البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة

 [كتاب النكاح الأول]
[نكاح السكران]
كتاب النكاح الأول

(4/255)


من سماع عبد الرحمن بن القاسم عن مالك
من كتاب قطع الشجرة رواية سحنون قال ابن القاسم: سئل مالك عن نكاح السكران، قال: لا أراه جائزا، وطلاقه جائز عليه، ومن كتاب القضاء من سماع أشهب وابن نافع من مالك، قال سحنون: أخبرني ابن نافع وأشهب قالا: سئل مالك عن بيع السكران فقال: لا والله، ما أراه يجوز إن استوفى وكيف يعلم ذلك، وأخاف إن ربح قال: كنت صحيحا، وإن خسر قال: كنت سكران، قلت له: وترى نكاحه مثل ذلك؟ قال: ومن يعلم أنه سكران؟ إذن يقتل هذا ويقع في الحدود، ويسرق متاع هذا، ويقول: إني سكران، لا أدري ما هذا، قال سحنون: قال لي ابن نافع: أرى أن يجاز عليه كل ما فعل من البيع وغيره.
وسئل سحنون عنها فقال: أرى نكاحه وبيعه وهباته وصدقاته وأعطياته بمنزلة واحدة سواء، لا يجوز منها شيء على حال من الحال، وإنكاحه بناته بمنزلة إنكاحه نفسه، لا يجوز ذلك، وعلى ذلك أكثر الرواة، قال: وإنما يجوز من أموره الحدود التي تجب في بدنه وطلاقه وعتقه، وما عدا هذا فليس بجائز عليه، وكذلك كتابته وتدبيره مثل عتقه جائز عليه، قال: وإقراره بالدين لا يجوز، وهو

(4/257)


عندي مثل هبته، قال: وإذا أوصى السكران بوصية فيها عتق ووصايا القوم، فإن ذلك لا يجوز أيضا على حال، قال: وإذا أبت عتق عبيده في مرضه جاز ذلك عليه؛ لأنه لو صح مضى ذلك عليه وهو بحال عتقه في صحته، فكل ما أعتق السكران فما له فيه الرجوع مثل الوصية، فلا يجوز، وكل ما أعتق مما ليس له فيه الرجوع فذلك جائز عليه، قال: وهو الذي آخذ به والله أعلم، رجع سحنون بالعتبي في وصية السكران وقال: أرى وصيته جائزة، ما أوصى فيها من عتق أو وصايا لقوم أو غيره، لا يكون أسوأ حالا عندي من الصبي والسفيه، وذلك أن وصيتهما جائزة. فالسكران عندي أولى أن تجوز وصيته.
قال محمد بن رشد: السكران ينقسم على قسمين: سكران لا يعرف الأرض من السماء ولا الرجل من المرأة، وسكران مختلط، معه بقية من عقله، إلا أنه لا يملك الاختلاط من نفسه، فيخطئ ويصيب، فأما السكران الذي لا يعرف الأرض من السماء، ولا الرجل من المرأة، فلا اختلاف في أنه كالمجنون في جميع أفعاله وأقواله فيما بينه وبين الناس وفيما بينه وبين الله، إلا فيما ذهب وقته من الصلوات، فقيل: إنها لا تسقط، بخلاف المجنون؛ من أجل أنه لما أدخل السكر على نفسه فكأنه قد تعمد تركها حتى خرج وقتها، وأما السكران المختلط الذي معه بقية من عقله، فاختلف أهل العلم في أقواله وأفعاله على أربعة أقوال: أحدها أنه في حكم المجنون الذي القلم عنه في الشرع مرفوع، فلا يحد في زنى ولا سرقة ولا قذف، ولا يقتص منه في قتل، ولا يلزمه عتق ولا طلاق ولا بيع ولا شراء ولا شيء من الأشياء، وهو قول أبي يوسف، وإياه اختار الطحاوي، واحتج له بما روي عن عثمان بن عفان أنه قال: ليس للمجنون ولا للسكران طلاق، وهو قول محمد بن عبد الحكم من أصحاب مالك، أن طلاق السكران لا يجوز، والثاني أنه في حكم الصحيح الذي ليس بسكران يلزمه ما يلزمه، لأن معه بقيه من عقله يدخل به في جملة المكلفين

(4/258)


بدليل توجه الخطاب إليه في قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43] وفيما روي أن منادي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان ينادي إذا أقيمت الصلاة: «لا يقربن الصلاة سكران» ، وهو قول ابن نافع في الكتاب: أرى أن يجاز عليه كل ما فعله من البيع وغيره، وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة.
وقيل: إنما يلزمه ما يلزم الصحيح من أجل أنه هو أدخل السكر على نفسه، وليس بتعليل صحيح، وقيل: إنما يلزمه ما يلزم الصحيح؛ لأنه غير مستحق لاسم السكر؛ لأن السكران هو الذي لا يعرف الأرض من السماء ولا الرجل من المرأة، قال ذلك أبو حنيفة، وهو بعيد لأن اسم السكر واقع عليه بدليل ما ذكرناه من القرآن والسنة.
والثالث أنه يلزمه الأفعال ولا تلزمه الأقوال، فيقتل بمن قتل ويحد في الزنى والسرقة، ولا يحد في القذف، ولا يلزمه طلاق ولا عتق، وهو قول الليث بن سعد، والرابع أنه تلزمه الجنايات والعتق والطلاق والحدود، ولا يلزمه الإقرارات والعقود، وهو مذهب مالك وعامة أصحابه، وأظهر الأقوال وأولاها بالصواب؛ لأن ما لا يتعلق به لله حق من الإقرارات والعقود إذا لم يلزم الصبي والسفيه لنقصان عقولهما فأحرى أن لا يلزم ذلك السكران لنقصان عقله بالسكر، وما سوى ذلك مما يتعلق لله به حق، يلزمه ولا يسقط عنه قياسا على ما أجمعوا عليه من أن العبادات التي هي حق الله من الصوم والصلاة وأشباههما تلزمه ولا تسقط عنه بالسكر، وقول مالك في أول المسألة في نكاح السكران: لا أراه جائزا، ليس معناه أنه عقد فاسد غير جائز، وإنما معناه: لا أراه جائزا عليه ولا لازما له، إن أراد الرجوع فيه وادعى أنه لم يعرف قدر ما عقده من ذلك على نفسه من أجل سكره، وذلك إذا أقر له بما ادعاه من ذلك منازعه وخصمه، وأما إن كان أنكره فلا يصدق ويلزمه النكاح إلا أن تكون له بينة أنه كان سكران لا يعقل.
واختلف إن قالت البينة: إنها رأت منه اختلاطا، ولم تبت الشهادة بسكره على قولين: أحدهما - وهو المشهور - أنه يحلف ولا يلزمه النكاح، روى ذلك زياد عن مالك وقاله مالك في المبسوط أيضا، ومثله المريض يطلق ثم يدعي أنه لم

(4/259)


يكن يعقل، على ما في سماع ابن القاسم من كتاب طلاق السنة ومن كتاب الأيمان بالطلاق، والقول الثاني أنة لا يصدق ولا يمكن من اليمين، ويلزمه النكاح، وهو دليل قوله في رواية أشهب عنه: وكيف يعلم ذلك؟ وأخاف إن ربح قال: كنت صحيحا، وإن خسر قال: كنت سكران، إلى آخر قوله.
وقول سحنون: إنه لا يجوز نكاحه ولا بيعه ولا هبته ولا صدقته ولا عطيته ولا إقراره بالدين، معناه أنه لا يلزمه شيء من ذلك، وله أن يرجع عنه إذا أفاق، على ما بيناه من مذهب مالك، وذكرنا وجهه.
وقوله: إن الكتابة والتدبير كالعتق والحدود في جواز ذلك عليه ولزومه، صحيح على مذهب مالك، وأما وصيته بالعتق وغيره، فالصحيح على مذهب مالك أنها جائزة على القول الذي رجع إليه سحنون؛ لأن حكم وصيته حكم ما عقده على نفسه من البيع وغيره، ولا يقال في شيء من ذلك على مذهب مالك: إنه غير منعقد عليه، وإنما يقال فيه على مذهبه: إنه غير لازم له، لو أراد الرجوع فيه إذا أفاق من سكره، فإذا لم يرجع في وصيته حتى مات وجب أن تنفذ كما تنفذ وصية الصحيح من السكر، فقول سحنون الأول: إن وصية السكران لا تجوز، غلط وُفِّق في سرعة الرجوع عنه وترك التمادي عليه، وكذلك تفرقته فيه بين ما بتل في مرضه من العتق وغيره إن مات من مرضه، غلط أيضا، والصحيح على مذهب مالك أنه إن مات من مرضه ذلك نفذ العتق وغيره من الثلث على معنى الوصية، وإن صح من مرضه ذلك نفذ عليه العتق ولزمه وكان له الرجوع فيما بتله من الهبة والصدقة من أجل السكر، والله أعلم.

[مسألة: إنكاح الأب ابنته دون استئمار]
مسألة قال مالك: من عبرة إنكاح البكر ولا تستأمر ما في القرآن: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ} [القصص: 27] لم يذكر في هذا استئمارا.

(4/260)


قال محمد بن رشد: قوله: من عبرة إنكاح البكر ولا تستأمر، يريد: من عبرة إنكاح الأب ابنته دون استئمار؛ لأن غير الأب لا يزوج البكر حتى يستأمرها لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «والبكر تستأمر في نفسها، وإذنها صماتها» واحتجاج مالك لمذهبه في هذه المسألة بهذه الآية يدل على أن شريعة من قبلنا لازمة لنا عنده، إذا لم يكن في شرعنا ما ينسخها عنا، ويدل على ذلك من مذهبه أيضا احتجاجه في موطئه بقوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] وإنما هو خطاب لليهود في شرعهم، والدليل على ذلك قول الله عز وجل: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام: 90] .
وقال النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إذا نام أحدكم عن الصلاة أو نسيها ثم فزع إليها، فليصلها كما كان يصليها في وقتها، فإن الله عز وجل يقول: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14] » والخطاب بذلك إنما هو لموسى في التوراة.
ومن أهل العلم من ذهب إلى أنها غير لازمة لنا بدليل قول الله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48] ومنهم من ذهب إلى أنه لا يلزمنا منها إلا شريعة إبراهيم خاصة؛ لقوله عز وجل: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} [النحل: 123] وقوله: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج: 78] أي الزموها، ومنهم من ذهب إلى أنه لا يلزمنا منها إلا شريعة عيسى لأنها ناسخة لما تقدم من الشرائع، ومنهم من ذهب إلى أنه يلزمنا من شريعة موسى ما لم يكن في شريعة عيسى ما ينسخه، ومما يعتبر به في جواز إنكاح الأب ابنته البكر دون مؤامرتها مما توجه الخطاب فيه إلينا دون من قبلنا، قول الله عز وجل:

(4/261)


{وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور: 32] ، الآية؛ لأنه أمر بإنكاح الأيامى من الأحرار والعبيد، ولم يذكر في ذلك استئمارا، ولا خص أبا من غيره، فوجب بظاهر هذه الآية أن لا يستأمر الأب ولا غيره من الأولياء الأيامى من الأحرار ومن اللواتي لا أزواج لهن، كما لا يستأمر السيد عبده ولا أمته في النكاح؛ إذ جاءت الآية في ذلك كله مجيئا واحدا، فخصصت السنة من ذلك من عدا الأب من الأولياء في الأيامى الأحرار بقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الأيم أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأمر في نفسها، وإذنها صماتها» وخصص الإجماع من ذلك الأب في ابنته الثيب، وبقي الأب في ابنته البكر على عموم الآية يزوجها دون استئمار، كما يزوج السيد عبده وأمته دون إذنهما.
ومن الحجة لمالك أن أهل العلم قد أجمعوا على أنه يزوج ابنته البكر قبل بلوغها دون استئمار، فمن ادعى أن عليه أن يستأمرها إذا بلغت وجب عليه الدليل، وهذا استدلال باستصحاب حال الإجماع، وهو دليل صحيح عندهم، وبالله التوفيق.

[مسألة: لا ينبغي لرجل علم من وليته فاحشة أن يخبر بذلك من خطبها]
مسألة قال مالك: لا ينبغي لرجل علم من وليته فاحشة أن يخبر بذلك إذا خُطبت.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن من تزوج امرأة فاطلع على أنها قد كانت زنت، لم يكن له أن يردها بذلك، فإذا لم يكن ذلك عيب فيها يجب به للزوج ردها، لم يكن على وليها أن يعلمه به، بل واجب عليه أن يستره عليها؛ لأن الفواحش يجب على الرجل أن يسترها على نفسه وعلى غيره، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أصاب من هذه القاذورة شيئا فليستتر بستر الله فإنه من يُبْدِ لنا صفحته نقم عليه كتاب الله» وقال لهزال: «يا هذا لو سترته

(4/262)


بردائك لكان خيرا لك» وفي الموطأ أن رجلا خطب إلى رجل أخته، فذكر أنها قد كانت أحدثت، فبلغ ذلك عمر بن الخطاب فضربه، أو كاد يضربه، ثم قال مالك: وللخبر. وكذلك لا يجوز له ولا ينبغي له أن يخبر من عيوب وليته بشيء مما لا يجب ردها به من العور والعمى والسواد وشبه ذلك، قال ذلك مالك في كتاب ابن المواز، والنكاح في هذا عندهم بخلاف البيوع، لا يجوز للبائع أن يكتم من سلعته شيئا لو ذكره لكرهه المشتري، وكل ما نقص من ثمنها فهو عيب فيها، والفرق بين النكاح والبيع أن البيع طريقه المكايسة، والنكاح طريقه المكارمة، وليس الصداق فيه ثمنا للمرأة ولا عوضا عن شيء يملكه الولي، وإنما هو نِحْلة من الله فرضه للزوجات على أزواجهن، وبالله التوفيق.

[مسألة: قال لامرأته إن نكحت عليك أو تسررت عليك إلا بإذنك فأمرك بيدك]
مسألة قال ابن القاسم: قال مالك: من قال لامرأته: إن نكحت عليك أو تسررت عليك إلا بإذنك، فأمرك بيدك، فأذنت له في جارية أو امرأة، فطلق تلك المرأة أو باع تلك الجارية، ثم بدا له أن يرجع فيتزوجها أو يتسرر، أن ذلك إلى امرأته إن شاءت أذنت له، وإلا فلا، وإن أذنت له فنكح أو تسرر فندمت، فأرادت أن تغير ذلك، فليس ذلك لها بعد إذنها، حتى يفارق أو يبيع، فيرجع الأمر إليها.
قال محمد بن رشد: قال في هذه الرواية: إنه إن بدا له بعد أن يطلق تلك المرأة ويبيع تلك الجارية أن يرجع، فيتزوجها أو يتسرر، أن ذلك إلى امرأته، إن شاءت أذنت له وإلا فلا. ولم يوجب عليها أن تحلف إنها إنما أذنت له في تلك الجارية بعينها، وفي نكاح تلك المرأة بعينها، ولم تكن أرادت بذلك ترك ما كان بيدها من الشرط فيهما وفي غيرهما، وذلك خلاف ما في رسم "باع شاة" من

(4/263)


سماع عيسى بعد هذا، والاختلاف في هذا جارٍ على الاختلاف في لحوق يمين التهمة، ولو حقق الدعوى عليه في أنها أسقطت عنه ما كان بيدها من الشرط فيهما وفي غيرهما للزمتها اليمين قولا واحدا، وقال فيها: إنها إن أذنت له فنكح أو تسرر فندمت وأرادت أن تغير، فليس ذلك لها بعد إذنها حتى يفارق أو يبيع، فيرجع الأمر إليها، فساوى بين المرأة والجارية في أنه ليس لها أن تمنعه من التمادي على وطئها حتى يبيع الجارية أو يطلق المرأة، وفرق بينهما ابن حبيب فقال: إن لها أن ترجع عن الإذن والرضى في الجارية متى ما شاءت؛ لأن التسرر أمر مؤتنف، قال: وقد كان القياس أن لا يطأ إلا بإذن مؤتنف عند كل وطأة، ولكن الاستحسان أن يجزيه إذن واحد حتى تحدث منعا؛ لأنها على الإذن ما سكتت، وحكى الفضل عن ابن القاسم مثل ذلك أيضا.
وأما إن أرادت لما أذنت له فتزوج أو تسرر أن ترجع فتأخذ بشرطها وتقضي في نفسها، لم يكن ذلك لها باتفاق في هذه المسألة؛ لقوله فيها: إلا بإذنك؛ لأنه إن استثنى إذنها فلم يوجب لها التمليك إلا إذا تزوج عليها أو تسرر بغير إذنها، فإذا تزوج عليها أو تسرر بإذنها لم يجب لها تمليك ولا كان لها أن تقضي بشيء، وقد حكى ابن حبيب أن قائلا يقول: إن لها أن تقضي وإن نكح بإذنها؛ لأنها أذنت قبل أن يصير القضاء بيدها، وهو غلط ظاهر، إنما الاختلاف إذا قال لها: إن نكحت عليك فأمرك بيدك، ولم يقل: إلا بإذنك، فأذنت له فنكح، فلما نكح أرادت أن تقضي في نفسها وتأخذ بشرطها، ففي سماع أصبغ عن أشهب أن ذلك لها، وهو قول سحنون في المجموعة، واحتج بالذي يسلم شفعته قبل الشراء، والمشهور أن ذلك ليس لها وهو قول أصبغ في سماعه وروايته عنه أيضا فيه، وقول مالك في رسم "اغتسل" من هذا السماع، ومثله في رسم أوصى من سماع عيسى من كتاب التخيير والتمليك، وقد نص أشهب على الفرق بين أن يقول: إلا بإذنك، أو لا يقول ذلك، في كتاب ابن المواز، والمعنى في الفرق بينهما بيّن لا يفتقر إلى وجود النص فيه ولا يفترق ذلك عند مالك، فسواء على مذهبه

(4/264)


استثنى في تمليكها أمرها إن نكحها عليها إذنها أو لم يستثن ذلك فيه، إن أذنت له فنكح، لم يكن لها أن تقضي في الوجهين جميعا، واختلف قوله إذا أذنت له أن ينكح إذنا مبهما لم تقل فيه: متى ما شئت، فمرة قال: إن له أن ينكح متى ما شاء، ومرة قال: إن ذلك ليس له إلا بقرب إذنها، وقع اختلاف قوله في ذلك في رسم "أوصى" من سماع عيسى من كتاب التخيير والتمليك، وهذا الاختلاف جارٍ على الاختلاف في الأمر المطلق، هل هو محمول على الفور أو على التراخي.
واختلف إن أذنت له في النكاح ثم رجعت في الإذن قبل أن ينكح، فقال ابن حبيب: ذلك لها، وفي رسم الطلاق الثاني من سماع أشهب: ليس ذلك لها، وهو قول ابن القاسم في سماع أصبغ بعد هذا، وحكى ذلك الفضل عنه وعن غيره أيضا، وبالله التوفيق.

[مسألة: جارية زوَّجها أبوها صبيا صغيرا برضى أبيه ثم هلك]
مسألة وقال مالك في جارية زوَّجها أبوها صبيا صغيرا برضى أبيه ثم هلك، فطلب أبو الجارية الميراث والمهر، فأنكر أبوه أن يكون أصدق شيئا وادعى أن ذلك على وجه الصلة، قال مالك: ليس له إلا الميراث إذا لم تقم له بينة، ولو كان إلا شاهد واحد رأيت أن تحلف الجارية إن كانت بلغت أو تُؤَخَّر إن كانت صغيرة حتى تبلغ وتعرف ما تحلف عليه.
قال محمد بن رشد: قال مالك في هذه الرواية: إن الجارية تحلف مع شاهدها إن كانت قد بلغت، أو تؤخر إن كانت صغيرة حتى تبلغ، يريد بعد يمين أبيه، فإن نكل عن اليمين غرم ولم يكن عليها إذا بلغت أن تحلف، وإن حلف أخرت كما قال حتى تبلغ، فتحلف وتأخذ، فإن نكلت عن اليمين إذا بلغت، لم يكن لها شيء ولم يحلف الأب ثانية، وكفته اليمين الأولى. قال محمد: وهذا

(4/265)


بخلاف مبايعته لها، ويقيم شاهدا فيحلف معه؛ لأنه إن لم يحلف هاهنا لزمه غرم ما نكل عنه؛ لأنه أتلف ولم يتوثق؛ ولأنه لا يبيع إلا بثمن معلوم، والنكاح على التفويض يجوز، فلم يتعد، وإنما عليه أن يشهد في أصل النكاح لا في تسمية الصداق. قال محمد: وذلك عندي ما لم يدَّع أبوها التسمية مع الشاهد، فإن ادعى هذا فقد ضيع في التوثق، يريد: فيحلف هو ويستحق الصداق الذي ادعى لابنته، فإن نكل غرمه بعد حلف أبي الصبي، والظاهر من الرواية أنه هو الذي ادعى التسمية مع الشاهد، فقول محمد خلاف للرواية، وما في سماع أبي زيد عن ابن القاسم من أن أهل المرأة يحلفون في الشروط التي ادعى الزوج أن أباه شرطها عليه وهو صغير، مثل قول محمد، فهي مسألة فيها قولان. ومن هذا المعنى اختلافهم في الزوجين يختلفان في عدد الصداق أو في نوعه، فروى عيسى عن ابن القاسم في بعض روايات العتبية أن ذلك إن كان قبل البناء فالقول قول الأب أو الولي إن كانت بكرا ويحلف لأنه ليس إليها الرضى بالمهر، فإن شاء الزوج أن يعطي ما حلف عليه، وإلا حلف وانفسخ النكاح، وإن كان بعد البناء فالقول قول الزوج في عدد الصداق، ولا يكون عليه إلا ما حلف عليه، وإن كان في نوعه تحالفا وردت إلى صداق مثلها، يريد: ويغرم الأب والوصي الزيادة لتركه الإشهاد، قال فضل: وهكذا قال أصبغ في سماعه بعد أن حكى عن ابن القاسم أن البكر هي التي تحلف، فمن أوجب على الأب الإشهاد على تسميته الصداق قبل الدخول، رأى عليه أن يحلف مع الشاهد الذي أتى به؛ لأنه إن لم يحلف غرم لتركه الإشهاد، ومن لم يوجب عليه الإشهاد على ذلك رأى اليمين على الجارية، وهو الذي ذهب إليه في الرواية، ولو قال الأب له: زوجها بتفويض، وادعت هي على أبي الصبي أنه فرض لها بعد ذلك صداقا وأقامت على ذلك شاهدا، لحلفت هي باتفاق دون أبيها، ولو ادعى الأب التسمية بعد الدخول، وهي أكثر من صداق المثل وأقام عليها شاهدا واحدا، لحلف هو دونها باتفاق، فقف على أنها ثلاثة مواضع: موضع يحلف فيه الأب باتفاق، وموضع تحلف فيه الجارية باتفاق، وموضع يختلف فيمن يحلف منهما، وكذلك لو باع الأب سلعة

(4/266)


لابنه بأكثر من قيمتها فجحد المشتري الشراء والسلعة قائمة، وأقام الأب عليه شاهدا واحدا، يتخرج ذلك على قولين: أحدهما أن الأب يحلف لأنه ضيع في التوثق، فإن نكل عن اليمين ضمن الثمن لابنه، والثاني أن الابن يحلف إن شاء إذا لم يجب على الإشهاد إلا عند دفع السلعة، ولو دفع السلعة إلى المشتري فجحده لوجب عليه أن يحلف مع الشاهد باتفاق؛ لأنه ضيع بترك الإشهاد، فإن نكل عن اليمين غرم الثمن على القول بأنه هو يحلف إذا لم يدفع السلعة والقيمة على القول بأن الابن هو يحلف، وكذلك الحكم في المأمور يوكل على بيع السلعة، فيجحد المشتري وللمأمور شاهد واحد، وإذا كان للابن شاهد بحق لم يله الأب، لم يكن عليه أن يحلف مع الشاهد لابنه، واختلف إذا كان الابن صغيرا فأراد أن يحلف ويستحق له حقه، فقال ابن كنانة: ذلك له لأنه يمونه، وليس ذلك لأحد سواه من أم أو وصي، وأنكر ذلك ابن القاسم ولم يره، وبالله التوفيق.

[مسألة: المرأة تزوج بغير إذنها فتنكر]
مسألة وقال مالك في المرأة تزوج بغير إذنها فتنكر، ثم تخبر أن ذلك كله سواء، قال مالك: لا يجوز إلا بنكاح جديد، قال ابن القاسم: وإنما الذي كان يجيز مالك من ذلك فيما بلغني في الرجل يزوج ابنته الثيب أو أخته وهي معه في البلد مقيمة معه، فيزوجها ثم تخبر فترضى، وكان يجيزه ويخففه، فقلت له: فالرجل يزوج ابنته الثيب البائنة عنه في البلد، فترضى حين تعلم، قال: لا يجوز هذا النكاح ولا يقام عليه ويفسخ حتى يبدأ نكاح جديد، وذلك أنهما لو ماتا لم يتوارثا، فكيف يجوز نكاح إن ماتا قبل أن ترضى لم يتوارثا، فقيل له: فالرجل يزوج أختا له معه حاضرة في البلد، فأنكرت وقالت: لم أرض ولم أوكله، ثم أقرت بعد ذلك وأحبت إجازته، قال: لا أرى ذلك إلا بنكاح جديد، قيل لسحنون: ما معنى قول مالك: وهي

(4/267)


معه مقيمة في البلد؟ أهو أن تكون معه في مصر واحد وحضر واحد؟ أم تكون معه في البلد وإن كانت بعيدة إلا أن البلد تجمعهم؟ قال: بل معناه أن تكون معه في حكم واحد، ويكون الذي يينهما قريبا مثل الأميال والبريد وما أشبهه، قلت لسحنون: فلو كان هو بالفسطاط والمرأة بالقلزم وبينهما مسيرة يومين، قال: ما أرى ذلك بكثير إذا أجازته في ذلك بالفور وأرسل إليها، فأجازت، قال: وأما ما تباعد عنه جدا مثل الإسكندرية أو أسوان أو ما بعد من المواضع، فإنه لا يجوز وإن أجازت، قال أصبغ مثله.
قال محمد بن رشد: أما إذا زوجها بغير إذنها وهي بعيدة عنه أو قريبة فتأخر إعلامها بذلك فلا يجوز النكاح وإن أجازته، باتفاق من قول مالك وجميع أصحابه إلا ما تأول أبو إسحاق التونسي من أن اختلاف قول مالك يدخل في القريب والبعيد ويفسخ قبل ما لم يدخل، وهو ظاهر قول ابن القاسم في رسم الجواب من سماع عيسى، واختيار محمد بن المواز، وقيل: ما لم يطل بعد الدخول، وهو قول ابن القاسم في رسم شهد من سماع عيسى، وقيل: إنه يفسخ أبدا وإن طال، وهو قول أصبغ، واختلف هل يكون الفسخ فيه بطلاق؟ وهل يتوارثان إن مات أحدهما قبل الفسخ، على قولين نص عليهما وهما قائمان من المدونة؛ لأنه نكاح مختلف في جوازه بين أهل العلم، وقد نص في المدونة على الاختلاف في وجوب الطلاق والميراث فيما يفسخ من الأنكحة التي اختلف أهل العلم في جوازها، وتقع الحرمة به وإن فسخ قبل الدخول إذا كان الفسخ بعد الرضا باتفاق، واختلف إذا فسخ قبل الرضا أو قدمت فأنكرت، فقال مالك في المدونة: إني لا أحب له أن يتزوج أمها ولا أن يتزوجها أبوه ولا ابنه، وقال أصبغ: بل لا يحل ذلك، وأجازه ابن الماجشون، وهو الصحيح، وإياه اختار ابن أبي زيد، لأنها إذا أنكرت فلم يتم بينهما شيء تقع به الحرمة، واحتج بأن الرجل لو قال: قد زوجت ابني فلانا إن رضي، فقال فلان: لا أرضى، لم تقع به الحرمة وإن كان له الرضى بإجماع، فهذا أحرى

(4/268)


أن تقع به الحرمة، إذ لا يجوز النكاح إذا رضيت إلا على قول قائل، ولا يتوارثان قبل الرضى، ولا يكون الفسخ فيه طلاقا بإجماع إلا أن يدعي الولي عليها أنه زوجها بإذنها وتنكر هي ذلك، فروى عيسى عن ابن القاسم في المدنية أن الفسخ يكون في ذلك بطلاق، وهو بعيد، وأما إذا زوجها بغير إذنها وهي قريبة وأعلمت بالقرب أيضا، فرضيت، فالمشهور في المذهب أن النكاح جائز.
واختلف في حد القرب فقال أصبغ وسحنون: اليوم واليومان، وقال عيسى بن دينار: ذلك مثل أن يعقد النكاح في المسجد والسوق، ثم يسار إليها بالخبر من ساعته، وإنما جاز هذا النكاح وإن كان للزوجة فيه الخيار لأنه خيار أوجبه الحكم لم ينعقد عليه النكاح، ولو أعلم الولي الزوج أنه لم يستأمرها في العقد عليها، لوجب أن لا يجوز النكاح لدخوله على أن لها الخيار، فهو بمنزلة أن لو زوجه إياها على إن رضيت، وقد قال في سماع أبي زيد في ذلك: إن النكاح يفسخ.
ومن الناس من ذهب إلى أن يفرق بين المسألتين، بأن الحاضرين لهما مندوحة عن الخيار بخلاف الغائب، وهو بعيد، لأنه يلزم عليه جواز نكاح الغائبة البعيدة الغيبة لعدم القدرة على إنجاز النكاح، وروي عن مالك أن النكاح لا يجوز ويفسخ؛ لأنه نكاح لو مات أحدهما فيه لم يتوارثا، يريد: ما لم يدخل - والله أعلم - على هذا القول.
وقال أصبغ: إنما يؤمران قبل الدخول بالترك والفسخ، ولا يحكم بذلك عليهما، فقد روي عن مالك أنه قال: لا أحب المقام عليه وإن رضيت، وقال مرة: إن رضيت جاز، واختلاف قوله هذا في الغيبة القريبة قائم من قول ابن القاسم في المدونة: وبلغني أن مالكا مرة كان يقول: هذا الذي حفظناه عمن أدركناه من شيوخنا، أن اختلاف قول مالك إنما هو في القريب الغيبة، وهو الذي يدل عليه ظواهر الروايات، ونحا أبو إسحاق التونسي إلى أنه لا فرق على أحد قولي مالك بين قريب الغيبة وبعيدها، وهو الأظهر في القياس، لأن الخيار الذي للمرأة المزوجة بغير إذنها إن حكمنا له بحكم الشرط وجب أن يفسخ النكاح في القرب والبعد، وإن لم يحكم له بحكم الشرط وقلنا: إنه خيار يوجبه الحكم، فلا يفسد العقد، كالعبد يتزوج بغير إذن سيده وما أشبه ذلك، وجب أن يجوز في القرب والبعد، فيأتي

(4/269)


في المسألة لمالك على هذا التأويل ثلاثة أقوال: جواز النكاح في القرب والبعد، وفساده في القرب والبعد، والفرق بين القرب والبعد.
وأما إذا أنكرت ثم أجازت فقال ها هنا وفي المدونة: إن النكاح لا يجوز سواء أرادت بإنكارها رد النكاح أو الإباية من إجازته، خلاف تفرقته في المدونة بين ذلك في سيد العبد إذا نكح بغير إذنه. والفرق بين المسألتين أن تزويج المرأة بغير إذنها على الرد حتى يجاز إذ لم ينبرم بين الزوجين، وبدليل أن الأمد إذا طال لم يكن لها أن تجيز، وأن تزويج العبد بغير إذن سيده على الإجازة حتى يرد، إذ قد انبرم بين الزوجين، وإنما الخيار لغيرهما، بدليل أن طول الأمد لا يمنعه من الإجازة، وجعل ابن وهب المرأة مثل السيد في ذلك، وهو أظهر لأن لها الإجازة ما لم تصرح بالرد في الموضع الذي تجوز لها الإجازة فيه، وهو القرب، كما أن ذلك للسيد في الموضع الذي تجوز له الإجازة فيه، وهو القرب والبعد، وكذلك الحكم في الرجل يزوج ابنه المالك لأمر نفسه وهو غائب، أو يخطب المرأة على الرجل فيزوجها إياه وهو غائب، ثم يأتيان فيقران بالإذن أو ينكرانه، فيردان أو يجيزان، وستأتي هذه المسألة بعد هذا والقول فيها مبسوطا إن شاء الله، وبالله التوفيق.

[مسألة: يزوج أجيرا له جارية له على إن رأى منه أمرا يكرهه فأمرها بيده]
مسألة وقال مالك في الرجل يزوج أجيرا له جارية له على إن رأى منه أمرا يكرهه فأمرها بيده لا يحل ذلك ولا أرى أن ينكح على هذا أحد، فإن فعل ووقع النكاح رأيته جائزا، قال ابن القاسم: ولا أفسخه إذا وقع، دخل أو لم يدخل. ومثل ذلك ما تشترط المرأة على زوجها إن أضر بها أو شرب خمرا أو غاب عنها فأمرها بيدها فهذا يكره أن يبتدأ به النكاح، فإذا وقع كان ثابتا، قال سحنون: دخل أو لم يدخل، وقال عيسى إذا وقع به النكاح مضى ولزمه الشرط، قال أصبغ: إنما يكره أن يشترط إن رأت منه ما يكره أو ما لا يعجبها أو ما لا ترضى فهي طالق، قال أصبغ: فإن وقع هذا فأرى

(4/270)


شرطها لها إن رأت ما تكره فهي طالق، والنكاح ثابت قبل الدخول وبعده لأنها يمين قد فرطت ليس فيها طرح شيء، فإذا رأت ما تكره طلقت كما شرطت، وقال سحنون: سئل مالك عن الرجل يزوج عبده على أن الطلاق بيد السيد، قال مالك: إن دخل بها وقع ما بيد السيد من ذلك وإن لم يدخل خير السيد، فإن ترك الشرط وإلا فرق بينهما.
قال محمد بن رشد: أما الذي زوج أجيره جاريته على أنه إن رأى منه ما يكرهه فأمرها بيدها فإن أراد بذلك ما يكرهه مما يكون مكروها عند الناس وضررا بها فلا اختلاف أن النكاح جائز والتمليك لازم بمنزلة ما لو اشترط عليه إن أضر بها أو شرب خمرا فأمرها بيده، وأما إن أراد بذلك ما يكرهه هو باختياره وإن لم يكن ذلك مكروها عند الناس ولا ضررا بها فيتخرج ذلك على خمسة أقوال: أحدها أن ذلك يكره ابتداء فإذا وقع جاز النكاح ولزم التمليك، وهو ظاهر قول ابن القاسم وروايته عن مالك وقول سحنون وعيسى بن دينار، والثاني أنه لا كراهة في ذلك، وهو قول أصبغ، والثالث أن النكاح جائز والتمليك ساقط، وهو قول ابن الماجشون على أصله في أن كل نكاح ينعقد على تمليك يقع بفعل هو بيد غير الزوج إن شاء أن يفعله فعله مثل أن يزوج الرجل أمته على أنه إن باعها فأمرها بيدها أو بيده أو ما أشبه ذلك أن النكاح جائز والشرط ساقط، والرابع قول محمد بن المواز أن النكاح فاسد يفسخ قبل الدخول وبعده على أصله أيضا في النكاح الذي ينعقد على تمليك يقع بفعل هو بيد غير الزوج أنه نكاح فاسد مثل نكاح المتعة أو أشد، والخامس أنه إن دخل سقط الشرط، وإن لم يدخل بها خير مشترط الشرط فإن تركه وإلا فرق بينهما، وهذا القول يأتي على ما حكى سحنون عن مالك في الرجل يزوج عبده على أن الطلاق بيد السيد، وهو على مذهب من يرى التخيير قبل البناء في النكاح إذا وقع بصداق مجهول. ووجه القول الأول والثاني في أن النكاح جائز والشرط لازم هو أن التمليك ليس بطلاق لازم

(4/271)


قد يرى منه ما يكره فلا يطلق، فأشبه إذا زوجها منه على أنه إن أضر بها فأمرها بيدها، ووجه قول ابن المواز أن النكاح فاسد يفسخ قبل الدخول وبعده هو ما ذكره من تشبيهه بالمتعة لأنه تزوج امرأة بشرط أن طلاقها بيد غيره، وإذا فعل ذلك كان له أن يطأها ما لم يطلقها عليه، فأشبه المتعة. التي يتزوج على أن يطأ ما لم يحل الأجل، وأما قول ابن الماجشون فلا وجه له، لأنه إما أن يشبه بالمتعة فيكون لنكاح فاسدا كما قال محمد، وإما أن لا يشبه بها لأن الأجل فيها يأتي بالطلاق على كل حال، وقد يرى منه ما يكره فلا يفرق بينهما فيكون النكاح جائزا كما قال مالك وابن القاسم وسحنون وعيسى ابن دينار، وهو أظهر الأقوال وأولاها بالصواب، وأما الذي تزوج على أنه إن رأت منه امرأته ما تكره فهي طالق فهو أشد في الكراهة ويدخلها الاختلاف المذكور كله إلا جواز النكاح ابتداء دون كراهة، وبالله التوفيق.

[مسألة: خطب إلى رجل ابنته على رجل فزوجه ثم علم الأب أنه افتات على الغائب]
مسألة وقال مالك في رجل خطب إلى رجل ابنته على رجل فزوجه، ثم علم الأب أنه افتات على الغائب، قال ابن القاسم: يريد الذي خطب افتات على الغائب فأراد أن يرجع وقال خدعتني، لا يكون ذلك له بعد ما زوج، ولا يؤخذ بقول الخاطب، وما أشبه ذلك حتى يكون ذلك في الثبت الذي لا شك فيه، فذلك له حينئذ، وأما غير ذلك فلا حتى يعرض على الغائب فيقول أنا أمرته أو يجحد أن يكون أمره، ولو رفعه إلى الإمام لكان أحب إلي. قال عيسى: وقال أصبغ: لا خيار له في ذلك حتى يوقف المفتات عليه، فإن قال أنا أمرته فالنكاح جائز، وإن قال لم آمره فالنكاح يفسخ، وإن قال لم آمره ولكني أرضى به الآن ورضي به الأب فذلك غير جائز لأنهما يريدان إتمام النكاح على عقدة فاسدة.

(4/272)


قال محمد بن رشد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذا زوج الرجل وليته البكر أو الثيب وابنته الثيب أو ابنه البكر أو الرجل الأجنبي في مغيبهم فلا يخلو أمره من ثلاثة أحوال: أحدها أن يزعم في حين العقد أنه أذن له فيه، والثاني أن يزعم أنه لم يؤذن له فيه، والثالث أن لا يذكر إن كان مأذونا له في العقد أو مفتاتا على الغائب فيه، فأما إذا زعم في حين العقد أنه أذن له فيه الغائب أو الغائبة فلا اختلاف أن النكاح لا يفسخ حتى يقدم الغائب ويعرف ما عنده، فإن صدقه فيما ادعى عليه من الإذن جاز النكاح وإن بعد، وإن أنكر وقال: لم آمره ولا أرضى بالنكاح حلف ولم يلزمه، وقيل لا يمين عليه، وإن قال لم آمره ولكني أرضى بالنكاح جاز النكاح في القرب دون البعد على المشهور في المذهب، وهو مراده في هذه الرواية لأن قوله فيها وإن قال لم آمره ولكني أرضى به الآن ورضي به الأب فذلك غير جائز معناه إذا بعد الأمد، وقد مضى فوق هذا ما في ذلك من الاختلاف، وأما إن زعم حين العقد أنه لم يؤذن له فيه وأنه مفتات في عقده فالنكاح فاسد قرب أو بعد، ولا اختلاف في ذلك، وقد مضى وجه ذلك، وأما إن عقد وسكت ولم يبين شيئا فهو محمول على أنه وكل حتى يثبت خلاف ذلك، وذلك بين من قوله في هذه الرواية ولا يؤخذ بقول الخاطب حتى يكون في ذلك الثبت الذي لا شك فيه، ولا خلاف في هذا أحفظه نصا، قال أصبغ في كتاب محمد: وكذلك أحسبه قال في الرجل يزوج ابنة الرجل البكر، وقال محمد ذلك في الأب في ابنته البكر والسيد في أمته أثقل فيهما من غيرهما، وفي سماع أصبغ عن أشهب أن النكاح لا يجوز على حال، وإن زعم المزوج أن الأب وكله على ذلك وإن صدقه الأب فلا يصدق، فحمله على الافتيات حتى يثبت أنه وكله على تزويجها قبل عقد النكاح، وهو الذي يأتي على مذهب ابن القاسم في المدونة لأنه قال فيها: إن زوج الأخ أخته البكر في حجر أبيها لم يجز وإن أجازه الأب إلا أن يكون كالولد القائم بأمره المدبر لشأنه،. وذهب أبو إسحاق التونسي إلى أنه لا فرق في القياس بين ذلك، فإما أن يحمل الأمر على التوكيل في الجميع فيجوز، وإما أن يحمل على الافتيات في الجميع فلا يجوز، وبالله التوفيق.

(4/273)


[مسألة: تزوج امرأة على أن يعتق أباها فاشتراه فأعتقه ثم طلقها قبل أن يبني بها]
مسألة قال مالك: ومن تزوج امرأة على أن يعتق أباها فاشتراه فأعتقه ثم طلقها قبل أن يبني بها أن عليها نصف قيمته وجاز العتق. قال ابن القاسم: لا يجوز هذا النكاح لأنه لم يصل إليها شيء من المهر، إنما هو أعتقه، وله ولاؤه، وأرى أن يفسخ، وإن دخل بها أعطيت صداق مثلها وثبت النكاح، ولا يرجع عليها بشيء. قال ابن القاسم: أخبرني بهذا من أثق به من أصحاب مالك أن عليها نصف قيمته ثم أخبرني بها بعض جلساء مالك أنه قال: لا أرى أن يرجع عليها بشيء. وقوله الأول أحب إلي.
قال محمد بن رشد: قوله في السؤال فاشتراه يدل على أنه لم يكن في ملكه يوم عقد النكاح، وهذا فيه نظر لأن المعروف من قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لا يجوز النكاح على عبد فلان، وقد جوزه مالك في هذه المسألة إذ لم ير النكاح فاسدا بدليل أنه أوجب للزوج الرجوع عليها في الطلاق بنصف قيمته وجوز العتق على حكم النكاح الصحيح لأن النكاح الفاسد لصداقه لا يجب فيه الصداق إلا بالدخول، فلو كان عنده فاسدا لم يوجب عليها شيئا في الطلاق قبل الدخول لأنه هو أعتقه ولم تقبض هي شيئا ولا وجب له عليها جميع قيمته من أجل أنه لما أعتقه بأمرها فكأنها قد قبضته وأعتقته، وقد روى أبو عبيد عن مالك أن النكاح على عبد فلان جائز، فعلى هذا يأتي في هذه الرواية، وإنما جوز مالك النكاح في هذه المسألة وإن كانت المرأة لم تملكه ولا كان لها ولاؤه لأنه مال من ماله بعد الشراء لو قال أعطيك مالا على أن تعتقه ويكون ولاؤه لك لجاز ذلك وصح له أخذ ما سمت له من المال، فهو لم يرض أن يخرجه عن ملكه إلا بأخذ بضعها في النكاح وإن لم يملكه طرفة عين ولا وصل إليها شيء من المهر، فلا بأس به، ألا ترى أنهم جوزوا أن تقول المرأة: أتزوجك على أن تهب عبدك لفلان أو تتصدق به عليه وإن لم يملكه ولا وصل إليها شيء من المهر، فهذا وجه قول مالك في هذه المسألة، وعلل ابن القاسم فساد

(4/274)


النكاح عنده بأنه لم يصل إليها من المهر شيء، قال: وإنما هو أعتقه، وله ولاؤه. فعلى قوله لو تزوجها على أن يعتق عنها أباها ويكون لها ولاؤه لجاز النكاح خلاف قول ابن الماجشون في الواضحة، فيتحصل في المسألة ثلاثة أقوال: أحدها أن النكاح جائز على أن يعتق أباها عن نفسه أو عنها، وهو قول مالك في هذه الرواية، والثاني أن النكاح لا يجوز على أن يعتق أباها لا عن نفسه ولا عنها وهو قول ابن الماجشون، والثالث أنه إن تزوجها على أن يعتقه عن نفسه لم يجز النكاح وإن تزوجها على أن يعتقه عنها جاز النكاح، وهو مذهب ابن القاسم في هذه المسألة على أصله في المرأة تقول لسيد زوجها أعتق عبدك عني ولك ألف درهم أن النكاح ينفسخ، وما حكاه ابن القاسم من اختلاف قول مالك في وجوب الرجوع له عليها في الطلاق بنصف قيمته ليس في المسألة المتقدمة المذكورة إنما هو في مسألة المدونة في الذي تزوج المرأة على أبيها أو على أخيها أو على من يعتق عليها ثم يطلقها قبل البناء بدليل اختيار ابن القاسم لقول مالك الأول كما اختاره في المدونة فيها، لأن المسألة المتقدمة المذكورة لا يوجب ابن القاسم للزوج فيها قبل الدخول شيئا من أجل أنه نكاح فاسد عنده، فوهم العتبي في سياقته عليها، ولا اختلاف بينهم إذا تزوجها على أبيها أو على أخيها أو على من يعتق عليها في أن النكاح جائز ويعتق عليها علما أو جهلا أو علم أحدهما دون الآخر، بكرا كانت أو ثيبا، قاله ابن حبيب في الواضحة. وهذا في البكر إذا لم يعلم الأب أو الوصي، وأما إذا علم فلا يعتق عليها، واختلف هل يعتق عليه هو أم لا على قولين، وإذا أعتق عليها ولم تعلم وقد علم الزوج رجعت عليه بقيمته لأنه غار، وقد قيل إنه لا يعتق عليها إذا غرها به ويرد إليه ويكون عليه لها قيمته أو نصف قيمته إن طلقها قبل البناء، اختلف في ذلك قول ابن الماجشون، وقال ابن كنانة: إذا غرها يفسخ قبل الدخول ويثبت بعده ويكون لها صداق المثل وتغرم له قيمته ويعتق عليها، وأما إن علمت ولم يعلم الزوج فلا رجوع لها عليه، وله هو إن لم يعلم علمت هي أو لم تعلم إن لم يكن لها مال أن يرد عتقه ليباع في جهازه وأن يرجع في نصفه إن طلقها قبل الدخول والحمد لله.

(4/275)


[مسألة: ينكح الرجل الأمة نفسه التي قد أخدمها حياته]
مسألة قال ابن القاسم: وسمعت مالكا قال لا أحب أن ينكح الرجل الأمة نفسه التي قد أخدمها حياته وإن رضي بذلك الذي أخدمها لأنه بمنزلة الشريك ينكح حصة شريكه.
قال محمد بن رشد: إنما كره له أن يتزوجها لأنه من أجل أن له بوجوب خدمتها له حياته شبهة تسقط عنه الحد لو زنى بها عنده، قال ابن القاسم في سماع محمد بن خالد من كتاب الخدمة وإن تعمد ذلك بمعرفة كالأمة بين الشريكين فجرى على أصله، ومن يوجب عليه الحد إن زنى بها ولا يعذره بالجهالة وهو مذهب أشهب وابن الماجشون ومطرف وأبي المصعب ومحمد بن سلمة يجيز له نكاحها، وهو القياس، وابن وهب يفرق في إيجاب الحد عليه إن زنى بها بين أن يعذر بالجهالة أو لا يعذر، ولو كانت الخدمة مدة من الزمان يسيرة ولم تكن حياته لحد في الزنى باتفاق، وكان له أن يتزوجها.

[مسألة: نكح بأرؤس ولم يبين حمران ولا سودان]
مسألة قال مالك: وإن نكح بأرؤس ولم يبين حمران ولا سودان، فلها نصف القيمتين، قال سحنون: ينظر إلى البلد، فإن كان رقيقهم الحمران كان عليه الحمران، وإن كان سودان فسودان، قال سحنون: ويعطي الإناث من الرقيق ولا يعطي الذكور، وقال: وإن كان رقيق البلد حمران وسودان كان عليه نصف الرقيق من الحمران والنصف من السودان.
قال محمد بن رشد: إنما يكون له نصف القيمتين إذا كان رقيق البلد الذي يتناكحون عليه حمرانا وسودانا، وكان أصدقها عبدا واحدا أو ثلاثة أعبد، فإن كانوا ثلاثة كان عليه رأس من أوسط هذا الجنس، ورأس من أوسط هذا الجنس الآخر، ثم يكون عليه في الثالث نصف قيمة هذا الجنس يوم وقع النكاح ونصف قيمة هذا الجنس الآخر، وكذلك إذا أصدقها رأسا واحدا

(4/276)


للضرر في الاشتراك، والقيمة في ذلك يوم وقعت العقدة بينهما، أمسك أو طلق، قال ابن القاسم في رسم الجواب من سماع عيسى: والأشبه أن يأتي بعبد من هذا الجنس وبعبد من الجنس الآخر، فيكون شريكا لها فيهما على ما روى أصبغ عن ابن القاسم في كتاب الجنايات في الذي يقطع أنملة رجل، أنه يأتي بالعشرة من الإبل دية للإصبع، كلها على أسنانها، فيكون المقطوع شريكا له فيها بقدر دية الأنملة، ثم يقتسمان بعد أو يبيعان، وإيجاب القيمة في ذلك يأتي على قولهم في الخلطاء: يجب عليهم سن واحدة في الزكاة، فقف على ذلك، ولو سموا في ذلك ثمنا لحكم به ولم يرجع في ذلك إلى القيمة، على ما سيأتي القول عليه في رسم الجواب من سماع عيسى، إن شاء الله، وبالله التوفيق.

[مسألة: له على رجل خمسون دينارا فخطب إليه ابنته مقابل الخمسين]
مسالة
وقال مالك في رجل كانت له على رجل خمسون دينارا، فخطب إليه ابنته أو أخته على أن يضع عنه الخمسين. فكره مالك ذلك، وأن يؤخر إلى أجل أبعد من الأجل الذي يحل فيه ذلك أيضا، قال ابن القاسم: أما إذا وقع النكاح على أن يضع فهو بمنزلة الحباء الذي يشترط المنكح، فأراه للمرأة ويثبت النكاح، وأما تأخير الأجل فإنه حرام، وأرى أن يفسخ ذلك قبل الدخول وإن دخل بها رأيت أن تعطى صداق مثلها ويرد المال إلى أجله.
قال محمد بن رشد: معنى هذه المسألة عندي أن مالكا - رَحِمَهُ اللَّهُ - تكلم على أن الولي اشترط ذلك على الزوج في العقد دون تسمية الصداق فكره ذلك إذ لا تأثير له في فساد العقد إذ لم يقع عليه الصداق وهو في التأخير أشد، فيمضي النكاح وتسقط الوضيعة والتأخير، وتكلم ابن القاسم على أنه زوجه بصداق مسمى على ذلك، فوجب أن تكون الوضيعة كالحباء يشترطه الولي يجب للمرأة على وليها إن أحبت اتباعه به ويثبت النكاح وأن يكون التأخير فسادا في الصداق لأنه حط منه بسببه، فوجب أن يفسخ النكاح قبل

(4/277)


الدخول، وأن يكون فيها صداق المثل بعد الدخول، ظاهر قوله بالغا ما بلغ، كان أقل من المسمى أو أكثر منه، ويأتي على قياس المشهور من قوله في البيع والسلف، أن يكون لها بعد الدخول الأكثر من صداق مثلها أو المسمى، ويفسخ قبل الدخول على كل حال وفي كل قول، بخلاف البيع والسلف الذي يثبت إذا رضي مشترط السلف بتركه من أجل أنه بين المتبايعين وليس هو هاهنا بين الزوجين، وبالله التوفيق.

[مسألة: جارية بكر حلفت على رجل أن عليها بدنة وكل ما تملك صدقة إن نكحته]
مسألة قال مالك في جارية بكر حلفت على رجل أن عليها بدنة وكل ما تملك صدقة إن نكحته، فزوجها إياه أبوها ولم يؤامرها، فإن النكاح جائز ولا عتق عليها وهي مولى عليها في حجر أبيها.
قال محمد بن رشد: قوله: إنه لا عتق عليها، خلاف ما في آخر سماع ابن القاسم من كتاب النذور، مثل قول سحنون فيه، لأن ذلك إنما سقط عنها من أجل التحجير اللازم لها في مالها لا من أجل أن الأب أكرهها على النكاح بما له من الحق في ذلك، إذ ليس ذلك مما يسقط عنها الحنث عنده على مذهبه في الحالف على أن لا يفعل فعلا، فقضى به عليه السلطان، في المدونة وغيرها خلافا لابن الماجشون.

[الرجل يزوج ابنه صغيرا ويشترط على الأب نفقة امرأته]
ومن كتاب أوله حلف أن لا يبيع رجلا سلعة سماها قال: وسئل مالك عن الرجل يزوج ابنه صغيرا، ويشترط على الأب نفقة امرأته، قال: لا خير في هذا، قال عيسى: سألت ابن القاسم عن هذا إذا وقع فقال: إن كان ذلك قبل أن يدخل فسخ، وإن دخل بها جاز، وكانت النفقة على الزوج، وقد قال مالك: رأيت لو مات الأب كان يوقف لها ماله، ولو كان عليه دين لكانت تحاص به الغرماء استنكارا لذلك، قلت له: فعبده؟ قال: لا خير في هذا، ولو

(4/278)


كان هذا لجاز في الحميل أن يتحمل بالنفقة، وقال ابن القاسم: قال لي هذا وما أشبهه، إلا أنه أكثر الكلام فيه على وجه الكراهية.
قال محمد بن رشد: حكى ابن المواز قول مالك: اختلف في اشتراط النفقة في النكاح على أب الصغير حتى يكبر، أو على ولي المولى عليه حتى يرشد، فمرة أجازه، ومرة كرهه، وقال بكل قول كثير أيضا من أصحاب مالك، وحكى ابن حبيب إجازة ذلك أيضا عن مالك من رواية ابن الماجشون وابن وهب عنه، وزاد أن ذلك لازم ما عاش الأب وكان الزوج مولى عليه، وإنما وقع الاختلاف في المسألتين من أجل أنه لم يقع في الشرط بيان إن مات الأب قبل بلوغ الصغير أو الولي قبل رشد اليتيم فسقطت النفقة بموتهما، هل تعود في مال الصغير ومال اليتيم أو لا تعود في مالهما إلى بلوغ الصغير منهما ورشد اليتيم، ولو وقع الشرط بإفصاح وبيان أنه لا نفقة على الصغير حتى يبلغ، عاش الأب أو مات قبل ذلك، ولا على اليتيم حتى يرشد عاش الولي أو مات قبل ذلك، لكان النكاح فاسدا باتفاق لانعقاده على غرر، إذ قد يموت الأب قبل بلوغ الصبي أو الولي قبل رشد اليتيم، فلا يكون للزوجة نفقة، ولو وقع أيضا بإفصاح وبيان أن النفقة تعود في مال الصغير إن مات الأب قبل بلوغه وفي مال اليتيم إن مات وليه قبل رشده، لكان النكاح جائزا باتفاق، إذ لا ضرر على الزوجة في الشرط على هذا الوجه ولا منفعة لها فيه، وإنما منفعته للصغير واليتيم بما التزم لهما من الإنفاق على زواجهما وتدبير أموالهما، فلما وقع الشرط مبهما محتملا للصحة والفساد حمله في أحد القولين على الصحة حتى يعلم فساده، ووجه ذلك أن النكاح قد انعقد فوجب ألا يفسخ إلا بيقين؛ وفي القول الثاني على الفساد حتى تعلم صحته، ووجه ذلك أن النكاح لما انعقد بين المتناكحين على الشرط دل على أن للزوجة في ذلك مدخلا، فوجب فساده، وقال ابن القاسم على القول بفساد النكاح: إنه إن دخل بها جاز النكاح وكانت النفقة على الزوج، ولم يبين إن كانت ترد إلى صداق مثلها أو يكون لها الصداق المسمى، وإرادته أن يكون لها صداق مثلها لأن الشرط له تأثير في الصداق إذا وقعت التسمية عليه، وهو الذي في الواضحة. ولو اشترطت النفقة

(4/279)


في أصل العقد على غير الزوج، والزوج كبير مالك لأمر نفسه، لكان النكاح فاسدا يفسخ قبل الدخول، قال ابن حبيب عن مالك: إلا أن ترضى المرأة أن تكون نفقتها على الزوج، وذلك على القول في وجوب التخيير قبل البناء في النكاح الذي يقع بصداق بعضه مؤخر إلى أجل مجهول، ويثبت بعد البناء وتكون النفقة على الزوج، ولا يدخل الاختلاف الذي دخل في المسألة الأولى في هذه المسألة لظهور الغرر والفساد فيها بخلاف المسألة الأولى، وكذلك لا يجوز النكاح بشرط على أن يعطي الزوج بالنفقة حميلا، وإنما لم يجز ذلك لأن النفقة ليست بدين ثابت في ذمة الزوج كالصداق في النكاح والثمن في البيع، فيجوز اشتراط الحميل فيه، وإنما هو حق أوجبه الله للزوجات على أزواجهن، قيل: بحق العصمة، وقيل: بحق الاستمتاع بالزوجة، فإن عجز عنه لم يتبع به ذمته وكانت الزوجة بالخيار بين أن ترضى بالمقام معه على غير نفقة أو يفارقها، فإن اشترط الحميل بذلك كان النكاح فاسدا يفسخ قبل الدخول ويثبت بعده وتسقط الحمالة، ويكون للمرأة صداق مثلها؛ لأن للشرط فيه تأثيرا إذ لم ترض بالتسمية إلا من أجل ما اشترطته من الحمالة.
ولو وقع الشرط في مسألة اشتراط النفقة على غير الزوج ببيان أن الذي اشترط عليه الإنفاق وإن مات أو طرأ عليه دين أو ما يبطل النفقة عندما رجعت على الزوج، لكان النكاح جائزا على قياس ما ذكرناه، وقد قيل: إنه نكاح يفسخ على كل حال؛ لأن شرط النفقة على غير الزوج خلاف لسنة المسلمين في النكاح، فهو نكاح فاسد يفسخ قبل الدخول ويثبت بعده ويسقط الشرط، ويكون للمرأة صداق مثلها إن كانت التسمية على الشرط، وإلى هذا نحا أبو بكر الأبهري في كتابه، والذي قلناه أبين وأظهر في المعنى، وبالله التوفيق.

[مسألة: الرجل يريد أن يزوج بنت الأخ ولا يعرفها أحد من الناس]
مسألة وسئل عن الرجل تكون عنده المرأة لا يعرفها أحد غيره مثل بنت الأخ وما أشبه ذلك، وهو يريد أن يزوجها ولا يعرفها أحد من الناس، كيف يشهد عليها؟ قال: يدخل عليها من لا يحتشم منه، ثم

(4/280)


يشهد على رؤيتها ثم يزوجها، ولقد استشارني الحسن بن يزيد في جارية كان يليها من آل أبي طالب، فأشرت عليه أن يرسل إليها من يرضى فيشهد عليها، فأرسل إليها رجلين فشهدا عليها ثم زوجها، قال عيسى: قال لي ابن القاسم: قال مالك: ولم يعرفها الشهيدان.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال، إنه إذا لم يوجد من يعرفها فلا بد أن يشهد على رؤيتها من لا يحتشم منه، فتسفر لهم عن وجهها ليثبتوا عينها كيما إن أنكرت بعد أن شهدوا عليها أنها هي التي أشهدتهم فيلزمها النكاح، وأما إن وجد من العدول من يعرفها فلا ينبغي لمن لا يعرفها أن يشهد عليها، فإن شهد عليها من لا يعرفها، وجد من يعرفها أو لم يوجد، فلا يصح لهم أن يشهدوا على شهادتهم أن فلانة بنت فلان أشهدتهم على الرضى بالنكاح؛ لاحتمال أن لم تكن هي التي أشهدتهم فيموتوا ويشهد على شهادتهم، فيلزم نكاحا لم ترض به ولا أشهدت به على نفسها؛ لأن إشهادهم على شهادتهم بذلك كشهادتهم به عليها عند حاكم، والحقوق بخلاف ذلك، قال مالك: لا أرى أن يشهد الرجل على من لا يعرف، ومثله لأصبغ في الخمسة، قال: وأما الحقوق من البيوع والوكالات والهبات ونحو ذلك، فلا يشهد عليها في شيء من ذلك إلا من يعرفها بعيبها واسمها ونسبها، والفرق بين النكاح وما سوى ذلك من الحقوق أنه يخشى وإن لم يشهدوا على شهادتهم في الحقوق أن يموتوا فيشهد على خطوطهم، فتلزم باطلا لم تشهد به على نفسها.
وعلى ما جرى العمل به عندنا من أنه لا يقضى بالشهادة على خط الشاهد إلا في الأحباس وما جرى مجراها، يستوي النكاح في ذلك وما سواه من الحقوق، ولا يكون على الرجل حرج في أن يضع شهادته على من لا يعرف في الحقوق كما يضعها عليه في النكاح إذا لم يشهد على شهادته بذلك، وقد استجاز ذلك العلماء قديما وأن يقيدا في عقد إشهاد الوثيقة معرفة العين والاسم لما في ذلك من تحصين الحقوق، وأما عند أداء الشهادة فلا يحل للشاهد أن يشهد بإجماع إلا على من يثبت عينه ويعرف أنه هو الذي أشهد دون شك في ذلك ولا ارتياب.

(4/281)


[المرأة من الأعراب زوجت ابنة لها وهي صغيرة محتاجة في بعض المياه]
من كتاب أوله شك في طوافه قال: وسئل مالك عن المرأة من الأعراب زوجت ابنة لها وهي صغيرة محتاجة في بعض المياه، فكتب إليه صاحب ذلك الماء يسأله عن ذلك وقال: إن أمها تقول: إنما زوجتها إنها كانت محتاجة تسأل النساء وتطوف عليهم فزوجتها نظرا لها، وقد عرف الناس ذلك من شأنها أنها كانت ساعية محتاجة تطوف.
قال مالك: ابنة كم هي؟ قال: ابنة عشر سنين، قال: والجارية راضية؟ قال: نعم راضية بذلك، قال: أراه نكاحا جائزا.
وقد «بنى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعائشة وهي ابنة تسع سنين أو عشر سنين» قال: ولو كانت صغيرة لم أر ذلك نكاحا، قال سحنون: محمل هذه المسألة على أن الأم وكلت من زوجها من الرجل، وهي مسألة ضعيفة.
قال محمد بن رشد: إنما قال سحنون في هذه المسألة: إنها مسألة ضعيفة، وإن تأول فيها أن الأم وكلت من زوجها؛ إذ لا يجوز للأم أن توكل من يزوج ابنتها إلا إذا كانت وصية، ولم يراع ذلك مالك على أصله في رواية ابن القاسم عنه، أن المرأة الدنية يجوز أن يزوجها الرجل الأجنبي، ولا أدنى في المرتبة من امرأة ساعية تطوف بالأبواب، فإذا زوجها الأجنبي جاز ولم يكن لتقديم الأم في ذلك تأثير، وأجاز النكاح وإن كان مذهبه أن اليتيمة لا يجوز تزويجها قبل البلوغ، لما أخبرته أنها خشيت عليها الضيعة فرأى ذلك كما قالت إذ كانت في سن من يوطأ مثلها، ورأيت العشر سنين ونحوها ممن يوطأ مثلها، بدليل بناء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وهي في هذا السن، قال: ولو كانت صغيرة - يريد في سن لا يوطأ مثلها ولا يشتهى - لم أر ذلك نكاحا، إذ لا يخشى

(4/282)


عليها الضيعة في هذا السن، ولا تدعو الضرورة إلى تزويجها فيه، فهذا وجه تفرقة مالك بين الصغيرة التي لا يوطأ مثلها والبالغة التي يوطأ مثلها، وسأل: هل كانت راضية؟ إذ لا يجوز أحد من أهل العلم للولي أن يزوج يتيمة قبل البلوغ وهي كارهة، إذا كانت قد بلغت من السن ما يعرف به ما يميل به نفسها إليه، مما فيه صلاحها، وما تنفر عنه مما فيه ضرر عليها، ولو كانت كارهة لما جاز النكاح عليها بحال.
وقد اختلف إذا زوجت اليتيمة قبل البلوغ من غير حاجة تدعو إلى ذلك في المذهب اختلافا كثيرا، فقيل: إن النكاح يفسخ قبل الدخول وبعده، وإن طال وولدت الأولاد، ورضيت بزوجها، وإلى هذا ذهب ابن حبيب في الواضحة وعزاه إلى مالك وأصحابه، وقيل: يفسخ قبل الدخول وبعده، إلا أن يطول بعد الدخول فلا يفسخ، وهو قول ابن القاسم في رسم إن خرجت، من سماع عيسى، وفي سماع زونان وفي كتاب ابن المواز، وقيل: إنه يفسخ بعد الدخول إلا أن يطول وتلد مع ذلك الأولاد، وهو قول أصبغ، ولم ير الولد الواحد والسنتين في ذلك طولا، وقيل: إن الخيار لها إذا بلغت، فلا يفسخ إذا لم يعثر عليه حتى بلغت فرضيت، أو دخل بها بعد البلوغ وهي عالمة أن لها الخيار، ويفسخ إذا عثر عليه قبل البلوغ، وكذلك إذا بلغت فأنكرت، وإن كان ذلك بعد الدخول، ما لم يطل الأمر بعده، وهو الذي يأتي على ما في رسم الطلاق الثاني من سماع أشهب.
وقيل: إنه يكره النكاح، فإذا وقع لم يفسخ، وهو نص قول مالك في رسم البز بعد هذا، وظاهره في سماع أشهب أيضا، لأنه وقف في التفرقة بينهما ولم يفرق بين قبل الدخول وبعده، وقيل: إنه إن زوجت وقد شارفت الحيض وأنفست، فلا يفسخ النكاح، وهو قول أصبغ في سماعه، خلاف ما له في الواضحة والموازية. فمن قال: إنه يفسخ أبدا، رآه عقدا وقع في غير موضعه ففسد لعقده، ومن قال: إن الخيار لها إذا بلغت، رأى الحق لها في ذلك؛ إذ عقد عليها في حال لا يعرف فيه رشدها، فجعل العقد موقوفا على خيارها إذ لم ينعقد النكاح على خيار، وإنما كان الخيار أمرا أوجبه الحكم،

(4/283)


كالعبد يتزوج بغير إذن سيده والسفيه بغير أمر وليه. وما سوى هذين القولين فلا وجه له إلا الاستحسان؛ مراعاة لقول من يرى للولي إنكاح وليته اليتيمة قبل بلوغها، بظاهر قول الله عز وجل: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} [النساء: 3] وقوله: {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} [النساء: 127] وقد قال ابن القاسم في رسم لم يدرك من سماع عيسى: إنه أمر جل الناس قد أجازوه، وقد زوج عروة بن الزبير بنت أخيه وهي صبية ابنه، والناس يومئذ متوافرون، وعروة من هو، وإذا فسخ النكاح على مذهب من يرى فسخه فالفسخ فيه طلاق، وما طلق فيه الزوج قبل الفسخ لزمه، ويكون فيه الميراث بينهما إن مات أحدهما قبل الفسخ، وجميع الصداق المسمى في الموت قبل الدخول وبعده، ونصفه إن طلق قبل الدخول وقبل الفسخ.

[مسألة: أوصى عند موته بميراث ابنة له صغيرة أن يدفع إلى رجل هل له تزويجها]
مسألة وسئل مالك عن رجل أوصى عند موته بميراث ابنة له صغيرة أن يدفع إلى رجل [أترى أن يلي بضعها في إنكاحها؟ قال: لا أرى ذلك حسنا، ولو رفع ذلك إلى السلطان ينظر فيه، قلت: فإن أباها قد أوصى بتزويجها وتعجيل ذلك، وهي ابنة ثماني سنين، فقال: أرى أن يعجل ذلك، فقيل له: إنها ابنة ثماني سنين، فقال: أليس قد أوصى أبوها بذلك؟ قال: نعم، فأرى أن يفعل ذلك، فقيل له: فإن معها حاضنة لها تقوم عليها، أفترى أن ينفق عليها من مالها؟ قال: نعم، أليس لها ما يحملها؟ قالوا: لها غلة وهي قليلة، قال: أرى أن ينفق عليها وهي ( ... ) وتكفلها وتكفل مؤونتها. قال محمد بن رشد: قوله في الذي أوصى بميراث ابنة له صغيرة أن

(4/284)


بدفع إلى رجل، إني لا أرى ذلك حسنا، فيما سئل عنه من ولاية بضعها في النكاح، ليس معناه أنه استحسن أن يلي العقد عليها ولا يرفع ذلك إلى السلطان، وإنما معناه إني لا أرى إمضاء ذلك حسنا إن فعل، بدليل قوله: لو رجع ذلك إلى الإمام ينظر فيه، لأن معناه: ولو رفع ذلك إلى الإمام ينظر فيه لكان أحسن، ويؤيد هذا قوله في المدونة فيمن أوصى إلى رجل أن يتقاضى دينه ويبيع تركته: لو زوج بناته لرجوت أن يكون واسعا، ولكن أحب إلي أن يرفع ذلك إلى السلطان حتى ينظر فيه، والقياس ما قاله ابن حبيب أنه إذا قال: فلان وصي على مالي، فليس بوصي على الولد في تزويجهم؛ وإنما يكون وصيا في تزويجهم إذا قال: فلان وصيي، ولم يزد، أو قال: فلان وصيي على بضع بناتي، وقوله: إذا أوصى بتزويج ابنته وتعجيل ذلك وهي بنت ثماني سنين، إن وصيته جائزة، يريد: سمى له الزوج أو فوض إليه الرضا؛ لأن ابن حبيب حكى عن مالك وأصحابه أنه قال: إذا قال له: زوج ابنتي من فلان أو ممن ترضى، نزل في ذلك بمنزلته وكان له أن يزوجها قبل بلوغها وبعد بلوغها بغير مؤامرتها، وإنما الذي لا ينزل في ذلك بمنزلته ويكون أحق بتزويجها من الأولياء بعد بلوغها ومؤامرتها إذا قال: فلان وصيي فقط، أو قال: فلان وصيي على بضع بناتي، قال: وسواء كانت بناته أبكارا أو ثيبات، قال: وكذلك كل من كانت ولاية تزويجها إلى الموصي فالوصي أحق بتزويجهم من الأولياء إذا قال: فلان وصيي، ولم يزد على ذلك، وقال سحنون: ليس بولي في الثيب التي لا ولاية له عليها، وقال أصبغ: الولي أولى منه، وروى علي بن زياد عن مالك في رجل أوصى بابنته إلى رجل وأمره أن يزوجها إذا بلغت رجلا سماه، أن ذلك ليس بجائز عليها إذا بلغت فكرهت ذلك، وليس بمنزلة إنكاح الأب إياها إذا بلغت وهي كارهة، لأن الرجل قد يكون مرضيا مرغوبا فيه ثم يتحول حاله عن ذلك بعد، ولعل الأب لو عاش حتى تبلغ ابنته لم ينكحها حينئذ، وقد كان قبل ذلك راضيا مغتبطا، ولعله لو عاش لم يكره ابنته على

(4/285)


النكاح وإن كان به راضيا، ولأصبغ ها هنا في بعض الروايات أن وصية الأب جائزة عليها إلا أن يكون الذي أمر بتزويجها منه فاسدا فاسقا شريبا سكيرا، فلا تزوج منه إذا كرهته، أو يكون يوم أمر الأب بتزويجه حسن الحال ثم يخرج إلى الفسق وشرب الخمر والدعارة، فإذا كان هذا وكرهته أبطل الحكم عنها وصية الأب، قال: وعلى الوصي بما يلزمه من النظر لمن يلي أن لا يزوجه وأن يمنعه، ويرفعه إلي من يسقط ذلك عنه من الحكام وإن رضيت به، هذا قوله مختصرا وفيه اضطراب فتدبره.
وإيجابه للحاضنة النفقة في مال المحضونة خلاف ما في طلاق السنة في رسم شك من سماع ابن القاسم، وفي أول رسم من سماع أشهب، والاختلاف في هذا جار على اختلافهم في الحضانة هل هي من حق الحاضن أو من حق المحضون، فمن رآها من حق المحضون أوجب للحاضن أجره في حضانته، وكذا في سكناه معه، ومن رآها من حق الحاضن، لم يوجب له ذلك لأنه لا يستقيم أن يكون من حقه أن يكفله ويؤويه إلى نفسه، ويجب له بذلك عليه حق، وفي سماع ابن القاسم من كتاب الوصايا تفرقة لا تخرج عن القولين، وبالله التوفيق.

[مسألة: رجل تزوج امرأة وشرط لها إن تزوج عليها أو تسرر فأمرها بيدها]
مسألة وسئل مالك عن رجل تزوج امرأة وشرط لها إن تزوج عليها أو تسرر فأمرها بيدها، فأقامت معه نحوا من سنة يطؤها في ذلك، ثم قالت له: ألم تكن جعلت لي إن تزوجت علي أو تسررت فأمري بيدي؟ فقال: بلى، فقالت: إن فعلت فقد اخترت نفسي ثلاثا، ثم بدا لها بعد ذلك أن تأذن له، وحرم ولدها فأحبت أن توسع عليه فأذنت له، قال مالك: ما أرى أن تفعل ذلك، فقيل له إنه: قد تسرر عليها حين أذنت له، قال: فأرى أن يعتزل امرأته، قيل له: أيخلي سبيلها؟ قال: نعم، قال ابن القاسم: ويفارقها ثلاثا ولا محل له، قال ابن القاسم: وقال لي الليث بن سعد مثله.

(4/286)


قال محمد بن رشد: في سماع أصبغ عن أشهب خلاف هذا، أن الطلاق باطل لا يلزم، لأنها قضت قبل أن يجب لها القضاء، فلم يكن ذلك لها، كما قال: إنها إذا أذنت له فتزوج أو تسرى، كان لها أن تقضي إن تزوج أو تسرى لأنها أسقطت حقها قبل أن يجب لها، وقد مضى القول على هذا في أول رسم من السماع.

[مسألة: ابنتي عم أيجمعان في النكاح]
مسألة وسئل مالك عن ابنتي عم أيجمعان؟ فقال: ما أعلم حراما. قيل له: أفتكرهه؟ فقال: إن ناسا ليقولونه، وقال لنا قبل ذلك: وغيره أحسن منه، قال ابن القاسم: وهو حلال لا بأس به.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال، لأن النهي إنما ورد عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في الجمع بين ذوات المحارم بيانا لما في كتاب الله عز وجل من النهي عن الجمع بين الأختين؛ إذ هما ذوات محارم، وابنتا العم إذا لم يكونا أختين لا حرمة بينهما، لو كان أحدهما رجلا جاز له أن يتزوج الأخرى، فمن كره الجمع بينهما إنما اتقى ذلك من ناحية العداوة التي تتقى أن تقع بينهما بذلك، ولا ينبغي أن يكون التقاطع بين ذوي الأرحام، والله الموفق.

[مسألة: الخصيان أيدخلون على النساء ويرون شعورهن]
مسألة وسئل مالك عن الخصيان أيدخلون على النساء ويرون شعورهن؟ فقال: أما الأحرار فلا، وأما العبيد فلا أرى به بأسا، كان لها أو لزوجها أو لغيره، إذا كان وغدا، وكرهه إذا كان له منظر، وسئل عن الخصي إذا كان خادم الرجل في منزله أيرى فخذه مكشوفا عنها؟ فقال: ذلك خفيف. قال: وسئل عن خادم المرأة ترى فخذ الرجل منكشفا قال: لا ليست له، قال الله تبارك وتعالى:

(4/287)


{أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3] فخادم امرأته كغيرها في هذا.
قال محمد بن رشد: لم ير مالك الخصيان من غير أولي الإربة من الرجال الذين أباح الله للنساء أن يبدين لهم زينتهن، إذ قد يحتاج الخصي إلى أشياء من أمور النساء ويتزوج، ولعله إنما خصي بعد أن اطلع على عورات النساء وعرف محاسنهن، وإذا كان النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قد نهى أزواجه من أن يدخلن المخنثين عليهن لما سمعه من فطنتهم لمحاسن النساء، فالخصيان بالمنع من الدخول على النساء أولى، وهم بذلك أحرى، واستخف أمر العبيد منهم إذا كانوا أوغادا ولم تكن لهم مناظر، كانوا للمرأة أو لزوجها أو لغيرهما؛ استحسانا، والقياس ما في رسم طلق بعد هذا من التفرقة بين أن يكون الخصي لها أو لزوجها أو لغيرهما؛ إذ لم يجعله من أولي الإربة.
وقد اختلف في غير أولي الإربة الذين عناهم الله بقوله: {أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإِرْبَةِ} [النور: 31] فقيل: هو الأحمق والمعتوه الذي لا يهتدي لشيء من أمور النساء، وقيل: هو الحصور والعنين الذي لا ينتشر ولا حاجة له في النساء، ولما كان الخصي مثله في المعنى، استخف مالك في هذه الرواية أن يدخل على المرأة إذا كان عبدا وغدا، وإن لم يكن لها ولا لزوجها، على أصله في مراعاة الخلاف، واستخف أن يرى فخذ الرجل مكشوفا عنها لما جاء من أن الفخذ ليس بعورة، وأما رؤية خادم المرأة فخذ الرجل منكشفا عنها فالمنع في ذلك بين لأن حكم المرأة في النظر إلى الرجل الأجنبي كحكم الرجل في النظر إلى ذوات محارمه، بدليل إباحة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لفاطمة بنت قيس أن تعتد عند ابن أم مكتوم الأعمى، ولا يجوز للرجل أن ينظر إلى فخذ أمه، وقد قيل: إنه لا يجوز للمرأة أن تنظر من الرجل إلا إلى ما يجوز للرجل أن ينظر من المرأه، ومن حجة هذا القائل أن الله تعالى قال: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور: 31] كما قال:

(4/288)


{قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور: 30] فوجب أن يتساووا فيما يجب عليهم من غض أبصارهم، ولا يلزمه ذلك لأن كل واحد منهم أمر أن يغض بصره عما لا يحل له النظر إليه، على ما بينته السنة، وما روي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لميمونة وأم سلمة إذ قالتا له وقد أمرهما أن يحتجبا من ابن أم مكتوم: أليس هو أعمى لا يبصرنا؟ أفعمياوان أنتما؟ ألستما تبصرانه» هو خاص في أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بدليل حديث فاطمة، والله أعلم وبه التوفيق.

[مسألة: النساء يطرفن أصابعهن بالحناء]
مسألة وسئل عن النساء يطرفن أصابعهن بالحناء، قال: لا بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: وجه السؤال عن هذا أن السائل خشي أن يكون ذلك من ناحية الوشم والتغيير لخلق الله الذي جاء فيه ما جاء، روي أن «عبد الله بن مسعود قال: لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله، ما لي لا ألعن من لعن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو في كتاب الله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر: 7] » فلم يره من ذلك، لأنه إذا جاز للمرأة أن تخضب جميع يديها بالحناء جاز لها أن تخضب منهما ما شاءت، أطراف أصابعها أو غير ذلك؛ إرادة التزين لزوجها، هذا الذي ذهب إليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقد جاء فيه النهي عن عمر بن الخطاب، روي عنه أنه خطب فقال: يا معشر النساء، إذا اختضبتن فإياكن والنقش والتطريف ولتختضب إحداكن يديها إلى هذا، وأشار إلى موضع السوار، وبالله التوفيق.

[مسألة: الرجل يتزوج المرأة بدروع وقراقل وثياب]
مسألة وسئل مالك عن الرجل يتزوج المرأة بدروع وقراقل وثياب

(4/289)


يدفعها إليها أتلبسها؟ قال: نعم إن بنى بها، قال: نعم هي مثل الدراهم، قال ابن القاسم: يريد أن ينتفع بالشيء الخفيف منها مخافة أن يطلقها.
قال محمد بن رشد: فلو لبستها حتى أبلتها ثم طلقها لوجب عليها نصف قيمتها على هذه الرواية، خلاف ما حكى ابن حبيب في الواضحة عن مالك وغيره، وخلاف ما في رسم الطلاق الأول من سماع أشهب من كتاب طلاق السنة، وخلاف ظاهر ما في المدونة لابن وهب. وهذا الاختلاف عندي جار على اختلافهم في وجوب النفقة على الزوج بالعقد وإن لم يدع إلى الدخول، فمن أوجب عليه النفقة والكسوة لم يلزمها فيما أبلت من الكسوة باللباس شيئا لأن ذلك كان واجبا لها عليه عنده، وكذلك ما أكلت من الصداق قبل الدخول يجري على هذا الاختلاف، بخلاف ما أدت منه في دين عليها، وسيأتي القول عليها في رسم نذر سنة.

[مسألة: تزوجها وشرط لها إن هو تسرر ما عاشت فكل امرأة يتزوجها طالق البتة]
مسألة وسئل مالك عن رجل تزوج امرأة وشرط لها وكتب عليه كتابا إن هو تسرر أو تزوج ما عاشت، فكل امرأة يتزوجها طالق البتة، وكل جارية يتسررها حرة لوجه الله العظيم، فطلقها البتة، ثم إنها تزوجت رجلا، ثم طلقها، ثم تزوجها بعدما طلقها، ثم أراد أن يتزوج أو يتسرر، فقامت عليه بكتابها وقالت: قد قلت: ما عشت، فليس لك أن تتزوج ما عشت ولا تتسرر، وقال الرجل: ليس هذا الذي أردت، إنما أردت ما كانت تحتي، ولم أرد أن أطلقك وأقيم لا أتزوج ولا أتسرى، قال مالك: أرى أن ينوى ويكون ذلك له، قال ابن القاسم: وقد قال هذا القول قبل ذلك بسنين سواء.
قال محمد بن رشد: جوابه في هذه المسألة على القول بأن اليمين على نية الحالف لا على نية المحلوف له، وتنويته إياه مع أن ذلك شرط عليه في أصل

(4/290)


النكاح، خلاف أصله في المدونة، فمن شرط لامرأته أن أمرها بيدها إن تزوج عليها أنه ليس له أن يناكرها، وقوله: إنه ينوي ويكون ذلك له، يريد مع يمينه، كذلك في سماع ابن القاسم من كتاب الأيمان بالطلاق في هذه المسألة إذا تطوع بذلك لامرأته من غير شرط، فهذا أحرى في وجوب اليمين وتنويته إياه مع أنه إنما تزوج عليها وهي في عصمته بعد أن طلقها ثلاثا وبعد أن تزوجت غيره على أصله في المدونة في أن من شرط لامرأته طلاق الداخلة عليها تنحل عنه اليمين لخروج زوجته عن عصمته بالثلاث، خلاف ما حكى ابن حبيب عن مالك من رواية مطرف عنه وعن ابن الماجشون وابن أبي حازم وغيره من كبار أصحاب مالك من أن اليمين لا تنحل عنه لأن الشرط في اليمين في الدخلة وليس فيها. ولو حلف بهذه اليمين متطوعا دون استحلاف ولا شرط لكانت له نيته على ما وقع في كتاب الأيمان بالطلاق من المدونة، ولا يكون له على القول بأن اليمين على نية المحلوف له وإن لم يكن مستحلفا، فيتحصل في المسألة ثلاثة أقوال: ينوى، ولا ينوى، والفرق بين الطواعية والشرط، وبالله التوفيق.

[مسألة: رجل تزوج امرأة وشرط لها ألا يخرج بها من المدينة إلا برضاها]
ومن كتاب أوله الشجرة تطعم بطنين في السنة قال: وسئل عن رجل تزوج امرأة وشرط لها ألا يخرج بها من المدينة إلا برضاها، فإن خرج بها بغير رضاها فأمرها بيدها، فخرج من المدينة على ليلة وأذنت له، ثم قالت له بعد أن خرجت معه وأقام بها في ذلك الموضع: ردني إلى المدينة، أترى لها ذلك؟ قال: نعم أرى لها ذلك.
قال محمد بن رشد: يحتمل أن يكون إنما وجب عليه أن يردها لأن المرأة تقول: إنما أردت بما اشترطت عليك أن لا تخرجني من المدينة إلا برضاي، ألا تسكن في سواها إلا برضاي، فإن كنت قد أذنت لك في أن تخرجني، فلا أرضى أن تسكن بي إلا في المدينة، فإما رددتني إليها وإما كان أمري بيدي،

(4/291)


فرأى ذلك مالك لها، وجعل التمليك على نيتها في ذلك، ويحتمل أن يكون رأى ذلك هو المعنى المقصود إليه بالإخراج لا نفس الإخراج، فحمل اليمين على ذلك ولم يلتفت إلى اللفظ، وكذلك قال في رسم المحرم من سماع ابن القاسم من كتاب الأيمان بالطلاق، وإن كان تطوع لها باليمين من غير شرط، فيحتمل أيضا أن يكون جعل اليمين على نيتها لأنها هي المحلوف لها، ويحتمل أن يكون راعى المعنى عنده ولم يلتفت إلى اللفظ؛ وفرق في رسم سلف من سماع عيسى، بين أن يتطوع لها في اليمين أو يكون شرطا عليه في أصل عقد النكاح، فقال: إنه إن كان تطوع لها باليمين لم يكن عليه أن يردها، بخلاف إذا شرط ذلك لها فجعل اليمين في الشرط على نيتها، وفي التطوع على نيته، وروى سحنون عن ابن القاسم في رسم سلف المذكور أنه ليس عليه أن يردها، وإن كان ذلك بشرط على ظاهر اللفظ، ووجه ذلك أنه حمل الشرط على ألا يسكن بها في غير المدينة إلا بعد أن ترضى بذلك، فرأى أنه إذا أذنت له أن يخرجها فقد رضيت أن يسكن بها في غيرها ولم يلتفت إلى تماديها على الرضى بذلك، فيتحصل في المسألة ثلاثة أقوال: أحدها أنه يلزمه أن يردها في الوجهين جميعا، والثاني أنه لا يلزمه أن يردها في الوجهين جميعا، والثالث الفرق بين الشرط والطواعية.

[مسألة: رجل تزوج امرأة وشرط لها إن تسرر عليها فامرأته طالق البتة]
مسألة وسئل مالك عن رجل تزوج امرأة وشرط لها إن تسرر عليها فامرأته طالق البتة فلما حضرته الوفاة قال لابن جارية له: هو ابني، قال مالك: أرى أن يلحق به الولد ويكون للمرأة ميراثها.
قال محمد بن رشد: وهذا بين على ما قال؛ لأن الرجل إذا استلحق ابنا في مرضه لحق به، فيلحق به الولد وتكون أمه أم ولد حرة من رأس المال، ويكون للمرأة ميراثها، لأنه كالمطلق في المرض إذ لم يعلم ما قال إلا بقوله في مرضه الذي مات منه، ولو صح من مرضه لبانت منه بإقراره ولم تحل له إلا بعد زوج، وبالله التوفيق.

(4/292)


[مسألة: النصراني يسلم وله أخت نصرانية فتريد التزويج أيزوجها هو]
مسألة وسئل عن النصراني يسلم وله أخت نصرانية فتريد التزويج، أيزوجها أخوها هذا المسلم؟ قال: أمن نساء أهل الجزية هي؟ قالوا: نعم، قال: لا يزوجها، قال الله تعالى: {مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنفال: 72] قال ابن القاسم: إذا كان الأخ والأخت معتقين فأسلم الأخ والأخت نصرانية فهو يزوجها، وإنما التي لا يزوج إذا كانت من أهل الصلح.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة يتحصل فيها عندي ثلاثة أقوال: أحدها أنها إذا كانت من أهل الصلح لم يجز لوليها المسلم أن يزوجها لأن أهل الصلح ولاتها دونه، وإن لم تكن من أهل الصلح كان له أن يزوجها، كان عليها جزية أو لم تكن، إذا لم تكن من أهل الصلح ولا داخلة معهم في جزيتهم، وهو قول مالك ها هنا على ما فسره ابن القاسم، فسواء على ظاهر قوله كان الأخ والأخت معتقين لمسلم، فلم يكن عليهما جزية، أو لنصراني فكانت عليهما الجزية، إذا كان النصراني الذي أعتقهما ليس من أهل الصلح، لأنه إن كان من أهل الصلح فمعتقه من أهل الصلح، والثاني أنه لا يجوز أن يزوجها، كانت من أهل الصلح أو لم تكن، كانت عليهما جزية أو لم تكن، وهو قول ابن القاسم في رسم باع شاة لأنه قال فيه: لا يزوج المسلم النصرانية، كانت أخته أو ابنته أو مولاته، لا يزوج المسلم النصرانية لا مسلما ولا نصرانيا، ومولاته لا جزية عليها وإن كان أعتقها وهو مسلم، والثالث أنه يزوجها، كانت من أهل الصلح أو لم تكن، كانت عليها جزية أو لم تكن، إلا أن تكون من أهل الصلح، فيكون هو أولى بتزويجها منه إن شاحوه في ذلك لأنهم إنما صالحوه وبذلوا الجزية على أن يخلي بينهم وبن نسائهم، وهو قول ابن القاسم في سماع زونان وأصبغ، وقول أصبغ في الواضحة، وذهب ابن لبابة إلى أنه لا اختلاف في المسألة وأن أقوالهم ترجع إلى أنها إن كانت ممن عليها جزية فلا يزوجها المسلم، كانت

(4/293)


من أهل الصلح أو لم تكن، وإن لم تكن عليها جزية فيزوجها، بأن يحمل رواية عيسى في رسم باع شاة على أنه أراد مولاته التي أعتقها وهو نصراني ويحمل ما في سماع زونان على أنهما معتقان لمسلم، وبالله التوفيق.

[البكر تقيم مع زوجها الستة الأشهر فيعترض له عنها ثم يطلقها زوجها]
ومن كتاب أوله ليرفعن أمرا إلى السلطان قلت لابن القاسم: أرأيت البكر تقيم مع زوجها الستة الأشهر، فيعترض له عنها ثم يطلقها زوجها، أترى لأبيها أن يزوجها من غير أن يؤامرها؟ قال: أرى أن يؤامرها، قال: فإن زوجها ولم يؤامرها رأيت النكاح جائزا.
قال محمد بن رشد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: استحب أن يستأمرها إذا أقامت مع زوجها الستة الأشهر أو نحوها مراعاة لقول من لا يرى للأب أن يزوج ابنته البكر إلا برضاها، بظاهر قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الأيم أحق بنفسها من وليها» إذ الأب ولي من الأولياء، والأيم يقع على من لا زوج لها، كانت بكرا أو ثيبا، فإن لم يفعل وزوج مضى النكاح، وهذا إذا أقرت بذلك على نفسها قبل أن يزوجها أو بقرب ما زوجها، وأما إن زوجها وهي غائبة بعيدة الغيبة أو حاضرة فلم يعلم حتى طال الأمر، فإنها تتهم على إمضاء النكاح بإقرارها على نفسها أن زوجها الذي دخل بها لم يصبها. وأما التي لم تقم مع زوجها إلا اليسير الشهر أو الشهرين، فهي بمنزلة التي لم يدخل بها زوجها، لا وجه للاستحباب في ذلك عنده، قاله مالك في رسم إن خرجت، من سماع عيسى، وأما إذا أقامت مع زوجها العام فما فوقه فهي بمنزلة الثيب لا يزوجها إلا برضاها، فإن لم يستأمرها لم يلزمها النكاح، قاله في المدونة.

[مسألة: امرأة تزوجت رجلا شرطت عليه ألا يخرج بها إلا برضاها أو رضى أبيها]
مسألة وسئل مالك عن امرأة تزوجت رجلا شرطت عليه ألا يخرج

(4/294)


بها إلا برضاها أو رضى أبيها، قال مالك: لا أدري ما رضاها أو رضى أبيها؟ إن كان الشرط برضاها مع رضى أبيها فليس له أن يخرج بها حتى يرضيا، وإن كان رضاها وحدها فله أن يخرج بها إذا رضيت، فقال له زوجها: إنها بكر ولم أدخل بها بعد، قال: لا يضرك ذلك، والبكر والثيب يا هذا سواء، إذا رضيت البكر وكان الرضى لها دون أبيها فله أن يخرج بها.
قال محمد بن رشد: لم يذكر في السؤال أن الشرط مقيد بطلاق ولا تمليك، وإيجاب مالك عليه إن كان الشرط برضاها مع رضى أبيها، ألا يخرج بها حتى يرضيا جميعا، يدل على أنه إنما تكلم على أن الشرط مقيد بطلاق على ما في رسم إن أمكنتني، من سماع عيسى من كتاب الأيمان بالطلاق، ولو كان الشرط مقيدا بتمليك لكان الاعتبار رضاها دون رضى أبيها لأن الشرط إنما أخذ لها، فإن رضيت أن يخرج بها وكانت هي المملكة كان ذلك إسقاطا لحقها، وإن كان الأب هو المملك كان ذلك منه رضى بالبقاء مع زوجها وأمر الأب باتباع رأيها إلا أن يبدر فيطلق قبل أن ينهاه السلطان فينفذ الطلاق على ما يأتي في رسم استأذن من سماع عيسى. وإن كانا جميعا مملكين لم يكن له أن يطلق دونها إذ قد رضيت هي بإسقاط حقها، ولو خرج بها دون رضاهما جميعا لم يكن لأحدهما أن يقضي بالفراق دون صاحبه لأنهما جميعا مملكان فيه، فليس لأحدهما أن ينفرد به، ولو لم يكن الشرط مقيدا بشيء لم يلزم ذلك الزوج بحكم على مذهب مالك وجميع أصحابه إلا أنه يستحب له الوفاء به عندهم لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أحق الشروط أن توفوا بها ما استحللتم به الفروج» وإنما توقف مالك في شرط الرجل لامرأته أن لا يخرج بها إلا برضاها أو رضى أبيها فقال: لا أدري ما رضاها ورضى أبيها، إلى آخر قوله؛ لأن لفظة (أو) لها مواضع في وضع اللسان يصلح منها ثلاثة في هذا المكان، أحدها أن يكون أراد بها التخيير بين الرضاءين، كقول الله عز وجل:

(4/295)


{فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة: 89]
فيكون له أن يخرج بها برضا من رضي منهما، والثاني أن يكون أراد بها الجمع بين الرضاءين بمعنى الواو، كقوله عز وجل: {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} [الإنسان: 24] يريد: ولا كفورا، أو كقوله في الحديث: «مع ما نال من أجر أو غنيمة» إذ لا ينبغي الأجر مع الغنيمة، فلا يكون له أن يخرج بها إلا برضاهما جميعا، والثالث أن يكون أراد بها إبهام أي الرضاءين أراد، كما يقول الرجل: أنا أعلم إن كنت صحيحا أو مريضا، فيكون له أن يخرج بها إذا رضيت إن كان أراد رضاها وحدها، وأن يخرج بها إذا رضي أبوها إن كان أراد رضاه وحده، فلما احتمل لفظ الزوج عنده هذه الوجوه توقف عن الجواب فيه، وأجاب على الصريح في الشرط باستثناء رضاهما معا أو رضى أحدهما دون صاحبه. والوجه في هذا اللفظ المحتمل الذي توقف مالك عن الجواب فيه أن يحمل على أظهر محتملاته وهو التخيير، فيكون له أن يخرج بها برضا من رضي منهما، وبالله التوفيق.

[مسألة: رجل كانت تحته امرأة فخطب أختها على ابنه]
مسألة وسئل مالك عن رجل كانت تحته امرأة فخطب أختها على ابنه فقالت له عمتها: أعلى صداق أختها؟ قال: لن أقصر بها إن شاء الله، فزوجوه، ثم إن الابن طلقها، قال: أمقر هو بذلك؟ قال: نعم، قد قلت هذا القول ووعدتهم، ولم أوجب على نفسي صداقا، فرأيته يراه عليه قال مالك مرة: فليصطلحوا، وكان يراه عليه شبيها بالإيجاب ولم يبينه، قال ابن القاسم: أرى ذلك عليه إذا زوجوه على ذلك، وذلك كأنه إنما تزوج على المكافأة، قال سحنون مثله.
قال محمد بن رشد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أما إذا كان قولهم: قد زوجناك، جوابا

(4/296)


لقوله: لن أقصر بها عن صداق أختها، فبين أن ذلك يلزمه كما قال ابن القاسم؛ لأنه بمنزلة أن لو قالوا له: نزوجك على أن لا تقصر بها عن صداق أختها. وأما إن انقطع ما بين الكلامين فالأمر محتمل، والأظهر إيجاب ذلك كما ذهب إليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وإن كان لم يبينه؛ لأن ذلك أقوى من العدة الخارجة على سبب، وفي التفسير ليحيى عن ابن القاسم أنه يحلف ما أراد إيجاب ذلك على نفسه ولا يلزمه شيء، فإن نكل غرم نصف الصداق. ووجه ذلك أنه رأى قوله: لن أقصر بها إن شاء الله، عدة لا تلزم، فلم يلزمه شيء إذا حلف أنه لم يرد إيجاب ذلك على نفسه، وحلفه بالتهمة دون تحقيق الدعوى، ولذلك لم يرد اليمين في ذلك بقوله على القول في لحوق يمين التهمة وإنها لا ترجع، وقد اختلف في الوجهين.

[مسألة: حكم سفر الرجل بامرأة أبيه]
مسألة وسئل مالك عن سفر الرجل بامرأة أبيه: أتراه ذا محرم؟ فقال: قال الله تعالى: {أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ} [النساء: 23] فأتم الآية، وقال: هؤلاء ذوو المحارم، فأما الرجل يكون أبوه قد طلق المرأة وتزوجت أزواجا، ثم يريد أن يسافر بها فلا أحب ذلك، وكره ذلك، قال ابن القاسم: وما يعجبني أن يسافر بها، فارقها أبوه أو لم يفارقها، وإنما كان هذا من مالك حجة ولم أره يعجبه.
قال محمد بن رشد: احتجاج مالك بالآية يدل على أنه حمل قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تسافر امرأة مسيرة يوم وليلة إلا مع ذي محرم منها» على عمومه في جميع ذوي المحارم من نسب أو رضاع، وكراهيته أن يسافر بها إذا

(4/297)


كان أبوه قد طلقها وتزوجت الأزواج استحسان مخافة الفتنة عليه، إذ ليست في تلك الحال زوجة لأبيه، وكره ابن القاسم أن يسافر بها، فارقها أبوه أو لم يفارقها؛ لاحتمال أن يكون أراد النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بقوله: «لا تسافر امرأة مسيرة يوم وليلة إلا مع ذي محرم منها» ذوي محارمها من النسب دون الصهر، فقول مالك في حمل الحديث على ظاهره من العموم أظهر، وقول ابن القاسم أحوط، وبالله التوفيق.

[مسألة: وصية الرجل بتزويج ابنته]
مسألة قال: وسئل مالك عن الرجل تحضره الوفاة فيقول: إن ابن أخي قام مع ولدي في تركتي حتى يبلغوا، فقد وصلته بابنتي، فلما هلك ترك ابن أخيه القيام في ذلك وغاب إلى بلد آخر، فسئل مالك عن ذلك فقال: أراه قد ترك الذي اشترط عليه عمه من ذلك ولا أرى له نكاحا إلا أن تشاء الجارية أن تنكحه نكاحا جديدا، وكان أبوهم قد ترك الجارية وأخاها وهما صغيران لم يبلغا ثم بلغا وسألا مالكا عن ذلك فقال: إذا لم يقم فلا أرى نكاحه إلا منتقضا، ولتنكح إن شاءت، قال ابن القاسم: ولو قام بالذي أوصى عمه لرأيت أن يزوج ويكون على ابن الأخ الصداق، وقد سمعت مالكا غير مرة وهو يسأل ونزلت به عن الرجل يوصي أن تزوج ابنته ولا يزوجها هو، وإنما أوصى أن تزوج، فرأى أن ينفذ ما أوصى به من ذلك، وقد كان بعض الناس يقول: ليس ما أوصى به مثل ما زوج، فرأيت مالكا أنفذه وأمر به، ورآه واحدا ولم يختلف عنده مثل ما يقول: زوجوها ابن أخي، أو زوجوها فلانا.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن ما جاز للرجل أن يوصي به دون شرط جاز له أن يوصي به على شرط، فإذا كان للرجل أن يوصي أن تزوج ابنته من ابن أخيه جاز له أن يوصي أن تزوج منه إن قام في تركته مع

(4/298)


ابنه لأن قوله: فقد وصلته بابني، يرجع إلى معنى الوصية بتزويجها منه إن فعل ذلك، وذلك بين من قول ابن القاسم: ولو قام بالذي أوصى عمه لرأيت أن يزوج ويكون عليه الصداق، وظاهر ما حكي عن بعض الناس أن وصية الرجل بتزويج ابنته لا يجوز، سمى الزوج أو فوض إلي الموصى إليه الاجتهاد في ذلك، خلاف المشهور من مذهب مالك في الوجهين، وقد مضى في رسم شك في طوافه من رواية علي بن زياد عن مالك ما يدل على الفرق بين الوجهين، فهو قول ثالث في المسألة، وقد اختلف إذا قال الرجل في حياله إن فعل فلان كذا فقد زوجته ابنتي فقال مالك في رسم سن بعد هذا في الذي يقول إن جاءني فلان بخمسين دينارا فقد زوجته ابنتي: لا يعجبني هذا النكاح ولا تزويج له، ظاهره وإن جاء بالخمسين بالقرب، فعلى هذا إذا زوج الغائب القريب الغيبة لم يجز نكاحه وإن رضي بالقرب، ولأشهب في كتاب ابن المواز في الذي يقول للخاطب: إن فارقت امرأتك فقد زوجتك، أن النكاح يجوز، فجعله ينعقد بنفس الفراق، قال: ولو قال: إن فارقت امرأتك زوجتك، كانت خدعة، ولم يلزمه تزويجه، وأحب إلي أن يفي، قال أبو إسحاق التونسي: وإذا لم ير النكاح منعقدا بنفس الفراق فقد كان القياس أن يجبره على أن يزوجه على أصولهم فيمن أخرج عن يده شيئا بوعد وعد به، وإن لم يوجبه الواعد على نفسه، أن ذلك لازم له، بخلاف الوعد المجرد مثل أن يقول: بع فلانا فرسك والثمن علي، أو اهدم دارك وأنا أعطيك كذا وكذا، إن هذا لازم، وما أشبه ذلك، وهذا إن عد طلاقه للمرأة رضى بالعقد وأنهما لا يحتاجان إلى تجديد عقد، وإن لم يعد طلاقه للمرأة رضى بالعقد صار نكاحه فيه خيارا لأحدهما، فوجه ما في رسم سن أنه لم يعد مجيئه بالخمسين دينارا رضى بالعقد، فرآه نكاحا انعقد على خيار أحدهما، فهذا توجيه كل واحد من القولين، وهذا الاختلاف إنما يصح عنه إذا أراد: إن فعلت ذلك بالقرب، ولو قال: متى ما فارقت امرأتك فقد زوجتك، أو: متى ما أتيتني بخمسين دينارا فقد زوجتك، لم يجز النكاح قولا واحدا، والله أعلم، ويأتي في رسم الصبرة من سماع يحيى القول في الذي يقول: إن مت من مرضي فقد زوجت ابنتي من ابن أخي، إن شاء الله.

(4/299)


[مسألة: العبد يزوج ويشترط على سيده النفقة]
مسألة قال: وسئل مالك عن العبد يزوج ويشترط على سيده النفقة، قال مالك: لا يجوز، لو هلك ذهب الشرط، ولو جاز هذا لأخذ لها نفقتها من ميراث السيد، فهذا النكاح يفسخ، قال ابن القاسم: ومعنى قوله - فيما نرى والله أعلم - إذا لم يدخل بها، قال عيسى: قلت لابن القاسم: فإذا دخل بها؟ قال: يثبت النكاح وتكون النفقة على العبد ويسقط الشرط عن السيد.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول في هذه المسألة في رسم حلف أن لا يبيع سلعة سماها موعبا، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.

[مسألة: أعتق أم ولده وأعطاها عشرة دنانير صداقا ثم دخل بها]
مسألة قال: وسئل مالك عن رجل أعتق أم ولده وأعطاها عشرة دنانير صداقا شرطا عليها قبل أن يعتقها ثم دخل بها، قال مالك: هذا نكاح مفسوخ، فإن كان دخل بها رأيت أن يفارقها ثم يستبرئ رحمها ثم يتزوجها بعد إن أحبت وتكون لها العشرة التي أخذت بالمسيس.
قال محمد بن رشد: خرج البخاري عن أنس بن مالك أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أعتق صفية وجعل عتقها صداقها» ورأى ذلك مالك من خواص النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنه نكاح بغير صداق كالموهوبة التي خص بها دون المؤمنين، فلم يجز لأحد أن يفعله، واختلف إذا وقع ذلك فقيل: إنه نكاح فاسد لصداقه لوقوعه دون صداق، إذ لا يكون العتق صداقا، فيفسخ قبل الدخول ويثبت

(4/300)


بعده ويكون فيه صداق المثل، وإلى هذا ذهب الفضل، وعليه حمل قول ابن حبيب، فعلى هذا يجوز النكاح إذا سميا فيه صداقا كمسألة الكتاب، وقيل: إنه نكاح فسد لعقده فيفسخ قبل الدخول وبعده ويكون فيه الصداق المسمى إن كان سمي فيه صداق، وهو قول مالك في مسألة الكتاب، ووجه هذا الاختلاف أنه لما أعتقها على أن يكون عتقها صداقها احتمل أن يكون وقع العتق قبل النكاح وأن يكون وقع النكاح قبل العتق، فمن تأول أن العتق وقع قبل النكاح رآه نكاحا فسد لصداقه إذ وقع بغير صداق، ومن تأول أن النكاح وقع قبل العتق رآه نكاحا فسد لعقده إذ وقع وهي أمة له مملوكة، ونكاح الرجل مملوكته لا يحل، وقال مالك في الواضحة وكتاب ابن المواز: إنه نكاح فاسد إذ لا يدرى إن كان نكاحه وقع وهي أمة أو حرة، وذلك يرجع إلى أنه نكاح فسد لعقده، والأظهر أنه فسد لعقده لأن اللفظ يقتضي وقوعهما معا، وذلك يوجب أن يكون وقوع النكاح قبل كمال الحرية، وقيل: إنه ليس بنكاح منعقد، وإنما شرط عليها ما لا يلزمها، فإن رضيت بتزويجه بعد نفوذ العتق لها جاز، وإن لم ترض لم يكن بينهما نكاح يحتاج إلى فسخه. فإن لم يعثر على ذلك حتى بنى بها مضى النكاح بشبهته، وكان لها صداق المثل، وهذا ظاهر قول ابن حبيب في الواضحة، وفيه نظر، إذ كان القياس على هذا القول أن يفرق بينهما بعد البناء لابتنائه بها على غير عقد منعقد إلا بما ظناه من أن النكاح قد كان لزمهما وانعقد بينهما، والصواب أنه نكاح فاسد إما لصداقه وإما لعقده على ما قلناه، وإنما يكون غير منعقد إذا أعتقها على أن يتزوجها بعد العتق، ومن الناس من ذهب إلى أنه يجوز أن يجعل الرجل عتق الأمة صداقها، قال: لأنه إذا جاز أن يعتقها على مال يجب له عليها بعد العتق جاز أن يعتقها على أن تكون زوجة له بذلك، وهذا لا يلزم لأنه إذا أعتقها على مال فقد ملكته بما ملكها من عتقها ما لم يكن مالكا له قبل عتقها، فصحت المعاوضة في ذلك، وإذا أعتقها على أن تكون زوجة له بذلك فلم تملكه بما ملكه من عتقها إلا البضع، وقد كان مالكا له قبل، فلم تصح المعاوضة ولا وجب له عليها بعتقها شيء يكون صداقا. ومن الناس من ذهب إلى أنه إذا أعتقها على أن

(4/301)


يكون عتقها صداقها، لا تكون زوجة له إلا بنكاح مستأنف بعد العتق يملكه عليها بصداق يجب له عليها بالعتاق، وهو فاسد إذ لو وجب له عليها صداق بعتقها لكان له أن يأخذها به إن شاء ويترك النكاح، فإذا لم يجب ذلك له فكيف يتزوجها على غير مال؟ ومن الناس من ذهب إلى أنه إذا أعتقها على أن يكون عتقها صداقها لا تكون زوجة له إلا برضاها بذلك بعد العتق، فإن لم ترض كان عليها أن تسعى له في قيمتها، فإن رضيت كانت زوجة له بما يجب له عليها من السعاية في قيمتها، وإن طلقها قبل الدخول سعت له في نصف قيمتها، وإلى هذا ذهب أبو يوسف، واحتج بهذه الحجة، ولا يلزم إلا لمن يتابعه على وجوب السعاية عليها في قيمتها إن لم ترض بالنكاح، فتحصيل القول في هذه المسألة أن في ذلك قولين: أحدهما أن ذلك لا يجوز، وهو مذهب مالك وجميع أصحابه، قيل: لأنه نكاح بغير صداق، فإن وقع كان حكمه حكم ما فسد لصداقه، وقيل: لأنه نكاح وقع قبل كمال العتق بما اقترن به من الشرط، فإن وقع كان حكمه حكم ما فسد لعقده ويكون فيه الطلاق والميراث مراعاة للاختلاف، وقيل: إنه ليس بنكاح لأنه شرط عليها ما لا يجوز ولا يلزمها، فيفرق بينهما دخل أو لم يدخل، بغير طلاق، ولا ميراث فيه، وقيل: إنه إن دخل يمضي لشبهة العقد، وهو بعيد على هذا القول، وبالله التوفيق، لا شريك له.

[مسألة: تحته امرأة ولها صاحبة معها في البيت وزوج المرأة يدخل في بيته]
مسألة قال: وسئل مالك عن رجل تحته امرأة ولها صاحبة معها في البيت، وزوج المرأة يدخل في بيته وصاحبتها قاعدة معها، قال: لا بأس بذلك إذا أكفت عليها ثيابها.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال، لأنه لا حرمة بينه وبينها، فإذا أكفت عليها ثيابها واستترت منه كما قال الله عز وجل: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور: 31] الآية، لم يكن عليه بأس في الدخول عليها في بيته

(4/302)


وهي قاعدة فيه مع أهله، إذ لو لم يحل له ذلك لكان من الحرج في الدين الذي قد رفعه الله عن عباده بنص التنزيل، وبالله التوفيق.

[الرجل يزوج ابنه ويدفع الصداق ثم يطلق الابن زوجته قبل الدخول]
ومن كتاب طلق بن حبيب قال: وسئل مالك عن الرجل يزوج ابنه ويصدق عنه ويدفع الصداق إلى المرأة، ثم يهيج بين الابن والمرأة شيء ثم يطلقها قبل أن يدخل بها، لمن ترى نصف الصداق؟ أللأب أم للابن؟ قال: للأب وليس للابن منه شيء قال ابن القاسم: والأجنبي مثله.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن الأب لم يهب ابنه شيئا وإنما ودى عنه ما وجب لزوجته عليه، فإذا طلقها قبل الدخول وجب أن يرجع نصف الصداق إلى الأب لأن الزوجة لم يجب لها، وهذا بين على القول بأن المرأة لا يجب لها بالعقد إلا نصف الصداق، وأما على القول بأنه يجب لها بالعقد جميع الصداق فيلزم على قياس قول ابن الماجشون أن يكون نصف الصداق للابن دفعه الأب إلى المرأة أو لم يدفعه إليها، وفي الواضحة قال ولو ألفى النكاح مفسوخا قبل البناء ففسخ سقط الصداق عن الحامل، وإن كان قد دفعه رجع إليه كله، قال ولو كان النكاح صحيحا فتباريا على المتاركة قبل البناء فإن ابن القاسم قال: يرجع جميع الصداق إلى الحامل إن كان قد أعطاه ويسقط عنه إن كان لم يعطه، وقال ابن الماجشون يرجع إلى الحامل النصف الذي يسقط عن الزوج بالطلاق قبل البناء، ويرجع إلى الزوج النصف الذي أوجب الله للمرأة بطلاقها قبل البناء قال عبد الملك: وبه أقول لأن ذلك النصف بمنزلة الجميع إذا باراها على رده بعد البناء وهو كله للزوج، وليس للحامل منه شيء، وهو القياس، ووجه قول ابن القاسم أن المرأة لم تملك بالعقد جميع الصداق ولا نصفه أيضا ملكا مستقرا إذ قد يسقط جميعه بالارتداد فليس استحقاق المرأة نصف الصداق بالعقد كاستحقاقها لجميعه بالدخول، وبالله التوفيق.

(4/303)


[مسألة: الرجل تكون له أم الولد الشابة فيعتزلها ويتزوج فيريد أن يزوجها]
مسألة وسئل مالك عن الرجل تكون له أم الولد الشابة فيعتزلها ويتزوج، فيريد أن يزوجها فلا ترضى بذلك، قال: ليس له أن يزوجها إذا لم ترض، وإنما له متعتها، أن يطأها، فإن لم يكن له بها حاجة فليعتقها، وما علمت أن أحدا من أهل الفضل والفقه فعل ذلك بأم ولده، وإن هذه الأخلاق دنية، فقيل له: فليس له أن يزوجها إذا كرهت؟ قال: ليس ذلك له.
قال محمد بن رشد: لهذا رجح مالك أنه ليس له أن يجبرها على النكاح، وكان أولا يقول: إن له أن يزوجها بغير رضاها إذا زوجها ممن يشبهها من العبيد، فإن زوجها وغدا من العبيد وهي ذات حال في الجمال والشباب والعقل، لم يجز ذلك عليها لأنه حينئذ مضارها، وهو قول ابن المواز، ودليله ما في كتاب إرخاء الستور من المدونة، وجه قوله الأول أن أصلها الرق، وما فيها من الحرية تبع للرق الذي هو الأصل فيها، فيزوجها كما يطؤها وينتزع مالها، ووجه القول الذي رجع إليه أن الحرية قد سرت إليها بولدها، ودل على ذلك «قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أم ولد: أعتقها ولدها» فلم يبق له فيها من الرق إلا ما أباح له الشرع من الاستمتاع بها طول حياتها فلم يكن له أن يزوجها.

[مسألة: نظر الرجل إلى المرأة عند الزواج]
مسألة وسئل مالك عن الرجل يريد تزويج المرأة فيريد أن يغتفلها النظر، إما من الكوة ونحوها لينظر إلى جمالها، قال: ليدخل عليها بإذن، قال: قلت: لا يريد ذلك وإنما يريد أن يغتفلها، فقال: ما سمعت فيه شيئا، فقيل: إن قوما يحدثون في ذلك بأحاديث فقال: وما ذلك؟ قلت له: يقولون: إن له ذلك، قال: وما سمعت، وإني لأكره ذلك.
قال محمد بن رشد: قد جاءت في اغتفال الرجل النظر إلى المرأة إذا

(4/304)


أراد أن يتزوجها آثار، من ذلك ما روي «عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إذا خطب أحدكم المرأة، فقدر على أن يرى منها ما يعجبه فليفعل قال جابر: فلقد خطبت امرأة من بني سلمة فكنت أتخبأ لها في أصول النخل حتى رأيت منها بعض ما يعجبني، فخطبتها فتزوجتها» ولم يسمع ذلك مالك ولا صح عنده فكرهه، وأجاز ذلك ابن وهب، ولم ير به بأسا للآثار المروية فيه. وسئل أصبغ عنه وقيل له: بلغنا أن ابن وهب روى عن مالك إجازته فقال: لم يكن ابن وهب يرويه وإنما كان يقول برأيه ورواية الأحاديث.
وأما نظر الرجل إلى وجه المرأة بإذنها دون أن يغتفلها إذا أراد نكاحها، فأجازه مالك، كما يجوز له النظر إلى وجهها في الشهادة لها وعليها، ومن أهل العلم من لم يجز ذلك له، واحتج بما روي من أن «الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لعلي: إن لك كنزا في الجنة وإنك ذو قرنيها، فلا تتبع النظرة النظرة، فإنما لك الأولى وليست لك الثانية» قال: فلما حرم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النظرة الثانية لكونها باختيار الناظر بخلاف الأولى التي كانت فجأة بغير اختياره، دل أنه لا يجوز لأحد أن ينظر إلى وجه امرأة إلا أن يكون بينه وبينها من النكاح أو الحرمة ما يبيح له ذلك، وقول مالك هو الصواب لأنه إنما حرم من النظر إلى وجه المرأة ما كان لغير معنى يبيحه من نكاح أو شهادة، وأما استغفاله النظر إليها فإنما كرهه مالك مخافة أن يرى منها بعض عورتها، ومن أجاز ذلك للأحاديث المروية فيه فإنما يجيزه إذا أمن ذلك، وبالله التوفيق.

[مسألة: المرأة أيدخل عليها خصيها أو خصي زوجها صغيرا كان أو كبيرا]
مسألة وسئل مالك عن المرأة أيدخل عليها خصيها أو خصي زوجها، صغيرا كان أو كبيرا؟ قال: أما ما تملك، فلا بأس به، وأما خصيان زوجها فإني أرجو أن يكون خفيفا، قيل له: فخصيان غيره؟ فكأنه كرهه وقال: خصيان زوجها أبين عندي، قال ابن القاسم:

(4/305)


وأحب إلي فيما لا يملكه منهم، من خصيان زوجها وغيرهم ممن بلغوا الحلم، ألا يرى شعرها ولا شيئا من زينتها إلا وجهها، وأما ما يملك فلا بأس به.
قال محمد بن رشد: استخف أمر خصيان زوجها للمشقة الداخلة عليها في الاحتجاب منهم مع كثرة ترددهم وتطوافهم، وقول ابن القاسم أقيس، وقد مضى من القول في هذه المسألة في رسم شك في طوافه ما يبين معناها، وبالله التوفيق.

[مسألة: رجل خطب امرأة وشرط لها في نكاحها ألا يتزوج عليها وأن لا يتسرى]
مسألة وسئل مالك عن رجل خطب امرأة وشرط لها في نكاحها ألا يتزوج عليها وأن لا يتسرى، فإن فعل فهي طالق، وأحضر لذلك شهودا ثم تفرقوا، وترك ذلك وقد شهد الشهود على إقراره وكتبوا بذلك كتابا وقبضت المرأة الكتاب، ثم خطبها بعد ذلك فتزوجها وأشهد شهودا غير الأولين الذين كانوا شهدوا على الإقرار، فقامت المرأة تطلب ذلك الشرط وقال الرجل: قد تركت الأمر الأول ونكحت نكاحا جديدا على غير شرط، قال: من يعلم ذلك؟ أله بذلك بينة؟ قال: لا، قال: ذلك يلزمه إلا أن تكون له بينة.
قال محمد بن رشد: معنى هذه المسألة أن النكاح لم يتم أولا وإنما خطبها على ما سمى من الشروط وكتب في كتاب وقبضت المرأة الكتاب لتنظر، ثم ترك الخطبة زمانا ثم عاد إليها فتزوجها ولم تذكر الشروط ثانية، فقال: إنها له لازمة لأن الخطبة الثانية مبنية على الأولى التي ذكر فيها الشروط إلا أن تكون له بينة أنه إنما خطبها الثانية وتزوجها على غير شرط، ولو كان النكاح قد تم أولا وانعقد على الشرط ثم طلقها وخطبها ثانية فتزوجها لكانت الشروط بالطلاق لازمة لها ما بقي من ذلك الملك شيء، وإن اشترط أنها لا تلزمه، إذ ليس للمرأة أن تسقط عنه ما قد لزمه من الأيمان بالطلاق، وبالله التوفيق.

(4/306)


[مسألة: الوليمة لإثبات النكاح]
مسألة قال مالك: كان ربيعة بن أبي عبد الرحمن يقول: إنما يستحب الطعام في الوليمة لإثبات النكاح وإظهاره ومعرفته لأن الشهود يهلكون.
قال محمد بن رشد: يريد أن هذا هو المعنى الذي من أجله أمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالوليمة وحض عليها بقوله لعبد الرحمن بن عوف: «أولم ولو بشاة» وما أشبه ذلك من الآثار، وقوله صحيح، يؤيده ما روي «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مر هو وأصحابه ببني زريق فسمعوا غناء ولعبا فقال: ما هذا؟ فقالوا: نكح فلان يا رسول الله، فقال: كمل دينه، هذا النكاح لا السفاح ولا نكاح السر حتى يسمع دف أو يرى دخان» والله الموفق.

[مسألة: الإتيان إلى الوليمة]
مسألة وسئل مالك عن الإتيان إلى الوليمة، فقال: أرى أن يأتيها، فقيل له: ربما كان الزحام فيكره ذلك لموضعه، فقال: إن كان الزحام فإني أرى له في ذلك سعة، فقيل له: فيجيب وإن كان صائما؟ قال: نعم، أرى أن يجيب، أكل أو لم يأكل.
قال محمد بن رشد: قوله: أرى أن يأتيها، يريد: ولا سعة له في التخلف عنها إذا دعي إليها لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا دعي أحدكم إلى الوليمة فليأتها» وقوله: «ومن لم يأت الدعوة فقد عصى الله ورسوله» ،

(4/307)


يريد بالدعوة دعوة الوليمة في العرس لأنها المشار إليها إذ هي المتقدمة المذكورة في الحديث فلا رخصة لأحد في التخلف عنها إلا من عذر، ورأى أن الزحام عذر رأى له في التخلف بسببه سعة لأن تقحمه إياه مؤذ له ومضر به، وقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا ضرر ولا ضرار» ، فهو مخصص لعموم أمره بالإتيان إلى الوليمة، وكذلك يخصص بالشرع من عموم أمره بالإتيان إليها في حال يكون فيها من اللهو ما لا يجوز حضوره في غيرها خلافا لأبي حنيفة في قوله: إنه لا يسعه التخلف عنها لذلك؛ إذ قد أمر بالإتيان إليها أمرا عاما لم يقع فيه ثنيا، وقوله: أرى أن يجيب أكل أو لم يأكل، يريد أن الإجابة تلزمه، كان صائما أو مفطرا، فإن كان صائما صلى كما جاء في الحديث؛ أي دعا، وإن كان مفطرا فليس عليه بواجب أن يأكل، وإنما يستحب له ذلك ويندب إليه، لأن أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالأكل فيما روي عنه من قوله: «إذا دعي أحدكم فليجب، فإن كان مفطرا فليأكل وإن كان صائما فليصل» محمول على الندب عند مالك، بدليل قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في حديث آخر: «إذا دعي أحدكم فليجب فإن شاء أكل وإن شاء ترك» ، وأهل الظاهر يوجبون عليه الأكل بظاهر الحديث الأول، وما ذهب إليه مالك من استعمال الحديثين أولى من اطراح أحدهما.
وأما ما سوى وليمة العرس من الدعوات فمنها ما تستحب الإجابة إليه، ومنها ما يكره، ومنها ما يحرم على ما قد مضى القول فيه في سماع أشهب من كتاب الصيام خلافا لأهل الظاهر في إيجابهم إجابة الداعي جميع الدعوات بظاهر قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ومن لم يأت الدعوة فقد عصى الله ورسوله» ، وسيأتي في رسم الطلاق الثالث من سماع أشهب القول في وجه تفرقة مالك بين الوليمة والسابع، وبالله التوفيق.

(4/308)


[مسألة: يهوى المرأة فيتزوجها ليقضي منها لذته وليس من شأنه أن يمسكها]
مسألة وسئل مالك عن الرجل يهوى المرأة فيريد أن يتزوجها فيقضي منها لذته، وليس من شأنه أن يمسكها إذا قضى منها لذته، ويفارقها بعد أن يشتفي منها، قال: لا بأس بذلك، وليس هذا بجميل من أخلاق الناس، ولا أحسب إلا أن من النساء من لو علمت بذلك لم ترض أن تتزوج مثل هذا. قال مالك: وهذا بالعراق النهارية، فقيل لمالك: ما النهارية؟ فقال: قوم يتزوجون على أن لا يأتيها إلا نهارا ولا يأتيها ليلا، قلت له: ما سمعت بهذا، قال: بلى، هذا فيهم قديم، قيل لمالك: أفتكره ذلك؟ قال: نعم مكروه ولا خير فيه، قال عيسى: فإن وقع فسخ قبل البناء وبعده.
قال محمد بن رشد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أما الذي يتزوج المرأة ونيته أن يقضي منها لذته ويفارقها، فلا بأس بذلك كما قال، إذا لم يظهر ذلك ولا اشترطه، إذ قد ينكح المرأة ونيته أن يفارقها ثم يبدو له فلا يفارقها، وينكحها ونيته ألا يفارقها ثم يبدو له فيفارقها، ألا ترى أن الرجل لو نوى طلاق امرأته إلى مدة يشتفي منها إليها، لم يؤثر ذلك في جواز بقائه معها، والأصل في ذلك قول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون: 5] {إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 6] الآية، وهذا مثل ما أجاز ابن كنانة للرجل يقدم البلد فيريد أن يقيم فيه شهرا، من أن يتزوج ليستعفف، وينوي طلاقها إذا أراد الخروج إذا كان إنما هو أمر يحدث به نفسه دون أن يضمره.
قال محمد بن رشد: ولو علمت المرأة بذلك قبل النكاح كانت المتعة بعينها، وأما النهارية فلا تشبه هذه المسألة لأن الشرط في العقد، فهو نكاح فاسد

(4/309)


على المذهب، والذي يأتي فيه على مذهبه في المدونة في الذي يتزوج المرأة على أن لا يشترط لها في مبيتها أن يفسخ قبل الدخول ويثبت بعده ويكون له أن يأتيها ليلا ونهارا، وهو قول أصبغ في المبسوطة، وحكى أنه قول مالك وأصحابه، خلاف قول عيسى بن دينار، ويتخرج فيما يكون له من الصداق إن دخل بها ففسخ النكاح قولان: أحدهما: أن لها الصداق المسمى لأنه نكاح فاسد العقد لما انتظم به من الشروط، والثاني: أن لها صداق مثلها، وهو الأظهر لما في الشرط من التأثير في الصداق، ومن أهل العلم من يجيز نكاح النهارية، وهو قول الحسن وعطاء، ومنهم من يكرهه، وهو قول الحكم وابن سيرين، وبالله التوفيق.

[الخدم يبيتون في لحاف واحد في الشتاء عراة]
ومن كتاب سن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: وسئل مالك عن الخدم يبيتون في لحاف واحد في الشتاء عراة، فكره ذلك وأنكر أن يبيت النساء عراة ليس عليهن ثياب يلبسنها في لحاف واحد يتعرين فيه.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، والكراهة فيه بينة، فقد جاء النهي عن ذلك، وروي أن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نهى عن مكامعة الرجل الرجل بغير شعار، ومكامعة المرأة المرأة بغير شعار» ، والمكامعة هي أن يضاجع الرجل صاحبه في ثوب واحد، أخذ من الكميع وهو الضجيع، ومنه قيل لزوج المرأة: كميعها، وقد روي معاكمة مكان مكامعة، وهي مأخوذة من ضم الشيء إلى الشيء، ومنه قيل: عكمت الثياب: إذا شددت بعضها إلى بعض، وقد روي أن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نهى عن المكاعمة» ، وهي أن يلثم الرجل صاحبه، أخذ من كعام البعير وهو أن يسد فاه إذا هاج، يقال: كعمه كعما فهو مكعوم، وكل شيء مشدود الفم فهو مكعوم.

(4/310)


[مسألة: شرط الصداق في النكاح]
مسألة وسئل مالك عن رجل خطب إلى رجل أختا له فقال: ما عندك؟ قال: عندي خمسون درهما، فقال له رجل قاعد معه: إن جاءك بخمسين درهما أتزوجه؟ قال: نعم، إن جاءني بخمسين درهما فقد زوجته، فقال مالك: ما يعجبني هذا النكاح، ولا تزويج له. قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة في رسم حلف، وما فيها من الاختلاف، فلا معنى لإعادته.

[مسألة: حكم إنكاح المرأة والعبد وإن استخلفهما أحد]
مسألة قال مالك: ولا يجوز إنكاح المرأة ولا العبد وإن استخلفهما أحد، قال ابن القاسم: قال مالك: فإن استخلفا رجلا جاز ذلك.
قال محمد بن رشد: قوله: ولا يجوز إنكاح المرأة والعبد وإن استخلفهما أحد، معناه: أنه لا يجوز لهما أن يليا عقد نكاح أحد من النساء وإن استخلفهما أحد على ذلك، ويجوز لهما أن يزوجا ذكور ولد من أوصى إليهما على ما في آخر رسم باع شاة، من سماع عيسى، ويجوز للعبد أن يزوج ابنه على ما في سماع أبي زيد، والفرق بين ولايتهما العقد على الذكور دون الإناث، أن الولي المعتبر به في صحة النكاح إنما هو الولي الذي من قبل المرأة لقول عمر بن الخطاب: لا تنكح المرأة إلا بإذن وليها أو ذي الرأي من أهلها أو السلطان، فإذا زوجت المرأة أو العبد من إلى نظرهما من النساء، فقد وقع النكاح بغير ولي، إذ لا يجوز ولاية المرأة ولا العبد، وإذا زوجا من إلى نظرهما من الذكور فلم يقع النكاح إلا بولي، لأن الأولياء المعتبر بهم في صحة النكاح أولياء الزوجات لا أولياء الأزواج، وهذا بين لا إشكال فيه، وقد وقع في كتاب محمد بن المواز، قال: وأما بنات من استخلف العبد فنكاحهن إليه ولا يعقد هو، ولكنه يستخلف غيره يعقده، وكذلك الصغار من اليتامى الذكور، وكذلك المرأة يوصى إليها بنحو ذلك هي مثل العبد، وقد قاله مالك فحمل بعض

(4/311)


الناس هذا الكلام على ظاهره من أن الصغار من اليتامى الذكور الذين إلى نظر العبد بمنزلة الإناث اللواتي إلى نظره نكاحهم إليه، ولا يعقده هو، ولكنه يستخلف غيره على ذلك مثل ظاهر رواية ابن القاسم هذه وما في المدونة من قوله: ولا تعقد المرأة النكاح على أحد من الناس خلاف ما في رسم باع شاة، من سماع عيسى، وذلك خطأ صراح لما بيناه من أن الاعتبار بالولاية في النكاح إنما هي من جهة المرأة لا من جهة الرجل، والصواب أن رواية عيسى صحيحة مبينة لرواية ابن القاسم هذه على ما تأولناها عليه، ولما في المدونة لأن قوله فيها: ولا تعقد المرأة النكاح على أحد من الناس معناه على أحد من النساء، ولما في كتاب ابن المواز لأن قوله فيه: وكذلك الصغار من اليتامى الذكور، معناه أنهم بمنزلة الإناث في أن نكاحهم إليه لا في أنه لا يعقده هو، ولكنه يستخلف غيره، وأما العبد والكافر في بناتهما فلا يعقدان النكاح عليهن ولا يستخلفان على ذلك أحدا، ولا اختلاف في هذا، فالعبد يزوج ابنه وابن من أوصى إليه، ولا يزوج ابنته، ولا يستخلف من يزوجها، ويستخلف من يزوج ابنة من أوصى إليه ولا يزوجها هو، وكذلك النصراني سواء مثل العبد في هذا، والمرأة تلي العقد على من إلى نظرها من الذكور، ولا تليه على من إلى نظرها من النساء لكنها تستخلف على ذلك رجلا يصح له العقد، فهذا تحصيل القول في هذه المسألة، وبالله التوفيق.

[مسألة: عبد أراد سيده أن يزوجه أمته فقال لا حاجة لي بالتزويج]
مسألة قال مالك في عبد أراد سيده أن يزوجه أمته فقال: لا حاجة لي بالتزويج، يسترق ولدي، قال: فتزوجها وولدك حر، فكره ذلك مالك أن يجعله للعبد شرطا، فإن وقع النكاح فسخ في العبد كما يفسخ في الحر، دخل أو لم يدخل، ويكون الولد إن ولد له أحرارا. قال محمد بن رشد: قوله: إن النكاح يفسخ قبل الدخول وبعده هو مثل ما يأتي في رسم الجواب من سماع عيسى، وفي رسم الكبش من سماع يحيى، ومثل ما في الواضحة وغيرها، لا أعرف في ذلك نص خلاف، ولا يبعد

(4/312)


دخول الاختلاف في ذلك بالمعنى لجريانه على أصل مختلف فيه، وهو ما فسد من الأنكحة للشروط التي لا يجوز اشتراطها فيه، كالنكاح على أن لا ميراث بينهما أو على أن لا نفقة عليه، أو على أنه إن لم يأت بصداقها إلى أجل كذا وكذا، فلا نكاح بينهما، أو على أنه بالخيار أياما سماها، أو على أن لا يطأ نهارا، أو على أن الطلاق بيد غير الزوج، وما أشبه ذلك، فهذا الضرب من الأنكحة قيل فيها: إنها تفسخ قبل الدخول وبعده، وقيل: إنها تفسخ قبل الدخول وتثبت بعده، وإذا فسخت بعد الدخول فقيل: إنه يكون فيها الصداق المسمى، وقيل: إنه يكون فيها صداق المثل، وأما إذا لم يفسخ بعد الدخول وأقرت مع الزوج وأبطل الشرط، فإنها ترد إلى صداق مثلها، وبالله التوفيق.

[رجل تزوج امرأة وشرط لها ألا يخرج بها إلى موضع إلا برضاها]
ومن كتاب أوله أخذ يشرب خمرا
قال: وسئل مالك عن رجل تزوج امرأة وشرط لها ألا يخرج بها إلى موضع إلا برضاها، فخرج بها برضاها إلى موضع، ثم رجعت إلى المدينة، ثم خرج بها الثانية، ثم استأذنته فقال لها: لا أتركك، فقال له أبوها: ائذن لها، وثقل عليه فقال: لا، حتى تحلف بطلاق امرأتك البتة ألا تحبسها عني أكثر من عشرة أيام، فقال له مالك: قد قرئ علي البارحة كتاب فيه لأردنها إليك إلا أن يغلبني أمر لا أملكه، فإن كان إنما هو لا يحبسها فلا أرى عليه شيئا إذا هو لم يحبسها، وإن كان على ما قرئ علي فلا أرى ذلك ينفعه إلا أن يردها وإلا لزمته اليمين، كأنه لم ير قوله: إلا أن يغلبني أمر لا أملكه، ثنيا، قال عيسى: قال لي ابن القاسم: تفسير هذا إذا حلف ألا يحبسها فلم يحبسها ولم ترد هي الرجوع، فليس عليه حنث، وإن كانت يمينه لأردنها إلا أن يغلبني أمر لا أملكه، فإنه إن لم يردها حنث، وليس استثناؤه بشيء.
قال محمد بن رشد: تكلم مالك في هذه المسألة على يمين الأب بما هو

(4/313)


بين في المعنى من تفرقته بين أن يحلف ألا يحبسها، أو ليردنها إلا أن يغلبه أمر لا يملكه، وإنما لم ير قوله: إلا أن يغلبني أمر لا أملكه، ثنيا ينتفع بها؛ لأن المعنى عنده فيما حمل عليه استثناؤه أنه أراد به إلا أن يغلبني من هواي في أن لا أردها إليك بما يظهر إلي من الرشد في ذلك ما لا أملك دفعه عن نفسي، فلم ينتفع بذلك إذ هو قادر على مخالفة هواه، كمن حلف ليضربن عبده إلا أن لا يقدر أن يخالف هواه، في أن لا يضربه، ثم لم يضربه، فهو حانث. ولو استثنى فقال: إلا أن أرى خيرا من ذلك، أو: إلا أن يغلبني أحد على ذلك، وما أشبه ذلك، لنفعه استثناؤه، ولم يتكلم على منع الزوج إياها من الرجوع بقوله لها: لا أتركك؛ إذ قد تركها، ولو لم يتركها لحنث بما حلف به في الشرط الذي شرط لها ألا يخرج بها على ما مضى في رسم الشجرة من اختلاف في ذلك، وبالله التوفيق.

[امرأة تزوجت على وجه الغلبة فأراد صاحبها التحلل منها]
ومن كتاب أوله يسلف في المتاع والحيوان المضمون وقال مالك في امرأة تزوجت على وجه الغلبة، فأراد صاحبها التحلل منها، قال مالك: أرى ذلك نكاحا غير جائز، وأرى لها ألا تزوج حتى يستبرئ رحمها من ذلك الماء بثلاث حيض.
قال محمد بن رشد: قوله: أرى ذلك نكاحا غير جائز؛ أي غير لازم ولا منعقد، إذ لا ينعقد النكاح إلا برضا المتناكحين كما لا ينعقد البيع إلا برضى المتبايعين، فالواجب عليه أن يفارقها بغير طلاق، ثم لا يتزوج حتى يستبرئ من مائه من ثلاث حيض لأن استبراء الحرائر بثلاث حيض.

[الرجل يزوج المرأة ويشترط على زوجها أن ينفق على ابن لها صغير]
ومن كتاب أوله تأخير صلاة العشاء في الحرس وسئل مالك عن الرجل يزوج المرأة ويشترط على زوجها أن ينفق على ابن لها صغير، قال: ليس هذا من عمل الناس، فقيل لمالك: فيشترط لخدمها؟ قال: لا يشترط أن تنفق على رأس لا ولد

(4/314)


ولا غيره، وكرههما جميعا، قال: لا أرى ذلك، وليس هذا من عمل الناس، قال عيسى: وسئل ابن القاسم عن هذا إذا وقع ودخل، قال: أرى أن يفسخ عنه الشرط ويعطي صداق مثلها لما وضعت، وإن لم يدخل بها فسخ النكاح، لأن العقدة كانت مكروهة، ولعل الصبي لا يعيش شهرا أو يعيش عشرين سنة، فلا خير فيه وإن طرحت المرأة الشرط.
قال محمد بن رشد: الفساد في هذا النكاح بين لأنه شرطت عليه نفقة مجهولة غير محدودة لمدة معلومة، فكان نكاحا فسد لصداقه، يفسخ قبل الدخول وإن طرحت المرأة عليه الشرط، ويثبت بعده ويكون فيه صداق المثل على ما قال ابن القاسم، فقوله تفسير لقول مالك، وقد روي عن أبي محمد بن الشقاق أنه قال: كرهه مالك من غير الوجه الذي كرهه منه ابن القاسم؛ لأن مالكا قال: لم يكن ذلك من عمل الناس، فسواء عنده ضرب أجلا أم لا، هو مكروه، وعلى قول ابن القاسم: إن ضرب أجلا فلا بأس به، وهو بعيد، إذ لا وجه لفساده إلا الجهل بمقدار النفقة المشروطة على الزوج، وللزوج الرجوع على المرأة بما أنفق بالشرط على ولدها أو على من لا تلزمه النفقة عليه من خدمها إلى حين فسخ النكاح أو تصحيحه بصداق المثل، وفي كتاب محمد بن المواز عن أصبغ أن النكاح لا يفسخ إذا طرحت المرأة عنه الشرط، قال: ولا أعلم إلا وهو قول ابن القاسم، وهو أيضا قوله فيما يشبهه، والمشهور من قول ابن القاسم ماله ها هنا أن النكاح يفسخ وإن رضيت المرأة بطرح الشرط خلاف مذهب أصبغ.

[البكر يدخل عليها وليها ليشهد عليها في النكاح فتصمت]
ومن كتاب أوله كتب عليه ذكر حق وسئل مالك عن البكر يدخل عليها وليها ليشهد عليها في النكاح فتصمت، أعلى الشهود أن يسألوها أو الولي إن لم تتكلم برضاها؟ فقال مالك: لا، رضى البكر صماتها، فإذا صمتت فلا

(4/315)


يسألها الولي ولا الشهود إن لم تتكلم، وهو رضى، وإن أنكرت فعليها أن تتكلم، واحتج بالحديث.
قال محمد بن رشد: وجه استئمار البكر في النكاح أن يقول لها وليها بحضرة الشهود قبل عقد النكاح: أزوجك من فلان، فإن سكتت اكتفى بذلك منها، وليس عليهم أن يسألوها فيقولوا لها: رضيت أم لا؟ هذا معنى قوله في هذه الرواية، وكذلك ليس عليهم على ظاهر هذه الرواية، ومذهب ابن القاسم في المدونة أن يعلموها أن إذنها صماتها لأنها محمولة على أنها عالمة بذلك. وروى محمد بن مسلمة عن مالك أنه ينبغي لهم أن يعلموها بذلك، إذ ليس كل بكر تعلم أن إذنها صماتها، وعلى هذه الرواية يأتي قول غير ابن القاسم في المدونة، وهذا إذا كانت تعلم أن إذنها صماتها.

[نكاح المحرم]
ومن كتاب الشريكين وقال مالك في نكاح المحرم: إنه فسخ ليس فيه طلاق.
قال محمد بن رشد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هذا أحد قولي مالك في المدونة، وهو اختيار سحنون فيها، خلاف اختيار ابن القاسم أنه يفسخ بطلاق مراعاة للاختلاف، وما اختاره سحنون هو القياس على أصل المذهب في أن المحرم لا يجوز نكاحه، وما لا يجوز لا ينعقد، فكان الأولى أن لا يسمى فسخا إذ لا يفسخ إلا ما قد انعقد، وسيأتي القول في رسم من كان منزله دون الميقات فيمن نكح قبل طواف الإفاضة وبعد رمي الجمرة، وبالله التوفيق.

[زوجت جارية لها مملوكة غلاما مملوكا وكان لامرأة بغير إذن سيدته]
ومن كتاب اغتسل علي غير نية قال: وسئل مالك عن امرأة زوجت جارية لها مملوكة، غلاما مملوكا، وكان لامرأة، بغير إذن سيدته، فعلمت بذلك سيدته فلم تجز النكاح وفرقت بينهما، فحلفت سيدة الجارية بحريتها أنه لا

(4/316)


تزوجها منه الثانية إلا برضى سيدته، فماتت السيدة وورثتها، فأحبت سيدة الجارية أن يتزوجها الغلام؟ قال: لا أحب لفلان أن يزوجها إلا برضى الورثة الذين يملكونه كما كانت تستأذن سيدته.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال لأنها لم ترد سيدته تلك بعينها وإنما أرادت مالكته لئلا يفرق بينهما الثانية كما فعلت في الأولى، فوجب أن تكون اليمين لازمة لها في كل من انتقل إليه ملكه بأي وجه كان، من ميراث أو غيره، وسيأتي في آخر رسم من سماع عيسى نقدها، نحو هذا المعنى، وبالله التوفيق.

[مسألة: الرجل تكون له امرأتان فيكسو إحداهما الخز ويحليها ولا يعطي الأخرى]
مسألة وسئل مالك عن الرجل تكون له امرأتان فيكسو إحداهما الخز ويحليها ولا يعطي الأخرى؟ قال: إن لم يكن ميلا فلا بأس به، فإن الله يقول: {فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ} [النساء: 129] .
قال محمد بن رشد: هذا هو المعروف من مذهب مالك وأصحابه أنه إذا أقام لكل واحدة من زوجاته ما يلزمه لها من المطعم والملبس على قدر حالها، لم يكن عليه حرج في أن يوسع على من شاء منهن بما شاء من ماله، إذ ليس عليه أن يعدل بينهن إلا في الكون معهن والمبيت عندهن، وذهب ابن نافع إلى أنه يجب عليه أن يعدل بينهن في ماله بعد أن يقيم لكل واحدة منهن ما يلزمه لها على قدر حالها، والأول أظهر، لقول الله عز وجل: {فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} [النساء: 129] لأنها إنما تكون كالمعلقة إذا انفرد بغيرها دونها، لا إذا وسع عليها دونها أكثر من توسعته عليها.

[مسألة: الرجل يتزوج المرأة على أنه إن خرج بها فأمرها بيدها]
مسألة وسئل مالك عن الرجل يتزوج المرأة على أنه إن خرج بها من

(4/317)


بلدها أو غاب عنها سنة، فأمرها بيدها، فيريد بعض ذلك فيمنعه يمينه، وتحب المرأة رضاه فتقول: قد رددت عليك أمرك ووضعت عنك الشرط، قال مالك: إن أحب ذلك إلي ألا يكون إلا عندما يحب أن يفعل، فإن فعلت ذلك وأذنت له عندما يريد أن يفعل قبل أن يفعل، ثم فعل، فلا شيء عليه، وإن أرادت أن تقضي بعد ذلك في نفسها فلا شيء لها، وما تركت من ذلك جائز عليها.
قال محمد بن رشد: قد تقدم القول على هذه المسألة في أول رسم من هذا السماع، فلا معنى لإعادته، وسيأتي في رسم المحرم من هذا السماع، وفي رسم لم يدرك من سماع عيسى وغيره.

[المرأة يغيب عنها زوجها فيمرض أخوها أو أمها أو أختها فتريد أن تأتيهم]
ومن كتاب البز وسئل مالك عن المرأة يغيب عنها زوجها فيمرض أخوها أو أمها أو أختها فتريد أن تأتيهم تعودهم ولم يأذن لها زوجها حين خرج؟ قال: لا بأس أن تأتيهم وإن لم يأذن لها حين خرج.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال لأنه لو كان حاضرا فأراد أن يمنعها من ذلك لم يكن ذلك له، فليس على المرأة واجبا أن تستأذن زوجها إلا فيما له أن يمنعها منه.

[مسألة: قليل البرص أترد منه المرأة]
مسألة وسئل عن قليل البرص أترد منه المرأة؟ قال: ما سمعت فيه إلا الحديث الذي جاء ما أحد فيه قليلا ولا كثيرا، قال: فقلت له: إن بعض الناس أخبرنا أنك لم تر أن ترد من قليله فأنكر، قال ابن القاسم: القليل من ذلك إذا تبين فأرى أن ترد بذلك لأني لو لم أردها وحبستها عليه ثم تفاحش ذلك أدخلت عليه ضررا وأوطيته

(4/318)


من ذلك ما لا ينبغي، ولعله أن يتركها معلقة، وقد سمعت الناس يقولون: إنه يزداد، ولو كان من ذلك الشيء اليسير الذي يستيقن معرفة الناس أنه لا يزداد ما رددتها، ولكنه أمر لا يعرف، فلذلك رأيت أن ترد، وللمرأة على الرجل مثله.
قال محمد بن رشد: رأى مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية ابن القاسم هذه قليل البرص عيبا في النكاح وإن أمنت زيادته، فأوجب الرد به للرجل على المرأة وللمرأة على الرجل، ولم ير ابن القاسم أن ترد به المرأة إلا من أجل أنه لا يؤمن أن يزيد، فيلزم ذلك الزوج ولا يكون له منه خروج إلا بالطلاق، وقد يكون ذلك قبل الدخول فيلزمه نصف الصداق، وفي ذلك عليه ضرر، فلا يجب على مذهب ابن القاسم للمرأة أن ترد الرجل بقليل البرص وإن خشيت زيادته لأنه إن زاد وأضر بها فرق بينهما على مذهبه، وهو نص قوله في رسم نقدها من سماع عيسى، فلا حجة للمرأة عنده فيما يتوقع من زيادته، فقوله في آخر المسألة: وللمرأة على الرجل مثله، إنما هو من قول مالك لا من قول ابن القاسم، ولمالك في كتاب ابن المواز من رواية أشهب عنه أن الأبرص لا يفرق بينه وبين امرأته وإن غرها، يريد: في اليسير، خلاف قوله في هذه الرواية مثل مذهب ابن القاسم، وقد روى علي بن زياد عن مالك في الأبرص أنه لا يفرق بينه وبين امرأته وإن كان شديدا، قاله مالك في كتاب ابن المواز، يريد: إذا كان حادثا بعد العقد. فيتحصل القول في هذه المسألة أن الرجل إذا غر المرأة بالبرص يكون به من قبل العقد، فإن كان شديدا كان لها رده به باتفاق، وإن كان يسيرا كان لها رده به على اختلاف، وإذا حدث به بعد العقد، فإن كان يسيرا فلا يفرق بينهما باتفاق، وإن كان كثيرا فيفرق بينهما على اختلاف، وأما البرص بالمرأة فإن كان من قبل العقد كان للرجل ردها به إن كان كثيرا أو يسيرا لا تؤمن زيادته باتفاق، وإن كان يسيرا تؤمن زيادته فعلى اختلاف، وأما إن كان حادثا بها بعد العقد فمصيبة نزلت بالزوج إن شاء طلق وان شاء أمسك، ولزمه نصف الصداق قبل الدخول وجميعه بعد الدخول، وبالله التوفيق.

(4/319)


[مسألة: الرجل تكون له الجارية الفاره فيريد أن يزوجها غلاما له]
مسألة وسئل مالك عن الرجل تكون له الجارية الفاره فيريد أن يزوجها غلاما له قيما له في ريعه على ضيعته، أو يكون أمينا يبعثه في حوائجه ويقاضيه، قال مالك: لا يجوز من ذلك ما كان ضررا، فأما ما كان على وجه الصلاح فلا أرى به بأسا، قد يكون الرجل يطلب نسل ذلك أو يصلح به غلامه، فإذا كان على هذا الوجه رأيت ذلك، فقيل له: فإنه ربما كان وغدا، وهو لا بأس به، ويكون أسود، قال: ليس ينظر في ذلك إلى الوغد في المنظر، فرب وغد المنظر تكون له الخبرة والحال، ولو كان في حاله لا بأس به رأيت ذلك له، فإنما أرى أن يرد من ذلك ما كان ضررا، وما لم يكن على وجه الضرر رأيت ذلك جائزا.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: إنه لا يجوز له أن يزوجها ممن لا يشبه أن تزوج منه من العبيد؛ لأن ذلك من الإضرار بها وقد نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الإضرار وقال: «من ضار أضر الله به» .

[مسألة: إنكار النكاح في نكاح اليتيمة قبل البلوغ]
مسألة وسئل مالك عن جارية بنت عشر سنين زوجها أخوها وأمها ابن عم لها وأقام زوجها معهم يحوز مال امرأته ويقوم فيه، ثم ماتت الأم فطلب الزوج الدخول بالجارية فقال الأخ: لا زوجة لك، قال الزوج: لم؟ فقال: لم تكن أختي رضيت ولا أعلمناها، وأنكرت الجارية، قال: فإن قامت له بينة على رضاها وإلا حلفت الجارية وأخوها على ذلك، وكان القول قولهما وفرق بينهما.

(4/320)


قال محمد بن رشد: أجاز مالك في هذه المسألة نكاح اليتيمة قبل البلوغ إذا أقرت بالرضى أو كانت على ذلك بينة، وأمضاه قبل البناء، وإن كانت زوجت لغير حاجة، وقد مضى ما في ذلك من الاختلاف في رسم شك في طوافه، وإيجابه اليمين عليهما إنما هو رجاء أن تقر بالنكاح فإن حلفت سقط عنها النكاح، وإن نكلت عن اليمين لم يلزمها النكاح، وهو قول مالك في المبسوط، ومعناه: إذا كانت قد بلغت. وقد قيل: إنه لا يمين عليها لأنها إن نكلت عن اليمين لم يلزمها النكاح، حكى ابن حبيب القولين جميعا، وفي رواية يحيى أنها إن نكلت لزمها النكاح، يريد بعد يمين الزوج إن كان حقق الدعوى عليها إذا كان ثم سبب يدل على علمها، من كون الصنيع في دارها وما أشبه ذلك، وأما إيجابه اليمين على الأخ فلا وجه له في هذه المسألة لأنه مقر بالتزويج، وإنما يدعي أنه لم يعلم أخته، وإنما يتصور أن يحلفا جميعا على القول في إيجاب اليمين في النكاح إذا أنكر هو التزويج وأنكرت هي الرضى، فإن حلفا أو حلف أحدهما سقط النكاح، وإن نكلا لم يلزمهما النكاح؛ لأنهما إنما حلفا رجاء أن يقرا فيثبت النكاح بإقرارهما، وبالله التوفيق.

[مسألة: جارية أنكحها أخوها ثم مات الزوج قبل أن يدخل بها]
مسألة وروى أشهب وابن نافع قالا: سئل مالك عن جارية أنكحها أخوها ثم مات الزوج قبل أن يدخل بها فقال الورثة: أقيموا البينة أنها قد كانت رضيت، قال: تسأل إن كانت رضيت، فإن قالت: نعم، قيل له: أتسأل هي؟ فقال: نعم.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن الورثة مدعون عليها أنها لم ترض فالقول قولها إنها كانت رضيت مع يمينها، فإن نكلت عن اليمين حلف الورثة أنها لم ترض ولم يكن لها ميراث، وهذا إن كانوا حققوا الدعوى عليها أنها لم ترض، وإن كانوا لم يحققوا الدعوى عليها بذلك فقد اختلف في وجوب اليمين عليها وفي وجوب ردها إذا وجبت عليها فنكلت عنها.

(4/321)


[رجل تزوج أمة فولدت منه ثم أعتق سيد الأمة ولدها منه]
ومن كتاب أوله باع غلاما بعشرين دينارا قال: وسئل مالك عن رجل تزوج أمة فولدت منه ثم أعتق سيد الأمة ولدها منه، قال: أرى رضاعة ابنه عليه.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأنه إذا أعتقه سقط ملكه عنه ووجب على أبيه أن يسترضع له وينفق عليه، ولو [صح] لم يكن له أب لما سقط بعتقه إياه ما كان يلزمه من إرضاعه ونفقته إلى أن يبلغ؛ لأن من أعتق صغيرا ليس له من ينفق عليه، فنفقته عليه لأنه يتهم أن يكون إنما أعتقه ليسقط عن نفسه نفقته، وبالله التوفيق.

[مسألة: السيد لا يريد أن يزوج عبده ويهب له جارية ليعفه]
مسألة قال: وسألت مالكا عن العبد الأسود يكون للرجل مخارجا في السوق، فيريد أن يعفه ولا يريد أن يزوجه خوفا من أن يحدث حدثا أو يأبق، فيريد أن يهب له الجارية يعفه بها، قال: ليس هذا وجه الهبة لمثل هذا، وإنما هذا أراد أن يحللها له، ولولا ذلك ما وهبها له، وإنما الهبة للعبد التاجر الذي مثله يوهب له، ويكون مثلها لمثله، فأما هذا فليس بهبة إنما هذا على وجه التحليل له، ولا يعجبني هذا، ولا أرى أن يعمل به.
قال محمد بن رشد: وهذا بيّن على ما قال: إنه إذا وهبه الجارية وهو لا يشبه أن يوهب له مثلها، فإنما قصد إلى تحليلها له، فلا يجوز لأحد أن يفعله، وقد تكررت المسألة أكمل مما وقعت ها هنا في رسم الطلاق الثاني من سماع أشهب، والحمد لله.

[مسألة: زواج الرجل المرأة على متاع زوجته الأولى خالتها بعد هلاكها]
مسألة وسئل عن رجل تزوج امرأة وأصدقها ثلاثين دينارا وقد كانت

(4/322)


تحته خالتها فهلكت، فقال له أبوها: اشتر لها خادما من صداقها، فقال: عندي خادم، فقال له: فاشتر لها متاعا في بيتها، فقال: هذا بيت خالتها - يعني المتاع - فدخلت في متاعها ثم هلك، قال مالك: أرى أن يقام ذلك المتاع، فإن كان فيه فضل كان للمرأة لأنه قد رضي أن يعطيها إياه، وإن كان أقل من القيمة اتبعته بما بقي.
قال محمد بن رشد: وهذا على ما قال؛ لأنه قد تبين بإدخالها على متاع خالتها بعد قوله لأبيها: هذا بيت خالتها، جوابا عن سؤاله أن يشتري لها متاعا بصداقها، أنه قد رضي أن يعطيها ذلك المتاع في الثلاثين التي أصدقها، فإن كانت قيمته أكثر من الثلاثين فهو لها، وإن كانت قيمته أقل من الثلاثين كان عليه تمام الثلاثين، وقوله: وإن كان أقل من القيمة، يريد وإن كان أقل من الثلاثين، وبالله التوفيق.

[مسألة: المرأة الصالحة هي للرجل دنيا وآخرة]
مسألة قال مالك: بلغني أن لقمان قال لابنه: يا بني لتكن أول ما تفيد من الدنيا بعد خليل صالح امرأة صالحة.
قال محمد بن رشد: هذه وصية جيدة مفيدة، وحكمة بالغة عظيمة، لأن النساء من أجل ما زين للناس من شهوات الدنيا، قال تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ} [آل عمران: 14] الآية، فالمرأة الصالحة هي للرجل دنيا وآخرة لأنه يستعف بها ويستمتع منها ويؤجر على القيام عليها، والخليل الصالح يحمل خليله على الخير ويحمله على الطاعة، ويريد مراشده في أموره، فمنفعته أعم من منفعة المرأة، إذ من الناس من يستغني عن المرأة ولا يحتاج إليها، ولذلك قدمه عليها.

(4/323)


[مسألة: الرجل يقدم من السفر فتتلقاه ابنته أو أخته أتقبله]
مسألة وسئل عن الرجل يقدم من السفر فتتلقاه ابنته أو أخته أتقبله؟ قال: لا بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: إنما خفف ذلك لأن المقصد فيه الحنان والرحمة لا ابتغاء اللذة إذ ليستا ممن ينبغي ذلك فيهما، والأحسن أن لا يفعل ذلك مخافة أن يتلذذ بذلك وإن لم يقصد إلى الالتذاذ به، ولا وضوء عليه في ذلك، قاله في أول سماع أشهب من كتاب الوضوء، والله الموفق.

[مسألة: يتزوج الأمة فيقال له طلقها على أن أكتب لك مائة دينار في نكاح أخرى]
مسألة وسئل عن الرجل الخير يتزوج الأمة، ثم إن الرجل من أهله أنف من ذلك فقال له: طلقها وأنا أكتب لك علي كتابا بمائة دينار في نكاح امرأة إذا بدا لك أن تتزوجها، فطلقها وكتب عليه كتابا وأقام نحوا من ثلاثة أعوام لا يتزوج، ثم إن الجارية أعتقت وتزوجت رجلا فطلقها زوجها فارتجعها الزوج الأول وقد مات الذي ضمن المال، أيكون ذلك في ماله؟ فقال مالك: قد تقادم ذلك، فلا أرى له حقا في ماله، ولا أرى لك أن تدخل في مثل هذا.
قال محمد بن رشد: في قوله: قد تقادم ذلك، فلا أرى له حقا في ماله، دليل على أنه لو لم يتقادم لوجب له ذلك في ماله، وإنما أوجب له ذلك في ماله إذا تزوج بالقرب، ولم ير ذلك هبة تبطل بالموت لأنه أعطاه ذلك على شرط الطلاق، فصار ثمنا للطلاق يجب له بعد الموت، ويحاص الغرماء به في الموت والفلس. وفي العشرة ليحيى بن يحيى أنه لا شيء له في ماله بعد الوفاة،

(4/324)


فرآها كالعطية على غير عوض، وعلى هذا اختلفوا في الرجل يعطي امرأته النصرانية داره على أن تسلم، فتسلم، هل هي ثمن لإسلامها فلا يحتاج فيها إلى حيازة؟ أو عطية تفتقر إلى حيازة؟ وحكى ابن حبيب في ذلك القولين.
ومن هذا المعنى المسألة الواقعة في رسم أخذ يشرب خمرا من سماع ابن القاسم من كتاب الصدقات والهبات، قوله: احلف لي أنك لم تشتمني ولك كذا وكذا، فيدخل فيه القولان، ورأى ذلك ابن الماجشون جعلا على ما لا منفعة فيه للجاعل فاحتج به لمذهبه في جواز ذلك، والصواب أن له فيه منفعة وهي تطييب نفسه من جهته فلا حجة له في ذلك، وكان الأظهر في مسألة الكتاب أن تجب له المائة، تقادم الأمر أو لم يتقادم، لقوله فيها: إذا بدا لك؛ لأن إذا ظرف لما يأتي من الزمان. ولو علق العطية بالتزويج دون الطلاق فقال له: إن تزوجت فلك داري الفلانية، أو: فلك قبلي كذا وكذا، لكان ذلك أمرا لازما له في الحياة والموت، لا يحتاج فيه إلى حيازة باتفاق إن تزوج بالقرب على هذه الرواية، ولو قال له: إن تزوجت فأنا أعطيك كذا وكذا، لكانت عدة على سبب يجري على الاختلاف في ذلك، وبالله التوفيق.

[مسألة: العبد يكون بيده المال لسيده فيقول له اشتر جارية لنفسك تطؤها]
مسألة وسئل عن الذي يكون له العبد ويكون بيده المال لسيده فيقول له: اشتر جارية من المال الذي في يديك لنفسك تطؤها، قال مالك: لا يصلح هذا إلا أن يهب له المال قبل ذلك.
قال محمد بن رشد: قال ههنا: إلا أن يهب له المال قبل ذلك، وقال في رسم الطلاق الأول من سماع أشهب: إلا أن يسلفه الثمن قبل ذلك، وذلك سواء، يحل له وطء الجارية بأي الوجهين كان، لأن الجارية تصير ملكا له إذا اشترها بماله الذي وهب له سيده أو أسلفه إياه، وأما إذا اشتراها بمال السيد فلا يصلح له وطؤها وإن قال له: اشترها لنفسك تطؤها؛ لأن قوله: اشترها لنفسك تطؤها، بمنزلة قوله: اشترها لتكون لك للوطء، فهي باقية على ملكه حتى يهبها له بعد الشراء هبة صحيحة.

(4/325)


[مسألة: أمة زوجها سيدها ثم طلقها زوجها فوطئها سيدها في العدة]
مسألة قال مالك في أمة زوجها سيدها ثم طلقها زوجها فوطئها سيدها في عدة من طلاق أو وفاة، قال: لا أرى لسيدها أن يطأها بعد أن تحل أبدا مثل النكاح.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال، إذ لا فرق عندهم في الوطء في العدة بين أن يطأ فيها بنكاح أو بشبهة نكاح أو بملك أو بشبهة ملك فيما يوجب ذلك من التحريم، وإنما اختلفوا في الوطء بنكاح أو بشبهة نكاح في استبراء من أي وجه كان أو في عدة من غير نكاح كعدة أم الولد يتوفى عنها سيدها أو يعتقها، وبالله التوفيق.

[الأمة يكون نصفها حرا أيزوجها من له فيها الرق بغير رضاها]
ومن كتاب مساجد القبائل وسئل مالك عن الأمة يكون نصفها حرا أيزوجها من له فيها الرق بغير رضاها؟ قال لا يزوجها بغير رضاها ولا تتزوج إلا برضاه، لا تزويج لها إلا باجتماع منهما على الرضى، فإن أعتق ما بقي منها كان لها الخيار.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة لا اختلاف أعلمه في أن المعتق بعضها ليس للذي فيها الرق أن يجبرها على النكاح ولا في أنها إذا عتق ما بقي منها وهي تحت عبد أن لها الخيار، لأن العلة عند مالك في تخيير الأمة إذا عتقت كون زوجها ناقصا عن مرتبتها، ولذلك لا تخير عنده إذا عتقت تحت حر، ويأتي على قول أهل العراق، والذين يقولون إنها تخير إذا أعتقت كان زوجها حرا أو عبدا أو يرون العلة في تخييرها ما كان لسيدها قبل أن تعتق من جبرها على النكاح أن لا يكون لها خيار إذا أعتق ما بقي منها كانت تحت حر أو عبد إذ لم يكن لسيدها أن يجبرها على النكاح من أجل أن بعضها حر وهو بعيد.

(4/326)


[مسألة: يتزوج المرأة وتشترط عليه أن كل امرأة ينكحها عليها طالق البتة]
مسألة وسئل مالك عن الرجل يتزوج المرأة وتشترط عليه عند نكاحه إياها أن كل امرأة ينكحها عليها طالق البتة، فإن لم يطلق فأمر امرأته التي عنده بيدها، قال: أرى ذلك له، فقيل له: فإنه قيل له: إنك قد قلت: هي طالق البتة، ولا ينفعك الذي قلت، وإن لم تطلق فأمرها بيدها، قال: أرى ذلك له، لأنه إنما تزوج على ذلك، فقيل له: كأنك إنما رأيت أنه عقد الأول بالآخر، فقال: نعم، أرى ذلك بيدها إن شاءت أقامت وإن شاءت اختارت نفسها.
قال محمد بن رشد: تكررت هذه المسألة في رسم إن خرجت من سماع عيسى، وقول مالك فيها: إن قوله: فإن لم يطلق فأمر امرأته التي عنده بيدها، ينفعه ويكون له صحيح. وما قيل له من أنه قيل للحالف: إن ذلك لا ينفعه، بعد أن قال: إنها طالق البتة، لا يصح بوجه من الوجوه، إذ لا يلزمه باللفظ طلاق لأنه مقيد بالتزويج، فلما كان لا يلزمه باللفظ طلاق لم يصح أن يعد قوله بعد ذلك، فإن لم يطلق فأمر امرأته بيدها ندما منه، وكان أول كلامه مرتبطا بآخره باتفاق، فلا يدخل في هذه المسألة من الاختلاف ما يدخل في المسائل التي يتهم الرجل فيها بالندم إرادة أن يسقط عن نفسه ما قد لزمه بالقول، من ذلك قول الرجل لامرأته: أنت طالق البتة إن أذنت لك أمك، على ما وقع في رسم كتب عليه من سماع ابن القاسم من كتاب الأيمان بالطلاق، وقوله: لفلان علي كذا وكذا، وعلى فلان وفلان وما أشبه ذلك من المسائل، وهي أكثر من أن تحصى عددا.

[مسألة: سلطة السلطان في تزويج ولدا صغارا قد كبروا]
مسألة وسئل مالك عن أقوام تضرب عليهم البعوث إلى إفريقية وما خلف ذلك والأندلس، فيترك بعضهم ولدا صغارا، أو تكون له بنت صغيرة فتكبر وهي بكر، فتخطب ويرفع ذلك إلى السلطان، أترى

(4/327)


للسلطان أن يزوجها؟ قال: نعم.
قال محمد بن رشد: مغيب الرجل عن ابنته البكر ينقسم على ثلاثة أقسام: أحدها أن تكون غيبته قريبة، والثاني أن تكون غيبته بعيدة منقطعة، والثالث أن يكون أسيرا أو فقيرا، فأما إذا كانت غيبته قريبة لعشرة أيام وما أشبه ذلك، فلا اختلاف في أنها لا تزوج في مغيبه، فإن زوجت في مغيبه فسخ النكاح، زوجها الولي أو السلطان، قاله ابن حبيب في الواضحة، وأما إذا كانت غيبته بعيدة منقطعة مثل إفريقية أو طنجة أو الأندلس من مصر وما أشبه ذلك، فاختلف في ذلك على أربعة أقوال: أحدها أن الإمام يزوجها إذا دعيت إلى ذلك، وإن كانت نفقته جارية عليها ولم يخف عليها ولا استوطن البلد الذي هو به، وهو ظاهر قول مالك في هذه الرواية وفي المدونة، وقد تؤول على ما في المدونة من قوله فيها: وأما من خرج تاجرا وليس يريد المقام بتلك البلاد فلا يهجم السلطان على ابنته أنها لا تزوج، إلا أن يستوطن ذلك البلد وهو القول الثاني، والقول الثالث أنها لا تزوج إلا أن يستوطن ذلك البلد ويطول مقامه فيه العشرين سنة والثلاثين حتى يؤيس من رجعته، وهو قول ابن حبيب في الواضحة، والرابع أنها لا تزوج أبدا وإن طال مقامه، وهو ظاهر قول مالك في كتاب ابن المواز وقول ابن وهب في رسم الأقضية من سماع يحيى لأنه قال فيه: وإن كان الأب يجري لها النفقة ولا يزال يتفقدها بما يصلحها حتى يؤمن عليها الضيعة، فلا يجوز للإمام ولا غيره أن يفتات على أبيها بإنكاحها، والاختلاف بينهم إذا قطع الأب عنها النفقة في مغيبه هذا، وخشيت عليها الضيعة في أنها تزوج، وإن كان ذلك قبل البلوغ، وإنما اختلفوا هل يزوجها ها هنا الولي دون السلطان أم لا؟ فالمشهور أنه لا يزوجها إلا السلطان لأنه حكم على غائب برضاها، وقال ابن وهب في سماع يحيى ومثله في كتاب ابن المواز: الولي يزوجها برضاها، والوجه في ذلك أن ولايته قد سقطت عنها بتضييعه لها ومغيبه عنها، فكان كالميت، فالقول بأن الإمام يزوجها في بعد غيبة أبيها وإن كانت نفقته جارية عليها، جار على القول بأنه ليس له أن يعضلها عن النكاح، فإن زوجها الولي مضى النكاح ولم يفسخ، والقول بأنها لا تزوج في بعد غيبته عنها

(4/328)


إذا كانت نفقته جارية عليها جار على القول بأن له أن يفصلها عن النكاح، وإلى هذا ينحو قول ابن حبيب، وأما الاعتبار بالاستيطان فلا وجه له، وأما إذا كان أسيرا أو فقيرا فلا اختلاف في أن الإمام يزوجها إذا دعت إلى ذلك وإن كانت في نفقته وأمنت عليها الضيعة، وبالله التوفيق.

[مسألة: الرجل ينكح فيلزمه أهل المرأة بهدية العرس]
مسألة وسئل مالك عن الرجل ينكح فيلزمه أهل المرأة بهدية العرس، وذلك عندنا الذي يعمل به الناس، حتى إنه ليكون في ذلك الخصومة، أترى أن يقضى به؟ قال: إذا كان قد عرف من شأنهم وهو عملهم لم أر أن يطرح ذلك عنهم إلا أن يتقدم فيه السلطان؛ لأني أراه أمرا قد جروا عليه، قال ابن القاسم في كتاب عيسى: وقد قال مالك قبل ذلك: لا أرى أن يقضى به، وهو أحب قوله إلي، قال ابن القاسم: ومما يبين ذلك أنه لو مات أو ماتت أكان لها فيه شيء؟ فهذا يدلك أنه لا يقضى به، كان ذلك قد عرف من شأنهم وهو عملهم أو لم يكن.
قال محمد بن رشد: قال ها هنا: هدية العرس، وقال في رسم لم يدرك من سماع عيسى: نفقة العرس، وذلك سواء، لأن مراده بنفقة العرس هدية العرس، وهو ما جرى العرف بأن الأزواج يهدونه عند الأعراس، وقد كان بعض الشيوخ يذهب إلى أن المراد بهدية العرس الذي اختلف قول مالك في وجوب القضاء بها على الزوج وليمة العرس، ويتعلق بقوله في سماع عيسى نفقة العرس، وذلك غير صحيح؛ لأن الوليمة على مذهب مالك وأصحابه وجماعة أهل العلم سواء أهل الظاهر مرغب فيها ومندوب إليها لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لعبد الرحمن بن عوف: «أولم ولو بشاة» فذلك واجب على الزوج وجوب السنن لا يقضى بها عليه ولا حق فيها للزوجة، ومما يدل على أن المراد

(4/329)


بذلك الهدية التي تهدى إلى الزوجة لا الوليمة التي يصنعها الزوج للناس وإن كان ذلك أبين من أن يحتاج إلى الاستدلال عليه، قوله في الرواية: لم أر أن يطرح ذلك عنهم إلا أن يتقدم فيه السلطان، ولا يجوز أن يتقدم السلطان في الوليمة، فيكون قد نهى عما أمر رسول الله به - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقال فيه: إنه حق، فقد روي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه «قال في الوليمة: اليوم الأول حق والثاني معروف والثالث سمعة» وتقدمه في هدية العرس هو أن يعهد إلى الناس أنه لا هدية لمن تزوجت على زوجها إلا أن تشترطها عليه، وقد كان القياس على القول بوجوب القضاء بها إذا حكم للعرف بحكم الشرط أن يكون حكمها حكم الصداق فيجب عليه نصفها بالطلاق وجميعها بالدخول أو الموت، فإن مات أخذ ذلك من ماله، وإن ماتت هي وجب ذلك لورثتها، إلا أن مالكا لم يحكم لها بحكم الصداق ولا حكم لها بحكم الهبة إذ أبطلها بالطلاق أو بموت من مات منهما على ما قاله في سماع عيسى، وعلى ما احتج به ابن القاسم ها هنا لتضعيف القضاء بها، ووجه ما ذهب إليه مالك أنه حكم بها بحكم الصلة التي يراد بها عين الموصول، فعلى هذا يأتي جوابه في وجوب القضاء بها، وأما ابن حبيب فحكم لها بحكم الصداق فقال: إنه يقضى بها ويرجع إن طلق بنصفها إلا أن تفوت فلا يكون له شيء، يريد فاتت بتلف أو إنفاق أو استمتاع على أهله فيما استمتعت به المرأة من الصداق قبل الطلاق إذا طلق قبل البناء، وقد ذكرنا ذلك عنه في آخر رسم شك. قال: وأما هدية الإملاك فلا يقضى بها ولا يكون له منها شيء في الطلاق وإن أدركها قائمة، ولا فرق بينهما إلا من جهة العرف، فلو انتقل العرف لانتقل الحكم بانتقاله، وبالله التوفيق.

[يبتاع للنساء اللاتي يتزوجن الرجال الإماء ولا يشترى لهن العبيد]
ومن كتاب أوله مرض وله أم ولد فحاضت قال مالك: الأمر عندنا أنه يبتاع للنساء اللاتي يتزوجن الرجال الإماء، ولا يشترى لهن العبيد وأنه ليس في قيمة الرقيق، هكذا سنة مضت إلا ما جرى عليه عمل الناس على نحو ما وصفت لك.

(4/330)


قال محمد بن رشد: يريد: إذا وقع النكاح على كذا وكذا رأسا من الرقيق، ولم يذكر ذكورا ولا إناثا، فيشتري لها الإناث لأنه العرف، وقوله: ليس في قيمة الرقيق سنة مضت، يريد: ليس في ذلك عرف يرجع إليه فيكون لها الوسط من رقيق البلد، إن حمران فحمران، وإن سودان فسودان، على ما مضى في أول رسم من هذا السماع. ولو سمي في ذلك ثمن لم يلتفت إلى الوسط من ذلك، وكانت المرأة بالخيار إن شاءت أخذته بالأرؤس على تلك التسمية، وإن شاءت أخذته بالتسمية من الثمن وتركت الرأس أو الأرؤس، إلا أن يحضر بالأرؤس على التسمية قبل أن يختار التسمية فلا يكون لها أن تختار التسمية وتدعها لأنه كمن وكل رجلا على شراء شيء فاشتراه، فليس لمن وكله أن يأبى من قبول ذلك منه، وما لم يشتره فله أن يأباه ويرجع إلى رأس ماله فيأخذه منه، وإن طلقها قبل الدخول فلها نصف التسمية من الثمن ولا يجبر الزوج على أن يأتي برأس تلك التسمية فيكون بينهما، قاله ابن حبيب في الواضحة وعزاه إلى مالك وأصحابه، قال: ولم أعلمهم اختلفوا فيه إلا ما كان من أصبغ في المرأة الدنية يسمى لها في الثياب ثمن رفيع.

[المرأة المحتاجة تصدق الصداق أترى أن تأكل منه بالمعروف]
ومن كتاب أوله نذر سنة يصومها وسئل مالك عن المرأة المحتاجة تصدق الصداق أترى أن تأكل منه بالمعروف؟ قال نعم.
قال محمد بن رشد: أباح لها أن تأكل من صداقها بالمعروف، والمعروف هو قدر ما يكفيها بدليل «قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لهند: خذي يا هند ما يكفيك وولدك بالمعروف» وإنما أباح ذلك لها وإن كان من مذهبه أن عليها أن تتجهز إلى زوجها بصداقها، من أجل حاجتها إلى ذلك مراعاة لقول من يقول: هو مالها وليس عليها أن تتجهز بشيء منه إلى زوجها، ولا حق له فيه، ولو طلقها قبل البناء وقد استنفد الإنفاق جميع ما كان أصدقها لوجب أن يتبعها

(4/331)


بنصفه على القول بأن النفقة لا تجب عليه إلا بالدخول، وقد مضى هذا المعنى في رسم شك في طوافه قبل هذا فقف عليه، وبالله التوفيق.

[مسألة: عبد أبق عن سيده فتزوج حرة ببلد وأقام معها نحوا من عشرين ليلة]
مسألة وسئل مالك عن عبد أبق عن سيده، فتزوج حرة ببلد وأقام معها نحوا من عشرين ليلة، ثم قال لها: إني عبد ولا أحب أن تخبري أحدا، فأقامت معه ولم تقض شيئا، ثم إن سيده ظهر عليه فبعث إليه فأخذه وعلم بامرأته فأقره، ثم إنه باعه من رجل فأقره على نكاحه، فلما قدم على امرأته وعلم أبوها فقال لها: إن لك الخيار، فقالت: اشهدوا أني قد طلقت نفسي. فقال لها الزوج: ليس ذلك لك، وقد كنت علمت ذلك، فقيل لها: أعلمت ذلك؟ فأقرت بعدما طلقت نفسها فقال: أرى له أن يطلقها، هذه قد طلقت نفسها، والذي أقرت به من أنها علمت به في السر ولا أدري ما هو، وقد طلقت نفسها، كأنه ضعفها عندي من وجه أنه لا بينة فيه، ثم قال: هذا أمر قد كان أوله على غير صواب.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة أنها لا تصدق بعد أن أشهدت بطلاقها نفسها فيما أقرت به من أنه قد كانت علمت قبل طلاقها نفسها أنه عبد فرضيت المقام معه؛ إذ لا بينة على ذلك فتتهم على أنها أرادت البقاء مع زوجها بعد أن طلقت نفسها وهي في باطن الأمر زوجته باقية في عصمته إن كانت أقرت بحق، إذ ليس لها أن تطلق نفسها بعد الرضى بالمقام معه على أنه عبد، واستحب للزوج أن يطلقها إن كان يعلم أنها صادقة فيما أقرت به لتكون في سعة من نكاح غيره إن شاءت، إذ لا يجوز لها أن تتزوج سواه لأنها زوجته على ما أقرت به، إذ لا يباح له البقاء معها بما ظهر من طلاقها نفسها ولا تزويجها أيضا قبل زوج إن كانت فارقته بثلاث، فطلاقه إياها إن كانت طلقت نفسها ثلاثا أو واحدة فلم ترد أن ترجع إليه وأرادت أن

(4/332)


تتزوج سواه لا يضره وينفعها، فهذا وجه استحباب مالك ذلك له، وقوله: هذا أمر قد كان أوله على غير صواب، لا حكم له إذ قد جاز النكاح ووجب إمضاؤه بإقرار سيده إياه.

[مسألة: يتزوج المرأة ويشترط في نقدها الجارية بخمسين دينارا]
مسألة وسئل مالك عن الرجل يتزوج المرأة ويشترط في نقدها الجارية بخمسين دينارا أو السرير بكذا وكذا والفرش بمثل ذلك، ثم يعطيهم في ذلك صفة هي أدنى مما سمى لهم من الخمسين والتسمية في الفرش والأسرة، أترى ذلك له؟ قال: أرى أن تلزمه تسمية ما سمى، فقلت له: فإن ذلك إنما يفعلونه إرادة السمعة ويعطون أدنى من ذلك. قال هذا أمر لا أعرفه ببلدنا، وأرى أن تلزمه التسمية، قلت: ماذا ترى في مثل هذا إذا كان أمرا ينكحون عليه؟ قال كنت أرى للإمام أن يتقدم في ذلك وفي الصداق الذي ينكح به أهل مصره.
قال محمد بن رشد: ألزمه تسمية ما سمى من الأثمان في الثياب إذ لم يصح عنده العرف الذي ذكر له في ذلك فقال: هذا أمر لا أعرفه ببلدنا، ولو صح عنده العرف لحكم به؛ لأن الحكم به أصل عنده، ولوجب إذا سمى في ذلك من الأثمان ما لا يشبه حال المرأة مثل أن تكون المرأة الدنية فيسمي لها رداء كتان بعشرين دينارا أو درع خز بثلاثين دينارا أو ما أشبه ذلك مما يعلم أنه لم يقصد به إلا التسمية، فتعطى وسطا مما يشبهها ولا تعطى بالتسمية، وقد حكى ذلك ابن حبيب في الواضحة عن أصبغ، وهو تفسير للمذهب، والله أعلم.

[مسألة: رجل ضعيف العقل تزوج فأراد وليه تغيير ذلك]
مسألة وسئل مالك عن رجل ضعيف العقل تزوج فأراد وليه تغيير

(4/333)


ذلك، قال إن كان مولى عليه لم أره نكاحا جائزا، وإن كان على غير ذلك فهو جائز.
قال محمد بن رشد: هذا على المشهور المعلوم من مذهب مالك أن أفعال السفيه جائزة حتى يضرب على يده خلاف المشهور من مذهب ابن القاسم في مراعاة الحال دون الولاية، وقد روي عن ابن القاسم مراعاة الولاية مثل المشهور من مذهب مالك، وعن مالك مراعاة الحال دون الولاية مثل المشهور من مذهب ابن القاسم، وبالله التوفيق.

[الرجل يخطب الأمة فيقول له سيدها أنا أزوجكها]
ومن كتاب أوله المحرم يتخذ الخرقة لفرجه وسئل مالك عن الرجل يخطب الأمة فيقول له سيدها: أنا أزوجكها، فقال: إني أخاف أن أصيبها بشيء فيكون علي، قال: أنا أزوجكها على أن لا شيء عليك مما أصبتها به، قال: أراه غير جائز، وقال عيسى: يفسخ هذا النكاح قبل البناء ويثبت بعد البناء.
قال محمد بن رشد: يريد: ويكون فيه صداق المثل لا المسمى، وقد اختلف في هذا النوع من الأنكحة الفاسدة على ما ذكرنا في آخر رسم من قبل هذا، فقف على ذلك.

[مسألة: الرجل يتزوج المرأة ويشترط عليها ألا يتسرر عليها]
مسألة وسئل مالك عن الرجل يتزوج المرأة ويشترط عليها ألا يتسرر عليها، والذي يشترط الرجل والمرأة لا يرون إلا أن التسرر هو الحمل، فيتزوج على ذلك، فيريد أن يطأ جاريته، أذلك له؟ قال: أرأيت الذي طلق البتة وهو يرى أنها واحدة أينفعه؟ فقلت: أهو مثل ذلك؟ قال: نعم، لا أرى أن ينفعه ما جهل من ذلك، وأرى ذلك يلزمه، قال سحنون: لا يعجبني ما قال، ولا بأس أن يطأ جارية إن كانت عنده ولا يلزمه إذا كان ذلك عندهما هكذا، قال سحنون: وهو قول مالك.

(4/334)


قال محمد بن رشد: الاختلاف في هذه المسألة على اختلافهم في اليمين إذا عريت من النية، هل يحمل على اللفظ أو على ما يعلم من قصد الحالف على ما قد مضى القول فيه في غير ما موضع من كتاب النذور، ويأتي في كتاب الأيمان بالطلاق. والأظهر الأشهر حمل اليمين على ما يعلم من قصد الحالف، فقول سحنون في هذه المسألة وما حكاه عن مالك هو أظهر القولين، وفي تنظير هذه المسألة بالطلاق بُعدٌ، لأن للفظ الطلاق حكما يؤخذ به المطلق ولا يصدق في أنه جهل ذلك ولم يرد به الطلاق، وهو معنى قوله: أينفعه ذلك، يريد أنه لا يصدق فيه إذا ادعاه ولم يأت مستفتيا. وقد قيل: إن من لفظ بالطلاق لزمه الطلاق وإن لم يرد به الطلاق، ولا اختلاف بينهم في أن للحالف ما نوى فيما بينه وبين الله تعالى، ولو نوى الذي شرط لامرأته أن لا يتسرر عليها بلفظة التسرر التي لفظ بها الحمل دون الوطء لكانت له نيته فيما بينه وبين الله تعالى قولا واحدا، والله أعلم، ومعنى المسألة أن الشرط كان بتمليك، ولذلك حصل الاختلاف فيها على الوجه الذي ذكرته، وأما لو كان بطلاق أو عتق لصح تنظيرها بالطلاق ولما وسع فيها الاختلاف، وبالله التوفيق.

[مسألة: يتزوج المرأة ويشترط لها أن كل امرأة يتزوجها عليها فأمرها بيدها]
مسألة وسئل مالك عن الرجل يتزوج المرأة ويشترط لها أن كل امرأة يتزوجها عليها أو يتسرر عليها إلا برضاها فأمرها بيدها، فأذنت له أن يتزوج عليها أو يتسرر وأنه من ذلك في سعة قال: ما يعجبني ذلك إلا أن يكون ذلك عندما يريد أن يفعل في كل ما يريد، فقيل له: إنها قد وسعت عليه، قال: لا يعجبني إلا عندما يريد أن يفعل، قال ابن القاسم وسمعته غير سنة ثبت على هذا القول.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول في هذه المسألة والاختلاف فيها في أول رسم من هذا السماع، فلا معنى لإعادته هنا، وبالله التوفيق.

(4/335)


[مسألة: ينكح المرأة ويشترط في صداقها إن لم يأت به إلى أجل فأمرها بيدها]
مسألة وسئل عن الرجل ينكح المرأة ويصدقها صداقا ويشترط في صداقها إن لم يأت به إلى أجل فأمرها بيدها، فإن هذا نكاح ليس بحسن، وأراه مفسوخا، فقيل له: أينفسخ الشرط ويثبت النكاح؟ فقال: لا ولكن يفسخ النكاح، أشهب يقول: يفسخ الشرط ويثبت النكاح، وسحنون يقول: النكاح جائز دخل أو لم يدخل، وهو قول المدنيين والتونسيين.
قال محمد بن رشد: قوله: ولكن يفسخ النكاح، يريد قبل الدخول ويثبت بعده، كذلك قال ابن القاسم في رسم باع شاة من سماع عيسى، ورواه عن مالك في كتاب ابن المواز، وإذا ثبت بعد الدخول بطل الشرط وكان فيه الصداق المسمى، وقول أشهب يفسخ الشرط ويثبت النكاح يريد قبل النكاح وبعده بالصداق المسمى، وقول سحنون: النكاح جائز دخل أو لم يدخل، يريد والشرط لازم، ومثله روى أشهب عن مالك، وقد روى مثله عن ابن القاسم وأشهب، وهو أظهر الثلاثة الأقوال لأنه تمليك انعقد عليه النكاح قد لا تطلق المرأة نفسها إن لم يأت بالصداق فلا يشبه ذلك الخيار في النكاح بقوله إن لم يأت بالصداق إلى أجل كذا وكذا فلا نكاح بينهما، وإنما يشبهه لو قال: إن لم يأت بصداقها إلى أجل كذا وكذا فهي طالق، وليس ذلك بشبه بين، وإنما كرهه من كرهه مخافة الذريعة إلى ذلك، فكأن المرأة قالت له لا أتزوحك إلا على أنك إن لم تأتني بصداقي إلى أجل كذا وكذا فلا نكاح بيني وبينك، فلما قيل لهما: إن ذلك لا يجوز، قال: فأنا أتزوجك على أني إن لم آت بصداقك إلى ذلك الأجل فأمرك بيدك، أو: فأنت طالق، فمن قويت الكراهة في ذلك عنده فسخ النكاح قبل الدخول، وهو قول ابن القاسم وروايته عن مالك ولم يفسخه بعد الدخول، ومن ضعفت عنده الكراهة في ذلك أجاز العقد وأبطل الشرط وهو قول أشهب.

(4/336)


[مسألة: امرأة تزوجها رجل فأسكنها مع أبيه وأمه فشكت الضرر في ذلك]
مسألة وسئل مالك عن امرأة تزوجها رجل فأسكنها مع أبيه وأمه فشكت الضرر في ذلك فقال: ذلك له أن يسكنها معهم، فقيل له: فإنه يقول: إن أبي أعمى، ولا أغلق دوني ودونه بابا، قال: ينظر في ذلك فإن رئي ضرر، كأنه يقول: إن رئي ضرر أن يحولها عن حالها.
قال محمد بن رشد: وكذلك ليس له أن يسكن معها أولادا له من امرأة أخرى في بيت واحد ولا في دار واحدة، إلا أن ترضى بذلك، قاله في سماع سحنون من كتاب طلاق السنة، وذلك لما عليها في ذلك من الضرر لاطلاعهم على أمرها وما تريد أن تستر به عنهم من شأنها، وأمر الأعمى أخف في ذلك؛ إذ لا يبصر شيئا من أمورها، وقد «قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لفاطمة بنت قيس: اعتدي عند ابن أم مكتوم فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك» فأوقف مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أمر الأعمى على النظر وحمله على غير الضرر حتى تثبت المرأة أنه يضر بها لأن قوله: فإن رئي ضرر، معناه: فإن ظهر ذلك وثبت وعلم، والله أعلم.
وقال ابن الماجشون في المرأة تكون هي وأهل زوجها في دار واحدة، فتقول: إن أهلك يؤذونني فأخرجهم عني، أو أخرج عنهم: رب امرأة لا يكون ذلك لها يكون صداقها قليلا وتكون وضيعة القدر، ولعله أن يكون على ذلك تزوجها وفي المنزل سعة، فأما ذات القدر واليسار فلا بد له أن يعزلها، وإن حلف ألا يعزلها حمل على الحق، أبره ذلك أو أحنثه، وليس قول ابن الماجشون عندي بخلاف لمذهب مالك، فمن لا يشبه حالها من النساء أن يسكنها زوجها في دار على حدة وله أن يسكنها في دار جملة فليس لها على زوجها أن يخرج أبويه عنها إلا أن يثبت إضرارهما بها، وستأتي في رسم الطلاق من سماع أشهب من هذا المعنى، والله الموفق.

(4/337)


[مسألة: الرجل ينكح بعد رمي الحجارة قبل أن يفيض]
مسألة ومن كتاب أوله من كان منزله دون الميقات قال مالك في الرجل ينكح بعد رمي الحجارة قبل أن يفيض: يفسخ نكاحه بغير طلاق ويكون خاطبا من الخطاب.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن العلة في أن المحرم لا يجوز له النكاح هي أنه لا يحل له النساء، ولا يحل له النساء وإن رمى الجمرة وحل من بعض إحرامه حتى يطوف طواف الإفاضة لقول عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في خطبته بعرفة: إذا جئتم منى فمن رمى الجمرة فقد حل له ما حرم الله عليه، إلا النساء والطيب، لا يمسن أحد نساء ولا طيبا حتى يطوف بالبيت، قال ابن المواز: وكذلك لو نسي من طواف الإفاضة شوطا واحدا فرجع إلى بلاده فنكح، فإن نكاحه يفسخ ويرجع حراما حتى يتم طوافه ويحل، ولو تزوج بعد كمال الطواف وقبل الركعتين فإن كان قريبا بحيث يجب عليه أن يرجع فيتبدئ طوافه، فسخ النكاح، وإن كان قد تباعد جاز ولم يفسخ، ولو تزوج بالقرب فلم يعلم بذلك حتى بعد جرى ذلك على الاختلاف في المريض يتزوج فلا يعلم بذلك حتى يصح، ولا يدخل هذا الاختلاف في المحرم يتزوج فلا يعلم بذلك حتى يحل من إحرامه، وقد حكى الفرق بين الموضعين أبو إسحاق. وأما قوله: إنه يفسخ بغير طلاق، فقد مضى القول فيه في رسم الشريكين، والله الموفق.
تم كتاب النكاح الأول بحمد الله تعالى

(4/338)