا يفترقون فيه وكانوا يتعاونون عليه فلا أرى بذلك بأساً .
قال محمد بن رشد : هذا مثل ما في كتاب الشركة من المدونة من أن شركة الأعمال بالأبدان لا تجوز إلا أن يكونا في موضع آخر ويتعاونان ، والمعنى في ذلك بين لأنهما إذا لم يتعاونا كان غرراً ، لأن كل واحد منهما يصير قد باع من صاحبه نصف ما صاد بنصف ما صاد هو ، قال في المدونة ولو اشتركا على أن ما صدا ببازيهما أو بكلبيهما فذلك بينهما بصنفين لم يجز إلا أن يتعاون الكلبان والبازيان أو يكونا بينهما ، وقد قيل إن الشركة جائزة ،

(3/324)


وإن لم يتعاون البازين والكلبان إذا تعاونا هما لأن عملهما أكثر من عمل الكلبين والبازين .
من سماع أصبغ بن الفرج من ابن القاسم
من كتاب الزكاة والصيام
مسألة
قال أصبغ : سمعت ابن القاسم يقول في من تعدى على كلب رجل فاصطاد به إن الصيد لصاحب الكلب إلا أنه بالخيار إن شاء دفع إلى المعتدي أجر مثله في عنائه وصيده وأخذ الصيد ، وإن شاء أسلم الصيد ، وإنما كان الصيد لصاحب الكلب لأنه كلبه هو الذي أخذه وصاده بمنزلة عبد الرجل يتعدى عليه الرجل يبعثه يصيد له الحيتان فما صاد فهو لسيده ، لأن عبده الذي صاد ، وضمان العبد والكلب إن عطبا من الرجل الذي صاد بالكلب وتعدي على العبد ، والبازي مثل ذلك ، ولكن لو تعدى على فرس رجل فصاد عليه لكان الصيد للرجل المتعدي لأنه هو الصائد ، وليس الفرس الصائد ، وكان عليه في اصطياده أجرة مثلهن قال أصبغ بئس ما قال في الكلب ، وليس الكلب كالعبد ، العبد عامل بيديه مستغن بذاته ، والكلب لا يصيد إلا بالإشلاء والزجر والتعليم والتوجيه ، ولا يفعل ذلك إلا بصاحبه ، والرجل ها هنا الصائد ، فالصيد له ، وعليه أجرة الكلب لصاحبه كالدابة يعمل عليها أو الجمل وما أشبه ذلك ، قال سحنون الكلب والفرس سواء ، والصيد للصائد ويعطي صاحب الكلب والفرس أجرة كلبه وفرسه .
قال محمد بن رشد : لا يختلفون في الذي يتعدى على فرس الرجل

(3/325)


أو قوسه أو نبله فذلك أن الصيد للمتعدي وعليه أجر المثيل في الفرس والقول والنبل ولا يختلفون أيضاً في الذي يتعدى على العبد فيبعثه يصيد له أن الصيد لصاحب العبد ، واختلفوا في الذي يتعدى على كلب رجل أو بازه فيصيد به فحمله أصبغ وسحنون محمل الذي يتعدى على فرس رجل أو قوسه للعلة التي ذكر أصبغ من أن الكلب والباز لا يصيدان بذاتهما دون مرسل ومحرض فجعلا جل العمل للصائد المتعدي ، وحمله ابن القاسم محمل الذي يتعدى على العبد فيرسله يصيد له ، وقوله أظهر من قولهما ، لأ ، جل العمل إنما هو للكلب والباز لأنهما هما اتبعا الصيد وهما أخذاه ، وإنما للمتعدي في ذلك الإرسال والإشلاء خاصة فوجب أن يكون صاحب الكلب والباز أحق بالصيد لأن له في صيده شيئين الاتباع والأخذ ، وليس للمتعدي فيه إلا التحريض على ذلك على ما تأول من مذهب ابن القاسم في المزارعة الفاسدة أن الزرع يكون فيها لمن أخرج شيئين أرضاً وبذراً ، أو أرضاً وعملاً ، أو بذرا وعملاً ، لمن أخرج شيئاً واحداً أرضاً أو عملاً أو بذراً ، وقد مضى في رسم جاع فباع امرأته من سماع عيسى اختلافهم في من طرد صيداً إلى فخ رجل فأوقعه فيه وأخذه ، وتوجيه قول ابن القاسم أنهما فيه شريكان خلاف قول أصب وسحنون أنه للطارد وعليه قيمة ما انتفع فهي من فخ الرجل ، ومن الدليل على صحة قوله في ذلك أيضاً أنهما لو اشتركا في الصيد على أن يعمل أحدهما المنصب ويطرد الآخر الصيد إليه لكانت شركة صحيحة .
مسألة
قال أصبغ : قال ابن القاسم يشرب المضطر الدم ولا يشرب الخمر ، قال ابن القاسم في الميتة وضوال الإبل يأكل الميتة

(3/326)


ولا يقرب ضوال الإبل ، وقال لي ابن وهب مثل ذلك كله ، وقال الحجة في ضوال الإبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها ، وقد أرخص الله في الميتة والدم ولحم الخنزير للمضطر ولم يرخص في الخمر ، فذلك كله أحل من الخمر .
قال محمد بن رشد : هذه مسألة قد تكلمنا عليه كلاماً شافياً في رسم تأخير صلاة العشاء في الحرس من سماع ابن القاسم من كتاب الصلاة ، فمن أحب الوقوف عليه تأمله هناك .
مسألة
وسئل ابن القاسم عن الدابة التي لا يؤكل لحمها يطول بها المرض أو تعيي على صاحبها في أرض لا علب فيها وما أشبهه أفيذبحها أفضل ؟ قال بل يدعها ولا يذبحها ، قال ابن القاسم : ولو كانت لرجل دابة مريضة زمنة قد يئس من المنتفع بها على كل وجه ولا يريد علفها لم أر بأساً بذبحها وذبح هذه أحب إلي من تركها .
قال محمد بن أحمد : قال في الدابة التي يطول بها المرض أو تعيا على صاحبها في أرض لا علف فيها أنه يدعها ولا يذبحها رجاء أن يجدها من يقوم عليها حتى تصح ويعلفها حتى تستريح ، وقد اختلف إن وجدها صاحبها قد صحت عند الذي قام عليها هل يكون أحق بها أم لا ؟ فروى ابن القاسم عن مالك في سماعه من كتاب اللقطة أنه يكون أحق بها بعد أن يدفع إلى الذي قام عليها ما أنفق عليها ، وقد قيل إنها لمن قام عليها حتى حييت كمن أحيا أرضاً مواتاً ، ولا سبيل لصاحبها إليها إلا أن يكون أسلمها في ماء ومرعى ، وقال الليث بن سعد وغيره صاحبها أحق بها بعد يمينه أنه كان على الرجوع فيها ، واستحب في الزمنة التي قد يئس من المنتفع بها على كل حال

(3/327)


أن يذبحها لأن في ذلك إراحتها ، وقد قيل إنها تعقر ولا تذبح لئلا يشكك ذلك الناس في جواز أكلها ، وهو الذي يأتي على قوله في سماع أشهب في الدابة التي تحيا بعد خروجها من البحر ، وعلى ما في سماع ابن القاسم من كتاب الجهاد في الدابة التي تقف على صاحبها في أرض العدو ، وقد قيل إنها لا تعقر ولا تذبح ولا يصنع بها شيء من ذلك لنهي النبي ، عليه السلام ، عن المثلة ، وقول أبي بكر الصديق ولا يعقرون شاة أو بعيراً إلا لمأكلة ، وهو قول ابن وهب وما ها هنا من إجازة ذبحها فهو على ما في كتاب الجهاد من المدونة .
مسألة
قال ابن القاسم بلغني عن مالك أنه قال في رجل طبخ بإناء في المدينة فلما إلى الدهن وجد فيه فأره ميتة لم تنفسخ أو قد انفسخت وهي من ماء البئر حين صبه فيه ، وقد عجنه به وطبخه بعد فأمر مالك أن يتم طبخه ويأخذ الدهن الأعلى الذي عجن به فيطبخه بماء طيب .
قال محمد بن رشد : وقعت هذه المسألة ها هنا في بعض الروايات وهي في هذا السماع من كتاب الوضوء ثابتة في كل رواية ، وزاد في القليل أنه يهراق ، وقد مضى القول عليها هناك مستوفى فلا معنى لإعادته .
مسألة
قلت لأصبغ فلو خرجت طالباً فأثرت صيداً فأرسلت كلابي عليه فبينما هي طالبة إذا وقع في حفرة لا يستطيع الخروج منها ولا الخلاص ، أو دخل في ولجة لا يستطيع الخالص منها ، فغشيه

(3/328)


الكلب فيها فدخل عليه فقتله أيطيب لي أكله ؟ فقال أما ما كان مثل ما وصفت وكل موضع لا يستطيع الخلاص منه ولا النجاة أدركه الكلب فيه فقتله فإنه لا يؤكل لأنه قد صار أسيراً لك ، وهو مثل ما أنك لو أخذته وأثبته وأمكنك ذبحه ثم أرسلت عليه كلبك فقتله فإنك لا تأكله وهي ميتة لأنه قد صار في ذلك كالأنسية لا تؤكل إلا ذبحاً أو نحراً ، قلت له فلو أدركه الكلب في غايضه فقتله فيها أو دخل غاراً فدخل عليه فيه فقتله أيطيب لي أكله ؟ قال نعم هو طيب وهو خلاف الأول ، لأن هذا يجوز له فعله ابتداء لأنه إذا جاء إلى الغار ولا يستطيع الدخول فيه ، وإلى الغايضة جاز له أن يرسل فيه كلابه تطلب الصيد فيها ويشليها ويحضها فما قتلت فيهما من شيء جاز له أكله وهكذا يبتغي الصيد .
قال محمد بن رشد : أجاز في هذه الرواية أن يرسل كلبه في الغار والغايضة يطلب الصيد فيهما ويأكل ما قتل ، ومثل هذا في كتاب محمد بن المواز ، وقد روي عن ابن القاسم أنه أجاز ذلك في الغار ولم يجزه في الغايضة مخافة أن يكون دخل في الغايضة بعد أن أرسل كلبه فيها ما كان خارجاً عنها مما لم ينوه لأنه إنما نوى ما كان في الغايضة ولا يخشى مثل هذا في الغار ، وقد مضى لسحنون في رسم لم يدرك من سماع عيسى أن ذلك لا يجوز في الغار ولا في الغايضة ، لأن مذهبه أنه لا يصح له أن ينوي من الصيد إلا ما رأى ، وهو أحد قولي أشهب فهي ثلاثة أقوال .
مسألة
قلت لأصبغ : فالوكر يكون في شاهقة جبل أو على شجرة

(3/329)


يكون فيها فراخ الطير فيرسل بازه عليها فيصيدها أيأكلها أم لا ؟ فقال أما إن كانت بموضع عال مثل ما وصفت مما لم يوصل إلى الرقي عليها ولا يوجد سبيل إلى صرعها ولا إنزالها على حال أو لعله يطاق ذلك إلا أنه يخاف في ذلك العطب والعنت فإني لا أرى بأساً أن يرسل عليها بازه ويأكلها وإن قتلها ، وهو مثل الغائضة والغار الذي لا ينال ما فيها إلا بمثل هذا ، قال : وأما إن كانت بموضع قريب ينال بالطلوع إلهيا أو بأن يصرع بالرمح أو نحو ذلك أو الاحتيال إليها فيقع إلى الأرض فيؤخذ فمثل هذا إن أرسل بازه عليها فقتلها لم يأكلها وهذه لا تؤكل إلا بذكاة وهذه مأسورة مملوكة .
قال محمد بن رشد : هذه مسألة لا اختلاف فيها ولا إشكال ولا موضع للكلام ، وبالله التوفيق .
من سماع أبي زيد بن أبي الغمر من ابن القاسم
مسألة
قال أبو زيد : قال ابن القاسم في بقرة أزلقت ولدها إنه ينظر ، فإن كان مثل ذلك يحيى ويعيش لم يكن بأكله بأس ، وإن كان مثله لا يعيش لم يؤكل وإن ذكي ، وإن شك في أمره فقالوا مثله يعيش ومثله لا يعيش لم يؤكل وإن ذكي .
قال محمد بن رشد : هذه مسألة صحيحة لا أعرف فيها نص خلاف ، والفرق بين الجنين الذي أزلقته البهيمة وبين المريضة في جواز تذكيتها وإن علم أنها لا تعيش إذا تحققت حياتها عند الذبح بوجود علامات الحياة فيها بعد الذبح ، وهو أن المريضة قد علمت حياتها بطول مدة إقامها حية إلى أن ذبحت ، والجنين الذي أزلقته البهيمة لم يتحقق حياته لأن حياته في بطن أمه

(3/330)


لا يعتبر بها لأن كعضو من أعضائها بدليل كون ذكاته في ذكاتها ، وقد قال ابن حبيب إنما لم يذك إذا شك هل يعيش أم لا خيفة أن يكون الذي سبق إليه من إزلاق أمه هو الذي ألقاه في الموت ، وليس ذلك بعلة صحيحة إذا لو اعتبرت حياته في بطن أمه فكان إنما لم يذك إذا شك هل يعيش أم لا مخافة أن يكون إزلاق أمه هو الذي ألقاه في الموت لوجب أن يكون حكمه حكم المنخنقة وأخواتها في جواز تذكيته وإن علم أنه لا يعيش على مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك ، وهو بين ، وبالله التوفيق .
مسألة
وعن رجل رمى صيداً فأصاب مقاتله ، ثم وإلى عليه بالرمي بعد حتى قتله ولو شاء أن يذكيه ذكاه ، قال يأكله .
قال محمد بن رشد : وهذا بين لأنه قد فرغ من ذكاته بإنفاذ مقاتله ، فهو بمنزلة من ذبح ذبيحة ثم نخعها أو قطعها أو بقر بطنها قبل أن تزهق نفسها فلا يحرم شيء من ذلك عليه أكلها ، وبالله التوفيق .
مسألة
وقال ابن كنانة وابن القاسم في شاة أدركها أمر الله فوجدت وهي تضطرب فيدرك ذكاتها فيذكيها ولم يخرج من الدم شيء ، قال إذا ذبحها وهي تضطرب فلا يضره وإن لم يخرج من الدم شيء .
قال محمد بن رشد : يريد بقوله تضطرب تتحرك تحركاً يعلم به حياتها ، وأدنى ذلك أن تطرف بعينها أو ترحك ذنبها أو تركض برجلها أو يوجد منها ما يقوم مقام التحريك مما يعلم به حياتها وهو استفاضة نفسها في حلقها ، وأما إن لم يكن اضطرابها إلا ارتعاشاً وأرتعاداً أو شبه ذلك من مد يد أو رجل أو قبضة فلا يلتفت إلى ذلك ولا يعد لها به حياة ، وكذلك لو لم يكن

(3/331)


منها إلا سيلان الدم خاصة لم يحكم لها به بالحياة ولم تؤكل ، وهذا كله مما لا اختلاف فيه بين أهل العلم في المريضة إذا وجدت العلامات المذكورة التي يستدل بها على حياتها بعد ذبحها ، واختلفوا إذا لم توجد بعد الذبح ووجدت في حال الذبح وإجراء الشفرة على الحلق ، فظاهر قول ابن حبيب في الواضحة أنها تؤكل ، ووقع في موطأ ابن وهب ن مالك أنها كانت قبل أن تذبح تعرف حياتها ويجري نفسها فلا بأس بها ، ظاهره وإن لم يوجد شيء من العلامات في حال الذبح ولا بعده هوهو بعيد ، وأما الصحيحة التي لا مرض فيها فلا اختلاف بينهم أنها تؤكل وإن لم يتحرك منها شيء بعد ذبحها إذا سال دمها ، ولو لم يسل دمها لجرى جواز أكلها على الاختلاف في المنخنقة وأخواتها إذا بلغ بها ما أصابها مبلغاً يعلم أنها لا تعيش منه دون أن يصيب ذلك لها مقتلاً لأنه إذا لم يجر دمها يعلم بذلك أنها لو تركت لم تعش إذ لا يكون ذلك إلا من انقطاع بعضها من بعض ، وقد مضى الاختلاف في ذلك أعني في المنخنقة وأخواتها في سماع أشهب من هذا الكتاب ومن كتاب الضحايا ، وقد اختلف في ذلك أيضاً أصحاب النبي ، عليه السلام ، فقال أبو هريرة لا بأس بها وقال زيد بن ثابت إن الميتة لتتحرك ونهى عن أكلها ، ذكر ذلك عنه مالك ، رحمه الله ، في موطإه لأنها إنما كانت شاة تردت على ما جاء مبيناً في غير الموطأ والأظهر قول من قال إنها تؤكل قياساً على ما أجمعوا عليه في المريضة .
مسألة
وفيمن رمى صيداً فأصاب مقاتله وأدركه وقد افترسه سبع وسهمه في مقاتله أو وقع في بئر أو تردى من جبل ، قال إذا علم أنه قد أصاب مقاتله فلا بأس بأكله وإن لم يعلم أنه أصاب مقاتله فلا يقرب إلا أن يذكيه .

(3/332)


قال محمد بن رشد : هذا بين إن كان ما أصابه بعد إنفاذ المقاتل فلا يضره إذ قد فرغ من ذكاته وهو مثل من ذبح ذبيحة فسقطت في ماء فماتت فيه أو تردد من جبل أنها تؤكل ، قال ذلك في المدونة وفي سماع أشهب وفي غير ما موضع ، وبالله التوفيق وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم .

(3/333)