البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة

كتاب التجارة إلى أرض الحرب

(4/159)


من سماع ابن القاسم من مالك من كتاب قطع الشجر
قال سحنون : أخبرني ابن القاسم عن مالك أنه قيل له : أرأيت قوله تعالى : {فإن كان من قوم عد لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة} ليس في هذا ذكر دية فقال : إنما كان ذلك في حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل مكة يكون فيهم رجل مؤمن لم يهاجر وأقام معهم فيصيبه المسلمون خطأ فليس عليهم دية لأنه يقول جل وعز : {والذين آمنوا ولم يهاجروا مالكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا} ، وأما قوله : {وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق} فإنما ذلك في الهدنة التي كانت بين النبي عليه السلام وبين المشركين أنه إن أصيب مسلم كان بين أظهرهم خطأ لم يهاجر فإن ديته على المسلمين يؤدونها إلى قومه الذين كان بين أظهرهم الكفارة ، ومما يبين ذلك أن أبا جندل ورجلاً آخر أتيا النبي عليه

(4/161)


السلام في الهدنة مسلمين فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم ، فكما كان لهم أن يردوه إليهم فكذلك كانت ديته لهم لو قتل خطأ ، ومما يبين ذلك قول الله تعالى : {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} الآية ، يقول : إن حبسوا عنكم مهراً كان لكم قبلهم ثم عاقبتموهم فحبستم عنهم مهراً كان لهم قبلكم مثل ما صنعوا {فآتوا الذين ذهبت أزواجهم} فادفعوا إلى هذا المسلم ما كان أنفق على امرأته التي هربت منه إلى الكفر ، وذلك قوله عز جل : {وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم فآتوا الذين ذهبت أزواجهم} الآية ، فكان الذي بين النبي عليه السلام وبينهم ميثاق وهدنة في أشياء اصطلحوا عليها ، منها أن يرد [إليهم] إلى الكفار من جاء إلى النبي مسلماً من الرجال في الهدنة ، وكان من حكم الله أن جاءت امرأة منها ترغب في الإسلام لم يرجعها إليهم ، وكان عليها أن تعطي زوجها الكافر ما كان ساق لها
من مهر ، وإن فاتت منا امرأة إليهم كان عليهم أن يعطونا مثل ما أنفق عليها زوجها وذلك قوله تعالى : {واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا ذلكم حكم الله يحكم بينكم ولا تمسكوا بعصم الكوافر} ، حرم على المسلمين فروج أولئك الكافر ومنعنا أن نرجع المسلمة منا إليهم لا يستحلها الكافر ، وحرمت على زوجها الكافر وعلى غيره من الكفار ، فمن هنالك اتبعوا بالمهر اتبعناهم بالمهر ، وذلك قوله عز وجل : {واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما

(4/162)


أنفقوا} ، فأما الرجال في الهدنة فإنهم كانوا يردون إليهم . فكما كان يرد إليهم الرجال في الهدنة ومهور النساء في الهدنة وغير الهدنة فكذلك كانت لهم دية مؤمن قتل بين أظهرهم خطأ ممن أسلم ولم يخرج من عندهم حتى كانت الهدنة .
قال محمد بن رشد : هذه مسألة سأل ابن القاسم مالكاً في أولها عن المعنى الذي من أجلها سقطت الدية في المؤمن المقتول خطأ إذا كان بين قومه الكفار ، إذ قال الله عز وجل : {وإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة} ولم يذكر في ذلك دية ، يريد دية لجماعة المسلمين الذين يرثونه على الحكم في أن دية الخطأ تكون لورثة المقتول فأعلمه أن الآية منسوخة ، يريد بقوله عز وجل : {وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض} ، وأن ذلك إنما كان في أول الإسلام حين كانت الجرة مفترضة وكان الميراث منقطعاً بين من هاجر وبين من آمن ولم يهاجر ، لقوله عز وجل : {والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا} ولما أكمل جوابه عما سأله عنه تكلم على بقية الآية فقال : وأما قوله : {وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق} الآية ، فإنما ذلك في الهدنة التي كانت بين النبي عليه السلام وبين المشركين أنه أصيب مسلم كان بين أظهرهم بها قوله فبين مذهبه في أن مراد الله تعالى بقوله : {وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق} أي : وإن كان المؤمن من قوم بينكم وبينهم ميثاق واحتج بذلك بما قاله من أن ذلك إنما كان في الهدنة التي كانت بين النبي عليه السلام وبين المشركين على ذلك وعلى أن يرد إليهم من جاء من عندهم مسلماً ، فكانت لهم

(4/163)


دية من قتل منهم من المسلمين ، كما كان لهم ان يردوا إليهم بالشرط الذي شرطوه ، وهو اعتبار صحيح ، لأن إعطاءهم دية المسلم المقتول أيسر من رده إليهم ، ولعلهم يقتلونه على إسلامه أو يفتنونه عن دينه ، وقصده بهذا لاحتجاج الرد على أهل العراق فيما يذهبون إليه من أن مراد الله تعالى بقوله : {وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق} أي : وإن كان كافر من قام بينكم وبينهم ميثاق من الكفار فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة ، لأنهم يجعلون ذلك حجة لما يذهبون إليه من أن المسلم يقتل بالكافر ، فيقولون : قد اوجب الله في قتل الكفار خطأ
الدية والكفارة ، فلما تساوى المسلم والكافر في القتل خطأ في وجوب الدية والكفارة وجب أن يتساويا في القتل عمداً في وجوب القصاص ، وحجة مالك صحيحة ، وقوله في تأويل الآية أصح ، لأنه ظاهر التلاوة ، إذ نص في أولها على المؤمن ، ثم قال في آخرها : وإن كا ، فكان الظاهر من قوله أنه أراد وإن كان المؤمن المذكور أولاً لا أنه ابتدأ كلاماً آخر بحكم كافر لم يتقدم له ذكر ، فلا يوجب الكفارة في قتل الكافر خطأ وإنما يستحبها مراعاة للخلاف ، وحجته في أن المؤمن لا يقتل بالكافر قوله عليه السلام : {لا يقتل مسلم بكافر ولا ذو عهد في عهده بكافر} يريد ولا يقتل أيضاً ذو عهد إذا عوهد . ويحمل أهل العراق الحديث على أن فيه تقديماً وتأخيراً فيقولون معنى لا يقتل مسلم ولا ذو عهد في عهده بكافر أي بكافر حربي عندهم ليس بمعاهد ، وقولهم بعيد لوجهين : أحدهما أن التقديم والتأخير مجاز ، وحمل الحديث على المجاز لا يصح مع إمكان حمله على الحقيقة ، والثاني : إن الإخبار بأن المسلم والمعاهد لا يقتلان بالحربي لا فائدة فيهن إذ قد تقرر علم وجوب قتله وما في ذلك من عظيم الأجر ، فكيف يشكل على أحد ارتفاع القصاص في ذلك حتى يحتاج النبي عليه السلام إلى الإخبار بذلك . وأما قوله في قوله تعالى : {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} إن المعنى في ذلك ، إن حبسا عنكم مهراً كان لكم قبلهم ثم عاقبتموهم فحبستم عنهم مهراً كان لهم

(4/164)


قبلكم مثل ما صنعوا {فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا} أي فادفعوا إلى هذا المسلم ما كان أنفق على امرأته ، وأن ذلك مثل قوله تعالى : {وإن فاتكم شيء من أزواجكم} الآية ، فليس ببين ، إذ ليس في معاقبتهم بحس مهرهم عنهم ما يؤدون منهم مهورهم قال عز ولج : {واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا} ثم قال بعد ذلك ما معناه فإن سألتم فلم تعطوا فآتوه مما تغنمون .
قال مسروق : وكذلك إن ذهبت إلى غير ذي عهد يعطى زوجها المهر من الغنائم ، وذلك كله منسوخ بما نزل في براءة من فسخ العهود التي كانت بين النبي عليه السلام وبين المشركين ، وقد روي أن قوله عز وجل : {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} ، نزل في حمزة بن عبد المطلب رضوان الله عليه حين استشهد ومثل به ، فأقسم النبي عليه السلام أن يمثل بجماعة من الكفار ، فالآية دالة بمثلها على عمومها دون أن تقصر على ما روي من سببها على أنه لا يجب أن يعاقب المرء إلا بمثل ما اجترم من القتل أو الجراح وأخذ المال وأنه لا يجب أن يعاقب الكفار في حبسهم المهور الواجبة عليهم إلا بأن يحبس عنهم المهور الواجبة لهم ، وأما أن يجعل حبس المهور عنهم شرطاً في دفع مهور أزواج المسلمين كما قال مالك في الرواية ، فإنه بعيد . ويقوله : فكان الذي بين النبي عليه السلام وبينهم ميثاق وهدنة في أشياء اصطلحوا عليها منها أن يرد إليهم من الكفار من جاء إلى النبي عليه السلام من الرجال في الهدنة ، وكان من حكم الله إن جاءت امرأة منهم ترغب في الإسلام لم يرجعها إليهم يدل على أن حكم الله تعالى الوارد في سورة الممتحنة بأن لا يرجعن إليهم مطابق لما صالحهم النبي عليه السلام من إن يرد إليهم من جاءه من عندهم مسلماً من الرجال ، وقد اختلف في ذلك فقيل : إن الصلح وقع على أن يرد إليهم من جاءه من عندهم مسلماً من الرجال والنساء ، ففسخ الله من الشرط في النساء ونسخه ، فكان ذلك نسخاً للسنة بالقرآن . ومن الدليل على هذا ما روي من أن النبي عليه السلام لما تم صلحه مع أهل مكة بالحديبية وختم الكتاب الذي فيه العهد جاءته سبيعة بنت الحارث مسلمة وجاء زوجها .

(4/165)


فقال : يا محمد ردها علي فإن ذلك في شرطنا عليك وهذه طينة كتابنا لم تجف ، فنزلت : {فلا ترجعوهن إلى الكفار} الآيات ، فلم يردها عليهم ، وأعطاه مهره ، ولا يوجد في شيء من الآثار أن الشرط وقع نصاً على أن يرد إليهم الرجال والنساء ولا على أن يرد عليهم الرجال دون النساء ، فيحتمل أن يكون الشرط وقع على أن يرد إليهم من جاء منهم مسلماً ، وأراد النبي عليه السلام بذلك الرجال دون النساء ، وأراد به المشركون الرجال والنساء ، فلما قدمت سبيعة مسلمة طلبها زوجها واحتج بظاهر ما في الكتاب ، فمنع الله عز وجل من رد النساء على ما يوجبه ظاهر اللفظ ، وأقر الحكم على ما أراده النبي عليه السلام من أن لا يرد إليهم إلا الرجال ، إذ لم ينص فيه على رد النساء ، وزاد فيه أن يعطوا مهور من قدم من عندهم من النساء ، ويسألوا مهور من مضى إليهم من نساء المسلمين ، فقال تعالى : {واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا} الآية ، فعلى هذا يصح ما روي في هذا المعنى ، ويرتفع الخلاف ، ويكون معنى قول مالك : إن الصلح وقع على أن يرد إليهم من جاء من عندهم مسلماً من الرجال على ما أ{اده النبي عليه السلام ونواه ، لا على أن ذلك كان صريحا في الصلح ، إذ لو كان صريحاً فيه لم يقل زوج سبيعة ما قال ، والله أعلم بحقيقة ذلك كيف كانز وقوله في آخر المسألة : فكما كان يرد إليهم الرجال في الهدنة ومهور النساء في الهدنة وغير الهدنة غلط في الرواية ، لأن المهور إنما كانت ترد في الهدنة على ما ذكرناه من حكم الله بذلك لا في غير الهدنة ، وقد رأيت لابن دحون أنه قال : قوله وغير الهدنة ليس بمستقيم لأن رد الصدقات التي أخذ النساء المهاجرات من أزواجهن لم يكن إلا في الهدنة خاصة ، بذلك وقعت الهدنة بينهم أن يرد المسلمون صدقات من أتاهم من النساء مسلمات إلى الكفار ، ويرد الكفار صدقات من أتاهم من النساء مرتدات إلى المسلمين ، وليس قوله بصحيح ، إذا لو وقعت الهدنة بينهم على
ذلك لما طلب زوج سبيعة ردها بما في كتاب الصلح ، وإنما كانت المطالبات

(4/166)


بينهم بالمهور بحكم الله على ما ذكرناه لا بالشرط ، والله أعلم ، وهو الموفق بفضله .
ومن كتاب حلف ألا يبيع سلعة سماها
وسئل مالك عن قوم من تجار العدو يأتون المسلمين وقد تقدم إليهم ألا ينزلوا إلا بموضع مسمى لهم فيأتون دونه فينزلون بالموضع ، فيريدون أن يستقوا الماء فيمنعون من ذلك حتى يقاتلوا فقال : إذا منعوا كيف يبلغوا؟ ما أرى أن يقاتلوا ، هذه أمور مشكلة ، وإنه ليقال : لا يهرق دماً أو لا يهراق دم إلا عن أمر يستبين صحته ، فلا أحب لأحد أن يقاتل في مثل هذا ولا يقتل أحداً .
قال محمد بن رشد : هذا كما قال ، لأن منعهم من استقاء الماء منع لهم من النزول في الموضع الذي أذن لهم بالنزول فيه ، إذ لا يستغنون في موضع نزولهم عن الماء ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : "لا يمنع فضل الماء ليمنع به الكلأ" ، فنهى عن منع فضل الماء لما فيه من منع الكلأ فكذلك هذه المسألة ، وبالله التوفيق .
ومن كتاب أوله الشجرة تطعم بطنين في السنة
وسئل مالك عن الرجل يبتاع من رقيق العجم من السودان والصقالبة فيريد بيعهم من النصارى قبل أن يسلموا ، قال : ما أعلمه حراماً ، ولا يعجبني أن يفعله أحداً ، إن كانوا صغاراً فلا يجوز بيعهم من اليهود والنصارى ، وإن بيعوا منهم فسخ بيعهم ، وإن كانوا كباراً فلا بأس ببيعهم منهم ، وإنما فرق بين الصغار والكبار أن

(4/167)


الصغار يجبرون على الإسلام وأن الكبار لا يجبرون ، هكذا سمعت .
قال محمد بن رشد : قوله : وإن بيعوا منهم فسخ بيعهم ، أمر مختلف فيه ، فما ها هنا خلاف ما في كتاب التجارة إلى أرض الحرب من المدونة وما في سماع يحيى بعد هذا من كتاب السلطان لأشهب من أنهم يباعون عليه ولا يفسخ البيع ، ومثل قول سحنون في نوازله من كتاب جامع العيوب وما في كتاب المديان والشفعة من المدونة ، وابن الماجشون يرى أن البيع في ذلك لا ينعقد ، فعلى قوله إن ماتوا في يده قبل أن يفسخ البيع كانت مصيبتهم من البائع ، وإن أعتقهم أو باعهم من مسلم لم ينقذ شيء من ذلك ، وتفرقته في جبرهم على الإسلام بين أن يكونوا صغاراً أو كباراً خلاف ظاهر ما في سماع أصبغ بعد هذا ، وقد مضى تحصيل القول في هذه المسألة في هذا الرسم من هذا السماع من كتاب الجنائز وفي أول سماع أصبغ من كتاب الصلاة ، فمن أحب الوقوف على الشفاء من ذلك تأمله هناك ، وبالله التوفيق لا رب غيره ، والحمد لله كثيراً .
ومن كتاب أوله حلف ليرفعن أمراً إلى السلطان
قال : وسئل مالك عن الديباج يباع من الروم ، قال : إن كانوا لا يتخذونه عدة للقتال فلا بأس به .
قال محمد بن رشد : هذا كما قال في المدونة وغيرها ، وهو مما لا اختلاف فيه أنه لا يجوز أن يباعوا شيئاً مما يستعينون به في حروبهم على المسلمين من ثياب ولا صفر ولا حرير ولا شيء من الأشياء ، وإنما يجوز أن يباع منهم من العروض ما لا يتقوى به في الحروب ولا يرهب به في القتال من الكسوة ما يقي الحر والبرد ، ومن الطعام ما لا يتقوت به مثل الزيت والملح وما أشبه ذلك ، وبالله التوفيق .
ومن كتاب أوله تسلف في المتاع والحيوان المضمون
وسئل مالك عن أعياد الكنائس يجتمع المسلمون إليها يحملون

(4/168)


إليها الثياب والأمتعة وغير ذلك يبيعون فيها يبتغون الفضل ، قال : لا بأس بذلك .
قال محمد بن رشد : قد كره مالك في رسم شك في طوافه من سماع ابن القاسم من كتاب الذبائح والصيد أن يباع منهم الجزرة إذا علم أنهم يريدون ذبحها في أعيادهم وكنائسهم وأن يكروا الدواب ليركبوها إلى أعيادهم ، وهو خلاف ما هنا ، إذ لا فرق بين المسألتين وقد وقع الاختلاف من قوله في مسألة الكراء منصوصاً في سماع سحنون من كتاب السلطان كره ذلك مرة وأجازه أخرى . واختلاف قول جار عندي على الاختلاف في كونهم متعبدين بالشرائع ، فيكره على القول بأنه عاص لله في إقامة عيده للمسلم أن يكون عوناً له على الإثم والعصيان ، ولا يكره له ذلك على القول بأنه ليس بعاص لله في ذلك إلا بعد الإيمان ، وعلى هذا أجاز في سماع زونان للرجل أن يسير بأمته إلى الكنيسة ، وقد حكى ابن مزين عن أصبغ أن ذلك لا يجوز ، فعلى قوله : إن فعل يلزمه أن يتصدق بجميع الثمن ، ولا يلزمه ذلك على مذهب مالك ، وإنما يستحب له على أحد قوليه أن يتصدق بما زاد في الثمن بسبب بيعهم ذلك لأعيادهم .
ومن كتاب أوله الشريكان يكون لهما المال
وقال مالك في قوم أرادوا أن يبيعوا أمة ومعها ابن لها حر صغير لا يستغني عن أمه ، قال مالك : أرى ألا يفرق بينه وبين أمه وأن لا يباع إلا ممن يشترط عليه أن لا يفرق بينه وبين أمه وأن تكون مؤنته عليه ، وقال مالك : وإن بيعت بغير أرضها فلا أرى بأساً .
قال محمد بن رشد : معنى هذه المسألة أن البائع اعتق الولد وهو صغير ، لأن من أعتق صغيراً فعليه نفقته حتى يبلغ ، فلما كانت على البائع نفقته ولم يجز له أن يفرق بينه وبين أمه لم يجز له بيع الأم إلا ممن يشترط عليه أن لا يفرق بينه وبين أمه ، وأن تكون مؤنته عليه ، يريد إلى أن يبلغ حد

(4/169)


التفرقة ، قاله ابن القاسم في العشرة ، يريد وترجع عليه هو النفقة إذا بلغ حد التفرقة إلى أن يبلغ ، وفي جواز هذا البيع اختلاف : أجازه هنا وفي كتاب التجارة إلى أرض الحرب من المدونة ، قال في العشرة استحساناً لئلاً يترك الصبي بغير نفقة فيهلك أو يمنع سيد الأمة من البيع فيضر به ، قال : فإن مات الصبي لم يجب للبائع على المشتري شيء ، لأنه لم يرد بذلك إلى كفاية المئونة لا التزيد في الثمن ، وقال سحنون : لا يجوز البيع إلا عند الضرورة من فلس أو شبه ذلك ، وقيل : إن البيع لا يجوز بحال لأنه غرر ، إذ لا يدري هل يعيش الصبي إلى حد التفرقة أو يموت قبل ذلك ، وقيل : البيع جائز ، وإن مات الولد قبل الإثغار رجع البائع على المبتاع بقدر ذلك من قيمة الأم ، وهو الذي يأتي على ما في رسم البراءة من سماع عيسى من كتاب جامع البيوع ، ولو اشترط أن تكون النفقة مضمونة على المبتاع إلى حد الإثغار إن مات الولد قبل ذلك لجاز البيع باتفاق ، والله أعلم .
وقد اختلف في التفرقة فروى ابن غانم عن مالك أن حدها الاحتلام في الرجال والمحيض في النساء ، وقال ابن عبد الحكم وغيره لا يفرق بينهما أبداً وإن ضرب على لحيته على ظاهر قول النبي عليه السلام : "لا توله والدة على ولدها ولا يفرق بين الوالدة وولدها" ، واختلف أيضاً في التفرقة هل هي من حق الأم أو من حق الولد؟ فذهب ابن القاسم أن ذلك من حق الولد فلا يفرق بينهما وإن رضيت الأم بالتفرقة ، وهو معنى ما في المدونة وقول ابن نافع على ظاهر الآثار في النهي عن التفرقة مجملاً ، وقال ابن عبد الحكم في كتابه : إن التفرقة بينهما جائزة إذا رضيت الأم ، وهو قول أشهب وروايته عن مالك في رسم الوصايا ، وقد قيل : إن ذلك دليل ما في كتاب التجارة إلى أرض الحرب من المدونة فانظر في ذلك وتدبره وبالله التوفيق .
ومن كتاب اغتسل على غير نية
وسئل مالك عن الخروج إلى أرض الشرك في البر والبحر

(4/170)


للتجارة فقال : لا أحب ذلك ولا أراه له ، قد جعل الله لكل نفس أجلاً تبلغه ، ورزقاً تنفذه ، وهو يجري عليه أحكامهم ، فلا أرى له ذلك .
قال محمد بن رشد : قوله : لا أحب ذلك له ولا أراه معناه : لا يحل ذلك ولا يجوز ، فقد قال مالك : لم يكن من شأن العلماء رحمهم الله أن يقولوا : هذا حلال وهذا حرام ، وكانوا يكتفون بأن يقولوا : لا بأس بهذا ، وفي هذا سعة ولا أرى هذا ، ولا أحب وإني لأكرهه وما أشبه هذان ويكتفي بذلك منهم ، فعلى هذا أتى جوابه في هذه المسألة ، والله أعلم . ومن الدليل أن ذلك لا يجوز إجماع أهل العلم على أن من أسلم يبلد الحرب فواجب عليه أن يخرج منه إلى بلد الإسلام ولا يقيم حيث تجري عليه أحكام الكفر ، فإذا كان الخروج واجباً عليه مفروضاَ كان الدخول إليه حراماً عليه محظوراً ، فمن فعل ذلك طائعاً غير مكره وهو عالم بأن ذلك لا يجوز له كان ذلك جرحة فيه وسقطت إمامته وشهادته ، قال ذلك سحنون وينبغي أن يحمل على التفسير لما في كتاب الولاء والمواريث من المدونة من إجازة شهادتهم لاحتمال أن يكونوا رمتهم الريح إلا بلاد العدو ولم يذهبوا إليها للتجارة طائعين ، ويحتمل أيضاً أن يكون إنما أجاز شهادتهم إذا عرفت توبتهم من ذلك ، إذ يبعد أن تجاز شهادة من يدخل إلى بلد الحرب للتجارة وطلب الدنيا وهو عارف بأن ذلك لا يجوز له وأن أحكام الشرك تجري عليه ، وبما هو أقل من هاذ يجرح الشاهد وتسقط شهادته ، وقد كره مالك رحمه الله السكنى ببلد يسبب فيه السلف ، فكيف ببلد يكفر فيه بالرحمان ، ويعبد فيه من دونه الأوثان ، لا تستقر على هذا نفس صحيح الإيمان .
من سماع أشهب وابن نافع عن مالك رواية سحنون
من كتاب أوله بيوع وكراء
قال سحنون : أخبرني أشهب وابن نافع قالا : سئل مالك عن

(4/171)


اشتراء النوبة والبجة فإن بيننا وبين النوبة والبجة هدنة ، تعطينا النوبة رقيقاً ونعطيهم طعاماً ، وتعطينا البجة إبلاً ونعطيهم طعاماً وهم يتسابون ، فهل نشتري منهم شيئاً من رقيقهم؟ فقال : كان يقال : دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ، فإنه لن يترك أحد شيئاً لله فوجد فقده ، قال : وقال عبد الله بن عمر ، وكان من أئمة الناس : إني لأحب أن أجعل بيني وبين الحرام سترة من الحلال ولا أحرمه ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو بن العاص : "كيف لك إذا بقيت في حثالة من الناس وقد مرجت عهودهم وأمانتهم فاختلفوا فكانوا هكذا ، و شبك بين أصابعه ، فقال : كيف بي يا رسول الله؟ قال : عليك بما تعرف ، ودع ما تنكر عليك بخاصة نفسك ، وإياك وعوامهم ، قال ليكو أنظر لنفسك ، وعليك بالبين المحض" ، قلت له : إنهم يبعثون إلينا برقيق من رقيقهم ، فهل نشتري من رقيقهم التي يبعثون إلينا بهم للصلح الذي بيننا وبينهم فقال : "لا أدري ما هذا ولا ما هذا التفصيل بين هذا وهذا ، وليس كل من فصل أصاب" .
قال محمد بن رشد : إذا كان الهدنة بيننا وبين أهل الحرب على أن لا نقاتلهم ولا نسبيهم فلا إشكال في أن ذلك بعهد يمنعنا من شراء أولادهم منهم وال من شرائهم ممن سباهم في أن ذلك عهد يمنعنا من شرائهم ممن سباهم ومن شراء أولادهم ، وإذا أعطيناهم أماناً وعهداً على أن يدخلوا إلينا في تجارة وينصرفون أو على أن ندخل نحن إلى بلادهم في تجارة وننصرف عنهم فلا إشكال أيضاً في أن ذلك ليس بعهد يمنعنا من شراء أولادهم منهم ولا من شرائهم ممن سباهم ، وأما إذا هادناهم على أن نتداخل للتجارة مهادنة مستمرة فهذا الذي رأى اشتراءهم ممن سباهم من مشتبهات الدين الذي تركه وجه

(4/172)


الخلاص وطريق السلامة ، واستدل على ذلك بقول عبد الله بن عمر : إني لأحب أن أجعل بيني وبين الحارم سترة من الحلال ولا أحرمه ، وبقول النبي عليه السلام لعبد الله بن عمرو بن العاص : فأنظر لنفسك ، وعليك بالبين المحض ، لأنه حمل قوله له على عمومه في جميع الأشياء ، وإن كان مساق الحديث إنما هو على التحذير من الفتن التي وقعت بعده ألا يدخل منها فيم شكل ، وقد دخل فيه على ما أداه إليه اجتهاده مع عزم أبيه عليه في ذلك ، فشهد مع معاوية حرب صفين ثم ندم على ذلك لما ظهر إليه من البصيرة في خلاف رأيه الأول فاستغفر الله عز وجل من ذلك مخافة أن يكون قد قصر أولاً في اجتهاده مع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : "فأنظر لنفسك وعلكي بالمحض البين" ، وفي هذا الحديث علم جليل من أعلام النبوءة لأنه أعلم عبد الله بما يكون بعده من الفتن وحضه على ما يصنع فيه في خاصة نفسه من الأخذ بالبين المحض فانتهى رضي الله عنه إلى ما حضه عليه ورجع عما دخل فيه إذ بان له خلاف ما كان ظهر إليه ولا فصل كما قال من شراء بعضهم من بعض إذا سبوهم وشراء رقيقهم الذي يبعثون بهم فيما صولحوا عليه إذ كان أولئك الرقيق الذين يبعثون بهم من سبي بعضهم بعضاً ، وبالله التوفيق لا إله إلا هو .
ومن كتاب البيوع الأول
قال أشهب بن عبد العزيز : سئل مالك عن التجارة في النبل والسيوف والسلاح ، قال : لا بأس بذلك ، ولم تزل الناس يجيزونه إلا أن يخاف أن يصل إلى العدو .
قال محمد بن رشد : وهذا كما قال : لأن السلاح لا يحل أن يباع من العدو ولا ممن يحمله إلى العدو ، فلا يحل للرجل أن يتجر فيه إذا علم أنه يصل إلى العدو ، مثل أن يكون الذي يبتاعونه منه يخرجون إلى بلد يحمل منه للعدو ، ويكره ذلك إذا خالف أن يصل إليهم ، قاله مالك في سماع أشهب من

(4/173)


كتاب اللقطة ، وهو معنى قوله في هذه الرواية ، وكذلك تكره له التجارة فيه في حين الفتن التي تكون بين المسلمين إذا خشي أن يصل شيء منه إلى من يناوئ به الإسلام ، ولا بأس بالتجارة فيها إذا أمن أن يصل منها شيء إلى العدو أو إلى من يناوئ المسلمين ، فإن باع السلاح من العدو أو ممن يناوئ المسلمين ويخرج به عليهم أو ممن يحمل ذلك إليهم وهو عالم بذلك ومضى ذلك وفات ولم يعلم من باعه منه ولا قدر على رده فقد اختلف فيما يلزمه بينه وبين ربه في التوبة من ذلك على ثلاثة أقوال : أحدها أنه يلزمه أن يتصدق بجميع الثمن ، وهذا على القول في أن البيع غير منعقد وأنها باقية على ملكه لوجوب رد الثمن على هذا القول إلى المبتاع إن علمه ، والصدقة به عليه إن جهله كالربا ، والثاني : أنه لا يلزمه أن يتصدق إلا بالزائد على قيمته لو بيع على وجه جائز ، وهذا على القول بوجوب فسخ البيع في القيام وتصحيحه بالقيمة في الفوات ، والثالث أنه لا يجب عليه أن يتصدق بشيء منه إلا على وجه الاستحباب مراعاة للاختلاف ، وهذا على القول بأن البيع إن عثر عليه لم يفسخ ويباع على المبتاع ، وبالله التوفيق .
ومن كتاب الزكاة
وسئل مالك فقيل له : الروم عندنا إذا قدموا علينا برقة بالرقيق جعلوا من كل صنف عشرة فجعل ذلك أصنافاً ، ثم بدأ بأول صنف فاختار منهم الرومي رأساً ، ثم أخذ المسلمون من التسعة الباقية رأساً يختارونه منها ، ثم يأتي إلى الصنف الآخر الثاني فاختار منهم المسلمون رأساً ثم أتى إلى النصف الثالث فبدأ الرومي فاختار منهم رأساً ، ثم اختار المسلمون من التسعة الباقية رأساً هكذا يفعلون ، قد أحكموا ذلك وجعلوا كل صنف على حدته ، فقال : أحكموه إحكام سوء .
قال محمد بن رشد : إنما عاب هذا الفعل لأن الغرر فيه بين فلا يجوز ذلك لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر ، وإنما الواجب في ذلك أن يقسم

(4/174)


الرقيق بينهم وبين المسلمين على سنة قسم الرقيق بين الشركاء لأن المسلمين قد حصلوا إشراكهم فيها بالعشر باعوا أو لم يبيعوا ، وهذا في أهل الحرب فتقوم كلها فيضرب عليها بالسهام فيخرج للمسلمين ما خرج في العشر بالقيمة رأس أو بعض رأس أو رؤوس ، وبالله التوفيق .
من سماع ابن دينار من ابن القاسم
من كتاب أوله نقدها نقدها
قال عيسى بن دينار : وقال ابن القاسم : في المصاحف توجد في كنائس الروم بأرض العدو من مصاحفهم والصلب الذهب والورق ، فقال : أما الصلب فيكسرونها ثم تقسم ولا تقسم صلباً ، وأما المصاحف فتمحى .
قال محمد بن رشد : قد قال في غير هذا الموضع في المصاحب إنها تحرق كما روي عن عثمان رضي الله عنه أنه فعل بالمصحف إذ جمع الناس على مصحف واحد ، فإن كان ينتفع بها بعد محوها فمحوها أولى لبقاء المنفعة فيها للمسلمين ، وإن كان لا منفعة فيها بعد محوها فحرقها أولى لأنه أقل عناء ، ولا تترك على حال دون أن تحرق أو تمحى ، إذ لا يجوز أن تقرأ لأنها مغيرة محرفة كما أخبر الله في كتابه العزيز حيث يقول : {يحرفون الكلم عن مواضعه} ، وقال عز وجل : {ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً}
مسألة
وقال ابن القاسم في الإمام يبيع السبي على أن هذا زوج هذه وهذه امرأة هذا ، يقول ذلك ثم يريد المشتري بعد ذلك أن

(4/175)


يفرق بينهما ، إنه ليس له أن يفرق بينهما ، قال : وإن باعهم الذين يجلبونهم أيضاً يعني الربانيين على هذا أيضاً ، وقالوا إن هذا زوج هذه وهذه امرأة هذا أقرهم على ذلك ، وليس له أن يفرق بينهما وهذا الذي ليس فيه اختلاف من أحد .
قال محمد بن رشد : قوله في الإمام إذا باع الرجل والمرأة من السبي على أنهما زوجان إنه ليس للمشتري أن يفرق بينهما هو على ما ذهب إليه ابن حبيب في الواضحة من أن السباء يبيح فسخ نكاح الزوجين ، فإن أسلما أو أسلم أحدهما قبل أن توطأ أقرا على نكاحهما ولم يفسخ ثبتاً سبياً معاً أو مفترقين خلاف قول ابن القاسم وأشهب في المدونة : إن السباء يهدم نكاح الزوجين سبياً معاً أو مفترقين ، فعلى قولهما فيها لا سبيل إلى تركهم على ذلك النكاح إلا بنكاح جديد من مالكهم وذهب ابن المواز إلى أن السباء لا يهدم نكاح الزوجين ولا يبيح فسخه سبيا معاً أو مفترقين . فإن سبيت الأمة على مذهبه ثم سبي زوجها أو قدم بأمان قبل أن توطأ بالملك فهو أحق بها ، وذهب ابن أبي بكر إلى أنه إن سبيت هي قبله فسخ النكاح بسببها ، وإن سبي قبلها أو سبيا معاً فاستبقا الزوج أقرا على نكاحهما ، فهي أربعة أقوال : أحدها إذا تقدم سبي أحدهما فلا فرق بين أن يسبي الآخر بعد ذلك أو يقدم بأمان في حكم فسخ النكاح يجري ذلك على الاختلاف المتقدم ، وإذا تقدم قدوم أحدهما بأمان ثم سبي الآخر بعده فلا ينفسخ النكاح بإجماع ويخير إن كانت هي التي قدمت أولاً للرق الذي أصابه بالسباء ويعرض عليها الإسلام إن كانت هي التي سبيت آخراً إلا أن تعتق ، إذ لأي صح أن تكون زوجة لمسلم وهي أمة كافرة لقوله عز وجل : {ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات} الآية ، وبالله التوفيق .

(4/176)


ومن كتاب أوله
أوصى أن ينفق على أمهات أولاده
وسئل ابن القاسم عن رومي سبيت امرأته فأتى حتى وقف قريباً من عسكر المسلمين فقال لهم : أعطيتموني امرأتي فلكم عندي أربعة من المسلمين أعطيكموهم نصهم بأسمائهم ، فقالوا له : نعم : [فذهب] فأتى بواحد ثم آخر ثم آخر ثم جاء ، فقال لهم : لم أقدر على الربع ، قال ابن القاسم : إما أن يعطوه امرأته وإما أن يردوا إليه الثلاثة ، قال عيسى : أحب إلي أن يردوا إليه امرأته ولا يعطوه الثلاثة ، ولا ينبغي لهم غير ذلك .
قال محمد بن رشد : قول ابن القاسم ليس على ظاهره من التخيير بين الأمرين ، وإنما معناه أنه لابد من أحد الوجهين ، فإذا لم يصح أحدهما لزم الثاني ، وقول عيسى مبين لذلك لأن قوله في أوله : أحب إلي ليس على ظاهره ، ومعناه الوجوب ، بدليل قوله في آخر : ولا ينبغي لهم غير ذلك ، وهذا إذا كان لم يبرم العقد بينهم وبين الرومي على أن يعطوه امرأته ويعطيهم الأربعة من المسلمين ، وإنما قالوا له : إن جئتنا بهم أعطيناك امرأتك ، ولو أنبرم العقد بينهم على هذا لكان الواجب إذا تحقق أنه لم يقدر على الرابع أن يكون له أن يأخذ امرأته ويكون عليه قيمة ربعها على حكم الاستحقاق فيمن باع أمة بأربعة أعبد فأعتق المشتري الأمة واستحق أحد الأعبد . ولو لم يستحقق أنه لم يقدر عليه لكان من حق المسلمين أن يحبسوا المرأة حتى يأتي بالرابع على أصولهم في أن من حق البائع أن يمسك سلعته حتى يستوفي جميع ثمنها .
مسألة
وسئل ابن القاسم عن الربانيين : ما يؤخذ منهم؟ فقال : الذي تأخذ به من ذلك إنما هو صلح ما اصطلحوا أن ينزلوا عليه من ثلث

(4/177)


أو ربع أو خمس أو عشر أو ما كان من الإمام في ذلك ، قيل له : فإن نزلوا على العشر بصلح فلم يوافقهم البيع ثم أرادوا الرجوع برقيقهم ومتاعهم فقال : يؤخذ منهم العشر ولا يشبهوا أهل ذمتنا إذا أتوا لتجارة فلم يوافقهم البيع أولك لا يؤخذ منهم شيء إلا أن يبيعوا ، قال ابن القاسم في سماع سحنون وأصبغ يمنعون من الوطء إن كان معهم جواري يحال بينهم وبين وطئهن حتى يباعوا للشرك الذي للمسلمين معهم باعوا أو لم يبيعوا أو فيما مات أو نقص ، قال ابن القاسم : إلا أن يكونوا صولحوا على دنانير أو دراهم فلا يمنعوا من الوطء ، وإن دخلوا من ذلك الموضع إلى غيره من سواحل المسلمين قبل أن يبيعوا لم يؤخذ منهم إلا ما أخذ .
قال محمد بن رشد : قوله في البرانيين إنه يؤخذ منهم إذا قدموا للتجارة ما صولحوا عليه هو مثل قوله في المدونة وروايته عن مالك خلاف رواية علي بن زياد عنه فيها أن في تجار أهل الحرب العشر . ولا اختلاف في أن للإمام أن يمنعهم من دخول بلاد المسلمين للتجارة حتى يصالحوه على ما يأخذ منهم ، وأنه إن صالحهم على أكثر من العشر لزمهم ولم يكن لهم أن يؤدوا العشر ، وإن صالحهم على أقل من العشر لزمه ولم يكن له أن يأخذ منهم أكثر مما صالحهم عليه ، وأن أنزلهم على غير اتفاق ولا عادة جروا عليها أخذ منهم العشر ، ولم يكن للإمام أن يزيد منهم على العشر ولا لهم أن ينتقصوه منه على القول بأن ما صولحوا عليه يجب عليهم بدخولهم إلى بلاد المسلمين باعوا أو لم يبيعوا ، وهذا لم يختلف فيه قول مالك ولا قول ابن القاسم . فاختلاف قول مالك في رواية ابن القاسم وعلي بن زياد عنه في المدونة إنما يعود في هل للإمام أن ينزلهم ابتداء على أقل من العشر أو دون اتفاق ويأخذ منهم العشر أم لا؟ فله ذلك على رواية ابن القاسم ، وليس له ذلك على رواية علي بن زياد ، فإن فعل لم يكن بين الروايتين اختلاف في أنه إن أنزلهم على أقل من العشر لم يكن له أن يأخذ منهم العشر ، ولا في أنه إن أنزلهم دون اتفاق ولا جري عادة .

(4/178)


جروا عليها أن يكون له أن يأخذ منهم أكثر من العشر إلا أن يرضوا بذلك ولا أقل منه إن طلبوا ذلك ، لأنه يكون تاركاً لبعض حق المسلمين . وأما على قول ابن وهب في سماع أصبغ وأشهب في كتاب ابن المواز أنه لا يلزمهم أن يؤخذ منهم العشر ولا ما صالحوا عليه إلا أن يبيعوا ، فإن أنزلهم الإمام على غير إتقان لا عادة جروا عليها فيصالحهم ما لم يبيعوا أن ينصرفوا ولا يأخذ منهم شيئاً ، فإن لم يصالحهم حتى باعوا أخذ منهم العشر على كل حال ، وقوله : إنهم يمنعون من الوطء صحيح لأن المسلمين قد حصلوا اشراكاً لهم بنفس نزلوهم وإن لم يبيعوا خلاف قول ابن وهب وأشهب .
مسألة
قال ابن القاسم : وبلغني عن مالك أنه قال : تطرح الضيافة على أهل الذمة ضيافة الثلاثة الأيام إذا لم يوف لهم .
قال محمد بن رشد : معنى قول مالك في طرح الضيافة عنهم هو ما فسره به عيسى بن دينار في تفسير ابن مزين قال : يقول : إذا تعدى عليهم الإمام وأخذ منهم أكثر من فرض عمر فلا يحل لأحد من المسلمين أن يستضيفهم ولا يأكل لهم شيئاً ، وهو تفسير صحيح لأن عمر إنما أوجب عليهم أن يضيفوا من مر بهم من المسلمين ثلاثاً على أن يؤدوا المقدار الذي يفرضه عليهم ، فصار ذلك المقدار شرطاً في وجوب الضيافة عليهم لمن مر بهم من المسلمين ، فإذا لم يوف لهم بالشرط وأخذ منهم أكثر من ذلك سقطت عنهم الضيافة ، فلا يجعل لأحد أن يستضيفهم ولا يأكل لهم شيئاً .
مسألة
قال مالك : ولا أرى أن يزاد عليهم في جزية جماجمهم على ما فرض عمر أربعة دنانير على أهل الذهب وأربعين درهماً على أهل الورق ، فلا أرى أن يزاد عليهم وإن أيسروا ، واحتج بقول عمر :

(4/179)


قد فرضت لكم الفرائض وسننت لكم السنن .
قال محمد بن رشد : المروي عن عمر رضي الله عنه أنه فرض الجزية على أهل الذمة أربعة دنانير على أهل الذب وأربعين درهماً على الورق وذلك أرزاق المسملين ، وضيافة ثلاثة أيام . والذي كان يفرض عليهم في الأرزاق على ما حكى ابن وهب نحو قفيز قمح وثلاثة أثمان زيت في كل شهر وشيء من عسل وكسوة لم يحد ذلك ، فإرادته أنه لا يزاد عليهم فيما فرضه عليهم في الأرزاق مع الذهب أو الورقكما لا يزاد عليهم في الذهب ولا في الورق ، والله أعلم ، ولا اختلاف أعلمه في أنه لا يزاد عليهم على ما فرضه عمر وإن أيسروا ولا ينقصونهم منه ما كان فيهم محتمل لذلك ، فإن لم يكن فيهم محتمل لحمل المفروض عليهم في الأرزاق مع الذهبو الورق لم يكن عليهم إلا الذهب أو الورق ، واختلفوا إن ضعفوا عن حمل الأربعة دنانير أو الأربعين درهماً فقيل إنه يسقط 7عنهم الجميع ، وهو الظاهر من مذهب ابن القاسم ، وقيل إنهم يلزمون من ذلك بقدر احتمالهم ولا حد في ذلك ، قاله القاضي أبو الحسن ، وقيل إن حد أقل الجزية دينار أو عشرة دراهم ، وهذا في أهل العنوة الذين غلبوا على بلادهم وأقروا فهيا لعمارة الأرض وفيمن استأمن على أن يكون من أهل ذمة المسلمين ، وفيمن صولح على أداء الجزية مجملاً دون تفسير ، فإن صولحوا على أقل من ذلك أو أكثر مضى ذلك ولزم الصلح على ما وقع ليه من قليل الجزية وكثيرها ، هذا قول ابن حبيب وغيره إن الجزية الصلحية لا حد لها في عدد ولا توقيت ، وإنما هي على ما صالحوا عليه من قليل أو كثير على أن يدخلوا إلى بلاد المسلمين أو يقروا في بلادهم على دينهم إذا كانوا بحيث تجري عليهم أحكام المسلمين ، وتؤخذ الجزية منهم عن يد وهم صاغرون ، وهو كلام فيه نظير ، والصحيح أنه لا حد لأقلها يلزم أهل

(4/180)


الحرب الرضى به لأنهم مالكون لأمرهم وأن لأقلها حداً إذا بذلوه لزم الإمام قبوله وحرم عليه قتلهم لقوله عز وجل : {حتى يعطوا الجزية عن يد} الآية ولم أر لأحد من أصحابنا حداً في
ذلك ، والذي يأتي على المذهب عندي أن أقلها ما فرض عمر على أهل العنوة ، فإذا بذلك ذلك أهل الحرب في الصلح على أن يؤدوه عن يد وهم صاغرون لزم الإمام قبوله وحرم عليهم قتالهم ، وله أن يقبل منهم في الصلح أقل من ذلك وإن كانوا أغنياء ، وقال الشافعي أقل الجزية دينار ، فإذا بذل الأغنياء ديناراً حرم قتالهم ولا قدر لأكثرها ، يريد أنه ليس لكثرة ما يبذلونه في الصلح حد لا يجوز للإمام أن يتجاوزه بخلاف أهل العنوة الذي لا يجوز للإمام أن يتجاوز فرض عمر رضي الله عنه .
ومن كتاب أوله لم يدرك من صلاة الإمام إلا الجلوس
وقال ابن القاسم : إذا أسلف النصراني النصراني خمراً أو خنازير فأسلم المسلف كان عليه قيمة تلك الخنازير أو الخمر ، وكذلك النصرانية تنتقد في صداقها خمراً أو خنازير ثم تسلم قبل أن يبتني بها وقد فات في يديها فإنه يكون عليها غرم قيمة تلك الخنازير وتلك الخمر ، قلت فإن كان ذلك الخمر والخنازير عندها قائمة بعينها؟ قال : أرى أن تغرم قيمة ذلك وتكسر الخمر وتقتل الخنازير ، قلت فإن أسلم الذي أسلف الخمر والخنازير هل عليه أن يأخذ تلك الخنازير فيقتلها أو تلك الخمر فيهريقها؟ قال ابن القاسم : أحب إلي أن تؤخذ الخمر والخنازير فتكسر الخمر وتقتل الخنازير .
قال محمد بن رشد : قوله في النصراني الذي يسلفه النصراني الخمر والخنازير فيسلم إن عليه قيمة تلك الخنازير أو الخمر صحيح على قياس قوله

(4/181)


في المدونة وغيرها في أن المسلم إذا استهلك الخمر للنصراني أن عليه قيمتها لأنه بإسلافه مستهلك للخمر الذي دفع إليه ، إذ لا يقدر أن يؤدي إليه خمره ولا خنازيره بعد إسلامه ، ولم يذكر متى تقوم إن كان يوم قبضها أو يوم أسلم أو يوم يحل عليه السلف إن كان مؤجلاً ، والذي يجب أن يكون عليه قيمة ذلك يوم الحكم إن كان السلف حالاً ، وإن كان مؤجلاً لم يحل بعد فقيمته يوم الحكم على أن يقبض عند أجله ، وحكى ابن حبيب عن مالك من رواية مطرف عنه أنه لا شيء عليه إذا أسلم على أصله أيضاً في المسلم يستهلك الخمر للنصراني إنه لا شيء عليه فيها ، وكذلك النصرانية تنتقد في صداقها خمراً أو خنازير فتسلم قبل البناء تشبه مسألة القرض لأنها بإسلامها قبل البناء ينفسخ النكاح ويجب عليها أن ترد للزوج ما قبضت منه وهي لا تقدر على ذلك لإسلامها فتلزمها القيمة ، وذلك أبين إذا أسلمت والخمر والخنازير قائمة بيدها في الاستهلاك ولا يجب عليها شيء على رواية مطرف عن مالك المذكور في الوجهين ، وأما إذا أسلم الذي أقرض الخمر والخنازير فأخذ ذلك من النصراني وقتل الخنازير وإراقة الخمر أولى من ترك ذلك كما قال وبالله التوفيق .
مسألة
قال : ولو أسلم نصراني إلى نصراني دنانير في خمر أو خنازير فأسلم أحدهما؟ قال : إذا أسلم الذي أسلم إليه الثمن رد الثمن إلى صاحبه ، فإذا أسلم صاحب الثمن فإن مالكاً قال فيها : لا أدري ، أخاف أن أظلم الرومي إن قضيت عليه برد لدنانير وعليه خمر أو خنازير ، ولكن أرى أن تؤخذ الخمر منه وتكسر على المسلم ، وتؤخذ الخنازير فتقتل أو تطرح في مكان لا يخلص أحد إلى أكلها ، يحتمل أن يكون من ق ول مالك فيكون هو جوابه الذي ترجح عنده من الوجهين في المسألة بعد وقوفه فيها ، ويحتمل أن يكون من قول ابن القاسم خلافاً لما له في المدونة من أنه يقضي عليه برد رأس المال

(4/182)


بمنزلة إسلامهما جميعاً لأنه حكم . قلت : فإن رضي النصراني أن يرد عليه دنانير؟ قال : ذلك حلال لا بأس به .
قال محمد بن رشد : توقف مالك رحمه الله إذا أسلم الذي له السلم وقال : أخاف أن أظلم الرومي إن قضيت عليه بخلاف ما عليه ولم يتوقف إذا أسلم الذي عليه السلم ، وهو يقضي للذمي بخلاف ماله لأن له خمراً أو خنازير ، وهو يقضي عليه أن يأخذ دنانير ، والفرق بين الموضعين أنه إذا أسلم الذي له السلم لم يمكن أن يقضي على الذمي بما عليه لأن ما عليه يجوز له ملكه ، فلما كان يمكن أن يقضي عليه بما عليه خشي أن يظلمه إن قضى عليه بخلاف ما عليه ، وإذا أسلم الذي عليه السلم لم يمكن أن يقضي عليه بالخمر والخنازير لأنه مسلم لا يحل له ملك ذلك ، فلما لم يكن ذلك كان القضاء عليه برد رأس المال ضرورة يبيح أن يقضى للذمي بخلاف ماله ، كمن أسلم فيما له إبان فانقضى الإبان قبل أن يأخذه سلمه أن يقضي له برأس ماله ، إذ لا يمكن أن يقضى له بماله وقوله : ولكن أرى أن تؤخذ الخمر عنه فتكسر على المسلم وتؤخذ الخنازير فتقتل وتطرح في مكان لا يخلص أحد إلى أكلها ، يحتمل أن يكون من قول مالك فيكون هو جوابه الذي ترجح عنده من الوجهين في المسألة بعد وقوفه فيها ، ويحتمل أن يكون من قول ابن القاسم خلافاً لماله في المدونة من أنه يقضي عليه برد رأس المال بمنزلة إسلامهما جميعاً لأنه حكم بين مسلم ونصراني ، وأما إذا رضي النصراني المسلم إليه أن يرد على المسلم الذي أسلم إليه دنانيره فلا إشكال في أن ذلك حلال جائز كما قال ، ولا يلزم المسلم ذلك إذا قال أنا أريد أن آخذ الخمر أو الخنازير فأهريق الخمر وأقتل الخنازير على القول بأن بذلك هو الذي يوجبه الحكم .
مسألة
قلت : فلو كان نصرانياً أعطى نصرانياً ديناراً في دينارين إلى شهر فأسلم أحدهما أو جميعاً؟ قال : إن أسلما جميعاً لم يكن لصاحب

(4/183)


الدينار إلا ديناره ، وإن أسلم صاحب الدينار لم يحل له أن يأخذ إلا ديناره وإن أسلم الذي عليه الديناران كان عليه غرم الدينارين إلى النصراني .
قال محمد بن رشد : أما إذا أسلما جميعاً أو أسلم الذي أسلم الدينار فلا اختلاف في أنه لا يحل للمسلم إلا أن يأخذ ديناره ، وإن أسلم صاحب الدينار لم يحل له أن يأخذ إلا ديناره ، وإن أسلم الذي عليه الدينار لقوله تعالى : {فإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم} الآية . وأما إذا أسلم المسلم إليه فقال ابن القاسم في المدونة إنه يرد إلى المسلم ديناره بمنزلة إسلامهما جميعاً لأنه حكم بين مسلم ونصراني خلاف قوله ها هنا ، واختلاف قوله في هذه المسألة جار على الاختلاف في الكفار هل هم مخاطبون بشرائع الإسلام أم لا ، فقوله ها هنا على أنهم غير مخاطبين بشرائع الإسلام ، لأنك إذا قلت إن الربا لا يحرم على الذمي وجب أن يحكم له به على الذي أسلم ، وإذا قلت إنه يحرم عليه لم يجز أن يحكم له به على الذي أسلم ، لأن المسلم لا يجوز له أن يؤكل الربا كما لا يجوز له أن يأكله ، وتوقف فيها مالك في المدونة وقال : أخاف أن أظلم الذمي إن قضيت له بدينار وله ديناران إذ لم يترجح عنده أحد القولين على الآخر .
مسألة
قال : وكذلك إذا تسالفا الخمر والخنازير إذا أسلما جميعاً لم يكن على الذي عليه الخمر ولا الخنازير قليل ولا كثير .
قال محمد بن رشد : وهذا عندي إذا أسلما معاً أو أسلم المسلف قبل المسلف ، وأما إن أسلم المسلف قبل المسلف فينبغي على قياس قول ابن القاسم في أول الرسم أن يكون عليه قيمة الخمر أو الخنازير للمسلم لأن ذلك قد وجب له عليه بإسلامه قبل أن يسلم هو ، فلا يسقط حقه بإسلامه ، وقد

(4/184)


مضى ما يدل على صحة هذا في أول الرسم لمن تدبره .
مسألة
قلت : فإن أسلمت النصرانية التي أخذت في صداقها الخمر والخنازير وأسلم زوجها قبل أن يبتني بها هل ترى أن يدخل بها بذلك الصداق ويقدم لها ما يستحلها به؟ قال النكاح ثابت ، وأحب إلي أن يقدم إليها ما يستحلها به ، قال عيسى : الذي آخذ به في هذا - وقد اختلف فيه - القول أنه إذا دفع إليها ذلك ثم أسلم قبل البناء فإنه يدفع إليها ربع دينار ويلزمه النكاح ، وإذا لم يدفع ذلك إليها حتى أسلم فإنه يدفع إليها صداق مثلها ويلزمه النكاح ، وإذا دفع إليها ودخل بها ثم أسلم فلا شيء عليه ، وإذا دخل بها ولم يدفع ذلك إليها وأسلم فإنه يعطيها صداق مثلها .
قال محمد بن رشد : قول ابن القاسم هذا وعيسى بن دينار في النصراني يتزوج النصرانية على خمر أو خنزير فيدفع ذلك إليها ثم يسلمان قبل البناء هو مثل قول بعض الرواة في كتاب النكاح الثالث من المدونة إن النكاح ثابت ، ولا خيار للزوج فيه ، وخلاف له فيما يكون على الزوج لأنه لم يوجب فيه على الزوج شيئاً واستحب ها هنا ابن القاسم أن يقدم إليها ما يستحلها به ، وأوجب ذلك عليه عيسى ، وخلاف لقول ابن القاسم في الكتاب المذكور من المدونة في الوجهين ، لأنه قال فيه : إن شاء أن يدفع إليه مثلها ويدخل فذلك له ، وإن أبى فرق بينهما ولم يكن له عليه شيء ، كمن نكح على تفويض ، ولم يختلفوا إذا أسلما قبل البناء وقبل أن يدفع ذلك إليها في أنه مخير بين أن يدفع إليها صداق مثلها ويدخل أو يفرق بنيهما ولا شيء عليه ، وأما إذا أسلما بعد البناء أو بعد أن دفع إليها ذلك فلا اختلاف في أن النكاح ثابت ولا شيء عليه ، واختلف إن كان إسلامهما بعد الدخول وقبل أن يدفع إلهيا ذلك ، فقال ابن القاسم في المدونة يدفع إليها صداق مثلها ، وقال سحنون : لا

(4/185)


شيء عليه ، فهذا تحصيل هذه المسألة ، لأنها تنقسم على أربعة أقسام يتفق على الوجهين منها وهما إذا كان إسلامهما قبل الدخول وقبل القبض ، أو بعد الدخول وبعد القبض ، ويختلف في الوجهين منهما وهما إذا كان إسلامهما قبل الدخول وبعد القبض أو بعد الدخول وقبض البض على ما قد ذكرناه في ذلك كله . وقوله ابن القاسم في هذه المسألة في المدونة يأتي على قياس قول ابن أبي حازم وابن دينار في النصرانيين يتبايعان الخمر والخنزير فيسلمان أو أحدهما قبل أن يقض البائع الثمن إنه ليس له قبضه بعد الإسلام ، وقول بعض الرواة فيها وقول ابن القاسم وعيسى بن دينار في هذه الرواية يأتي على قياس قول أشهب والمخزومي وابن المواز إن له قبضه بعد الإسلام فتدبر ذلك .
مسألة
قلت : فهل لحكم المسلمين أن يقضي بين أهل الذمة فيما يتظالمون فيه من الأموال أو من البيوع والرهون والغصب؟ فقال : نعم ، ذلك الذي يحق عليه ، قلت : ففي أي شيء يترك الحكم بينهم؟ قال في حدودهم وعتقهم وطلاقهم وبيع الربا التي يتبايعون بها من الدرهم بالدرهمين ونحو هذا ونكاحهم ووجه غير واحد ، وأما القتل والجراح والغصب والأموال التي يتظالمون بها على حكم المسلمين أن ينظر بينهم .
قال محمد بن رشد : قول ابن القاسم هذا موافق لما في المدونة وغيرها لمالك وأصحابه لا اختلاف بينهم في أن على حكم المسلمين أن يحكم بينهم فيما يتظالمون فيه وأنه مخير فيما سوى ذلك من حدودهم ونكاحهم وطلاقهم وبيوع الربا التي يتبايعون بها فيما بينهم إن ترافعوا إليه إن شاء حكم بينهم في ذلك وإن شاء ترك لقول الله تعالى : {فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو اعرض عنهم} الآية إلى قوله : {إن الله يحب المقسطين} أي بحكم التوراة لأن الآية نزلت في تحكيم اليهود النبي عليه السلام في اللذين

(4/186)


زنيا منهم فحكم عليهما بالرجم على ما في التوراة ، فوجب أن يقاس على ذلك ما كان في معنى الحد من سائر شرائعهم ، وأن يكون الإمام مخيراً في الحكم بينهم في ذلك إن حكموه فيه .
وأما ما يتظالمون فيه فمن الحق على الإمام أن يحكم بينهم في ذلك ويكف بعضهم عن بعض وإن لم يحكموه في ذلك ويكف غيرهم أيضاً عن ظلمهم لأنه إنما أخذ الجزية منهم على ذلك ، فهو م الوفاء بالعهد لهم ، ولا اختلاف في ذلك بين أحد من أهل العلم ، وقد قيل : إن قوله عز وجل : {وأن أحكم بينهم بما أنزل الله} معناه عند مالك فيما يتظالمون فيه ، وقيل : إن معناه في غير التظالم من الحدود وغيرها وإن المراد بذلك أن حكمت على ما توجبه الآية الأخرى من التخيير ، وأصح ما قيل في هذا أن قوله عز وجل : {وأن أحكم بينهم بما أنزل الله} معناه وأن احكم بينهم بما أنزل الله في التوراة إن حكمت ، وأن قوله عز وجل : {فاحكم بينهم بما أنزل الله} في القرآن إن حكمت ، وأن هذه الآية ناسخة الحكم بالتوراة لا التخيير في الحكم ، إذ قد أجمع أهل العلم على أنه لا يجوز الحكم بيمينهم إلا بما في القرآن ، وقد قيل إنهما ناسختان للتخيير في الحكم ، وإنه لا يجوز للإمام ردهم إلى حكامهم إذا حكموه ، وذهب إلى هذا بعض أهل العراق ، وهو بعيد ، لأن النسخ حكم مبتدأ لا يكون معطوفاً على ما قبله ، فعطف هاتين الآتين على آية التخيير يدل على أنهما غير ناسختين لآية التخيير ، والله أعلم .
مسألة
وسئل ابن القاسم عن نساء أهل الذمة الذين أخذوا عنوة مثل أهل مصر هل يحل للرجل أن ينظر إلى شعورهن؟ فقال : لا يحل لمسلم أن ينظر إلى شعورهن ولا إلى شيء من عوارتهن ، فقيل له : أليس هن بمنزلة الإماء؟ قال لا : بل هن حرائر ، لأن دية من قتل

(4/187)


منهن خمسمائة ، ومن أسلم منهن كان حراً ، فهن أحرار يحرم منهن ما يحرم من الأحرار .
قال محمد بن رشد : حكم لأهل العنوة في هذه الرواية بحكم الأحرار ، ووجه ذلك أنه جعل إقرارهم في الأرض لعمارتها من ناحية المن الذي قال الله تعالى فيه : {فإما منا بعد وإما فداء} والمن العتاقة ، فعلى هذا تكون لهم أموالهم إذا أسلموا ، وإلى هذا ذهب ابن حبيب في الواضحة واحتج بظاهر قول النبي عليه السلام : "من أسلم على شيء فهو له خلاف رواية سحنون بعد هذا . وتفرقة ابن المواز في ذلك بين ما كان بأيديهم يوم الفتح وبين ما استفادوه بعد الفتح ليست جارية على قياس ، لأن إقرارهم لعمارة الأرض غ ، كان عتقاً لهم فيجب أن يكون ما كان لهم من مال تبعاً لهم بمنزلة ما استفادوه بعد ذلك فلا ينزع منهم بإسلامهم ، وإن لم يكن عتقاً لهم فلا يكونون بإسلامهم أحراراً ولا يكون لهم شيء من أموالهم ، ووجه قول ابن المواز أنه جعل حكم ما كان لهم من المال يوم الفتح حكم الأرض في سقوط ملكهم عن ذلك كله ، وذلك خلاف قول ابن القاسم في المسألة التي في رسم إن خرجت بعد هذا في الجارية التي بيعت في المغانم ومعها دنانير أو دراهم إنها تكون للجيش إلا أن يستثنيه المبتاع على الحديث ، فجعل العبد ملكاً لما سبي معه من ماله حتى ينتزع منه ، وقوله لأن دية من قتل منهن خمسمائة يريد من حساب خمسمائة لأن دية الرجال منهم خمسمائة والنساء على النصف من ذلك .
ومن كتاب أوله إن خرجت من هذه الدار فأنت طالق
وسئل ابن القاسم عمن اشترى جارية من الخمس فوجد معها مالاً ما يصنع به؟ ولم يستثنه بمثل الاشتراء ، قال ابن القاسم : إذا كانت دنانير أو دراهم أو أمراً لا يشبه أن يكون من هيئتها ولباسها

(4/188)


فإنه لجماعة الجيش ، وذلك أن الليث بن سعد حدثني عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله عن عبد الله عن عمر عن النبي عليه السلام أنه قال : "من باع عبداً فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع" .
قال محمد بن رشد : ظاهر دليل هذه الرواية إن ما كان من هيئتها ولباسها فإنه للمبتاع وإن كان كثيراً خلاف ما مضى في رسم الوضوء والجهاد من سماع أشهب من كتاب الجهاد . والذي في رسم الوضوء والجهاد من سماع أشهب من كتاب الجهاد هو الصحيح [إذ] لا يصح أن يكون للمبتاع من هيئتها ولباسها إذا كان كثيراً إلا إذا كان ذلك عليها عند البيع وعلم بذلك البائع على ما قد بيناه في سماع أشهب . قال ابن دحون : فلو أراد رد ما معها من مال ليس من هيئتها ولباسها فوجد الجيش قد تفرق أخذه لنفسه ، وقيل يتصدق به ، وقد مضى القول على هذا المعنى في مسألة الصليب من سماع أشهب .
ومن كتاب أوله :
إن أسلم وله بنون صغار
وسئل ابن القاسم عن الرجل يدخل أرض العدو ويشتري امرأته جاهلاً أو عالماً أنها امرأته؟ قال إذا اشتراها وهو لا يعلم أنها امرأته كان ما اشتراها به ديناً عليها يتبعها به ، فإن كان اشتراها وهو يعلم أنها امرأته فلا شيء عليها ، لأنه كان يخلصها لنفسه .
قال محمد بن رشد : قوله في الذي يفدي امرأته من أرض العدو وهو يعلم أنها امرأته إنه لا يتبعها بما فداها به هو على معنى ما في المدونة في المكاتب يؤدي كتابته ومعه امرأته إنه لا يرجع عليها بشيء ، قال ابن حبيب في الواضحة وحكاه عن مالك وعن مطرف وابن الماجشون وابن القاسم إلا أن يكون فداها بأمرها وطلبها فإنه يرجع عليها ، قال فضل : معناه أن تقول له

(4/189)


افدني وأعطيك الفداء ، فيكون من جنس السلف ، وظاهر قول ابن حبيب أنه يرجع عليها بما فداها به إذا فداها بأمرها وإن لم تقل له فادني وأنا أعطيك الفداء خلاف ما ذهب إليه فضل ، وكذلك إذا فدى من بلاد الحرب من يعتد عليه وهو عالم لا يرجع عليه بما فداه به على معنى ما في المدونة إذا كان معه في الكتابة فأداها أنه لا يرجع عليه بشيء ، وهو قول ابن حبيب في الواضحة أيضاً إلا أن يفديه بأمره فيرجع عليه ، واختلف إذا فداه وهو لا يعلم أنه ممن يعتق عليه فقال ابن حبيب إنه لا يرجع عليه بخلاف الزوجة ، وقال سحنون إنه يرجع عليه كالزوجة ، وأما ذوو المحارم الذين لا يعتقون عليه فجعل ابن حبيب في الواضحة سبيلهم كسبيل الزوجين لا يرجع من فدى منهم صاحبه من بلد الحرب وهو عالم به عليه بما فداه به إلا أن يأمره بذلك ، وعلى معنى ما في المدونة في الذي يؤدي كتابته ومعه فيها من ذوي محارمه من لا يعتق عليه أنه يرجع عليه إذا فداه من بلد الحرب علم به أو لم يعلم أمره أو لم يأمره كما لأجنبيين ، وأما ذوو الرحم الذين ليسوا من ذوي المحارم فلا اختلاف أعلمه في أنهم كالأجنبي ، فهذا تحصيل القول في هذه المسألة على المذهب ، وقد مضى في أول سماع أشهب من كتاب الجهاد ما في خارجه من الخلاف في ذلك .
ومن كتاب أوله يدبر ماله
وسئل ابن القاسم عن النفر من العدو ينزلون بأمان ، فإذا فرغوا سرقوا عبيد المسلمين أو بعض الأحرار واحتملوهم فذهبوا بهم ثم رجعوا وهم معهم فنزلوا على أمان ولم يعرفوا فأرادوا أن يبيعوهم ، قال : لا يتركوا وذلك ، وأرى أن ينزعوا منهم ولا يتركوا أن يبيعوا الأحرار ويطؤا المسلمات ، فكلم في ذلك وقيل إنهم قد صاروا حرباً حين رجعوا إلى بلادهم وقد حازوهم واستأمنوا فنزلوا على أمان ، فهو بمنزلة ما حازوا من أموال المسلمين ثم استأمنوا وهو في أيديهم ، فأبى ذلك وقال : ينتزعن منهم ولا يتركون أن يطئوا المسلمات ويبيعوا

(4/190)


الأحرار وعبيد المسلمين ، وإنما مثل ذلك عندي مثل ما لو نزلوا بأمان فداينوا المسلمين ثه هربوا وخرجوا والدين عليهم ثم رجعوا ونزلوا بأمان أليس يقضى عليهم بتلك الديون؟ قال نعم يقضى عليهم وتؤخذ منهم ، وكلك هذا عندي رجع ابن القاسم وقال لا إله أن يخرجوا من أيديهم ، وأرى أن يوفى لهم لأنهم قد أحرزوهم ولا يتبعوا بما داينوا عليه المسلمين لأن العهد والأمان شديد .
قال محمد بن رشد : ولا ينبغي للإمام أن ينزلهم على قول ابن القاسم الأول على أن لا يؤخذ منهم شيء من ذلك إن سألوا الأمان على ذلك فإن فعل ولم تكن به قوة على محاربتهم إن ردهم إلى مأمنهم أنفذ الشرط لهم ولم ينتزع منهم شيئاً من ذلك ، من أجل لك إنهم قد نصوا ذلك نصاً قال ابن القاسم وأشهب في كتاب ابن حبيب . وهذا نحو ما روي عن ابن القاسم في أهل الحرب يقدمون بأمان للتجارة فيشترطون ألا يرد عليهم إلا من جنون أو جذام أو برص أن لهم شرطهم خلاف قول سحنون ، وقال ابن الماجشون لا ينفذ لهم الشرط ويخيرهم الإمام على كل حال ين أن يؤخذ ذلك منهم أو يردهم إلى حالهم من الحرب ، وروى ابن وهب أن الشرط باطل فيأخذ الإمام ذلك منهم كله ولا يخيرهم بين أن يطوعوا بذلك أو يردهم إلى حالهم من الحرب ، ولم يقل ابن القاسم هل للإمام في القول الثاني إذا اطلع على ما في أيديهم من هذه الأشياء أن يخيرهم بين أن يردوها طوعاً أو يردهم إلى حالهم من الحرب كما قال في آخر سم الكبش من سماع يحيى في أهل الذمة وينبغي أن يكون ذلك له قياسً عليها وإن كان ذلك في أهل الذمة أبين لما قد ذكرناه فيها من المعنى ، وبالله التوفيق .
ومن كتاب النسمة
وسئل مالك عن الاشتراء من أرض الكنيسة تكون عرصة الكنيسة أو حائطاً فباع لك أسقف أهل تلك البلدة وهو الناظر لها

(4/191)


والقائم عليها فهل ترى للرجل أن يتعمد الاشتراء منها؟ فقال لا إن كانت تلك القرية أخذت عنوة بغير صلح فلا ينبغي للأسقف أن يبيع منها شيئاً ولا يشتري أحد منه لأنها فيء الله على المسلمين ، وإن كانت مما افتتح بصلح فلا أرى بأساً إذا كانوا يودون ما عليهم من الصلح أن يبيعوا ما شاءوا .
قال محمد بن رشد : أجاز ابن القاسم في هذه الرواية للرجل أن يشتري من أسقف البلدة الناظر فيها والقائم عليها ما باع من عراص الكنائس والحوائط المحبسة عليها إذا كانت الأرض أرض صلح ، ومنع من ذلك في رواية أصبغ بعد هذا ، فوجه إجازته لذلك في هذه الرواية أنهم أهل ذمة أقروا في بلادهم وأخذت منهم الجزية على أن يخلى بينهم وبني إقامة شرائعهم وفعل ما يستبيحون فعله في أديانهم ، إذا قالوا إن من ديننا جواز بيع عراص الكنائس والحوائط المحبسة عليها جاز ابتياع ذلك منهم كما يجوز ابتيع أرض من مات وماله ممن قالوا إن هذا هو وارثه في ديننا وإن كان غير وارث عندنا ، وسنتكلم في رواية أصبغ على وجه منعه من ذلك إذا مررنا بذلك إن شاء الله وأما أرض العنوة فلا يجوز لهم أن يبيعوا منها شيئاً لأن جميعها فيء الله على المسلمين : الكنائس وغيرها ، وقد اختلف إذا تركوا فيها لعمارتها فقيل إنها تهدم ، وقيل إنها لا تهدم ، ويباح لهم عمارتها على أنها ملك للمسلمين لا لهم ، وبالله التوفيق .
ومن كتاب الجواب
وسألته عن الأسير من العدو يصير لرجل من المسلمين فيفدي نفسه من سيده بوصيفة يدفعها إليه فتستحق حرة يستحقها رجل أنها ابنته أصابها العدو ، وقد لحق الأسير بأرضه أو لم يلحق ، قال ابن القاسم : الجارية حرة ثم لا يتبع بشيء قليل ولا كثير لأن الأسير وماله للمسلمين ، فإن كان في ماله أحرار أو حرة وقد كان أحرزهما

(4/192)


في أرضه خلي سبيلهما ولم يكن عليهما شيء وكانا كلما غنم المسلمون من ذلك مما كان العدو قد سبوه وأحرزوه ، فهذه الجارية في مسألتك حرة على كل حال متى ما علم بذلك لا يتبع بشيء لا بثمن ولا بقيمة ، ويرجع السيد على العلج بقيمة الجارية ، بمنزلة عبد اشترى نفسه من سيده بجارية أو مكاتب قاطع سيده بجارية فاستحقت فسيده يرجع عليه بقيمتها قيمة الجارية فكذلك الأسير ، وليس الأسير الذي يسبى فيما كان من الأحرار بمنزلة الذي يدخل بأمان ، فإذا دخل بأمان وهم معه فهم له مال من ماله لا يعرض لهم فيه ولا يحال بينه وبين بيع ولا وطء ، فإن اشتراهم أحد فهم أحرار لا يسترقون ، ويتبعهم المشتري بالأثمان بمنزلة ما اشترى منهم بدار الحرب ويخرج بهم سواء .
قال محمد بن رشد : معنى هذه المسألة أن الأسير الذي صار لرجل من المسلمين فدى نفسه من سيده بوصيفة له ببلد الحرب على أن يستخرجها ويدفعها إليه فتستحق حرة إذا استخرجها ودفعها إليه ، ولهذا قال : إن السيد يرجع عليه بقيمتها كالعبد يشتري نفسه من سيده بجارية يريد موصوفة فتستحق أن السيد يرجع عليه بقيمتها ، والوجه في ذلك أنها لم تكن عنده يوم افتدى بها نفسه حكم لها بحكم الموصوفة ، ولو كانت عنده يوم فدى بها نفسه بأن تكون كانت سبيت معه فمل تنزع منه حتى بيعت معه مع هذا الرجل فأخذها منه وسرحها لم يكن له عليه رجوع بقيمتها على مذهبه في المدونة فيمن أعتق عبده على جارية بيده فاستحقت بحرية منه أو ملك أنه لا رجوع له عليه بقيمتها لأنه كأنه إنما انتزعها منه وأعتقه ، وقوله إن الجارية حرة بكون الأسير ملكاً للمسلمين بالسباء إذا كان قد أحرزها في بلاد الحرب خلاف قول ربيعة في المدونة في الذي اشترى عبداً من الفيء فدل سيده على ماله في أرض العدو أن ذلك المال مال حرب ليس للسيد ولا للعبد فيه شيء ولا للجيش ، إذ كان إنما دله عليه في جيش آخر ، وخلاف مذهب ابن القاسم

(4/193)


وروايته عن مالك في الذي أسلم في بلاد الحرب وخرج مسلماً وخلف أهله وماله وولده في بلد الحرب فغزا المسلمون تلك الدار فأصابوا أهله وماله وولده في بلد الحرب أنهم فيء لذلك الجيش ، م ثل قول بعض الرواة في كتاب النكاح إن ملكه لا يسقط عن ماله فهو أحق به إن أدركه قبل القسم بغير الثمن وبعده بالثمن ، وأما قوله في الذي يدخل بأمان وبيده أسرى للمسلمين إنه لا يعرض لهم فيه ولا يحال بينه وبينهم في بيع ولا وطء فهو معلوم من مذهب ابن القاسم ، وقد تقدم ذلك والقول فيه في سماع سحنون من الجهاد وفي غير ما موضع .
ومن كتاب العتق
وقال ابن القاسم في رجل باع من حربي في عهدة سلعة بدينار أو أسلفه ديناراً فسبي الحربي وأخذ له مال هل يكون المسلف أو البائع أحق بماله من الجيش وإن كان الحبي قد استودع مسلماً وديعة أو كانت له عليه دنانير من سلف أو بيع ، قال أما ما كان هل من مال عند مسلم من وديعة أو بيع أو سلف أو غير ذلك فحيثما وجد له مال فهو فيء لجميع المسلمين ، فإن كان عليه دين فغرماؤه أحق به إذا كان على ما ذكرت مما كان له في الإسلام من وديعة أو دين وكل ما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب ، فأما ما أوجب عليه بالخيل والركاب فالمسلمون أحق به من غرمائه وهو لهم .
قال محمد بن رشد : مثل هذا في سماع أصبغ بعد هذا سواء والفرق بين ما كان لهفي بلد الإسلام وبين ما غنم من ماله في بلاد الحرب أن ما عامله أو أسلفه إنما عامله أو أسلفه على ما خرج به إلى بلد الإسلام لا على ماله في بلاد الحرب لامتناعه فيه ، فلم يتعين له فيه حق ، وقد وجب ذلك لمن غنمه لقوله عز وجل : {واعلموا أنما غنمتم من شيء فإن لله خمسه} الآية ولا

(4/194)


يعارض هذا ما في آخر كتاب التفليس من المدونة في المرتد يهرب بماله إلى بلد الحرب فقاتل مع المشركين فغنم المسلمون ماله أنه يبدأ فيه بما عليه من الديون ويكون الباقي فيها للجيش لأن الغرماء إنما عاملوه على ماله الذي هرب به ، وقد كان وجب لغرمائه من الحق أن يبدأوا بحقوقهم فيه فليس هروبه بالذي يسقط حقهم فيه ، ولو هرب إلى بلاد الحرب غير مال فاكتسب فيه مالاً وغنم المسلمون لما وجب غرمائه فيه حق على هذا التعليل ، ولو أن الحربي على قياس هذا لما استأمن عامل الناس فاستسلفهم واشترى منهم بالديون ثم هرب بماله إلى بلد الحرب فغنمه المسلمون وعلم أنه المال بعينه الذي هرب به وعامله عليه المسلمون لوجب أن يبدأوا فيه بديونهم ويكون الباقي فيئاً لجميع المسلمين على حكم مال المرتد إذ ليس بملك معين على أصلهم فيما وجد في الغنيمة من أموال المسلمين أنه يقسم وإن علم أنه المسلمين إذا لم يعلم صاحبه بعينه وبالله التوفيق .
ومن سماع يحيى بن يحيى من ابن القاسم
من كتاب الكبش
قال يحيى : وسألت ابن القاسم عن علجين من أهل الحرب خرجا إلى دار الإسلام برقيق لهما ومنها ما ( . . . . . ) من بلادهما ، فلما خرجا إلى دار الإسلام أسلم أحدهما فقال : لو أقامها على النصرانية جميعاً أو أسلما جميعاً قسمت بينهما كل ما كان في أيديهما مما تداعيا فيه إلا أن يعرف ذلك في يد أحدهما دون صاحبه ، فأما إذا أسلم أحدهما فأمر المقيم على دينه إلى الإمام ، والإمام فيما كان في أيديهما على مثل دعوى النصراني . وإن أقر النصراني أنه لا حق له في الرقيق والمتاع وقد كان يعرف جميع ذلك في أيديهما لم ينتفع المسلم بذلك الإقرار لأنه بمنزلة العبد ، ولكن الإمام أن يقاسم المسلم إذا لم يعرف

(4/195)


لواحد منهما دون صاحبه ، قيل له : فإن أنكر أولئك الرقيق أن يكونوا لهما أو في أيديهما أو ادعوا الحرية . ؟ قال : فهم أجمعون بمنزلة واحدة لا يرق أحد منهم لصاحبه إلا أن يقوم لأحدهم بينة أن هؤلاء الرقيق أو بعضهم معروفون في يديه يستحقهم بذلك ، قال ابن القاسم : ومن أسلم منهم فماله له ، ولا سبيل عليه ، ومن أقام على دينه وخرج بغير عهد فأمره إلى السلطان أن يضرب عليه الجزية أو يصنع في أمره أحسن ما يراه نظراً للعامة .
قال محمد بن رشد : معنى هذه المسألة والذي تكلم عليه فيها أن العلجين خرجا برقيق لهما بغير عهد ولا أمان ولو خرجا بأمان وعهد لم يكن للإمام في رقيقهما كلام أسلما أو لم يسلما ، أو أسلم أحدهما لأنها أموالهما لا يصح انتزاعها منهما أسلما أو لم يسلما فيقسمانها بينهما على كل حال ، وإذا كانا قد خرجا بغير عهد ولا أمان فأمرهما إلى السلطان لأنهما وما في أيديهما من الرقيق فيء لأهل الإسلام أسلما أو لمي سلما ، لأن من خرج بغير عهد فأخذه الإمام فالنظر فيه إليه بما ينظر فيه في الأسرى إن رأى أن يقتله قتله ، وإن رأى أن يسترقه استرقهن فإن أسلم حرم قتله وبقي رقيقاً للمسلمين ، فقوله في هذه الرواية إن أسلما جميعاً قسمت بينهما كل ما كان في أيديهما ، وإن أسلم أحدهما فأمر المقيم على دينه إلى الإمام ، ومن أسلم منهم فماله له ولا سبيل عليه معناه إذا كان إسلامهما أو إسلام من أسلم منهما قبل أن يعثر عليه ، وبهذا التأويل تستقيم المسألة ، لأن من أسلم منهما قبل أن يعثر عليه فهو حر يكون له ماله ، ولا سبيل إلى استرقاقه ، ومن لم يسلم حتى عثر عليه وأخذ يكون هو وماله فيئاً للمسلمين ، وإن أسلم بعد ذلك ، إلا أن قوله لو أقاما على النصرانية جميعاً [قسمت بينهما] كل ما كان في أيديهما فإنه لفظ وقع على غير تحصيل ، ويحتمل أن يكون معناه إذا رأى الإمام من النظر أن يعقد لهما الذمة ويضرب عليهما الجزية ويقر أموالهما بأيديهما ، فهذا مما للإمام أن يفعله إن رآه وجه النظر

(4/196)


على ما قد مضى في أول رسم من سماع أشهب من كتاب الجهاد .
مسألة
قال يحيى : وسألت ابن القاسم عن الرجل يصيب العدو امرأته ثم يدخل الرجل إلى أرض العدو للمفاداة أو التجارة فيجد امرأته فتقول له افدني وأنا أضع عنك مهري ففداها ثم خرج بها أيكون مهرها موضوعاً عنه؟ فقال : إن كانت قالت له فادني ولم توقت شيئاً للفدية لم يحل ما تعاملا عليه ، فداها بمثل الذي كان عليه أو أقل أو أكثر من صنفه أو من غير صنفه لأنهما تخاطراً إذا لم تنص شيئاً معلوماً في فديتها تضع المهر به ، فالمهر له لازم وغرم ما افتداها به لازم للمرأة تؤديه إلى الرجل ، قال : فإن نصت شيئاً معلماً يفديها به فإنه ينظر إلى ما كان عليه من المهر ، وإن كانت عليه دنانير وسألته أن يفديها بدراهم لم يصلح لم يصلح ذلك بقليل الدراهم ولا كثيرها إلا أن تقبض هي الدراهم على وجه المصارفة والاقتضاء للذي عليه من المهر فيتصارفان فيه قبل أن يفترقا ثم تدفع ذلك إليه يفديها به ، قال وكذلك إذا كان المهر دراهم فسألته أن يفديها بدنانير تنصها لأن الصرف يدخله وهو لا يحل إلا بالمناجزة وذلك إذا كان المهر حالاً ، قال : وإن كان الذي عليه الدنانير فأمرته أن يفديها بدنانير على أن تضع المهر عه فإن كان المهر حالاً فلا بأس أن يفديها بمثل الذي عليه لها من دنانير المهر وبأقل وبأكثر بعد أن ينص ما يفديها به فيخرجان من حد المخاطرة والقمار ، وذلك إذا نصت ما تفدى به من الدنانير على أن تضع عنه مهراً حالاً من دنانير ، فإن كان الذي سألت أن تفدى به أقل م مهرها فقد رضيت أن تقتضي من دين لها حال بعضه وتترك بعضه ، وإن كان قدر المهر فهو الاقتضاء بعينه ، وإن نصت أكثر من المهر فرضي الزوج بذلك وهو حال عليه

(4/197)


فهو رجل قضاها حقها وتطوع لها بالزيادة في افتدائها ، قال : وإن كان المهر دنانير أو دراهم لم تحل بعد لم يصلح له أن يفتديها بأقل من الذي عليه لأنه إن كان بأقل كان من وجه الوضيعة عنه على تعجيل القضاء ، وإن كان أكثر فلا خير فيه لأنه يدخله بيع الذهب
بالذهب متفاضلاً إلى أجل وهو مما لا يحل ، قال : وإن كان الذي عليه من المهر عروضاً فأسلك بها سبيل الذهب والورق إن أرادت أن يفتيدها بمثل تلك العروض في جودتها وجنسها ولا بأس إذا كانت عليه دنانير أو دراهم أن يفتديها من العروض بما أحب من قليل أو كثير ، حل أجل المهر أو لم يحل إذا نصت ما تفتدي به من المهر ، وكذلك إذا كان المهر عروضاً فلا بأس أن يفتديها بما أحب من العروض المخالفة التي عليه أو بالدراهم والدنانير بأقل من ذلك أو أكثر حل أجل المهر أو لم يحل إذا كان في جميع ما وصفت لك تعجيل الفدية ولا يؤخرها فإن تأخرت فيما أجزت له من اختلاف العروض واختلاف الدنانير والدراهم والعروض لم يصلح لأن الدين بالدين يدخله ، وإن كان المهر الذي عليه طعاماً لم يصلح أن يفديها شيء من الأشياء غير صنف ذلك الطعام لا بقليل الفدية ولا بكثيرها لأن بيع الطعام قبل الاستيفاء يدخله ، ولا بأس أن يفتديها من الطعام بمثل الذي وجب عليه لها من صنفه في قدر مكيلته حل أجل المهر أو لم يحل ، وإن لم يحل الأجل لم يصلح أن يفتديها بأقل من المكيلة من صنف الطعام ولا بأكثر من المكيلة .
قال محمد بن رشد : قوله في هذه المسألة : وإن كان المهر دنانير أو دراهم لم تحل بعد ففداها بأكثر مما عليه فلا خير فيه لأنه يدخله بيع الذهب بالذهب متفاضلاً إلى أجل وهو مما لا يحل ، ليس بصحيح أنه عجل لها حقها وزادها فلا يدخله شيء لأن له أن يعجل العين بخلاف العرض ، ولو كان المهر الذي عليه عرضاً لم يجز أن يفتديها منه ولا بأقل لأنه في الأكثر حط عني ا

(4/198)


لضمان وأزيدك ، وفي الأقل ضع وتعجل ، وفي قوله آخر المسألة : ولا بأس أن يفتديها من العام بمثل الذي وجب عليه لها من صنفه في قدر مكيلته حل أجل المهر أو لم يحل نظر ، لأن من أسلم إلى رجل فيط عام فلا يجوز له أن يأخذ منه في غير البلد قبل الأجل مثل طعامه ، فلا يصح قوله إلا أذا أعطى الطعام في البلد الذي كان عليه الطعام فيه ، وسائر المسألة كلها صحيح على أصولهم في البيوع بينة المعنى فلا وجه للكلام فيها .
ومن كتاب الصلاة
وسئل ابن القاسم عمن يهلك من أهل الصلح والعنوة ممن لا يدع وارثاً يرثه أيرثه المسلمون عامة؟ فقال : أما أهل الصلح فميراث من لا وارث له منهم من ذوي قرابته لأهل مواده لا يكون من مواريثهم شيء للمسلمين ، وذلك أن موته لا يضع عمن بقي من أصحابه شيء مما صالحوا عليه فميراثه لهم وجزيته عليهم ، وأما أهل العنوة فإن من مات منهم ولا وارث له من ذوي قرابته فميراثه للمسلمين ، قيل له كيف يعرف إن كان ترك وارثاً أو لا وفرائضهم في سنتهم مخالفة لفرائضنا؟ فقال : ترد ذلك إلى أساقفتهم ، فإن قالوا ليس له وارث يرثه في ديننا من ذوي قرابته أخذ ميراثه للمسلمين ، وإن قالوا ترثه خالته أو عمته أو ذات رحم من جميع ماله في ديننا وفرائضنا وإن تباعدت قرابتها وقرابة من ورثه من أساقفتهم من رجال قرابته أو نسائهم فذلك إليهم يدينونه .
قال محمد بن رشد : قوله في أهل العنوة إن من مات منهم ولا وارث له من ذوي قرابته فميراثه للمسلمين هو مثل ما في سماع يحيى أيضاً من كتاب الاستلحقاق أنهم في مواريثهم وأهل الصلح سواء ومثل ما في الواضحة ، وهذا يأتي على رواية عيسى عن ابن القاسم التي تقدمت في هذا الكتاب أنهم أحرار ولا ينظر إلى شعور نسائهم وتكون دية من قتل منهم

(4/199)


خمسمائة دينار ، وعليه يأتي أيضاً قول ابن حبيب في الواضحة أن من أسلم منهم فما له . ويلزم على قياس ذلك أن يمنعوا من هبة أموالهم والصدقة بها وأن يحكم عليها بذلك للمسلمين ، وهو ظاهر ما في كتاب الهبة والصدقة من المدونة إذ لم يفق بين أهل العنوة وأهل الصلح كما فعل غير ابن القاسم ولا يمنعوا من الوصايا بجميع أموالهم إلا إذا لم يكن لهم وارث من أهل دينهم وكان ميراثهم للمسلمين .
ويأتي على رواية سحنون عن ابن القاسم بعد هذا أنهم في حكم العبيد المأذون لهم في التجارة فيجوز لهم بيع رقيقهم ولا يجوز لهم أن يهبوا أو يتصدقوا بشيء من موالهم ولا يكون لهم منها شيء بإسلامهم لأنهم لا يتوارثون ، وميراث من مات منهم للمسلمين كان له وارث من قرابته أو لم يكن ، وهو ظاهر قول سحنون في سماع عيسى من كتاب السلطان ، ولا يحرم النظر إلى شعورهن ويكون على من قتل أحداً منهم خطأ أو عمداً قيمته بالغاً ما بلغت للمسلمين ، ولا يجوز للمسلمين تزويج نسائهم وإن كان لم يحرم ذلك في الرواية مراعاة للاختلاف ، فالقياس على أصله في أنهم عبيد أن ذلك لا يجوز لقوله عز وجل : {من فتياتكم المؤمنات} ولا اختلاف في المذهب في أن الأرض للمسلمين لا يجوز لهم بيعها ولا يكون لهم فيها ميراث ولا يكون لهم إن أسلموا ، وأما أهل الصلح فمذهب ابن القاسم أن أرضهم لهم يبيعونها ويورثونها وتكون لهم إن أسلموا ، كانت عليها جزية أو لمت كن ، كانت الجزية على جماجمهم أو مجملة عليهم لا ينقصون منها شيئاً بموت من مات منهم ، وفرق في توارثهم بين أن تكون الجزية على جماجمهم أو مجملة عليهم فقال : إنها إن كانت على جماجمهم كان ميراث من مات منهم ولا وارث له من أهل دينه للمسلمين ولم تجز له وصية إلا في ثلث ماله ، وإن كانت الجزية مجملة عليهم لا ينقصون منها شيئاً بموت من مات منهم كان ميراث من مات منهم ولا وارث له من أهل دينه لأهل مواده ، وذهب ابن حبيب إلى عكس قول ابن القاسم في الطرفين فساوى بين أن تكون الجزية على جماجمهم أو مجملة عليهم فقال : إنها إن كانت على جماجمهم كان ميراث

(4/200)


من مات منهم ولا وارث له من أهل دينه للمسلمين ولم تجز له وصية إلا في ثلث ماله ، وإن كانت الجزية مجملة عليهم لا ينقصون منها شيئاً بموت من مات منهم كان ميراث من مات منهم ولا وارث له من أهل دينه لأهل مواده ، وذهب ابن حبيب إلى عكس قول ابن القاسم في الطرفين فساوى بين أن
تكون الجزية على جماجمهم أو مجملة عليهم في أن من مات منهم ولا وارث له من أهل دينه فميراثه للمسلمين ، وفرق بين أن تكون الجزية على جماجمهم أو مجملة عليهم في حكم أرضهم فقال : إنها إن كانت على جماجمهم كان لها حكم أموالها يبيعونها وتكون لهم إن أسلموا عليها ويتوارثونها إلا أن لا يكون لهم وارث من أهل دينهم فيرثه المسلمون ، وإن كانت مجملة عليهم كانت موقوفة للخراج لا يكون لهم أن يبيعوها ولا يكون لمن أسلم منهم أرضه ، ولا يكون للمسلمين أرض من مات منهم ولا وارث له من قرابته لأنه الموقوفة للخراج على كل حال ، وروى ابن نافع عن مالك أنه يجوز لهم بيع أرضهم إلا أن تكون على الأرض جزية فيأتي في بيع أرضهم ثلاثة أقوال : أحدها أن لهم أن يبيعوها على كل حال ، وهو مذهب ابن القاسم ، والثاني الفرق بين أن تكون الجزية على جماجمهم أو مجملة عليهم ، وهو قول ابن حبيب ، والثالث الفرق بين أن تكون على الأرض جزية أو لا يكون عليها جزية ، وهو قول مالك في رواية ابن نافع عنه ، واختلف ابن القاسم وأشهب إذا باع الصلحي أرضه وعليها جزية فقال أشهب يكون الخراج على المبتاع ما لم يسلم البائع أو يموت ، وقال ابن القاسم يبقى الخارج في الأرض على البائع كما كان عليه ، ولا يجوز أن يشترطه على المبتاع ، فإن اشترطه عليه فسد البيع .
ومن كتاب أوله
يشتري الدور والمزارع
قال يحيى : قال ابن القاسم في الروم يقدمون بالعبيد من فحوص الصقالبة إنه ينبغي للإمام أن يمنعهم من بيع أولئك الرقيق من غير المسلمين ، لا يبيعونها من اليهود ولا من النصارى ولا من

(4/201)


المجوس لا صغيراً منهم ولا كبيراً ، وذلك أنهم يصيرون إلى دين من ملكهم . قلت له : أرأيت من وجد في يد اليهود والنصارى قد اشتروهم أيردوا على الروم الذين باعوهم منهم؟ قال : بل يباعوا على الذين وجدوا في أيديهم من اليهود والنصارى ، قيل له : أرأيت إن وجدوا قد تهودوا أو تنصروا؟ قال : أرى إذا صاروا إلى غير دين الإسلام أن يقروا في أيدي الذين اشتروهم يهوداً كانوا أو نصارى أو مجوساً ، وذلك أنهم لم يكونوا يجرون على الإسلام لو ملكهم المسلمون ، فإن تهودا أو تنصروا فلا أرى أن يباعوا على من ملكهم من أهل الكتاب أو المجوس لأنهم إنما يمنعا من ملك المسلمين ، قال وإذا تقدم إليهم ألا يشتروهم ثم تعدوا واشتروا ووجدوا في أيديهم قد تنصروا أو تهودوا رأيت أني عاقب الذين هودوهم أو نصروهم وينكلوا حتى لا يعودوا إلى مثل ذلك .
قال محمد بن رشد : في المدنية لمالك من رواية ابن القاسم عنه أنهم لا يمنعون من بيعهم منهم ، قال ابن القاسم : وإنما رأيت مالكاً أجاز للروم بيع الصقالبة من النصارى واليهود بموضع عهدهم الذي نزلوا عليه ، فهم يصنعون بما في أيديهم ما أحبوا ، ولو أرادوا أن يردوهم إلى بلادهم كان ذلك لهم ولم يحل لك منعهم ، فكما كان يجوز لهم أن يردوهم فكذلك يجوز لهم أن يبيعوهم ممن أحبوا ابتغاء الفضل لما قدموا به ، وهذا وجه ما رأيت مالكاً رحمه الله نحا إليه ، فإذا أوجب على الإمام في هذه الرواية أن يمنعهم من بيعهم من غير المسلمين فكذلك يجب عليه على مذهبه فيها أن يمنعهم من الرجوع بهم إلى بلادهم خلاف رواية سحنون بعد هذا ، وإذا أوجب ذلك عليه في المجوس فأحرى أن يجب ذلك عليه فيمن أسلم من رقيقهم ، فرواية

(4/202)


يحيى هذه مخالفة ما في سماع سحنون وعيسى من هذا الكتاب وخلاف ما في سماع سحنون أيضاً من كتاب الجهاد أن لهم أن يرجعوا من أسلم من رقيقهم ولا يحال بينهم وبين ذلك . وقوله في هذه الرواية إنهم يباعون على الذين وجدوا في أيديهم من اليهود والنصارى خلاف ما تقدم في رسم الشجرة تطعم بطنين من سماع ابن القاسم وقد مضى هنالك ما في ذلك من الاختلاف ، ولم يفرق في هذه الرواية أيضاً بين صغار المجوس وكبارهم مثل ما يأتي في سماع أصبغ بعد هذا خلاف ما مضى في سماع ابن القاسم ، وقد مضى تحصيل القول في هذه المسألة في رسم الشجرة تطعم بطنين في السنة من سماع ابن القاسم من كتاب الجنائز في أول سماع أصبغ من كتاب الصلاة ، وقد اختلف في المسلم يشتري المجوسي من المستأمن أو من الذمي فيسلم عنده ثم يجد به عيباً ، فقيل ذلك فوت ويرجع بقيمة العيب ، قاله ابن الماجشون وأشهب ، وقيل ليس بفوت ويرد عليه ثم يباع عليه ثانية ، قال ابن القاسم : والقولان جاريان على الرد بالعيب هل هو نقض بيع أو ابتداء بيع ، وهو أصل قد اختلف فيه قول ابن القاسم وأشهب .
من سماع سحنون
وسؤاله ابن القاسم
قال سحنون : قال ابن القاسم : قال مالك : إذا أسلم أهل العنوة أخذ منهم دراهمهم ودنانيرهم وعبيدهم وكل مالهم ، فقلت لابن القاسم فيجوز بيع رقيقهم؟ فقال لي : أراه جائزاً من قبل أن أمرهم كأنهم إنما تركوا على ذلك وكأنهم أذن لهم في التجارة فإنما يمنعوا من أن يهبوا أو يتصدقوا أو يفسدوا أموالهم ، فقلت له : فتزويج بناتهم؟ فقال : ما أحبه ، وإني لأتقيه ، وما أراه حراماً .
قال محمد بن رشد : قول ابن القاسم في هذه الرواية إن أهل العنوة

(4/203)


إذا أسلموا لا يكون لهم ما لهم ويؤخذ منهم صحيح على أصله فيها أنهم في حكم العبيد المأذون لهم في التجارة ، وقال ابن حبيب : إذا أسلموا كان لهم ما لهم ولم ينتزع منهم قول النبي عليه السلام : "من أسلم على شيء فهو له" وهو الذي يأتي على ما مضى في رسم لم يدرك من سماع عيسى من أنهم أحرار ، وقد مضى القول على ذلك هنالك ، وعلى قول ابن المواز في تفرقته بين ما كان بأيديهم يوم الفتح وبين ما استفادوه بعد ذلك ، ومضى في رسم الصلاة من سماع يحيى ما فيه بيان هذه المسألة .
مسألة
وسألته عن الروم إذا نزلوا للتجارة معهم رقيق مجوس فنزلوا على أن لنا العشر ثم أردوا الانصراف ، قال يقاسمون ويؤخذ منهم ما صار للمسلمين وينقلبون بما بقي ، قلت : فإن أسلم الرقيق كلهم ثم أرادوا الرجوع بهم؟ قال ذلك لهم بعد أن تؤخذ عشرهم واحتج بمسألة الروم الذين أرسلوا إلى أمير المؤمنين واحتج بفعل النبي صلى الله عليه وسلم في أبي جندل .
قال محمد بن رشد : هذا المعلوم المشهور من مذهب ابن القاسم ، وحجته بفعل النبي صلى الله عليه وسلم في أبي جندل ليست ببينة لأن النبي عليه السلام إنما رد أبا جندل بالشرط الذي كان صالح عليه أهل مكة ، ولا شرط للروم علينا في الرجوع بمن أسلم من رقيقهم ، وقد ذكر ابن حبيب أن قول ابن القاسم هذا لم يتابعه عليه أحد من أصحاب مالك ، وقد مضى في رسم يشتري الدور والمزارع من سماع يحيى ما هو خلاف لقول ابن القاسم هذا مثل ما ذهب إليه ابن حبيب ، فقف على ذلك .

(4/204)


مسألة
قال : وسألت ابن القاسم عن أرض الصلح إذا صالحوا على ألف دينار يكون عليهم في كل عام أهو مثل أن يصالحوا على أن على جماجمهم دينارين وعلى الأرض مبذر كذا وكذا ، وعلى كل زيتونة كذا وكذا أهو سواء؟ قال نعم ، هو كذلك ندي يجوز لهم بيعها ، وإذا أسلموا عليها وضعت عنهم الجزية .
قال محمد بن رشد : ساوى ابن القاسم في هذه الرواية في جواز بيع أرض الصلح بين أن تكون الجزية مجملة عليهم أو مقصوصة على جماجمهم وعلى الأرض ، أو على جماجمهم دون الأرض ، وقد مضى ما في هذا من الاختلاف وتحصيل القول فيه في رسم الصلاة من سماع يحيى ، فلا معنى لإعادته هنا ، وبالله التوفيق .
من سماع عبد الملك بن الحسن
من أشهب وابن وهب
قال عبد الملك : سئل أشهب عن الرهبان إذا كانوا في أرض الإسلام هل عليهم جزية كانوا في صوامع أو غيرها؟ فقال : كل شيء وقع عليه اسم الترهيب فلا شيء عليه .
قال محمد بن رشد : قد مضى القول على هذه المسألة في أول سماع أشهب من كتاب الجهاد ، فلا معنى لإعادته هنا ، والله الموفق .
مسألة
وسئل عن الرجل تكون أمه نصرانية عمياء فتسأله المسير معها إلى الكنيسة . هل ترى له سعة في المسير بها إلى الكنيسة؟ فقال : لا أرى بأساً أن يسير بها حتى يبلغها ولا يدخلها الكنيسة . فقيل له :

(4/205)


أفيعطيها نفقة لعبدها؟ قال : نعم يعطيها نفقة لطعامها وشرابها ولا يعطيها ما تعطي في كنيستها .
قال محمد بن رشد : رأى المسير معها إلى الكنيسة أحق من أن يعطيها ما تعطي فيها لأن مسيره معها إلى الكنيسة لا منفعة فيه للكنيسة ، وإنما هو عون لأمه على الوصول إليها وإعطاؤها ما تعطي في الكنيسة منفعة لها وسبب لعمارتها بمثابة أن لو أعطى ذلك هو فيها ، وفي المبسوطة لمالك أنه لا يسوغ له أن يسير معها إلى الكنيسة ، وهو أصل قد اختلف فيه قول مالك ، وقد بين في رسم تسلف في المتاع والحيوان المضمون من سماع ابن القاسم وجه الاختلاف في ذلك .
قال محمد بن رشد : رأى المسير معها إلى الكنيسة أحق من أن يعطيها ما تعطي فيها لأن مسيره معها إلى الكنيسة لا منفعة فيه للكنيسة ، وإنما هو عون لأمه على الوصول إليها وإعطاؤها ما تعطي في الكنيسة منفعة لها وسبب لعمارتها بمثابة أن لو أعطى ذلك هو فيها ، وفي المبسوطة لمالك أنه لا يسوغ له أن يسير معها إلى الكنيسة ، وهو أصل قد اختلف فيه قول مالك ، وقد بين في رسم تسلف في المتاع والحيوان المضمون من سماع ابن القاسم وجه الاختلاف في ذلك .
مسألة
وسألت ابن وهب عن بعي رقيق اليهود من النصارى ورقيق النصارى من اليهود هل ترى ذلك واسعاً؟ قال لا ينبغي ذلك ولا يجوز ، وسئل عنها سحنون فقال : ذلك مكروه ، وإنما كره ذلك من ناحية العداوة التي بينهم .
قال محمد بن رشد : هذه المسألة متكررة في هذا السماع من كتاب جامع العيوب . والعداوة هنا عنها هي ما أخبر الله به من قول بعضهم في بعض للتنافس الذي بينهم إذ هم جميعاً أهل الكتاب فقال تعالى : {وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء} يريد : كل طائفة منهما ليست لصاحبتها على شيء منذ دانت دينها وكفرت اليهود بعيسى والنصارى بموسى صلى الله عليهما ، فكذب الله الطائفتين بقوله : {وهم يتلون الكتاب} يريد التوراة والإنجيل ، لأن التوراة تصدق

(4/206)


بعيسى والإنجيل يصدق بموسى كما أنهم جميعاً يصدقان النبي عليه السلام . فإن وقع ذلك ففي كتاب ابن سحنون عن أبيه أنه يجبر على بيعه ، وروى ذلك زياد عن مالك ، ولا يدخل ذلك من الاختلاف ما دخل في النصراني يشتري المسلم على ما مضى في رسم أوله يشتري الشجرة تعم بطنين من سماع ابن القاسم ، وقد ذهب بعض الناس إلى أن ذلك مخالف لما في سماع ابن القاسم والمدونة من إجازة بيع كبار المجوس من اليهود والنصارى لأن الدينين مختلفان أيضاً ، وليس ذلك بصحيح ، إذ لا تنافس بين المجوس وأهل الكتاب ، إذ ليسوا بأهل كتاب ، ولا جاء بعداوتهم نص كتاب الله تعالى .
من سماع أصبغ بن الفرج
من ابن القاسم من كتاب البيوع الثاني
قال يحيى : وسئل ابن القاسم عن العبد النصراني يباع من أهل دينه من أهل الحرب ، قال : لا أرى ذلك ، أخاف أن يكون عورة على المسلمين ودليلاً على ذلك ، ولولا ذلك لم أكرهه إذا ثبت على دينه وقاله أصبغ .
قال محمد بن رشد : قد بين ابن القاسم وجه كراهيته لذلك بياناً لا زيادة عليه ، وبالله التوفيق .
ومن كتاب الجامع
وسئل ابن القاسم عن نصراني دفع إلى نصراني طيراً صاده بأن يبيعه ويجعل ثمنه في الكنيسة فمر به على مسلم فسأله فأخبره قصته وما أمر به في ثمنه فأراد المسلم شراءه ، قال : أرى ذلك خفيفاً ، قال أصبغ لا يعجبني ولا أراه في سعة ، وأراه في إثم وحرج ، وأراه عوناً على شرائع الكفر وتعظيم الكنائس وعمارتها ، والذي يفعل هذا وشبهه مسلم سوء مريض الإيمان .

(4/207)


قال محمد بن رشد : قول ابن القاسم محض القياس ، وقول أصبغ نهاية الورع ، وقد مضى في رسم تسلف من سماع ابن القاسم ما يدل على توجيه كل واحد من القولين .
مسألة
قال أصبغ : سمعت ابن القاسم قال في الديارات وما يباع منها إذا باعها أسقف الكنيسة في خراجها وفي مرمة الكنيسة ، وغنها حبست تلك الأرض في صلاحها إنه لا يباع منها شيء ولا يجوز شراؤه لمسلم ، ولا يجوز شراؤه لمسلم ، ولا يجوز لهم في أحباسهم التي يحبسونها على وجه التقرب إلا ما يجوز للمسلمين في أحباسهم ، قال أصبغ مثله في المسلم لا يشتريه على حال نحو التي فوقها ، قال : ولا يحكم حكم المسلمين في منع بيعها ولا رده ولا الأمر به ولا إنفاذ حبسها ولا جوازه ولا أرى أن يسعه ذلك .
قال محمد بن رشد : لم يجز ابن القاسم في هذه الرواية للرجل أن يشتري من أسقف أهل بلدة الصلح الديارات المحبسة على إصلاح الكنائس إذا باعها في مرمتها أو في خراجهم خلاف ما مضى من قوله في رسم النسمة من سماع عيسى ، والوجه في ذلك أنه لو تنازع فيها الذي حبسها والأسقف فأراد الذي حبسها أن لا تابع تلك الديارات بغير اختيار محبسها وتبقى موقوفة على ما حبسها عليه من أن تكون غلتها في إصلاح الكنيسة وأراد الأسقف أن يبيعها في إصلاح الكنيسة أو فيما لزمهم من الخراج وتحاكموا في ذلك إلى حكم المسلمين ورضوا بحكمه لكان الواجب عليه إن اختار أن يحكم بينهم بحكم المسلمين الذي هو أن لا تباع الديارات بغير اختيار محبسها إذ لم يطلق ذلك فيها ، وإنما أراد أن تكون موقوفة لا تباع ، وهذا معنى قول ابن القاسم لا يجوز لهم في أحباسهم التي يحبسونها على وجه التقرب إلا ما يجوز للمسلمين في أحباسهم ، لأن المحبس لها لو أراد أن يرجع فيما حبس على الكنيسة لما جاز

(4/208)


ذلك له ، ومنعه من ذلك حاكم المسلمين ، هذا ما لم يصح أن يكون ، ابن القاسم أراده كما تأول أصبغ عليه لأن التحبيس على الكنيسة معصية لله لا طاعة له ، ولا يحل أن يحكم على من أوجب على نفسه معصية بتنفيذها ، وإذا لم يكن للأسقف أن يحكم على المحبس ببيع ما حبس بغير اختياره لم يجز للمسلم أن يبتاع ذلك منه كما قال ابن القاسم لا سيما إن باع ذلك في مرمة الكنيسة لما في ذلك من العون لهم على عمارة كنائسهم وإن كان ذلك عند ابن القاسم خفيفاً على ما قاله في المسألة التي قبل هذه وقول هذه ، وقول أصبغ في المسلم لا يشتريه على حال نحو التي فوقها يريد مسألة الطائر إنما يصح في الذي يبيع لمرمة الكنيسة لما في ذلك من تعظيم الكنائس وعمارتها ، وأما الذي يبيع في الخراج فلا وجه لمنعه من ذلك على أصله في إنكار قول ابن القاسم ورد علته .
مسألة
قال أصبغ سمعت ابن وهب يقول في العدو يداينون المسلمين إلى أن يرجعوا من قابل فيرجعون فيقولون لا ننزل إلا على أن لا تعدو علينا غرماءنا فقال : لا ينبغي للإمام أن ينزله على ذلك ، قيل له : فإن أنزلهم على ذلك فقام الغرماء ، فقال : أرى أن يعديهم القاضي على حقوقهم وخير الآخرين ، فإن أحبوا أن يبيعوا باعوا ، وإن أحبوا أن يذهبوا ذهبوا ، فإن ذهبوا لم يؤخذ منهم العشر حتى يبيعوا ، فإذا باعوا أخذ منهم العشر ، قال أصبغ : وإن رفعوا إلى غيرها من سواحل المسلمين فاشتروا تجارة لم يؤخذ منهم إلى ما أخذ .
قال محمد بن رشد : قوله إن الإمام إذا أنزلهم على أن لا يعدي عليهم بالحقوق التي عليهم لا ينفذ ذلك لهم ويعدى عليهم بما عليهم من الحقوق صحيح لا ينبغي أن يختلف فيه ، لأنهم اشترطوا إسقاط ما قد أوجبوه على أنفسهم ، وإنما اختلف إذا هربوا بالديون التي عليهم ثم نزلوا على أن لا

(4/209)


يعدى عليهم بها على ما قد ذكرناه من الاختلاف في ذلك رسم زيد من سماع عيسى ، فقف على ذلك ، وأما قوله إنه لا يؤخذ منهم العشر إلا أن يبيعوا فهو خلاف مذهب ابن القاسم في المدونة وكتاب ابن المواز في رسم أوصى من سماع عيسى مثل ما لأشهب في كتاب ابن المواز ، وقول أصبغ : وإن رفعوا إلى غيرها من سواحل المسلمين فاشتروا تجارة لم يؤخذ منهم إلا ما أخذ ، يريد إلى غيرها من سواحل المسلمين في ذلك الأفق ، ولو كان الساحل الذي رفعوا إليه في أفق آخر لوجب أن يؤخذ منهم يه العشر إن اشتروا أو باعوا على مذهب ابن وهب وعلى مذهب ابن القاسم باعوا أو لم يبيعوا وبالله التوفيق .
مسألة
قال أصبغ : قال لي ابن القاسم : كل ما يكون للحربي من مال عند مسلم من وديعة أو سلف أو بيع وحيث ما وجد له مال مما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب ثم سبي بعد ذلك فهو فيء للمسلمين ، وإن كان عليه دين فغرماؤه أحق به ، وإن كان ما أوجب عليه الخيل والركاب فالمسلمون أحق به من غرمائه وهو لهم فيء .
قال محمد بن رشد : قد تقدمت هذه المسألة ومضى القول فيها في رسم العتق من سماع عيسى ، فلا معنى لإعاته .
مسألة
وسئل أصبغ عن المسلم يشتري العبد المجوسي من المجوسي مثل المجوس الذين يكونون بالعراق بين ظهراني المسلمين قد ثبتوا على مجوسيتهم هم وعبيدهم فيبيع الرجل منهم العبد من المسلمين هل على المسلم أن يجبره على الإسلام؟ قال لا ليس ذلك عليه إنما

(4/210)


هذا فيمن يشتري المسلمون من السبي من الصقالبة وغيرهم من سبي المجوس فأولئك الين يجبرون على الإسلام .
قال محمد بن رشد : قوله في أهل الذمة من المجوس الذين قد ثبتوا على مجوسيتهم إنه لا يجبر من اشتري من عبيدهم يريد الكفار على الإسلام صحيح لأن المسبيين منهم إنما أجبروا على الإسلام من أجل أنهم لم يفقهوا دينهم ولا عقلوه لما هم عليه من الجهل فكان لهم في ذلك حكم الصغار ، ولم يفرق في هذه الرواية في المسبيين منهم بين الصغار والكبار في أنهم يجبرون على الإسلام ، بل ظاهر قوله أنه إنما تكلم على الكبار دون الصغار كما فعل في الذميين ، فهو خلاف ما مضى في رسم الشجرة تطعم بطنين من سماع ابن القاسم ، والحمد لله ، اللهم عونك يا معين .

(4/211)