البيان
والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة [كتاب الحج الثاني] [الطواف بالبيت وعلى
المرء ثوب غير طاهر]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وصلى الله على سيدنا محمد وآله
وصحبه كتاب الحج الثاني من سماع أشهب
وابن نافع من مالك من كتاب الحج. قال سحنون: أخبرني أشهب وابن نافع قالا:
سئل مالك [رحمة الله على جميعهم] عن الطواف
بالبيت وعلى المرء ثوب غير طاهر، قال: لا، وكرهه.
قال محمد بن رشد: حكم الطواف بالبيت حكم الصلاة في أنه لا تكون إلا على
طهارة، فكذلك يكون حكمه حكمها في طهارة الثوب والبدن من النجاسة، فإن طاف
بثوب نجس وهو لا يعلم به، ثم علم بعد إكمال الطواف قبل الركعتين فصلى
الركعتين بثوب طاهر فلا إعادة عليه، فإن لم يعلم حتى صلى الركعتين أعادهما
بالقرب ما لم ينتقض وضوؤه ولم يعد الطواف، روي ذلك عن ابن القاسم، وقال
أصبغ: لا يعيد الركعتين؛ لأن السلام منهما خروج وقتهما، والقياس أنه إن علم
في أثناء الطواف وبعد أن أكمله قبل أن يصلي الركعتين استأنف الطواف من
أوله، كالصلاة إذا علم بنجاسة الثوب في الصلاة قطع وابتدأ، وإن لم يعلم به
حتى أكمل الركعتين لم يكن عليه أن يعيد، كمن صلى بثوب نجس فلم يعلم به حتى
خرج الوقت؛ لأن الطواف ليس له وقت محدود، فالسلام من الركعتين خروج وقته،
كمن صلى صلاة
(4/7)
فاتته بثوب نجس فلم يعلم به حتى خرج الوقت
سلم منها أنه لا إعادة عليه؛ لأن السلام منها خروج وقتها. وقال أشهب: إن
علم به في طوافه ابتدأه، وإن لم يعلم به إلا بعد إكمال طوافه أعاد الطواف
والسعي إن كان قريبا، وليس بقياس، وإن كان متعمدا [أعاد وإن كان بعيدا، على
القول بأن من صلى بثوب نجس عامدا أعاد أبدا، وعلى ما في هذه الرواية من أنه
كره أن يطوف المرء وعليه ثوب غير طاهر لا تجب عليه الإعادة وإن كان متعمدا]
، [وبالله تعالى التوفيق] .
[مسألة: أفتسعى المرأة بين الصفا والمروة وهي
حائض]
مسألة قيل له: أفتسعى المرأة بين الصفا والمروة وهي حائض؟ فقال: نعم إذا
فرغت من الطواف بالبيت والصلاة.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن السعي بين الصفا والمروة ليس من شرط
صحته الطهارة. فإذا حاضت المرأة بعد الطواف بالبيت سعت بين الصفا والمروة،
[وإذا حاضت قبل الطواف لم تسع بين الصفا والمروة] ؛ لأن السعي لا يكون إلا
بعد الطواف، وهذا مما لا اختلاف فيه، لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -
لعائشة: «افعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت ولا بين الصفا والمروة»
.
[مسألة: قدم معتمرا فحل ثم أهل بالحج فخرج إلى
منى]
مسألة وسئل: عمن قدم معتمرا فحل ثم أهل بالحج فخرج إلى منى
(4/8)
ولم يطف بالبيت ولا بين الصفا والمروة ثم
رمى جمرة العقبة، أيلبس الثياب قبل أن يطوف بالبيت وبين الصفا والمروة؟
قال: نعم.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه لقول عمر - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ -: إذا جئتم منى فمن رمى الجمرة فقد حل له ما حرم الله عليه
إلا النساء والطيب لا يمس أحد نساء ولا طيبا حتى يطوف بالبيت.
[مسألة: الحاجّة تنفس قبل أن تُفيض]
مسألة وسئل: على الحاجّة تنفس قبل أن تُفيض، قال: يحبس عليها كَرِيُّهَا؛
لأنه قد علم أن النساء يصيبهن هذا. قيل له: أفتراه مثل الحيض؟ قال: نعم،
ويحبس على الحائض خمسة عشر يوما. قيل له: فهل يختلف عندك إن كانت حاملا أو
غير حامل؟ فإن الْكَرِيّ يقول: لم أعلم أنك حامل؟ فقال: ما يختلف عندي، وما
على النساء أن يخبرن بحملهن؟ قلت له: فإن الكَرِيّ يحتج بأن يقول بأن الحيض
من أمر النساء، فقال مالك: والحمل من أمر النساء، والمرأة قد يكون معها
زوجها فتحمل، أفلا اشترط عليها حين أكراها؟ أرى أن يحبس عليها كَرِيّها،
ولا أدري لعله تعينه في العلف. قيل: استحسان؟ قال: نعم. ولم ير عليه معونة
في العلف إذا هي حاضت قبل أن تُفيض، وأرى أن يحبس عليها كريها خمسة عشر
يوما. فقيل له: يا أبا عبد الله إن النساء عندنا يشترطن على الأكرياء الحج
والعمرة في المحرم، فإن حاضت قبل أن تعتمر أترى أن يحبس كريها؟ قال: لا
يحبس عليها كريها، فراجعته فلم ير ذلك عليه. قلت له: أفيوضع عنها من
الكراء؟ فقال: لا أدري ما هذا؟
(4/9)
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما تقدم في آخر
رسم طلق من سماع ابن القاسم أن الكري يحبس على المرأة إذا نفست كما يحبس في
الحيضة في الحج والعمرة، وقد مضى هناك القول على [ذلك] والأصل في وجوب حبسه
عليها قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في صفية حين قيل له: إنها قد حاضت:
«لعلها حابستنا، فقالوا: يا رسول الله إنها قد طافت، قال: فلا إذن» . وإنما
لم يحبس عليها إذا حاضت قبل العمرة التي اشترطت عليه، كما يحبس إذا حاضت
قبل طواف الإفاضة في الحج؛ لأنها تقدر على الخروج وترك العمرة إذ لم تهل
بها بعد، ولا تقدر على الخروج وترك طواف الإفاضة. ولم يجب مالك في حكمها مع
الكري في ذلك إذا لم يحبس عليها، وأنكر السؤال عن أن يوضع عنها قدر العمرة
من الكراء، فقال: لا أدري ما هذا! إذ لا يصح أن تجبر على الخروج معه وتترك
العمرة، وهي عليها سنة واجبة، وعند بعض العلماء فريضة لازمة، ولعلها قد
نذرتها فتكون قد وجبت عليها بإجماع، فإذا لم يصح أن تجبر على الخروج مع
الكري إلى بلدها وهي حائض وأبى الكري من الصبر عليها حتى تطهر، فالواجب أن
يفسخ الكراء بينهما فيما بقي، ويكون للمكرِي من كراء قدر ما مضى، فهذا هو
وجه الحكم في هذا، وبالله التوفيق.
[مسألة: قوله وتعالى وَلِلَّه على النَّاس حِجُّ الْبَيْت أذلك الزاد
والراحلة]
مسألة وسئل مالك: عن قول الله تبارك وتعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ
حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97] ... الآية، أذلك الزاد والراحلة؟ فقال: لا
والله، وما ذلك إلا على طاقة الناس، الرجل يجد الزاد والراحلة ولا يقدر على
(4/10)
السير، وآخر يقدر أن يمشي على رجليه، ولا
صفة في هذا أبين مما أنزل الله: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} [آل
عمران: 97] .
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال مالك: إنه لا صفة في ذلك أبين مما قال
تعالى، فمن قدر على الوصول إلى مكة إما راجلا وإما راكبا بشراء أو كراء فقد
لزمه فرض الحج، وذلك يختلف باختلاف أحوال الناس، فقد يفتقر الرجل في الوصول
إلى مكة إلى الزاد والمركوب، وقد لا يفتقر إلى واحد منهما، وقد يفتقر إلى
أحدهما، فإن كان الرجل ممن لا يقدر على المشي أو يقدر عليه لمشقة تفدحه أو
عيش في بلده مما يتعذر عليه العيش منه في طريقه كالصناعة التي لا يجدها أو
السؤال الذي لا يجد له موضعا في طريقه فلا يجب عليه الحج حتى يجد الزاد
والمركوب، ويلزمه أن يبيع في ذلك ما يبيعه عليه السلطان في الدين. وإن كان
ممن يقدر على المشي بغير مشقة تفدحه وما يعيش به في بلده لا يتعذر عليه في
طريقه من صناعة لا يعدمها أو سؤال لا يتعذر عليه، فالحج واجب عليه وإن لم
يجد زادا ولا مركوبا؛ وإن كان عيشه مما يتعذر عليه في طريقه وهو يقدر على
المشي فالحج واجب عليه [إذا وجد الزاد وإن لم يجد المركوب] ، وإن كان عيشه
في بلده مما لا يتعذر عليه في طريقه وهو لا يقدر على المشي فالحج واجب عليه
إذا قدر على المركوب وإن لم يجد الزاد، وأما إن كان عيشه من غير السؤال وهو
يقدر أن يتوصل إلى مكة بالسؤال فلا اختلاف في أن ذلك لا يجب عليه. واختُلف
هل يباح له ذلك أو يكره؟ فقيل: إن ذلك له مباح، وقيل: إنه له مكروه، والأول
قول مالك في رواية ابن عبد الحكم عنه، والثاني قوله في سماع ابن القاسم من
كتاب الصنائع والوكالات، وقد مضى في رسم تأخير صلاة العشاء من سماع ابن
القاسم القول إذا لم يجد نفقة يخلفها لزوجته، وكان إن خرج رفعت أمرها
(4/11)
فطلقت عليه، ويأتي في سماع محمد بن خالد
القول في إذا لم يجد نفقة يخلفها لولده. وما روي عن النبي - عَلَيْهِ
السَّلَامُ - في الزاد والراحلة معناه في البعيد الدار أو القريب الذي لا
يقدر على المشي؛ لأن قوله عز وجل: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ
يَأْتُوكَ رِجَالا} [الحج: 27] ، يوجب الحج على من استطاعه ماشيا؛ لأنه
إخبار بمعنى الأمر؛ إذ لا فائدة في الإخبار بصفة الإتيان دون الإيجاب؛ ولأن
شريعة إبراهيم لازمة لنا، قال عز وجل: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ
اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} [النحل: 123] ... الآية.
[مسألة: اعتمر فجاء ليلا فطاف وركع الركعتين
وأخر السعي والحلاق للصبح]
مسألة وسئل عمن اعتمر فجاء ليلا فطاف بالبيت وركع الركعتين وأخر السعي
والحلاق حتى أصبح، فلما أصبح سعى بين الصفا والمروة ثم حلق، فقال له مالك:
أبطهر واحد؟ فقال: لا، انقلبنا فنمنا، قال: بئس ما صنعتم، وأرى أن تهدي
هديا. ولو ذكرت ذلك وأنت بمكة رأيت أن تعيد الطواف بالبيت والسعي بين الصفا
والمروة، ولو كنت فعلت بطهر واحد أجزأ عنك، وإنما يكون ذلك إذا كان الشيء
قريبا. فقيل له: أفرأيت إن كان ذكر ذلك وهو بمكة بعد أن حلق؟ فقال: كنت أرى
أن يعيد الطواف والركعتين والسعي بين الصفا والمروة ويحلق رأسه. قيل له:
إنه قد حلق رأسه أفيعيد الحلق؟ فقال: نعم يحلق أيضا.
قال محمد بن رشد: وعليه إذا ذكر بالقرب فأعاد الطواف والسعي والحلاق الدمُ
لمكان الحلاق، ولو ذكر بالقرب قبل أن يحلق فأعاد لم يكن عليه شيء. وقوله:
إنما يكون ذلك إذا كان الشيء قريبا، يريد: وإنما تكون الإعادة
(4/12)
إذا كان وضوؤه قد انتقض، ولو لم ينتقض
وضوؤه لم يكن عليه إعادة على هذه الرواية، قرب أو بعد، خلاف ما مضى في سماع
ابن القاسم في رسم حلق المتكرر في موضعين.
[مسألة: المحرمة تغطي وجهها]
مسألة وسئل: عن المرأة المحرمة تغطي وجهها، فقال: إن كانت تغطيه من حر أو
من شيء [فلا] ، وإن كانت رأت رجالا فغطت وجهها تريد بذلك الستر فلا أرى
بذلك بأسا، وأرجو أن يكون خفيفا.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في المدونة سواء، فإن غطت لغير الستر فعليها
الفدية؛ لأن إحرام المرأة في وجهها. واختلف إن غطى الرجل وجهه هل عليه
الفدية أم لا، على قولين، لما جاء في ذلك عن عثمان بن عفان، - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ -.
[مسألة: يحرم في الثوب فيه لمعة من الزعفران]
مسألة وسئل: عن الذي يحرم في الثوب فيه لمعة من الزعفران، قال: أرجو أن
يكون خفيفا.
قال محمد بن رشد: يريد -والله أعلم- اللمعة تبقى فيه منه بعد غسله فاستخف
اللمعة من ذلك بعد الغسل، ولا يستخف اللمعة منه دون الغسل؛ لأنه طيب، ولا
جميعه بعد الغسل إلا أن يتغير بالمشق، على ما المدونة.
(4/13)
[مسألة: رمى
الجمرة آخر أيام الرمي ثم رجع إلى منى فأقام حتى الظهر]
مسألة وسئل: عمن رمى الجمرة آخر أيام الرمي، ثم رجع إلى منى فأقام حتى
الظهر، وقد كان أفاض يوم النحر أو بعده فلم يبق عليه شيء من أمر الحج،
فقال: يصلي ركعتين، أهلُ منى كلهم على هذا.
قال محمد بن رشد: استخف هذا لما مضى عليه من عمل الناس، والاتباعُ للسلف
رشدٌ وهدًى.
[مسألة: يصيب الجراد وهو محرم]
مسألة وسألته: عن الذي يصيب الجراد وهو محرم، أيكتفي بالذي جاء من الحديث
أم يحكم عليه؟ قال: بل يحكم عليه.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال لقوله عز وجل: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ
مِنْكُمْ} [المائدة: 95] ، مع ما جاء في ذلك عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - من قوله لكعب: تعال حتى نحكم في جرادة، سأله محرم عن
قتلها فلم يحكم فيها وحده حتى حكم كعب معه.
[مسألة: يحرم بالحج من مكة من أين يحرم]
مسألة وسألته: عن الذي يحرم بالحج من مكة من أين يحرم؟ قال: من جوف المسجد
الحرام. [قيل: أفلا يحرم من بيته؟ فقال: بل يحرم من جوف المسجد الحرام. قيل
له: فيحرم من عند باب المسجد؟ قال: بل يحرم من جوف المسجد] .
(4/14)
قال محمد بن رشد: إنما لم ير أن يحرم من
بيته؛ لأن السنة أن يكون الإحرام إثر صلاة نافلة في المسجد أقلها ركعتين،
فإذا صلى في المسجد وجب أن يحرم من مكانه ولا يخرج إلى باب المسجد؛ لأن
التلبية إنما معناها إجابة الله إلى بيته الحرام، فهو بخروجه من المسجد
يزداد من البيت بعدا بخلاف الخروج من مسجد ذي الحليفة أو غيره من مساجد
المواقيت؛ لأنه بخروجه منها إلى أبوابها يزداد من البيت قربا؛ فهذا وجه
لقوله صحيح من جهة المعنى.
[مسألة: عن المحرم أيصيد الثعلب أو الذيب]
مسألة وسألته: عن المحرم أيصيد الثعلب أو الذيب؟ قال: لا، ثم قال: والله ما
أدري أعلى هذا أصل رأيك أم تتجاهل بصيد المحرم؟ قلت له: ما أتجاهل ولكني
ظننت أن تراه من السباع.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في الحج الثاني والسلم الثالث من المدونة في
الثعلب قد نص فيهما أن المحرم لا يقتل شيئا من السباع التي لا تعدو ولا
تفترس [كالهر والضبع والثعلب، وأما الذيب فجعله هاهنا ممن لا يعدو ولا
يفترس] كالثعلب، وجعله ابن حبيب مما يعدو ويفترس كالأسد والنمر [والفهد]
داخلا في اسم الكلب العقور التي أباح رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قتله في الحل والحرم. وقول ابن حبيب صحيح على ما يعرف من
(4/15)
حال الذياب عندنا، ولعلها في المشرق على
خلاف ذلك لا تعدو ولا تفترس، [إذ لا اختلاف في أن الثعلب والذيب من السباع
ويجوز للمحرم قتلها كالثعلب] . واختلف في صغار ما يعدو ويفترس، فقيل: إن
قتلها محظور تودى إن قتلت وهو قول أشهب؛ وقيل: إن قتلها مكروه لا تودى إن
قتلت، وهو قول ابن القاسم في كتاب ابن المواز، وقول ابن حبيب في الواضحة،
وقيل: إن قتلها جائز، روي ذلك عن أشهب، وقوله: ولكن ظننت أن تراه من
السباع، يريد من السباع التي تعدو وتفترس ويجوز للمحرم قتلها، إذ لا اختلاف
في أن الثعلب والذيب من السباع.
[مسألة: حديث والمروة منحر وكل فجاج مكة منحر
وطرقها منحر]
مسألة وسئل: عن قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في
العمرة: «والمروة منحر، وكل فجاج مكة منحر، وطرقها منحر» ، أرأيت من كان
معه هدي واجب يسوقه في عمرة قلده وأشعره وأصابه عطب في الطريق فنحره، قال:
هذا لا يجزئ عنه، قيل له: إنه نحره في الحرام، قال: لا يجزئ عنه، وحد ذلك
عندي [في] الذي يجزئ عنه والذي قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ فيما أرى بيوت
مكة، قال: حيث البنيان، قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وكل
طرقها منحر، فهذه طرق مكة وليس بالصحارى» . وقلت له: أرأيت إن نحره في
الحرام قبل أن يدخل مكة أو عند ثنية المدنيين؟ قال: ما أراه مجزئا عنه، ألا
ترى قول الله عز وجل: {وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ}
[الفتح: 25] ، وقد نحر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
(4/16)
هديه بالحديبية في الحرم. قلت له: نحر رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحرم، قال: سمعت ذلك، وقد
قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأصحابه يوم الحديبية: «احلقوا
وانحروا، فأبطئوا، فذكره رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
لأم سلمة فقالت: يا رسول الله فلو فعلت أنت ذلك، ففعل رسول الله ففعلوا»
قال محمد بن رشد: قوله: وقد نحر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ هديه
بالحديبية في الحرم، معناه: نحر هديه في الحرم إذ كان في الحديبية؛ لأن
الحديبية في الحل، لكنه لم يكن صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ ممنوعا من دخول
الحرم، فبعث هديه من الحديبية إلى الحرم ينحر به على ما روي، فصحت بذلك
لمالك حجة لما ذهب إليه من أن محل الهدي من الحرم مكة القرية نفسها ومنى،
[لا] جميع الحرم، لقوله عز وجل: {وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ
مَحِلَّهُ} [الفتح: 25] ، وهو قد نحر بالحرم إذ لم ينحر بمكة حيث بنيان
القرية. وقد ساق ابن أبي زيد هذه الرواية في النوادر سياقة فاسدة غير صحيحة
على ما تأوله فيها، فقال: وروى أشهب عن مالك في العتبية أن الحديبية في
الحرم. ومن صد عند مالك قبل أن يبلغ الحرم حل وحلق رأسه ونحر هديه حيثما
كان، إذ لا فرق عنده في النحر بين الحل والحرم ما لم يبلغ بيوت مكة أو منى.
وقد قيل: إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ إنما نحر بالحديبية في الحل
لا في الحرم.
وذهب أبو حنيفة إلى أن من صده عذر عن الوصول إلى الحرم لا يجوز له أن ينحر
هديه إلا بالحرم، على ما روي من أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ نحر
في الحرم. قال من احتج له: وكيف يجوز أن ينحر في غير الحرم،
(4/17)
والله عز وجل يقول: {هَدْيًا بَالِغَ
الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] ، وأغفل قوله عز وجل: {وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا
أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} [الفتح: 25] فلا وجه لقوله.
[مسألة: المحرم أيحضر التزويج]
مسألة وسألته: عن المحرم أيحضر التزويج؟ قال: لا ينبغي ذلك.
قال محمد بن رشد: إنما كره له ذلك مخافة أن يتذكر أمر النساء فيتراقى به
الأمر إلى ما يفسد حجه أو ينقص أجره، فإن حضر وسلم فقد أساء ولا شيء عليه،
قاله أصبغ في كتاب محمد.
[مسألة: نكاح المحرم بعد رمي الجمرة والعقبة]
مسألة وسألته: عن نكاح المحرم بعد رمي الجمرة والعقبة، قال: أرى أن يفسخ
نكاحه.
قال محمد بن رشد: وهذا صحيح على مذهبه في أن المحرم لا يجوز له النكاح؛
لأنه لم يخرج من إحرامه بعد، إذ بقي عليه الإحرام في النساء والطيب والصيد
حتى يطوف بالبيت.
[مسألة: البقر إذا لم يكن لها أسنمة تقلد ولا
تشعر]
مسألة [قال مالك] : والبقر إذا لم يكن لها أسنمة تقلد ولا تشعر في رأيي.
(4/18)
قال محمد بن رشد: قد مضى هذا في رسم اغتسل
من سماع ابن القاسم، ومثله في المدونة. وحكى ابن حبيب عن ابن عمر وابن شهاب
أنها تشعر وإن لم يكن لها أسنمة. وقول مالك أظهر لأنه إنما لم يثبت في
إشعارها أثر، فلا ينقاس منها على الإبل إلا ذوات الأسنمة، إذ الإشعار إنما
هو في السنام.
[مسألة: الذي يتذكر حتى نزل الماء الدافق في
الحج]
مسألة وسئل: عن الذي يتذكر حتى نزل الماء الدافق، قال: ليس عليه حج قابل
ولا عمرة عليه، وعليه أن يهدي بدنة ويتقرب إلى الله بكل ما استطاع من
الخير.
قال محمد بن رشد: رواية ابن القاسم عن مالك في رسم اغتسل أصح من هذه، وقد
مضى من القول هناك على ذلك ما فيه كفاية.
[مسألة: قتل الصيد في حرم رسول الله صلى الله
عليه]
مسألة وسألته عمن قتل الصيد في حرم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ،
أعليه جزاء؟ قال: لا يتعمد لقتله، فإن قتله فلا جزاء عليه، وكل شيء وسنته،
ومن مضى أعلم ممن بقي، ولو كان هذا لسنوا فيه، والصيد فيه ثقيل ثم ثقيل.
قال محمد بن رشد: حرم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ ما بين لابتي
المدينة بريدا في بريد قال: «اللهم إن إبراهيم حرم مكة وإني أحرم ما بين
لابتيها» .. واختلف أهل العلم فيمن صاد فيها صيدا، فمنهم من أوجب عليه فيه
الجزاء كحرم مكة سواء، وهو قول ابن أبي ذيب، حكاه الأبهري في
(4/19)
كتابه، وبذلك قال ابن نافع، وإليه ذهب عبد
الوهاب، ومنهم من ذهب إلى أن من صاد فيه حل سلبه لمن وجده. روي أن سعد بن
أبي وقاص وجد عبدا لقوم يصيد في حرم المدينة فأخذ سلبه، فأتاه قوم فكلموه
في أن يرد عليهم سلبه فأبى وقال: إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ لما
حد حرم المدينة قال: «من وجد من يصيد فيه فله سلبه، فلا أرد عليكم طعمة
أطعمنيها رسول الله، ولكن إن شئتم غرمت لكم سلبه فعلت» . وذهب مالك إلى أن
الصيد فيه أخف من الصيد في حرم مكة، فلم ير على من صاد فيه إلا الاستغفار
والزجر من الإمام. قيل له: فهل يؤكل الصيد يصاد في حرم المدينة؟ قال: ما هو
مثل ما يصاد بحرم مكة، وإني لأكرهه، فروجع فيه فقال: لا أدري، ومن الدليل
لقول مالك على أن الصيد في حرم المدينة ليس كالصيد في حرم مكة، ما روي عن
عائشة أنها قالت: «كان لآل رسول الله صلى عليه وحش فإذا خرج لعب واشتد
وأقبل وأدبر، فإذا أحس برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ قد دخل ربض فلم
يترمرم كراهيته أن يوذيه» . وما روي عن أنس بن مالك قال: «كان لأبي طلحة
ابن من أم سليم يقال له أبو عمير، وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
يضاحكه فدخل يوما فرآه حزينا، فقال: ما شأن أبي عمير؟ فقيل: يا رسول الله
مات نغيره، فقال: "يا أبا عمير ما فعل النغير؟» ، ومثل هذا لا يباح في حرم
مكة.
[مسألة: رفع الصوت بالتلبية]
مسألة قال أشهب: قلت لمالك: فرفع الصوت بالتلبية؟ قال: نعم يرفع صوته
بالتلبية، ولا أرى أن يصيح جدا حتى يعقر حلقه، ووسط من ذلك يجزيه إن شاء
الله، وقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
(4/20)
«أمرني جبريل أن آمر أصحابي أو من معي أن
يرفعوا أصواتهم بالتلبية» .
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنه ليس عليه أن
يصيح بالتلبية جدا حتى يعقر حلقه، إذ ليس في الحديث أن يصيح بالتلبية بأعلى
صوته، وإنما فيه أن يرفع بها صوته، فيجزيه من رفع صوته بها ما يكون إذا
فعله يسمى رافعا لصوته، ولا يعارض الأمر برفع الصوت بالتلبية ما روي من «أن
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما دنا من المدينة رفع
الناس أصواتهم بالتكبير، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: "أيها الناس ارفقوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا
إن الذي تدعون بينكم وبن أعناق أكتافكم "؛» لأن هذا في غير الحج، وشأن الحج
رفع الصوت فيه بالتلبية لأنها شعاره، وروي عن أبي بكر الصديق - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - قال: «سئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-: أي الحج أفضل؟ قال: " العج والثج» ، فالعج رفع الصوت بالتلبية والثج نحر
البدن "، فبان الحج في رفع الصوت بالتلبية فيه عما سواه.
[مسألة: قتل الحمار الوحشي وهو محرم]
مسألة وسألته: عن الحمار الوحشي، فقال: فيه بقرة، قلت له: أترى أن يودونها
قبل أن يحكم عليه بها؟ قال: لا، بل أرى أن يذهب حتى يحكم عليه ببقرة، وأرى
في بقرة الوحش بقرة.
(4/21)
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، ومثله في
المدونة وغيرها، فإنما قال في الحمار الوحشي بقرة؛ لقول الله عز وجل:
فَجَزَاءُ مِثْلِ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ قرأه الكوفيون: {فَجَزَاءٌ
مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] بتنوين الجزاء ورفع مثل،
وقرأ المدنيون بإسقاط التنوين، وخفض "مثل" على الإضافة والقراءتان راجعتان
فيما يوجب الحكم إلى شيء واحد وإن اختلف المعنى فيهما لأنه يجب عليه فيما
قتل على قراءة الكوفيين مثله من النعم جزاء، ويجب عليه فيما قتل على قراءة
المدنيين مثل مثله من النعم؛ لأن الجزاء هو المثل، واختلف في المثل فقيل
مثله في الهيئة والخلقة أن يشبه النعم به في ذلك، وقال في المدونة: مثله في
النحو والعظم أي أقرب النعم إليه في ذلك. وإنما قال: إنه لا يؤدي البقرة
حتى يحكم عليه بها لقول الله تعالى: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ}
[المائدة: 95] .
[مسألة: الذي يفسد حجه بإصابة أهله فيحجان من
عام قابل متى يفترقان]
مسألة وسألته: عن الذي يفسد حجه بإصابة أهله فيحجان من عام قابل متى
يفترقان؟ قال: إذا أحرما. قيل له: ولا يؤخران ذلك حتى يأتيا الموضع الذي
أفسدا فيه حجهما؟ فقال: لا، وهذا الذي سمعت. قلت له: فما ترى افتراقهما،
أيفترقان في البيوت أم في المناهل لا يجتمعان في منهل؟ فقال: لا يجتمعان في
منزل، ولا يتسايران ولا في الجحفة ولا بمكة ولا بمنى.
قال محمد بن رشد: من أهل العلم من قال إنه يفرق بينهما إلى عام قابل، وقال
علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وسعيد بن المسيب: لا يفترقان
حتى يحرما بالحج من عام قابل، وبهذا أخذ مالك، والوجه في ذلك مخافة أن
(4/22)
يكون اجتماعهما ذريعة إلى فساد حجهما مرة
أخرى.
[مسألة: الذي يفسد حجه وهو قارن بإصابة أهله
فلا يجد هديا]
مسألة وسئل: عن الذي يفسد حجه وهو قارن بإصابة أهله فلا يجد هديا، فقال:
يصوم ستة أيام في الحج وأربعة عشر يوما إذا رجع إلى أهله. قيل له: يقرن بين
ستة؟ قال: يصوم ثلاثة ثم يفطر إن شاء ثم يصوم ثلاثة أيام بعد ذلك، وذلك في
الحج يصومها ما بين أن يهل بالحج إلى يوم عرفة، وإنه ليستحب أن يؤخر ذلك
رجاء أن يجد هديا.
قال محمد بن رشد: أما قوله: إنه يصوم ستة أيام في الحج وأربعة عشر يوما إذا
رجع فمعناه إذا كان قد أهدى هدي قران الحج الذي كان أفسد حينئذ؛ لأنه لا
يسقط عنه بإفساده، ولو كان لم يهده لكان عليه ثلاث هدايا بإجماع في المذهب،
يصوم عنهن إن لم يجد هديا تسعة أيام في الحج وأحدا وعشرين يوما إذا رجع.
وقد مضى القول على هذا في رسم مرض من سماع ابن القاسم. وأما قوله: أن يصوم
ثلاثة ثم يفطر إن شاء، ثم يصوم ثلاثة أيام بعد، فظاهره أنه يلزمه أن يتابع
كل ثلاثة أيام منها وهو خلاف مذهب مالك في المدونة مثل قول ابن حبيب، وقال
ابن وهب: يفرد صوم كل هدي فيصوم ثلاثة ثم سبعة، ولا يفرق بين الثلاثة
والسبعة، وهذا على القول بأن له أن يصوم السبعة الأيام في الحج.
وقول مالك على أنه لا يجوز له أن يصومها في الحج، ولذلك قال: إنه يتابع
الستة الأيام عن الهديين؛ لأنه لو لم يفعل ذلك لصام الثلاثة الأيام عن
الهدي الثاني في غير الحج، فقف على ذلك. وأما قوله: إنه يصومها ما بين أن
يهل بالحج إلى يوم عرفة فالاختيار أن يصوم السادس والسابع والثامن ولا يصوم
يوم عرفة ليقوى على الدعاء، فإن لم يصم السادس فيصوم السابع والثامن
والتاسع وهو يوم عرفة، ولا ينبغي له أن يؤخر عن ذلك، فإن لم يصم
(4/23)
السابع صام الثامن والتاسع وأفطر يوم النحر
وصام يوما من أيام التشريق على مذهب مالك في المدونة في إجازة تفرقة
الثلاثة الأيام. وعلى ما ذهب إليه ابن حبيب، وهو ظاهر هذه الرواية لا يصوم
حتى يذهب يوم النحر فيصوم بعده ثلاثة أيام متتابعات.
وأما قوله: وإنه ليستحب أن يؤخر ذلك رجاء أن يجد هديا، فلا يخلو أمره من
ثلاثة أحوال:
أحدها: أن يكون يائسا من أن يجد هديا قبل يوم النحر بثلاثة أيام، فهذا له
أن يصوم ولا يستحب له التأخير، فإن صام ثم وجد هديا من حيث لم يكن ظن به لم
يجب عليه الهدي.
والثاني: أن يكون يعلم أنه يجد الهدي قبل يوم النحر بثلاثة أيام، فهذا لا
يصوم، وإن صام لم يجزه صيامه ووجب عليه الهدي.
والثالث: أن يكون شاكا في وجود الهدي فهذا هو الذي يستحب له أن يؤخر رجاء
أن يجد الهدي، فإن صام ثم وجد الهدي أجزأه صيامه ولم يكن عليه أن يهدي على
مذهب ابن القاسم، ولم يجزه على مذهب ابن حبيب ووجب عليه الهدي، وهذا على
اختلافهم في الذي يصلي بالتيمم ولا علم له بالماء ثم يجد الماء في الوقت.
[مسألة: الطائف بالبيت يمشي مشيه الذي كان يمشي
أم يسرع]
مسألة وسئل: عن الطائف بالبيت يمشي مشيه الذي كان يمشي أم يسرع؟ قال: إن
أحب أن يسرع في مشيه فذلك له، وإن أحب أن يتأيد في مشيه فلا بأس بذلك،
وربما أسرع الإنسان لحاجة عرضت له.
(4/24)
قال محمد بن رشد: قوله: أن له أن يسرع،
معناه ما لم يبلغ إسراعه أن يكون خببا لئلا يكون قدر رمل الأشواط السبعة،
وذلك مخالف للسنة.
[مسألة: معتمران يهديان شاتين فيعدو كل واحد
منهما على شاة صاحبه]
مسألة وسئل: عن المعتمرين يهديان شاتين فيدخلان بعمرة فيعدو كل واحد منهما
على شاة صاحبه فيذبحها عن نفسه وهو لا يعرف ذلك، قال: لا أرى ذلك يجزي
عنهما، وأرى لكل واحد منهما على صاحبه قيمة شاته، ويشتري كل واحد منهما
لنفسه شاة فيخرجها إلى الحل ثم يدخلها الحرم في عمرة، وإن لم يعتمر أجزأ
عنه إن شاء الله ثم يذبحها. ولو ذبح أحدهما شاة صاحبه عن نفسه لم أر ذلك
يجزئ عنه، ورأيت أن يذبح شاته التي أوجبها ويغرم لصاحبه قيمة شاته فيشتري
بها شاة فيخرجها إلى الحل ثم يدخلها الحرم فيذبحها، والشاة المذبوحة التي
ذبحها وليست له شاة لحم لا تجزئ عن واحد منها ويشترى شاة فيذبحها.
قال محمد بن رشد: قال في هذه الرواية: إن من ذبح هدي غيره عن نفسه على سبيل
الغلط إنه لا يجزئ عن واحد منهما.
وقال في المدونة: إنه يجزئ عن صاحبه لأنه قد وجب بالتقليد والإشعار. وذهب
محمد بن المواز وهو أحد قولي أشهب إلى أنه يجزئ عن ذابحه إذا أغرمه صاحبه
فيه القيمة ولم يأخذ اللحم. وأما الضحايا إذا أخطأ الرجل فيها فذبح أضحية
غيره عن نفسه فلا تجزئ عن صاحبها باتفاق، واختلف هل تجزئ عن ذابحها إذا
اغترمه ربها القيمة ولم يأخذ اللحم، فروى عيسى عن ابن القاسم في كتاب
الضحايا أنها لا تجزئ عنه. وقال محمد بن المواز: تجزئ عنه وهو قول أشهب، لم
يختلف قوله في ذلك كما اختلف قوله في الهدايا. وفرق ابن حبيب بين أن يأتي
صاحبها واللحم قائم بيد الذابح، أو بعد فواته، فقال: إنه إذا جاء واللحم
قائم بيده فلا يجزيه وإن
(4/25)
أغرمه القيمة؛ لأنه قد كان له أن يأخذ
اللحم إن شاء، وهو قول حسن له حظ من النظر يدخل بالمعنى في مسألة الهدايا،
فيأتي فيه أربعة أقوال. فهذا تحصيل الاختلاف في هذه المسألة، وأصح ما في
ذلك أنه لا يجزئ في الهدايا عن واحد منهما، لا عن صاحبه لأنه قد نحره غيره
عن نفسه فلم يكن له هو نية في نحره، ولا يجزئ عمل بغير نية لقوله -
عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الأعمال بالنيات» ، ولا عن الذي نحره؛ لأنه قد وجب
هديا لغيره بالتقليد والإشعار؟ وأن يجزئ في الضحايا عن الذابح إذا أغرمه
ربها القيمة ولم يأخذ اللحم، كما لو أعتق رقبة عن ظهار عليه فاستحقت فأجاز
ربها البيع وأخذ الثمن. وتفرقة ابن حبيب بين أن يضمنه القيمة واللحم قائم
أو غير قائم استحسان، وبالله تعالى التوفيق.
[جلال البدن أحب إليك أن تشق على الأسنمة أم لا]
ومن كتاب الحج وسئل: عن جلال البدن أحب إليك أن
تشق على الأسنمة أم لا؟ قال: إن ذلك لمن أمر البدن أن يشق الجلال عن
أسنمتها، وذلك يحبسه عن أن يسقط، وما علمت أن أحدا كان يدع ذلك إلا عبد
الله بن عمر فإنه لم يكن يشق، ولم يكن يجلل حتى يغدو من منى إلى عرفات
فيجللها. قال مالك: وذلك أنه كان يجلل الجلل [المرتفعة] والأنماط المرتفعة.
قيل: وإنما كان يفعل ذلك استبقاء للثياب، قال: نعم إنه كان يدع ذلك استبقاء
للثياب عندي، فأحب إلي إذا كانت الجلل مرتفعة أن يدع ذلك ولا يشق منها
شيئا، وإن
(4/26)
كانت ثيابا دونا، فشقها أحب إلي وذلك من
أمر الناس في البدن ومما تعرف به، وأرجو أن يكون ذلك في سعة.
قال محمد بن رشد: ليس التجليل بواجب في الهدايا كالتقليد والإشعار، لكنه
مما يستحب العمل به، [ومما يستحب] ، ومن الاستحباب فيه إن كانت الجلال
مرتفعة أن لا يشق عن الأسنمة وأن يؤخر تجليلها إلى عند الغدو من منى إلى
عرفة كما جاء عن عبد الله بن عمر، وقد روي عنه أنه كان يجلل بدنه من ذي
الحليفة بالرباط وكان يشقها عن الأسنمة ويعقد أطرافها على أذنابها عن
البول، وينزعها عنها في المناهل لئلا يفسدها بالتمرغ، فإذا غدا من منى إلى
عرفة جللها بالجلال والقباطي والأنماط المرتفعة، فإذا انصرف بها إلى منى
يوم النحر نزع جلالها قبل أن يصيبها دمها، ثم يبعث بها إلى الكعبة، فلما
كسيت الكعبة هذه الكسوة قصر في الجلال واقتصر على الرياط، وكان يتصدق بها.
وهذا مستحب في الفعل لأهل السعة والطول.
[مسألة: أتخرج المرأة تريد الحج مع ختنها]
مسألة وسمعته يسأل: أتخرج المرأة تريد الحج مع ختنها؟ قال: تخرج مع جماعة
الناس.
قال محمد بن رشد: ظاهر قوله أنه لم ير أن تخرج مع ختنها دون
(4/27)
جماعة الناس؛ لأنه ليس من ذوي محارمها، إذ
قد كانت له حلال قبل أن يتزوج ابنتها. ومثل هذا في سماع ابن القاسم من كتاب
النكاح كراهية السفر للرجل مع زوجة أبيه أو ابنه. وحمل مالك - رَحِمَهُ
اللَّهُ - قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا تسافر المرأة مسيرة يوم وليلة
إلا مع ذي محرم منها» على السفر المباح والمندوب إليه دون السفر الواجب،
بدليل إجماعهم على أن المرأة إذا أسلمت في بلاد الحرب لزمها أن تخرج إلى
بلد الإسلام وإن لم يكن معها ذو محرم منها، فأوجب على المرأة الحج وإن لم
يكن لها ذو محرم يحج بها خلافا لأهل العراق في قولهم: إن فرض الحج منسقط
عنها بعدم ذي المحرم في محله، وقول مالك أصح؛ لأنه يخصص من عموم الحديث
الهجرة من بلاد الحرب بالإجماع، ويخصص [حج] الفريضة بالقياس على الإجماع،
وذلك بين على أصولهم في وجه القياس.
[أيستظل المحرم في محمله]
ومن كتاب الحج وسئل: أيستظل المحرم في محمله؟
قال: لا، قيل: أفتستظل المرأة؟ قال: نعم، تستظل هي تلبس الخمار والثياب.
قيل له: أيستظل الرجل إذا كان عديلها؟ فقال: لا، قيل له: أفيضحى هو وتستظل
هي؟ قال: نعم. قيل له: أفيستظل المحرم تحت المحمل وهو سائر؟ قال: نعم.
قال محمد بن رشد: أجمع أهل العلم على أن الرجل المحرم لا يجوز له
(4/28)
أن يغطي رأسه في إحرامه، وأجمعوا على أنه
يجوز له أن يستظل وهو نازل بالأرض في مثل القبة والفسطاط، على ما جاء في
الحديث: من «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر في
غدوه من منى بقبة تضرب له من عرفة بنمرة» . واختلفوا: هل يجوز له أن يستظل
في محمله أو هو سائر بشيء يرفعه على رأسه، فمنهم من أجاز ذلك له قياسا على
جواز الاستظلال له في الأرض. وذهب مالك إلى أن ذلك لا يجوز له قياسا على
تغطية رأسه، ورأى عليه الفدية إن فعل ذلك كتغطية رأسه سواء، ولم يراع
الاختلاف في ذلك، فعلى هذا يأتي قوله في هذه الرواية: إنه لا يجوز له أن
يستظل في المحمل وإن كان عديلا للمرأة أو المريض بظل يعمل عليه لهما. وقد
روي عن مالك: أنه راعى الاختلاف في ذلك، فاستحسن الفدية لمن استظل في محمله
من غير ضرورة، ولم يوجبها عليه، وأجاز له الاستظلال فيه ابتداء إذا اضطر
إلى ذلك بكونه عديلا للمرأة فيه أو للمريض، وقع ذلك له في كتاب ابن شعبان،
وأجاز له أن يستظل تحت المحمل، وهو سائر؛ لأنه يسير، إذ لا يمكنه إدامة
المشي تحته أبدا.
[مسألة: الرجل يقدم مكة بالجارية يريد بيعها
فتناشده الله أن يدعها تحرم]
مسألة وسئل: عن الرجل يقدم مكة بالجارية يريد بيعها فتناشده الله أن يدعها
تحرم، قال: يفعل، فقيل له: إن ذلك يغيرها وينقص من ثمنها، فهل عليه شيء إن
منعها، قال: خير لك ألا تمنعها.
قال محمد بن رشد: هذا مما لا إشكال فيه أنه خير له أن لا يمنعها لأنه يؤجر
في ذلك، فإذا استسهل نقصان ثمنها في جانب ما يدخل عليه من الأجر في إحرامها
فقد فعل ما هو خير له، وإن لم يفعل فلا إثم عليه في ذلك ولا حرج.
(4/29)
[مسألة: قارن
ساق معه الهدي فوقف بعرفة ثم ضل هديه يوم النحر]
مسألة وسئل: عن قارن ساق معه الهدي فوقف بعرفة ثم ضل هديه يوم النحر أيحل
يوم النحر قبل أن يبدل هديه الذي ضل منه؟ قال: نعم يحل قبل أن يبدله، أرأيت
لو مات هديه فإن هذا يقول لعله يجده أليس يحل؟!
قال محمد بن رشد: ظاهر قوله أنه ساوى بين الذي ضل هديه يوم النحر وبين الذي
مات هديه، وهما يفترقان في الاختيار؛ لأن الذي ضل هديه، وهو يرجو أن يجده
يؤخر حلاق رأسه ما بينه وبين زوال الشمس ليقدم النحر قبل الحلاق، إذ هي
السنة؛ لقوله عز وجل: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ
الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] ، فإذا خشي زوال الشمس حلق مخافة أن
يؤخر إلى بعد الزوال فلا يجد الهدي فتفوته الفضيلتان جميعا الحلاق قبل
الزوال والذبح قبل الحلاق، فليس الكلام على ظاهره؛ لأن فيه تقديما وتأخيرا.
وتقديره: قال: نعم يحل قبل أن يبدله، أرأيت لو مات هديه أليس يحل، ويبقى
قوله، فإن هذا يقول لعل هذا يجده دون جواب، والجواب ما قدمناه من أنه يؤخر
حلاق رأسه ما لم تزل الشمس. وإنما تستوي المسألتان في أنه يحل يوم النحر
ولا يؤخر حلاق رأسه ما لم تزل الشمس فيها جميعا إلى بعد يوم النحر، وإلى
الإعلام بذلك قصد، إذ إنما سأله السائل عن الذي ضل هديه يوم النحر، فأخبر
أنه يحل يوم النحر كما يحل الذي مات هديه، ولم يسأله في أي وقت من النهار
يحل، ولو سأله عن ذلك لأمره أن يؤخر حلاق رأسه ما بينه وبين زوال الشمس، إن
كان يرجو أن يجده كما قال في المدونة، فهذا بيان هذه المسألة.
[مسألة: المحرم يغتسل أيجفف رأسه بثوب وهو محرم]
مسألة وسئل: عن المحرم يغتسل، أيجفف رأسه بثوب وهو محرم؟ قال:
(4/30)
لا، ولكن يحركه بيده.
قال محمد بن رشد: إنما كره له ذلك مخافة أن يجففه بشدة فيقتل في ذلك دواب
رأسه، ولو جففه برفق لا يخشى أن يقتل ذلك من دواب رأسه شيئا لم يكره ذلك
له، والله أعلم.
[مسألة: يدفع من عرفة حتى يأتي المزدلفة أيؤخر
المغرب والعشاء]
مسألة وسئل: عن الذي يدفع من عرفة حتى يأتي المزدلفة أيؤخر المغرب والعشاء
حتى يحط رحله، أو يحط عن رحله بعد؟ قال: الرحل الخفيف فلا أرى به بأسا أن
يبدأ به قبل الصلاة، وأما المحامل والزوامل فإن بدأ بها كان الذي يفوته من
فضل الوقت المستحب أكثر من فضل إراحة الإبل من أحمالها، فلا أرى ذلك، وأرى
أن يبتدئ بالصلاتين ثم يحط عن رحله.
قال محمد بن رشد: وجه هذه التفرقة بين؛ لأن الرحل الخفيف لا يفوته
بالاشتغال به وقت الصلاة المستحب، فيبدأ به ليريح البعير من حمله فيؤجر
بذلك، وأما المحامل والزوامل فإن بدأ بها كان الذي يفوته من فضل الوقت
المستحب أكثر من فضل إراحة الإبل من أحمالها.
[مسألة: المحرمة تقيم أياما ثم تريد أن تنظر
إلى وجهها]
مسألة وسئل: عن المحرمة تقيم أياما ثم تريد أن تنظر إلى وجهها، فقال: لا،
فقيل له: أفتكرهه؟ قال: نعم.
قال محمد بن رشد: إنما كره ذلك لها مخافة أن ترى شعثا فتصلحه، وقد مضى ذلك
في رسم اغتسل.
[مسألة: أيستظل المحرم بيده هكذا]
مسألة وسئل: أيستظل المحرم بيده هكذا؟ قال: لا بأس بذلك،
(4/31)
ووضع يديه فوق حاجبيه يستر بهما وجهه.
قال محمد بن رشد: إنما استخف ذلك ليسارته كما استخف في أول هذا الرسم للرجل
المحرم المشي تحت المحمل إذ لا يدوم ذلك، بخلاف الذي يرفع فوق رأسه ثوبا
وشيئا يستظل به. وله أن يرفع فوق رأسه شيئا يقيه المطر. واختلف هل له أن
يرفع فوقه شيئا يقيه من البرد، فوسع في ذلك مالك في رواية ابن أبي أويس
عنه، [ولم ير ذلك له ابن القاسم في رواية عيسى عنه] في المدنية أيضا، وفي
المدنية لمالك: أن المحرم له أن يستر وجهه بيده، وليس له أن يضعه على رأسه
من شدة الحر.
[مسألة: يطوف بالبيت فيطلع عليه الفجر فيخشى
إقامة الصلاة قبل الفراغ من طوافه]
مسألة وسئل: عن الذي يطوف بالبيت فيطلع عليه الفجر فيخاف أن تقام الصلاة
قبل أن يفرغ من طوافه فلا يقدر أن يركع ركعتي الفجر، أترى أن ينصرف
فيركعهما ثم يرجع فيبني على طوافه؟ قال: ما سمعت أحدا صنع [مثل] هذا. قيل:
ولا ترى أن يركعهما؟ قال: بلى، إن كان الطواف تطوعا فأرى أن يركعهما ثم
يرجع فيبني على طوافه، وما أنا له بالنشيط، وما سمعت أحدا قطع الطواف،
وماله دخل الطواف؟ فقيل له: إنما دخل قبل الفجر، فقال: لا ولكنه قد علم أن
ذلك قد تقارب، قيل له: أفأحب إليك إذا خاف أن يطلع عليه الفجر قبل أن يقضي
طوافه أن لا يدخل في الطواف وأن يجلس حتى يصلي؟ قال: نعم. فقيل له: فإنه قد
دخل في الطواف، قال: فأرى أن ينصرف فيركع ركعتي الفجر إذا كان في الطواف
الذي ليس بواجب.
(4/32)
قال محمد بن رشد: الطواف بالبيت صلاة لا
يكون إلا على طهارة إلا أنه أبيح فيه الكلام والشغل اليسير، فلا يصح لأحد
أن يترك طوافه الواجب لشيء من الأشياء إلا إلى صلاة الفريضة، واستخف له أن
يترك طواف النافلة لصلاة النافلة كما استخف له أن يترك الطواف الواجب لصلاة
الفريضة، وإن كان الاختيار له أن لا يفعل شيئا من ذلك، فلا ينبغي للرجل أن
يدخل في الطواف إذا خشي أن تقام الصلاة قبل أن يفرغ من طوافه ولا أن يدخل
في طواف التطوع إذا خشي أن تفوته ركعتا الفجر إن أكمل طوافه.
[مسألة: يفيض يوم النحر يوم جمعة فيفرغ من
طوافه ويريد البقاء لصلاة الجمعة]
مسألة وسئل: عن الذي يفيض يوم النحر في يوم جمعة فيفرغ من طوافه ثم يريد أن
يقيم حتى يصلي الجمعة، قال: ما سمعته، فقال: أحب إليك أن يرجع إلى منى؟
قال: نعم.
قال محمد بن رشد: إنما استخف ذلك لأنها السنة من فعل «النبي - عَلَيْهِ
السَّلَامُ -، أفاض يوم النحر صدر النهار ثم رجع فصلى الظهر بمنى» . وقد
روي أنه إنما أفاض آخر النهار. وقد تقدم هذا في رسم سلعة سماها من سماع ابن
القاسم.
[مسألة: المحرم يرى القملة في ثوبه]
مسألة وسئل: عن المحرم يرى القملة في ثوبه أترى أن يأخذها فيضعها منه في
موضع آخر؟ قال: أرجو ألا يكون بذلك بأسا، قيل له: فالمحرم يرى القملة في
ثوبه أو جلده فيأخذها منه فيضعها في مكان آخر أو في الأرض؟ قال: ليس هكذا
قلت؛
(4/33)
ولكن يأخذها فيضعها في موضع آخر من ثوبه أو
جلده.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن وضعها في الأرض بمنزلة القتل لها، إذ
لا تعيش فيه لأنها ليست من دواب الأرض. وأما إذا وضعها في موضع آخر من ثوبه
أو جلده فهو كمن طرد صيدا في الحرم من موضع إلى موضع آخر ولم يخرجه منه فلا
شيء عليه في ذلك.
[مسألة: المحرم أيضع ثوبه على أنفه من رائحة
الجيفة]
مسألة وسئل: عن المحرم أيضع ثوبه على أنفه من رائحة الجيفة؟
قال: إني أرجو أن لا يكون به بأس.
قال محمد بن رشد: قوله إني لأرجو أن لا يكون به بأس كأنه يدل على أن الأحسن
ألا يفعل ذلك، ولا معنى لاختيار ذلك، إذ ليس المحرم متعبدا باستنشاق
الروائح القبيحة ولا له في ذلك قربة، وقد قال ابن القاسم في رسم حلف الأول
من سماع ابن القاسم: إنه يفعل ذلك، فعبارته هناك أحسن من هذه.
[مسألة: دعا في الطواف باللهم قني شح نفسي]
مسألة وقال مالك: زعموا أن عبد الرحمن بن عوف اتبعه رجل في الطواف، أي حول
البيت فرآه يكثر من قوله اللهم قني شح نفسي، فلما فرغ قال له الرجل: رأيتك
تطوف فتقول: اللهم قني شح نفسي، فقال: إن الله تبارك وتعالى يقول: {وَمَنْ
يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9] .
(4/34)
قال محمد بن رشد: رضي الله عن عبد الرحمن
بن عوف، فإن الذي دعا به أحسن ما يدعى به؛ لأن فيه جماع الخير كله من بذل
المال في ذات الله تعالى، وإتعاب الأنفس والجوارح في العبادات كلها من
الصيام والصلاة والحج والجهاد وسائر أعمال الطاعات؛ لأن في تقصير العبد في
شيء من ذلك إبقاء على نفسه وترفيها له عنها، فإذا لم يشح بنفسه وجسمه في
ذلك بلغ الغاية في جميع الأعمال والعبادات، كما أنه إذا لم يشح بماله بذله
لله في مرضاته.
[مسألة: عيسى ابن مريم ما قتل ولا صلب وأن الله
رفعه إليه]
مسألة قال: وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليهلن
ابن مريم بفج الروحاء حاجا أو معتمرا أو ليثنينهما» ، قال مالك: أراد في
رأيي ليجمعنهما.
قال محمد بن رشد: قد أعلم الله عز وجل في كتابه الذي لا يأتيه الباطل من
بين يديه ولا من خلفه أن عيسى ابن مريم ما قتل ولا صلب، وأن الله رفعه
إليه، أخبر النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إخبارا وقع العلم به أنه سينزل
في آخر الزمان حكما عدلا فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية، ويفيض
المال حتى لا يقبله أحد. وفي بعض الآثار: فيهلك الله في أيامه الملل كلها،
فلا يبقى إلا الإسلام، وتقع الأمنة في الأرض حتى يرتع الأسد مع الإبل،
والنمور مع البقر، والذئاب مع الغنم، والغلمان بالحيات فلا يضر بعضهم بعضا.
فهذه الأحاديث يعضد بعضها بعضا، ويشهد بصحته ما حكاه مالك عن النبي -
عَلَيْهِ السَّلَامُ -.
(4/35)
[مسألة: الحاج
يدخل المسجد الحرام فيريد أن يبدأ بركعتين قبل الطواف بالبيت]
مسألة وسئل: عن الحاج يدخل المسجد الحرام فيريد أن يبدأ بركعتين قبل الطواف
بالبيت، قال: بل يبدأ بالطواف بالبيت أحب إلي. قيل له: أيبدأ بالطواف
بالبيت أحب إليك؟ قال: نعم.
قال محمد بن رشد: إنما استحب ذلك لأن السنة من فعل رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث جابر أنه «لما أتى - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - البيت، استلم الركن فرمل ثلاثا ثم مشى أربعا ثم تقدم
إلى مقام إبراهيم فقرأ {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}
[البقرة: 125] ، فجعل المقام بينه وبين القبلة وصلى ركعتين ثم رجع إلى
الركن فاستلمه ثم خرج من الباب إلى الصفا، فقال: نبدأ بما بدأ الله به،
فبدأ بالصفا» .
[مسألة: يترك استلام الركن فلا يستلمه حتى
ينصرف]
مسألة وسئل: عن الذي يترك استلام الركن فلا يستلمه حتى ينصرف، أعليه شيء أم
لا؟ قال: لا.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، ومثله في المدونة. ومن الدليل على أن
استلامه ليس من واجبات الحج «قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لعبد الرحمن بن
عوف: كيف صنعت يا أبا محمد في استلام الركن، فقال: أستلمت وتركت، فقال له
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أصبت» .
[مسألة: الذي يفوته الحج فيقيم على إحرامه ذلك
إلى حج]
مسألة وسئل: عن الذي يفوته الحج فيقيم على إحرامه ذلك إلى حج
(4/36)
قابل، أيكون عليه الهدي؟ قال: نعم، في رأيي
يحتاط بذلك. قلت له: فأحب ذلك إليك أن يقيم محرما على حجه أم يحل ويهدي
قابلا؟ قال: بل أحب إلي أن يحل ويحج قابلا ويهدي. قلت له: ذلك أحب إليك؟
قال: نعم.
قال محمد بن رشد: لم ير عليه في المدونة هديا إذا أقام على إحرامه فحج به
من قابل، وهو القياس؛ لأن الهدي إنما أوجبه الله على من تمتع بالتحلل
بالعمرة إلى الحج حيث يقول: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ
بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة:
196] ، وقوله عز وجل: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ
الْهَدْيِ} [البقرة: 196] معناه عند مالك أن يتمتع بالعمرة إلى الحج على ما
بين تعالى بعد ذلك بقوله: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ} [البقرة:
196] ... الآية، فالهدي الأول هو الثاني عنده، عند غيره من أهل العلم الهدي
الأول يحل له به حلق الشعر ولبس الثياب بموضعه إذا وصل الهدي إلى مكة فنحر
بميعاد يضربه له، والهدي الثاني يجب عليه إذا تحلل بعمرة فحل من جميع
إحرامه قبل العام المقبل، فلا وجه للاحتياط للهدي إذا لم يتحلل بعمرة وبقي
على إحرامه إلى قابل فحج به إلا مخافة أن يكون لطول الإحرام لم يخلص مما
يوجب عليه الفدية بالصيام أو الصدقة أو النسك، فرأى في ذلك الهدي احتياطا
لأن من قلد النسك وجعله هديا لم يضره ذلك، فمن الاحتياط على هذا أن لا يأكل
منه، ووجه استحسانه أن يتحلل بعمرة ولا يبقى على إحرامه الأخذ بالرخصة
والتخفيف وترك التشديد على نفسه؛ لأن بقاءه على إحرامه إلى عام آخر أمر شاق
شديد، فكرهه له كما كره الاعتكاف مخافة ألا يفي بالواجب عليه في ذلك لشدته،
وكما نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الوصال لشدته.
(4/37)
[مسألة: في
البيت الحرام أيركع في أي نواحي البيت شاء]
مسألة وسئل: عن الركوع في البيت الحرام أيركع في أي نواحي البيت شاء
مستقبلا المشرق والمغرب؟ قال: لا بأس بذلك. ثم قيل له أيضا بعد: أيصلي
المرء في البيت إلى أي ناحية شاء؟ قال: لا، بل أحب إلي أن يجعل الباب خلف
ظهره ثم يصلي في أي نواحيه شاء إذا جعل الباب خلف ظهره واستقبل بوجهه فصلى
تلقاء وجهه، وهو الوجه الذي صلى إليه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -، وهو الوجه الذي يصلي إليه الأئمة ويؤمه أهل منى. قيل له: ولا
يصلي إلى أي نواحيه شاء؟ قال: لا أنهى عنه، وأحب إلي أن يجعل الباب خلفه،
وكذلك فعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قال محمد بن رشد: من صلى في داخل البيت فهو مستقبل لبعض البيت مستدبر لبعضه
كيفما صلى، فلذلك رأى مالك أولا أن يصلي فيه إلى أي نواحيه شاء، إذ لا فرق
بين ذلك في النظر، ثم استحب بعد ذلك أن يصلي فيه إلى الناحية التي جاء أن
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى إليها من غير إيجاب.
[مسألة: يصل مكة عشية عرفة قبل الغروب أيجمع
بين الصلاتين]
مسألة وسئل: عن الذي يأتي عشية عرفة قبل الغروب مكة فيخرج يريد عرفة فتغرب
عليه الشمس أيصلي مكانه أم يؤخر الصلاة حتى يقف بعرفة وينصرف إلى المزدلفة؟
فقال: ما له يؤخر؟ لا، بل يصلي كل صلاة لوقتها.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن السنة في جمع الصلاتين إنما هي لمن دفع
من عرفة إلى المزدلفة لا لمن كان سائرا إلى عرفة.
(4/38)
[مسألة: من نسي
من نسكه شيئا أو تركه فليهرق دما]
مسألة وسألته: عن قول عبد الله بن عباس من نسي من نسكه شيئا أو تركه فليهرق
دما، أليس ترى هذا هديا؟ فقال لي: منه ما يكون هديا ومنه ما يكون دما ليس
بهدي، فما كان من فدية الأذى فكان دما، وما كان من هذا الآخر فهو هدي. فقلت
له: وما يكون منه هدي مما ليس بهدي؟ فقال لي: أما ما كان من وجه الفدية مثل
نتف الشعر وما أشبهه، فإن ذلك إذا كان دما ليس بهدي وإنما هو الفدية، وأما
ما كان منه نقصا للحج مثل أن ينسى رمي الجمار أو ينسى أو يترك من أمور الحج
ففي ذلك الهدي، كل دم أمر به في ذلك فهو هدي.
قال محمد بن رشد: تفسير مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - لحديث ابن عباس بعيد من
ظاهره؛ لأنه إنما قال: من نسي من نسكه شيئا أو تركه فلا مدخل في ذلك
للفدية، وإنما هو الهدي؛ لأن الفدية إنما هي فيما يفعل المحرم مما أمر
باجتنابه من لبس الثياب وحلق الشعر وإلقاء التفث، لا لمن ترك شيئا من مناسك
الحج التي أمر بها، ألا ترى أن من حلق رأسه افتدى، ومن ترك حلق رأسه أهدى؛
لأنه في حلق رأسه فعل ما أمر باجتنابه، وفي ترك حلق رأسه ترك ما أمر به من
نسكه، وهذا بين.
والفرق بين الدم لفدية الأذى وبين الهدي أن الدم لفدية الأذى لا يقلد ولا
يشعر، ومن شاء قلده وأشعره، ولا يوكل منه بحال ويذبحه حيثما شاء من البلاد،
وهو مخير فيه بين الصيام والإطعام والدم. والهدي يقلد ويشعر ويجمع فيه بين
حل وحرم ولا ينحر إلا بمكة أو بمنى، ويوكل منه تطوعا كان أو واجبا إذا بلغ
محله، إلا أن يكون نذره للمساكين أو يكون هدي جزاء صيد، ولا
(4/39)
يجزئ عنه الإطعام بحال ولا الصيام، إلا أن
لا يجد الهدي فيصوم عشرة أيام، الثلاثة منها في الحج في هدي التمتع والقران
باتفاق، وفيما سوى ذلك على اختلاف قد مضى تحصيله في رسم حلف الأول من سماع
ابن القاسم.
[مسألة: الذي يمسك بيد امرأته وهو محرم]
مسألة وسئل: عن الذي يمسك بيد امرأته وهو محرم، فقال: رب رجل، فقيل: رب رجل
ماذا؟ فقال: إذا أمن على نفسه ولم يخف شيئا فلا أرى بذلك بأسا. قد كان سالم
بن عبد الله يسافر هو وامرأته جميعا إلى الحج هي على راحلة وهو على أخرى
ويمر به الناس فيسلمون عليه وهي معه.
قال محمد بن رشد: أباح له هاهنا أن يمسك بيد امرأته إذا أمن على نفسه ولم
يخف شيئا في ذلك، أي إذا أمن على نفسه أن يلتذ بذلك، إذ لا يباح له
الالتذاذ بشيء من امرأته بخلاف الصيام. وقد روى ابن القاسم عن مالك: أنه لا
يمسها ولا يقربها إلا أن يلجأ إلى ذلك، إذ ليست تستطيع الركوب، وهذا أظهر؛
لأن المحرم لا يجوز له أن يتلذذ بشيء من امرأته فلا يأمن الالتذاذ في ذلك،
وإن أمن ما وراءه، من الإنعاظ والمذي.
[مسألة: طاف قبل الفجر سبعا ففرغ منه بعد الفجر
وخاف أن تقام الصلاة]
مسألة وسئل: عمن طاف قبل الفجر سبعا ففرغ منه بعد الفجر وخاف أن تقام
الصلاة أيبدأ بركعتي الطواف أم ركعتي الفجر؟ قال: يبدأ بركعتي الطواف.
قال محمد بن رشد: قد تقدمت هذه المسألة والقول فيها في أول رسم اغتسل من
سماع ابن القاسم.
(4/40)
[مسألة: طاف
بالبيت فأقيمت صلاة العصر قبل إتمامه طوافه]
مسألة وسئل: عمن طاف بالبيت فأقيمت صلاة العصر قبل إتمامه طوافه، فقال:
يقطع الطواف ويدخل مع الناس في الصلاة، فإذا قضى صلاته قام فبنى على طوافه
حتى يتم سبعا. قيل له: ويؤخر الركعتين حتى المغرب أو يركعهما من ساعته حتى
يتم طوافه؟ قال: لا بل يؤخر ركعتي الطواف إلى المغرب ولا يركعهما حين يفرغ
من طوافه.
قال محمد بن رشد: قوله إنه إذا أقيمت عليه الصلاة وهو في الطواف يدخل مع
الإمام في الصلاة ثم يبني على طوافه، هو قول مالك في الموطأ والمدونة، وفي
هذا الرسم قبل ذلك، فلا اختلاف أعلمه في ذلك. وقال: إنه يؤخر الركعتين بعد
العصر إلى المغرب، فظاهر قوله إنه يبدأ بهما قبل صلاة المغرب، قال في
الموطأ: فإن أخرهما حتى صلى المغرب فلا بأس بذلك، وخيره في ذلك في رسم أوله
صلى نهارا ثلاث ركعات من سماع ابن القاسم، وقد مضى القول على ذلك هناك،
وهذا أظهر.
تم سماع أشهب، والحمد لله وحده.
[مسألة: دخل فحج فطاف وسعى ثم أحصر حتى فاته
الحج]
من سماع عيسى بن دينار من كتاب أوله نقدها نقدها قال عيسى: وقال ابن القاسم
فيمن دخل فحج فطاف وسعى ثم أحصر حتى فاته الحج، قال: يطوف ويسعى مرة أخرى
ولا يخرج إلى الحل.
قال محمد بن رشد: إنما قال: إنه يطوف ويسعى مرة أخرى؛ لأن طوافه الأول
وسعيه إنما كان للحج قبل أن يحصر، فلا بد له من طواف وسعي ليحل به من
إحرامه إذ لا يتحلل منه إلا بعمرة، لقوله عز وجل:
(4/41)
{فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ
بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة:
196] ، وإنما قال: إنه لا يخرج إلى الحل؛ لأن إحرامه الأول إنما كان من
الحل فليس عليه أن يعود [إلى الحل مرة أخرى] .
[مسألة: قالت له ائذن لي أحج معك وأنا أعطيك
مهري الذي لي عليك]
مسألة وسئل: عن رجل قالت له امرأته وكان صرورة: ائذن لي أن أحج معك وأنا
أعطيك مهري الذي لي عليك، فقبل وتركها تحج، قال: يلزمه المهر؛ لأنه كان
يلزمه أن يأذن لها أن تحج، وقد بلغني ذلك عن ربيعة.
قال محمد بن رشد: قال ابن القاسم في رواية ابن أبي جعفر الدمياطي عنه: وذلك
إذا لم تعلم أنه كان يلزمه أن يأذن لها. وأما إذا علمت فذلك لازم لها؛
لأنها أعطته مالها طيبة بذلك نفسها. وقوله هذا مفسر لهذه الرواية لأنها إذا
علمت أنه يلزمه الإذن لها فإنها أعطته مالها على أن يأذن لها طيب النفس
راضيا بذلك غير معاتب لها على ذلك. وقد قال في الحج الثالث من المدونة:
إنها إذا أحرمت بغير إذن زوجها وهي صرورة فحللها زوجها من حجتها ثم أذن لها
فحجت أجزأها ذلك عن حجة الفريضة وعن التي حللها منها زوجها، فإن ذلك على
أنه لا يلزمه أن يأذن لها، إذ لو لزمه ذلك لما كان له أن يحللها، إلا أن
معنى ذلك عندهم إذا أحرمت دون الميقات أو قبل أشهر الحج، فعلى هذا لو أعطته
مهرها على أن يأذن لها في الخروج إلى
(4/42)
الحج قبل أشهر الحج، أي قبل وقت خروج الحاج
من هذا البلد للزمها ذلك، ولم يكن لها أن ترجع فيه، إذ لا يلزمه الإذن لها
بالخروج في ذلك الوقت. ولو أعطته مهرها على أن يحجها لم يجز له لأنه فسخ
دين في دين. قاله ابن القاسم في سماع أصبغ من كتاب السلم والآجال، وفي سماع
عيسى من كتاب الصدقات والهبات ما يعارض ذلك، فقف عليه وتدبره، وبالله
التوفيق.
[يأتي عرفة وقد طلع الفجر من يوم النحر]
ومن كتاب أوله استأذن سيده وسئل ابن القاسم: عن الذي
يأتي عرفة وقد طلع الفجر من يوم النحر،
قال: يرجع على إحرامه إلى مكة وينوي بها عمرة فيطوف بالبيت ويسعى بين الصفا
والمروة ويقصر ويحل ويرجع إلى بلاده ويحج قابلا ويهدي.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه. والأصل في ذلك ما
ذكره الله عز وجل في كتابه من حكم المحصر في الحج، وما أمر به عمر بن
الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أبا أيوب الأنصاري وهبار بن الأسود، إذ
قدما عليه يوم النحر بمنى، وقد فاتهما الوقوف بعرفة بإضلال أبي أيوب
راحلته، وإخطاء هبار بن الأسود العدد، على ما وقع من ذلك في الموطأ.
[مسألة: امرأة نصرانية بعثت بدينار إلى الكعبة]
مسألة وسأله ابن أبي حسان: عن امرأة نصرانية بعثت بدينار إلى الكعبة، هل
يجعل في الكعبة؟ قال: بل يرد إليها. قال ابن أبي حسان: كذلك حدثني معن بن
عيسى عن مالك أنه قاله.
قال محمد بن رشد: هذا صحيح؛ لأنه ينبغي أن تنزه الكعبة وأهلها
(4/43)
المسلمون عن أن ينفق فيها مال نصرانية إنما
قصدت أن تنسب إليهم ما يغض منهم من الاستعانة بمالها فيما يلزمهم القيام به
من أمر قبلتهم التي يأتمون بها ويحجون إليها، فلا تنعم بذلك عينا، وبالله
التوفيق.
[الرجل يقف بعرفة ثم يمضي على وجهه إلى بلاده
أيرجع متجردا]
ومن كتاب العرية قال: وسألت: عن الرجل يقف بعرفة ثم يمضي على وجهه إلى
بلاده، أيرجع متجردا أم يلبس الثياب؟ قال: بل يلبس الثياب، وكذلك يرجع؛
لأنه قد فاته الرمي. قلت: فكم من دم عليه إذا رجع؟ قال: لا أرى عليه إلا
دما واحدا بدنة أو بقرة.
قال محمد بن رشد: إنما قال: إنه لا يرجع متجردا وعليه الثياب؛ لأن رمي
الجمرة من سنن الحج ومشاعره، وليست من فرائضه على المشهور في المذهب. فإذا
ترك الجمرة حتى خرج وقت رميها جبر ذلك بالدم، وكان في حكم من رمى فحل له
لبس الثياب والطيب، لقول عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إذا
جئتم منى فمن رمى الجمرة فقد حل له ما حرم عليه إلا النساء والطيب حتى يطوف
بالبيت، يريد: والصيد. وقد روى الواقدي عن مالك فيمن ترك رمي جمرة العقبة
حتى صدر من منى: إن كان قد رمى غيرها من الجمار في أيام منى - أن عليه حج
قابل؛ لحديث عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: من رمى الجمرة فقد
حل له ما حرم عليه إلا النساء والطيب. وإنما قال: إنه يجزيه دم واحد لكل ما
ترك من الوقوف بالمشعر الحرام والرمي بمنى والمبيت بها قياسا على من فاته
الحج أنه يهدي هديا واحدا إذا أحل بعمرة لما فاته من الحج، وهو قد فاته عمل
الحج كله، فأجزأ عنه هدي واحد. وقال أشهب: عليه ثلاث هدايا: هدي لترك
مزدلفة، وهدي لترك رمي الجمار، وهدي لترك المبيت بمنى ليالي منى، وهو أقيس،
والله أعلم بالصواب وبه التوفيق.
(4/44)
[دفع من عرفة بعدما غابت الشمس فمضى إلى
بلاده كما هو]
ومن كتاب أوله أوصى أن ينفق على أمهات أولاده قال فيمن
دفع من عرفة بعدما غابت الشمس فمضى إلى بلاده
كما هو، قال: عليه أن يرجع حتى يفيض، وعليه هدي بدنة تجزيه من جميع
الأشياء.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه، وقد مضى القول على
هذا في المسألة التي في الرسم الذي قبل هذا. فلا وجه لإعادته هنا.
[مسألة: تمتع فأفسد حجه]
مسألة وسئل عمن تمتع فأفسد حجه ذلك، قال: عليه هديان: هدي التمتع يهديه في
عامه هذا، وهدي لما أفسد من حجه يهديه قابلا من البدن.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه أن إفساد الحج بالوطء
لا يسقط عنه هدي التمتع، كما لا يسقط عنه هدي القران إن كان قارنا. واختلف
إذا تمتع ثم فاته الحج، فقيل: إنه يسقط عنه دم المتعة، وهي رواية أصبغ عن
ابن القاسم في كتاب ابن المواز، وقيل: إنه لا يسقط عنه ويكون عليه هديان مع
القضاء. قال في كتاب ابن المواز: وهذا على الاختلاف في سقوط هدي القران عمن
قرن، ففاته الحج، وفي سقوط هدي الفساد عمن جامع ثم فاته الحج، وقد مضى ذلك
في رسم مرض وله أم ولد فحاضت من سماع ابن القاسم.
[مسألة: يحرم ما بين لبتي المدينة]
مسألة قال: وأخذ مالك بالحديث يحرم ما بين لابتيها حرام،
(4/45)
يعني لابتي المدينة. ولا يرى فيه جزاء
ويراه ذنبا من الذنوب.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة وما فيها من الاختلاف في أول رسم من
سماع أشهب فأغنى عن إعادته.
[مسألة: الذي يطأ أهله في الحج ولا يجد هديا]
مسألة وقال مالك في الذي يطأ أهله في الحج ولا يجد هديا، قال: يصوم ثلاثة
أيام في الحج وسبعة إذا رجع.
قال محمد بن رشد: هذا هو المشهور في المذهب أن المفسد لحجه إذا لم يجد هديا
يصوم الثلاثة الأيام في الحج قياسا على المتمتع؛ لقول الله عز وجل فيه:
{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ
إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196] ، وقد مضى ما في ذلك من الاختلاف في رسم
حلف ليدفعن أمرا الأول من سماع ابن القاسم.
[مسألة: الذي يطأ أهله في الحج ويكرهها ولا يجد
ما يهدي عنها]
مسألة وقال ابن القاسم في الذي يطأ أهله في الحج ويكرهها ولا يجد ما يهدي
عنها. قال: ليس عليها صيام ولا حج وإن كانت موسرة، وإنما ذلك على من
أكرهها.
قال محمد بن رشد: أما قوله ليس عليها صيام فبين؛ لأن على من أكرهها أن يهدي
عنها، إلا أن تشاء أن تصوم إذا لم يكن لها ولا لمن أكرهها مال، فيكون ذلك
لها. ولو كان لها مال لكان لها أن تهدى عن نفسها وتتبع زوجها الذي أكرهها
بالأقل مما اشترت به الهدي أو الأقل من قيمته. وأما قوله: إنه ليس عليها حج
وإن كانت موسرة فإنما معنى ذلك إن كانت الحجة
(4/46)
التي أكرهها فيها على الوطء تطوعا. وأما إن
كانت فريضة ولم يكن له مال ولها هي مال فيلزمها أن تحج الفريضة بمالها إذ
لا تجزيها الحجة التي أكرهت فيها على الوطء؛ لأن الحج يفسده الوطء على كل
حال، ولا تعذر المرأة في ذلك بالإكراه كما لا تعذر بالنسيان والجهل، وتتبعه
بما أنفقت على نفسها في حجها.
[مسألة: من يجد سبيلا إلى الحج]
مسألة وقال مالك: إذا كان الرجل ممن يقوى على المشي وإن كان لا يجد ما
يتكارى به فهو ممن يجد سبيلا إلى الحج فليحج.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما مضى في أول رسم أشهب، ومثله في كتاب ابن
المواز، قال أصبغ: إذا وجد زادا، وليس النساء في المشي على ذلك وإن قوين؛
لأنهن عورة في مشيهن إلا المكان القريب مثل مكة وما قرب، وقد مضى القول على
هذه المسألة في سماع أشهب مجودا فأغنى عن إعادته هنا.
[أوصى لرجل بعشرين دينارا يحج بها عنه وعشرين
دينارا لرجل آخر وصية]
ومن كتاب أوله سلف دينار في ثوب إلى أجل وسئل: عن رجل أوصى لرجل بعشرين
دينارا يحج بها عنه، وعشرين دينارا لرجل آخر وصية، قال: إن كان الحج عن
الميت وكان صرورة بدئ بها على العشرين، وإن كان ليس بصرورة وأوصى بذلك لرجل
أجنبي يحج بها عن نفسه فكان الثلث عشرين دينارا، قال: يتحاصان. قيل له: فإن
لم يكن فيما صار للحج في المحاصة ما يحمله للحج ولم يأخذها، قال: يعطاها
غيره ممن يحج بها عنه من أهل المدينة، فإن لم يجد فمكة. قلت: فإن لم يكن
(4/47)
ذلك إلا الشيء اليسير الدينار وما أشبهه،
قال: يرد إلى الورثة، قلت: فالأجنبي، قال: إن أحب الحج أعطيه ويتقوى بذلك
في نفقته، وإن لم يرد الحج رد إلى الورثة.
قال محمد بن رشد: بدأ في هذه الرواية الوصية بحج الفريضة على الوصية
بالمال، وقال في المدونة إنهما يتحاصان، والصحيح على مذهب مالك أن الوصية
بالمال تُبَدَّأُ على الوصية بحجة الفريضة؛ لأنه لا يرى أن يحج أحد عن أحد،
فلا قربة في ذلك عنده على أصل قوله، إلا أن الوصية به تنفذ مراعاة
للاختلاف، ووجه تبدئة الوصية بالحج على الوصية بالمال أن الموصي لما أوصى
بحجة الإسلام وبمال فكأنه أوصى بتبدئة الحج على المال، ووجه قوله في
المدونة أنهما يتحاصان: أنه لما رأى تنفيذ الوصية بحجة الإسلام مراعاة
للاختلاف جعلها وصية بمال، فوجب أن يحاص بها مع الوصية بالمال، وأما إذا
أوصى أن يحج عنه تطوعا وأوصى بمال فقال في هذه الرواية إنهما يتحاصان، وفي
المدنية: أن الوصية بالمال تُبَدَّأُ، ففي هذه المسألة قولان، وفي الأولى
ثلاثة أقوال على ما ذكرناه. وظاهر قوله إن الموصى له بعشرين يأخذ العشرين
كلها أو ما صار له منها بالمحاصة، وليس للورثة أن يكتموه الوصية ويستأجروه
بأقل منها، وقيل ذلك لهم. والقولان قائمان من كتاب الحج الثالث من المدونة.
وأما قوله إن لم يكن فيما صار للحج في المحاصة ما يحج بها عنه من بلده حج
بها عنه من حيث يوجد، فسيأتي الاختلاف في ذلك في رسم الجواب.
[مسألة: أفسد حجه بإصابة أهله فحج قابلا فأفسد
حجه أيضا بإصابة أهله]
مسألة وقال ابن القاسم فيمن أفسد حجه بإصابة أهله فحج قابلا فأفسد حجه أيضا
بإصابة أهله: فأرى عليه حجتين، قال مالك: والصيام كذلك إذا أفطر يوما من
قضاء رمضان فقضاه فأفطر في قضائه فعليه يومان. قال ابن القاسم: فالحج مثله
عندي. وقد قيل: ليس عليه إلا قضاء يوم واحد.
(4/48)
قال محمد بن رشد: قوله: إذا أفطر يوما من
صيامه في قضاء رمضان فقضاه فأفطر في قضائه فعليه يومان، يريد مع يوم رمضان
الذي أفطره، وسكت عنه للعلم بوجوبه عليه، وتكلم على ما يختلف فيه من فطره
في قضاء رمضان وفي قضاء قضائه. يبين ذلك تنظيره إياه بالحج؛ لأنه أوجب عليه
في الحج إذا أفسده فقضاه فأفسد القضاء أن عليه حجتين، فلو أفسد قضاء القضاء
أيضا لكان عليه ثلاث حجات كالصيام سواء. وقوله: وقد قيل ليس عليه إلا قضاء
يوم واحد يريد اليوم الذي أفطره من رمضان، وليس عليه على هذا القول شيء
لفطره في القضاء ولا في قضاء القضاء، وهو قول ابن القاسم في الحج الأول من
المدونة. والاختلاف في هذه المسألة جار على اختلاف قول ابن القاسم وأشهب في
كتاب الصيام من المدونة في الذي يصبح صائما في قضاء رمضان من رمضان فتذكر
في بعض النهار أنه كان قد قضاه وأنه لا شيء عليه، هل يلزمه إتمام صوم ذلك
اليوم أم لا يلزمه ويجوز له فطره؟ ولم يختلف قول ابن القاسم في مسألة الحج
كما اختلف في مسألة الصيام، وعبد الملك بن الماجشون يقول: إنه ليس عليه إلا
حجة واحدة، وهو قول ابن وهب في سماع سحنون من كتاب الصيام. وقد زدنا هذه
المسألة بيانا في سماع يحيى وسحنون من كتاب الصيام، فمن أحب الوقوف عليه
تأمله هنالك وبالله التوفيق، والحمد لله على نعمه.
[المحرم يقتل الظبي الداجن]
ومن كتاب أوله جاع فباع امرأته قال: وسألت ابن القاسم عن
المحرم يقتل الظبي الداجن، قال مالك:
عليه قيمته لصاحبه، وعليه الجزاء سوى القيمة. قلت: فإن كسر رجله؟ قال: إن
برئ وانجبر فلا جزاء عليه، وعليه ما نقصه الكسر إن نقصه.
قال محمد بن رشد: قوله: وعليه ما نقصه الكسر إن نقصه - هو مثل ما في كتاب
ابن المواز: لا شيء على المحرم يجرح الصيد إذا برئ على غير
(4/49)
نقص، خلاف ظاهر ما في كتاب الحج من
المدونة: أنه لا شيء فيه إذا سلم من الجرح. والذي يوجبه النظر أنه لا شيء
فيه، وإن برئ على عتل ونقص، إلا أن يكون النقص مما يسهل اصطياده على من
أراد صيده فيكون عليه جزاؤه كاملا. كما يكون على من طرد صيدا من الحرم إلى
الحل لأنه عرضه بذلك للاصطياد.
[اشترى من رجل صيدا والبائع بالخيار ثلاثة أيام
ثم أحرما جميعا]
ومن كتاب النسمة وقال في رجل اشترى من رجل صيدا والبائع بالخيار ثلاثة
أيام، ثم أحرما جميعا من يومهما، قال ابن القاسم: يوقف الذي له الخيار من
ساعته، فإن لم يختر فهو منه ويسرحه، وإن اختار البيع فهو من المشتري
ويسرحه. قيل له: فإن سرحه المشتري حين أحرم قبل أن يوقف الآخر على الخيار،
قال: يكون عليه قيمته.
قال محمد بن رشد: معنى هذه المسألة أنه باع منه الصيد فدفعه إليه فأحرما
جميعا وهو في يد المشتري. ولذلك قال: إن البائع الذي له الخيار يوقف، فإن
لم يختر فهو منه ويسرحه، يريد إن قبضه من المشتري لما استرده وصار في يده
وقفصه. وأما إن استرده وبعث به من عند المشتري إلى بيته ولم يصر بيده ولا
في قفصه فليس عليه أن يسرحه، وإن اختار البيع فهو من المشتري ويسرحه لكونه
في يده. وإن سرحه المشتري ضمن قيمته إذ لم يجب له بعد، ولو باعه منه فلم
يدفعه إليه حتى أحرما جميعا وهو بيد البائع لوجب عليه أن يسرحه ولم يجز له
أن يمضيه للمشتري. ولو كان في بيت البائع ليس في يده فباعه ثم أحرما جميعا
لم يكن على البائع أن يرسله إن رده، ولا على المشتري إن أمضاه له إذا لم
يقبضه وبعث به من عند البائع إلى بيته، وبالله التوفيق.
(4/50)
[سنة رمي الجمار في أيام منى ويوم النحر]
ومن كتاب الرهون وسئل: عن سنة رمي الجمار في
أيام منى ويوم النحر. قال: أما يوم النحر فمن حين تطلع الشمس إلى
زوال الشمس، فإذا زالت فقد فات الوقت إلا لعليل أو لناس، فإن رمى بعد
الزوال فلا شيء عليه، ولكن الصواب وموضع الرمي في ذلك اليوم في صدر النهار.
وأما أيام منى فمن حين تزول الشمس إلى أن تصفر، فإذا اصفرت فقد فات وقتها
إلا لعليل أو لِنَاسٍ.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: إن سنة رمي جمرة العقبة يوم النحر من طلوع
الشمس إلى زوالها، وكذلك فعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -؛ لأنه بات بالمزدلفة وصلى الصبح يوم النحر بها بالمشعر الحرام،
ثم وقف به إلى قرب طلوع الشمس، ثم دفع إلى منى فرمى جمرة العقبة بعد طلوع
الشمس. فمن رماها قبل طلوع الشمس بعد طلوع الفجر أو بعد زوال الشمس قبل
غروبها فقد أساء ولا شيء عليه، ومن رماها قبل طلوع الفجر لم يجزه الرمي،
ومن لم يرمها حتى غابت الشمس فقد فاته الرمي ووجب عليه الهدي. هذا مما لا
اختلاف فيه في المذهب، وذهب الشافعي إلى أنه من رماها قبل الفجر بعد نصف
الليل أجزأه الرمي، وذهب أبو حنيفة إلى أن من رماها قبل طلوع الشمس لم يجزه
الرمي. وقد ذكرنا في رسم حلف بطلاق امرأته الثاني من سماع ابن القاسم ما
تعلق به كل واحد منهما، وأن سنة رمي الجمار الثلاث في كل يوم من أيام منى
من بعد الزوال إلى اصفرار الشمس، فإن لم يرمها حتى غربت رماها بعد الغروب
ما بينه وبين أن تنقضي أيام منى وعليه الدم، وقيل: لا دم عليه، وإن لم
يرمها حتى انقضت أيام منى فقد فاته الرمي ووجب عليه الدم.
[الرجل يوصي بستين دينارا يحج بها عنه فلا
يجدون من يحج بها عنه]
ومن كتاب الجواب وسئل: عن الرجل يوصي بستين دينارا يحج بها عنه فلا يجدون
(4/51)
من يحج بها عنه من الأندلس لقلتها، أيبعث
بها إلى إفريقية أو مصر فيكرى بها من يحج بها من ثم، والموصي إنما أوصى من
الأندلس وبها مات؟ وهل يختلف عندك إن قال: حجوا بها عني من الأندلس، أو
قال: حجوا بها عني ولم يقل من الأندلس إلا أنه من أهلها وبها مات؟ قال ابن
القاسم: نعم يختلف. أما قوله: حجوا بها عني، ولم يسم من الأندلس ولا من
مكان يحج بها منه - فإنهم إن لم يجدوا من يحج بها عنه من بلده بعثوا بها
إلى المواضع التي يجدون بها من يحج بها عنه منها، وإن كان إفريقية أو مصر،
فإن لم يجدوا ففيما وراء ذلك المدينة أو أمامها حتى ينفذوها فيما أوصى.
وأما قوله: من الأندلس، فإن وجدوا من يحج بها من الأندلس كما أوصى وسمى
وإلا ردت إلى الورثة ولم يخرج بها إلى ما وراء ذلك.
قال محمد بن رشد: أما إذا أوصي أن يحج بها عنه ولم يسم من ذلك كراء فلا
اختلاف في أنه يحج بها عنه من حيث يوجد إذا لم يوجد من يحج بها عنه من
بلده. وأما إذا قال: حجوا بها عني من بلد كذا وبها مات، فلم يوجد من يحج
بها عنه من تلك البلد، فقال ابن القاسم في هذه الرواية: إنها ترجع ميراثا
ولا يستأجر له بها من بلد آخر. وروى عنه مثله أصبغ، وقال من رواية: إنه
يستأجر له بها من حيث يوجد إلا أن يبين ألا يحج بها عنه إلا من الأندلس.
وحكى مثل ذلك ابن المواز عن أشهب، واختار هو قول ابن القاسم: إن كان الميت
قد حج، وهو قول أشهب: إن كان صرورة لم يحج. وقد تقدم في أول رسم من سماع
ابن القاسم الاختلاف فيمن استؤجر للحج عن ميت، فاعتمر عن نفسه وحج عن الميت
من مكة، وهي مسألة أخرى تقرب من هذه في المعنى، فتدبرها.
(4/52)
[رجل أوصى أن يحج عنه بثلث ماله فوجدوا
ثلثه ألف دينار]
ومن سماع يحيى بن يحيى من ابن القاسم من كتاب الصلاة وسئل: عن
رجل أوصى أن يحج عنه بثلث ماله فوجدوا ثلثه ألف
دينار ونحو ذلك، أيخرج عنه ما يحج به عنه حجة واحدة، ويكون ما بقي
للورثة؟ أو يهدى عنه بما بقي؟ قال: بل ينفذ ذلك كله في الحج عنه يعطاه رجال
يحجون به عنه حتى يستوعب الثلث بالغا ما بلغ. قيل له: أرأيت إن لم يكن في
الثلث ما يحج به عنه من بلده؟ قال: فليحج عنه بثلثه ذلك وإن قل من حيث يوجد
من يحج عنه بذلك الثلث وإن لم يكن ذلك إلا من مكة.
قال محمد بن رشد: لما أوصى أن يحج عنه بثلث ماله وهو مال واسع كبير فيه ما
يحج به عنه حجات استدل بذلك على أنه لم يرد بوصيته حجة واحدة وإنما أراد أن
ينفذ ثلثه في حجات فينفذ عنه ثلثه في الحج ولا يرجع منه للورثة شيء؛ لأن ما
فضل يحج به عنه من حيث ما بلغ ولو من مكة. ولو كان ثلثه قدر ما يشبه به أن
يحج به عنه حجة واحدة، لم يحج عنه إلا حجة واحدة، فإن استؤجر عليها بأقل من
الثلث رجع ما بقي من الثلث إلى الورثة، كما قال في المدونة: إذا قال: حجوا
عني بهذه الأربعين فدفعوها إلى رجل على البلاغ ففضلت منها عشرون - إنها ترد
إلى الورثة، فليست هذه المسألة بخلاف لما في المدونة. ولو أوصي أن يحج عنه
من ثلث ماله لم يحج عنه إلا حجة واحدة وإن كان ثلثه واسعا كثيرا لأن "من"
للتبعيض، فيعلم بذلك أنه لم يرد أن ينفذ ثلثه كله عنه في حج. ولو أوصي أن
يحج عنه فقال: حجوا عني، ولم يزد على ذلك لم يقل بثلثي ولا من ثلثي ولا
بكذا وكذا - لجرى ذلك عنه على الاختلاف في الأمر، هل يقتضي التكرار أو لا
يقتضيه؟ فينفذ عنه ثلثه كله في الحج على القول بأن الأمر المطلق يقتضي
التكرار، ويحج عنه من ثلثه حجة واحدة لا أكثر، على القول بأن الأمر المطلق
لا يقتضي التكرار. وأما إذا قال: يحج عني فلان بثلثي أو بكذا وكذا، فلا
اختلاف في أنه لا يحج عنه إلا حجة واحدة، وإن كان الثلث أو ما سمى من العدد
كثيرا مثله فيه ما يحج به
(4/53)
حجات كثيرة، وإنما يختلف هل يكون الثلث أو
ما سمى من العدد وصية لفلان يعطاه كله إن أراد أن يحج عنه، فيكون له ما
فضل، أو لا يكون ذلك وصية له ويحمل على أنه إنما سمى العدد أو ذكر الثلث
مخافة أن يأبى الرجل أن يحج عنه بأقل من ذلك، وهو إنما رغب في أن يكون هو
الذي يحج عنه لثقته به وتوسمه فيه، والقولان في المدونة. والأول منهما هو
الذي اختار سحنون، ورد ابن لبابة القول الأول إلى الثاني بالتأويل، فلم
يجعل ذلك اختلافا وهو بعيد. ولو قال: يحج عني فلان ولم يسم عددا فأبى فلان
أن يحج عنه إلا بأكثر من أجرة المثل لكان الحكم أن يزاد على أجرة مثله مثل
ثلثها، فإن أبى أن يحج عنه إلا بأكثر من ذلك لم يزد على ذلك، واستؤجر غيره
من يحج عنه بعد الاستيناء بذلك، ولم يرجع ذلك إلى الورثة إن كانت الحجة
فريضة باتفاق، أو نافلة على قول غير ابن القاسم في المدونة، خلاف قول ابن
القاسم فيها، والله الموفق.
[مسألة: أخطأ أهل الموسم فكان وقوفهم بعرفة يوم
النحر]
مسألة وقال: إذا أخطأ أهل الموسم فكان وقوفهم بعرفة يوم النحر مضوا على
عملهم وإن تبين ذلك لهم وثبت عندهم في بقية يومهم ذلك أو بعده، وينحرون من
الغد، ويتأخر عمل الحج كله في الباقي عليهم يوما لا ينبغي لهم أن يتركوا
الوقوف من أجل أنه يوم النحر، ولا أرى أن ينقصوا من رمي الجمار الثلاثة
الأيام إلا بعد يوم النحر، ويجعلون يوم النحر للغد بعد وقوفهم، ويكون حالهم
في شأنهم كله كحال من لم يخط. قال: وإذا أخطئوا فقدموا الوقوف بعرفة يوم
التروية أعادوا الوقوف من الغد من يوم عرفة نفسه، ولم يجزهم الوقوف الذي
وقفوا يوم التروية.
(4/54)
قال محمد بن رشد: ذكر ابن أبي زيد هذه
المسألة في النوادر، ووصل بها قال: واختلف فيها قول سحنون فيما أخبرنا أبو
بكر بن محمد بن حمديس عنه، ولم يبين حيث اختلف قوله. فمن الناس من حمل
اختلاف قوله على الذين أخروا الوقوف فوقفوا يوم النحر، ومنهم من حمله على
الذين عجلوا فوقفوا يوم التروية، والأمر في ذلك محتمل؛ لأن الخلاف في
الوجهين جميعا موجود. قيل: إن الحج لا يجزيهم قدموا الوقوف أو أخروه قياسا
على المنفرد إذا أخطأ وقوف الناس فوقف قبلهم أو بعدهم، وهو قول ابن القاسم
فيما حكى عنه اللخمي من أن الحج لا يجزيهم إذا أخطئوا فوقفوا بعد يوم عرفة؛
لأنه إذا كان الحج عنده لا يجزيهم إذا أخروا الوقوف فأحرى ألا يجزيهم عنده
إذا قدموا الوقوف، وقيل: إن الحج يجزيهم قدموا الوقوف أو أخروه، وهو أحد
قولي الشافعي قياسا على من اجتهد فصلى إلى غير القبلة: إن صلاته جائزة ولا
إعادة عليه إذا خرج الوقت. وحكى أنه إجماع فقاس عليه مسألة الأسير تلتبس
عليه الشهور فيصوم قبل رمضان أو بعده إن صيامه يجزيه، وليس بإجماع لما
يذكره في ذلك من الخلاف بعد إن شاء الله. قال أبو القاسم بن الكاتب: وإنما
ذهب الشافعي إلى إجازة حجهم إذا وقفوا قبل يوم عرفة لأن أبا بكر الصديق
أقام للناس الحج بأمر النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في شهر ذي القعدة.
فرأى أن أهل الموسم إذا أخطئوا فقدموا الوقوف قبل يوم عرفة يجزيهم الحج لحج
أبي بكر بالناس في شهر ذي القعدة. قال: وإنما كانت تصح له الحجة بذلك لو
كانت تلك الحجة لأبي بكر فريضة، ولم تكن له فريضة، وإنما بعثه رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أميرا على الحج وليعهد إلى الناس بما
أمره به أن يعهد به إليهم من أن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت
عريان، ثم أتبعه علي بن أبي طالب لما نزلت سورة أول براءة ليتلى على الناس
في الموسم. والشافعي كان أعلم وأبصر بموضع الحجة من أن يحتج بهذا، لقوله في
(4/55)
هذه المسألة؛ لأن حج أبي بكر في ذي القعدة
لم يكن خطأ وإنما كان شرعا ودينا بأمر النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -،
والنسيء قائم قبل أن ينسخ، فأجزأهم حجهم فرضا كان أو نفلا. وكيف لا يجزيهم
وقد سماه الله في كتابه الحج الأكبر، ولئن كانت تلك الحجة لأبي بكر وعلي بن
أبي طالب وغيره ممن أعلمه النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه سيحج معه من
العام المقبل نفلا، فقد كانت لمن سواهم من الناس الذين حجوا في ذلك العام
ولم يدركوا الحج مع النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فرضا؛ لأنها إنما كانت
بعد نزول فرض الحج. هذا مما لا اختلاف فيه أعلمه، ثم حج رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في العام المقبل في ذي الحجة على ما كان
الناس عليه من النسيء فنسخ الله النسيء حينئذ. وقال - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ألا إن الزمان قد استدار» ... الحديث، فثبت الحج في
ذي الحجة إلى يوم القيامة. والذي عليه أكثر أهل العلم أن أهل الموسم إذا
أخطئوا فقدموا الوقوف قبل يوم عرفة لم يجزهم حجهم، وإن أخطئوا فوخروه، إلى
يوم النحر أجزأهم حجهم، وهو قول مالك والليث والأوزاعي وأبي حنيفة وأبي
يوسف ومحمد بن الحسن وعثمان الليثي وجماعة سواهم.
والفرق بين الوجهين أن الذين أخطئوا فوقفوا يوم النحر فعلوا ما تعبدهم الله
به على لسان رسوله من إكمال شهر ذي القعدة ثلاثين يوما إذا أغمي عليهم هلال
ذي الحجة، فلما فعلوا ما أمروا به من ذلك كان حجهم في الوقت الذي أمرهم
الله على لسان نبيه أن يحجوا فيه ووقوفهم في اليوم الذي تعبدهم الله أن
يقفوا فيه، وإن انكشف لهم ذلك بعد أن كان يوم النحر لم يضرهم إذ قد مضى
فعلهم صحيحا بموجب النص دون اجتهاد، وكتب لهم حجهم وسلم لهم أجرهم وسقط
عنهم فرضهم، فليس ما ظهر لهم بعد ذلك قرب أو بعد بالذي يمحو ما كتب لهم من
الحج ويبطل ما ثبت لهم من الأجر، ويوجب ما سقط عنهم من الفرض، وأن الذين
أخطئوا فوقفوا يوم التروية
(4/56)
أخطئوا باجتهادهم إذ قبلوا شهادة من شهد
بالباطل في رؤية الهلال، إما بأن شبه عليهم، وإما بأن تعمدوا الزور والكذب،
فوجب ألا يجزيهم الوقوف الذي وقفوا إذا لم يعلموا بذلك إلا بعد أن طلع
الفجر من يوم النحر، كما لا يجزيهم الوقوف إذا علموا بخطئهم قبل ذلك، إذ لا
اختلاف في أن وقوفهم لا يجزيهم إذا علموا بذلك قبل أن يفوتهم الوقوف بطلوع
الفجر من يوم ليلة المزدلفة.
وحكى ابن أبي زيد في النوادر أيضا عن سحنون متصلا بما حكاه عنه من اختلاف
قوله في خطأ أهل الموسم في هلال ذي الحجة، في أهل الموسم ينزل بهم ما نزل
بالناس سنة العلوي وهروبهم من عرفة ولم يتموا الوقوف، قال: يجزيهم ولا دم
عليهم، كأنه ذهب بذلك إلى ترجيح أحد قوليه في المسألة المتقدمة، وهي مسألة
أخرى لا تشبهها؛ لأنهم في هذه المسألة في حكم من حصرهم العدو عن الوقوف
بعرفة، فلا يجزيهم الحج إلا على مذهب ابن الماجشون في أن المحصر بعدوه
يجزئه [حجه] عن حجة الإسلام، فإنما مال إلى قوله، والله أعلم وبه التوفيق.
[الرجل يكون عليه المشي إلى بيت الله فيمشي في الحج ثم يفسد حجه]
ومن كتاب أوله يشتري الدور والمزارع وسألته: عن
الرجل يكون عليه المشي إلى بيت الله فيمشي في الحج ثم يفسد حجه
بإصابة أهله وهو بعرفة، هل يمضي ماشيا حتى يحل بعمرة؟ أو يركب من حيث أفسد
حجه؟ ماذا ترى عليه أن يصنع إذا قضى الحج الذي أفسد أيستأنف المشي من حيث
حلف أو من حيث ركب؟ أو هل يجزيه مشيه بعد فساد الحج؟ هل يحل
(4/57)
بعمرة؟ قال: يحج قابلا ويهدي لما أفسد من
حجه ويمشي من ميقاته الذي كان أحرم منه للحجة التي أفسد. قلت: ولم ألزمته
إعادة المشي من الميقات الذي أحرم منه ورأيت ما مشى من حيث ما كان حلف يجزي
عنه؟ قال: إنما يفسد عليه الحج المشي الذي لم يكن يجوز له أن يطأ فيه، وأما
مشيه من بلده الذي حلف فيه إلى الميقات الذي أحرم منه فقد كان يجوز له أن
يطأ أهله وهو ماش إلى الميقات، ولا يجوز له أن يطأ أهله بعدما يحرم بها،
فما كان من المشي لا يجوز له فيه وطء فهو منتقض بما أفسد من حجه الذي مشى،
وما كان منه يجوز له فيه الوطء فلا ينتقض عليه بفساد حجه الذي مشى فيه. قلت
له: إن الذي ينقطع مشيه في حجتين له أو عمرتين أو حج وعمرة لعجزه عن المشي
يهدي، وهذا قد قطع مشيه بما أفسد من حجه، وما وجب عليه من إعادته من
الميقات، وعليه هدي لفساد الحج، أيهدي هديا آخر لتبعيض المشي.
قال محمد بن رشد: قوله في أول المسألة: ثم يمضي ماشيا حتى يحل بعمرة في
الذي أفسد حجه، وقوله بعد ذلك فيها: أو هل يجزيه مشيه بعد فساد الحج حتى
يحل بعمرة، المعنى في ذلك أن الحج فاته بعد أن أفسده، إذ لا يجوز فسخ الحج
الصحيح ولا الفاسد في عمرة؛ لأن ما روي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -
من أمره في حجة الوداع من لم يكن معه هدي أن يحل بعمرة أمر منسوخ، إنما كان
أمر به رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يومئذ نقضا لما
كان عليه أهل الجاهلية من تحريم العمرة في أشهر الحج، وقد رأيت [لبعض]
الشيوخ في حواشي الكتب على هذه المسألة: وقد روي عن مالك أن المفسد لحجه
يصير حجه إلى عمرة، وهو غلط، إذ لا يوجد لمالك ذلك ولا لغيره، وأراه وهم في
ذلك للفظ وقع في كتاب الحج الثالث من المدونة على ظاهره، أو لمسألة وقعت في
النوادر خطأ في النقل. ومساواته بين أن يكون يركب من حيث أفسد حجه
(4/58)
أو يمضي ماشيا إلى تمام حجه - صحيح؛ لأن
المشي لا يجزيه بعد الوطء لفساد الحج ووجوب قضائه عليه، فسواء ركب أو مشى.
وقوله: إنه يمشي من ميقاته ويجزيه المشي الذي مشى من حيث حلف إلى الميقات
خلاف مذهب مالك وابن القاسم في المدونة، وما نص عليه ابن حبيب في الواضحة:
من أن من ركب من غير أن يعجز عن المشي أعاد المشي كله، إذ لا يجوز له أن
يفرق مشيه إلا من ضرورة، ويهدي لأنه لما وطئ فقد فرق مشيه باختياره من غير
ضرورة. ولما سأله في آخر المسألة: هل يجب عليه هدي لتفريق المشي؟ سكت عنه
ولم يجبه على ذلك. والذي يأتي على قياس قوله فيها: أن لا هدي عليه، وعلى ما
في المدونة: أن يعيد المشي من حيث حلف، إلا أن يكون وطئ ناسيا فحينئذ يمشي
من الميقات، ويجب عليه الدم لتفريق المشي؛ لأنه مغلوب على التفرقة بالوطء
ناسيا كما هو مغلوب عليها بالعجز عن المشي، فيجزيه المشي ويهدي في
المسألتين جميعا.
[مسألة: المحرم يصاد من أجله الصيد فيأكل منه]
مسألة وسئل: عن المحرم يصاد من أجله الصيد فيأكل منه، قال: أرى عليه جزاءه
إن كان أكل منه وقد علم أنه صيد من أجله. قيل له: فإن أكل منه محرم لم يصد
من أجله، قال: لا أحب له أن يفعل، فإن فعل لم يكن عليه شيء، وبئس ما صنع،
قيل له: فإن صيد لجماعة من المحرمين فأكلوا منه وهم يعلمون أنه صيد من
أجلهم، قال: يكون على كل واحد منهم جزاء ذلك الصيد. قال: فإن أكله منهم من
لم يعلم أنه صيد من أجله فلا شيء عليه، قال: وكل شيء صيد من أجل الحاج فأكل
منه من قد علم أنه قد صيد من أجل الحاج، فإنه إن كان محرما يوم صيد ذلك
الصيد فعليه جزاؤه إن أكل منه وهو يعلم؛ وإن لم يعلم أنه صيد من أجل الحاج
أو تبين له أنه صيد للحاج قبل أن يحرم هذا الذي أكل منه فلا شيء
(4/59)
عليه، قال: ولا أحب له أن يتعمد الأكل منه؛
قيل له: فإن صيد من أجل رجل محرم صيد يتأخر عنه القدوم فأكل منه بعدما حل
عليه شيء؟ قال: لا أحب له أن يأكل منه ولا أرى عليه شيئا إن فعل، قال: وكل
شيء صيد من أجل الحاج فلا أحب لحرام لم يصد من أجله خاصة ولا بعدما أحرم
بالحج أو بالعمرة ولا لحلال أن يأكل منه، فإن فعل فلا شيء عليه.
قال محمد بن رشد: لم يختلف قوله في هذه الرواية أن من صيد من أجله صيد وهو
محرم فأكل منه وهو يعلم أنه صيد من أجله فعليه جزاؤه، واختلف قوله فيها إن
صيد للمحرمين وهو محرم يوم صيد لهم فأكل منه وهو يعلم أنه صيد للمحرمين وهو
محرم فقال أولا: عليه جزاؤه، وقال آخرا: لا شيء عليه، وذلك بين من قوله لم
يصد من أجله خاصة، فبين أنه لا جزاء عليه إن أكل منه إلا أن يكون صيد من
أجله خاصة بعدما أحرم، وأما إن صيد للمحرمين فلم يأكل منه حتى حل من إحرامه
فهو كغيره من المحلين لا جزاء عليه فيه، وقد قيل فيما صيد للمحرم: إنه لا
جزاء عليه فيه وإن أكل منه وهو يعلم أنه صيد من أجله إلا أن يعلمه بذلك قبل
ذبحه، فيذبحه على ذلك أو يأمره بصيده.
وفي هذه المسألة اختلاف كثير، يتحصل فيها خمسة أقوال:
أحدها: أنه لا يأكله الذي صيد من أجله ولا غيره، فإن أكل منه هو أو غيره من
المحرمين وهو يعلم - وجب جزاؤه عليه.
والثاني: أنه لا يأكله هو ولا غيره، فإن أكله هو وهو عالم وجب عليه جزاؤه،
وإن أكل منه غيره من المحرمين لم يجب عليه جزاؤه.
(4/60)
والثالث: أنه لا يأكل منه هو ولا غيره، فإن
أكل منه هو أو غيره لم يجب عليه جزاؤه.
والرابع: أنه لا يأكل منه هو، ويأكل منه غيره.
والخامس: أنه يأكل منه هو وغيره.
وأما ما صاده الحلال أو الحرام في الحرم فلا اختلاف في أن ذلك لا يوكل، ولا
في أن الجزاء واجب فيه، وفي جواز أكل المحرم لحم ما صاده الحلال في الحل
أربعة أقوال:
أحدها: أن ذلك جائز جملة من غير تفصيل.
والثاني: أن ذلك لا يجوز جملة أيضا من غير تفصيل.
والثالث: أنه يجوز إلا أن يكون صيده.
والرابع: أن ذلك جائز إلا أن يكون صيد له أو لغيره من المحرمين.
[مسألة: صاد محرم صيدا فحبسه حتى حل ثم ذبحه]
مسألة قال: وإن صاد محرم صيدا فحبسه حتى حل ثم ذبحه كان عليه جزاؤه؛ لأن
إرساله قد كان لزمه حين صاده وهو محرم، قال: وإن أرسله فكان مما لا يخاف
عليه الهلاك بإرساله فلا شيء عليه، وإن كان مما يُخاف عليه الهلاك فإن
أرسله فأرى عليه جزاءه، قيل: فإن كان صاده وهو حلال، ثم حبسه في إحرامه حتى
حل ثم ذبحه كان عليه جزاؤه.
قال محمد بن رشد: قال إنه إذا صاد المحرم الصيد فحبسه حتى حل
(4/61)
ثم ذبحه كان عليه جزاؤه، ولم يجب على الذي
صاده وهو حلال ثم أحرم وهو في يده فحبسه حتى حل ثم ذبحه، ومذهب ابن القاسم
في المدونة وهو قوله في سماع سحنون بعد هذا أن عليه الجزاء، بمنزلة إذا
صاده وهو محرم؛ لأن إرساله قد وجب عليه لإحرامه وهو بيده، وقال أشهب في
سماع سحنون: إنه لا جزاء عليه فيه، وقد ذكر الاختلاف فيها في المدونة، قال
فيها: قد اختلف الناس في هذا أن يرسله أو لا يرسله، فمن أوجب عليه أن يرسله
بعد إحلاله أوجب عليه الجزاء إن ذبحه، ومن لم يجب عليه إرساله إذ حل لم
يوجب عليه فيه جزاء إن ذبحه، وكذلك إذا صاده وهو حلال ثم أدخله الحرم ثم
أخرجه منه فقتله، المسألتان سواء، والخلاف فيهما واحد، وقوله في الذي وجب
عليه إرساله: إن الجزاء يجب عليه وإن أرسله إذا كان مما يخاف عليه بإرساله
صحيح مفسر لما في المدونة، ويؤيده ما وقع في المدنية. قال ابن كنانة: كان
عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نازلا بمكة في دار الندوة فدخل
عليه عثمان بن عفان ونافع بن عبد الحارث، فقال لهما عمر: إني نزلت في هذه
الدار لأستقرب المسجد، فدخلت فوضعت ثيابي على هذا المواقف وهو شيء ناتئ
يجعل عليه الثياب، فوقع عليه حمامة فخفت أن توذي ثيابي فأطرتها فوقعت على
هذا الناتئ الآخر، فخرجت حية فأكلتها، فخشيت أن تكون إطارتي إياها سببا
لحتفها، فاحكما علي فيها، فقال أحدهما لصاحبه: [ما تقول] في عنز ثنية عفراء
يحكم بها على أمير المؤمنين، فقال له صاحبه: نحكم عليه بها، وقال ابن
القاسم مثله، وبالله التوفيق.
(4/62)
[ينسى الرمي يوما أو يومين ثم يذكر]
ومن كتاب الأقضية قال: وسئل ابن وهب عن الذي
ينسى الرمي يوما أو يومين ثم يذكر، قال: قال لنا مالك: يرمي لما
فاته في اليوم الثالث لليومين الماضيين ويهدي.
قال ابن وهب: وأما أنا فأقول: إن كان أخر ذلك متعمدا كان عليه الهدي مع
القضاء، وإن أخر ناسيا قضى ولا هدي عليه إذا ذكر ذلك في أيام الرمي، قال:
وإن لم يذكر إلا بعد أيام الرمي كان عليه الهدي، ناسيا كان أو متهاونا.
قال محمد بن رشد: قول مالك في رواية ابن وهب هذه عنه: إنه يرمي في اليوم
الثالث لليومين ويهدي مثل أحد قوليه في المدونة، وله فيها قول ثان: إنه لا
هدي عليه إذا كان ناسيا مثل قول ابن وهب. وأما إذا ترك متعمدا أو متهاونا
فلا ينبغي أن يختلف في إيجاب الهدي عليه، وكذلك إذا ترك الرمي حتى ذهبت
أيام منى لم يختلف قول مالك في إيجاب الهدي عليه، فقول ابن وهب مفسر لأحد
قولي مالك في المدونة.
[مسألة: من نسي جمرة العقبة]
مسألة قال ابن وهب: وكان مالك يرى على من نسي جمرة العقبة هدي بدنة، وعلى
من نسي جمرة من الجمار غير جمرة العقبة هدي شاة، وإن نسي جمرتين فبقرة، وإن
نسي الثلاث كلها فبدنة، كان يستحب هذا ويرى أن أدنى الهدي يجزيه في جميع
ذلك [كله] .
(4/63)
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في المدونة
سواء في الاستحسان. والأصل في أن أدنى الهدي يجزي في ذلك - قوله عز وجل:
{فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] ،
وقول ابن عباس: من نسي من نسكه شيئا أو تركه فليهرق دما.
[مسألة: ينسى الرمي يومين كيف يقضي في اليوم
الثالث]
مسألة قيل لابن وهب: أرأيت الذي ينسى الرمي يومين كيف يقضي في اليوم
الثالث؟ أيرمي الجمرة الدنيا لليومين جميعا ثم الأخرى كذلك، ثم الثالثة
كذلك؟ فقال: لا، ولكن يرمي الجمار كلهن لليوم الأول كرمي من لم ينس، ثم
يرمي لليوم الثاني أيضا الجمار كلهن، الأول فالأول كذلك أيضا.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه؛ لأن ذلك مقيس على
الصلاة، فمن نسي صلاة يومين أو ثلاثة فيقضيها كما تركها صلاة يوم بعد صلاة
يوم، ولا يجوز له أن يصلي الصبح ثلاثا ثم الظهر ثلاثا، ثم سائر الصلوات
ثلاثا ثلاثا، فكذلك الجمار، وبالله التوفيق.
[مسألة: المحرم يصيب بيض النعم]
مسألة وسئل ابن نافع: عن المحرم يصيب بيض النعم أيأخذ فيه بقول مالك إن
فديته عشر قيمة النعامة؟ قال: لا آخذ في ذلك بقول مالك [هذا] ، بل أتبع فيه
ما جاء عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -،
(4/64)
وذلك أن محمد بن أبي كثير حدثني عن محمد بن
أبي حرملة عن عطاء بن يسار: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - سأله رجل محرم عن ثلاث بيضات نعامة أصابهن، فقال: "صم لكل بيضة
يوما» .
قال محمد بن رشد: صح الحديث عند ابن نافع فأخذ به، ولم يصح عند مالك أو لم
يبلغه فرجع في ذلك إلى ما يوجبه القياس على ما صح عنه من حديث النبي -
عَلَيْهِ السَّلَامُ - أن «في الجنين غرة عبدا أو وليدة» [والغرة] تقوم
خمسين دينارا أو ستمائة درهم، وذلك عشر الدية، فأوجب في بيضة النعامة عشر
جزاء النعامة؛ لأن البيض في الطير كالحمل فيما سواها من الحيوان، فإرادته
بما حكى عن مالك أن فدية بيضة النعامة عشر قيمة النعامة عشر جزاء النعامة،
فسمى الجزاء قيمة، وجزاؤها عند مالك بدنة، وكذلك جاء فيها عن السلف، ففي
بيضة النعامة عند مالك عشر ثمن البدنة التي يحكم بها في جزائها.
[مسألة: يخير الحكمان من أصاب الصيد إذا
استحكما]
مسألة قال ابن وهب: ومن السنة أن يخير الحكمان من أصاب الصيد إذا استحكما،
فيقولان له: إن الله تعالى يقول في كتابه: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ
مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ
أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} [المائدة: 95]
(4/65)
فيخيرانه كما خيره الله تبارك وتعالى، فإن
اختار الهدي حكما من الهدي بما يريانه نظيرا لما أصاب من الصيد ما بينه
وبين أن يكون عدل ذلك الذي يحكمان فيه شاة، فإنها أدنى الهدي وما لم يبلغ
قيمته عندهما أن يحكما فيه بشاة حكما فيه بالطعام. وما اختار أن يحكما عليه
فيه بالطعام أو لم يبلغ قيمته ما يحكمان فيه بالشاة، فحكما فيه بالطعام فهو
مخير بين أن يطعم ذلك الطعام الذي يحكمان به عليه مساكين أو يصوم مكان كل
مد يوما. قلت له: أيطعمه بمكة خاصة أم حيث شاء، ويصوم حيث شاء؟ قال: إذا
حكما بالهدي فلا يكون إلا بمكة لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {هَدْيًا بَالِغَ
الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] ، وما صار إلى الطعام أو إلى الصيام فإنه يفعل
ذلك حيث شاء. قلت: أرأيت إن أحب أن يطعم في بلده والطعام عندهم أرخص،
أيجزئه أن يخرج المكيلة التي حكما بها عليه؟ فقال: لا، ولكن ينظر إلى قيمة
ذلك الطعام بالثمن من الدنانير والدراهم حيث أصاب الصيد ووجب عليه الحكم،
يشتري بذلك الثمن طعاما ببلده، قلت: أرأيت إن وجد الطعام ببلده أغلى منه
حيث حكم عليه أيجزيه أن يشتري بذلك الثمن الذي باع وإن قل الطعام أم لا
يجزيه إلا أن يطعم تلك المكيلة التي حكما بها عليه؟ قال: يشتري بذلك الثمن
الذي باع به الطعام الذي حكم به عليه حيث أحب أن يتصدق بالطعام، غلا الطعام
بذلك البلد أو رخص، لا شيء عليه إلا ذلك.
(4/66)
قال محمد بن رشد: قوله: وما صار من ذلك
[إلى] الطعام أو الصيام فإنه يفعله حيث شاء هو نص قول مالك في الموطأ، فما
زاد بعد ذلك من قوله إنه إن أراد أن يطعم بغير البلد الذي أصاب فيه الصيد
فيشتري بما تشرى المكيلة التي حكم بها عليه في البلد الذي أصاب الصيد فيه
طعاما بالبلد الذي يريد أن يطعم به كان ذلك أقل من المكيلة التي حكم بها
عليه أو أكثر هو تفسير لقول مالك في الموطأ ولما في المدونة أيضا؛ لأن معنى
قوله فيها ليس له أن يطعم في غير ذلك المكان، أي ليس له أن يطعم المكيلة
التي حكم عليه بها في غير ذلك المكان ليرتفق برخص الطعام فيه بدليل قوله:
يحكم بالطعام بالمدينة ويطعمه بمصر إنكارا لمن يفعل ذلك، فلا يجزي من فعله.
قال ابن حبيب: إنه إن لم يطعم بالموضع الذي حكم به عليه أو فيما قاربه
فليخرجه على أرخص السعرين، وهو احتياط واستحسان من نحو قوله فيمن وجبت عليه
زكاة دينار فأراد أن يخرج عنها دراهم: أنه يخرج قيمتها من الدراهم إلا أن
يكون قيمتها أقل من عشرة دراهم بدينار، فلا ينقص من ذلك شيئا، وسائر ما في
الرواية صحيح مثل ما في المدونة وغيرها لا إشكال فيه ولا كلام، والله أعلم.
[الذي يقول علي هدي عبد أو ثوب]
ومن سماع سحنون وسؤاله ابن القاسم قال سحنون: وسألت ابن القاسم عن الذي
يقول: علي هدي عبد أو ثوب، قال: ينظر إلى أوسط الثياب أو العبيد وعلى قدر
ما يرى، فيبعث بثمنه فيشتري بثمنه هديا.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأنه لما لم يسم في ذلك قيمته وجب أن يرجع
فيه إلى الوسط، كمن تزوج بأروس ولم يصفها، أو كاتب عبده على أروس بغير صفة.
(4/67)
[مسألة: الذي
يقول علي هدي رقبة من ولد إسماعيل]
مسألة قال ابن القاسم في الذي يقول: علي هدي رقبة من ولد إسماعيل، قال:
ينظر إلى أقرب الناس بولد إسماعيل ممن يسترق، فينظر إلى قيمة وسط من ذلك،
فيبعث بثمنه فيشترى به هدي، قال مالك: الذي يقول: علي عتق رقبة من ولد
إسماعيل مثل هذا، وهذا مثله.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأنه إذا نذر عتق رقبة أو هدي رقبة، فسمى
جنسا كان عليه الوسط من ذلك الجنس، فكذلك إذا سمى نسبا كان عليه الوسط من
ذلك النسب؛ لأن بعض الأنساب أشرف من بعض وأعلى ثمنا، كما أن بعض الأجناس
أفضل من بعض وأرفع ثمنا، وقد «سئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - عن أفضل الرقاب، فقال: أعلاها ثمنا وأنفسها عند أهلها» .
[مسألة: فيما صيد لمحرم فأكله وهو يعلم أنه صيد]
مسألة قال ابن القاسم: قال مالك فيما صيد لمحرم فأكله وهو يعلم أنه صيد له
فعليه جزاؤه، قال: وإن أكله غيره من المحرمين فليس عليه شيء، وبئس ما صنع،
قلت لابن القاسم: إن علموا أنه صيد لمحرم أو لم يعلموا؟ قال: نعم. قلت: فإن
لم يعلم الذي صيد له فأكل منه فلا شيء عليه؟ قال ابن القاسم: وكل ما صيد
للمحرمين يتلقونهم به، فأكله محرم وهو يعلم أنه صيد لهم، قال: أما إن كان
محرما يوم صيد لهم فأكله رجل من أولئك وهو يعلم فعليه الفدية، وإن لم يعلم
فلا شيء عليه، ومن أكله من المحرمين ممن أحرم بعدما صيد للمحرمين فلا شيء
عليه، وبئس ما صنع، وإن علم أنه
(4/68)
صيد للمحرمين إذا كان قد صيد قبل أن يحرم
هذا، قال ابن القاسم: قال مالك: ولو أن رجلا بلغه أن رجلا يريد الحج فصاد
له أو قوم أرادوا الحج فصيد لهم قبل أن يحرموا ثم أحرموا فلا شيء عليهم في
أكله، قيل له: فإن صيد صيد من أجل رجل محرم بعينه وهو محرم فلم يأكل المحرم
منه حتى حل من إحرامه، قال: بئس ما صنع، ولا شيء عليه.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة وتحصيل الاختلاف فيما فيه اختلاف منها
في رسم يشتري الدور والمزارع من سماع يحيى فلا معنى لإعادته.
[مسألة: صاد صيدا وهو حلال أو حرام فأدخل
الحلال صيده الحرم]
مسألة قلت: أرأيت رجلا صاد صيدا وهو حلال أو حرام فأدخل الحلال صيده الحرم،
أو أحرم وهو معه ثم أخرجه، أو حل من إحرامه وحل الذي صاده وهو محرم، والصيد
معهم لم يرسل فأكلاه؟ قال: أرى عليهما الجزاء؛ لأنه مما قد وجب عليهما
إرساله. قيل: وإن كان مما لا يحل فأرى عليهما جزاءه، وقد خالفني فيها أشهب،
وقال: لا شيء عليهما.
قال محمد بن رشد: وهذه المسألة أيضا قد مضى تحصيل القول فيها في الرسم
المذكور من سماع يحيى.
[مسألة: قال قد كنت نذرت أن أمشي لله حافيا
فاسألوا عن يميني]
مسألة وقال في رجل قال: قد كنت نذرت أن أمشي لله حافيا فاسألوا عن يميني،
فما وجب علي فأنفذوه عني، قال: أرى أن يهدي بكفافه من النفقة إلى مكة،
والكراء هدايا ولا يحج عنه.
(4/69)
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة لا
اختلاف فيها في المذهب إذ لم يوص أن يمشى عنه، وإنما أوصى أن ينفذ عنه ما
وجب عليه في ذلك، ولو أوصى أن يمشى عنه لما نفذت وصيته بذلك عند مالك خلافا
لسحنون، وقد مضى القول في ذلك في رسم حلف الأول من سماع ابن القاسم.
[مسألة: هل للمحرم أن يسافر اليوم واليومين
والثلاثة]
مسألة وسألت سحنون: هل للمحرم أن يسافر اليوم واليومين والثلاثة؟ قال: نعم،
وليس هو مثل المعتكف.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن المحرم له أن يتصرف في حوائجه ويبيع
ويشتري في الأسواق، قال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا
فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] الآية، يريد التجارة في مواسم الحج،
فحاله خلاف حال المعتكف في السفر أيضا إن أراده، والله الموفق.
[مسألة: يدخل مكة متمتعا في أشهر الحج ثم تعرض
له الحاجة]
مسألة قلت: فالمحرم يدخل مكة متمتعا في أشهر الحج، ثم تعرض له الحاجة بعد
إحلاله من عمرته إلى مثل جدة والطائف، فيخرج إليها، أرأيت إذا رجع من سفره
ذلك إلى مكة أيدخل بإحرام أم بغير إحرام؟ قال: إن كان حين خرج إلى سفره ذلك
نوى الرجوع إلى مكة من عامه، ليحج من عامه ذلك، فليس عليه أن يدخل بإحرام،
مثل ما قال مالك في الذين يختلفون إلى مكة بالحطب والفاكهة: إنهم لا إحرام
عليهم، وإن كان ممن خرج إلى سفره
(4/70)
خرج خروجا لا ينوي فيه العودة، فلما خرج
بدا له فأراد العودة فعليه الإحرام، ونزلت بأبي سليمان أيوب بن أبا.
قال محمد بن رشد: قوله: إن من خرج من مكة إلى موضع قريب علم أن يعود إليها
فليس عليه إذا رجع إليها أن يدخل بإحرام هو مثل ما في المدونة في الذي كان
عليه هدي من جزاء صيده فلم ينحره حتى ذهبت أيام منى فاشتراه بمكة وأخرجه
إلى الحل أنه ليس عليه أن يدخل محرما ويدخل حلالا، وكذلك أيضا عند مالك من
خرج على أن لا يعود إذا رجع من قرب لأمر عاقه؛ كما فعل عبد الله بن عمر: إذ
خرج من مكة إلى المدينة، فلما بلغ قديدا بلغه خبر الفتنة فرجع فدخل مكة
بغير إحرام، بخلاف إذا بدا له من سفره لأمر رآه، على ما في هذه الرواية
فليست بخلاف لمذهب مالك في المدونة، وأما من خرج إلى موضع بعيد أو إلى موضع
قريب فأقام فيه أو كان من سكان المواضع القريبة فعليه إذا دخل مكة أن يدخل
محرما وإن كان من أهل مكة إلا مثل الحطابين وغيرهم ممن يكثر تردادهم إلى
مكة فليس عليهم أن يدخلوا بإحرام لمشقة ذلك عليهم، وحد القرب ما إذا خرج
إليه على أن يعود لم يلزمه أن يطوف للوداع، وهو ما دون المواقيت؛ لأنه قد
نص في الحج الثالث من المدونة أن من خرج إلى ميقات من المواقيت ليعتمر منه
فعليه إذا خرج أن يطوف للوداع، فلو خرج إليها على هذا لحاجة على أن يرجع
لوجب عليه إذا رجع أن يدخل بإحرام، هذا تحصيل مذهب مالك في هذه المسألة.
ومن أهل العلم من جوز دخول مكة بغير إحرام لجميع الناس لدخول رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مكة عام الفتح حالا وعلى رأسه المغفر،
وروي أنه دخلها
(4/71)
وهو معتم بعمامة سوداء، وإلى هذا ذهب ابن
شهاب، ولا حجة له في ذلك، إذ قد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-: «إنه إنما أحلت له ساعة من النهار ثم عادت كحرمتها من يوم خلق الله
السماوات والأرض» ، إلا أنه تأول أن الذي أحل له في تلك الساعة خاصة إنما
هو القتال، وأما دخولها حلالا فهو حل له ولمن شاء من جميع الناس. ومن أهل
العلم من أجاز ذلك لأهل مكة خاصة. ومنهم من أجاز ذلك لمن كان منزله دون
الميقات، وتعلق بفعل ابن عمر، إذ قد رجع من قديد فدخل مكة بغير إحرام، وهو
تعلق ظاهر؛ إذ لا فرق في القياس والنظر بين أن يرجع لعارض عرض له أو لأمر
رآه، إلا أنه قد جاء عن ابن عباس خلاف ذلك، مثل ما ذهب إليه مالك، ومنهم من
أجاز ذلك لمن كان منزله الميقات فما دونه، وبالله التوفيق.
[الرجل أيلزمه أن يبيع ضيعته في الحج]
ومن سماع محمد بن خالد من ابن القاسم وسئل ابن القاسم: عن الرجل يكون له
القرية ليس له غيرها، أيبيعها في حجة الإسلام ويترك ولده لا شيء لهم يعيشون
به؟ فقال ابن القاسم: نعم، ذلك عليه ويترك ولده في الصدقة.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال من أن الرجل يلزمه أن يبيع ضيعته في الحج؛
لأن الله أوجبه عليه، فوجب عليه أن يبيع فيه من ماله ما يبيعه عليه السلطان
في الدين. وأما قوله: ويترك ولده في الصدقة، فمعناه: إذا أمن عليهم الضيعة
ولم يخش عليهم الهلاك إن تركهم؛ لأن الله أوجب عليه نفقتهم في ماله كما
أوجب عليه الحج فيه، فهما حقان لله عز وجل تعينا عليه في ماله، فإذا ضاق
عنهما ولم يحمل إلا أحدهما وجب أن يبدأ بنفقة الولد؛ لئلا يهلكون؛ لأن خشية
الهلاك عليهم يسقط عنه فرض الحج، كما [لو] خشي الهلاك
(4/72)
على نفسه، وهذا القول بأنه على الفور، وأما
على القول بأنه على التراخي فلا إشكال في تبدئة نفقة الولد، فإن قال قائل:
فإن الرجل إذا فلس لغرمائه يؤخذ منه لهم جميع ماله ولا يترك له نفقة أولاده
إلا ما يعيشون به الأيام وإن خشيت عليهم الضيعة والهلاك فكذلك الحج، قيل
الفرق بينهما أن هذا المال مال الغرماء، والغرماء لا يلزمهم من نفقة أولاده
إلا ما يلزم جميع المسلمين من المواساة، وهو يلزمه النفقة على أولاده من
ماله فافترقا، وهذا بين، ونفقة الزوجة كنفقة الأولاد، وقد مضى القول في
نفقة الزوجة في رسم تأخير صلاة العشاء من سماع ابن القاسم، وأما نفقة
الأبوين فحكمها حكم نفقة الابن عند من أوجبها، وبالله التوفيق.
[الذي يحج عن رجل بأجر فيفسد حجه بإصابة أهله]
من سماع أبي زيد بن أبي الغمر من ابن القاسم قال ابن القاسم في
الذي يحج عن رجل بأجر فيفسد حجه بإصابة أهله،
قال: أرى عليه القضاء بحجة صحيحة من ماله استؤجر عليها مقاطعة أو دفع إليه
على البلاغ، فذلك واحد، وإن كان إنما أصابه أمر من الله لم يكن من قبله،
مثل أن يمرض أو ينكسر فإنه يقضي ذلك الحج عن الميت هو أحب إلي، وإن كان
استؤجر مقاطعة فعليه القضاء أيضا على كل حال، وكذلك الذي يحصر حتى يفوته
الحج وما أشبه ذلك، والذي يخفى عليه الهلال حتى يفوته الحج.
قال محمد بن رشد: في قوله في أول المسألة في الذي حج عن غيره بأجرة فأفسد
حجه بإصابة أهله: إن عليه القضاء بحجة صحيحة من ماله استؤجر عليها مقاطعة
أو دفع إليه على البلاغ، فذلك واحد نظرا لأن الذي دفع إليه المال على
البلاغ إذا حج به وأفسد حجه بإصابة أهله ضمن المال وترتب
(4/73)
في ذمته فإنما يلزمه غرم المال، ولا يجوز
أن يحج ثانية عن الميت بما عليه من المال؛ لأنه فسخ الدين في الدين،
فالواجب أن يؤخذ منه المال، فإذا أخذ منه دفع إليه أو إلى غيره، إما على
الإجارة أو على البلاغ، فالمسألتان مستويتان في وجوب الضمان، ويفترقان فيما
يضمن، فيضمن في الإجارة الحج، وفي أخذ المال على البلاغ المال، فكلامه ليس
على ظاهره، ووجهه الذي به يستقيم هو أنه أجاب عن الإجارة التي سأله عنها
بقوله: أرى عليه القضاء بحجة صحيحة من ماله، تم جوابه هاهنا.
ثم استأنف كلاما آخر فقال: استؤجر عليها مقاطعة أو دفع إليه على البلاغ،
فذلك واحد، يريد أن ذلك واحد في وجوب الضمان، وإن افترق الوجهان فيما يضمن
فيهما، وفي قوله بعد ذلك: وإن كان إنما أصابه أمر من الله تعالى لم يكن من
قِبَله مثل أن يمرض أو ينكسر، يريد: فيفوته الحج وقد أخذ المال على البلاغ
فإنه يقضي ذلك الحج عن الميت هو أحب إليّ، إشكال إذ لم يبين من مال من يكون
القضاء ولا تقيد ضبط يقضي في الرواية إن كان يقضي أو يقضى على لفظ ما لم
يسم فاعله. فقرأ ابن لبابة: يقضي. وقال في المنتخب: معناه أن الذي أخذ
المال على البلاغ يقضي من مال الميت لا من مال نفسه، وحسبه أن يتولى هو
القضاء بنفسه، استحب ذلك له ابن القاسم، فصرف قوله "هو أحب إلي" إلى توليه
القضاء بنفسه، وأوجب النفقة في ذلك في مال الميت، وفي هذا بُعدٌ؛ لأن
القضاء إذا كان من مال الميت ولم يلزمه هو ضمان فلا وجه لاستحسان ولايته
هذا القضاء، هو وغيره في ذلك سواء، ولعل غيره بذلك أحق وأولى، والصواب أن
تقرأ الكلمة: يقضى، على لفظ ما لم يسم فاعله، فيكون المعنى في ذلك: أن
الورثة يقضون الحج عن الميت من أموالهم؛ لأنهم ضامنون للمال إن كان الميت
أمرهم بالاستئجار، فدفعوه على البلاغ، أو لم يبين لهم كيف يدفعونه فتركوا
أن يدفعوه على الإجارة ودفعوه على البلاغ، أو من مال الميت إن كانوا
(4/74)
دفعوه على البلاغ وقد أمرهم بذلك، أعني: من
ثلث بقية مال الميت إن كان المال لم يقسم باتفاق، وإن كان قد قسم فعلى
الاختلاف في الذي يوصي أن يشترى عبد من ثلثه فيعتق فاشترى ولم ينفذ له
العتق حتى مات، وقد اقتسم الورثة المال، إذ قد قيل: إنه يشترى عبد آخر من
بقية ثلث المال، وهو ظاهر ما في المدونة، وقيل: من بقية الثلث، وهي رواية
عيسى عن ابن القاسم في كتاب الوصايا، وقوله بعد ذلك: وإن كان استؤجر مقاطعة
فعليه القضاء على كل حال، يريد بقوله "على كل حال" سواء أفسده بإصابة أهله،
أو فاته بمرض أو كسر، وقوله بعد ذلك: وكذلك الذي يحصر حتى يفوته الحج، قال
ابن لبابة: لا يريد به حصر العدو؛ لأن حكم من استؤجر على الحج فحصره العدو
أن يحل حيث حصر، ويكون له من إجارته بقدر ما بلغ من الطريق، وكذلك في مختصر
أبي زيد بن أبي الغمر، وفي المدونة قال: وإنما يريد به الحصر الذي هو في
حكم حصر المرض، مثل أن يتهم في دم فيحبس فيه حتى يفوته الحج أو ما أشبه
ذلك، يقول: فهذا كله، والذي يخفى عليه الهلال حتى يفوته الحج، [كالذي يمرض
أو ينكسر حتى يفوته الحج، وكالذي يفسد الحج بإصابة أهله، يجب عليه في ذلك
كله القضاء، والذي أقول به: إنه إنما أراد الذي يحصر بعدو، وأنه لا فرق في
هذه المسألة بين أن يفسد حجه بإصابة أهله أو بحصر عدو أو مرض أو كسر أو خطأ
عددا أو خفاء هلال حتى يفوته الحج، وأنه يجب عليه في ذلك قضاء الحج؛ لأنه
قال فيها: إن الاستئجار كان مقاطعة، ومعناه: أن يستأجره على حجة ولا يسمى
في أي سنة، فتكون عليه الحجة على الحلول، فإن أفسدها في أول سنة أو حصر
بعدو أو مرض أو خطأ عدد حتى فاتته الحجة كان عليه قضاؤها في السنة التي
بعدها، وإنما يفترق حصر العدو من حصر المرض إذا كان الاستئجار لسنة بعينها
ولم يكن مقاطعة، فهذا قال فيه في المدونة: إنه إن أحصر بعدو رد المال،
ويكون له من إجارته
(4/75)
بحساب ذلك الموضع الذي صد فيه، ويأتي على
هذا أنه لو أفسد الحج بإصابة أهله أو فاته بخطأ عدد لوجب أن يرد المال ولم
يجز أن يقضي الحج في سنة أخرى؛ لأن الاستئجار لما انفسخ بذهاب السنة التي
وقع الاستئجار لها ووجب عليه رد المال لم يجز أن يفسخ في حج سنة أخرى؛ لأنه
فسخ الدين في الدين، وأما إن أحصر بمرض حتى فاته الحج فلم يقع لذلك جواب في
المدونة، ويحتمل أن يفسر مذهب ابن القاسم فيها بما قال ابن حبيب في الواضحة
من أنه تكون نفقته على نفسه ما أقام مريضا حتى يأتي البيت فيحل به، ولا
يجزي الحجة عن الميت، ولا يكون عليه هو شيء؛ لأنه قد بلغ إلى مكة، وزاد على
ما استؤجر عليه بقاؤه محرما مريضا حتى وصل البيت، وبالله التوفيق.
[مسألة: الإفراد بالحج أفضل من التمتع ومن
القران]
مسألة قال ابن القاسم: قد حججت حججا ما تمتعت قط ولا قرنت.
قال محمد بن رشد: هذا يدل من قوله وفعله على أن الإفراد بالحج أفضل من
التمتع ومن القران، وهذا هو مذهب مالك على ما روي عن عائشة - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهَا -: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
أفرد الحج» وقد اختلفت الآثار بما كان له محرما - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - في حجته التي حج فيها بعد أن فرض الحج وهي حجة الوداع، فروي
أنه أفرد الحج، وروي أنه قرن، وروي أنه تمتع، بآثار [ثابتة] صحاح لا مطعن
لأحد فيها، فمن ترجح عنده فيها أنه كان مفردا رأى الإفراد أفضل، وإلى هذا
ذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ومن ترجح عنده منها أنه كان قارنا رأى
القران أفضل، ومن ترجح عنده منها أنه كان متمتعا رأى التمتع أفضل، ومن أهل
العلم من ذهب إلى أنه لا فضل لواحد منها على الآخر، إذ
(4/76)
قد روي في كل واحد منها أن النبي -
عَلَيْهِ السَّلَامُ - كان محرما به، وقد اختاره جماعة من السلف وعمل به،
ومنهم من ذهب إلى أن الإفراد أفضل، ثم التمتع؛ لأنه المذكور في القرآن، ثم
القران؛ لأنه مقيس على التمتع، ومن حجة من ذهب إلى أن الإفراد أفضل وجوب
الهدي على المتمتع والقارن، قالوا: وإنما وجب عليهما للنقص في عملهما، فما
لا نقص فيه أفضل، وقال من ذهب إلى أن القران والتمتع أفضل: ليس الهدي فيها
جبرا لنقص، وإنما هو زيادة فضل بدليل جواز الأكل منه، ولو كان لجبر نقص لم
يؤكل منه كما لا يؤكل من الفدية، قال بذلك من ذهب إلى أنه لا يؤكل من هدي
الفساد والفوات، ولا من كل هدي يساق لشيء نقص من أمر الحج، والأصح من جهة
الإسناد أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان قارنا؛
لأنه قد جاء عنه أنه قال لعلي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لما
قدم عليه من اليمن: «بماذا أهللت؟ . قال: قلت: لبيك بإهلال كإهلال النبي -
عَلَيْهِ السَّلَامُ -، قال: فإني قد سقت الهدي وقرنت» . وهو - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان أعلم بأمره وبما كان [به] محرما من غيره،
وعلى أنه كان قارنا يمكن أن يصحح الآثار كلها ويجمع بينها بما ينفي
الاختلاف والتعارض عنها، وذلك على وجهين: أحدهما: أنه يحتمل أن يكون أحرم
حين صلى الركعتين في المسجد بعمرة مفردة، فلما استوت به راحلته في فناء
المسجد أهل بحجة مفردة أضافها إلى العمرة المتقدمة، فصار بذلك قارنا، فلما
أشرف على البيداء وهو قارن، قال: لبيك بعمرة وحجة معا، قال من حضره في
المسجد حين أهل بعمرة وغاب عنه فيما بعد ذلك: إنه تمتع. وقال من حضره حين
استوت به راحلته وغاب عنه في المسجد وحين أشرف على البيداء: إنه أفرد الحج،
وقال من حضر الأمرين جميعا أو من حضره حين أطل
(4/77)
على البيداء: إنه قرن، والوجه الثاني وهو
الأظهر: أنه أحرم أولا بحجة مفردة؛ على ما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهَا -: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أفرد الحج،
ثم فسخ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد ذلك حجة في عمرة؛ نقضا
لما كان عليه أهل الجاهلية من أنهم كانوا لا يستبيحون العمرة في أشهر الحج،
ويرون ذلك من أفجر الفجور، فكانوا يقولون: إذا برئ الدبر وعفا الأثر ودخل
الصفر حلت العمرة لمن اعتمر؛ لأنهم كانوا يسمون المحرم صفرا فصار بذلك
متمتعا، ثم لما دخل مكة أردف الحج على العمرة فصار قارنا، فصدق من قال: إنه
أفرد الحج، وصدق من قال: إنه تمتع، وصدق من قال: إنه قرن؛ لأنه كان في حال
مفردا، وفي حال متمتعا، وفي حال قارنا، ويشهد هذا لما ذهب إليه مالك -
رَحِمَهُ اللَّهُ - من أن الإفراد أفضل بالحج؛ لأنه الذي أحرم به رسول الله
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أولا، وإنما فسخه في عمرة لينقض
بفعله ما كان عليه أهل الجاهلية، والله تعالى هو الموفق، لا رب غيره، ولا
معبود سواه.
تم الجزء الثاني من الحج بحمد الله تعالى وحوله وقوته والحمد لله.
(4/78)
|