البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة

 [: كتاب الحج الأول]
[مسألة: رمى الجمرة الأولى ثم الأخيرة ثم الوسطى]
كتاب الحج الأول من سماع ابن القاسم من مالك
من كتاب قطع الشجرة
مسألة قال سحنون: أخبرني ابن القاسم عن مالك في من رمى الجمرة الأولى ثم الأخيرة ثم الوسطى، فإنه يرجع فيرمي الأخيرة، ثم حسبه، قال مالك: وإن رمى الأخيرة، ثم الوسطى، ثم الأولى؛ عاد لرميه من الوسطى، وإن رمى الأولى ثم الأخيرة، رمى الوسطى ثم الأخيرة.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن الترتيب في رمي الجمرات الثلاث في كل يوم من أيام منى من سنة الرمي، فإن ذكر ذلك من يومه أصلح رميه، بأن يلغي ما قدمه ووضعه في غير موضعه، فيفعله مرة أخرى، وما بعده حتى يخلص له الترتيب ولا دم عليه، وإن لم يذكر ذلك في يومه حتى غابت الشمس، أصلح رميه أيضا بما ذكرناه حتى يصلح له الترتيب ما لم تنقض أيام منى، وكان عليه الدم، وقيل: لا دم عليه على اختلاف قول مالك في المدونة، فيمن ترك رمي جمرة من الجمار حتى غابت الشمس، ولم تنقض أيام منى، وإن لم يذكر ذلك إلا بعد أيام منى، فقد فاته الإصلاح، وعليه الدم قولا واحدا، قال ابن المواز: ولو رمى الجمار بحصاة حصاة، كل جمرة حتى أتمها

(3/399)


بسبع، فيلزم الثانية بست، ثم الثالثة بسبع، وهو صحيح؛ لأن الترتيب يصح له بهذا.

[مسألة: أفاض وطاف بالبيت ثم وطئ أهله]
مسألة قال ابن القاسم: وسمعت مالكا يقول فيمن أفاض وطاف بالبيت ثم وطئ أهله، قبل أن يركع: إنه إن كان بمكة أفاض مرة أخرى فطاف وركع، ثم خرج معتمرا ويهدي، وإن خرج إلى أهله ركع ركعتين حيث كان وأهدى.
قال محمد بن رشد: هذا على أصله فيمن وطئ بعد رمي الجمرة وقبل الإفاضة، أنه يهدي ويعتمر ليأتي بطواف الإفاضة الذي أفسده بالوطء قبله في إحرام صحيح، فلما كان الذي نسي الركعتين من طواف الإفاضة يجب عليه أن يعيد طواف الإفاضة ما كان بمكة أو قريبا منها، كان الذي وطئ قبل أن يعيد الطواف في حكم من وطئ قبل الطواف في وجوب الهدي والعمرة عليه.
وقوله: وإن خرج إلى أهله ركع ركعتين حيث كان، وأهدى هديا، معناه إن لم يذكر ذلك حتى رجع إلى أهله، ولو علم وهو بمكة أو قريب منها أنه وطئ قبل الركعتين فخرج إلى بلده لوجب عليه الرجوع لما وجب عليه من إعادة الإفاضة، ومن العمرة، وهذا على القول بأن من وجب عليه أن يعيد في الوقت، فلم يعد حتى ذهب الوقت أنه يجب عليه أن يعيد بعد الوقت، ولأهل العلم فيمن وطئ قبل الإفاضة وبعد الرمي ثلاثة أقوال؛ أحدها: هذا أنه يعتمر ويهدي. والثاني: أنه يهدي ولا عمرة عليه، وقد ذكر ابن القاسم في الأول من حج المدونة أن هذا هو قول جل الناس. والثالث: أنه قد أفسد حجه، وهو قول عبد الله بن عمر وجماعة من السلف، وظاهر قول عمر بن الخطاب: من رمى الجمرة، فقد حل له ما حرم عليه إلا النساء والطيب، وفي بعض الروايات والصيد، واختلف قول مالك فيمن وطئ بعد الوقوف بعرفة

(3/400)


وقبل رمي الجمرة، فالمشهور عنه أنه قد أفسد حجه، وقد روي عنه أن حجه تمام وعليه العمرة والهدي، وأما من وطئ قبل الوقوف بعرفة، فلا خلاف بين أهل العلم في أنه قد أفسد حجه.

[مسألة: ترك أهله بمكة من الآفاق وخرج لغزو أو تجارة]
مسألة قال ابن القاسم: وسمعت مالكا يقول: ليس على من ترك أهله بمكة من الآفاق، وخرج لغزو أو تجارة إذا قدم في أشهر الحج متعة، كما ليس على أهل مكة متعة.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة، ومعناها أنه قدم مكة قبل أشهر الحج، فترك أهله بها على نية الاستيطان لها، ثم خرج لغزو أو لتجارة، فقدم معتمرا في أشهر الحج، وكذلك لو سكنها بغير أهل قبل أن يتمتع، قاله ابن المواز، فليست هذه المسألة بخلاف لمسألة كتاب الحج الأول من المدونة في الذي يقدم مكة في أشهر الحج معتمرا، ينوي استيطانها؛ لأنه لم يتقدم له استيطانها قبل قدومه معتمرا، فلذلك قال فيها: إنه ليس كأهل مكة؛ إذ لعله سيبدو له فيما نوى، قوله فيها معارض لما في إرخاء الستور من المدونة، وموضع الخلاف بينهما، هل يصدق فيما يدعي أنه أراد من ذلك أم لا؟

[مسألة: يلبي بالحج وهو مولى عليه]
مسألة وقال مالك في الرجل يلبي بالحج، وهو مولى عليه، والمرأة عند أبيها، أو عند زوجها إن ذلك من السفه، ولا يجاز ذلك، ولا يمضي لمن فعله، وليس على المرأة أن تقضيه إذا هلك زوجها أو أبوها.

(3/401)


قال محمد بن رشد: معنى هذه المسألة أنهم أحرموا من بيوتهم دون الميقات، وقبل أشهر الحج، فلذلك كان للأب والزوج والولي ألا يمضوا فعلهم، وأن يحلوهم من إحرامهم؛ لأن ذلك خطأ منهم وتعد، وقوله: وليس على المرأة أن تمضيه إذا هلك زوجها أو أبوها، مثل ما في المدونة؛ لأن معنى المسألة أنهم أحرموا بحجة الفريضة، فليس عليهم إذا قضوا حجة الفريضة للإحرام الذي حللهم منه شيء، ولو كانوا إنما أحرموا بحج التطوع، وتركوا الفريضة لوجب عليهم قضاء الحجة التي حللوا منها بعد قضاء حجة الفريضة على مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك، خلاف قول أشهب: إن العبد إذا أحرم بغير إذن سيده، فحلله سيده من إحرامه أنه لا يجب عليه في ذلك قضاء؛ لأنه إنما حله بحجة بعينها، كمن نذر صوما بعينه، فمنعه من صيامه عذر، وقال ابن المواز: إن المولى عليه والمرأة عند أبيها لا يلزمهم قضاء الإحرام الذي حللوا منه، كما لا يلزمهم العتق إذا ولوا أنفسهم، وهذا هو مذهب أشهب الذي ذكرناه.

[مسألة: خرج يريد التمتع فألفى الناس قد فرغوا من الحج]
مسألة قال مالك: لو أن رجلا خرج يريد التمتع، فألفى الناس قد فرغوا من الحج، لم يقع عليه شيء.
قال محمد بن رشد: قوله يريد التمتع، أي يريد العمرة في أشهر الحج مثل الحج، فإذا أحرم بعمرة أو بحج، فألفى الناس قد فرغوا من الحج، فلا شيء عليه كما قال، إلا إكمال العمرة التي أحرم بها؛ لأنه قد فاته الحج

(3/402)


في ذلك العام، وفي بعض الروايات خرج يريد الحج، والصحيح خرج يريد التمتع؛ لأن من خرج يريد الحج، فألفى الناس قد فرغوا من الحج، لا إشكال في أنه لا شيء عليه إن كان لم يحرم، وإن كان قد أحرم، فلا بد له من قضاء الحج الفائت، وعليه الهدي.

[مسألة: هلك رجل بالفسطاط وأوصى أن يحج عنه]
مسألة قلت لابن القاسم: لو هلك رجل بالفسطاط، وأوصى أن يحج عنه، فدفع عنه إلى رجل ليحج عنه، ولم يشترطوا عليه أن يحرم من ذي الحليفة أو غيرها، فخرج فأحرم عن نفسه من ذي الحليفة بعمرة، وحج عن الميت من مكة؟ قال: أراه ضامنا للحجة، أو يرد المال، ولا أبالي اشترطوا عليه الإحرام أو لم يشترطوا؛ لأن من دفع إليه مالا ليحج به عن ميت، فليحرم من ميقات الموضع الذي يحج منه.
قال محمد بن رشد: قوله: إنه ضامن، وإن لم يشترطوا عليه الإحرام من ذي الحليفة، هو القول الذي رجع إليه ابن القاسم في المدونة، وكان أولا يقول: إنه لا ضمان عليه إلا أن يشترط عليه الإحرام من ذي الحليفة، وفي أصل السماع أنه لا ضمان عليه، وإن اشترطوا عليه أن يحرم من ذي الحليفة، ولا حجة للمستأجر عليه في أن قدم بين يدي حجه عمرة، وإن اشترط عليه ألا يفعل وهو بعيد، فهي ثلاثة أقوال؛ أبينها القول الذي رجع إليه ابن القاسم في المدونة، وهو قوله في هذه الرواية، وقوله أراه ضامنا للحجة أو يرد المال ليس معناه أنه مخير في ذلك، وإنما معناه أنه ضامن للحجة إن كان أخذ المال على الإجارة، إذ لم تقع الإجارة على أن يحج عليه في ذلك العام بعينه، وإن قال: استأجرك على أن يحج عنه في هذه العام، فلا يتعين بذلك العام، كمن استأجر سقاء على أن يسوق له اليوم قلة ماء، فإن لم يسقها ذلك اليوم وجب عليه أن يسوقها في اليوم الذي بعده، وإن استأجره على الحج

(3/403)


وسكت فهو على أول سنة، فإن لم يحج في أول سنة لزمه أن يحج فيما بعدها، وذهب ابن العطار إلى أن السنة تتعين بذكرها، ولا تصح الإجارة عنده إلا بتعيينها، فقال: عقد الإجارة في ذلك على سنة مسماة لم تأت بعد، على أنه موسع عليه في تعجيلها، فأما قوله: إنها تتعين بذكرها، فقد قيل ذلك أنها تتعين إذا عينت، وهو الذي يدل عليه ما في الحج الثالث من المدونة، وأما ما ذهب إليه من أن الإجارة لا تصح إلا بتعيينها، فليس بصحيح، قد أجاز في سماع أبي زيد من هذا الكتاب الاستئجار على حجة مقاطعة في غير سنة بعينها، وسيأتي الكلام عليها هناك إن شاء الله، وأنه يرد المال إن كان أخذه، على البلاغ؛ لأنه إذا أخذه على البلاغ، فإنما هو رسول لهم لم يضمن الحج، فإذا تعدى فأنفق مالهم في غير ما إذن له فيه، صار ضامنا له، وترتب في ذمته، ومن ترتب في ذمته مال لم يجز أن يصرف في إجارة عند مالك وجميع أصحابه.

[مسألة: خرج في مشي عليه فمرض في بعض الطريق]
ومن كتاب القبلة مسألة قال ابن القاسم، وسمعت مالكا: قال فيمن خرج في مشي عليه، فمرض في بعض الطريق، فركب يوما أو ليلة، ثم مشى بعد ذلك حتى بلغ، فأرجو أن يجزئ عنه، ويهدي ما استيسر من الهدي، فإن لم يجد صام عشرة أيام.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في المدونة وغيرها من الدواوين أنه إن كان الذي ركب اليسير الأميال واليوم وشبهه، فليس عليه أن يعيد ثانية، ويجزئ الهدي، وسواء قرب مكانه أو بعد، وقد روى ابن وهب، عن مالك: أنه لا هدي عليه إن بعد مكانه كمصر وشبهها، وأما إن كان كثر ما ركب، ولم يكن جل الطريق، فإنه يرجع ثانية للمشي ما ركب باتفاق في المذهب إن كان

(3/404)


موضعه قريبا كالمدينة ونحوها، واختلف إن كان موضعه بعيدا كمصر ونحوها، فقيل: إنه يرجع، قاله في كتاب ابن المواز، وهو ظاهر ما في المدونة في تفسير ابن مزين أنه لا يرجع، وأما إن بعد موضعه جدا كإفريقية والأندلس، فليس عليه أن يرجع ويجزئه الهدي؛ لأن الرجوع ثانية من الأندلس وشبهها من البعد أشق من الرجوع من المدينة ونحوها ثالثة، وأما إن كان الذي ركب جل الطريق فيما قرب، فعليه أن يمشي الطريق كله ثانية، رواه ابن الماجشون عن مالك في المبسوطة، ومثله في كتاب ابن المواز.

[مسألة: حق أهل مكة وغيرهم ممن يقدم عليهم من الناس في دور مكة]
ومن كتاب أوله حلف ألا يبيع سلعة سماها مسألة وسئل مالك عن تفسير هذه الآية: {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} [الحج: 25] ، أي سواء في الحق والسعة، والباقي في أهل البادية وغيرهم ممن يقدم عليهم، وقد كانت الفساطيط تضرب في الدور، ولقد سمعت أن عمر بن الخطاب كان ينزع أبواب بيوت مكة إذا قدم الحاج.
قال محمد بن رشد: تأويل مالك لهذه الآية على أن حق أهل مكة وغيرهم ممن يقدم عليهم من الناس في دور مكة سواء، واستدلاله على ذلك بما ذكر من فعل عمر بن الخطاب، يدل على أنها لا تباع ولا تكرى خلاف ظاهر قول ابن القاسم في كتاب كراء الدور والأرضين، وكتاب الحوائج من المدونة، لما ذكر من نفاق كراء الدور بها في أيام الموسم، وليس في الآية بيان يدفع القدر؛ لاحتمال رجوع الضمير من قوله: {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} [الحج: 25]

(3/405)


على المسجد المذكور دون سائر البلدة؛ على ما قاله جماعة من المفسرين، والأصل في اختلاف أهل العلم في هذه المسألة اختلافهم في افتتاح مكة، فمن ذهب إلى أنها افتتحت عنوة، قال: إن دورها لا تباع ولا تكرى، وهو قول أبي حنيفة وجماعة سواه، ويشهد لهذا القول ما روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «مكة كلها مباح، لا تباع رباعها ولا تواجر» ، ومن ذهب إلى أنها مؤمنة، والأمان كالصلح، وأن أهلها مالكون لرباعها، أجاز لهم بيعها وكراءها، وهو قول الشافعي، ولا خلاف عند مالك وأصحابه في أنها افتتحت عنوة إلا أنهم اختلفوا هل من على أهلها بها، فلم تقسم كما لم يسب أهلها لما عظم الله من حرمتها؟ أو هل أقرت للمسلمين؟ فعلى هذا جاء الاختلاف في جواز كرائها في المذهب، فروي عن مالك في ذلك ثلاث روايات؛ أحدها: المنع، والثانية: الإباحة، والثالثة: كراهية كرائها في أيام الموسم خاصة.

[مسألة: ذكر الحج في القرآن]
مسألة قال مالك: الحج كله في كتاب الله تعالى، والصلاة، والزكاة، ليس لها في كتاب الله تفسير، ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين ذلك.
قال محمد بن رشد: ظاهر قول مالك هذا أن الحج كله في كتاب الله تعالى مفسر، وأن الصلاة والزكاة ليستا مفسرتين فيه، وأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو فسرهما، وليس ذلك بصحيح، بل ما أتى من ذكر الحج في القرآن مفتقر إلى بيان، والتفسير الذي فسره به رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وبين مراد الله فيه قولا وعملا، كافتقار الصلاة والزكاة إلى ذلك سواء، ولو تركنا وظاهر ما في القرآن من أمر الحج، لما صح لنا منه امتثال أمر الله عز وجل به، إذ لم يبين فيه شيئا من صفة عمله وترتيبه في أوقاته التي لا تصح إلا فيها، وشرائطه التي لا تتم إلا بها، وسنته التي لا يكتمل إلا بها، فليس الكلام على ظاهره، وإنما معناه الذي أراده به أن الحج كله في كتاب الله تعالى، والصلاة والزكاة، تم الكلام هاهنا.
ثم ابتدأ

(3/406)


فقال: ليس لها - أي لجميع ذلك في كتاب الله تعالى - تفسير، ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين ذلك، ويبين تأويلنا هذا ما في كتاب ابن المواز من قوله: وكذلك الحج والزكاة تدل وجوبهما في القرآن مجملا، وبين رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما أراد الله منه وفسره، وقوله في الرواية أيضا ليس لها، ولم يقل لهما، وقد نقل ابن أبي زيد هذه الرواية بالمعنى على ظاهرها نقلا غير صحيح، فقال فيها: الحج كله في كتاب الله سبحانه، وأما الصلاة والزكاة فذلك مجمل فيه، ولهذا وشبهه رأي الفقهاء قراءة الأصول أولى من قراءة المختصرات والفروع.

[مسألة: رمي الجمار]
مسألة وسئل مالك عن قول الله سبحانه: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج: 29] ، قال: هو رمي الجمار، قال: ومن كلام أن يسموا العقل النذر، يريدون بذلك العود، وقال سحنون: يريد بالعقل عقل الجراح.
قال محمد بن رشد: إنما تأول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن مراد الله بقوله تعالى: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج: 29] هو رمي الجمار من أجل أن الوفاء بالشيء لا يكون إلا بإكماله إلى آخره، ورمي الجمار هو آخر عمل الحج مع الطواف الذي ذكره الله معه فقال: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] ، واستدل على ذلك بأن العرب تسمي العقل نذرا، وهو العدد الذي يجب في الجراح، يريد بذلك رمي الجمار، سماه الله نذرا؛ لأنه عده واجب رميه في الحج.

[مسألة: يفيض من منى إلى البيت فيطوف طواف]
مسألة وسألته عن الذي يفيض من منى إلى البيت، فيطوف طواف

(3/407)


الإفاضة، ثم يريد أن يتنفل طوافا أو طوافين بعد ذلك، قال: ما هو من عمل الناس، وإني لأرجو أن يكون خفيفا، وكأني رأيته يرى أن ترك ذلك أعجب إليه.
قال محمد بن رشد: رأى مالك ترك التنفل بالطواف إثر طواف الإفاضة أحسن من التنفل به، إذ لم يدرك الناس إلا على ذلك، ولأن الاختيار أن يعجل الإفاضة يوم النحر قبل الزوال، ثم يرجع إلى منى فيصلي بها الظهر كما فعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والوقت لا يتسع للتنفل بالطواف، وقد كان روي عن النخعي أنه قال: كانوا يستحبون الإفاضة يوم النحر، وأن يطوفوا يوم النحر ثلاثة أسابيع، وقول مالك أولى لما قدمناه، وقد روي «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يفض إلا في آخر يوم النحر» .

[مسألة: التلبية على الصفا والمروة]
مسألة وسئل عن التلبية على الصفا والمروة، قال: لا بأس في ذلك في الحج، ولا يلبي أحد عليهما في العمرة، أحرم من ميقاته، أو من التنعيم، أو من الجعرانة؛ لأن التلبية تنقطع إذا أحرم من ميقاته إذا دخل الحرم، وينقطع إذا لم يحرم من ميقاته إذا دخل المسجد.
قال محمد بن رشد: قوله: لا بأس أن يلبي في الحج على الصفا والمروة، يدل على أن الأحسن عنده ألا يفعل، فهو مثل ما في المدونة من أنه استحب للحاج أن يقطع التلبية إذا بدأ بالطواف حتى يفرغ من السعي بين الصفا والمروة، ثم يعود إليها حتى يروح يوم عرفة بعد الزوال إلى المسجد، أو إلى الموقف على اختلاف قوله في ذلك؛ لما رواه عن عبد الله بن عمر

(3/408)


- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - من أنه كان يقطع التلبية في الحج إذا انتهى إلى الحرم، حتى يطوف بالبيت، وبين الصفا والمروة، ثم يلبي حتى يغدو من منى إلى عرفة، فاختار فعله في ترك التلبية في الطواف والسعي، ولم يختر قوله في قطعها أولا إذا انتهى إلى الحرم، ولا في قطعها آخرا إذا غدا من منى إلى عرفة، فقال: إنه يلبي حتى يبدأ بالطواف، ثم يلبي بعد تمام السعي حتى تزول الشمس يوم عرفة، أو حتى يروح إلى المسجد، أو حتى يروح إلى الموقف، وقد روى ابن وهب عنه أنه لا يقطعها حتى يقف بالموقف، وإلى عرفة ينتهى إلى غاية الملبى؛ لأن هنا دعا إبراهيم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الناس إلى الحج، ومن حكم المدعو أن يجيب الداعي حتى يصل إليه، ولا وجه لإجابته إياه إذا انصرف عنه، وقوله في العمرة: إنه يقطع التلبية فيها إذا لم يحرم من ميقاته إذا دخل المسجد، قال في المدونة: وإذا دخل بيوت مكة ذلك واسع كان إحرامه من الجعرانة أو التنعيم، وذهب أبو بكر الأبهري إلى أنه إذا أحرم من الجعرانة قطع إذا دخل بيوت مكة، وإذا أحرم من التنعيم قطع إذا دخل المسجد؛ لأن التنعيم أقرب من الجعرانة، فيتمادى إذا أحرم منه في التلبية حتى يدخل المسجد لقصر تلبيته.

[مسألة: أفاض بعد رمي الجمرة فأقام بمكة وكان مريضا ولم يأت منى]
مسألة وسئل عن رجل أفاض بعد رمي الجمرة، فأقام بمكة، وكان مريضا، ولم يأت منى ولم يرم أيام الجمار كلها حتى ذهبت أيام منى، قال: أن يهدي بدنة، قيل له: فإن لم يقدر عليها؟ قال: ما استيسر عليه، يريد شاة، فإن لم يجد صام، قيل له: إن قوما قالوا: لو رمى في غير أيام منى، قال: هذا الخطأ البين.

(3/409)


قال محمد بن رشد: هذا مثل قوله في المدونة، أنه من ترك الجمار لعذر أو نسيان أو عمد حتى ذهبت أيام منى يهدي، ولم يختلف قوله في ذلك كما اختلف إذا ترك رمي الجمار في يوم من أيام منى، فرماها في الليل، أو فيما بقي منها، واستحب أن يهدي إذا ترك جمرة العقبة أو الجمار الثلاثة من أيام منى بدنة، وإن ترك جمرتين منها بقرة، وإن ترك واحدة شاة وإن كانت الشاة تجزيه في ذلك كله، وإنما قال: إن الرمي في غير أيام الرمي خطأ؛ لأن الله عز وجل قال: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 203] ، يريد رمي الجمار بإجماع أهل العلم، فلما قال تعالى: إن الرمي يكون فيها، وجب ألا يفعل في غيرها إلا بنص أو كتاب أو سنة أو إجماع، وذلك معدوم، ولا يجزي رمي الجمار بالمدر، ولا بالطين اليابس، ولا يجزي إلا بالحصاة، قاله مالك وابن أبي ذيب.

[مسألة: المتمتع بالعمرة إلى الحج يموت بعد ما يحرم بالحج بعرفة]
مسألة وسئل عن المتمتع بالعمرة إلى الحج، يموت بعد ما يحرم بالحج بعرفة، أو ما أشبه ذلك، أترى عليه هديا؟ قال: من مات من أولئك قبل أن يرمي الجمرة، فلا أرى عليه شيئا، ومن رمى الجمرة، فأرى أن قد وجب عليه الهدي، قال عيسى سألت ابن القاسم عن هديه هل يكون في رأس المال أو في ثلثه؟ قال: بل في رأس المال، وذلك أنه لم يفرط، وقال سحنون: لا يعجبني ما قال، ولا يخرج من ثلثه، ولا من رأس ماله إلا إن شاء الورثة ذلك، ألا ترى أن المال يجب عليه الزكاة، قد عرف ذلك، ثم يموت ولم يفرط في إخراجه أنه إن أوصى بها كانت من رأس المال، وإن لم يوص بها لم تكن في ثلث ولا رأس مال إلا إن شاء الورثة ذلك.

(3/410)


قال محمد بن رشد: إنما قال: إنه لا يجب عليه الهدي إلا أن يموت بعد الجمرة؛ لأنه إنما يجب بالوقت الذي يتيقن فيه نحره، وهو رمي الجمرة، فإذا مات قبل الوقت الذي يتيقن فيه نحره، فقد مات قبل أن يجب عليه، وإنما قال ابن القاسم: إنه يكون في رأس ماله، وإن لم يوص به، إذا لم يفرط بخلاف الزكاة إليها لم يفرط فيها، ولم يوص بها؛ لأن الهدي لو أهداه لم يخف، إذ من شأنه أن يقلد ويشعر ويساق من الحل إلى الحرام فينحر به، فليس ذلك مما يفعل سرا كالزكاة التي يمكن أن يكون لم يوص بها، من أجل أنه قد أداها سرا من حيث لا يعلمون، وقد قال تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا} [البقرة: 271] الآية، فلعله قصد إلى ما هو خير له من الاستمرار بأداء زكاته، فتفرقة ابن القاسم بين المسألتين أظهر من مساواة سحنون بينهما، ألا ترى أنهم لا يختلفون في وجوب إخراج الزكاة من الزرع الذي يموت عنه صاحبه، وقد بدا صلاحه، وإن لم يوص بإخراج الزكاة عنه للعلم بأن صاحبه لم يؤد زكاته، وأشهب يرى إخراج زكاة المال الناض على الورثة واجبا، وإن لم يوص الميت بإخراجها، إذا مات عند وجوبها، ولم يفرط، وبالله التوفيق.

[مسألة: يعتمر من أفق من الآفاق في أيام التشريق]
مسألة وسئل عن الرجل يعتمر من أفق من الآفاق في أيام التشريق، قال: لا بأس بذلك؛ لأن هؤلاء إنما يحلون بعد ذلك، فلا أرى هذا مثل من يعتمر في أخر أيام التشريق من الحاج قبل أن تغيب الشمس، هذا لا يعجبني.

(3/411)


قال محمد بن رشد: جائز لمن لم يحج أن يعتمر في أيام التشريق، والأصل في جواز ذلك حديث أبي أيوب الأنصاري، وهبار بن الأسود؛ إذ قدما على عمر بن الخطاب يوم النحر، وقد فاتهما الحج بإضلال أبي أيوب رواحله، وخطأ هبار بن الأسود العدة، فأمرهما عمر بن الخطاب أن يتحللا من إحرامهما بعمرة، ويقضيا حجهما عاما قابلا، ويهديا على ما وقع من ذلك في الموطأ، فلمن لم يحج من أهل الآفاق أن يهل بعمرة من ميقاته في أيام التشريق، سواء حل منها في أيام التشريق أو بعد أيام التشريق، قاله ابن القاسم في المدونة، فقوله هاهنا وفي المدونة أيضا؛ لأن هؤلاء إنما يحلون بعد ذلك، يريد أيام التشريق ليس بتعليل صحيح، وأما من حج فلا يجوز له أن يعتمر حتى تغيب الشمس من آخر أيام التشريق، والأصل في ذلك حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - حين «أمرها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقضاء عمرتها بعد انقضاء حجها» ، فإن أهل بعمرة في آخر أيام التشريق قبل أن تغيب الشمس بعد أن رمى وأفاض وحل من إحرامه؛ لزمه الإحرام، قاله في الحج الأول من المدونة، قال في كتاب ابن المواز: ولا يعمل من عمل العمرة شيئا حتى تغيب الشمس، فإن عمل فعمله باطل، وهو على إحرامه، فإن وطئ بعده أفسد عمرته، ووجب عليه قضاؤها بعد تمامها والهدي.
قال محمد بن رشد: والقياس إذا كان قد حل من إحرام الحج، وانعقد إحرام العمرة، أن يصح عملها، قال ابن المواز: وأما إن أحرم بعمرة في اليوم الثاني من أيام التشريق، وإن كان قد تعجل وحل من إحرامه، فلا يلزمه الإحرام.

[مسألة: يفيض في آخر أيام التشريق قبل أن تزول الشمس]
مسألة وسئل هل رخص لأحد من الحاج أن يفيض في آخر أيام التشريق قبل أن تزول الشمس؟ قال: ليس فيه رخصة.

(3/412)


قال محمد بن رشد: يريد بقوله أن يفيض أن يرجع إلى بلده، فلم ير في ذلك رخصة لأحد من الحاج؛ لأنه إن كان ممن لم يتعجل في يومين فعليه رمي ذلك اليوم، وإن كان قد تعجل في يومين فقد وجب عليه أيضا رميه إذا بقي بمنى ولم ينفر يوم تعجل، ولم يرد بقوله: أن يفيض طواف الإفاضة؛ لأن له أن يمضي إلى مكة لطواف الإفاضة يوم النحر، وأي يوم شاء من أيام منى قبل الزوال وبعده، والتعجيل أفضل، ويرجع إلى منى على كل حال لرمي الجمار، وللمبيت بها، ووقع في بعض الروايات هل رخص لأحد من الحاج أن يعتمر؟ ومعنى ذلك أيضا بين؛ لأن أيام الحج لم تنقض بعد، فلا رخصة لأحد من الحاج أن يعتمر قبل انقضائها، وإن كان ممن تعجل في يومين.

[مسألة: أعطى جارية له محرمة إزارا له أن تفليه من القمل وهو محرم]
مسألة وسئل عن رجل أعطى جارية له محرمة إزارا له أن تفليه من القمل، وهو محرم، وجاريته محرمة، ففلته وألقت الدواب عنه، قال: أرى أن يفتدي، فقيل له: أيذبح شاة أو يصوم ثلاثة أيام؟ قال: نعم في رأيي، أي ذلك شاء فعل.
قال محمد بن رشد: إنما أوجب مالك عليه الفدية من أجل أنه أماط بذلك عن نفسه الأذى، لا من ناحية ما قتلت من الدواب بأمره، وقد قال يحيى، عن ابن القاسم: إنما قال مالك ذلك احتياطا، ولو أطعم شيئا من طعام أجزأه، والذي قلته هو وجه قول مالك، وإنما كان يجب عليه أن يطعم شيئا من طعام لو لم يكن الإزار له، وقد تأول بعض الناس على مالك من هذه الرواية، ومن قوله في المدونة في المحرم يحلق رأس الحلال: إنه واجب الفدية على من قتل قملا كثيرا، وليس ذلك بتأويل صحيح، أما هذه الرواية، فقد بينا وجهها، وأما مسألة المدونة فوجه إيجاب مالك فيها الفدية هو

(3/413)


أنه لما كان الأصل في وجوب الفدية حلق الرأس في القرآن، والسنة حمله على عمومه في رأسه وفي رأس غيره، وقد رأى أصبغ قول مالك في هذه المسألة أفضل من قول ابن القاسم فيها: إنه يطعم شيئا من طعام، وقال سحنون: قول ابن القاسم أفضل.

[مسألة: دخل بعمرة فطاف وسعى ثم وطئ قبل أن يحلق]
مسألة وسئل عن رجل دخل بعمرة، فطاف وسعى، ثم وطئ قبل أن يحلق، قال: أرى أن يهدي هديا.
قال محمد بن رشد: هذا ما لا اختلاف فيه أحفظه في المذهب؛ لقول ابن عباس من نسي من نسكه شيئا، فليهرق دما.

[مسألة: يطوف بالبيت فيشك في طوافه]
ومن كتاب أوله شك في طوافه مسألة وسئل عن الرجل يطوف بالبيت، فيشك في طوافه، ورجلان معه فيقولان له: لقد أتممت طوافك، قال: أرجو أن يكون خفيفا.
قال محمد بن رشد: خفف مالك هذا في الطواف بخلاف قوله في الصلاة في إعادتها وغيرها، والقياس أنهما في ذلك سواء؛ لأنهما عبادتان مستويتان في أنهما موكولتان إلى أمانة العبد، فوجب أن يستويا في أنه يعمل فيهما على يقينه دون يقين من سواه، أو في أنه يجوز له أن يعمل فيهما على يقين من سواه، وقد روي ذلك عن أشهب، والقول الآخر أظهر، وقد مضى توجيههما في آخر أول رسم، من سماع ابن القاسم، من كتاب الصلاة، ووجه الفرق بينهما أن الحج له تعلق بالمال، وقد شبهه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالدين، فقال للخثعمية: «أرأيت لو كان على أبيك دين، أكنت قاضيته؟ قالت: نعم، قال: فدين الله أحق أن يقضى» ، فجاز أن تعمل فيه الشهادة كما تعمل في الدين،

(3/414)


بخلاف الصلاة التي لا تعلق لها بالمال، وقد نص النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: أن المصلي يعمل فيها على يقينه.

[مسألة: المحرم يكثر عليه قمل إزاره فيبيعه]
مسألة وسئل عن المحرم يكثر عليه قمل إزاره، فيبيعه لموضع ما فيه من القمل، قال: لا بأس بذلك، قال سحنون: إذا باعه أليس قد عرضه للقتل؟
قال محمد بن رشد: أجاز له مالك بيع إزاره، لموضع ما فيه من القمل، كما يجوز له أن يتركه ويلبس غيره؛ إذ ليس عليه أن يتمادى على لباس الثوب الذي أحرم فيه إلى آخر إحرامه، ورأى سحنون أنه إذا باعه، فقد عرض القمل للقتل كما لو طرد صيدا من الحرم إلى الحل، وليس هو مثله؛ لأنه إذا طرد الصيد من الحرم إلى الحل، فقد أخرجه من مأمن إلى غير مأمن؛ لأنه كان في مكان لا يصاد فيه، فأخرجه إلى مكان يصاد فيه، والقمل الذي في الثوب حكمه قبل البيع كحكمه بعد البيع في جواز قتله لمن ليس بمحرم، وليس على من صار القمل في ثوبه أن يمنع الناس من قتله، إنما عليه ألا يقتله ولا يأمر من يقتله، ألا ترى أن من أحرم وبيده صيد يرسله في الحل، وليس عليه أن يمنع الناس من صيده، ولم ير مالك بيعه ثوبه لمكان ما فيه من القمل مميطا عن نفسه الأذى، بخلاف المسألة التي في الرسم الذي قبل هذا، والفرق بينهما أنه فعل هاهنا ما يجوز له من بدل ثوبه، وهناك ما لا يجوز من إلقاء القمل عنه.

[مسألة: المتمتع ينصرف إلى مكة فيريد أن يصوم السبعة الأيام بمكة]
مسألة وسئل عن المتمتع بالعمرة إلى الحج ينصرف إلى مكة، فيريد أن يصوم السبعة الأيام بمكة، قال: قال عز وجل: {وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196]

(3/415)


فأرجو أن يكون في سعة، وكأنه رآه من الرجوع.
قال محمد بن رشد: لما قال تعالى: {وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196] وما رجوعك من منى رجوعا، فأجاز له أن يصومها في حال رجوعه إلى بلده في طريقه، وإن كان الاختيار عنده ألا يصومها إلا في بلده، يدل على ذلك قوله، فأرجو أن يكون في سعة، قال في كتاب ابن المواز: إذا رجع إلى أهله أحب إلي ألا يقيم بمكة، وهو معنى قوله في المدونة أيضا، ومن أهل العلم من لم يجز له أن يصومها إلا في بلده، ومنهم من لم ير قول الله عز وجل: {إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196] ، شرطا وجعله توسعة وتخفيفا، مثل قوله عز وجل في الصيام: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] ، فأجاز له أن يصوم العشرة الأيام كلها في الحج، كما يجوز للمريض والمسافر أن يصوم في رمضان، وإلى هذا ذهب ابن حبيب.

[مسألة: المحرم أينشد الشعر]
مسألة وسئل مالك عن الرجل المحرم أينشد الشعر؟ قال: لا، إلا أن يكون الشيء الخفيف، وقلله بيده.
قال محمد بن رشد: الشعر كلام حسنه حسن، وقبيحه قبيح، إلا أن مالكا كره للمحرم الإكثار منه؛ لما فيه من التلهي به، وكفى من عيب الإكثار منه أن الله لم يرضه لنبيه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فقال: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ} [يس: 69] الآية، ولا بأس أن ينشد اليسير منه متمثلا به، قال ابن حبيب: ما لم يكن فيه خنا

(3/416)


وذكر النساء، وقد فعله أبو بكر وابن عباس وغيرهم، وقد أجاز جماعة من السلف أن ينشد المحرم ما فيه التشبب بالنساء، وقال: إنما الرفث المنهي عنه ما روجعن به.

[مسألة: أفاض إلى مكة فطاف بالبيت فلما فرغ سمع الأذان]
ومن كتاب سلعة سماها مسألة وسئل عن رجل أفاض إلى مكة، فطاف بالبيت، فلما فرغ سمع الأذان، هل ترى له أن يقيم حتى يصلي؟ قال: أرجو أن يكون ذلك واسعا إن أقام أو خرج.
قال محمد بن رشد: معنى هذا فيمن أفاض يوم النحر، أو في يوم من أيام منى؛ لأن الاختيار أن يرجع إلى منى يصلي بها الظهر إن كان أفاض في ضحى النهار أو المغرب، إن كان أفاض في آخره، وكذلك فعل رسول الله حين أفاض يوم النحر في صدر النهار، وقد روي أنه أفاض في آخره، وسيأتي هذا في رسم الحج الثاني من سماع أشهب.

[مسألة: يجب عليه المشي إلى الإسكندرية فيسير منها إلى الفسطاط]
مسألة وسئل عن الرجل يجب عليه المشي إلى الإسكندرية، فيسير منها إلى الفسطاط، وهو يريد المشي، فيقيم بالفسطاط شهرا، ثم يريد المشي بعد ذلك، قال: نعم، لا بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن ذلك ليس بتفريق للمشي إذا كان ذلك كله في عام واحد، ولو مشى من الإسكندرية إلى الفسطاط، وهو يريد المشي، فأقام في الفسطاط إلى عام آخر من غير عذر، ثم مشى بعد ذلك

(3/417)


لما أجزاه مشيه على قول ابن حبيب فيمن كان عليه مشي، فركب فيه متعمدا من غير عذر على أن يقضيه في عام آخر، وهو الذي يأتي على ما في المدونة، فيمن مشى فعجز عن المشي، فركب، ثم خرج في عام آخر فمشى ما ركب أنه يهدي؛ لأنه فرق مشيه، إذ لو كان له أن يفرقه من غير عذر لما كان عليه الهدي، إذا فرقه من عذر، إلا أن قوله ليس على أصله فيمن نذر صيام شهر له أن يفرقه إلا أن ينويه متتابعا، فيلزم عليه أن يجزيه المشي، وقول ابن حبيب صحيح على أصله في الصيام، وعليه قاسه، والحمد لله رب العالمين.

[مسألة: الموسم أهو الأسواق أو الحج]
ومن كتاب أوله الشجرة تطعم بطنين في السنة مسألة وسئل عن الموسم أهو الأسواق أو الحج؟ قال: بل هو الحج.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: إن الموسم إذا أطلق، فإنما يقع على الحج وإياه يراد به، وإن كانت الأسواق والمجتمعات كلها مواسم، وإنما سميت مواسم؛ لأن الناس يجتمعون فيها يتقابلون ويتعارفون، قال عز وجل: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ} [الفتح: 29] ، وقال الخليل: الموسم موسم الحج، وإنما سمي موسما؛ لأنه معلم يجتمع إليه، وكذلك كانت مواسم أسواق العرب في الجاهلية.
قال محمد بن رشد: فلو أن حالفا حلف ألا يكلم فلانا في الموسم، حنث إن كلمه في الحج، إلا أن يكون نوى سوقا من الأسواق، وأتى مستفتيا؛ لأن

(3/418)


الموسم قد يعرف بالحج، وقد قرئ: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] في مواسم الحج.

[مسألة: حلفت بالمشي إلى بيت الله فماتت فأراد أولياؤها أن يمشوا عنها]
ومن كتاب ليرفعن أمرا إلى السلطان مسألة وسئل عن امرأة حلفت بالمشي إلى بيت الله فماتت، فأراد أولياؤها أن يمشوا عنها، قال: لو أهدوا هديين كان أحب إلي، فإن لم يجدوا فهديا واحدا، قال سحنون: لا يلزم أولياءها أن يمشوا عنها إلا أن توصي بذلك.
قال محمد بن رشد: مذهب مالك أنه لا يحج أحد عن أحد، ولا يمشي أحد عن أحد؛ لأن ذلك من أعمال الأبدان قياسا على ما أجمعوا عليه في الصلاة، إلا أنه يقول: إن أوصى بذلك نفذت وصيته بالحج لما جاء في ذلك، عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، ولم ينفذ في المشي، وأهدي عن الموصي هديين، قاله هاهنا، وفي رسم حلف بعد هذا، وفي المدونة هدي للمشي، وهدي لما يكون فيه المشي؛ إذ لا يكون إلا في حج أو عمرة، وفي سماع سحنون من هذا الكتاب لابن القاسم إذا أوصى أن ينفذ عنه ما يجب عليه في المشي الذي نذر، يهدي عنه بقدر الكراء، والنفقة هدايا إلى مكة، ولا يمشي عنه، ونحوه في سماع أشهب من كتاب النذور، وذهب سحنون إلى أنه تنفذ وصيته في الحج، وفي المشي قياسا على الحج، وهو قوله هاهنا، وابن كنانة لا يرى أن تنفذ وصيته في الحج، ولا في المشي، ويهدى عنه بقدر النفقة في ذلك هدايا، أو يتصدق بذلك عنه، وقول ابن كنانة القياس على المذهب في أنه ليس من البر أن يحج أحد عن أحد، وإنما ينفذ من الوصايا ما فيه بر وقربة، إلا أن من أصل مذهب مالك مراعاة الخلاف، وهو استحسان، واستحب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رسم باع غلاما بعبد، هذا لمن وعد أباه أن

(3/419)


يمشي عنه أن يفي عنه بما وعده به من ذلك من ناحية وجوب الوفاء بالعهد في الجائزات.

[مسألة: يقبل الحجر ويسجد عليه]
مسألة وسأله ابن وهب فقال: إن بعض الصحابة كان يقبل الحجر ويسجد عليه، وإن أهل مكة ينكرون ذلك، فأنكر ذلك إنكارا شديدا، وقال: الذي سمعناه القبلة.
قال محمد بن رشد: قد روي ذلك عن عمر بن الخطاب، وابن عباس، ولم يصح ذلك عند مالك، فأنكره ورآه بدعة، إذ لو كان من السنة، ومما فيه قربة لا تصل به العمل، وعرف ذلك واشتهر، وذهب ابن حبيب إلى ما روي من ذلك عنهما، وقال: ما أرى كراهية مالك لذلك إلا في الفتوى خيفة أن يرى واجبا، فلا بأس به للرجل في خاصة نفسه، والأول من قوليه أظهر.

[مسألة: أحرم يوم التورية وهو متمتع أيصوم يوم عرفة]
مسألة وسئل عمن أحرم يوم التورية، وهو متمتع أيصوم يوم عرفة؟ قال: لا بأس به، ويعني بذلك، ويصوم يومين من أيام التشريق.
قال محمد بن رشد: هذا على أصله في أن صيام الثلاثة الأيام في الحج والسبعة بعد الرجوع لا يلزم متابعة شيء من ذلك، وعلى ما ذهب إليه ابن حبيب أن الثلاثة الأيام متتابعات، لا يجوز له صيام يوم عرفة من أجل فطر يوم النحر بعده، فيصوم الثلاثة الأيام على مذهبه بعد يوم النحر، فيفطر يوم النحر، ثم يصوم بعد ذلك، وإنما كان له أن يصوم بأيام منى مع ما جاء من الأمر بفطرها من أجل أن الله أوجب عليه صيام الثلاثة الأيام في الحج بقوله:

(3/420)


{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 196] ، وروي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من رواية ابن عمر أنه قال في المتمتع إذا لم يجد هديا، ولم يصم أيام العشر، أنه يصوم أيام التشريق، فكان ذلك مخصصا لما جاء عنه من الأمر بفطرها، وقد اختلف فيمن يجب عليه صيامها في الحج على أربعة أقوال؛ أحدها: أن الذي يجب ذلك عليه المتمتع والقارن خاصة، وهو قول أصبغ قال: ولا يجب الصيام في الحج على غيرهما ممن أفسد الحج أو فاته الحج وشبههم، إلا استحسانا لا إيجابا. والثاني: أن الذي يجب ذلك عليه المتمتع والقارن والمفسد لحجه، والذي فاته الحج هؤلاء الأربعة لا غير، وهو قول ابن القاسم في العشرة. والثالث: أن ذلك يجب على هؤلاء الأربعة، وعلى كل من وجب عليه الهدي لشيء تركه من أمر الحج من يوم إحرامه به إلى يوم وقوفه بعرفة. والرابع: أن ذلك يجب على هؤلاء الأربعة، وعلى من ترك من الحج ما يوجب عليه الهدي كان ذلك قبل الوقوف بعرفة أو بعد الوقوف بها من ترك النزول بالمزدلفة، أو ترك رمي جمرة العقبة، أو جمرة من جمرات أيام منى، وهذان القولان الثالث والرابع قائمان من المدونة، وفائدة هذا الاختلاف هل لمن فاته الصيام من حين أحرم إلى يوم عرفة أن يصوم أيام التشريق أم لا؟ فمن أوجب عليه أن يصوم الثلاثة الأيام في الحج أوجب عليه أن يصومها في أيام التشريق، إذا لم يصمها قبل ذلك؛ لأنها من أيام الحج بعد، ومن لم يوجب عليه أن يصومها في الحج لم يجز له أن يصومها في أيام التشريق للنهي عن صيامها، كل على مذهبه، فإن وجب عليه الهدي على القول الرابع من ترك الرمي في اليوم الأول أو الثاني من أيام التشريق، فدم يجده صام بقية أيام التشريق، وأبو حنيفة لا يجيز صيام منى لمتمتع ولا غيره، قياسا على ما أجمعوا عليه في يوم النحر.

(3/421)


[مسألة: محل الشعائر كلها وانقضاؤها إلى البيت العتيق]
مسألة قال مالك: قال الله عز وجل: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32] عرفات، والمزدلفة، والصفا والمروة، فمحمل الشعائر في البيت العتيق.
قال محمد بن رشد: تأول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الشعائر في هذه الآية مناسك الحج على ما ذكر، فالمنافع التي ذكر الله تعالى بقوله: {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ} [الحج: 33] على تأويله، هو العمل لله بما أمر فيها من عمل الحج، والأجل المسمى هو انقضاء أيام الحج، وقيل المنافع فيها الأسواق بها والتجارات فيها، والأول أظهر؛ لقوله عز وجل: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 33] ، أي محل الشعائر كلها وانقضاؤها إلى البيت العتيق بالطواف به، كما قال عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا يصدرن أحد من الحاج حتى يطوف بالبيت، فإن آخر المنتسك الطواف بالبيت، فقد تأول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في موطاه على عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال ذلك من هذه الآية، وأما قوله عز وجل: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج: 29] الآية، فإنه الطواف الواجب لا طواف الوداع، وقد تأول أن الشعائر المذكورة في الآية هي البدن، وأن المنافع التي لنا فيها ركوبها ونتاجها وألبانها، إلى أجل مسمى، وهو إيجابها بدنا، وقيل: إن المنافع ركوبها بعد إيجابها هدايا عند الحاجة إلى ذلك،

(3/422)


والأجل المسمى هو وقت نحرها، ومحلها الحرم الذي فيه البيت العتيق، وقد تأول أن المراد بالشعائر في الآية مناسك الحج والبدن جميعا.

[مسألة: الثوب يصيبه الدهن هل يحرم فيه]
مسألة وسئل مالك عن الثوب يصيبه الدهن هل يحرم فيه؟ قال: نعم، لا بأس به، قال ابن القاسم: إلا أن يكون مسكا أو عنبرا.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن الأدهان التي لا طيب فيها يجوز للمحرم أن يأكلها ويدهن بها يديه ورجليه من شقوق بهما، لا ليحسنهما، وهي لا تحسن الثوب بحال إذا أصابته، بل توسخه، فلا بأس بالإحرام فيه كما قال.

[مسألة: للمحرم الماشي إذا هبط من بطن وادي محسر أن يسعى على قدميه]
مسألة قال مالك: أحب للمحرم الماشي إذا هبط من بطن وادي محسر أن يسعى على قدميه مثل ما يصنع الراكب، ويدعو بعرفات قائما، فإن أعيا جلس.
قال محمد بن رشد: بطن محسر ما بين مزدلفة ومنى، ويستحب للحاج أن يوضع فيه، ولا يجوزه حتى تطلع الشمس، وكان ابن عمر يحرك ناقته فيه قدر رمية بحجر، فاستحب للماشي أن يصنع من ذلك ما يفعل الراكب، والاختيار أن يقف بعرفات راكبا، وكذلك فعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإن لم يكن راكبا دعا قائما، فإن أعيا جلس كما قال.

[مسألة: المحرم يطأ جاريته وهي محرمة]
مسألة وسئل مالك عن المحرم يطأ جاريته وهي محرمة، قال: أرى

(3/423)


أن يُحجَّها من قابل، ويُهدي عنها هديا، قال لي ابن القاسم: أكرهها أو لم يكرهها؛ لأن الأمة ليست في الاستكراه مثل الحرة.
قال محمد بن رشد: جعلها ابن القاسم في حكم المكرهة، وإن كانت طائعة لقدرته على إكراهها لو امتنعت لملكه إياها، وهو قوله وروايته عن مالك في كتاب ابن الماجشون، وذلك عليه وإن باعها، قال ابن المواز: وذلك عيب فيها يردها به المشتري إن شاء، وذلك نحو قوله في رسم نقدها، من سماع عيسى، من كتاب النكاح، في الذي تزوج امرأة، فأدخلت عليه جارية امرأته فوطئها، وهو لا يعلم أنه لا حد عليه وعلى الجارية، خلاف قول ابن الماجشون في الذي زوج ابنته رجلا، فحبسها وأرسل إليه بأمته فوطئها، أنها تحد إلا أن تدعي أنها ظنت أنها زوجت منه، فيأتي على قول ابن الماجشون أنه ليس عليه أن يُحجَّها إن كانت طائعة، ويكون ذلك عليها إذا عتقت.

[مسألة: المحرم يشتري الجارية فيقلبها لنفسه أو لبعض ولده]
مسألة وسئل مالك عن المحرم يشتري الجارية فيقلبها لنفسه أو لبعض ولده، قال مالك: لا أحب للمحرم أن يقلب جارية للابتياع وهو محرم.
قال محمد بن رشد: هذا يدل على أنه أن له أن ينظر في التقليب إلى معصميها وساقيها وصدرها، وهو دليل قوله في كتاب الخيار من المدونة؛ لأن الرقيق قد يجرد في الشراء، فكره ذلك له مخافة أن تعجبه فيلتذ بها، فيتراقى به الأمر إلى ما ينقص أجره أو يفسد حجه، أو يوجب عليه الهدي، وفي رسم طلق، من سماع ابن القاسم، من كتاب جامع العيوب، أنه لا ينظر

(3/424)


عند التقليب إلى وجهها وكفيها، ويخبر عنها كما يخبر عن المرأة التي يتزوجها، فهذا القدر مما لا يتعلق به كراهية في حال الإحرام.

[مسألة: المحرم يؤذيه الغبار أو الجيفة يمر بها أيضع يده على أنفه]
مسألة وسئل مالك عن المحرم يؤذيه الغبار أو الجيفة يمر بها، أيضع يده على أنفه؟ قال: نعم، قال ابن القاسم: واستحب له إذا مر على طيب أن يضع يده على أنفه.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قالا؛ إذ لا قربة للمحرم في استنشاق الغبار والروائح القبيحة في إحرامه، فجائز له أن يضع يده على أنفه، وقد قال في رسم الحج الثاني، من سماع أشهب: إني لأرجو ألا يكون بذلك بأس، فكأنه رأى ترك ذلك أحسن، فعبارته هاهنا أحسن، وهو متعبد فيه، أعني في إحرامه، فيجتنب الطيب، فيكره له أن يشمه وإن لم يمسه، وقد قيل: إن الفدية تجب عليه في شمه وإن لم يمسه.

[مسألة: يطوف بالبيت ويركع ثم يمرض فلا يستطيع أن يسعى]
مسألة وسئل مالك عن الذي يطوف بالبيت ويركع، ثم يمرض فلا يستطيع أن يسعى حتى ينتصف النهار، فكره أن يفرق بين الطواف والسعي، قال ابن القاسم: فإن أصابه ذلك افتدى.
قال محمد بن رشد: تكررت هذه المسألة في رسم حلف بعد هذا، ولم يفرق فيها بين أن يكون بطهر واحد أو بغير طهر واحد، كما فرق في سماع أشهب، وهذا أظهر؛ لأن السعي بين الصفا والمروة يجوز على غير طهارة، فلا وجه لاعتبار الطهر الواحد في ذلك، وأوجب ابن القاسم هنا على من

(3/425)


أصابه ذلك الفدية، ولم يقل: إنه يعيد إن كان قريبا كما قال في سماع أشهب، وهو معناه إن شاء الله، فإن ذكر بالقرب قبل أن يحلق فأعاد الطواف والسعي ثم حلق؛ فلا هدي عليه، وإن ذكر بالقرب وقد حلق أعاد الطواف والسعي والحلاق، وكان عليه الذبح بسبب الحلق قبل تمام العمرة.

[مسألة: يدفع من عرفة فيصيبه أمر يحتبس فيه فلا يصل إلى المزدلفة]
مسألة وسئل مالك عن الرجل يدفع من عرفة فيصيبه أمر يحتبس فيه من مرض أو غيره، فلا يصل إلى المزدلفة حتى يفوته الوقوف بها، قال: أرى أن يهريق دما.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن الوقوف بالمشعر الحرام من مناسك الحج وسنته، وليس من فرائضه عند مالك، فيجزي عنه عنده الهدي، وذهب ابن الماجشون إلى أنه من فرائض الحج لا يجزي عنه الهدي؛ لقوله عز وجل: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 198] ، والدليل على أنه غير واجب، تقديم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضعفة أهله بليل من المزدلفة إلى منى، فلم يقفوا بالمشعر الحرام، ولو كان الوقوف به واجبا لما قدمهم، كما لم يقدمهم من عرفة؛ إذ الوقوف بها ليلا من فرائض الحج؛ لأن الدفع من مزدلفة إلى منى أخف من الدفع من عرفة إلى المزدلفة، فتقديمهم في الأخف دون الأثقل دليل على سقوط وجوب الوقوف بالمشعر الحرام.

[مسألة: ما يقول في التلبية من أراد أن يقرن بين الحج والعمرة]
مسألة قال مالك: الصواب فيمن أراد أن يقرن بين الحج والعمرة إذا أحرم بالتلبية أن يقول: لبيك بعمرة وحجة، يبدأ بالعمرة قبل الحجة، هذا وجه الصواب فيه.

(3/426)


قال محمد بن رشد: يريد أنه يقدمها في نيته قبل الحجة، لا أنه يتكلم بذلك؛ إذ النية تجزي في ذلك عنده كالصلاة، ولا يحتاج ذلك إلى الكلام، ومثل هذا في الحج الأول في المدونة، وهو ما لا اختلاف فيه في المذهب.

[مسألة: الارتجاز في الرمل]
مسألة وسئل عن قول عروة: لا إله إلا أنت، وأنت تحيي بعد ما أمت، قال: ليس عليه العمل، هذا أمر قد ترك.
قال محمد بن رشد: كان عروة يقول ذلك في رمله الأشواط الثلاثة بالبيت، وروي عن ابن عمر أنه كان يقول في ذلك: اللهم اغفر وارحم، وتجاوز عما تعلم؛ إنك الأعز الأكرم، فقول مالك ليس عليه العمل، يريد ليس العمل على الارتجاز في الرمل؛ لأنه أمر قد ترك العمل به، فليس ذلك مما يستحب به، بل المستحب ألا يقصد إلى الرجز، ويذكر الله بما أمكنه وتيسر عليه من تهليله، وتعظيمه، وحمده، والثناء عليه، والرغبة إليه.

[مسألة: قدم الإحرام على التقليد والإشعار]
مسألة وسئل مالك عن البدنة متى تشعر؟ قال: تشعر وتقلد قبل أن يصلي الرجل بذي الحليفة، ثم يصلي ويحرم.
قال محمد بن رشد: قوله: تشعر وتقلد؛ لأن التقليد قبل الإشعار في الاختيار، وهذا مثل ما في المدونة، وهو الشأن والاختيار، وليس في ذلك إلا الاتباع، فإن قدم الإحرام على التقليد والإشعار، أو على أحدهما أو قدم الإشعار على التقليد، فلا حرج عليه في شيء من ذلك كله ولا دم، وإنما اختير

(3/427)


تقديم التقليد والإشعار على الإحرام؛ لئلا يشتغل بذلك بعد الإحرام، واختير تقديم التقليد على الإشعار؛ لأنها قبل الإشعار أمكن، فتقليدها حينئذ أمكن، إذ قد يحدث الإشعار فيها تصعبا.

[مسألة: يقال إن النبيذ الذي يعمل في السقاية من السنة]
ومن كتاب طلق بن حبيب مسألة وقال لمالك رجل من الحجبة: إنه يقال: إن النبيذ الذي يعمل في السقاية من السنة، فقال: لا والله، يريد ما هو من السنة، قيل لمالك: إنه قد كان على عهد أبي بكر وعمر، قال: ما كان على عهدهما، ولو ذكرت لكلمت أمير المؤمنين حين قدم علينا فيه، يقول: ليقطعه، فكرهه كراهية شديدة.
قال محمد بن رشد: وقد أنكر مالك أن يكون ذلك من السنة وأقسم على ذلك، وأنكر أن يكون على عهد أبي بكر وعمر، فكفى بقوله في ذلك حجة، فاتباع رأيه في ذلك صواب ورشاد؛ لأن الرشد في اتباع السنن والأمر الماضي.

[مسألة: يطلع منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بخفين]
مسألة قال مالك: استشارني بعض ولاة المدينة أن يطلع منبر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بخفين، فنهيته عن ذلك، ولم أر أن يطلعه بخفين، فقيل له فالكعبة؟ فقال: إن بعض الحجبيين ممن قدم علينا يذكر أن النبي نهى أن تطلع الكعبة بنعلين، فقيل له: فالرجل يجعلهما في حجرته؟ قال: لا بأس بذلك.

(3/428)


قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في المدونة من كراهية أن يطلع أحد منبر النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بخفين أو نعلي الإمام أو غير الإمام، وأن يدخل البيت بنعلين أو خفين إكراما لهما، وترفيعا وتعظيما؛ إذ من الحق أن ينزها عن أن يوطئا بالخفاف والنعال المتخذة لصيانة القدمين عن المشي بهما في الطريق والمحاج، وإن كانت طاهرة، ولم ير ابن القاسم بأسا في المدونة أن يدخل بهما في الحجر، وكره ذلك أشهب في المجموعة؛ لأن الحجر من البيت، قال: وكراهيتي لذلك في البيت أشد.

[مسألة: شرب الفلونيا والترياق للمحرم وفيهما الزعفران]
مسألة وسئل مالك عن شرب الفلونيا والترياق للمحرم وفيهما الزعفران، قال: لا بأس به، قال: والذي فيه من الزعفران ليس له قدر، وما أرى به بأسا.
قال محمد بن رشد: أجاز ذلك؛ لأن الذي فيهما من الزعفران يسير لا قدر له ولا يظهر فيهما، فلم ير له حكما لما كان مستهلكا فيهما، كما أن لبن المرأة عنده إذا خلط بالطعام وعصد به حتى صار هو الغالب عليه لم تقع به حرمة، فليس ذلك بخلاف لما في المدونة وغيرها من أن الحرم لا يأكل فيه الطعام الذي فيه الزعفران، إلا أن يكون قد مسته النار، قال ابن حبيب: فتعلك بالطعام حتى لا يصبغ اليد ولا الشفة، زاد في هذه الرواية في هذا الرسم من الجامع، قال مالك حين ذكر شرب الترياق للمحرم، أشد من هذا عندي ما يصيب الناس في إحرامهم من طيب البيت فكرهه، كأنه يرى أن له

(3/429)


في ذلك سعة، وأنه أمر لا يستطاع يقول: وكيف يصنعون وسياق مالك هذه المسألة عليها يدل على أنه إنما لم ير على المحرم في شرب الفلونية والترياق شيئا؛ لأنهما إنما يشربان لضرورة التداوي، بخلاف الطعام الذي يؤكل لغير ضرورة، فهي علة أخرى أيضا في الفرق بين ذلك وبين ما في المدونة.

[مسألة: المعتمر أيحلق أحب إليك أم يقصر]
مسألة وسئل عن المعتمر أيحلق أحب إليك أم يقصر؟ قال: بل يحلق إلا أن تكون أيام الموسم، ويتقارب الحج مثل الأيام اليسيرة، فلا أرى أن يحلق، ويقصر أحب إلي.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: إن الحلاق أفضل من التقصير؛ لأن الله بدأ به في كتابه: {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح: 27] ، «ودعا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للمحلقين ثلاثا، وللمقصرين واحدة» ، إلا أن يقرب الحج؛ فالتقصير في العمرة أفضل ليبقى عليه الشعث في الإحرام بالحج، وليبقى له ما يحلق فيه، وهو بين.

[مسألة: نفست أو حاضت قبل أن تطوف طواف الإفاضة]
مسألة قال مالك: أرى أن يحبس كري النفساء إذا نفست كما يحبس في الحيضة في الحج والعمرة.
قال محمد بن رشد: يريد إذا نفست أو حاضت قبل أن تطوف طواف الإفاضة، يحبس عليها في النفاس ستين يوما أقصى دم النفاس، واستحسن في سماع أشهب أربعين في الطب، واختلف في الحيضة إن تمادى بها الدم، فقيل: يحبس عليها خمسة عشر يوما، وهو قول مالك في سماع أشهب، وفي الحج الثالث من المدونة أنه يحبس عليها أيامها المعتادة والاستطهار، ظاهره

(3/430)


تطوف إن تمادى بها الدم، وتكون في حكم المستحاضة؛ تصلي وتصوم وتطوف ويأتيها زوجها ... أبي زيد أنها لا تطوف ولا يحبس عليه كريها أكثر من ذلك، فيفسخ الكراء بينها وبينه، وذلك يتأتى على رواية ابن وهب عن مالك في المدونة أن الاستطهار بثلاث إنما هو احتياط للصلاة، وليست مستحاضة حتى تبلغ خمسة عشر يوما، فتغتسل على هذا بعد الاستطهار استحسانا، وتصلي ولا تطوف، ولا يأتها زوجها وتصوم، ثم تقضي الصيام ما بينها وبين الخمسة عشر يوما ما خلاف العشر يوما اغتسلت غسلا ثانيا واجبا، وكانت من حينئذ مستحاضة في حكم الطاهر في أمرها كله، إلا ما يستحب لها من الوضوء لكل صلاة، ومن أهل العلم من يوجب عليها الغسل لكل صلاة، ومنهم من يوجب عليها أن تغتسل للصبح غسلا، وللظهر والعصر غسلا، وللمغرب والعشاء غسلا، ومنهم من يوجب عليها أن تغتسل من ظهر إلى ظهر، وتتوضأ لكل صلاة، وهو قول سعيد بن المسيب في الموطأ.

[مسألة: دخل بعمرة فطاف وسعى ولم يحلق فأراد دخول البيت]
ومن كتاب أوله أخذ يشرب خمرا مسألة وسئل عن رجل دخل بعمرة، فطاف وسعى ولم يحلق، فأراد دخول البيت أن يحلق، قال: لا يعجبني ذلك أن يفعله حتى يحلق، ولا يقرب البيت حتى يحلق ولا يطوف.
وهذا كما قال؛ لأن الحلاق هو تمام العمرة، فإذا طاف

(3/431)


قبله أو دخل البيت، فكأنه قد زاد في العمرة، وأدخل فيها ما ليس منها.

[مسألة: الذكر والأنثى من الإبل في الهدايا سواء]
ومن كتاب يسلف مسألة قال مالك: لا أرى بأسا بالجمل الذكر يشترى بدنة، الذكر في ذلك والأنثى سواء، قال عز وجل: {وَالْبُدْنَ} [الحج: 36] لم يقل الإناث، ولا أرى به بأسا أن يشتري ذكرا في وصية، أو تطوع، أو غير ذلك.
قال محمد بن رشد: ذهب مالك إلى أن الذكر والأنثى من الإبل في الهدايا سواء، وأن الذكر منها يسمى بدنة كما تسمى الأنثى بدنة؛ لأن ذلك إنما أخذه من عظم البدن، وقد تسمى البقرة بدنة؛ لأنها أعظم بدنا من الشاة، ولا اختلاف بين الفقهاء في أنه يجوز أن يهدي الجمل الذكر، فقد أهدى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جملا كان لأبي جهل ابن هشام في حج أو عمرة، إلا أن من أهل العلم من لا يراه بدنة ولا داخلا تحت قوله عز وجل: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا} [الحج: 36] الآية، ومنهم من يراه بدنة، ويرى أن الأنثى أفضل ولا فضل عند مالك للأنثى في ذلك على الذكر، وإنما الفضل عنده في الأعظم بدنا، ذكرا كان أو أنثى، ودليله الذي استدل به من ظاهر القرآن ظاهر، وبالله التوفيق.

[مسألة: المتمتع يصوم ثلاثة أيام في الحج ثم يهلك قبل أن يصوم السبعة]
مسألة وقال مالك في الرجل المتمتع يصوم ثلاثة أيام في الحج، ثم

(3/432)


ينصرف إلى بلده، فيهلك قبل أن يصوم السبعة، قال: سواء مات ببلده أو بمكة، أرى أن يهدى عنه هدي.
قال محمد بن رشد: هو لو وجد الهدي بعد أن صام الثلاثة الأيام قبل أن يموت، لم يجب عليه الهدي إلا أن يشاء، وإنما عليه الصيام، فإنما قال مالك: أرى أن هذا استحباب، من أجل أنه لا يصوم أحد عن أحد، والله أعلم.

[مسألة: شأنه أكل أظفاره وشعر لحيته فيفعل ذلك وهو محرم]
مسألة وسئل مالك على الذي من شأنه أكل أظفاره وشعر لحيته، فيفعل ذلك وهو محرم، قال: أرى أن يفتدي بصيام ثلاثة أيام، أو نسك شاة، أو إطعام ستة مساكين يريد بذلك فيما أظن، وإن كان مرارا.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأنه في معنى قص أظفاره وشعر لحيته بالجلمين؛ لأنه مميط بذلك الأذى عن نفسه بالحالتين.

[مسألة: السعي بين الصفا والمروة يحتاج صاحبه إلى بول أو خلاء]
مسألة وسئل مالك عن السعي بين الصفا والمروة يحتاج صاحبه إلى بول أو خلاء، فيخرج فيبول أو يقضي حاجته ثم يرجع، أيبني أم يستأنف؟ قال: بل يبني.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في المدونة، وإنما أجاز له أن يبني بخلاف الصلاة؛ لأن السعي بين الصفا والمروة ليس من شرط صحته الطهارة، فإذا احتاج إلى الحدث أحدث وبنى، ولم يستأنف.

(3/433)


[مسألة: الصبية يحج بها أتحلق]
مسألة وسئل عن الصبية يحج بها أتحلق؟ فقال: ما شاءوا، إن شاءوا حلقوا، وإن شاءوا جزوا، ذلك شأن الصبيان، وأما النساء فإنهن لا يحلقن ويقصرن.
قال محمد بن رشد: إنما لم يحلق النساء؛ لأن الحلق لهن مثلة بهن، وأما الصبية الصغيرة التي لا يشينها الحلق، فهي في حكم الصبيان الذكور، إن شاءوا حلقوا، وإن شاءوا جزوا للرفق بهم، وإذا قيل: إنهم لا يثابون على الطاعات كما لا يؤاخذون على المعاصي، وأما الرجال فالحلق لهم أفضل في الحج والعمرة، إلا أن يكون العمرة قبل الحج بيسير، على ما مضى في رسم طلق قبل هذا.

[مسألة: حج النساء في البحر]
مسألة وسئل مالك عن حج النساء في البحر فكره ذلك، وقال: لا أحب لهن أن يحججن في البحر، وعابه عيبا شديدا.
قال محمد بن رشد: إنما كره من ناحية الستر، مخافة أن ينكشفن؛ لأنهن عورة، وهذا إذا كن في معزل عن الرجال لا يخالطهن عند حاجة الإنسان، وفي سعة يقدرن على الصلاة، وأما إن لم يكن في معزل عن الرجال، أو كن في ضيق يمنعهن من إقامة الصلاة على سنتها، فلا يحل لهن أن يحججن فيه، وقد قال مالك في رسم الصلاة، من سماع أشهب، من كتاب الصلاة، في الذين يركبون البحر في الحج والعمرة، ولا يقدر أحدهم أن يسجد إلا على ظهر أخيه: أيركب حيث لا يصلي؟ ويل لمن ترك الصلاة، وقد مضى القول

(3/434)


على ذلك هناك، في كراهيته للنساء ركوب البحر في الحج، دليل على جوازه عنده للرجال، وهذا هو الذي يدل عليه قوله عز وجل: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [يونس: 22] الآية؛ لأنه يبعد أن يعدد الله على عباده من نعمه ما حظره عليهم ولم يبحه لهم، ويدل عليه من السنة حديث أنس بن مالك: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نام عند أم حرام، ثم استيقظ وهو يضحك، فقالت: ما يضحكك يا رسول الله؟ فقال: ناس من أمتي عرضوا عليّ غزاة في سبيل الله، يركبون ثبج البحر ملوكا على الأَسِرّة، أو مثل الملوك على الأسرة» ، الحديث، وفي دعاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأم حرام أن يجعلها منهم بسؤالها إياه، ذلك دليل على جواز ركوبه للنساء، وذلك على الصفة الجائزة، وفي المجموعة لمالك من رواية ابن القاسم عنه أنه كره الحج في البحر، إلا لمثل الأندلس الذين لا يجدون من ذلك بُدّا، وقد قيل: إن فرض الحج منسقط عمن لا يقدر على الوصول إلى مكة إلا على البحر؛ لقوله عز وجل: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا} [الحج: 27] الآية؛ إذ لم يذكر إلا هاتين الصفتين، وهو قول شاذ وقول ضعيف؛ لأن مكة ليست في ساحل البحر، فلا يصل أحد إليها إلا راكبا أو راجلا ركب البحر في بعض طريقه، أو لم يركب، وبالله التوفيق.

[مسألة: المرأة تقلد وتشعر]
مسألة وسئل مالك عن قول ابن شهاب في المرأة تقلد وتشعر، قال مالك: أراه خطأ، وقال: لا يقلد ولا يشعر إلا من ينحر، وإني

(3/435)


لأستحب للمرء أن يتواضع لله، ويخضع له ويذل نفسه، كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينحر بدنه، وإن ناسا يأمرون من يذبح لهم يريد بذلك أهل الطول، ويعيب ذلك عليهم، قيل: يا أبا عبد الله، فلو أن امرأة اضطرت إلى أن تأمر جاريتها تقلد وتشعر، قال مالك: إذا اضطرت إلى ذلك رأيت ذلك مجزيا عنها، ولا أرى للمرأة أن تقلد وتشعر، وهي تجد رجلا يقلد لها ويشعر.
قال محمد بن رشد: لما نحر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بدنه بيده، ولم ينحر أزواجه عن أنفسهن، بل نحر عنهن كان في ذلك ما قد دل على أن المرأة لا تذبح ولا تنحر، إلا أن تضطر إلى ذلك، والتقليد والإشعار من ناحية النحر، فلا ينبغي للمرأة أن تفعل ذلك إلا من ضرورة، فإن فعلته من غير ضرورة، كانت قد أساءت وأكلت ذبيحها، وهذا مما لا اختلاف فيه أحفظه.

[مسألة: مشى عن أحد وحج عن نفسه وهو صرورة]
مسألة وقال فيمن مشى عن أحد وحج عن نفسه وهو صرورة، أجزأت عنه حجته الفريضة، ولم يضره مشيه الذي مشى عن أحد، قال ابن القاسم: إنه لا يمشي أحد عن أحد، ولأنه في مشيه عن نفسه الذي ينبغي له أن يقضي الذي هو أتمهما إذا أشرك معه غيره، وقد كان في هذا كلام، فسئل عنه مالك عاما بعد عام، فثبت لنا على هذه أنه يقضي حجة الإسلام، ويكون مشيه لنذره.
قال محمد بن رشد: قال: إنه إذا حج عن نفسه ومشى عن غيره يجزيه حجه عن نفسه، ولا يضره مشيه عن غيره، من أجل أنه لا يمشي أحد

(3/436)


عن أحد كما قال ابن القاسم، وفي قوله: ولأنه في مشيه في نفسه الذي ينبغي له أن يقضي الذي هو أتمهما؛ يريد بذلك الذي هو أوجبهما، وقوله: إذا أشرك معه غيره يريد إذا أشرك مع النذر الحج في النية بمشي، يريد حجه ونذره أن الذي ينبغي له أن يقضي الحج، ويجزيه الحج الذي حج عن النذر، وأما الإشكال في المعنى فسياقه ذلك على سبيل الحجة لمالك، في الذي مشى عن غيره وحج عن نفسه؛ لقوله: ولأنه في مشيه إلى آخر قوله، وليس في ذلك حجة، وموضع الحجة إنما هو في قوله بعد ذلك: وقد كان في هذا كلام، أي اختلاف، يقول: فإذا كان من أهل العلم من يقول: إنه يجزيه الحج عن الفريضة، وإن نوى معه النذر الذي هو واجب عليه، فكيف يصح لقائل أن يقول: إنه لا يجزيه إذا نوى معه المشي عن أحد الذي ليس بواجب عليه، ولا جائز له فعله أيضا، هذا إغراق، وبُعد عن الصواب، والاختلاف فيمن حج يريد نذره أوله فرضه جار على الاختلاف في الحج، هل على الفور أو على التراخي، يقوم من قول مالك في هذه المسألة: إنه على التراخي، وقد روى عبد المالك، عن مالك فيمن حج لفرضه ونذره بطلا جميعا، وبالله التوفيق.

[مسألة: رمى الجمار فنسي في الأولى حصاة]
مسألة وسئل مالك عمن رمى الجمار، فنسي في الأولى حصاة، قال: يرجع فيرمي الأولى بالحصاة التي نسي، ثم يرمي الأخريين بسبع سبع، فقيل لمالك: فالذي ينسى حصاة لا يدري من أيتهن هي؟ قال مالك: يبتديهن كلهن بسبع سبع، ليس هو عندي مثل هذا، وفي

(3/437)


رواية عيسى بن دينار قال: يرمي الأولى بحصاة، ثم الأخريين بسبع سبع، قال ابن القاسم: هو أحب قوله إلي.
قال محمد بن رشد: وجه هذا القول الذي اختاره ابن القاسم البناء على اليقين قياسا على الصلاة؛ لأنه إذا شك في حصاة لا يدري من أي جمرة هي، فقد أيقن أنه رمى الجمرة الأولى بست حصيات، وشك في السابعة، فيرميها لتخلص له سبع حصيات يقينا، ثم يعيد الجمرتين للرتبة، ووجه القول الأول أنه إن بنى في الجمرة الأولى على اليقين، ولم تكن الحصاة التي بنى منها، كان قد رماها بثمان حصيات، والسنة أن يرمي بسبع، ولا يقاس ذلك على الصلاة في البناء على اليقين؛ لأن فيها سجود السهو، وذلك يشفع له الركعة التي أتى بها إن كانت زائدة كما جاء في الحديث، فهذا القول أظهر، والله الموفق.

[مسألة: الرجل من الشام أو مصر يقلد ويشعر بذي الحليفة ويؤخر إحرامه]
ومن كتاب أوله حلف بطلاق امرأته ليرفعن أمرا مسألة وسئل مالك عن الرجل من أهل الشام، أو من أهل مصر يقلد ويشعر بذي الحليفة، ويؤخر إحرامه حتى يأتي الجحفة، قال: لا يفعل ذلك، وكرهه.
قال محمد بن رشد: هذا نص ما في كتاب الحج الثاني من المدونة، والأمر في ذلك واسع، وقد روى داوود بن سعيد، عن مالك أنه لا بأس بذلك، وإن كان أحب إليه أن يقلد ويشعر عندما يحرم، فالاختيار عند مالك لمن أراد أن يحرم ألا يقلد ويشعر عند إحرامه، وأما من لم يرد أن يحرم، وبعث بهدي، فليس عليه أن يحرم عندما يقلد الهدي ويشعر، خلافا لما روي عن ابن عباس من أنه قال: من أهدى هديا حرم عليه ما يحرم على الحاج حتى ينحر الهدي، وقد «قالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: ليس كما قال ابن عباس: أنا فتلت قلائد هدي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بيدي، ثم قلدها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

(3/438)


بيده، ثم بعث بها، فلم يحرم شيء مما أحله الله له حتى نحر الهدي» ، وقد أنكر ذلك عبد الله بن الزبير على من فعله، وقال: بدعة ورب الكعبة.

[مسألة: نحر قبل أن يطلع الفجر بمنى]
مسألة وقال: من نحر قبل أن يطلع الفجر بمنى، فليعد النحر.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في المدونة وغيرها، وهو أمر لا اختلاف فيه في المذهب أن من رمى أو نحر قبل طلوع الفجر من يوم النحر فلا يجزيه، فإن رمى ونحر بعد طلوع الفجر أجزأه، والاختيار أن يفعل ذلك كله بعد طلوع الشمس ضحى، وكذلك فعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وذهب الشافعي إلى أن من رمى قبل الفجر بعد نصف الليل أجزأه، واستدل بما روي «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واعد أم سلمة أن توافيه صلاة الصبح يوم النحر بمكة» ، قال: ولا يمكن أن توافيه صلاة الصبح يوم النحر بمكة إلا وقد رمت قبل الفجر؛ لبعد ما بين الموضعين، وهو حديث غير صحيح؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غداة يوم النحر إنما كان بمنى لا بمكة، وعندي أنه يحتمل أن يتأول الحديث على أن فيه تقديما وتأخيرا، وتقديره أنه واعدها يوم النحر أن توافيه صلاة الصبح بمكة يريد من الغد، فيستقيم الحديث، ويبطل احتجاج الشافعي به، وذهب أبو حنيفة إلى أنه من رمى قبل طلوع الشمس لم يجزه الرمي، وحجته ما روي: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث ضعفة أهله ليلا من جمع، وقال لهم: لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس» ، وهذا لا حجة فيه؛ لأنه يحتمل إن صح ذلك أن يكون معناه على الأمر بما هو أفضل؛ إذ قد روى غيره: «لا ترموا الجمرة إلا مصبحين» ، والإصباح يكون قبل طلوع الشمس، وهذا هو الأظهر، أنه لما قدمهم بليل خشي أن يأتوا الجمرة قبل الإصباح، فنهاهم إن وصلوا إليها قبل الإصباح أن يرموها إلا مصبحين، والله أعلم.

(3/439)


[مسألة: لبس المحرم الخاتم]
مسألة وسئل مالك عن محرم جعل صدغين، فقال: أرى عليه الفدية، وإن عصب رأسه افتدى، قيل: إن التعصيب يعقد، وإن الصدغين لا يعقد فيهما؟ قال: هو من ناحية العقد.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في المدونة في الحج الأول في الصدغين، وفي الحج الثاني في التعصيب، زاد في مسألة الصدغين، وكذلك إن كانت به قروح، فألصق بها الخرق فعليه الفدية، إلا أن تكون الخرق صغارا، وزاد في مسألة التعصيب أن الجسد والرأس سواء، عصب على رأسه من صداع أو جراح، أو على بعض رأسه من جرح أو جراح، أو فعل ذلك لغير علة، عليه الفدية في ذلك كله، وكذلك قال فيما يأتي في هذا الرسم في الذي يعصب على ذكره عصابة، وهو محرم للبول أو المذي، وإنما وجب عليه الفدية في ذلك؛ لأنه نفى الشعث عن الجسد بثوبه عليه، قياسا على لباس المخيط، وقد قيل: إنه في ذلك لا فدية في ذلك؛ لأنه يدخل في معنى النهي عن لباس المخيط، وهو قوله في مختصر ما ليس في المختصر: إن من أصاب إصبعه شيء فجعل، عليه حناء، ولف عليه خرقة، فلا شيء عليه، ولبس المنطقة من هذا المعنى، فتفرقته فيها بين أن يلبسه باختيار أو ضرورة حرز نفقته قول ثالث، وهذا كله في الرجل، فأما المرأة فلا فدية عليها في شيء من ذلك؛ لأن لباس المخيط لها جائز في إحرامها، ومن هذا المعنى لباس الخاتم، وتقلد السيف قيل: إنه من اللباس، ففيه الفدية، وقيل: إنه ليس من اللباس فلا فدية فيه، والقولان قائمان من المدونة؛ لأنه خفف للصبيان أن يحرم بهم وفي أرجلهم الخلاخل وعليهم الأسورة، فدل أن الرجال في ذلك

(3/440)


بخلافهم، وهو قول أصبغ: إن من تقلد سيفا في إحرامه لغير حاجة فعليه الفدية، ولم ير فيها فدية في الخرق تلصق على القروح إذا كانت صغارا، فدل ذلك على جواز لباس الخاتم؛ ليسارة ما يستر من الإصبع، وهو الذي يأتي على مختصر ما ليس في المختصر في الذي يلف على إصبعه الخرقة لشيء أصابه، وقد نص على ذلك أيضا فيه، فقال: لا بأس أن يلبس المحرم الخاتم.

[مسألة: التلبية أيكثر منها جدا أحب إليك]
مسألة وسئل مالك عن التلبية، أيكثر منها جدا أحب إليك؟ قال: قد جعل الله لكل شيء قدرا، فأما الذي لا يسكت، فإنه لا يعجبني، وأرى أنه خطأ ممن فعله.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: إن كثرة الإلحاح بذلك خطأ؛ لأن السنة في ذلك، والشأن أن يلبي حينا بعد حين، وفي دبر كل الصلوات، وعند تلاقي الرفاق، وعلى كل شرف من الأرض.

[مسألة: يلبي في رجوعه من الحج]
مسألة وسئل مالك عمن أحرم وخرج إلى مكة، فلما كان ببعض الطريق أبق غلامه، أو نسي شيئا من متاعه في بعض المناهل، أيلبي راجعا إذا رجع في طلب ذلك؟ قال: نعم، لا بأس بذلك، قال مالك: كان رجل من أهل العراق يحرم بالحج إذا قفل، فلقيه مولى لابن عباس - أراه عكرمة - وكان مفوها، فقال له: لم فعلت هذا، إني أظنك رجل سوء؟ يقول الله تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا} [الحج: 27] ، وأنت تلبي راجعا.
قال محمد بن رشد: إنما قال: إنه يلبي إذا رجع في ذهابه لأخذ حاجته؛ لأنه في حكم الذاهب بعد ذلك، وأما إذا قفل من الحج فلا وجه

(3/441)


لتلبيته؛ لأن المدعو إنما يجيب الداعي حتى يصل إليه، ولا وجه لإجابته إياه في انصرافه عنه، وذلك ازدراء ممن فعله، ولذلك قال عكرمة لمن أراه يلبي في رجوعه من الحج: أراك رجل سوء؛ لأن إبراهيم صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه إنما دعا الناس إلى الحج، كما أمره الله حيث يقول: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا} [الحج: 27] من عرفة، فإليها ينتهي غاية الملبي.

[مسألة: لم يأت المسجد يوم عرفة أيجمع بين الصلاتين في رحله]
مسألة وسئل مالك عمن لم يأت المسجد يوم عرفة يصلي مع الإمام، وهو على ذلك الجمع بين الصلاتين في رحله، قال: نعم يتبع في ذلك السنة، وليجمعهما حين ترجع الشمس.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن المعنى في جمع الصلاتين عند الزوال إنما هو تعجيل الدفع إلى عرفة لفضل الوقوف بها من حينئذ، فينبغي له إذا لم يصل مع الإمام أن يجمع الصلاتين في رحله عند الزوال، ويدفع مع الناس إلى عرفة ليدرك من فضل الوقوف بها معهم ما أدركوا.

[مسألة: المحرم يقصر إزاره فيريد أن يصلي فيه ويعقده خلف قفاه]
مسألة وسئل مالك عن المحرم يقصر إزاره، فيريد أن يصلي فيه ويعقده خلف قفاه، قال مالك: لا يعقد المحرم إزاره خلف قفاه، ولكن إن لم يستطع أن يتوشح به اتزر به، فقيل له: أترى عليه صدقة إن عقده؟ قال: أرجو أن يكون واسعا إن شاء الله؛ يريد بذلك ألا يكون عليه شيء.
قال محمد بن رشد: الاختيار للمحرم أن يحرم في ثوبين يتزر بأحدهما، ويضطبع بالآخر، وهو أن يشتمله ويخرج منكبه الأيمن، ويأخذ طرفي الثوب من تحت إبطه الأيمن على منكبه الأيسر، فإن لم يكن له إلا ثوب

(3/442)


واحد توشحه في الصلاة، وهو أن يخرجه طرفه الأيمن من تحت إبطه الأيمن، فيلقيه على منكبه الأيسر، ويخرج طرفه الأيسر من تحت إبطه الأيسر، فيلقيه على منكبه الأيمن، فإن كان قصيرا لا يثبت إلا أن يعقده في قفاه اتزر به، ولم يعقده بسبب الإحرام، فإن عقده وصلى به معقودا في قفاه لم يكن عليه شيء على هذه الرواية، وفي كتاب ابن المواز لمالك: أن عليه الفدية، وروى ابن أبي أويس، عن مالك أنه قال: ما أشبهه أن يكون عليه الفدية، وما هو بالبين، ولو اتزر به كان أحب إلي. فوجه إسقاط الفدية عنه أنه لم يعقده للانتفاع بعقده، وإنما عقده؛ لئلا يصلي مكشوف البطن والظهر، وقد كره ذلك، ووجه إيجابها عليه هو أنه قد حصل منتفعا بالعقد في حال الصلاة، وإن لم يقصد إلى ذلك.

[مسألة: المعتمر يطوف ويركع ركعتين ثم يودع ويخرج إلى السعي]
مسألة وسئل مالك عن المعتمر يطوف ويركع ركعتين، ثم يودع ويخرج إلى السعي فيسعى وينصرف إلى بلده، قال: ذلك يجزي عنه من الوداع.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن طواف الوداع إنما يجب على من أقام بمكة بعد قضاء نسكه؛ ليكون آخر عهده الطواف بالبيت على ما روي عن ابن عباس قال: «كان الناس ينصرفون في كل وجه، فقال النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: "لا ينفر أحد من الحاج حتى يكون آخر عهده الطواف بالبيت» ، على ما قال عمر بن الخطاب: لا يصدرن أحد من الحاج حتى يطوف بالبيت؛ لأن آخر النسك الطواف بالبيت، قال مالك: وذلك لقول الله عز وجل: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 33] أي محل الشعائر كلها وانقضاؤها إلى البيت العتيق.

(3/443)


[مسألة: أحرم في أشهر الحج بالعمرة ثم حج]
مسألة وسئل مالك عمن أحرم في أشهر الحج بالعمرة، ثم حج، أذلك أحب إليك أم إفراد الحج والعمرة بعد الحج في ذي الحجة؟ قال: بل إفراد الحج والعمرة في ذي الحجة بعد الحج أحب إلي، صرورة كان أو غير صرورة.
قال محمد بن رشد: يريد كما فعلت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - حين أعمرها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليلة الحيضة من التنعيم، وهذا على مذهبه في أن الإفراد أحب إليه من التمتع والقران على حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أفرد الحج» ، ومن ذهب إلى أن ما روي من أن رسول الله كان متمتعا رأى العمرة في أشهر الحج قبل الحج أفضل منها بعد الحج في ذي الحجة، وهو قول عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، روى عنه مالك في موطئه أنه قال: والله لأن أعتمر قبل الحج وأهدي، أحب إلي من أن اعتمر بعد الحج في ذي الحجة.

[مسألة: يعصب على ذكره عصابة وهو محرم]
مسألة وسئل مالك عن الذي يعصب على ذكره عصابة وهو محرم يعصب ذلك للبول أو المذي يقطر منه، قال: عليه الفدية.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول في هذه المسألة في هذا الرسم، فلا معنى لإعادته مرة أخرى، ولو اتخذ خرقة لفرجه، فجعلها على ذكره ولم يلفها عليه لم يكن عليه فدية على ما قال في أول رسم من كتاب أوله المحرم يتخذ الخرقة لفرجه.

[مسألة: يمشي أحد عن أحد وأحب إلي أن يهدي هديين]
مسألة وسئل مالك عمن أوصى أن يمشى عنه في يمين حنث فيها

(3/444)


بالمشي، فقال: يهدي عنه، ولا يمشي أحد عن أحد، وأحب إلي أن يهدي هديين، وهو قول مالك.
قال محمد بن رشد: قد تقدم هذا القول على هذه المسألة في هذا الرسم المتكرر قبل هذا، فلا معنى لإعادته هاهنا.

[مسألة: المحرم تكون به القروح]
مسألة سئل عن المحرم تكون به القروح، أيحك قروحه حتى يخرج الدم؟ قال: نعم، لا بأس به.
قال محمد بن رشد: هذا ما لا اختلاف أعلمه في جوازه، وقد سئلت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عن المحرم أيحك جسده؟ قالت: نعم، فليحككه وليشدد قالت عائشة: ولو ربطت يداي ولم أجد إلا رجلي لحككت، وبالله التوفيق.

[مسألة: يطوف بالبيت ويركع ثم يمرض فلا يستطيع أن يسعى]
مسألة وسئل مالك عن الذي يطوف بالبيت ويركع، ثم يمرض فلا يستطيع أن يسعى حتى ينتصف النهار، فكره الفرق بين الطواف والسعي، قال ابن القاسم: من فعل ذلك افتدى.
قال محمد بن رشد: قد تقدمت هذه المسألة، والقول فيها في هذا الرسم المذكور قبل هذا، فلا وجه لإعادته.

[مسألة: إمام الحاج متى يستحب له أن يغدو من منى إلى عرفة]
مسألة وسئل مالك عن إمام الحاج متى يستحب له أن يغدو من منى إلى عرفة؟ قال: إذا طلعت الشمس، وإني لأستحبه للناس، وفي ذلك سعة مثل الضعيف والدابة تكون بها العلة وما أشبه ذلك.

(3/445)


قال محمد بن رشد: إنما استحبه له لأجل أن رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - صنعه، ومضى عليه عمل الخلفاء بعد.

[مسألة: يهل أهل الشام من الجحفة]
مسألة وسئل مالك عن الجحفة، هل سمعت في مساجدها بحد من المسجد الأول، أو من الآخر يحرم منه؟ قال: ما سمعت فيه شيئا، وإنما سمعت الحديث في الجحفة، وذلك واسع إن شاء الله، وروى أشهب مثله، وزاد قيل له إذا صلى فيه أيهل من جوف المسجد، أم يهل إذا استوت به راحلته؟ فقال: لا يهل من جوف المسجد، ولكن إذا استوت به راحلته.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما قال: «ويهل أهل الشام من الجحفة» ، ولم يخص مسجدا من مساجدها دون غيره، فمن أيها أهل المحرم، فقد امتثل الأمر، وقد قال مالك في المختصر الكبير: ومن أهل من الجحفة فالوادي مهل كله، وأحب إلينا أن يحرم من أوله حتى يأتي محرما على ذلك كله، وهو حسن من الفعل، وأما قوله: إنه لا يهل من جوف المسجد، وإنما يهل إذا استوت به راحلته، فهو على ما رواه وأخذ به من أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يهل حتى استوت به راحلته في فناء المسجد بذي الحليفة، وقد روي أنه أهل في جوف المسجد حين صلى الركعتين، وروي أيضا إنما أهل حين أشرف على البيداء، وقد روي عن ابن عباس: إنما وضح وجهة هذا الاختلاف، فقال: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أوجب الحج حين قضى الركعتين، فلما استوت به راحلته في فناء المسجد أهل أيضا، ولما أشرف على البيداء أهل أيضا، وكان الناس يأتونه أرسالا، فحدث كل بما رأى، فمن قال: إنه أهل حين

(3/446)


استوت به راحلته لم يره حين أهل في المسجد، ومن قال: إنه أهل بالبيداء لم يره حين أهل في المسجد ولا حين أهل، إذ استوت به راحلته، فمن أخذ بحديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رأى الإهلال من جوف المسجد.

[مسألة: محرمين خرجا إلى الحج حتى إذا كانا بالأبواء اتهما بقتل رجل]
مسألة وسمعت مالكا، وسئل عن محرمين خرجا إلى الحج حتى إذا كانا بالأبواء أو بالجحفة اتهما بقتل رجل وجد قتيلا، فأخذا فردا إلى المدينة، فحبسهما عامل المدينة، فأتى إلى مالك فيهما وأخبر بأنهما محرمان، وأنهما قد حبسا، قال مالك: لا يحلان حتى يأتيا البيت فلا يزالان محرمين حتى يطوفا بالبيت ويسعيان، وأراهما مثل المريض.
قال محمد بن رشد: زاد في النوادر عن مالك أو يثبت عليهما ما ادعي عليهما فيقتلان، وهو تمام المسألة، وإنما رآهما مثل من أحصر بمرض؛ لأنهما إنما حبسا بالحكم الذي أوجبه الله، فكان بمنزلة المرض الذي هو من عند الله، ومذهبه أن المحصر بمرض لا يحل من شيء من إحرامه حتى يطوف بالبيت، فإن بقي على إحرامه إلى حج قابل، فحج به لم يكن عليه هدي، وإن حل بعمرة حج قابل كان عليه قضاء الحج وهدي عن تحلله من إحرامه بالعمرة ينحره في حج القضاء؛ لقوله عز وجل: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] ، {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] ، فهذا الهدي على مذهب مالك هو الهدي الأول، وعند عروة بن الزبير، وابن شهاب، وجماعة من العلماء أن الهدي الأول غير الثاني، وأن الأول يحل له لبس الثياب، وإلقاء التفث وهو في موضعه إذا وصل الهدي

(3/447)


إلى مكة بميعاد يضربه له، والثاني لفوات الحج وتحلله بالعمرة، ولو حبسا ظلما وعداء بغير تهمة ولا سبب؛ لكان حكمهما حكم المحصر بعد، ويحلان بموضعهما الذي حبسا فيه، ويحلقان وينحران هديا إن كان معهما، ولا قضاء عليهما عند مالك.

[مسألة: يدخل بعمرة بليل فيطوف ويسعى ويؤخر حلاق رأسه حتى يصبح]
ومن كتاب أوله تأخير صلاة العشاء مسألة وسئل مالك عن الرجل يدخل بعمرة بليل، فيطوف ويسعى، ويؤخر حلاق رأسه حتى يصبح، أترى أن يتنفل بالطواف، قال: لا أرى ذلك له، وقد فعل ذلك القاسم بن محمد، فلم يتنفل حتى أصبح، قيل له: أيؤخر الحلاق حتى يصبح؟ قال: إن عجل فذلك خير، وهو واسع له إن شاء الله، وقد فعل ذلك القاسم بن محمد.
قال محمد بن رشد: إنما كره له أن يطوف تطوعا قبل الحلاق؛ لأن الحلاق هو تمام العمرة، فإذا طاف قبله فكأنه قد أدخل في العمرة ما ليس منها، وقد مضى هذا في رسم أخذ يشرب خمرا، وإنما استحب تعجيل الحلاق ليتصل عمل العمرة، ولا ينقطع بعضه عن بعضه، فهو الأحسن.

[مسألة: يتزوج ويؤخر الحج]
مسألة وسئل مالك عن الرجل العزب يكون عنده ما يتزوج به، أيتزوج أو يحج؟ قال: بل يحج.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن التزويج وإن كان مندوبا إليه، فالحج أكد عليه منه، وهذا على القول بأنه على التراخي، وأما على القول

(3/448)


بأنه على الفور، فهو الواجب عليه دون التزويج، فليس له أن يتزوج ويؤخر الحج، فإن فعل كان آثما ولم يفسخ النكاح، ولا يؤخذ من الزوجة الصداق إلا أن يخشى على نفسه العنت إن لم يتزوج، فله أن يتزوج ويؤخر الحج حتى يجد ما يحج به من الزاد وشراء الراحلة أو كرائها إن كان ممن لا يقدر على المشي على ما ذهب إليه مالك في وجوب الحج على من لا يقدر على الراحلة بشراء أو كراء إذا طاق المشي، وسيأتي هذا المعنى في رسم أشهب إن شاء الله، وكذلك كانت زوجة، فهو إن ترك عندها نفقة لم يبق عنده ما يحج به، وإن خرج ولم يترك لها نفقة طلقت نفسها عليه، يجري ذلك على القولين في الحج، هل هو على الفور أو على التراخي؟

[مسألة: المحرم يجد الصداع فيجعل الصدغين]
مسألة وسئل عن المحرم يجد الصداع، فيجعل الصدغين، قال: يفتدي.
قال محمد بن رشد: قد تقدمت هذه المسألة، والقول فيها في الرسم الذي قبل هذا، فلا معنى لإعادته.

[مسألة: حسر المحرم عن منكبيه إذا هو طاف بالبيت الطواف الواجب في الرمل]
مسألة وسئل مالك عن حسر المحرم عن منكبيه إذا هو طاف بالبيت الطواف الواجب في الرمل، قال: لا يفعل.
قال محمد بن رشد: زاد في كتاب ابن المواز، ولا يحركهما، وهذا كما قال: إذ ليس من سنة الرمل عن منكبيه ولا يحركهما بقصد منه إلى ذلك، فإن انحسر منكباه أو تحركا لشدة الرمل، فلا بأس به، فقد قيل: إن الرمل هو

(3/449)


الخبب الشديد دون الهرولة الذي يحرك منكباه لشدته، وهو يجب في طواف القدوم في الحج والعمرة لمن أحرم من الميقات باتفاق، ولمن أحرم من التنعيم أو الجعرانة على خلاف، ولا يجب في طواف الإفاضة، ولا في طواف التطوع ولا على أهل مكة، واختلف فيمن قدم مراهقا فلم يطف بالبيت حتى يرجع من منى لطواف الإفاضة، فروي عن ابن عمر أنه كان لا يرمل، وفي كتاب ابن المواز أنه يرمل، والأصل في وجوبه أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين اعتمر عمرة القضية قال المشركون: إنه يقدم عليكم قوم قد وهنتهم حمى يثرب، وقعدوا على قعيقعان وأبي قبيس ينظرون إلى طواف المسلمين، فأمر النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أن يرملوا في الثلاثة الأشواط ليروا المشركين جلدهم، وما منعه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يأمر بالرمل في جميع الأشواط إلا الإبقاء عليهم، ثم رمل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حجة الوداع، فدل ذلك على أنه أبقى الرمل سنة في طواف القدوم، وقد قيل: إنه مستحب، وليس سنة، وعلى هذا يأتي اختلاف قول مالك في المدونة في وجوب الإعادة على من ترك الرمل، وفي وجوب الدم على من ترك الإعادة، ومن أهل العلم من لا يرى الرمل أصلا؛ لأنه كان لعلة وقد ذهبت، ولا رمل على النساء.

[مسألة: الوطء قبل الإفاضة]
ومن كتاب أوله الشريكان يكون لهما مال مسألة قال مالك في التي توطأ قبل الإفاضة أن عليها العمرة والهدي، فإن جهلت حتى تخرج وتزوجت إن لم يكن لها زوج، قال مالك: إن تزوجت رأيت أن يفسخ ذلك النكاح حتى تعتمر وتهدي، ثم تتزوج إن بدا لها، فإن كان دخل بها وأصابها لم يتزوجها حتى يستبرئها من مائه بثلاث حيض؛ لأن ماءه كان على وطء فاسد.

(3/450)


قال محمد بن رشد: جعلها بمنزلة ما لو تزوجت بعد أن رجعت إلى بلادها ولم تطف طواف الإفاضة، أو قد بقي عليها منه شوط، وهو بعيد؛ لأن التي تزوجت قبل طواف الإفاضة أو قبل تمامه تزوجت قبل أن تخرج من إحرامها، إذ عليها أن ترجع على ما بقي من إحرامها بغير تجديد إحرام حتى تطوف أو تتم طوافها، وهذه التي وطئت قبل الإفاضة قد حلت بالإفاضة، وإنما عليها الهدي لا غير في قول جل أهل العلم، ومالك يرى عليها أن تعتمر مع ذلك بإحرام تجدده لها، فهي قبل أن تجدده لها قد حلت؛ إذ لو كانت لم تحل من إحرامها بالحج لما ارتدفت عليها العمرة، فإذا كانت قد حلت فإنما نكحت وهي حلال، فينبغي ألا يفسخ النكاح، ويلزم على قياس قوله إذا فسخ النكاح أن يلزمها أداء ما قتلت من الصيد وهو بعيد، وفي كتاب ابن المواز لابن القاسم في المرأة تمشي بعض طواف الإفاضة حتى ترجع إلى بلدها وتتزوج ويدخل بها زوجها ويطأها؛ أن النكاح يفسخ، ويكون له صداقها المسمى بالمسيس، وتعتد من وطئه بثلاث حيض، وترجع على إحرامها حتى تتم طواف الإفاضة ثم تعتمر وتهدي، فإن تزوجها في الثلاث حيض لم تحل له أبدا، ووقف محمد عن تحريمها عليه أبدا، قال: ولو تزوجها غيره في عدة النكاح المفسوخ لحرمت عليه أبدا، ففسخ النكاح في هذه المسألة بين على ما ذكرنا، لا في مسألة الكتاب.

[مسألة: المرأة تنسى التقصير في الحج أو تجهله حتى تنصرف وتقيم السنين]
مسألة وقال في المرأة تنسى التقصير أو تجهله حتى تنصرف وتقيم السنين، قال مالك: أرى أن تأمر بعض من يحج أو يعتمر أن يشتري لها شاة من الحل، فيسوقها إلى الحرم حتى يدخل بها مكة، فيذبحها عنها، وتقصر وهي في بلادها.

(3/451)


قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لقول ابن عباس: من ترك من نسكه شيئا أو نسيه؛ فليهرق دما، وهو مما لا اختلاف فيه أحفظه.

[مسألة: عجز في مشي كان عليه فقضاه فعجز بعد ذلك مرارا حين قضاه في الحج]
مسألة وقال مالك: من عجز في مشي كان عليه فقضاه فعجز بعد ذلك مرارا حين قضاه، فليس عليه في ذلك كله إلا هدي واحد لجميع عجزه إذا كان ذلك في نذر واحد.
قال محمد بن رشد: قوله: فعجز بعد ذلك مرارا ظاهره خلاف ما في المدونة وغيرها أنه لا يلزمه أن يعود في الثالثة، إلا أن يكون معناه أنه فعل ذلك جاهلا، يظن أن ذلك يلزمه أو متبرعا، وهو يعلم أن ذلك لا يلزمه، فذلك محتمل، وبالله التوفيق.

[مسألة: أفاض من منى بعد زوال الشمس وبعد الرمي وأراد الرجوع لبلده]
ومن كتاب أوله سن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مسألة قال: وقال مالك: من أفاض من منى إلى مكة في اليوم الثاني من أيام التشريق بعد زوال الشمس، وبعد أن رمى وهو يريد أن يرجع إلى منى، ثم بدا له أن يرجع إلى بلاده، قبل أن تغرب الشمس بمكة، فذلك له واسع، ومن غابت عليه الشمس بمكة قبل أن يبدو له ويرجع إلى منى، فلا يبرح من منى حتى يرمي من الغد.
قال محمد بن رشد: هذه المسألة في بعض الروايات، وجعله في هذه المسألة إن غربت الشمس، وهو بمكة أو بمنى بعد رجوعه إليها من مكة قبل أن يبدو له في التعجيل، فليس له أن يتعجل، ويلزمه أن يقيم إلى الغد فيرمي، بخلاف الذي يتعجل في يومين على ما يأتي في هذا الرسم بعد هذا.

(3/452)


[مسألة: خروج الناس من منى إلى عرفة بعد طلوع الشمس في غداة عرفه]
مسألة وقال مالك: خروج الناس من منى إلى عرفة بعد طلوع الشمس في غداة عرفه، وبلغني أن ابن عمر كان يفعل ذلك، وخروج الناس من مكة يوم التروية، وقدر ما يصلون بمنى الظهر.
قال محمد بن رشد: وكذلك روي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في حديث جابر «أنه ركب يوم التروية فصلى بمنى الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح، ثم مكث قليلا حتى طلعت الشمس، وأمر بقبة من شعر تضرب له بنمرة، فسار حتى أتى عرفة، فوجد القبة قد ضربت له بنمرة فنزل بها» ، الحديث.

[مسألة: تعجل في يومين فأتى البيت فأفاض فكان ممره على منى إلى منزله]
مسألة قال مالك من تعجل في يومين فأتى البيت فأفاض فكان ممره على منى إلى منزله فغابت عليه الشمس بمنى فلينفر، فإنه ليس هذا الذي ينهى عنه، وسئل مالك عن الرجل يفيض من منى في اليوم الثاني من أيام التشريق، وهو يريد إلى بلاده، فيقيم بمكة إلى أن يمشي، قال: لا بأس به، ولا أرى عليه شيئا.
قال محمد بن رشد: لا اختلاف في المتعجل أنه إن لم ينفر من منى حين غربت الشمس أن عليه أن يبقى حتى يرمي مع الناس في اليوم الثالث، فإن خرج إلى مكة، فأقام بها حتى غربت الشمس، فلا شيء عليه، واختلف إن بات بها حتى أصبح، فقيل: لا شيء عليه بإقامته مكة، وهو قول ابن المواز، وقيل: إنه يلزمه أن يمضي إلى منى، فيرمي مع الناس، وعليه دم لمبيته بمكة، وهو قول ابن الماجشون، وإليه ذهب ابن حبيب، وأما إن أفاض فكان

(3/453)


ممره على منى إلى منزله، قال ابن المواز: أو رجع إليها لحاجة، فغربت عليه الشمس بمنى، فلا اختلاف في أن له أن ينفر، وليس عليه أن يبقى حتى يرمي مع الناس، وأما إن كان الذي تعجل إلى مكة في يومين من أهل مكة، فله أن يقيم بها قولا واحدا، هذا تحصيل هذه المسألة.

[مسألة: الذي لا يجوز للمحرم لباسه]
مسألة قال مالك: لا يحل للمحرم الكساء يلبسه بعود.
قال محمد بن رشد: لأن ذلك بمعنى المخيط الذي لا يجوز للمحرم لباسه، فإن فعل ذلك فلبسه وانتفع به وجبت عليه الفدية.

[مسألة: هلك وعليه مشي إلى بيت الله فسأل ابنا له أن يمشي عنه فوعده بذلك]
ومن كتاب أوله باع غلاما بعشرين دينارا مسألة قال: وسألت مالكا عن الرجل هلك وعليه مشي إلى بيت الله، فسأل ابنا له أن يمشي عنه، فوعده بذلك، قال: أما إذا وعده، فإني أحب أن لو فعل ذلك به، ولكن ما ذلك بر أن يمشي أحد عن أحد، ولكني أحب له إذا وعده أن يفعل ذلك به.
قال محمد بن رشد: استحب له أن يفي بما وعده به من المشي عنه، وإن لم يكن في ذلك عنده قربة من ناحية الوفاء، بالعهد في الجائزات التي لا قرب فيها.

[مسألة: تعلقت بدابته أو بعيره أو حماره علقة أينزعها وهو محرم]
مسألة وسئل مالك عن محرم تعلقت بدابته أو بعيره أو حماره علقة، أينزعها وهو محرم؟ قال: نعم، لا بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: وهذا مثل ما في المدونة وغيرها؛ لأن العلقة

(3/454)


ليست من الدواب المختصة بالحيوان، كالقمل لبني آدم، والقراد للبعير، فللمحرم أن ينزعها كما قال.

[مسألة: محرم قطع إصبعه بسكين وكان قطعه يسيرا أيجعل عليه الحناء]
مسألة وسئل مالك عن محرم قطع إصبعه بسكين، وكان قطعه يسيرا، أيجعل عليه الحناء ويلفها بخرقة؟ قال: إنا نقول: إذا كان الشيء اليسير، فلا بأس به، ولا أرى عليه فدية في ذلك، وإن كان كثيرا رأيت عليه الفدية.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في المدونة سواء، وقد مضى التكلم على هذا المعنى قبل هذا في رسم حلف ليرفعن أمرا.

[مسألة: المحرم يكب وجهه على الوسادة من الحر]
مسألة وسئل مالك عن المحرم يكب وجهه على الوسادة من الحر، فكره ذلك، قيل له فيرفعها يستظل بها؟ قال: لا أحبه، وأما أن يضع خده فلا بأس به.
قال محمد بن رشد: وجه الكراهية في ذلك أن المحرم لا يجوز له تغطية وجهه ولا أن يستظل بشيء، إلا إذا نزل بالأرض بالفسطاط والقبة وشبه ذلك لأنه كالبيت، واختلف في الثوب يطرحه على الشجرة ويستظل تحته، فأجيز، وكره.

[مسألة: أراد أن يهل بالحج مفردا فأخطأ فقرن]
ومن كتاب أوله صلى نهارا ثلاث ركعات مسألة وسئل مالك عمن أراد أن يهل بالحج مفردا، فأخطأ فقرن

(3/455)


فتكلم بالعمرة، قال: ليس ذلك بشيء، إنما ذلك إلى نيته، وهو على حجه، قال مالك: أما ما كان لله، فهو إلى نيته.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إنما الأعمال بالنيات» ، فلا يلزم الرجل فيما بينه وبين ربه ما تكلم به لسانه، إذا لم يعتقده بقلبه، ولم يتعلق فيه حق لغيره.

[مسألة: نسي أن يرمي الجمار نهارا]
مسألة قال مالك: من نسي أن يرمي نهارا فيلزمه ليلا، ولا أرى عليه في ذلك إراقة دم ولا غيره.
قال محمد بن رشد: قد قال مالك: إن عليه الدم في ذلك، والقولان في المدونة، وأما إن لم يرم حتى ذهبت أيام منى فليهد، ولا يرم في غير أيام الرمي، وقد مضى ذلك في رسم حلف ألا يبيع سلعة سماها.

[مسألة: يريد أن يرمي في آخر أيام التشريق ويرجع إلى ثقله]
مسألة وسئل مالك عن الرجل يريد أن يرمي في آخر أيام التشريق ويرجع إلى ثقله، فيكون فيه حتى يتحمل، فقال مالك: أحب إلي أن يرمي ويتقدم من منى، قيل له: وكيف يصنع وهو لا يستطيع أن يتحمل تلك الساعة بعياله أو ثقله؟ فقال: يؤخر ذلك ما لم تصفر الشمس.
قال محمد بن رشد: إنما استحب ذلك؛ لأنه الذي مضى عليه السلف، وقد كره مالك للحاج أن يجاور بمكة بعد انقضاء حجه اتباعا للسلف، فقال: ما كان الناس إلا على الحج والفعل، فكيف بالمقام منى بعد انقضاء الحج؟ ووجه ذلك من طريق المعنى هو أن بقاءه ما لم يتعجل بمنى إلى أن يرمي الجمرات آخر أيام منى واجب شرعا ودينا، وبقاؤه بعد ذلك بها مباح

(3/456)


ليس بشرع ولا دين، ولا فيه فدية، فاستحب أن يفرق بين الواجب وغير الواجب بفعل المباح، كما استحب الأكل يوم الفطر قبل الغدو إلى المصلى، وكما استحب جماعة من العلماء للمعتدة من الوفاة أن تطيب إذا انقضت عدتها كما فعلت أم حبيبة حين توفي أبوها أبو سفيان وزينب بنت جحش حين توفي أخوها بعد ثلاث، وقالتا: والله ما لنا بالطيب من حاجة، غير أنا سمعنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث، إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا» .

[مسألة: طاف بعد العصر أيركع بعد أن تغيب الشمس]
مسألة وسئل مالك عمن طاف بعد العصر، أيركع بعد أن تغيب الشمس أو قبل أن يصلي المغرب؟ قال: نعم إن أحب.
قال محمد بن رشد: خيره في ذلك إذ لم يبين له أي الوجهين أفضل؛ لأن لتعجيل المغرب في أول وقتها فضلا، ولتوصيل الركعتين بالطواف فضلا، والأظهر تعجيل الركعتين؛ لأن أمرهما خفيف لا يفوته به فضل أول الوقت في المغرب إن شاء الله، بخلاف الصلاة على الجنائز مع صلاة المغرب؛ إذ لا فضل للصلاة على الجنائز في أول الغروب، ولصلاة المغرب في ذلك فضل، وبالله التوفيق.

[مسألة: الجمال يأتي بالقوم إلى ذي الحليفة فينيخ بهم عند غير المسجد]
ومن كتاب أوله مساجد القبائل مسألة وسئل عن الجمال يأتي بالقوم إلى ذي الحليفة، فينيخ بهم عند غير المسجد، فيقول: اذهبوا فصلوا وتعالوا أحملكم، فقال الآخرون: بل تنيخ عند باب المسجد حتى نصلي ثم نركب ثم نهل، قال مالك: يجبر الجمال على أن ينيخ بهم عند باب المسجد حتى يصلوا، ثم يركبوا فيهلوا.

(3/457)


قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن ذلك عرف، فعليه دخل الكري.

[مسألة: أول من أقام للناس الحج]
مسألة وسئل مالك من أول من أقام للناس الحج؟ قال: أبو بكر الصديق، قيل له: في أي سنة؟ قال: في سنة تسع.
قال محمد بن رشد: معنى هذا أنه سئل عن أول من أقام للناس الحج بعد أن فرض، فقال أبو بكر، وإنما سئل عن ذلك لقول من قال: إن حجة أبي بكر في سنة تسع إنما كانت تطوعا؛ لأنه حج في ذي القعدة على ما كان عليه أهل الجاهلية من النسي، ثم حج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سنة عشر حجة الفريضة في ذي الحجة، والصحيح ما ذهب إليه مالك أن أبا بكر أقام للناس الحج بعد أن فرض قبل أن ينسخ النسي، فكانت حجته تلك في ذي القعدة شرعا ودينا، وأخر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الحج ذلك العام من أجل العراة الذين كانوا يطوفون بالبيت، حتى يعهد إليهم في ذلك على ما تواترت به الآثار إلى أن حج في سنة عشر في ذي الحجة، ونسخ النسي، فثبت الحج في ذي الحجة إلى يوم القيامة.
وفي تأخير رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الحج للعهد المذكور في الآثار دليل على أنه على التراخي، وقال بعض أهل العلم ممن ذهب إلى أنه على التراخي: إن تأخير رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الحج خصوص له، وهو قول لا دليل لقائله عليه.

[مسألة: يوم الحج الأكبر]
مسألة وسئل مالك عن يوم الحج الأكبر، فقال: هو يوم النحر.

(3/458)


قال محمد بن رشد: قد اختلف أهل العلم في قوله عز وجل: {يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ} [التوبة: 3] ، هل الأكبر نعت للحج، أو لليوم، فمنهم من قال: إنه نعت للحج، ومنهم من قال: إنه نعت لليوم، ثم اختلف الذين قالوا: إنه نعت للحج، فمنهم من قال: إنما قيل له الأكبر؛ لأن ثم حجا أصغر وهو العمرة، ومنهم من قال: إنما قيل له الأكبر؛ لأنه عنى حج أبي بكر إذ وقع في ذي القعدة على ما كان عليه أهل الجاهلية من النسي، وقد كان الحج في العام الذي قبله في ذي القعدة أيضا، فسماه الله الأكبر، إذ كان الأكبر من الحجين الواقعين في ذي القعدة، وقيل: إن حجة أبي بكر وافقت ذا الحجة، فوقعت فيه، فسماه الله الحج الأكبر لاستدارة الزمان إليه، وثبوت الحج فيه إلى يوم القيامة، واختلف الذين قالوا: إنه نعت لليوم أيضا، فمنهم من قال: إنه يوم عرفة؛ لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الحج عرفة» ، ولأن من فاته الوقوف بعرفة فقد فاته الحج، ومنهم من قال: إنه يوم النحر، وإلى هذا ذهب مالك، وهو أظهر الأقوال؛ لأن المراد بذلك المجتمع الأكبر؛ لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث أبا بكر أميرا على الحج سنة تسع والنسي قائم، والمشركون يحجون مع المسلمين، وكان قريش ومن ولدته قريش يقفون بالمشعر الحرام يوم عرفة، ويقف سائر الناس بعرفة، ثم يجتمعون كلهم بمنى يوم النحر، فأمر الله نبيه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أن يؤذن الناس ببراءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين يوم الحج الأكبر، أي يوم اجتماعهم الأكبر، وهو يوم النحر بمنى؛ ليسمع جميع الناس النداء، فيبلغ شاهدهم غائبهم، فكان مما أوذنوا به ألا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، وتليت عليهم سورة براءة إنذارا لهم وإعذارا إليهم.

(3/459)


[مسألة: المرأة تريد العمرة فتتناول شرابا لتأخير الحيضة]
ومن كتاب أوله مرض وله أم ولد فحاضت مسألة وسئل مالك عن المرأة تريد العمرة، فتخاف تعجيل الحيض، فيوصف لها شراب تشربه لتأخير الحيضة، قال: ليس ذلك بالصواب، وكرهه.
قال محمد بن رشد: إنما كرهه مخافة أن تدخل بذلك على نفسها ضررا في جسمها، والله يعذرها بالعذر ويعطيها بالنية، فمن نوى عمل بر ومنعه منه عذر من الله، كتب له إن شاء الله، قال عز وجل: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} [النساء: 95] ، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما من امرئ تكون له صلاة بليل يغلبه عليها نوم، إلا كتب له أجر صلاته، وكان نومه عليه صدقة» .

[مسألة: المرأة تدخل بعمرة حائض فتردف الحج على العمرة]
مسألة وقال مالك في المرأة تدخل بعمرة حائض، فتردف الحج على العمرة: إنها إذا حلت، فأحب إلي أن تعتمر عمرة أخرى كما فعلت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -.
قال محمد بن رشد: قوله كما فعلت عائشة، يريد كما فعلت في أن اعتمرت بعد أن حلت من حجها، لا في أنها قرنت، إذ لم تكن قارنة؛ لأنها كانت أهلت بعمرة، فلما قدمت مكة حاضت، فأمرها النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أن تهل بالحج وتدع العمرة، فلما قضت الحج أرسلها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع

(3/460)


عبد الرحمن بن أبي بكر إلى التنعيم، فاعتمرت مكان عمرتها التي كانت على ما وقع في الموطأ، ولم ير مالك العمل بذلك، وقال: ما أظن الحديث بذلك إلا وهما؛ إذ قد روي عن عائشة أنها كانت محرمة بالحج لا بالعمرة، ولأنه لا يرى لمن أحرم بحجة أو عمرة أن يرفض شيئا من ذلك؛ لقوله عز وجل: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] ، وقد تأول أن أمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إياها أن تهل بالحج وتدع العمرة، إنما معناه أن تهل بالحج وتدع العمل بالعمرة لا العمرة، فكانت بذلك قارنة، وهو تأويل يخرج به الحديث على المذهب لولا أنه يرده قوله في الحديث: «انفضي رأسك، وامتشطي، وأهلي بالحج» ؛ لأنها يدل على أنها رفضت الإحرام الذي كانت فيه بالعمرة، ويدل على أنها رفضت الإحرام بالعمرة؛ «ما روي عنها من أنها قالت: يا رسول الله، أيرجع الناس بحج وعمرة، وأرجع بحج؟ فأرسلها مع أخيها عبد الرحمن إلى التنعيم، فاعتمرت مكان عمرتها» ، فأولى ما يقال في هذا أن الحديث وهم كما روي عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -، والصحيح إن شاء الله ما ذكر في موطئه، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، «عن عائشة أنها قالت: " قدمت وأنا حائض، فلم أطف بالبيت ولا بين الصفا والمروة، فشكوت ذلك إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: افعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت، ولا بين الصفا والمروة حتى تطهري» ؛ لأن هذا يدل أنها كانت محرمة بالحج، وأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمرها أن تتمادى على عمل حجها، على ألا تطوف بالبيت، ولا بين الصفا والمروة، ثم أعمرها من التنعيم لترجع بحج أو عمرة، كما رجع غيرها من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، ويحتمل أن يكون تأول من ذهب إلى أن رسول الله إنما أمرها أن تردف الحج على العمرة، لا أن تنقض العمرة، وتحل منها، ثم تستأنف الإحرام بالحج، وأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إنما أمرها أن تنفض رأسها وتمتشط؛

(3/461)


ليكون ذلك أبلغ في غسلها للإحرام بالحج على العمرة، لا أنها نقضت العمرة، وذكر البخاري فيما بوب على الحديث في كتاب الوضوء ما يدل على هذا التأويل، فقف على ذلك.

[مسألة: الرجل يجب عليه هديان مثل أن يقرن ويفوته الحج]
مسألة وسئل مالك عن الرجل يجب عليه هديان، مثل أن يقرن ويفوته الحج، قال مالك: أرى عليه هديين، فإن لم يجدهما ووجد أحدهما أهدى هديا، وصام ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجع، فمن لم يجد شيئا صام فيه ستة أيام قبل النحر في إحرامه، وأربعة عشر إذا رجع.
قال محمد بن رشد: ظاهر هذه الرواية يسقط عنه هدي القران في الحج الفائت، ويجب عليه هديان؛ هدي للفوات، وهدي لقران القضاء ينحرهما جميعا في حجة القضاء، وهو ظاهر ما في الموطأ، وقد تأول أبو عمر الإشبيلي ما في الموطأ من قوله: يهدي هديين، أن يكون الهدي الذي كان ساقه في قران الحج الفائت قد نحره حينئذ، وبقي عليه هديان في الحجة التي يقضي، وكذلك في كتاب محمد أن عليه ثلاث هدايا لابن القاسم، من رواية أبي زيد عنه.
قال: ولو قرن فأفسد حجه، ثم فاته الحج؛ لكان عليه أربع هدايا؛ هدي للقران، وهدي للفساد، وهدي للفوات، وهدي لقران القضاء، وهو مذهبه في المدونة أن الفوات لا يسقط عنه دم القران إن كان قارنا، ولا دم الفساد إن كان قد وطئ قبل أن يفوته الحج، قاله في الحج الثالث فيمن وطئ، ثم فاته الحج أن عليه هديين، والقران مقيس عليه، وأما من قرن، ثم أفسد حجه فلا اختلاف أن عليه ثلاث هدايا؛ إذ لا يسقط الفساد هدي القران؛ لوجوب إتمام القران الفاسد، فإذا وجب إتمامه وجب الهدي عنه، فعلى هذا يحمل ما في سماع أشهب بعد هذا.

(3/462)


[مسألة: حلف بالمشي إلى بيت الله فحنث]
مسألة وقال مالك فيمن حلف بالمشي إلى بيت الله، فحنث، فإنه يمشي من حيث حلف، وكانت يمين صاحبها ألا يفعل كذا وكذا، حتى ينتقل من منزله، وكان صاحب خيمة.
قال محمد بن رشد: هذه المسألة متكررة في هذا الرسم، من هذا السماع، من كتاب النذور، وفيها هناك زيادة، وجوابه فيها هنا وهناك على ما في كتاب العتق الأول من المدونة، في الذي يقول: إن كلمت فلانا فكل مملوك أملكه من الصقالبة حر، فاشترى - بعد يمينه، وقبل أن يكلم فلانا - صقالبة، ثم كلمه أنهم يعتقون، خلاف ما في سماع زونان، من كتاب الأيمان بالطلاق، فيمن قال: إن كلمت فلانا فكل امرأة أتزوجها بمصر طالق، فتزوج ثم كلمه، قال: لا شيء عليه في التي تزوج قبل يمينه، وإنما يلزمه الحنث فيما تزوج بعد كلامه، وبالله التوفيق.

[مسألة: يركع في الحجر لطواف النافلة]
ومن كتاب نذر سنة يصومها مسألة وسئل مالك عن الذي يتنفل بالطواف، أترى أن يركع ركوعه في الحجر؟ قال: ما يعجبني، وأما أن يركعهما من غير الطواف، فلا أرى به بأسا ثم قال بعد ذلك: لا أرى بأسا أن يركع في الحجر لطواف النافلة.
قال محمد بن رشد: وجه القول الأول أن الركوع الأول لما كان يجب على من طاف تطوعا؛ لئلا يبطل طوافه إن لم يركع أشبه الواجب، فكره أن

(3/463)


يفعله في الحجر، ووجه القول الثاني أنه جعل تابعا للطواف في أنه يفعل، فأجاز له فعله.

[مسألة: تفسير مكة وبكة]
مسألة وسئل مالك عن تفسير مكة وبكة، فقال: بكة موضع البيت، ومكة غيره من المواضع، يريد القرية.
قال محمد بن رشد: أراه أخذ ذلك من قوله عز وجل؛ لأنه قال في بكة: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا} [آل عمران: 96] ، وهو إنما وضع لموضعه الذي وضع فيه، لا فيما سواه من القرية، وقال في مكة: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ} [الفتح: 24] ، وذلك إنما كان في القرية، لا في موضع البيت، والله أعلم.

[مسألة: حفر زمزم]
مسألة قال مالك: رأى عبد المطلب أنه يقال له: احفر زمزم لا تنزف، ولا تذم بين فرث ودم، يروي الحجيج الأعظم في موقع الغراب الأعصم، قال: فحفرت.

(3/464)


قال محمد بن رشد: قد جاء في الحديث الصحيح: «أن إبراهيم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما كان بينه وبين أهله ما كان، خرج بابنه إسماعيل وأمه، ومعهم شنة فيها ماء، حتى قدم مكة فوضعها تحت دوحة، فجعلت تشرب من الشنة، ويدر لبنها حتى لما فني الماء، قالت: لو ذهبت فنظرت لعلي أحس أحدا، فصعدت على الصفا، فنظرت فلم تر أحدا ثم هبطت، فلما صارت في الوادي، رفعت ذراعها، فسمعت سعي الإنسان المجهود، ثم صعدت على المروة فلم تر أحدا، فعلت ذلك سبع مرات، وابنها يتلوى من العطش، فلما كانت في آخر ذلك سمعت، فأصغت إليه فقالت: قد أسمعت إن كان عندك غواثا، فإذا بجبريل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: فقال هكذا، فاندفق الماء، فدهشت أم إسماعيل، فجعلت تخفق، قال: فقال أبو القاسم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لو تركته كان الماء ظاهرا، أو لكانت زمزم عينا معينا» ، فيحتمل أن يكون بعد ذلك قد رفعت السيول بلقاء الرمل والتراب حتى انطمس وعفا أثره، فكان من عبد المطلب في حفره ما ذكر في هذه الحكاية، والله أعلم.

[مسألة: اتخذ إبلا من مال الله يعطيها الناس يحجون عليها فإذا رجعوا ردوها إليه]
مسألة قال مالك: وبلغني أن عمر بن الخطاب اتخذ إبلا من مال الله يعطيها الناس يحجون عليها، فإذا رجعوا ردوها إليه.
قال محمد بن رشد: هذا من النظر الصحيح في مال الله؛ لأن أولى ما صرف فيه مال الله ما يستعان به على أداء فرائض الله؛ فينبغي للأئمة أن يتأسوا في ذلك بفعله، فقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين بعدي، عضوا عليها بالنواجذ» .

(3/465)


[مسألة: المحرم يتخذ الخرقة لفرجه يجعلها فيه عند منامه]
ومن كتاب أوله المحرم يتخذ الخرقة لفرجه مسألة وسئل مالك عن المحرم يتخذ الخرقة لفرجه، يجعلها فيه عند منامه، قال: لا بأس بذلك، وليس هذا يشبه الذي يلقي على فرجه للمذي والبول، ذلك يفدي.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول في هذه المسألة، وما كان في معناها في رسم حلف بطلاق امرأته ليرفعن أمرا، فلا معنى لإعادة شيء من ذلك هنا.

[مسألة: يجعل في رأسه الخل قبل أن يحرم]
مسألة وسئل عن صاحب الأقرحة تكون برأسه، يريد أن يجعل في رأسه الخل قبل أن يحرم، قال: لا يعجبني ذلك، أخاف أن يقتل الدواب، قيل له: أفلا يجعله ويفدي، فإنه يشكو منه أنه يؤذيه أذى شديدا؟ قال: ما يعجبني ذلك أن يجعل شيئا، والناس يصيبهم هذا، وهو أمر قريب، وأرى أن يصبر حتى يفرغ من حجه.
قال محمد بن رشد: قد بين مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - من وجه قوله في هذه المسألة ما أغنى عن القول فيها؛ لأن الله عز وجل يقول: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ} [البقرة: 196] ، فلم يبح الحلق إلا عند الضرورة، وليس هذا من الضرورة التي تبيح له قتل القمل في رأسه بعد الإحرام بالخل الذي جعله فيه قبل الإحرام، على ما قال في مسألة الزاوق بعد هذا في رسم اغتسل، وبالله التوفيق.

(3/466)


[مسألة: طاف قبل الصبح فخشي الإقامة]
مسألة وسئل مالك عن الذي يفرغ من طوافه بمكة، ثم تقام الصلاة قبل أن يركع ركعتي الطواف، وهم في الصبح يطلبون الإقامة لطواف الناس، وطردهم إياهم عن الطواف، قال: إنه يكره أن يصلي أحد بعد أن تقام الصلاة، وعسى ذلك أن يكون في المساجد غير المسجد الحرام، وعسى أن يكون هذا بمكة خفيفا، قيل له: فركعتا الفجر مثله؟ قال: نعم، أرجو أن يكون خفيفا.
قال محمد بن رشد: إنما كرهت الصلاة بعد الإقامة؛ لما روي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه قال: «سمع قوم الإقامة فقاموا يصلون، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أصلاتان معا؟ أصلاتان معا؟» يريد بذلك نهيا عن ذلك، وذلك في صلاة الصبح في الركعتين قبل الصبح، وخفف مالك ذلك بمكة للمعنى المذكور في الرواية، وترك ذلك أحسن وأقطع للذريعة، قال ابن نافع في المدونة: وإذا طاف قبل الصبح، فخشي الإقامة، فليبدأ بركعتي الطواف قبل ركعتي الفجر، ومثله في رسم اغتسل بعد هذا، من سماع ابن القاسم، وفي آخر سماع أشهب.

[مسألة: حكم العمرة]
مسألة وسئل مالك عن العمرة أواجبة هي أم سنة؟ قال: بل سنة كالوتر وغيرها من السنن، اعتمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والناس فهي سنة.
قال محمد بن رشد: مثل هذا لمالك في كتاب ابن المواز، وذكر ابن حبيب أنها واجبة كوجوب الحج، وإلى هذا ذهب ابن الجهم، ومن حجة

(3/467)


من ذهب إلى أنها واجبة؛ قول الله عز وجل: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] ، ولا حجة في ذلك؛ لأن الأمر بإتمام الشيء لا يتناول إلا لمن دخل فيه، وقالوا أيضا: ولما قال الله: {يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ} [التوبة: 3] دل على أن ثم حجا أصغر وهو العمرة، وهذا لا حجة فيه أيضا؛ لأنه تأويل تعارض بما هو أولى منه، وقد ذكرنا ما قيل في ذلك في رسم مساجد القبائل.

[مسألة: إمام الحاج أيتعجل في يومين]
مسألة وسئل مالك عن إمام الحاج أيتعجل في يومين؟ قال: لا يعجبني، قيل: فأهل مكة يتعجلون في يومين؟ قال: لا أرى لهم ذلك إلا أن يكون لهم عذر من مرض أو تجارة يرجع إليها، قيل: فالرجل له المرأة الواحدة، فيريد أن يتعجل إليها، قال: فلا أرى ذلك مما حل الناس له إلا للمرأة الواحدة، فلا أرى إلا أن يكون له عذر من مرض أو ما أشبه، قال ابن القاسم: وقال لي مالك قبل ذلك: لا أرى به بأسا، وأهل مكة كغيرهم، وهو أحب قوله إلي.
قال محمد بن رشد: أما كراهيته للإمام أن يتعجل في يومين فبينة؛ لأن رمي الجمار في اليوم الثالث من بقية عمل الحج، ينبغي للإمام ألا يتعجل قبله ليقتدى به فيه، ويأتم به من لم يتعجل من الحاج، وأما أهل مكة، فالأظهر أنهم وغيرهم في التعجيل سواء؛ لأن الله قال تعالى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 203] ، يريد في ترك الأخذ بالرخصة، إذ قد علم أنه لا إثم في الإتيان بالأكمل إلا من وجه ترك قبول الرخصة، فلذلك يبين الله تعالى أنه لا إثم في ذلك، ولم يخص أهل مكة من غيرهم

(3/468)


فوجب ألا يفترق في ذلك حكمهم، والمتعجل في يومين يسقط عنه رمي اليوم الثالث على مذهب مالك، وهو دليل قوله في الموطأ في الدعاء: لأنه لا يقضي أحد شيئا حتى يجب عليه، وهو قول ابن المواز: إن المتعجل إنما يرمي بتسعة وأربعين حصاة، وذهب ابن حبيب إلى أن المتعجل يرمي ليومه ولليوم الثالث وكذلك ينصرف، وبالله التوفيق.

[مسألة: أكله المحرم بيض الدجاج والإوز]
مسألة قال ابن القاسم: ولا بأس في قوله بأكل بيض الدجاج والإوز، ولا يؤكل بيض الحمام، ولا بأس أن يذبح أهل مكة الحمام الرومية التي تتخذ للفراخ.
قال محمد بن رشد: قوله: لا بأس في قوله بأكل بيض الدجاج والإوز يريد للمحرم، وأما الحلال في الحرم فلا إشكال في أن ذلك جائز له، وقوله: ولا يؤكل بيض الحمام، يريد لا يأخذ ذلك المحرم فيأكله، فإن فعل فعليه فيه الجزاء عشر ثمن كبير ذلك، وكذلك لو كسره أو شواه ولم يأكله؛ لأن الجزاء يجب عليه في كسره أو شقه كما يجب عليه في قتل الصيد، فإذا أكل منه بعد أن شواه، فإنما أكل ما لا يحل له أكله، وما قد وجب عليه جزاؤه، ولو أخذه حلال فشواه لنفسه، لجاز للمحرم أكله كما يجوز له أكل لحم ما صاده الحلال لنفسه على مذهب، وسيأتي في رسم يشتري الدور والمزارع، من سماع يحيى، ما في ذلك من الاختلاف محصلا إن شاء الله.
وأما قوله: ولا بأس أن يذبح أهل مكة الحمام الرومية التي تتخذ للفراخ، ففيه دليل على أنهم لا يذبحون سائر الحمام وسائر الطير الوحشي وجميع الصيد، إذا دخلوا به من الحل، وهو خلاف المعلوم في المذهب، وقد قال مالك في المدونة:

(3/469)


وما أدركت أحدا ابتدأ به بدأ بالصيد يدخل به المحرم من الحل بأسا إلا عطاء، ثم ترك ذلك، وقال: لا بأس به.
ُ

[مسألة: حج بثمن ولد الزنا]
مسألة وسئل مالك هل يحج بثمن ولد الزنا؟ فقال: أليس من أمته ولدته من زنا؟ قال: لا بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يجوز أن يحج بثمن ولد الزنا، وأن يعتق في الرقاب الواجبة، وإن كان الاستحباب غير ذلك، روى أشهب عنه في سماعه من كتاب العتق أنه استحسن ألا يعتق في الرقاب الواجبة، وقال عز وجل: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ} [البقرة: 267] الآية، فعمد الرجل إذا أراد أن يعتق أعتق هذا العبد، وإذا أراد أن يتصدق تصدق بهذا الطعام، وإنما منع من ذلك من منعه ولم يجزه، من أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ولد الزنا شر الثلاثة» ، «وإنه لا يدخل الجنة ولد زنية» ، وإنه «سئل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عن عتق ولد الزنا قال: " لا خير فيه نعلان يعان بهما أحب إلي من ولد الزنا» ، وليست الأحاديث المذكورة على ظاهرها، فأما قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «ولد الزنا شر الثلاثة» ؛ فالمعنى فيه أنه قصد بذلك إلى رجل بعينه، كان يؤذي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: أما إنه مع ما به ولد زنا، قال - عَلَيْهِ السَّلَامُ - هو شر الثلاثة، وقد سئل عبد الله بن عمر بن الخطاب على ذلك فقال: بل هو خير

(3/470)


الثلاثة، قد أعتق عمر بن الخطاب عبيدا من أولاد الزنا، ولو كان خبيثا ما فعل، وهو كما قال؛ لقوله عز وجل: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى} [النجم: 39] ، وقوله: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الإسراء: 15] ، وقد قيل: إن المعنى في ذلك أنه حدث من شر الثلاثة أبوه وأمه والشيطان الذي أغواهما، لا أنه في نفسه شر، والأول أولى؛ لأن ذلك مروي عن عائشة، وأما قوله: لا يدخل الجنة ولد زنية، فالمعنى في ذلك من كثر منه الزنا حتى نسب إليه كما ينسب إلى الشيء من كثر منه وتحقق به، فيقال لمن كثر منه الحذر: ابن إحذار، ولمن كثر منه السفر: ابن سبيل، وللمتحققين بالدنيا بني الدنيا، ومثل هذا كثير، وعليه يحمل قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في عتق ولد الزنا: إنه لا خير فيه.

[مسألة: خضاب المرأة المحرمة]
مسألة قال مالك: لا بأس أن تختضب المرأة المحرمة، وتمتشط بالحناء قبل الإحرام ثم تحرم.
قال محمد بن رشد: إنما أجاز لها ذلك مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - عند الإحرام قبل أن تحرم، وهو لا يجيز للمحرم أن يطيب قبل الإحرام بشيء يبقى ريحه بعد الإحرام؛ مراعاة لقول من يجيز ذلك؛ لقول عائشة: «طيبت رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لإحرامه قبل أن يحرم، ولحله قبل أن يطوف بالبيت» ؛ إذ الحناء ليست من المؤنث من الطيب، كما أنه لا يرى الفدية على من تطيب لإحرامه قبل أن يحرم، ولحله قبل أن يطوف بالبيت، وإن كان لا يجيز ذلك مراعاة لما جاء في ذلك.

(3/471)


[مسألة: المرور بين يدي المصلي في المسجد الحرام]
مسألة
وسئل مالك عن مكة والمرور بها بين يدي المصلي في المسجد، أترى أن يمنع منها مثل ما يمنع من غيرها؟ قال: نعم، إني لأرى ذلك إذا كان يصلي إلى عمود أو سترة، ولا أدري ما الطواف كله تحققه أن يصلي إلى الطائفين.
قال محمد بن رشد: قوله: إذا كان يصلي إلى عمود أو سترة، دليل على أنه إذا صلى في المسجد الحرام إلى غير سترة، فالمرور بين يديه جائز، وليس عليه أن يدرأ من يمر بين يديه، بخلاف إذا صلى في غير المسجد الحرام إلى غير سترة، والإثم في ذلك عليه دون المارين، بخلاف صلاته إلى الطائفين، والفرق بين الطائفين وغيرهم من المارين بين يديه في إجازته الصلاة إليهم، أن الطائفين يصلون؛ لأن الطواف بالبيت صلاة، وإن جاز فيه الكلام، ألا ترى أنه لا يكون إلا على طهارة؟ وأما من صلى في المسجد الحرام إلى سترة، فلا يجوز لأحد أن يمر بينه وبينها من غير الطائفين، فإن من كان له أن يدرأه عن ذلك، وأما الطائف فلا ينبغي له أن يمر بينه وبين سترته، إلا أن لا يجد بدا من ذلك من زحام، فليمر ولا يدرأه المصلي على المرور، ومن أهل العلم من ذهب إلى أنه يجوز أن يصلي في المسجد الحرام إلى غير سترة، فإن مر الناس بين يديه في الطواف وغيره، ولا إثم في ذلك عليه ولا عليهم، وأن مكة مخصوصة بجواز المرور فيها بين يدي المصلي، بدليل ما روى عبد المطلب بن أبي وداعة، قال: «رأيت النبي يصلي مما يلي بني سهم، والناس يمرون بين يديه، ليس بينه وبين القبلة شيء» ، وقال بعض الرواة: ليس بينه وبين الطواف سترة، قال: ومن طريق المعنى أن الذي يصلي معاينا إلى الكعبة، يستقبل في صلاته وجوه بعض المصلين إليها، ولا يجوز ذلك في غيرها، فإذا

(3/472)


جاز له أن يستقبل وجوههم، جاز له أن يمروا بين يديه؛ لأنه لا يستقبل بذلك إلا خدودهم، فهو أخف، والله أعلم.

[مسألة: يخبط المحرم لبعيره من غير الحرم]
ومن كتاب أوله كتب عليه ذكر حق مسألة قال مالك: لا بأس أن يخبط المحرم لبعيره من غير الحرم.
قال محمد بن رشد: الخبط هو أن يضرب بعصاه الشجر، فيسقط ورقها لبعيره، وذلك جائز في الحل للحلال والحرام؛ إذ يأمن في ذلك المحرم قتل الدواب، بخلاف الاحتشاش، ولا يجوز ذلك في الحرم لحلال ولا حرام، وإنما الذي جوز لهما فيها الهش، وهو أن يضع المحجن في الغصن فيحركه حتى يسقط ورقه، قاله في المدونة.

[مسألة: يشعر بدنة بيده من الشقين جميعا]
مسألة وحدثني سحنون، عن ابن القاسم، عن نافع بن أبي نعيم القاري، عن نافع مولى عبد الله بن عمر، عن ابن عمر: أنه كان يشعر بدنة بيده من الشقين جميعا، إذا كانت صعابا مقيدة؛ يريد موثقة، وإنما كان ابن عمر يفعل هذا ليذللها بذلك، لا أن ذلك سُنة إشعارها، وإنما سنة إشعارها صعبة كانت أو ذللا من الشق الأيسر.
قال محمد بن رشد: قوله: وإنما كان ابن عمر يفعل هذا ليذللها بذلك، ويدل على أنه كان يشعرها من الشقين جميعا معا، خلاف ما ذهب إليه ابن المواز من أن معنى قوله من الشقين جميعا، أي من أي الشقين أمكنه، ومثل تأويل ابن المواز حكى ابن حبيب عنه نصا من رواية مطرف عن العمري، عن نافع، عن ابن عمر، وزاد في صفة الإشعار أنه طولا في سنامها، في المدونة عرضا، وقوله: إن السنة في الإشعار أن يكون في الشق الأيسر هو مثل

(3/473)


ما في المدونة، وقد روي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: أن الإشعار في الشق الأيمن، ووجه كونه في الشق الأيسر أن الذي يشعر من السنة في إشعاره أن يكون مستقبل القبلة، ويشعر بيمينه وخطام بعيره بشماله، فإن فعل ذلك وقع إشعاره في الشق الأيسر، ولا يكون في الجانب الأيمن، إلا أن يكون مستدبر القبلة، أو مشعرا بشماله، أو يمسك له غيره بعيره، فالإشعار في الشق الأيسر أظهر، ووقع الإشعار في الشق الأيمن للنبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في الصحيح لمسلم.

[مسألة: امرأة جعلت على نفسها المشي إلى بيت الله سبع مرات إن كلمت أباها]
مسألة وقال مالك في امرأة جعلت على نفسها المشي إلى بيت الله سبع مرات إن كلمت أباها، قال: تكلمه وتمشي سبع مرات، قيل له: فهي ممن لا يستطيع المشي، قال: تحج وتعتمر سبع مرات راكبة، وهو يقول والهدي في ذلك مع كل مرة.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في المدونة وغيرها عن مالك وأصحابه، ولا اختلاف في ذلك أحفظه بينهم إلا روايات شاذة خارجة عن أصل مذهب مالك، منها ما روي عن ابن القاسم أنه أفتى ابنه عبد الصمد بكفارة يمين، وقال له: أفتيتك بقول الليث بن سعد، فإن عدت أفتيتك بقول مالك، فإن صح ذلك عنه فالمعنى فيه أنه قال ذلك له إرهابا عليه؛ لئلا يجترئ على الحلف بذلك، ولو عاد لم يفته إلا بالأصح من القولين عنده في وقت الفتيا، هذا ما لا يصح سواه، وبالله التوفيق.

[مسألة: طاف بالبيت ففرغ من طوافه بعد الفجر]
ومن كتاب أوله اغتسل على غير نية مسألة وسئل عمن طاف بالبيت، ففرغ من طوافه بعد الفجر، بأيهما يبدأ؛ أبركعتي الفجر أم بركعتي الطواف؟ قال: بل بركعتي الطواف.

(3/474)


قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن من سنة ركعتي الطواف أن تكونا موصولين بالطواف، فلا يفرق بينه وبينهما، إلا لعذر مثل أن يكون طوافه في وقت لا تحل فيه الصلاة، وما أشبه ذلك.

[مسألة: ذكر أهله وهو محرم فأتبع ذكره في قلبه وردده على قلبه حتى أنزل]
مسألة وسئل مالك عمن ذكر أهله، وهو محرم فأتبع ذكره في قلبه، وردده على قلبه، حتى أنزل الماء الدافئ، قال مالك: ألا وقد أفسد حجه.
قال محمد بن رشد: في سماع أشهب من مالك خلاف هذا أن حجه تام، وعليه الهدي، ويتقرب إلى الله بما استطاع من الخير، ومثله ظاهر قول مالك في الموطأ رواية يحيى، ورواية ابن القاسم أصح من رواية أشهب، وإياها اختار ابن المواز؛ لأن الأمر في تجنب النساء أشد على المحرم منه على الصائم؛ لأن المحرم يستوي في ذلك عمده وجهله وسهوه، ولا تباح له القبلة ولا المباشرة ولا النظر باللذة، وإن كان أمن في ذلك على نفسه، ويجب عليه في ذلك الهدي إن فعله، والصائم تباح له القبلة والمباشرة والنظر للذة إن أمن في ذلك على نفسه، وتسقط عنه الكفارة في الوطء بالجهل والتأويل والنسيان، فوجب على هذا حيث ما فسد على الصائم صيامه، ووجبت عليه الكفارة والقضاء من جهة النساء أن يفسد على المحرم حجه، ويجب عليه الهدي والقضاء، وحيث ما وجب على الصائم القضاء دون الكفارة ألا يجب على المحرم إلا الهدي حاشى الجماع، ناسيا أو جاهلا أو متأولا، فإن ذلك يفسد الحج على المحرم، ولا يجب فيه على الصائم إلا القضاء، ولم يختلف قول مالك، ولا قول أحد من أصحابه في أن

(3/475)


الصائم إذا تذكر امرأته وأدام ذكرها في قلبه حتى أنزل عليه القضاء والكفارة، وقد مضى في رسم طلق، من سماع ابن القاسم، من كتاب الصيام تحصيل القول في حكم الصيام في ذلك، فقف عليه، وبالله التوفيق.

[مسألة: جعلت في رأسها زاوقا بالمدينة ثم أحرمت]
مسألة وقال في امرأة جعلت في رأسها زاوقا بالمدينة، ثم أحرمت، وذلك في اليوم الذي أحرمت فيه، فقال: أرى أن تفتدي مخافة أن يكون الزاوق قد قتل قملا بعد الإحرام، وثبت ذلك في رأسها اليوم واليومين.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة، قد بيّن فيها مالك العلة في وجوب الفدية عليها، فلا كلام فيها.

[مسألة: النظر في المرآة للمحرم]
مسألة قال مالك: لا أحب للمحرم أن ينظر في المرآة، فإن فعل فليستغفر الله، ولا شيء عليه.
قال محمد بن رشد: إنما كره له النظر في المرآة مخافة أن يرى شعثا فيصلحه، فإذا سلم من ذلك فليس عليه إلا الاستغفار.

[مسألة: العمرة في ذي الحجة]
مسألة قال مالك: لا بأس بالعمرة في ذي الحجة، وعمرة في المحرم، عمرة في هذه السنة، وعمرة في هذه السنة.
قال محمد بن رشد: إنما كره مالك أن يعتمر في السنة إلا مرة

(3/476)


واحدة؛ لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يعتمر إلا ثلاث عُمَرٍ؛ إحداهن في شوال، واثنين في ذي القعدة، وذي الحجة، وعمرة مع حجته على القول بأنه كان متمتعا، فأحب الاتساء بالنبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في ذلك؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ} [الأحزاب: 21] ، وأكثر أهل العلم يجيزون له أن يعتمر ما شاء، وقد روي أن عبد الله بن عمر اعتمر ألف عمرة، وأعتق ألف رقبة، وحبس ألف فرس، وأفتى الناس ستين عاما، وحج ستين حجة، وعاش سبعا وثمانين سنة.

[مسألة: الغنم هل تقلد]
مسألة وسئل مالك عن البقر إذا كانت لها أسنمة، قال: أرى أن تشعر، فإن لم يكن لها أسنمة فلا تشعر، وتقلد كانت لها أسنمة أو لم تكن، فقيل: أرأيت الغنم هل تقلد؟ قال: لا، وليس هذا من شأن الغنم.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في المدونة سواء، رأى أن تقلد البقر وتشعر إذا كانت لها أسنمة، قياسا على الإبل، ولم ير أن تقلد الغنم؛ لأن المعنى في التقليد أن يعرف أنها هدي إن شردت فضلت، وذلك مأمون على الغنم، أيضا فإنه يخشى عليها أن تخثو بالتقليد لضعفها، وأما الإشعار فلا يمكن فيها، ولا يقول بذلك أحد، فهذا وجه ما ذهب إليه مالك في هذا، والله أعلم.
وقد جاء تقليد الغنم في الآثار، وإلى هذا ذهب ابن حبيب.

[مسألة: طاف للوداع وأراد أن يركع ركتي الطواف بذي طوى فأحدث]
مسألة وقال في رجل طاف طواف الوداع، وذلك قبل طلوع الشمس،

(3/477)


فخرج فسار وهو يريد أن يركعهما بذي طوى أو نحوه، فأحدث قبل ذلك، قال: لا يركع ركوع الطواف، وقد انتقض طوافه، فإن كان قد تباعد، فلا يرجع، وليس عليه شيء، وإن كان ذلك الطواف الواجب فليركعهما في موضعه، وليهد بقرة أو بدنة أو شاة إن لم يجد غيرها.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة مثل ما في المدونة وغيرها، لا اختلاف في المذهب فيها، ولا إشكال في شيء من معانيها يتكلم عليه، والله الموفق.

[مسألة: كان المقام ملتصقا بالبيت]
مسألة قال مالك: كان المقام ملتصقا بالبيت، فأخره عمر بن الخطاب إلى موضعه، وهو حد علم الحرم ومعالمه، قال مالك: لما وقف إبراهيم على المقام، فأوحى الله إلى الجبال أن تأخري عنه، فتأخرت حتى أراه موضع المناسك، وهو قول إبراهيم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "فأرنا مناسكنا".
قال محمد بن رشد: وقعت هاتان الحكايتان في المدونة، ومعناها بيِّن لا يفتقر إلى كلام، وبالله التوفيق، لا رب غيره، ولا خير إلا خيره، وهو حسبي ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
تم كتاب الحج الأول
بحمد الله تعالى وحسن عونه
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

(3/478)