البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة

كتاب تضمين الصناع

(4/213)


من سماع ابن القاسم من مالك من كتاب قطع الشجر
قال سحنون : أخبرني ابن القاسم قال : سئل مالك عن رجل يستعمل القلنسوة من الخياط فيبيعها الخياط فيأتي صاحبها فيريد إمضاء البيع وأخذ الدراهم من الخياط وأخذ قلنسيته من الذي اشتراها إذا عرفها ، قال : أما قبض الدراهم من صاحب القلانس فلا أرى ذلك لأنه كان ضامناً لها حتى يوفيه إياها ، وأرى عليه مثلها بعملها له ، ولو لم تفت القلنسوة عند مشتريها فشاء أن يأخذها أخذها ، قال ابن القاسم : لا أرى مالكاً أجاب فيها إلا أنها كانت مضمونة على الخياط بصفة ، فأما أن تكون خرقته بعينها استعملها إياه فله أن يأخذ الثمن الذي باعها به أو قيمتها إن كانت القيمة أكثر من الثمن الذي باع به .
قال محمد بن رشد : المعنى في هذه المسألة على ما حملها عليه ابن القاسم وذهب إليه في تأويلها محمد بن المواز أن القلنسية كانت مضمونة على الخياط وأن الخياط لما أكملها على الصفة التي استعمل عليها أشهد أنها لفلان ثم باعها ، فلم ير مالك أن يجيز بيعها ويأخذ الدراهم التي أخذ الخياط فيها إذا كانت قد فاتت عند المشتري ، لأنها إذا كانت قد فاتت عنده رجعت على أصلها مضمونة على الخياط ، فخشي مالك من ذلك الذريعة إلى الحرام بأن يكون قد

(4/215)


دفع دراهم فيأخذ أكثر منها ، وأما إن كانت قائمة عند المشتري وعرف البيع فله أن يجيزه ويأخذ الثمن ، كما له أن يأخذها من أجل أنها قد تعينت له بإشهاد الخياط عليها قبل البيع أنها له ، فلعله إنما باع ملك نفسه فيخشى في ذلك الذريعة إلى الحرام بدفع دراهم في أكثر منها ، فالمسألة آخذة بالطرفين من الضمان والتعين هي مضمونة عليه في الأصل ، عليه خلافها إن غابت أو تلفت عنده أو عند المشتري ومتعينة في أنه ليس له أن يمسكها ويعطيه غيرها إلا برضاه وفي أنها إن وجدت عند المشتري ، كان أحق بها . وإن شاء أخذ ثمنها . ولو لم تكن مضمونة على الخياط بصفة وإنما كان استعمله خرقة بعينها لكان مخيراً فهو إن وجدها أخذها لأنها متاعه ، وإن لم يجدها كان عليه مثلها ، جعل القلنسوة من الأشياء التي يؤخذ مثلها لكثرتها . قال في الجلد وهو على شاة استحييت إن له قيمة ذلك أو شراؤه أي مثله ، فلما كانت الجلود كثيرة والمثل موجودة فيها جاز أن يعطى مثله وكره أن يأخذ الثمن في ذلك أو القيمة لئلا يصير بيعاً وسلفاً يعطى ثمناً وخرقة ويأخذ ثمناً يقبح فلما قبح وجاءت الضرورة جاز أن يأخذ مثل القلنسية ، ولو كانت إرادته ما قال ابن القاسم لما كان له على القلنسية المبيعة سبيل ولكان سلفاً في قلنسية ولما كان له نقض البيع فيها وأخذها لو لم يقع على خرقته فهو غير مبتوع .
قال محمد بن رشد : والتأويل الذي ذكرناه على ما حمل ابن القاسم عليه المسألة من أن القلنسية مضمونة على الخياط أو لأن قول ابن لبابة ، إذ لو كانت خرقته بعينها استعمله إياها لم يكن في أخذه الثمن أو القيمة كراهة إذا علم البيع ولا دخله بيع وسلف لأخذه ثمن متاعه بعينه أو قيمته بعد ثبوت العداء عليه ، وبالله التوفيق .
ومن كتاب الشجرة تطعم بطنين في السنة
وسئل مالك عن الصناع والصباغ تسرق بيوتهم فيأتي من له عنده شيء فيقول الصباغ : هذا متاع فلان ، وهذا ثوب

(4/216)


فلان ، وزعم أن الآخرين سرقت ثيابهم أترى أن يصدق في مثل هذا؟ قال : أرى أن يحلف أصحاب ذلك المتاع أن ذلك المتاع لهم فيأخذونه .
قال محمد بن رشد : اختلف في المفلس يقر بعد التفليس بشيء بعينه من قراض أو وديعة وما أشبه ذلك لمن لأي تهم عليه فقيل : إن إقراره لا يجوز ، وهو قول ابن القاسم في آخر كتاب الوصايا الثاني من المدونة وفي رسم البيع والصرف من سماع أصبغ من كتاب المديان والتفليس ، وأحد قولي مالك في أول سماع ابن القاسم وفي سماع أشهب منه ، وقال : يقال له : أفسدت أمانتك ، ولعلك أن تخص هذا أو تواتيه ليرد عليك ، وقيل : إن ذلك جائز يريد مع يمين المقر لهم ، وهو أحد قولي مالك في رسم العرية من سماع عيسى منه أيضاً ، قاله في الصانع يفلس ، ولا فرق في هذا بين الصانع وغيره وفي المسألة قول ثالث إنهم يصدقون إن كانت على الأصل بينة ، وهو قول ابن القاسم في سماع أبي زيد منه أيضاً ، وأما إذا سرقت بيوتهم وأحرقت من غير سببهم فلا اختلاف أن إقرارهم بالمتاع جائز لأهل المتاع مع أيمانهم لأن أمانتهم لم تفسد ، فقوله في هذه الرواية : أرى أن يحلف أصحاب المتاع أن ذلك المتاع لهم ويأخذونه صحيح لا اختلاف فيه ، إذا علم أن بيوتهم سرقت ، ولا اختلاف في أنه لا يقبل قول المفلس بعد التفليس فيما يقر به من دين في ذمته ، وأما قبل أن يفلس ويقام عليه فيجوز ما أقر به لمن لا يتهم عليه من دين دون يمين ومن قارض أو وديعة أو شيء بعينه أو ما أشبه ذلك من دين على أبيه مع يمين المقر لهم ، قال ذلك في آخر كتاب الوصايا الثاني من المدونة . وقد كان بعض الشيوخ لا يفرق في اليمين بعد الدين والشيء المعين فيوجب اليمين في الوجهين ، ومنهم من يرى ذلك اختلافاً من القول في الوجهين ، والصواب الفرق بينهما لأنه إذا أقر بشيء بعينه فقد خص به المقر له دون الغرماء ، فوجب أن يحلف ، وإذا أقر بدين فلم يخصه دونهم لأن أسوة معهم فلم يجب عليه يمين ، وبالله التوفيق .

(4/217)


ومن كتاب طلق بن حبيب
وسئل مالك عن القاصرين من أصحاب الصوف يدفع لهم الرجل الخمسمائة ثوب أو أكثر ويشترط عليه قصارتها ويدفع إليه أجرة فيعمد الذي دفع إليه فيستأجر عليه قاصرين مثله فيدفعها إليهم ثم يفر الأول فيجد هؤلاء ثيابهم وقد عملها هؤلاء فيريدون أخذها فيقولون لهم : لم نأخذ أجرتنا فلا ندفع إليكم حتى نستوفي حقوقنا ، قال : أرى أن يأخذوا ثيابهم إذا وجدوها ويتبعون هم التي دفعها إليهم بأجرتهم ، وكذلك الخياط والفتال يستعمل فيستعمل هو غيره مثل ذلك يأخذون هم ثيابهم إذ كانوا قد دفعوا حقوقهم إلى الأول ويتبع هو العامل الأول .
قال محمد بن رشد : هذه مسألة جيدة زاد فيها في كتاب ابن المواز تفسيراً فقال : هذا إذا قامت بينة أنه دفع الأجرة إلى الصانع الأول ، فإن لم تقم بينة يحلف الثاني أنه ما قبض أجرته من الهارب ثم يدفع إليه رب الثياب أجرة ، وإن كانت إجارة الأول خمسة وهذا عشرة لم يدفع إليه هو إلا خمسة ويتبع الهارب بما بقي ويأخذ هذا ثيابه ، وإن كانت إجارة الأول عشرة وهذا خمسة دفع إلى هذا خمسة وتبقى خمسة عنده للأول ، ثم إن قدم الأول فأقر بقبض إجارته فليرجع القادم على الثاني بما أخذه منه ، قال أبو محمد بن أبي زيد : وهذا الذي قال غير مستقيم ، ولا يقبل دعوى غريم القادم على المقيم إذا كان القادم عديماً .
قال محمد بن رشد : وقول ابن أبي زيد : لا يقبل دعوى غريم القادم على المقيم إذا كان القادم عديماً صحيحاً ، ولم ينص ابن المواز على أنه يرجع على الثاني بإقرار القادم وإن كان عديماً ، فينبغي أن يحمل قوله على ما يصح فيقال : معناه إذا كان القادم ملياً ولا يقال فيه إنه غير مستقيم ، وقول محمد : إنه إن لم يكن لصاحب المتاع بينة على دفع الأجرة إلى الأول ويحلف الأول ويحلف الثاني

(4/218)


ويأخذ الأقل من الأجرتين صحيح ، وكذلك لو أقر صاحب المتاع أنه لم يدفع إلى الثاني إلا ما استأجر به الأول ، وهذا إذا علم بما استأجر به أو أقر وأقر بذلك الثاني ، وأما إن لم يثبت ذلك ولا أقر به الثاني فلا سبيل له إلى أخذ المتاع إلا بعد أن يدفع إليه جميع إجارته إن علمت ، وإن لم تعلم فيخرج ذلك على قولين : أحدهما : أن القول قوله في مبلغها مع يمينه إذا أتي بما يشبه ، فإن أتي بما لمي شبه لم يصدق وكان له أجر مثله ، والثاني : أنه لا يكون له أكثر من أجرة مثله وإن أشبه ما ادعاه ، وهو الذي يأتي على مذهب ابن القاسم ، وإنما وجب أن يكون للثاني أن يأخذ من صاحب المتاع أقل الأجرتين إذا كان لم يدفع إلى الأول أجرته لأنه غريم غريمه بذلك لا من أجل أن السلعة بيده ، إذ ليست عنده برهن ، فلا يكون له أن يمسكها حتى يقبض إجارته ولا يكون أحق بها من غرماء صاحب المتاع إن فلس عند ابن القاسم ، ولذلك لا يكون القول قوله في الإجارة على مذهبه إن ادعى أكثر من أجرة مثله ، وإنما وجب أن يكون لصاحب المتاع أن يأخذ متاعه معمولاً دون غرم يكون عليه الثاني إذا كان قد دفع الأجرة إلى الأول لأن العمل قد وجب باستئجار الأول على استئجاراً مضموناً في ذمته ، ولو لم تكن الإجارة مضمونة ، وإنما كان استأجره على أن يعمله بنفسه فاستأجر عليه غيره لما وجب لصاحبه أن يأخذه وإن كان قد دفع الأجرة إلى الأول حتى يغرم للثاني أجرة مثله ، وحتى يكون الثاني قد علم بتعدي الأول في استئجاره
إياه على ما وجب عليه أن يعمله بيده ، هذا الذي يأتي على أصولهم ، ولا أعرف في ذلك نصاً ، والله المعين .
ومن كتاب أوله سن رسول الله صلى الله عليه وسلم
وسئل مالك عن رجل استؤجر على عمل يعمله فعمل بعضه ثم مات العالم؟ قال مالك : أما ما كان من عمل يعمله بيده فإنه بحسب ما قد عمل ثم يرد ما بقي ، وأما ما كان مضموناً من عمل أو قطاعة مثل دار يبنيها أو حفر خليج أو بئر أو صنعة من الصناعة

(4/219)


فهو ضامن في ماله ، وعلى ورثته عمله فيما ترك ، فإن كان فضل كان لهم ، وإن كان غرم كان في ماله ، وإن لم يترك العامل وفاء حاص المستعمل بقيمة ما بقي من العمل يوم يحاص وليس على قدر ما بقي من إجارته ولكن على ما بقي من قيمة عمله يوم يحاصله .
قال محمد بن رشد : هذه مسألة صحيحة بينة لا موضع للقول فيها إلا قوله : إذا مات ولا وفاء له أنه يحاص بقيمة ما بقي من عمله يوم يحاص فمعناه يوم يحاص على أنه حال كان حالاً أو مؤجلاً لأنه إن كان مؤجلاً فقد حل بموته ، وكذلك في التفليس على مذهب ابن القاسم ، وقال سحنون : إن كان مؤجلاً في التفليس فيحاص له بقيمته يوم التحاصص على أن يقبض إلى أجله ، والصواب قول ابن القاسم : إنه يحاص بقيمة ذلك حالاً كالعين سواء إذ لو كان في ماله وفاء لعجل له حقه ، وإذا حوصص له بقيمة ما بقي من عمله في التفليس فمن حقه ألا يقبض ما صار له في المحاصة ، ويستأجر له به في مثل ذلك العمل ، واختلف إن أراد أن يأخذ ما صار له في المحاصة هل يجوز ذلك أم لا؟ فقيل : إن ذلك لا يجوز لأنه يدخله إجارة وسلف لأنه قد اقتضى بعد العمل ، فإذا قبض ما صار هل في المحاصة دراهم وقد كان دفع دراهم أخذ بها دراهم وعملاً ، وقد قيل : إن ذلك جائز لأن التفليس يرفع التهمة ، وقد مضى الاختلاف في ذلك في أول رسم من سماع أشهب من كتاب السلم والآجال ، ولا اختلاف في أن ذلك جائز في الموت لارتفاع التهمة في الموت يقيناً .
مسألة
وسئل عن الخباز يبعث إليه بالخبز صاحب الفرن فيحرق الخبز أترى عليه ضماناً؟ قال : لا أرى عليه ضماناً إلا أن يكون ممن لا يحسن الخبز فغر الناس فأراه ضامناً لذلك ، ومثل ذلك الضيعة والتعدي ، فأما إذا لم يأت منه تفريط فلم ير عليه ضماناً ، قال ابن

(4/220)


القاسم : وعليه ضمان ما سرق .
قال محمد بن رشد : قوله : وسئل عن الخباز يبعث إليه بالخبز صاحب الفرن كلام فيه تقديم وتأخير ، وصوابه : وسئل عن الخباز صاحب الفرن يبعث إليه بالخبز فالفران ضامن لما ادعى تلفه كالصناع كان خبازاً يبعث إليه بالعجين ليخبره ويطبخه أو فراناً يبعث إليه بالخبز ليطبخه ، وكذلك يضمن ما أفسد بحطبه ، وإنما لم يضمن ما احترق من الخبز لأن النار تغلب على ما قال في المدونة ، وإنما يسقط عنه الضمان إذا بقي من الخبز ما يعرف به أنه خبز صاحبه ، وأما لو ادعى أنه احترق ومل يأت منه بشيء يعرف أنه الخبز بعينه لضمن ، وكذلك الغزل يحترق في الفرن مثله سواء لأن ذلك تضييع من الفرن وتعد منه أو عنف في الوقيد ، قاله ابن حبيب وغيره ، فالضمان ساقط عنه في احتراق الخبز ما لم يتبين التضييع منه والتعدي في العنف في الوقيد ، وكذلك ما كان من الأعمال فيه غرر كثقب اللؤلؤ وشبه ذلك لا ضمان عليه فيما أتى على يديه إلا أن يتبين منه في ذلك أنه تعدى فيه وأخذه من غير مأخذه على ما يأتي لأصبغ في نوازله .
ومن كتاب الرطب باليابس
وسمعت مالكاً قال : من جاء بثوب إلى خياط فقال : أخرج لي منه قميصاً أو ساجاً ، فقال : نعم ، فأعطى على ذلك أجراً فقطع فلم يأت ذلك فيه ، قال : لا غرم عليه ، ولو أفسد شيئاً منه غرم ما أفسد يعني بذلك قيمة الثوب ، إلا أن يكون ذلك فساداً يسيراً .
قال محمد بن رشد : هذه مسألة قد اختلف فيها اختلافاً كثيراً ، وتحصيله أنه اختلف في الضمان إذا غر ، وفي الأجرة إذا لم يغر ، ولا اختلاف في أنه لا ضمان عليه إذا لم يغر ، ولا في أن لا أجرة له إذا غر ، وهذا إذا أتاه فقال له : أنظر هذا الثوب إن كان فيه قميص أو لا ، فقال له : فيه قميص ، فلما قال له ذلك ، قال : اقطعه ولك كذا وكذا ، ومثله الذي يستأجر القسطار على انتقاد

(4/221)


الدراهم فينقدها فيجد فهيا زيوفاً ، وقد مضى القول على هذا في رسم أخذ يشرب خمراً من سماع ابن القاسم من كتاب الصرف مستوفى فلا معنى لإعادته هنا مرة أخرى ، وأما لو أتى بثوبه إلى الخياط فقال : أنظره إن كان فيه قميص فاقطعه فلك كذا وكذا ، فقطعه فلم يكن فيه قميص لوجب عليه ضمانه قولاً واحداً لأنه لم يأذن له في قطعه إلا بشرط أن يكون أن يكون فيه قميص ، فإذا قطه ولا قميص فيه وجب عليه ضمانه لأن ذلك خيانة منه .
مسألة
وقال مالك في الرجل : يدفع ثوبه إلى الخياط أو الغسال فيزعم الخياط أو الغسال أنه أعطاه إياه ليرقعه أو يدفعه إلى غيره ، قال القول قول الخياط والغسال ، وكل صاحب صنعة فهو بهذه المنزلة متى أشبهوا في قولهم مع أيمانهم .
قال محمد بن رشد : قوله : القول قول الخياط يريد القول قوله في أنه أعطاه إياه ليعمله في مبلغ الأجرة ، فإن ادعى ما يشبه منها كان القول قوله ولم يحلف صاحب الثوب إذ لا فائدة في يمينه ، لأن العامل يأخذ ما حلف عليه بما يشبه ، حلف رب الثوب أو نكل ، وأما إن ادعى العامل من الأجرة ما لا يشبه فلا بد من يمين صاحب الثوب لأن يمينه تسقط عنه الزائد على أجرة المثل ، فإن نكل عن اليمين أخذ العامل ما حلف عليه وإن لم يشبه لأن رب الثوب قد مكنه من ذلك بنكوله ، وفي المدونة لغير ابن القاسم أن العامل مدع ، فقيل : معناه في الأجرة إن ادعى أكثر من أجرة المثل يريد أنه إن ادعى أكثر من أجرة المثل وحلف على ما يدعي لم يستحق بيمينه ما حلف عليه وحلف رب الثوب على ما ادعى فسقط عنه بيمينه ما زاد على أجرة المثل ، وإن نكل عن اليمين أخذ العامل ما حلف عليه ، وإن نكل العامل عن اليمين وحلف رب الثوب أخذ ثوبه مصنوعاً أو مغسولاً ولم يكن عليه شيء في الصباغ والغسل ، وقيل : بل معناه أنه مدعي فيما ادعاه من أنه استعمله إياه فلا يصدق في ذلك

(4/222)


ويحلف صاحب الثوب ويأخذ ثوبه مصبوغاً أو مغسولاً بغير غرم إلا أن ينقصه الصبغ أو يفسده فيكون به مخيراً في أخذه أو تركه وأخذ قيمته ، وإن زاد الصبغ فله أخذه بلا غرم على ما ذهب إليه ابن حبيب .
مسألة
وسئل مالك عن الرجل يستأجر القسطار ينتقد له دنانير ويعطيه على ذلك عطاء ثم يخرج بها من عنده فيأتي بها غيره فإذا فيها غير جيد ، قال مالك : ليس عليهم شيء ، قيل : فحراس القراء ، قال : هم كذلك ، لا أرى عليهم شيئاً من الضمان للجعل الذي جعل لهم ، وقال : يعطون دينارين ويغرمون ثمن الفرس قيمتها دنانير ، لا أرى ذلك عليهم ، فقيل له : أفترى حارس الحمام مثله؟ قال : ما أشبهه به .
قال محمد بن رشد : أما مسألة القسطار يستأجر على انتقاد الدراهم فيوجد فيها زيوف فقد اختلف في ضمانه إذا غر ، وفي هل له أجرة إذا لم يغر حسبما ذكرناه في أول مسألة من هذا الرسم ، ومضى تمام القول فيه وفي رسم أخذ يشرب من سماع ابن القاسم من كتاب الصرف ، ومثل الدليل يخطئ في الطريق لا أجرة له إذا غر ، ويختلف هل له أجرة إذا لم يغر ، فابن القاسم يوجبها له وأشهب لا يراها له ، وقد مضى ذلك في سماعه من كتاب الجعل والإجارة ، وأما حراس القرا والذعا فلا اختلاف في أن الأجرة لهم ولا ضمان عليهم إلا أن يضيعوا أو يفرطوا فيضمنوا ، ولهم الأجرة إذا ضمنوا ، وقد مضى هذا في رسم طلق بن حبيب من سماع ابن القاسم من كتاب الجعل والإجارة ، وأما حارس الحمام فقوله : إنه لا ضمان عليه هو مثل ما في المدونة وفي ذلك تفصيل ، أما إن كان أكراه صاحب الحمام لحفظ ثياب من

(4/223)


يدخل في الحمام بأجرة ثابتة في ذمته فلا اختلاف في أنه لا ضمان عليه إلا أن يضيع أو يفرط ، وأما إذا كان يحرس من ثياب الناس بجعل يأخذه من كل من يدخل الحمام ويحرس له ثيابه ، فقيل : إنه لا ضمان عليه ، وهو قول مالك ، وقال ابن لبابة : ما سواه خطأ ، وقيل : إنه ضامن كالراعي المشترك ، وإلى هذا ذهب ابن حبيب على قول ابن المسيب والحسن ومكحول والأوزاعي في أن الراعي المشترك ضامن لأنه قد نصب نفسه لذلك فصار كالصانع .
ومن كتاب نذر سنة يصومها
وسئل مالك عمن يسرق من الحمام قال : إن الحمام ربما أخطأ الرجال ، وربما اغتلوا ، ولقد قلت لصاحب السوق : آمره أن يضمن صاحب الحمامات ثياب الناس فيضمونها أو يأتون بمن يحرسها وأمرته أن يضمنهم ثياب الناس يدخلون الحمام .
قال محمد بن رشد : إذا لم يكن على ثياب الحمام حارس يحرسها فلا قطع على من سرق منها إلا أن يحتال في السرقة من خارج الحمام من لم يدخل الحمام على ما قاله في المدونة ، وفي رسم أسلم من سماع عيسى من كتاب السرقة قال مالك رحمه الله : إن صاحب الحمام إذا لم يأت بمن يحرس ثياب الحمام فقد أهملها إذا تركها في غير حرز لا يجب القطع على من سرقها وكان ذلك من التضييع الذي يجب عليه به الضمان ، فإذا أتى بمن يحرسها سقط عنه الضمان لكون الثياب إذ كان لها حارس في حرز يجب القطع على من سرقها ، ثم ضعف وجوب القطع على من سرقها إذا كان عليها حارس لما ذكر أن السارق قد يغتل فيقول : أخطأت وظننت أنه ثوبي وما أشبه ذلك ، ولعمري إنه لكما قال إذا كان السارق سرق من ثياب من تجرد إلى جانبه ، وأما من سرق من غير الموضع الذي تجرد فيه أو سرق دون أن يتجرد فلا يصح له اغتلال ، والقطع عليه واجب إذا كان للثياب حارس ، يبين هذا ما وقع في رسم أسلم من سماع عيسى من كتاب السرقة أن من سرق من الحمام يقطع إن

(4/224)


كان على الثياب من يحرسها ، وإن لم يكن لها من يحرسها فلا يقطع سارقها إلا إن سرقها من وراء الجدار وما أشبه ذلك دون أن يدخل الحمام .
مسألة
وسئل مالك عن الطحانين من أهل مصر الذين يدفع إليهم القمح فيكال عليهم فيطحنونه فينقص فيغرمونهم ، فقال مالك : ما سمعت في ذلك بشيء ، يزيد الغرم ، وأرجو أنه خفيف .
قال محمد بن رشد : أما إذا كانت الأرحى للطحانين أو كانت في اكترائهم فلا إشكال في أنهم كالصناع وأنهم ضامنون ، وأما إذا لم تكن الارحى لهم ولا في اكترائهم وكان أصحاب الأرحى والمكترون لها وكلاهم الذين يعاملون أصحاب الطعام على واجبهم في الطحين فالطحان الذي يتولى طحين طعام كل من يأتي بطعامه إلى صاحب الرحى ، يشبه الراعي المشترك ففي هذا ضعف مالك الضمان ، والله أعلم ، فقال فيه : ما سمعت في ذلك بشيء يريد الغرم وأرجو أن يكون خفيفاً ، ومعنى قوله : وأرجو أن يكون خفيفاً ، أي : أرجو أن يكون الحكم بتضمينهم من جهة القياس والنظر دون أن يكون في ذلك أثر يتبع خفيفاً ، إذ لا يصح أن يكون التضمين والتغريم إلا إما واجب فيلزم الحكم به ، وإما غير واجب فيحرم الحكم به ، وهو عنده واجب ، وإيجابه عنده من ناحية القياس دون سنة تتبع هو الخفيف ، و سيأتي ما في سماع أصبغ ، الاختلاف فيما يضمنون إن كان القمح أو الدقيق ، وبالله التوفيق .
ومن سماع أشهب وابن نافع من مالك
قال سحنون : أخبرني أشهب وابن نافع قالا : سئل مالك عن الصناع الصباغ أو الغسال أو غيرهما من الصناع يشترطون على من دفع إليهم العمل أن لا ضمان عليهم ويعطون على ذلك أجراً

(4/225)


فقال : لا ينفعهم ذلك ، وعليهم الضمان ، ولو أمكنوا من ذلك ما عمل منهم أحد إلا اشتراط أن لا ضمان عليه ، ولابد لي من غسل ثوبي .
قال محمد بن رشد : تعليله لإسقاط الشرط بأن الناس لو أمكنوا من ذلك ما عمل صانع عملاً إلا اشترط أن لا ضمان عليه ، يريد فيدخل على الناس بذلك ضرر ، إذ لابد لهم من استعمالهم ، يدل على أن الشرط بإسقاط الضمان فيما يغاب عليه من العارية والرهن عامل ، إذ لا ضرر في ذلك على المعير والراهن ، وذلك في المعير أبين إذ قد لا يبايعه المرتهن إلا بالرهن فتدعو الراهن حاجته إلى البيع إلى أن يلتزم الشرط ، وقد حكى ابن أبي زيد في المختصر عن أشهب في الصناع أن شرطهم ينفعهم ، فإذا رآه عاملاً في الصناع فأحرى أن يعمله في المرتهن والمستعير ، ولابن القاسم وأشهب في سماع أصبغ من كتاب العارية أن الشرط غير عامل في الرهن والعارية ، ومثله أيضاً لابن القاسم في بعض روايات المدونة في العارية في كتاب الرهن منها ، فهو في الصانع أحرى ألا يكون عاملاً ، فيتحصل في ذلك ثلاثة أقوال : إعمال الشرط وإسقاطه ، الفرق ين أن يشترط ذلك الصانع أو المرتهن أو المستعير ، وهو أظهر الأقوال ، إذ لا وجه لإسقاط الشرط في العارية ، لأن المعير إذا أسقط عن المستعير الضمان فقد فعل معه معروفاً من جهتين ، والرهن قريب من العارية في يذلك ، وما إسقاطه فيهما وجه إلا أنه من باب إسقاط حق قبل وجوبه ، فيجري ذلك على اختلافهم في هذا الأصل ، وأما الصانع يشترط ذلك فبين أن سقط شرطه من أجل أن رب المتاع كأنه مكره على الشرط بضرورته إلى استعمال الصانع ، وإذا بطل الشرط فنبغي أن يبطل العقد ، فإن فات بالعمل كان للصانع أجر مثله على أن عليه الضمان لأنه إذا رضي لما سميا من الأجرة على أن لا ضمان عليه ، وأما على ما حكى ابن أبي زيد عن أشهب من إعمال الشرط فتكون له الأجرة المسماة ، وعكس هذه المسألة أن يشترط المعير أو الراهن على المستعير أو المرتهن الضمان فيما لا يغاب عليه من الحيوان أو مع قيام البينة فيما يغاب عليه ، فهذا قول مالك فيه وجميع أصحابه أن الشرط باطل جملة من غير
تفصيل حاشا مطرفاً ، فإنه قال : إن شرط عليه الضمان

(4/226)


لأمر خافه من طريق مخوفة أو نهر أو لصوص أو ما أشبه ذلك ، فالشرط لازم إن عطبت في الأمر الذي خافه واشترط الضمان من أجله ، وقال أصبغ : لا شيء عليه في الوجهين مثل قول مالك وأصحابه ، وإذا بطل الشرط عن المستعير ألزم إجارة الممثل في استعماله العرية عن حكمها إلى حكم الإجارة الفاسدة لأن صاحبها لم يرض أن يعيره إياها إلا بشرط أن يحرزها في ضمانها فهو عوض مجهول حرام يرد إلى المعلوم .
ومن كتاب الأقضية الثاني
وسئل فقيل له : إني جعلت لرجل في تقاضى دين لي على رجل ثلث ما يقتضي منه فجاءني الذي لي عليه الحق فصالحني عن إعطاء ثلثي حقي وأخرت عه الثلث إلى أجل فقال الأجير : أنا آخذ ثلث ما اقتضيت وأكون في الثلث الذي أخذت على شرطي ، قال مالك : هو الذي تقاضاه ولزمه حتى جاءك به فصالحك ، فقال : نعم ، فقال هل مالك : أرى له ثلث الثلثين الذين قبضت ، وهو في الدين الذي بقي على الغريم على شرطه ، إن تقاضاه فله ثلثه ، وإن لم يتقاضاه وتركه لم يكن له فيه شيء ، وذلك أنه هو الذي تقاضاه وجاءك به ، وحركه على قضائك وجلبه ، فأرى ذلك له ولا أرى به بأساً .
قال محمد بن رشد : قوله : إن له ثلث الثلثين إذا كان قد حركه في قضائه مثل رواية علي بن زياد عن مالك ، وقول سحنون في سماعه من كتاب الجعل والإجارة إن الجاعل إنما يلزمه الجعل إذا شرع المجعول له في العمل خلاف ظاهر ما في رسم العتق من سماع عيسى من كتاب الجعل والإجارة حسبما مضى هنالك من القول فيه ، وقال : إن المجعول له على شرطه في الثلث الباقي ، ولم يبين إن كان له أن يتقاضاه قبل الأجل أم لا ، والصواب أن ذلك له لأن الجعل إذا لزم الجاعل فليس له أن يؤخر بالدين فيضر بالمجعول له ، قال هذا بعض الشيوخ ولا أقول به إذ ليس عندي بصحيح لأن التأخير

(4/227)


قد لزم صاحب الدين وصار بما فعل من التأخير قد فوت الجعل على المجعول فوجب له بذلك جعله فيقبض لنفسه ثلث الثلث الباقي معجلاً ويسقط عنه اقتضاء بقيته ، وقد مضى من قول ابن القاسم في رسم أسلم من سماع عيسى من كتاب الجعل والإجارة بيان هذا فقف عليه .
مسألة
وسئل عمن أكرى جفنتين له بالضمان ، قال : ما أرى ذلك ولكن إن كان وضع من كرائهما شيئاً للضمان رأيت أن يبلغ له كراؤهما ، قيل له : إن الذي تكارهما قد زعم له أنهما سرقتا منه ، فقال : لا أرى هذا يجوز له إن كانتا انكسرتا فأين فلقتاهما؟ فأرى ضمانهما عليه ، وليس من قبل اشتراط صاحبهما رأيته ضامناً ، ولكنه لأنه لم يعلم أخذ ما ذكر .
قال محمد بن رشد : كذا وقعت هذه المسألة في جميع الأمهات ناقصة ، سأله فيها عن ادعاء المكتري أنهما سرقتا منه ، فأجابه على ادعائه أنهما انكسرتا منه ولم يأت بفلقتيهما ، والذي يدل عليه مذهبه فيها أنه مصدق في دعوى السرقة ، وأنه لما سأله عن ذلك قال : هو مصدق في ذلك ، فقال له : فإن زعم أنهما انكسرتا ، فقال : لا أرى هذا يجوز له ، إن كانتا انكسرتا فأين فلقتاهما؟ فسقط ذلك من الأصل الذي نقل العتبي منه المسألة ، فاتفقت الأمهات على ذلك ، وحكم اكتراء العروض شرط الضمان على قول مالك في هذه الرواية حكم يراع إلينا بفسخ الكراء إل أن يرضى المكري بترك الشرط فإن لم يعثر على ذلك حتى فات الكراء كان على المكتري الأكثر من الكراء المسمى أو كراء المثل على غير شرط الضمان ، وذلك بين من قوله ، ولكن إن كان وضع من كرائهما شيئاً لموضع الضمان رأيت أن يبلغ له كراؤهما ، إذ لو كان الكراء

(4/228)


عنده فاسداً يجب فسخه في القيام على كل حال لقال : إنه يكون فيه في الفوات كراء المثل بالغاً ما بلغ ، كان الكراء أقل من الكراء المسمى أو أكثر ، وإنما ضمنه في دعواه الكسر لتبين كذبه إذ لم يأت بفلقتيهما فليست هذه الرواية بمخالفة لقول ابن القاسم وروايته عن مالك في أن المكتري مصدق في دعوى الضياع ، وما وقع في المدونة من رواية أشهب عن مالك في أن من أكرى جفنه فقال إنها ضاعت لا يصدق إلا أن يقيم البينة على الضياع ليس بنقل صحيح لأن الرواية بتضمينه إنما هي في دعوه الكسر لتبيين كذبه إذ لم يأتي بفلقتيهما على ما بان من هذه الرواية ، وقد قال ذلك محمد بن المواز ، ولا أعلم خلافاً في أن المكتري مصدق في دعوى ضياع ما اكترى من العروض إلا ما وقع في الدمياطية لابن القاسم ، قال : وسئل عن الرجل يكتري الدابة بالضمان ، قال : لا خير فيه ، ويرد إلى كراء من لا ضمان عليه ، قيل : وكذلك الأشياء كلها؟ قال : لا أدري ما الأشياء؟ قيل : المناجل والحديد قال : أما الحديد
فهو له ضامن .
قال محمد بن رشد : يريد بالحديد متاع الحديد الذي يعرف بعينه كالمحافر والمساحي والسكك وشبه ذلك ، إذ لا يجوز اكتراء ما لا يعرف بعينه إذا غيب عليه ، وقوله : إنه ضامن له شذوذ في المذهب ، وأما قوله : فمن أكرى دابة بالضمان أنه لا خير فيه ويرد إلى كراء مثله ممن لا ضمان عليه فظاهره كان أكثر من المسمى أو أقل ، ومعناه : إذا فات الكراء ، وأنه يفسخ إن عثر عليه قبل الفوات ، وإن ترك المكري الشرط ، وهو القياس خلاف رواية أشهب ، وبالله التوفيق .
ومن كتاب أول مسائل بيوع ثم كراء
وسئل عن الرجل يجعل للرجل جعلاً على دين له يأخذه وله الثلث مما أخذ فقال : إن كان شيئاً يأخذه فلا بأس بذلك ، وإن كان يذهب يخاصم فلا خير فيه .

(4/229)


قال محمد بن رشد : هذه مسألة قد مضى القول فيها مستوفى في أول رسم من سماع ابن القاسم من كتاب الجعل والإجارة وفي سماع أصبغ منه أيضاً فلا معنى لإعادته .
مسألة
وأخبرني موسى بن الفرج عن أشهب في الرجل يدفع إلى الخياط ثوباً يخيطه له والثوب ملفوف في منديل فيضيع المنديل عند الخياط ، قال : فقال لي أشهب : إن كان ثوباً شريفاً مثله يحتاج إلى وقاية فإنه للمنديل ضامن ، وإن كان ثوباً لا يحتاج إلى وقاية لغلظه فهو فيه مؤتمن ولا ضمان عليه فيه .
قال محمد بن رشد : أما إذا كان الثوب غليظاً لا يحتاج مثله إلى وقاية فلا اختلاف في أنه لا ضمان عليه في المنديل الذي لف فيه ، وأما إذا كان شريفاً مثله يحتاج إلى وقاية ، فقال أشهب في هذه الرواية : إنه يضمنه ، وقال ابن حبيب : إنه لا ضمان عليه فيه ، قال : لأن الثوب يستغني عنه ولا يضطر إلى أن يلف فيه ، وقال محمد بن المواز مثله إنه لا ضمان عليه فيه إلا أنه علل بأن المنديل لم يكن له فيه عمل ، فعلى قول ابن حبيب يضمن الصيقل الجفن وإن لم يكن له فيه عمل إذ لا يستغني السيف عن جفنه ، ويضمن الفران القصاع التي أتي إليه بالخبز فيها إذا تلفت قبل مزايلة الخبز منها ، وقد نص على ذلك في القصاع ، ويأتي على قول ابن المواز أن الفران لا يضمن القصاع التي أتي إليه بالخبز فيها إذا تلفت ، إذ لا عمل له فيها ، ولا يضمن الصيقل الجفن إذ لا عمل له فيه ، وقد فعل ذلك في جفن السيف يضيع عند الصيقل ويضمن على مذهبهما جميعاً الصانع المثقال الذي يعمل عليه والوراق الأم التي يكتب منها ، والطحان الأعدال التي يحمل إليه الطعام فيها إذ لا يستغني الصانع في عمله عن المثال ولا الوراق في نسخه عن الأم ولا الطحان في طحينه من الأعدال ، وقد نص على ذلك ابن حبيب في الأعدال ، وقد قال في

(4/230)


القصاع على هذا القياس إنه إذا أتي إليه بالعجين فيها ليقرصه فيها إنه ضامن لها كيفما ضاعت بالعجين أو بغير العجين إذ لا يستغني في عمله عنها ، وهو قول مالك في سماع محمد بن خالد في المثال ، وسحنون يقولك إنه لا يضمن على مذهبه الطحان الأعدال ولا الفران القصاع وإن كان يخبز الخبز فيها إذ لا عمل له فيها ، وإنما عمله وصنعته في الخبز الذي يقرصه فيها ، فيتحصل في جملة المسألة ثلاثة أقوال : أحدها أنه لا يضمن إلا ما له فيه عمل وإن كان يحتاج إليه في عمله أو يحتاج إليه الشيء المعمول ، وهو قول سحنون ، والثاني أنه يضمن ما لم يكن فيه له عمل إذا كان يحتاج إليه في عمله أو
يحتاج إليه الشيء المعمول ، وهو قول ابن حبيب ، والثالث أنه لا يضمن ما لم يكن فيه عمل وإن احتاج الشيء المعمول إلا أن يحتاج إليه في عمله ، وهو قول محمد بن المواز ، ومذهب مالك على ما وقع له في سماع محمد بن خالد ، ولا اختلاف بينهم في أنه يجب عليه ضمان ما له فيه عمل ولا في أنه لا يضمن ما لا عمل له فيه ، ولا يختلفون في صفة تقويم الذي يجب عليه ضمانه منها ، فمنهم من كان يرى أن يقوم عليه وحده على أنه لا صاحب له فيغرم قيمته ، ومنهم من كان يرى أن يقوما جميعاً ثم يقوم الثاني وحده فيغرم ما بين القيمتين لأنه قد فسد عليه الباقي بخلاف التالف إذ لا ينتفع بأحدهما دون الآخر ، وهو أصح القولين كما لو استهلك له رجل أحدهما لضمن ما نقصه منها ، وبالله التوفيق .
ومن سماع عيسى بن دينار من ابن القاسم
قال ابن القاسم : إذا أخطأ الغسال فدفع إلى رجل ثوباً غير ثوبه فلبسه وهو لا يعلم أن الثوب الذي أعطاه الغسال غير ثوبه نظر ، فإن كانت قيمته دينارين وقيمة ثوب الرجل الذي عند الغسال دينار نظر في لبس ثوبه الذي عند الغسال كم كان ينقص في مثل

(4/231)


لبسه هذا الثوب الذي لبسه وقيمته ديناران ، فإن كان ذلك ينقص ثوبه في قدر ما لبس هذا الثوب نصف دينار نظر في لبس ثوب الرجل فإن كان الذي نقص من ثوبه من قيمته دينار لم يكن على الذي لبس الثوب أكثر مما كان ينقص من ثوبه أو لبسه وغرم الغسال ما بقي ، وإن كان الذي ينقص من ثمن الثوب أقل من نصف دينار لم يكن على الذي لبس الثوب أن يغرم أكثر مما نقص ، وإن كان لو لبس ثوبه في قدر ما لبس ثوب الرجل ينقص أكثر مما لبس ثوب الرجل لم يكن عليه أكثر مما نقص ثوب الرجل ، وليس على الغسال في ذلك شيء إذا لم يجاوز قد ما كان ينقص في لبس ثوبه ، وإن كان الثوب الذي لبسه قيمته دينار وقيمة ثوبه الذي عند الغسال ديناران نظر في لبس ثوبه كم كان ينقص ، فإن كان ينقص في لبسه نصف دينار والذي نقص من ثوب هذا ربع دينار غرم الربع إلى ما بينه وبين النصف دينار وأخذ ثوبه ، وإن كان الذي نقص أكثر من نصف دينار لم يكن على صاحب الثوب الجيد أن يغرم أكثر مما ينقص ثوبه في اللبس لأنه قد يلبس الثوب الجيد شهراً ولا ينقص من ثمنه إلا ربع دينار ولو كان يلبس غيره . . . دناءة ثمنه في مثل ما لبسه فيه من الأيام لنقص في ذلك نصف الثوب وكانت قيمة الثوب ديناراً فليس على صاحب الثوب أكثر مما كان ينقص لبس ثوبه أو مثله فيكون غرمه على الذي لبسه كله ولا يكون على الغسال شيء .
وإن لبسه الذي لبسه وهو يعلم أنه ليس ثوبه ضمن ما نقص من ذلك قل أو كثر ، ولم يكن على الغسال شيء إلا أن لا يوجد عند الذي لبسه شيء فيتبع صاحب الثوب الغسال ويكون ذلك ديناً للغسال على الذي لبس الثوب ، وإن كان كل واحد منهما لبس ثوب

(4/232)


صاحبه وهو يعرف أنه ليس ثوبه واختلفا في النقصان غرم من وقع عليه الفضل لصاحبه ، فإن لم يكن في القيمة فضل فلا شيء لواحد منهما على صاحبه .
قال محمد بن رشد : اختلف في الغسال يخطئ فيدفع ثوب الرجل إلى غيره فيلبسه وهو يظنه ثوبه على أربعة أقوال : أحدها : أنه لا شيء على اللابس ويأخذ ثوبه غير ملبوس ويرجع الذي لبس ثوبه على الغسال بما نقصه اللبس إلا أن يكون قد أبلاه اللبس فيكون له أن يضمن الغسال قيمته ، وهذا قول مالك في رواية أبي قرة وفي الموطأ رواية يحيى والذي يأتي على قياس ما في المدونة في الذي يثيب على الصدقة ثوباً وهو يظن أن الثواب يلزمه أنه لا رجوع له فيها إذا فات ، والقول الثاني : أنه لا شيء على اللابس إلا أن يكون لبس الثوب حتى أبلاه ، وهو قول مالك في رواية أشهب وابن عبد الحكم عنه ، والقول الثالث : أنه يلزم اللابس غرم ما نقصه لبسه قليلاً كان أو كثيراً ، وهو قول سحنون في نوازله من هذا الكتاب ، والقول الرابع : أنه يلزمه غرم الأقل مما نقصه لبسه أو مما كان ينقص ثوبه أو لبسه ذلك اللبس ، فإن كان ذلك أقل رجع صاحب الثوب بالفضل على الغسال ، وهو قول ابن القاسم في سماع عيسى هذا ، إذ أوجب على اللابس غرم جميع قيمة الثوب بلباسه إلى أن أبلاه على قول مالك في رواية أشهب وابن عبد الحكم عنه أو ما نقصه لبسه قل أو كثر على قول سحنون أو الأقل مما نقصه لبسه أو مما كان ينقص ثوبه لو لبسه ذلك اللبس على رواية عيسى هذه فصاحب الثوب مخير إن شاء رجع بذلك على اللابس وإن شاء رجع به على الغسال ، فإن رجع بذلك على الغسال رجع الغسال به على اللابس .
وجه القول بأنه لا شيء على اللابس هو أنه أمكنه منه من أذن له فيه فوجب أن لا يضمن كما قالوا فيمن أثاب عن صدقة ظناً منه أن ذلك يلزمه فأكله المثاب أنه لأي ضمن ، وكما قالوا فيمن أمر بشراء جارية بمائة فاشتراها بمائة وخمسين وبعث إليه بها فوطئها وحملت أنه لا شيء عليه من الزيادة ؛ ووجه القول بأنه ضامن لجميع ما نقصه اللبس هو

(4/233)


أنهما جميعاً مخطئان على رب الثوب الدافع واللابس فلا يدفع عن اللابس الغرم لأنه مخطئ أيضاً على رب الثوب ، ويكون له أن يتبع من شاء منهما إن شاء الدافع الذي أخطأ عليه أولاً ، وإن شاء اللابس المنتفع ، فإن رجع على الدافع رجع الدافع على اللابس ، وإن رجع على اللابس لم يكن له رجوع على أحد ، ورواية أشهب وابن عبد الحكم عن مالك استحسان إذ لا يخرج على أحد القولين ، وكذلك رواية عيسى عن ابن القاسم هذه استحسان لأنه لم ير على اللابس أن يغرم إلا مقدار ما وقى عن ثوبه بلباسه ثوب الرجل ، ولم يقولوا إذا أخذ عن الصدقة ثواباً فاشترى به طعاماً فأكله إنه يغرم ، وهو قد وقى بذلك ماله إذ لو لم يأكل من الثواب لأكل من ماله ، فإذا أكل دفع ثوب بهذا إلى هذا وثوب هذا إلى هذا ، فلبس كل واحد منهما ثوب صاحبه جرى ذلك على هذا الاختلاف ، على قول مالك في الموطأ رواية يحيى لا يكون لواحد منهما على صاحبه شيء ، وإنما يرجع على كل واحد منهما على الغسال ، وعلى قول سحنون في نوازله يرجع كل واحد منهما على صاحبه بم انقص لبسه ثوبه فيتقاصان بذلك ولا يكون على الغسال شيء إلا أن يكون لأحد منهما فضل على صاحبه فيرجع به عليه أو على الغسال ، فإن رجع به على الغسال رجع به الغسال على اللابس ، وعلى رواية عيسى هذه ، وهو قول ابن الماجشون ، يرجع كل واحد منهما على صاحبه بالأقل مما نقص لبسه من الثوب الذي لبسه أو مما كان ينقص ذلك اللبس من ثوبه لو لبسه ذلك اللبس ، ويتقاصان بذلك ، فمن كان له منهما في ذلك فضل على صاحبه رجع به على
الغسال ، وإن لبس كل واحد منهما ومن كان له منهما في ذلك فضل على صاحبه رجع به عليه إلا أن يكون عديماً فيرجع به على الغسال ويتبع به الغسال العديم قوالً واحداً ، و إن لبس أحدهما ثوب صاحبه وهو يعلم أنه ليس ثوبه رجع الذي لبس ثوبه على اللابس بما نقصه اللبس إلا أن يكون عديماً فيرجع به على الغسال أو يتبع به الغسال اللابس . وتلاف ثوب أحدهما عند صاحبه أو ثوب كل واحد منها ند صاحبه في ضمانه بجميع قيمته على قياس ضمانه لما نقصه لبسه في العمد والجهل

(4/234)


سواء في جميع الوجوه ، وبالله التوفيق .
ومن كتاب يوصي لمكاتبه بوضع نجم من نجومه
وسألت ابن القاسم عن الرجل يأتي بالجلد إلى الخراز فيقول : أعمل لي خفين في واجبه ثم يذهب عنه ولم يصف له صنعة الخفين فيعدو الخراز فيعمل له الخفين قبل أن يسأله عن الصنعة فيأتي صاحب الجلد فيقول : ما أمرتك أن تعمل لي مثل هذين الخفين ، وإنما أردت غير هذه الصنعة ، فيقول الخراز : صدقت إنك لم تأمرني ولكني رأيت أن هذا العمل مما يصلح لك ، قال : إذا عمل خفين تشبه أخفاف الناس وهو مما يشبه لبسة الرجال فأرى القول قول الخراز ولا ضمان عليه ، لأنه لمي صف الخفين حين واجبه ، فكأنه فوض إليه ، قلت وكذلك الرجل يأتي الخياط بالثوب أو إلى صاحب القلانس بالظهارة؟ قال : نعم كذلك ، قلت : وكذلك الذي يأتي بالثوب إلى الصباغ ، قال : الصباغ غير هذا إذا صبغه بغير إذن صاحبه ضمن ، وهو بمنزلة الرجل يقول له الرجل : اشتر لي خادماً فاشترى له جارية .
قال محمد بن رشد : قوله : في الذي يواجب الخراز على عمل الخفين أو الخياط على خياطة ثوب أو القلاس على عمل قلنسوة ولا يسمي له صفة العمل إنه يلزمه ما عمل له إذا كان ذلك يشبه لباسه ، هو صحيح على معنى ما في السلم الثاني من المدونة في الذي يأمر الرجل أن يشتري له ثوباً أو جارية ولا يسمي له جنس الثوب ولا جنس الجارية أنه يلزمه ما اشترى له من الجواري والثياب إذا كان ما اشترى له يشبه أن يكون من جواريه أو من ثيابه ، وأشهب يقول : إنه يلزمه ما اشترى من الجواري والثياب وإن لم يكن

(4/235)


مثلها من جدمه ولا من ثيابه إلا أن يقول له : اشتر لي ثوباً ألبسه أو جارية تخدمني فحينئذ ينظر إن كان ذلك يشبه أن يكون من خدمه أو من ثيابه على ما قال ابن القاسم ، فكذلك يلزم على مذهبه في استعمال الخفين وخياطة الثوب وعمل القلنوسة أن يلزمه ما عمل من ذلك وإن كان ذلك لا يشبه أن يكون من لباسه إلا أن يقول له : اعمل لي خفين ألبسهما وثوباً ألبسه أو قلنسوة ألبسها فحينئذ ينظر إلى ما قال ابن القاسم فلا يلزمه شيء من ذلك إذا لم يشبه أن يكون من لباسه ، وأما الذي يأتي بالثوب إلى الصباغ فيقول له : أصبغ هذا الثوب ولا يبين له أي لون يصبغه ، فقال ابن القاسم : إنه إن صبغه بغير إذنه فهو ضامن صحيح على أصله فيم سائل الشراء والاستعمال أنه لم يحمل قوله : اشتر لي جارية أو عبداً أو أصنع لي خفين أو قلنوسة على التفويض إليه في أن يشتري له أي جنس رآه ، وفي أن يعمل له أي صفة رآها وإنما حمله على أنه إنما أمره بما يشبه من ذلك كله فوجب لما كانت الألوان تختص به اختصاصاً واحداً ليس بعضها يشبهه وبعضها لا يشبهه أن يضمن إذا صبغ له الثوب باختياره إذ لم يفوض ذلك إليه ، ويأتي على مذهب أشهب في مسائل الشراء أنه لا ضمان عليه لأنه إذا حمل قوله في الشراء اشتر لي ثوباً على التفويض إليه في أن يشتري له أي ثوب رآه من الثياب كان مما يشبه لباسه أو لا يشبهه فكذلك يحمل
قوله : أصبغ لي هذا الثوب على التفويض إليه في أن يصبغه له أي صبغ رآه وذلك في الصباغ أبين منه في الثياب لأن الألوان تختص به في اللباس اختصاصاً واحداً أو من جنس الاختصاص بخلاف الثياب ، ووقع في بعض الروايات : وهو بمنزلة الرجل يقول : اشتر لي خادماً أو اشتر لي جارية ، وفي بعضها : وهو بمنزلة الرجل يقول : اشتري لي خادماً أو اشتر لي جارية ، فالراوية الأولى تعود إلى مسألة الصباغ يريد أنه يكون متعدياً إذا صبغ بغير أمره بمنزلة إذا أمره أن يشتري له خادماً فاشترى له جارية ، والرواية الثانية تعود إلى مسألة الاستعمال يريد أنه لا يضمن إذا عمل له خفين يشبه لباسه كما لا يضمن إذ قال له : اشتر لي خادماً أو اشتر لي جارية ، فاشترى له جارية تشبهه أو خادماً تشبهه ، وبالله التوفيق .

(4/236)


ومن كتاب أوله
سلف دينار في ثوب إلى أجل
قال ابن القاسم في رجل دفع إلى حارس ثياباً فقال الحارس : قد جاءني إنسان فشبهته بك وظننت أنك هو فدفعتها إليه أيضمن؟ قال : نعم .
قال محمد بن رشد : هذا بين على ما قال لا إشكال فيه ولا كلام ، لأنه أخطأ عليه في متاعه فدفعه إلى من ذهب به إليه ، وأموال الناس تضمن بالعمد الخطأ .
ومن كتاب أمهات الأولاد
قال ابن القاسم : وكل ما كان يعرف وجهه بعدما يخرج فلا بأس أن يشتريه ويشترط عمله مثل أن يشتري النعل على أن يحذى له والقميص أن يخاط له ، والظاهرة للقلنسوة على أن يعمل له ، أو القمح على أن يطحن له ، فلا بأس بذلك كله لأن ذلك كله قد عرف وجهه ، وكذلك قال مالك ، وقد مرض مالك مرة شراء القمح على أن يطحنه ، وجل ما رأيت فيه السهولة ، قال ابن القاسم : ولا بأس بذلك ، ومن كتاب حبل الحبلة قال ابن القاسم : وكذلك التور يستعمل ، قلت له : فهل يصلح له أن يبيعه قبل أن يستوفيه؟ قال : لا بأس به نقداً أو إلى أجل كان اشتراؤه نقداً أو إلى أجل ، ومن كتاب البيع والصرف من سماع أصبغ قال أصبغ : قلت لابن القاسم : وكيف يكن التور فيها بعينه؟ قال : يريد الصفر والوزن ، ويريه صفة ما يعمل ، قلت : فما فرق بين هذا وبين الثوب الذي ينسج بعضه؟ قال : لأن الثوب لا يدري كيف يخرج ، قلت :

(4/237)


فالتور لا يدري كيف يخرج ، قال : إذا لم يخرج على ما وصف له يطيق أن يعيده في العمل ، والثوب لا يطيق ذلك ، وسئل عنه سحنون فقال له : الرجل يبتاع من رجل ثوباً على أن على البائع خياطته أو قمحاً على أن عليه طحينه فأجازه مالك ، قيل له : أرأيت إن باع هذا كله هل يضمن أم لا؟ قال : لا ضمان عليه ويحط عن المشتري بقدر الخياطة والطحين من الثمن إلا أن يكون البائع ممن يعمل تلك الصناعات فيسلك به سبيل الصناع في الضمان ، قلت : ولا تراه من وجه البيع والإجارة؟ قال : لا ، قلت : ففسر لي هذا الأصل فإني قد وجدته لابن القاسم وأشهب جميعاً واحداً في الذي يشتري الظهارة على أن على البائع عملها أو حديداً على أن يعمل له منها قدراً أو نحاساً على أن يعالج له منها قمقماً ، أو عوداً على أن ينحت له منه سرجاً فأجازا جميعاً على الأصل ورآياه من وجه البيع وعلى ذلك أجازه ، وقد يحد البيع الأجرة في غير هذا من المسائل من قول مالك مكروه ، من ذلك قول مالك في الذي يبتاع الغزل على أن
على البائع حياكته والزيتون على أن عليه عصره ، ونجد البيع والأجرة قد دخله كما دخل المسألة الأولى ، فقال ذلك له ، وقد خلافا فيها أصل قول مالك ومذاهبه التي عليها يعتمد ، وهذا من بيع الغرر الذي لا يجوز على حال لأنه لا يدري ما اشترى ولا كيف يكون خروج ما اشترط من ذلك العمل ، وإنما أجازه مالك في العجين لخلفته ، والثوب يشترط خياطته مثله لأن خروجه معلوم ، وليس خروج ذلك مما يغب عنه معرفته ، وإن كان مالك قد عده ومرضه فليس قولهما في ذلك عندي بشيء ، وكل ما وجدت من هذا الأصل فرده إلى مثله مالك في الحائك والزيتون على أن على البائع عصره فإنها أصل لجميع ما ذكرت ، وهي من أصح مسائلهم وأقيس قولهم ، وكلما وجدت خلافاً لها من جميع ما ذكرت فرده إليها ، وأصل ما يقاس عليه هذا

(4/238)


كله أن كل بيع وأجرة يكون في الشيء المبيع بعينه فذلك بيع لا يجوز ، وكل بيع وأجرة تكون الأجرة في غير الذي بيع فلا بأس بذلك فوجدنا مسألة الحائك لأئمة هذا الأصل ، فكل شيء تجده مما ضارعه فرده إليها فإنها أصل ما سالت عنه ، والبيع والشركة مخالف للبيع والأجرة ، كل بيع وشركة تجده فانظر فيه فإن كانت الشركة قد دخلت في البيع فذلك جائز وإن كانت الشركة خارجة من البيع فلا خير فيه ، فخذ هذين الأصلين على ما ذكرت فإنه من جيد العلم .
قال محمد بن رشد : قول ابن القاسم في كتاب الحبلة : إنه لا بأس للذي استعمل التور أن يبيعه قبل أن يستوفيه نقداً أو إلى أجل كان اشتراؤه نقداً أو إلى أجل ، معناه أنه استعمله عنده ليعمله له من صفر قد أراه إياه فصار التور المستعمل على هذا الوجه سلعة بعينها اشتراها فجاز له أن يبيعها من غير الذي اشتراها منه نقداً أو إلى أجل كان اشتراها نقداً أو إلى أجل كما قال لا اختلاف في جواز ذلك ، ولا يجوز له أن يبيعها من الذي استعمله إياها إذا كان قد نقده الثمن وغاب عليه إلا بعرض أو بمثل ذلك الثمن أو أقل ، لأنه إن باعها منه بأكثر من الثمن الذي دفع إليه بعد أن غاب عليه كان سلف دراهم في أكثر منها . ولو كان استعمله التور على صفة مضموناً عليه من غير أن أراه إياه بعينه لجاز له أن يبيعه قبل أن يستوفيه من غيره بما شاء إذا تعجل على مذهب مالك ، لأنه يحمل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من النهي عن ربح ما لم يضمن على الطعام خاصة خلاف قول عبد العزيز بن أبي سلمة وغيره من العلماء ممن حمل نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ربح ما لم يضمن على عمومه في الطعام وغيره ، وإليه ذهب ابن حبيب ، وهو مذهب ابن عباس وظاهر قوله في الموطأ وإن كان مالك قد تأولها على مذهبه .
وما ذهب إليه سحنون من أن البيع والإجارة في الشيء للمبيع لا يجوز في شيء من الأشياء كان يعرف وجه خروجه أو لا يعرف هو مشهور معلوم من مذهبه ، فإن وقع فسخ عنده في القيام ورد إلى القيمة بالغة ما بلغت في الفوات ، يعلم ذلك من مذهبه لقوله : وهذا

(4/239)


من بيع الغرر الذي لا يجوز على حال ، فإنه لا يرى ما اشترى ولا كيف يكون خروج ما اشترط وقوله قبل ذلك في الذي ابتاع الثوب على أن على البائع خياطته أو قمحاً على أن على البائع طحينه أنه إن ضاع فلا ضمان عليه ويحط عن المشتري بقدر خياطته والطحين من الثمن إلا أن يكون البائع ممن يعمل تلك الصناعات فيسلك له سبيل الصناع في الضمان ، إنما هو إعلام منه بالحكم في ذلك على مذهب مالك الذي يجيز البيع على هذا الشرط ، لأنه إنما سئل عن تفسير مذهبه ، وذلك بين من فحوى المسألة لأنه أعلم في السؤال بإجازته لذلك ، ثم قيل له : أرأيت إن ضاع هذا كله هل يضمن؟ يريد هل يضمن عند مالك على مذهبه في إجازة ذلك ، فأجاب على الحكم في ذلك على مذهبه أعني مذهب مالك ، فقال له السائل : ولا تراه من جهة البيع الإجارة ، قال : لا ، يريد ولا تراه أنت من جهة البيع والإجارة فيجوز عندك ، قال : لا .
والحكم في ذلك عنده على مذهبه أن يكون الضمان فيه من البائع على كل حال إن قامت البينة على التلف وكان ممن لم ينصب نفسه لتلك الصناعة لأنه بيع فائد تلفت السلعة فيه بيد البائع قبل أن يقبضها المبتاع فوجب أن تكون مصيبتها منه ، ويفسخ البيع ، ويكون على البائع على مذهب مالك إذا تلف الثوب عنده وهو صانع قد نصب نفسه للعمل قيمته يوم البيع غير معمول ويفض الثمن الذي وقع البيع به على الثوب والعمل ، فيكون للبائع منه ما ناب الثوب ، فإن كان له فضل أخذه ، وإن كان عليه أداه ، وإن قامت بينة على التلف سقط عنه الضامن ويفض الثمن أيضاً على الثوب والعمل فلم يكن للبائع إلا ما ناب الثوب ، وقال ابن نافع في المدنية إن القيمة تكون فيه يوم ذهب ، وقال عيسى عن ابن القاسم فيها يوم البيع : وهو الصحيح ، ومذهب مالك الذي ذهب إليه ابن القاسم وأشهب من أن البيع والإجارة في نفس الشيء المبيع يجوز فيما يعرف وجه خروجه وفيما لا يعرف وجه خروجه لإمكان إعادته للعمل إن خرج على غير الصفة حتى يعمل على الصفة ، ولا يجوز فيما لا يعرف وجه خروجه وما لا يمكن إعادته للعلم هو الصحيح ، إذ لا فرق في النظر والقياس بين أن تكون الإجارة في الشيء المبيع أو في غيره إذا علم وجه خروج ذلك

(4/240)


الشيء من العمل ، فيسلم بذلك البيع من الغرر في الأصل الذي أصله سحنون من الفرق بين الإجارة والشركة في أن يكونا خارجين من البيع أو داخلين فيه ، لا يلتزمه ابن القاسم ولا يقول به لا في الإجارة ولا في الشركة لأنه يجيز أن تكون الإجارة داخلة في البيع على الشرط الذي ذكرناه ولا يجيز الشركة بالدراهم من عند أحدهما والدنانير من عند الآخر ولا بالطعامين المختلفين وإن استوت قيمتهما وإن كان البيع أو الصرف غير خارجين عن الشركة لما يدخل ذلك عنده من عدم المناجزة ، وسيأتي بيان هذا في موضعه من الشركة إن شاء الله تعالى .
ومن كتاب حبل حبله
وسألت ابن القاسم وابن وهب عن الصناع مثل الصباغ أو القصار أو غيره يفسد الثوب يقطعه أو يحرقه فقال : هو ضامن قلت : غر من نفسه أو لم يغر؟ قالا : نعم ، وإن كان رب الثوب سار به إلى منزله فيعمله عنده في المنزل فأحرق شيئاً أو أفسده فليس عليه ضمان إلا أن يكون غير من نفسه لأنه أجير ، قلت لابن القاسم : فإن كان أتاه بثوب في حانوته يكمده له فكمده فلم يزل عنده حتى قطعه من غير تعد ولا تفريط ، قال : إذا عمله في حانوته فهو ضامن غر من نفسه أو لم يغر .
قال محمد بن رشد : قوله : إن الصانع ضامن لما أفسده من الأعمال التي يعملها في داره أو حانوته غر من نفسه أو لم يغر صحيح لا اختلاف فيه لأن الأصل ما أخذ الأمتعة فيه على الضمان إلا أن يكون الفساد من أمر غالب كالنار فيسقط عنه الضمان إلا أن يثبت عليه التفريط والتضييع حسبما مضى في رسم سن من سماع ابن القاسم أو ما فيه غرر من الأعمال على ما يأتي في نوازل أصبغ . قال سحنون في كتاب ابنه : وإذا أخرج القاصر الثوب أسود فليعده حتى يجوده ، فإن كان يفسد إذا رده ويسترخي وينكسر وجهه وخيف

(4/241)


عليه أن يحرق فلا يرده وينظر ، فإن أفسده ضمن قيمته وإن كان الفاسد فيه يسيراً ودي قيمة ذلك ، وكان له قيمة العمل على دناءته ما لم يجاوز شرطه ، وقال في الخياط : يقلب الثوب إلى داخل فإنه يفتقه ويعيده ، فإن كان الفتق ينقصه يخير ربه بين أن يضمنه قيمته يوم قبضه أو يأخذه بفتقه خياطته ، وأما إذا صار الرجل بالصانع إلى داره فيعمل عنده فلا ضمان عليه فيما أفسد في عمله إلا أن يغر من نفسه أو يثبت عليه أنه تعدى في عمله لأنه أجير على ما قال مؤتمن ، فهو محمول على غير التعدي حتى يثبت عليه التعدي ويأتي على مذهب ابن الماجشون الذي ذكرناه أنه محمول على القصد إلى الإفساد حتى يثبت براءته من ذلك .
وقول ابن القاسم : إن الكماد إذا كمد الثوب في حانوته فقطعه من غير تعد ولا تفريط إنه ضامن له وإن كان صاحبه مه فهو عندي صحيح على أصولهم إذ لا تأثير فيما يلزمه من حكم الضمان لكون صاحبه معه ، وقد قال أصبغ في الكماد يكمد الثوب مع رب الثوب فيصيبه خرق قال : إن كان الخرق الذي أصابه من كمد صاحب الثوب فلا ضمان على الكماد ، وإن كان من كمد الكماد فهو ضامن ، وإن جهل فهو بينهما ، وقع قول أصبغ هذا في بعض ورايات العتبية ، وقال ابن لبابة فيه : إنه جيد صحيح ، وأدخله ابن أبي زيد في النوادر من العتبية وقال : إنه في الواضحة وكتاب ابن المواز ، وقوله : وإن جهل فهو بينهما معناه : أنهما إن قالا جميعاً لا نرى من عمل من هو منا فيلزم الصانع ضمان نصفه ، وأما إن ادعى كل واحد منهما على صاحبه أنه من عمله فوجه الحكم في ذلك أن يتحالفا جميعاً فإن حلفا أو نكلا لزم الصانع غرم نصفه ، فإن حلف الصانع ونكل رب الثوب سقط عنه الغرم ، وإن نكل وحلف رب الثوب لزمه ضمان جميعه ، ورأيت لابن دحون أنه قال : قول ابن القاسم إن الكماد ضامن للثوب إذا قطعه في كمده وصاحبه معه غير مستقيم ، كل من حضر عمل متاعه في داره أو في دار الصناع أو حانوته فأجيح به بحرق أو قطع فلا ضمان على الصانع ، وإنما يضمن إذا لم يحضر صاحب المتاع وكان العمل في دار الصانع أو في حانوته ، وإنما قال ذلك ابن دحون قياساً على قولهم في الكراء على الطعام إنه

(4/242)


لا يضمن إذا كان صاحب الطعام مع طعامه ، وما أصاب في قياسه لأن قطع الثوب قد علم أنه من عمل الكماد ، ولا تأثير لحضور رب الثوب في ذلك ، فهو بخلاف دعوى الكرا ضياع الطعام بالغيبة عليه إذا لم يكن رب الطعام معه .
مسألة
قال عيسى : لو أن رجلاً دفع ثوباً إلى رجل يخيطه له أو يرقعه أو يقصره فضاع عند المدفوع إليه الثوب لم يكن عليه ضمانه إذا كان المدفوع إليه لم ينصب نفسه صانعاً ولا خياطاً ولا قصاراً وهو كالأمين لا يجب عليه الضمان حتى يكون رجل قد نصب نفسه للعمل فيجب عليه الضمان .
قال محمد بن رشد : هذا مثل ما تقدم في رسم أمهات الأولاد من قول سحنون على مذهب مالك ، ومثله في المدونة ، وهو مما لا اختلاف فيه ، لأن الأصل في الصناع أن لا ضمان عليهم لأنهم أجراء ، وقد أسقط النبي صلى الله عليه وسلم عن الأجر الضمان ، فأخرج أهل العلم الصناع من ذلك لنصبهم أنفسهم لأعمال الناس ، وأخذ أمتعتهم ، وإذا لم ينصب نفسه لذلك بقي على الأصل وسقط عنه الضمان .
ومن كتاب القطعان
قال عيسى بن دينار : قال ابن القاسم عن مالك إنه قال في رجل قاطع رجلاً يبني له بيتاً عشرة أذرع في عشرة أذرع ، فبنى له خمساً في خمس ، وزعم أنه أمره بذلك ، وأنكر ذلك صاحب البناء ، وليست لهما بينة ، قال : يتحالفان ويتفاسخان إلا أن يشاء البناء أن يبني له عشرة في عشرة فإن حلف ألزمه صاحب البنيان ، فإن أبى ونكل عن اليمين أحلف الآخر وكان على البناء أن يبني له عشرة في

(4/243)


عشرة ، فإن حلف البناء ونكل صاحب البنيان عن اليمين أجبر على أخذ ما بنى له البناء ، وإن حلف جميعاً تفاسخا وقيل للبناء : أقلع نقضك إلا أن يشاء صاحب البنيان أن يدفع إليه قيمة بنيانه منقوضاً مطروحاً بالأرض . قال ابن القاسم : وقال مالك في رج استأجر حائكاً ودفع إليه غزلاً ينسجه له ثوباً سبعاً في أربع فنسجه ستاً في ثلاث ، وزعم أنه أمره بذلك ، قال مالك : القول قول الحائك ويحلف ، وإنما فرق بين الحائك والبناء لأن الحائك صانع من الصناع يضمن ما دفع إليه ويكون أولى بما دفع إليه من الغرماء إن فلس صاحب الثوب حتى يستوفي أجرته .
قال محمد بن رشد : قوله في مسألة البنيان إنهما يتحالفان ويتفاسخان إلا أن يشاء البناء أن يبني له عشراً في عشر ، يريد أو يشاء صاحب البنيان أن يأخذ ما بني له ، وقوله : فإن حلف ألزمه صاحب البنيان ، يريد أنه إن حلف البناء ونكل صاحب البنيان عن اليمين لزمه أخذ ما حلف عليه البناء على ما نص عليه بعد ، فمعنى قوله : ومقتضاه أنه إن حلف أحدهما ونكل الآخر كان القول قول الحالف منهما ، وإن حلفا جميعاً أو نكلا جميعاً انفسخ الأمر ينهما وقيل للبناء : اقلع نقضك إلا أن يشاء رب البنيان أن يأخذه بقيمته مقلوعاً ويتفاسخان لأن كل واحد منهما مدع على صاحبه ، صاحب البنيان يدعي على البناء بنيان عشرة في عشرة وهو منكر لذلك فوجب أن يحلف على ذلك ليسقطه عن نفسه ، والبناء مدع على صاحب البنيان يريد أن يلزمه ما لم يقر باشتراطه من خمسة في خمسة وما هو منكر له فوجب أن يحلف على ذلك لئلاً يلزمه أخذه ، فإذا حلفا جميعاً أو نكلا جميعاً لم يكن للبناء إلا بنيانه يقلعه إلا أن يشاء رب البنيان أن يأخذه بقيمته مقلوعاً مطروحاً بالأرض كما قال ، والفرق بين مسألة البنيان ومسألة الحائك ، أن الحائك صانع من الصناع ، فصاحب الثوب يرجع عليه في الغزل الذي دفعه إليه ليصنعه أنه صنع منه ما لم يأمره به كما لو دفع إليه خشباً ليعمل منه أبواباً فلما عملها قال لم آمرك إلا

(4/244)


بتوابيت ، فوجب أن يكون القول للحائك لأنه مدعى عليه ، وقد أحكمت السنة أن البينة على من ادعى واليمين على من أنكر ، وقد رأيت لابن دحون في هذه المسألة كلاماً فيه نظر لا يصح عند التفصيل إما وجب التحالف والتفاسخ لأن الأداة والحجارة والخشب من عند البناء ، فصار كرجل باع سلعة بثمن فقال المشتري أكثر من هذا القدر اشتريت منك ، فوجب التحالف والتفاسخ .
فأما لو كانت الحجارة والخشب والآلة من عند صاحب الدار كان القول قول البناء لأنه أجير للبائع ، فالقول قول صاحب الدار في الأجرة إلا أن يقبض الأجير أجرته فيكون القول قوله أيضاً كالمتكاريين يختلفان في الأمد والأجرة ، ولذلك قال في الحائك القول قوله ، لأن الغزل من عند رب الثوب والحائك إنما هو أجير ليس ببائع شيئاً ، ولو كان الغزل من عند الحائك كان سلماً في ثوب موصوف ، فإذا اختلفا في طول وعرضه وتحالفا وتفاسخا على الأصل الأول لأنه بيع اختلفا في قدره ، وقد قيل إنه سلم في صفة فالقول قول المسلم إليه ، وقيل إنه ليس من باب السلم لأن تأخير النقد فيه جائز ، وإنما هو بيع ، وقيل المسألة حائلة لعدم الأجل وتأخير النقد .
قال محمد بن رشد : هذا نص قول ابن دحون ، وهو كلام مدخول من ذلك أنه قال : إنما وجب التحالف والتفاسخ لأن الأداة والحجارة والخشب من عند البناء فصار كمن باع سلعة وادعى المشتري أكثر منها . ولو كان هذا معنى المسألة لما وجب أن يفسخ الجميع بالتحالف لأن ما بنى البناء من ذلك قد أفاته بالبناء وجعل صاحب البقعة قابضاً له لكونه مبنياً بأمره في البقعة ، فوجب أن يكون القول فيه قول المشتري وينفسخ الباقي على أصولهم في اختلاف المتبايعين في عدد السلع وقد قبض المشتري بعضها أو في المتكاريين في مدة كراء الدار وقد مضى بعضها . ومن ذلك أنه قال : ولو كانت الحجارة والآلة والخشب من عند صاحب الدار كان القول قول البناء كالمتكاريين يختلفان في الأمد والأجرة ، وذلك ما لا يصح لأن المتكاريين متفقان على النوع مختلفان في قلة وكثرة ، ومسألتنا إنما الاختلاف فيها في الأنواع ، وإنما كانت تشتبه المسألتان لو قال البناء قاطعتك على بنيان بيت خمسة في خمسة ، وقال

(4/245)


صاحب الدار إنما قاطعتك على بنيان بيتين خمسة في خمسة خمسة في خمسة ، وكذلك قوله لو كان الغزل من عند الحائك كان سلماً فيثوب إلى آخر قوله فيه من الأعراض ما لا يخفى لقوله فيه .
وقد قيل : إنه سلم على صفة ، وقيل : ليس هو من باب السلم لأن تأخير النقد فيه جائز ، وقيل : إنها مسألة حائلة ، إذ ليست بمسألة اختلاف ، وإنما هي مسألة فيها تفصيل ، وقد ذكرنا تحصيله في كتاب السلم من كتاب المقدمات مستوفى فاختصار التكلم عليه هنا أولى ، ولا فرق على ما بيناه فيما يوجبه الحكم من التحالف والتفاسخ بين أن تكون الخشب والحجارة والآلة من عند البناء أو من عند صاحب الأرض ، إذ ليس البناء الذي يختلفان في صفة صنعته في النقص فيختلف الحكم فيه بين أن يخرجه البناء وصاحب البقعة ، وإنما هو بناء مضاف إليه ، فإذا اختلفا في صفته وجب التحالف والتفاسخ فيه بينهما ورجع النقص إذا تحالفا لمحرجه منهما ، وبالله التوفيق .
ومن كتاب النسمة
قال ابن القاسم في الخياط يدفع إليه ثوبه ليخيطه ثم أتاه بعد ذلك غيره بثوب آخر ليخيطه هل هو في سعة أن يخيط الآخر قبل الأول إذا لم يكن موعوداً ولكن كل واحد منهما يحب تعجيل ثوبه ، قال : أحب إلي أن يبدأ بالأول ، والأول أحقهما وأعدل ، ولم أسمع في هذا بشيء ، ولعله أن يكون واسعاً إذا كان الشيء الخفيف الرقعة .
قال محمد بن رشد : هذا بين على ما قال إن الاختيار له أن يقدم الأول فالأول من غير أن يكون ذلك واجباً عليه إذ لم يجب عليه عمله في يوم بعينه فيكون بتأخيره عنه قد ترك واجباً عليه ، وكذلك قال مطرف وابن الماجشون لا بأس على الصناع أن يقدموا من أحبوا ما لم يتعدوا ظلماً ولا يقصدوا مطلاً ، وكذلك يقولان في الرحى ، وقال سحنون في كتاب ابنه : لا يقدم صاحب الرحى أحداً على أن من أتى قبله إذا كانت سنة البلد أن يطحنوا على الدولة ، وإن تحاكموا إلى السلطان في ذلك قضى بينهم بسنة بلدهم ،

(4/246)


وليس قول سحنون بخلاف لقول غيره لأن العرف كالشرط .
من سماع محمد بن خالد بن عبد الرحمن بن القاسم
محمد بن خالد : سألت ابن القاسم عن صاحب الفرن إذا ذهب منه الخبز أيضمن؟ قال : نعم يضمن ، قال ابن القاسم : وإن احترق من غير تضييع منه له فلا شيء عليه ، قال ابن القاسم : والطحان ضامن لما دفع إليه من القمح يطحنه .
قال محمد بن رشد : هذا بين على ما قال لأن الفران والطحان صانعان من الصناع فيضمنون ما ادعوا تلفه وما أتى فساده على أيديهم وإن لم يغروا إلا بما كان من أمر غالب كالنار أو ما فيه غرر من الأعمال فلا يضمنون فيه إلا أن يغروا أو يتعدوا أو يفرطوا حسبما مضى القول فيه في رسم حبل حبلة من سماع عيسى ، وإنما سقط عنهم ضمان ما علم أنه ليس من فعلهم وأنه قرض فأر أو لحس سوس أو ما أشبه ذلك ، قيل : إذا ثبت أنهم لم يضيعوا ، وهو قول ابن القاسم في المدونة ، وقيل : إلا أن يثبت أنهم ضيعوا ، وهو قول ابن حبيب ، ويسقط عنهم ضمان ما أقام البينة على تلفه من غير سببهم ، فروى ابن وهب عن مالك في موطئه في الذي يدفع إلى الخياط ثوباً فيخيطه فيصيب بيت الخياط حريق فيرى ثوب الرجل فيه يحترق ، قال : على الخياط فيه الضمان إلا أن يكون سيل أو صاعقة ، وقال في الرهن مثله ، ومثله لأشهب في ديوانه وملاك في كتاب ابن المواز وهو على قياس قوله في المدونة إذا قرض الفأر الثوب وعلم أنه قرض الفأر فهو ضامن إلا أن يثبت أنه لم يكن في ذلك سبب من أجل تضييع ، وانظر على مذهب من برى إذا ثبت أنه قرض الفأر أنه لا ضمان عليه حتى يثبت أنه كان له في ذلك سبب من تضييع هل يقال إذا وقع النار في بيته فرأى الثوب يحترق أنه لا ضمان عليه حتى يثبت أن النار من سببه لغالب العادة أن أحداً لا يحرق بيته ليصدق في ذهاب أمتعة الناس ، أو يفرق بينهما بأن فساد الثوب قد علم أنه من قرض

(4/247)


الفأر ، والنار هو يقدر على عملها ، فوجب أن يضمن حتى يعلم أنه من غير سببه ، والأشبه أن لا فرق بينهما لأنه قد علم إحراق النار للثوب كما قد علم قرض الفأر له ، فإذا صدق أنه لم يكن له في
قرض الفأر سبب من تضييع وجب أن يصدق أنه لم يكن له في النار سبب ، والله أعلم . وال اختلاف بينهم أحفظه أنه إن احترق بيه أو سرق أو ذهب به السيل فادعى أن المتاع تلف في جملة متاع بيته أنه لا يصدق ، وبذلك جاءت الرواية عن مالك في الصناع تحترق منازلهم فيدعون ذهاب أمتعة الناس ، وقد مضى في رسم مسائل بيوع ثم كراء من سماع أشهب القول في ضمان القصاع الفران وضمان الأوعية الطحان وما تعلق بذلك .
مسألة
سألته عن الرجل يأتي الصانع بقطعة ذهب ويقول : اقطع منها مثقالاً واعمل بها خاتماً واحبس ما بقي فيزعم الصانع أنه ذهب منه قبل القطع ، أو بعد القطع أو يأتي إلى الصانع يستعمل منه سوارين فيأتيه بسوار يعمل عليه فيزعم أن السوار ذهب ، هل تراه ضامناً؟ فقال : أما السوار فقد تكلم مالك فيه ورأى الضمان عليه لأن به تم استعمال ما استعمله إذا أمره أن يعمل عليه ، وأما الذهب فليس مثله ولا ضمان عليه فيه إلا المثقال الذي أمره بعمله ، والقول قوله في أنه تلف قبل أن يقطعه أو بعد أن قطعه .
قال محمد بن رشد : هذه مسألة قد مضى القول عليها مستوفى في رسم مسائل بيوع ثم كراء من سماع أشهب فلا معنى لإعادته .
مسألة
وسئل أصبغ عن الرجل يأتي الخراز بخفين يستعمله في أحدهما

(4/248)


شيئاً فيقرهما عنده جميعاً فيزعم أنهما ضاعا ، فقال : لا يضمن إلا الواحد الذي استعمله .
قال محمد بن رشد : هذا كما قال : إنه لا يضمن إلا الذي استعمله فيه منهما ، وإنما اختلف في صفة تقويمه عليه حسبما مضى القول فيه في رسم بيوع ثم كراء من سماع أشهب فلا معنى لإعادته .
من سماع أصبغ
من كتاب البيع والعيوب
قال أصبغ : سمعت أشهب وسئل عن الذي يدفع قمحه إلى الرجل فيطحن على إثر النقش يفسده بالحجارة ، قال : يضمنه مثل قمحه ، وقال أصبغ : إلا أن يكون علم بالصب الأثر ورضي . وسئل عنه ابن القاسم إذا نقص عنه الدقيق ، فقال : على الطحان ضمان ما نقص ما يخرج مثل قمحه من الدقيق إذا عرف .
قال محمد بن رشد : أما قول أشهب : إنه يضمنه مثل قمحه إذا طحنه إثر النقش فأفسده بالحجارة فهو بين لا إشكال فيه لأنه لما أفسد عليه قمحه في الطحين كان مخيراً بين أن يسقط عنه حكم فيأخذ مفسوداً ويودي إليه أجره على طحينه ، وبين أن يغرمه مثل القمح الذي أفسد عليه ، فإن أغرمه مثل القمح كان عليه أن يطحنه له على ما استأجره عليه لأن مثله كعينه ، وليس له أن يغرمه مثل الدقيق سالماً من الحجارة ، ولو رضي الطحان بذلك لم يجز لأنه إذا فعل ذلك كان صاحب الطعام قد اشترى الدقيق الذي أخذ من الطحان بالقمح الذي وجب عليه وبالأجرة التي يدفعها إليه فدخله القمح بالدقيقة متفاضلاً ، ويجوز ذلك على مذهب عبد العزيز بن أبي سلمة وغيره ممن يرى الطحن صنعة إذا قبض الدقيق وكأنه ولم يؤخره ، وأما إذا نقص الدقيق فقول ابن القاسم إنه يكون على الطحان ضمان ما نقص ما يخرج مثل قمحه من الدقيق خلاف قوله في المدونة إن القصار إذا ضع عنده الثوب قبل العمل أو

(4/249)


بعده فيلزمه قيمته يوم دفع إلى غير معمول ، وليس لرب الثوب أن يضمنه قيمته معمولاً ويؤدي إليه أجرة قصارته ، فالذي يأتي في هذه المسألة على قول ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة أن يكون على الطحان من القمح ما يخرج منه قدر نقصان الدقيق ، فإن كان القمح في التمثيل ثمانية أقفزة والثمانية الأقفزة تكون محون يدفعها تسعة أقفزة فلم يجد في الدقيق إلا ثمانية أقفزة ونقصه قفيز فيؤدي إلى ثمانية أتساع قفيز من قمح ، ويكون عليه أن يطحنه له فيصير قفيزاً مطحوناً ويأخذ أجرته ، فإن لم يطحنه نقص من أجرته على الطحين ما ينوبه ، وذلك تسع الأجرة ، ولا يجوز له على قياس هذا القول أن يأخذ منه ما نقصه من الدقيق لأنه يكون إذا فعل ذلك قد ابتاع منه قفيز دقيق بثمانية أتساع قفيز من قمح وجبت له قبله وتسع الأجرة فيدخله التفاضل بين القمح والدقيق ، وقال ابن دحون في هذه المسألة : إنه كان الأصل أن يضمن ما نقصه قمحاً
لأنه إنما أعطاه قمحاً ويكون عليه طحن ما نقصه من القمح ، استحب ابن القاسم ذلك فجعله يضمنه دقيقاً ، هذا نص قول ابن دحون ، وهو قول غير صحيح ، إذ لو كان الواجب له عنده قمحاً لما جاز له أن يأخذ منه دقيقاً أكثر من القمح الذي وجب له وبما يجب له من أجرة الطحين ، وإنما قال : إنه يأخذ منه الدقيق لأنه رأى أنه الواجب له على قياس ما ذكرناه من أن الثوب إذا ضاع عند القصار لزمه ضمانه مقصوراً وكانت له قصارته ، وفي كتاب محمد أن ذلك يلزمه إذا ضاع بعد القصارة ، فيتحصل في المسألة ثلاثة أقوال : أحدها : أنه يؤدي قيمته يوم قبضه ولا أجرة له ، وهو قول في المدونة ، والثاني : أنه يؤدي قيمته معمولاً ولا تكون له أجرته ، وهو الذي يأتي على قول ابن القاسم في هذه المسألة ، والثالث : التفرقة في كتاب ابن المواز بين أن يضيع قبل العمل أو بعده ، وقد ذهب أبو إسحاق التونسي إلى قول ابن القاسم في هذه المسألة على قوله في سماع يحيى من كتاب كراء الرواحل والدواب في الكري يبيع الطعام الذي استكري على حمله في بعض الطريق ، ولو قال إن قوله في تلك المسألة على قياس قوله في هذه لكان أشبه ، لأن هذه المسألة جارية على أصل فهي أشبه أن يكون أصلاً لا

(4/250)


فرعاً لها يقاس عليها ولا يدخل شيئاً من هذا الاختلاف في المسألة التي قبلها لأشهب ، لأنها مسألة أخرى ، فقول العتبي وسئل عنه ابن القاسم إذا نقص الدقيق غلط ، والصواب وسئل ابن القاسم إذا نقص الدقيق بإسقاط عنه ، وقد مضى القول هناك في توجيه الرواية فلا معنى لإعادته .
مسألة
وسئل عن الغسال يكثر عليه المتاع فيستأجر الأجراء يبعثهم إلى البحر بالثياب فيزعمون أنه ضاع منهم بعض ذلك ، قال : يضمنون ، قيل له : أيضمن الأجراء؟ قال : نعم لأنهم أجراء في صناعة ، فكل أحد في صناعته فهو ضامن ، قيل له : وكذلك الخياط يستأجر الأجراء عنده فيدفع إليهم بعض الأمتعة ينقلبون بها يعملون بها فيدعون أنها ضاعت ، قال : نعم ، الصناع والخياط واحد .
قال محمد بن رشد : في المدونة قول ابن القاسم إنه لا ضمان على أجير القصار فيما أتى على يديه مما استأجره القاصر عليه إلا أن يكون ضيع أو فرط أو تعدى ، وضمان ذلك على القصار لرب الثوب ، وليس ذلك بخلاف لقوله في هذه الرواية لأن المعنى في قوله في المدونة إنه لا ضمان على أجيره فيما أتى على يديه مما عنده في حانوته أو في داره ، والمعنى في هذه الرواية أنه يضمن ما قاطعه عليه من الثياب فانقلب بها لعملها وغاب عليها فادعى تلفها أو أفسدها لأنهم أجراء في الصناعة ، فإذا نصبوا أنفسهم للعمل فهم كالصناع في الحكم ، فسواء أخذوا العمل من التجار أو أخذوه من صناع مثلهم هم في ضمان الصناع كمن استأجرهم من الصناع ، وبالله التوفيق .
ومن كتاب القضاء المحض
وسئل ابن القاسم عن رجل دفع إلى خيط ثوباً ليخيطه له

(4/251)


فأراد الخياط أن يستخيطه غيره فمنعه ، قال : إن لم يكن شرط عليه أن يخيطه بيده فله أن يستخيطه .
قال محمد بن رشد : هذه المسألة قد مضى القول فيها محصلاً مستوفى في أول سماع ابن القاسم من كتاب الجعل والإجارة فلا معنى لإعادته .
ومن كتاب الجامع
وسئل عن المعلم هل يذهب إلى قريته لإصلاح ضيعته فيقيم عن صبيانه اليومين والثلاثة ونحو ذلك ، قال : نعم ، يفعل ذلك إن شاء ، وقد يفعل ذلك القاضي وهو أجير المسلمين ، وقاله أصبغ ، وقد يستراح بمثل ذلك المرة بعد المرة في القرية .
قال محمد بن رشد : هذا بين على ما قال إن الأمر في ذلك واسع لأنه المعروف من الفعل الذي جرى عليه الناس ، فالتضييق فيه والتحرج منه من الغلو في الدين والحرج الذي رفعه الله عن عباده المسلمين لقوله عز وجل : {وما جعل عليكم في الدين من حرج} ومن نوازل أصبغ بن الفرج قال أصبغ في الذي يعطى اللؤلؤة ليثقبها فتخرم فإذا انخرمت فيم وضع الثقب فلا شيء عليه ، وكذلك لو أعطيها يعملها على أجرة أو على غير أجرة إذا تعدى الثقب الفساد ، وإذا كان في الثقب لم يكن عليه شيء ، وقد قال أصبغ في مسألة الثقاب : الذين يثقبون اللؤلؤ والصياقلة وجميع الصناع إذا أتى على أيديهم تلف من كسر لؤلؤة أو انقطاع السيف أو انكسر بعض الحجارة الجوهرة مما يجلى أو يثقب فإنه ما أتى من ذلك على أيدي الصناع في عملهم فلا شيء عليهم ، وإن قال أهل البصارة : إنه أخذها من غير مأخذها وغر من نفسه وظهر فيها أنه لم يأخذها من مأخذها فهو ضامن لأنه ينزل منزلة المتعدي ، وإذا أخذها من مأخذها ولا يغر من نفسه لم يكن عليه ضمان ، وقبل قوله بلا بينة

(4/252)


لأن شاهده فيه حاضر ظاهر ، ورب اللؤلؤة مدع عليه التعدي إذ لا يظهر فيها من صنعته إلا ما كان يجوز له أن يعمله وهو له مقام شاهد ، لأنه قد أذن له في العمل وجعل ذلك إليه ومكنه ، وهو مدع عليه فيما يريد من الضمان ، وكذلك كل صاحب صنعة على هذا الشرح .
قال محمد بن رشد : هذا كما قال وهو مما لا اختلاف فيه إن كان في تغرير من الأعمال مثل ثقب اللؤلؤة ونقش الفصوص وتقويم السيوف واحتراق الخبز للفران والثوب في قدر القصار ما أشبه ذلك فإنه لا ضمان عليهم في شيء منه إلا أن يفرط أو يتعدى أو يأخذه من غير مأخذه بعمد أو جهل أو خطأ ، وكذلك البيطار يطرح الدابة فتموت من ذلك ، والخاتن يختن الصبي فيموت من ختانته ، والطبيب يسقي المريض فيموت من سقيه ، والحجام يقلع ضرس الرجل فيموت من ذلك لا ضمان على واحد من هؤلاء في ماله ولا على عاقلته لأنه مما فيه التغرير فكأن صاحبه قد عرضه لما أصابه ، وهذا إذا لم يخطئ في فعله ، وأما إذا أخطأ مثل أن يسقي المريض الطبيب مما لا يوافق مرضه أو تزل يد الخاتن والقاطع فيتجاوز في القطع أو الكاوي فيتجاوز في الكي أو يد الحاجم فيقلع غير الضرس التي أمر بها فهي جناية خطأ تكون على العاقلة إلا أن يكون أقل من الثلث فيكون ذلك في مالهن وذلك إن كان من أهل المعرفة ولم يغر من نفسه ، وأما إن غر من نفسه فعليه العقوبة من الإمام ، واختلف في الدية فقيل إنها تكون عليه في ماله ولا يكون على العاقلة من ذلك شيء ، وهو ظاهر قول مالك في سماع ابن القاسم وأشهب من كتاب السلطان ، وقيل : إنه يكون على العاقلة من ذلك الثلث فصاعداً ، وهو قول عيسى بن دينار ورواية أصبغ عن ابن القاسم في كتاب الديات محمولة على ذلك ، وبالله التوفيق .
من مسائل نوازل سئل عنها سحنون
وسئل سحنون عن صباغ : دفع عليه رجلان ثوبين ليعملهما ،

(4/253)


وأحدهما أجود من الآخر ، فغلط الصباغ فأعطى صاحب الردي جيداً وأعطى صاحب الجيد ردياً فلم يعلما ذلك حتى لبس كل واحد منهما ثوب صاحبه ، فقال : يأخذ كل واحد منهما ثوبه ثم ينظر ما نقص كل وحد منهما اللبس ، فيكون قاصاً بينهما ، فإن كان أحدهما قد نقصه اللبس أكثر رجع بالأكثر على العامل ، وتفسير ذلك أن يقال : كم نقص اللباس للثوب الذي لبس هذا؟ فإن قيل : نقصه اللبس عشرة دراهم ، قيل : فكم نقص هذا الثوب الآخر اللبس؟ فإن قيل خمسة دراهم ، قيل للذي نقص ثوبه عشرة : قد لبست أنت من ثوبه ما نقصه خمسة دراهم ، فقد صارت تلك الخمسة قصاصاً بخمسة من عشرتك وبقيت لك تمام عشرة ارجع بها على الصباغ الذي جنى عليك وأخطأ وأعطاك ثوب غيرك .
قال محمد بن رشد : قول سحنون هذا خلاف قول ابن القاسم في أول سماع عيسى لأنه قال : إنهما يتقاصان بما نقص لبس ثوب كل واحد منهما الثوب الذي لبسه ، ولم يقل : إنها يتقاصان بما كان ينقص لبس كل واحد منهما ثوبه لو لبسه هذا اللبس كما قال في رواية عيسى ، وقوله : إنه يرجع بتمام العشرة على الغسال الذي أخطأ وأعطاه ثوب غيره ، معناه : إن اختار الرجوع عليه ، فإن رجع عليه رجع الغسال على الاثنين اللابسين ، وإن رجع على اللابس لم يكن للابس الرجوع على الغسال ولا على أحد ، وقد مضى القول على هذه المسألة مستوفى هناك ، فلا معنى لإعادته ولا حول ولا قوة إلا بالله .

(4/254)