البيان
والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة [كتاب النكاح
الرابع] [خطب امرأة فزوجه وليها برضاها
فلما حضر اشترط أولياؤها شروطا]
(5/5)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وآله وصحبه وسلم
من سماع يحيى بن يحيى عن عبد الرحمن بن القاسم من كتاب الكبش قال يحيى:
وسألت ابن القاسم عن رجل خطب امرأة فزوجه وليها برضاها، فلما حضر الخاطب
لكاتب الصداق عليه اشترط أولياؤها شروطا بها كانت رضيت أن تزوجه من ذلك إنه
إن تزوج عليها فالداخلة عليها بنكاح طالق، وإن تسرر فهي حرة، فلما قرئ
الكتاب على الخاطب قال: قد رضيت بالصداق والشروط، غير أني لا ألزمها نفسي
إلا بعد ابتنائي بها، فلم ينكر عليه الأولياء، وكتب القوم شهادتهم على ما
في الكتاب، وقد سمعوا ثنياه، فأقام الخاطب بعد ذلك ثلاث سنين أو نحوها، ثم
اتخذ سرته، فلما بلغ ذلك المرأة
(5/7)
قامت عليه بشروطها، فقيل لها: إن زوجك قد
اشترط لنفسه عند عقدة نكاحك كذا وكذا، فقالت: والله ما علمت بهذا، ولو علمت
ما رضيت، فأما إذا كان هذا، فلا أرضى به اليوم ولا أقبله، ولا نكاح بيني
وبينه، وقال الزوج: والله ما كنت أرى إلا أن إخوتك أعلموك بالذي كان من
استثنائي، فإذا زعمت أنك لم تعلمي ولم ترض بما صنعوا فأنا ألزم نفسي شروطك
من اليوم، وقالت الجارية: أما إذا لم تقبلها يومئذ، وإنما تلزمها نفسك من
الآن، فلا أرضى بتزويجك، قال: القول قولها إذا تباعد الأمر وطال، ولا ينفعه
أن يلزم نفسه بعد طول زمان ما قد كان كره أن يتزوج عليه يوم رضيت به، وذلك
أنهما لم يكونا يتوارثان لو مات أحدهما؛ لأن النكاح لم يتم إذ لم يرض بجميع
ما أنكحته عليه نفسها، قال: قلت: فإن رضيت أن تسقط عنه الشروط حتى تبنى كما
كان استثناها هل يثبتان على نكاحهما الأول؟ قال: لا أرى ذلك لهما بعد طول
زمان، وإنما يجوز هذا ومثله إذا أخبرت بحدثان الكتاب وحين أسقط ذلك الزوج
عن نفسه، فيجوز لها الرضى، ويتم النكاح بذلك العقد، فأما إذا تباعد ذلك
وطال زمانه، حتى لو مات أحدهما لم يتوارثا، فالنكاح مفسوخ، لا يجوز لهما أن
يقيما عليه، أجابته لما استثنى أو أجابها إلى جميع ما اشترطت، قال: وما
اتخذ من سرية، أو تزوج من امرأة فيما بينه وبين أن يصحح هذا النكاح بينه
وبينها، فلا يلزمه في ذلك شيء مما كانت شرطت عليه. قال أصبغ: وذلك إذا قرّ
لها
(5/8)
بأصل الشرط، أو كانت به بينة أنهما تعاملا
عليه وعليه أجابت.
قال محمد بن رشد: أما إذا لم ترض بنكاحه إذا بلغها أنه لم يلتزم الشروط إلا
من بعد الابتناء، فلا يلزمها النكاح إذا لم ترض به، وإن التزم لها الشروط
من حينئذ، وكان ذلك قريبا من العقد، إلا أن يكون ذلك في المجلس قبل
الافتراق منه، وقبل انقضاء المراوضة بينهما فيه؛ لأن ذلك بمنزلة الرجل يقول
للرجل: قد بعتك سلعتي بكذا وكذا، وقد زوجتك وليتي بكذا وكذا، فتقول: لا
أرضى إلا بكذا وكذا، فيقول له: لا أبيعك، أو لا أزوجك، إلا بما قلت لك، فلا
يقول: قد أخذتها بذلك، حتى يفترقا من المجلس. فقوله في هذا الموضع: القول
قولها إذا تباعد الأمر وطال، ولا ينفعه أن يلزم نفسه بعد طول زمان ما قد
كان كره أن يتزوج عليه يوم رضيت به، لا يقام منه دليل على أن القول قوله
إذا قرب الأمر ولم يطل، ويلزمها النكاح، إذ لا يصح أن يقال ذلك على ما
بيناه. وأما إذا رضيت بالنكاح على أن تسقط عنه الشروط حتى يبتني بها على ما
استثنى، فقوله ها هنا: لا أرى ذلك لهما بعد طول زمان، وإنما يجوز هذا ومثله
إذا أخبرت به بحدثان الكتاب، إلى آخر قوله هو على المشهور من قوله في الذي
يزوج وليته قبل أن يستأمرها، فترضى إذا بلغها أن ذلك يجوز في القريب، ولا
يجوز في البعيد، وقد قيل: إن ذلك يجوز في القريب والبعيد، وقد قيل: إن ذلك
لا يجوز في القريب ولا في البعيد، حسبما بيناه في أول رسم من سماع ابن
القاسم، فالاختلاف في تلك المسألة داخل في هذه، إذ لا فرق بين أن يزوجها
بغير إذنها، أو يزوجها بغير ما أذنت له أن يزوجها عليه من الشروط فيما يجب
لها من الخيار، وقد وقع في سماع سحنون، ومحمد بن خالد، في مثل هذه المسألة
ما ظاهره أن النكاح يجوز إذا رضيت به، وإن بعد الأمر، وهو مما يدل على ما
ذكرناه من دخول الاختلاف
(5/9)
المذكور فيها. وأظهر الأقوال في هذه
المسألة ألا يجوز، وإن أجازته ورضيت به في القريب ولا في البعيد؛ لوقوع
النكاح على خلاف ما رضيت به المرأة من الشروط بعلم الزوج والولي، فكان
النكاح قد انعقد بينهما على أن المرأة بالخيار، وذلك يقتضي فساد العقد في
الصحيح من الأقوال، وقد بينا هذا المعنى في أوّل رسم من سماع ابن القاسم،
وفي رسم شهد على شهادة ميت من سماع عيسى وقول أصبغ في آخر المسألة، وذلك
إذا أقر لها بأصل الشرط إلى آخر قوله، صحيح؛ لأنه إذا لم يقر بذلك الزوج
لها ولا قامت به بينة، فالنكاح لازم على ما وقع، ولا تصدق فيما ادعت مما
يوجب لها الخيار في النكاح؛ لأنها في ذلك والولي مدعيان على الزوج.
[مسألة: الرجل يزوج عبده أمته على أن كل ولد
يولد له منها أحرار]
مسألة قال يحيى: وسألت ابن القاسم عن الرجل يزوج عبده أمته، على أن كل ولد
يولد له منها أحرار، قال: النكاح مفسوخ، وإن كانا في ملكه؛ لأنه وقع بشرط
لا يحل، بمنزلة الأجنبيين، قيل له: فإن لم ينظر في فسخ ذلك حتى ولد له،
قال: هم أحرار، فقيل له: فما ولدت بعد موته؟ قال: ما ولدت قبل اقتسام
الورثة إن كان سيدها مات وهي حامل فهو حر.
قلت: أمن رأس المال أم من الثلث؟ قال: بل من رأس المال، قال: وما حملت به
بعد موت السيد فهم عبيد، وما ولدت بعد القسم وإن كانت به حاملا قبل موت
السيد فهو عبد للذي صارت له الأمة.
(5/10)
قلت: أكان يمنع سيدها من بيعها؟ قال: لا،
قلت: رهقه دين أم لم يرهقه؟ قال: ذلك سواء، يبيعها متى ما شاء في الدين
وغير الدين.
قلت: فالورثة ألهم بيعها إذا مات وهي حامل؟ قال: نعم، احتاجوا إلى ذلك أو
استغنوا عنه، ألا ترى أن لهم أن يدخلوها في قسمهم، فتبطل بذلك عتاقة ما في
بطنها، والبيع كذلك يجوز لهم، احتاجوا إلى ذلك أو استغنوا عنه. قلت: أرأيت
لو لم يكن ذلك على السيد في شرط، ولكنه قال لبعض إمائه: كل ولد تلدينه فهو
حر، أهي مثل الذي يزوجها على هذا الشرط؟ فقال: الشرط في هذا والابتداء
سواء، إلا أن النكاح يفسخ إذا وقع بهذا الشرط. قلت: والذي ذكرت من تجويز
بيعها للسيد أتريد بذلك إذا لم تكن حاملا حين بيعها أم ذلك له في الحمل
وغيره؟ فقال: إنما ذلك إذا لم تكن حاملا. قال أصبغ: لا أرى أن يقسم حتى تضع
إلا أن يرهق دين أو يخاف تلف المال.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة والقول فيها موعبا في رسم الجواب من
سماع عيسى، وذلك يغني عن إعادته ها هنا وبالله التوفيق.
[مسألة: الرجل يتحمل ابنه بصداق امرأته فتلزمه
المرأة وتريد قبضه منه]
مسألة قال يحيى: وسألت ابن القاسم عن الرجل يتحمل عن
(5/11)
ابنه بصداق امرأته فتلزمه المرأة وتريد
قبضه منه، ويدعو ابنه إلى الابتناء: ألها أن تأخذه بالحمالة وتدع زوجها لا
تطلبه بشيء؟ فقال: لو كان ضمن لها ذلك عنه لها في ماله، كان غرم ذلك لازما
له إذا دعت إلى أن يبني بها زوجها، ولم يكن للزوج عذر في ترك الابتناء من
صغر به ولا بها، فأما إذ لم يجب حقها عليه إلا على وجه الحمالة، فلا سبيل
لها إليه حتى لا يوجد للزوج مال، فإن كان معدما لزم الأب غرم ما تحمل عنه
لها، ويطلب الأب ابنه بما غرم عنه. قال: وإن طلقها قبل البناء بها غرم الأب
نصف الصداق عن ابنه إن كان معدما، واتبعه به دينا عليه، وإن كان مليا أخذت
نصف الصداق من مال زوجها. قيل له: فإن كان الأب حمل الصداق عن ابنه في ماله
فطلقها قبل البناء بها؟ قال له: طلقها قبل البناء بها، وقد كان الأب حمل
الصداق في ماله، فنصف الصداق للمرأة غرم على الأب، وليس للابن على أبيه من
النصف الثاني شيء.
قلت: أرأيت إن طلقها قبل البناء بها وقد مات أبوه؟ قال: يكون للمرأة نصف
الصداق من رأس مال أبيه، ويكون النصف الثاني للورثة ليس للابن منه شيء
دونهم.
قلت: ولم جاز للأب أن يحبس على الابن النصف الثاني، وصار أيضا ذلك النصف
للورثة حين طلقها بعد موت أبيه، وقد كان لو ابتنى بها يلزم الأب والورثة
بعد الأب أن يدفعوا إلى المرأة جميع الصداق؟ قال أصبغ: لأنه جعل له عطية
تتم أو لا تتم، فإن تمت في الدخول لزمت، وإلا فما لزم منها، وما لم يتم فلا
يلزمه؛ لأنه ساقط عن الابن، فلما سقط عن الابن سقط عن المتحمل به، بمنزلة
من احتمل عن رجل بثمن سلعة بعينها اشتراها فاشتراها
(5/12)
ولم يتم له الاشتراء بعيب فيها أو استحقاق
بالثمن، رد إلى الحميل ليس للمعطى منه شيء، وهو قول مالك في الطلاق.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة لا اختلاف فيها، إلا في موضعين: أحدهما
ضمان الرجل عن الزوج الصداق في عقد النكاح، ابنه كان أو أجنبيا، هل هو
محمول على الحمل حتى ينص أنه أراد الحمالة؟ أو الحمالة حتى ينص أنه أراد
الحمل، والحمل هو أن يؤدي عنه ما حمل عنه من المال ولا يرجع به عليه،
والحمالة هي أن يؤدي عنه ما يتحمل به عنه ويرجع به عليه، هذا معلوم عند
الفقهاء بعرف التخاطب، وإن كان في اللغة سواء في المعنى؛ لأنهما جميعا
مصدران، من حمل يحمل حملا وحمالة فمذهبه في المدونة أنه محمول على الحمل
حتى يتبين أنه أراد الحمالة. وهو قول ابن حبيب في النكاح من الواضحة وقول
ابن القاسم في سماع سحنون، بعد هذا، وروى عيسى عنه في غير العتبية أنه على
الحمالة حتى يتبين أنه أراد الحمل، وليس في هذه الرواية في ذلك شيء يعتمد
عليه؛ لأن قوله لو كان ضمن لها ذلك في ماله، كان غرم ذلك؛ لأن ماله يريد
على وجه الحمل، يدل على أنه لو كان ضمن لها ولم يقل: في ماله، لم يجب عليه
غرم ذلك إلا على وجه الحمالة، وقوله: فأما إذا لم يجب حقها عليه إلا على
وجه الحمالة، إلى آخر قوله، يدل على أنه إذا وجب حقها عليه على وجه الضمان،
كان غرم ذلك واجبا عليه على سبيل الحمل، وهذا تعارض في الظاهر، ولو ضمن لها
عنه الصداق بعد عقد النكاح، أو الثمن في عقد البيع، أو بعد عقده، لكان
(5/13)
ذلك محمولا على الحمالة حتى ينص أنه أراد
الحمل، قولا واحدا. والموضع الثاني هل المتحمل عنه محمول على الملاء فلا
يكون للمتحمل له رجوع على الحميل حتى يثبت أن المتحمل عنه عديم؟ أم محمول
على العدم، فيكون للمتحمل له أن يرجع على الحميل حتى يثبت الحميل أن
المتحمل عنه ملي؟ فظاهر قوله في هذه الرواية، فلا سبيل لها إليه حتى لا
يوجد للزوج مال، يدل على أن المتحمل عنه على الملأ خلاف ما لسحنون في
نوازله من كتاب الكفالة إنه محمول على العدم، والحميل غارم، إلا أن يكشف أن
للمتحمل عنه مالا. وقوله في الذي حمل الصداق عن ابنه: إن للزوجة أن تأخذ
جميع صداقها من رأس ماله إن لم يطلق الابن في ماله فطلقها قبل البناء، إن
النصف الذي يسقط عن الابن بالطلاق يسقط عن الأب، ولا يكون للابن صحيح.
ووجهه أن الأب لم يعط الصداق للابن، وإنما التزم أداءه عنه، فوجب إسقاطه
عنه ما لم يجب أداؤه عليه منه لسقوطه عنه بالطلاق، وهذا بين على القول بأن
الصداق يجب نصفه بالعقد، والنصف الثاني بالدخول، وأما على القول بأن الصداق
يجب جميعه للزوجة بالعقد، ويستحق الزوج عليها نصفه بالطلاق، فيتخرج على قول
ابن الماجشون أن يكون للابن النصف الذي يجب له بالطلاق. وقد مضى بيان هذا
في رسم طلق من سماع ابن القاسم. وقوله إذا مات الأب الذي حمل الصداق عن
ابنه: إن للزوجة أن تأخذ جميع صداقها من رأس ماله إن لم يطلق الابن، أو
نصفه إن طلق صحيح؛ لأنها عطية انعقد عليها النكاح فلم يفتقر إلى حيازة،
وكذلك لو حمل عن رجل في عقد البيع سلعة اشتراها، وإنما يختلف إذا حمل عن
ابنه أو عن أجنبي الصداق بعد عقد النكاح، أو ثمن السلعة بعد عقد البيع، هل
يفتقر ذلك إلى حيازة، أم لا؟ على قولين، والله الموفق للصواب.
(5/14)
[مسألة: يتزوج
المرأة فينحل وليها فتكره المرأة أن تتبع وليها بشيء من ذلك]
مسألة قال يحيى: وسألت ابن القاسم عن الرجل يتزوج المرأة فينحل وليها نحلة
لعلها أن تكون أكثر من الصداق، فتكره المرأة أن تتبع وليها بشيء من ذلك،
ويريد الزوج الرجوع على الولي بالذي نحله أذلك له أم لا؟ فقال: إنما الحق
فيه للمرأة إذا اشترطه الولي، فإن أحبت أخذه كان ذلك لها، وإن تركته فالأمر
إليها، ولا حق فيه للزوج، وليس له أن يرجع فيه على الولي ولا على المرأة؛
لأنه يعد من صداقها. ألا ترى أنه لو طلقها قبل أن يمسكها كان نصف الحباء
للذي نحل الولي للرجل، ونصفه للمرأة، قيل له: فما كان من نحلة نحلها الزوج
ولي المرأة أو بعض أختانه على غير شرط، أيكون للمرأة فيه حق إن اتبعته؟ أو
يكون للزوج أن يرجع على الختن الذي أنحله؟ قال: إذا لم يكن على ذلك أنكحه،
ولا عدة عاملة عليها حتى تكون كالشرط، وإنما هو من الزوج كالشكر للأولياء،
أو لبعض الأختان وصلة لهم، أو على وجه الصلة لهم قبل النكاح؛ ليستجر
مودتهم، فلا حق فيه للمرأة قبل وليها، ولا يجوز للزوج الرجوع فيه ولا
الإتباع لهم به لمن أعطته.
قال محمد بن رشد: الحباء لولي المرأة ينقسم على ثلاثة أقسام:
(5/15)
أحدها أن يكون ذلك عند الخطبة قبل العقد.
والثاني أن يكون ذلك عند العقد بشرط. والثالث أن يكون ذلك بعد العقد على
غير شرط. فأما ما كان من ذلك عند الخطبة قبل العقد، فإن تم العقد كانت
المرأة أحق، وإن لم يتم العقد كان للزوج الرجوع به على الولي؛ لأن الذي
أعطي بسببه لم يتم له، وأما ما كان من ذلك عند العقد بشرط، فحكمه حكم
الصداق يكون للمرأة قبل وليها إن اتبعته، وليس للزوج أن يرجع به على الولي،
وإن طلق كان له النصف. قال ابن حبيب في الواضحة: وكون المرأة أجازت ذلك
لوليها ثم طلقها الزوج قبل البناء رجع الزوج بنصف ذلك الحباء على وليها من
كان أبا أو غيره، كانت المرأة ممن يولى عليها أو جائزة الأمر، إذا كانت ممن
لا يولى عليها، وللمرأة أن ترجع بنصف الحباء الثاني على وليها إذا كانت ممن
يولى عليها، وإنما رأى للزوج أن يرجع على الولي بنصف الحباء، بعد أن أجازته
له المرأة، وإن كان ليس له أن يرجع على الموهوب له الصداق بنصفه؛ لأنه إذا
قبضه أنزله بمنزلة الذي يتزوج المرأة على أن يهب عبده لفلان. وأما ما كان
من ذلك بعد العقد على غير شرط فهو للولي الذي حبا به لا رجوع للزوج فيه
عليه ولا حق للمرأة فيه. والأصل في هذا كله ما روي أن الرسول - عَلَيْهِ
السَّلَامُ - قال: «أيما امرأة نكحت على صداق أو حباء أو عدة قبل عصمة
النكاح فهو لها، وما كان بعد عصمة النكاح فهو لمن أعطيه، وأحق ما أُكْرِمَ
(5/16)
عليه الرجل أخته أو ابنته» . انتهى الحديث
فجعل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما كان من حبا أو عدة قبل عصمه
النكاح للمرأة التي هي سبب العطية؛ لأنه إذ لم يثبت له بعد سبب يستوجب به
الكرامة. ومن هذا المعنى ما روي أن الرسول - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال
لابن الابنة لما رجع إليه من الولاية على الصدقة فقال: هذا لكم وهذا أهدي
لي، فقال الرسول منكرا ذلك عليه: «أفلا جلس في بيت أبيه أو في بيت أمه
ينتظر هل تأتيه هدية» ؟ فرد حكم الهدية إلى السبب الذي من أجله كانت
الهدية، وجعل ما كان بعد ثبات العصمة من كرامة الولي؛ لأنه قد ثبت له ما
يستوجب له الكرامة. وأما ما كان شرطا في العقد فلا إشكال في أن له حكم
الصداق والله الموفق.
[مسألة: المرأة تزوج أباها أمتها أو لابن تزوج
أباه أمته]
مسألة قال يحيى: وسألت ابن القاسم عن المرأة تزوج أباها أمتها أو الابن
تزوج أباه أمته، قال: النكاح مفسوخ وتقوم على الأب، حملت أو لم تحمل، كان
مليا أو معدما، فإن حملت كانت بذلك الحمل أم ولد، وحاله في هذا المسيس بهذا
النكاح، كحال الرجل يتعدّى على أمة ابنه فيطأها، غير أن المعتدي على ابنه
في أمته يقوم
(5/17)
عليه، كان مليا أو معدما، وكان الابن صغيرا
أو كبيرا، حملت منه أو لم تحمل.
قال محمد بن رشد: إنما لم يجز للرجل أن يتزوج أمة ولده، لما له فيها من
شبهة الملك، يدرأ به عنه الحد، لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أنت
ومالك لأبيك» والرجل لا يجوز له أن يتزوج أمته، ولا ينعقد له فيها نكاح؛
لكونه مالكا للبضع قبل النكاح ملكا هو أقوى من ملك النكاح، والنكاح إنما
يكون ليستباح به الفرج، ولأن الله تعالى قال: {وَالَّذِينَ هُمْ
لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون: 5] {إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ
مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون: 6]
. ففرق بين النكاح وملك اليمين، ولم يبح الفرج إلا بأحدهما، فوجب لأجل ذلك
ألا يجمع بينهما، وأن يبطل الملك النكاح، تقدم أو تأخر، فلو جاز أن ينعقد
نكاح على ملك، لجاز أن ينعقد ملك على ملك، ونكاح على نكاح، وهذا قول مالك
وجميع أصحابه، إنه لا يجوز للرجل أن يتزوج أمة ابنه، إلا عبد الله بن
الحكم، فإنه يجيزه، قال: ومع أني أكرهه، فإن وقع لم أفسخه، وإلى مثل قوله
ينحو قول مالك في سماع ابن القاسم، من كتاب السرقة: إن العبد إذا سرق من
مال ابن سيده، قطعت يده، فرأى وطء الرجل أمة ابنه بنكاح، كوطئه إياها دون
نكاح، فيما يجب من تقويمها عليه في اليسر والعسر، وإن لم تحمل على قوله إنه
لا يجوز له تزويجها؛ لأنه إذا قومت على الأب وإن كره الابن في العدل من أجل
أنها لا تحل له، فأحرى أن تقوم عليه في التزويج؛ لأنه قد أذن له في وطئها،
وقوله: غير أن المعتدي إلى آخر قوله، استثناء لا وجه له، لا لسواء الوجهين،
والله أعلم.
(5/18)
[مسألة: يزوج
الرجل أمته على أن أول بطن تلده فهو حر]
مسألة قال يحيى: وسألت ابن القاسم عن الذي يزوج الرجل أمته على أن أول بطن
تلده فهو حر، فولدت بطنا في حياة سيدها أو بعد موته، قال: ما ولدت في ذلك
البطن فهو حر.
قلت: فإن ولدت توأمان، قال: نعم، كل ما كان في ذلك البطن فهم أحرار، قال:
ويفسخ النكاح.
قلت: ولم فسخته والشرط للذي به يفسخ النكاح قد انقضى؟ قال: لأن عقد النكاح
وقع بما لا يصلح، فليس انقضاء الشرط بولادة الأمة يسقط الفسخ الذي كان وجب
في النكاح الفاسد، فهو مفسوخ متى ما علم به.
قلت: وإن طال زمانه جدا؟ قال: نعم، وإن طال زمانه بعد موت، فإنه لا يصلحه
طول زمان، قال: وإن ولدت بعد موت السيد، وقبل القسم، فإن ولدها من ذلك
البطن حر.
قلت: فهل يُمنع من بيعها إن حملت؟ قال: نعم، إلا أن ينزل به دين.
قلت: فالورثة هل يمنعون من اقتسامها إن كان السيد مات وهي حامل؟ قال: لا
يمنعون من ذلك، فإن ولدت قبل القسم عتق ولدها من ذلك البطن بالشرط، وإن
اقتسموا قبل الولادة انقطع الشرط، وكان ولد الأمة للذي تصير إليه الأمة،
قال أصبغ: إذا طال وخيف على الميراث التلف، وإلا وقفوا.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة والقول فيها مستوفى في رسم الجواب من
سماع عيسى، وتكررت أيضا فيما مضى من هذا الرسم، فلا معنى لإعادة القول
فيها.
(5/19)
[مسألة: الرجل
يدفع إلى امرأته نقدها أيجوز لها أن تقضي منه]
مسألة قال يحيى: وسألت ابن القاسم عن الرجل يدفع إلى امرأته نقدها أيجوز
لها أن تقضي منه إلا الشيء التافه الذي لا خطب له وإن قام عليها غرماؤها
ولم يمكنوا من أخذ ذلك الصداق منها إلا بإذن زوجها ورضاه؟ قال: وكذلك قال
لي مالك: لا يجوز إلا الدينار ونحوه.
قلت: أرأيت كالئ صداقها، أيجوز لغرماء المرأه أن يبيعوه بالنقد إذا كان على
زوجها إلى أجل، فيتحاصُّون فيه؟ وإن كان حالا أيجوز لهم اقتضاؤه لها وقبضه
لأنفسهم عنها؟ أو يكون حال الكالئ من صداقها والنقد سواء؟ وكيف إن قام
الغرماء على المرأة باقتضاء حقوقهم بعد البناء بأيام يسيرة؟ أيباع لهم
متاعها الذي اشترت بنقدها أم حتى متى توقفهم عن بيع ذلك عليها وما أجله
عندك؟ قال: ليس لذلك وقت، وإنما الذي لا يجوز لها من ذلك الصداق تأخذه
فتدفعه في دينها، فأما ما أحدثت المرأة في ذلك بعد دخول زوجها بها من بيع
أو اشتراء، أو جرح أو غير ذلك، فلحقها فيه الدين، فإنها لا تمنع من بيع ذلك
وقضائه الغرماء أو يفلسها الغرماء، فيكون لهم بيع متاعها ومالها ما كان منه
من صداقها أو غير ذلك، وكذلك هو عندي لو ماتت أخذ الغرماء في ذلك ما كان
على الزوج من بقية صداقها، أو حاضر ما في يديها، وهذا رأيي.
(5/20)
قال محمد بن رشد: قوله: إنها لا يجوز لها
أن تقضي من مهرها ديونها، إلا أن يكون الشيء التافه اليسير، الدينار ونحوه،
ومثل ما قال في كتاب الديات من المدونة. ولمالك في كتاب ابن المواز: إلا أن
يكون الشيء اليسير مثل الدينارين والثلاثة، وليس ذلك باختلاف من القول،
وإنما ذلك على قدر قلة الصداق وكثرته، فقد يكون صداقها الدينارين والثلاثة،
فيكون الدينار الواحد من ذلك كثيرا، وقد يكون صداقها ألف دينار، فتكون
العشرة من ذلك أو أكثر قليلا، وهذا كله صحيح على أصله، في أن المرأة يلزمها
أن تتجهز لزوجها بصداقها، ولم يجد على الكالئ هل يكون حكمه في ذلك حكم
النقد أم لا؟ فأما إذا كان أجله بعد البناء فلا إشكال في أنه لا حق فيه
للزوج، وأنه لا يلزم المرأة أن تتجهز به إلى زوجها، فلغرمائها إذا قاموا
عليها بديونهم قبل البناء أن يبيعوه بالنقد في ديونهم، وأن يقتضوه إن كان
قد حل قبل البناء بتأخر البناء عن الوقت الذي جرت العادة أن يبني أهل البلد
إليه، وأما إن كان أجله إلى قبل البناء، فحكمه حكم النقد، وإن تعجل قبل
حلوله، وكذلك إن كان النقد عرضا يلزمها أدن تبيعه فيما تتجهز به إلى زوجها،
إلا أن يكون العرض مما يقصد إلى اقتنائه، كالسياقات وشبهها. وظاهر قوله:
إذا قام الغرماء عليها بعد الدخول وأرادوا بيع جهازها في ديونهم، أنه فرق
بين أن يكون الديون حادثة بعد الدخول أو قديمة قبله، وليس المعنى في ذلك لا
الطول، وإنما قال: إن جهازها يباع فيما تحدثت بعد الدخول من الديون؛ لأن
الأغلب أن ذلك لا يكون إلا في الطول، فإذا قاموا بعد أن طالت المدة، وكان
الزوج قد استمتع بجهازها ما له قدر وبال من الاستمتاع، كان لهم أن يقبضوا
منه حقوقهم، كانت ديونهم حادثة بعد الدخول أو قديمة قبله، وإن قاموا بحدثان
دخول زوجها بها وتجهزها إليه، لم يكن لهم أن يقبضوا ديونهم من جهازها، وإن
كانت حادثة بعد الدخول، للحق الذي للزوج من الاستمتاع بما نقدها.
(5/21)
[مسألة: امرأة
ادعت على رجل قد مات، أنه كان زوجها]
مسألة قال يحيى: وسألت ابن القاسم عن امرأة ادعت على رجل قد مات، أنه كان
زوجها، فأقامت البينة أن ذلك الرجل كان مقرا في صحته أن تلك المرأة امرأته،
وأنه كان أصدقها كذا وكذا، ولم تقم بينة على إقرارها في حياته بمثل الذي
كان به هو مقرا، ولا على أصل النكاح، قال: إن كانت المرأة في ملكه وعياله،
وتحت حجابه، فالقول قولها لحيازته إياها، وخلوته بها، ومصيرها في يديه مع
إقراره بنكاحها، وتسمية صداقها في صحته وجواز أمره، وإن كانت المرأة بائنة
منه في أهلها عنه، منقطعة في مسكنها، فلا ميراث لها ولا صداق، إذا لم تقر
بما كان يدعيه ويقر به من نكاحها، إلا بعد موته، وذلك أنه لو كان حيا فماتت
قبله، فأراد أن يرثها بذلك الإقرار الذي كان منه قبل موتها، لم يكن ذلك له
حتى يعرف إقرارها بمثل ما كان يدعيه من نكاحها، مع إشهار ذلك وإعلانه،
وتقادم ادعائه، ذكر ذلك منها إذ لم تقم بينة على أصل النكاح.
قلت: أرأيت إن كان الذي ادعت هذه المرأة أنها امرأته، كانت في عياله وملكه،
فأنكر الورثة وأتت بالبينة أن الرجل كان يخبر من جالسه أن له امرأة، ولم
يسمها لهم، فزعم الشهود على إقراره بهذا أنهم لا يعرفون امرأته بتلك التي
كان بها مقرا بعينها، ولا باسمها ولا نسبها، ولا يدعي هذه الدعوى غيرها.
أترى أن شهادة هؤلاء توجب لها الميراث؟ قال: لا ميراث لها بهذه الشهادة؛
لأنها غير قاطعة.
قال محمد بن رشد: أوجب ابن القاسم في هذه المسألة الميراث للمرأة بإقرار
الرجل في صحته أنها امرأته مع كونها في ملكه، وتحت حجابه،
(5/22)
وإن لم يعلم منها إقرار بما كان يدعيه ويقر
به من نكاحها؛ لأن كونها في ملكه وتحت حجابه، كالإقرار منها بالنكاح أو
أقوى، ولو ماتت هي لورثها على ما في رسم الجواب من سماع عيسى من كتاب
الأقضية، في الذي ابتاع جارية فولدت منه أولادا، وقد كان الرجل يخبر الناس
أنها امرأته تزوجها وقد كان يحلف بطلاقها، وقد قيل في تلك: إنه إنما أوجب
لها ابن القاسم الميراث، لظهور الولد بينهما بعد إقراره بنكاحها، ولولا
ظهور الولد بينهما، لما أوجب لها الميراث بإقراره بنكاحها، مع كونها تحت
حجابه وفي ملكه، لكونها على ذلك في الأصل بحق الملك، وأما لو لم تكن في
ملكه وتحت حجابه، لما وجب لها الميراث، إذا لم يعلم إقرارها في صحته بما
كان يدعيه من نكاحها، واختلف إذا تقارا بالزوجية جميعا ولم تكن في ملكه
وتحت حجابه، فقيل: إن الزوجية تثبت بينهما بذلك، ويتوارثان بها، إذا اشتهر
ذلك من قولهما، وتقادم ذلك، وظهر في الجيران، وهو قول ابن القاسم في هذه
الرواية، وقول ابن وهب من سماع يحيى من كتاب الشهادات، وقيل: إن النكاح لا
يثبت ولا يكون بينهما ميراث بتقاررها بالنكاح مع طول الزمان، حتى يثبت
النكاح بالنية، وهو قول ابن القاسم، وأشهب، في سماع يحيى من كتاب الشهادات،
ويصح للشاهد أن يشهد بالقطع على النكاح من ناحية السماع، إذا كثر القول به
حتى وقع العلم به للسامع من ناحية التواتر على ما في سماع أبي زيد، ونوازل
سحنون من كتاب الشهادات وبالله التوفيق.
[مسألة: الحربي يتزوج في دار الإسلام ذمية
فيولد له منها]
مسألة قال يحيى: وسألت ابن القاسم عن الحربي يتزوج في دار الإسلام ذمية
فيولد له منها، أو الذمي يتزوج الحربية في دار الإسلام، فيولد له منها،
وإنما كان خروج الحربي والحربية إلى دار الإسلام بلا عهد أعطياه ولا أمان،
ثم اطلع السلطان على أمرهما، فأخذا، فما ترى
(5/23)
في رقابهما وأموالهما وأولادهما؟ قال: سئل
مالك عن أهل قبرس، يدخل إليهم ناس من العدو، فيتزوجون من نسائهم، أو يخرج
القبرسي إلى الروم، فيتزوج امرأة، فيأتي بها، فتلد أولادا، ويولد للرومي من
القبرسية ولد فيؤخذون، فما ترى الحكم فيهم؟ فقال: الولد في هذا تابع
للآباء، فإن كان رومي تزوج قبرسية فولده فيء، وإن كان قبرسي تزوج رومية
فولده على مثابة أبيهم في العهد، وسمعت الليث يقول مثله، وإنما يكون الولد
تبعا للأم في المملكة، فأما الأحرار من أهل الذمة، والحربيين أو المصالحين،
فهم تبع للآباء، وكذلك قال مالك والليث، وهو رأيي.
قال محمد بن رشد: قوله في الحربي يتزوج ذمية، أو الذمي يتزوج حربية: إن
الولد تبع للأب في حاله، من العهد أو غير العهد، هو على خلاف ما في المدونة
في الذمية يسبيها العدو، فتلد عندهم، فتسبى هي وولدها: أن ولدها تبع لها،
إلا أن يكون قد بلغ وقاتل واحتلم، مثل قول ابن الماجشون وأشهب إن ولدها
وصغارهم وكبارهم فيء، وفي المدونة لابن دينار، قول ثالث إن الولد تبع لذي
العهد من أحد الأبوين من كان منهما، ولا يسترقون، ولا اختلاف في الحربي
يتزوج الأمة أن ولدها رقيق لسيد الأمة. وقال ابن الماجشون وأشهب في الأمة
يسبيها العدو فتلد عندهم: إن ولدها صغارهم وكبارهم فيء، والوجه في قوله أنه
حكم لهم بحكم الدار، وبالله التوفيق.
[مسألة: مرض فدعا جارية عنده فقال أشهدوا أني
أعتقتها في صحتي]
مسألة قال يحيى: وسألت ابن القاسم عن رجل خصي مرض فدعا جارية عنده، فقال
لمن حضره: أشهدكم أني قد كنت أعتقتها في
(5/24)
صحتي، وتزوجتها، وأنا أشهدكم أنها طالق
ألبتة، وقد كانت تعرف مملوكة، ولا يشهد أحد على أصل نكاح ولا عتق في الصحة.
فقال: لا تعتق في ثلث ولا غيره ولا صداق لها ولا ميراث إذا لم يكن لها نية
على أصل نكاح كان قبل المرض، وذلك أن النكاح لا يثبت، وإن أقر به إلا بثبات
العتاقة، والعتاقة لا تثبت بمثل هذا الإقرار في المرض، ولا تعتق في ثلث إلا
أن يقول: أمضوا عتقها.
قلت: أرأيت إن صح ماذا يجب لها بهذا الإقرار الذي كان في المرض؟ قال تتم
حرمتها ويلزمه طلاقها ولا تحل له إن أراد نكاحها إلا بعد زوج.
قلت: فكم يكون صداقها ولم يكن إذا قر بنكاحها في مرضه ذكر تسمية صداق، وقد
اختلف فيه اليوم حين لزمه العتق والطلاق، بالصحة من المرض؟ قال: القول قول
الزوج فيما أقر به من الصداق.
قال محمد بن رشد: قد اختلف في قول الرجل في مرضه: قد كنت أعتقت عبدي هذا في
صحتي، فيموت من مرضه، على ثلاثة أقوال: أحدها هذا أنه لا يعتق في رأس المال
ولا في الثلث، إلا أن يقول: أمضوا عتقه، فيعتق. والقول الثاني إنه إن كان
ورثته ولدا أعتق من رأس المال، وإن كان ورثته كلالة، لم يعتق من رأس المال
ولا من الثلث. وهذا القول في كتاب أمهات الأولاد من المدونة، في الذي يقر
في مرضه بأن أمته ولدت منه، ولا ولد معها، ولا فرق بين المسألتين. والقول
الثالث إنه إن كان ورثته ولدا أعتق من رأس المال، وإن كان ورثته كلالة، عتق
من الثلث، وهذا القول رواه ابن عبد الحكم عن مالك، وهو في كتاب المكاتب من
المدونة، والميراث في هذه المسألة والصداق، إن كان سماه، جار على هذا
الاختلاف، يكون لها من
(5/25)
الميراث والصداق من رأس المال على القول
إنها تعتق من رأس المال إن كان ورثته ولدا، ويكون لها الميراث والصداق من
الثلث على القول بأنها تعتق من الثلث، ولا صداق لها ولا ميراث على القول
بأنها لا تعتق لا من رأس المال ولا من الثلث، وهو قوله في هذه الرواية، وإن
صح من مرضه ثبتت حريتها، وكان لها جميع ما أقر لها به من الصداق، إن كان قد
دخل بها، ونصفه إن كان لم يدخل بها، من أجل أنه طلقها، ولا تحل له إلا بعد
زوج، وبالله التوفيق.
[الرجل يشتري الأمة على أن ينكحها عبده]
ومن كتاب الصبرة وقيل في الرجل يشتري الأمة على
أن ينكحها عبده، فوجبت له على ذلك، وأنكحها العبد: إن البيع مفسوخ،
إن لم تفت الأمة، ويفسخ النكاح أيضا، وإن فاتت كان عليه قيمتها يوم اشتراها
ويفسخ النكاح؛ لأن مالكا قال: لا يكون نكاح وبيع، فإن أراد ذلك سواء كان
الشرط عند البيع في نكاحها أو نكاح غيرها.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال إنه لا فرق بين أن يكون الشرط في نكاحها، أو
نكاح غيرها، لما يخشى في ذلك من أن يكون البائع قد ازداد في ثمن الأمة التي
باعها مقدار ما نقد المبتاع في تزويجها من عبده، فيكون الفرج موهوبا بلا
صداق، وكذلك لو باعها منه على أن يزوجها منه، أو على أن يزوج أمة له أخرى
منه أو من عبده، أو على أن يزوج وليته منه، الحكم في ذلك كله سواء، وقد مضى
في رسم أوصى أن ينفق على أمهات أولاده، من سماع عيسى، القول في حكم اجتماع
البيع والنكاح في صفقة واحدة مستوفًى، فلا وجه لإعادته هنا، وبالله
التوفيق.
[مسألة: يقول إن مت من مرضي فقد زوجت ابنتي
فلانة من ابن أخي فلان]
مسألة قال: وسمعت مالكا يقول في الرجل يوصي في مرضه فيقول:
(5/26)
إن مت من مرضي فقد زوجت ابنتي فلانة من ابن
أخي فلان، إن ذلك جائز.
قلت: كبيرا كان ابن أخيه أو صغيرا، قال: نعم أراه جائزا، ولم أسأل مالكا عن
كبير ولا صغير.
قال محمد بن رشد: هذه المسألة في بعض روايات المدونة وزاد فيها، ولابنة
صغيرة، وهو معنى المسألة، وقوله في هذا النكاح: إنه جائز، يريد إن قبله ابن
أخيه إن كان كبيرا أو وليه إن كان صغيرا. قال سحنون: وإنما يجوز النكاح إن
قبله الزوج بقرب ذلك، وهذا على اختلافهم في الرجل يزوج الرجل الغائب، وقيل:
يجوز إن أجازا بالقرب، وقيل: يجوز، وإن أجازا بالبعد على ما مضى القول فيه
في أول رسم من سماع ابن القاسم، ولو قال: إن مت من مرضي فزوجوا ابنتي من
ابن أخي أو من فلان، فجاز النكاح، وإن طال الأمر قبل القبول، وكذلك لو قال:
زوجوها منه بعد عشر سنين، أو بعد بلوغها لجاز، وإنما افترق ذلك؛ لأن النكاح
في الأول من الميت لازم للابنة بموته، إن قبله الزوج بالقرب، على الاختلاف
المذكور، ولأنه في المسألة الثانية من الوكيل لا من الميت، وقد حكى ابن
حارث عن يحيى بن عمر أنه قال: وسواء طال الأمر، أو لم يطل، على قياس قول
ابن القاسم، يريد على قياس قوله في رسم حلف من سماع ابن القاسم إذ جعل قوله
فيها: فقد وصيته بابنتي، راجعا إلى معنى الوصية بتزويجها، فيلزمه على قياس
ذلك أن يجعل قوله في هذه المسألة: فقد زوجته ابنتي، راجعا إلى معنى الوصية
بتزويجها، فيجوز قبوله لذلك في القرب والبعد، وهو ظاهر قوله في هذه
الرواية، إذ لم يفرق فيهما بين قرب ولا بعد، واختلف إذا قال في صحته: إن مت
فقد زوجت ابنتي فلانا، فأجازه أشهب. وقال ابن القاسم: لا يجوز إلا في
المرض.
قال محمد بن رشد: وهو أصوب؛ لأنه إذا كان في الصحة فكأنه إلى أجل، ولعل ذلك
يطول، كالذي يقول: إذا مضت سنة فقد زوجت ابنتي فلانا، وقول أشهب عندي أحسن؛
لأنه إذا حمله على الوصية فلا فرق بين
(5/27)
الصحة والمرض في الوصية، ووجه قول ابن
القاسم أنه حمله في الصحة على البت، فلم يجزه، وفي المرض على الوصية،
فأجازه في القرب والبعد، على ما حكيناه عنه. وحمله محمد على البت في الصحة
والمرض، فلم يجزه في الصحة لطول الأمر، كالذي يقول: إذا مضت سنة فقد زوجت
ابنتي من فلان، وأجازه في المرض، كالذي يقول: إن مضى شهر فقد زوجت ابنتي من
فلان، إن النكاح جائز إن رضي فلان لازم بمضي الشهر، وإنما قال في المدونة
في الذي قال إذا مضى الشهر، فأنا أتزوجك، ورضيت بذلك المرأة والولي، إن
النكاح باطل، من أجل أن قوله: فأنا أتزوجك ليس بالتزام، فيكون نكاح له فيه
خيار. وقد قال بعض من تكلم على مسائل المدونة: إنه إنما قال النكاح باطل
على أنه عنده التزام، والأول أظهر والله أعلم.
[الرجل يوصي أن تزوج ابنته رجلا سماه، فتُنكر ذلك الابنة بعد موته]
ومن كتاب الصلاة وقال في الرجل يوصي أن تزوج ابنته رجلا سماه، فتُنكر ذلك
الابنة بعد موته، وتقول: لا يلزمني ما أوصى به، إذ لم يعقد على النكاح،
قال: الوصية لها لازمة، إلا أن يأبى الرجل الذي سماها له أن يتزوجها.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة في رسم حلف ليرفعن أمرا من سماع ابن
القاسم، وذكرنا هناك أنه يتحصل فيها ثلاثة أقوال، فلا معنى لإعادة ذلك.
وبالله التوفيق.
[رجل تزوج بصداق إلى ميسرة]
ومن كتاب أوله يشتري الدور والمزارع للتجارة وقال في
رجل تزوج بصداق إلى ميسرة إنه إن كان
مليا يوم وقع النكاح بهذا الشرط، فالنكاح جائز، وله عليهم أن ينتظروه بقدر
ما يرى من التوسعة على مثله، قال: وإن كان معسرا فموقع
(5/28)
النكاح بهذا الشرط، فإنه إن نظر فيه قبل
البناء فسخ، وإن نظر فيه بعد البناء مضى، وفرض لها صداق مثله، وبطل الصداق
الأول للذي وقع بالمكروه.
قال محمد بن رشد: أما الذي تزوج بصداق إلى ميسرة وهو معسر، فلا إشكال ولا
اختلاف في أنه نكاح فاسد كما قال؛ لأنه أجل مجهول. وأما إذا كان مليا
فأجازه ابن القاسم في هذه الرواية، ورآه مثل ما جوز من البيع على التقاضي،
وهو إلى غير أجل سمياه، إلا أنه معلوم بالعرف، فكذلك هذا معلوم بما يعرف من
حاله، فينظر إلى ما يعلم أن الصداق يتيسر له إليه من المدة. وحكى ابن حبيب
أن أصبغ ذكر أن ابن القاسم كان يجيزه ويجعله حالا، وليس ذلك بخلاف لما
قلناه؛ لأنه وإن سماه حالا فلا بد أن ينظر به على قدر ما يرى أنه يتهايأ له
من غير أن يفسد فيه متاعه، ويبيع أصوله، بالغا ما بلغ، وهذا كمن أسلف رجلا
سلفا حالا، فإنه لا يؤخذ به في الحين، ولا بد من أن يؤجل فيه على قدر ما
يعلم من القصد في ذلك بالعرف والعادة، وابن الماجشون يراه أجلا مجهولا يفسخ
به النكاح قبل الدخول. ويقوم من تعليل ابن حبيب لقول ابن الماجشون، إجازته
إذا لم يكن معه نقد معجل، بخلاف إذا كان معه نقد معجل، ولو قيل في هذه
التفرقة بالعكس لكان أشبه، من أجل أن الضرر يقل إذا كان معه نقد معجل، وقول
ابن القاسم أظهر؛ لأن النكاح في باب الصداق، أوسع من البيوع؛ لأنه يجوز فيه
من الغرر والمجهول، ما لا يجوز في البيع. من ذلك النكاح على عبد غير موصوف،
وعلى شوار بيت، وما أشبه ذلك وبالله التوفيق.
[مسألة: رجل يتزوج امرأة ويشترط عليه أن كل
جارية يتسررها عليها فهي حرة]
مسألة وقال: في رجل يتزوج امرأة ويشترط عليه، إن كل جارية يتسررها عليها
فهي حرة، وللرجل يوم اشترط عليه هذا الشرط
(5/29)
أمهات الأولاد فيطأهن بعد الشرط، إن اليمين
تلزمه فيهن، فيحنث بما اشترط عليه من التسرر. بأنه إذا مسهن بعد اليمين،
فالمسيس تسرر، وذلك أن التي تشترط ألا يتسرر عليها، إنما تشترط ألا يمس
معها غيرها، فإذا مس أمهات أولاده فقد حنث، قال أبو زيد بن أبي الغمر،
وأصبغ مثله، وسئل عنها سحنون، فقيل له: الرجل ينكح المرأة، وله أمهات
أولاد، فتشترط عليه ألا يتسرر عليها، فإن فعل فهي حرة، فقال: لا شيء عليه
في أمهات أولاده اللاتي كن عنده قبل النكاح، وإنما يلزمه الشرط فيما يستقبل
من الإماء بعد عقدة النكاح.
قال محمد بن رشد: رآه ابن القاسم حانثا للوجهين اللذين ذكرهما: أحدهما
مراعاة اللفظ، وذلك أن الوطء نفسه يسمى تسررا في اللسان. والثاني مراعاة
المعنى، وهو ما يعلم من أن القصد بالشرط ألا يطأ معها غيرها، ووجه قول
سحنون أنه حمل الشرط على ما هو التسرر عند عامة الناس، وإن خالف ذلك موضوع
اللسان، وذلك أن التسرر عند الناس إنما هو وطء الجارية ابتداء مع العزم على
اتخاذها لذلك، فلا يقولون لمن وطئ في يوم من الأيام أم ولده، أو جارية قد
كان يطأها، أو خادما دون ألا ينوي العودة لذلك، إنه تسرى في ذلك اليوم على
امرأته، وهذا نحو ما في المدونة في الذي يحلف ألا يأكل بيضا فأكل بيض
السمك، أنه لا يحنث من أجل ذلك، لا يسمى بيضا عند الناس، وإن كان في اللسان
بيضا وبالله التوفيق.
[مسألة: يغيب عنها زوجها فتنكح ثم يقدم فتزعم
أنه نعي لها ولم ترفع ذلك إلى الإمام]
مسألة وسألته عن المرأة يغيب عنها زوجها فتنكح، ثم يقدم فتزعم أنه نعي لها
ولم ترفع ذلك إلى الإمام، ولم يكن الذي ادعت فاشيا، أترى أن ترجم؟ فقال: لا
أرى عليها رجما كذلك، قال مالك: وإنما أرى ذلك يسقط عنها للشبهة التي ادعت،
ولكن يفسخ نكاح الثاني،
(5/30)
وتعتد من مسيسه، ويكون الأول أحق بها، فإن
شاء أمسك، وإن شاء طلق.
قال محمد بن رشد: قوله: إنها لا ترجم للشبهة التي ادعت، صحيح؛ لأنه نكاح
صحيح في ظاهره، يثبت فيه نسب ولد الزوج، ولو أقرت على نفسها أنها تزوجت دون
أن ينعى لها، وهي تعلم أنه حي لم يمت، وأن ذلك لا يحل لها، لحدث، وثبت نسب
ولدها من الزوج الذي تزوجت على كل حال، إن كان تزوجها بعد حيضة، وأتت
بالولد لما يلحق لمثله الأنساب، وأما قوله: إن النكاح يفسخ، وتعتد من مسيس
الزوج، ويكون أحق بها، فإن شاء أمسك وإن شاء طلق، فهو كما قال، ومثله في
المدونة، ولا اختلاف في ذلك. وسواء في هذا تزوجته دون أن يُنْعَى لها، أو
بعد أن نُعي لها، ببينة أو بغير بينة، كان الشهود شهود زور، أو كانوا
عدولا، فشبه عليهم. وإنما يفترق ذلك فيما بيع من ماله، فإن كان الشهود شهود
زور، كان أحق بماله حيث ما وجده، وله أن يجيز البيع بأخذ الثمن إن شاء،
وبأخذ الأمة وقيمة ولدها، وقيل: يأخذ قيمتها يوم الحكم، وقيمة ولدها. وقيل:
يأخذ قيمتها يوم الوطء لا غير، وإن كان الشهود عدولا وقد شبه عليهم، ولم
يكن له ما بيع من ماله سبيل، إلا أن يغرم الثمن للمبتاع، ويرجع به على
البائع وبالله التوفيق.
[مسألة: ينكح المرأة على أن يصدقها مائة دينار
خمسين نقدا وخمسين بعد البناء]
مسألة وسئل عن الرجل ينكح المرأة على أن يصدقها مائة دينار: خمسين نقدا
وخمسين بعد ابتنائه بها بسنة، فقال: أكرهه، وإن وقع لم أره مفسوخا. قيل له:
لم أجزته وأنت لا تجيز النكاح إذا كان الصداق لغير أجل؟ وهذا لا يدري متى
يبني، فهو الآن، كمن تزوج بصداق إلى غير أجل؟ فقال: إني سمعت مالكا يقول في
الرجل
(5/31)
يتزوج المرأة بخمسين دينارًا، وخمسين تكون
حالة بعد الابتناء، فجوزه، فأنا أرى أن الذي يقول خمسين بعد الابتناء بسنة،
إنما هو من وجه ما جوز من البيع بالتقاضي، وهو إلى غير أجل معروف، وكان
الابتناء عنده معروفا لا يتباعد كما قد عرف من قدره. وما يكون بين الملك
والابتناء من الزمان، فأنا أرى إذا وقع أن يمضي النكاح، فتكون الخمسون التي
جعلت بعد الابتناء بسنة تحل عليه إذا مضى من الزمان ما يرى أن أهل بلده
يبتني أكثرهم إلى مثله، ثم يؤخر بعد ذلك القدر سنة، فتحل عليه الخمسون، ولا
يفسخ نكاحهما، ولا ينبغي للمرء أن يحمل النكاح محمل البيع في جميع الأمر،
ألا ترى أن النكاح يحل بالرأس غير الموصوف، وشوار غير موصوف، فإذا وقع
النكاح جعل لها رأسا من أوسط الخدم، وشوار نحوها في قدرها، وما يعلم أنه
يكون شوار مثلها. قال سحنون مثله، وكذلك لو تزوجها بخمسين دينارا نقدا،
وخمسين دينارا بعد ابتنائه بسنة، وخمسين دينارا إلى خمس سنين، كان النكاح
جائزا، دخل بها أو لم يدخل، وقال أبو زيد بن أبي الغمر في مسألة سحنون: أرى
أن يفسخ النكاح، ما لم يدخل بها، وإن دخل بها نظر إلى ما أعطاها من المؤجل
إلى خمس سنين، فيقال: ما صداق مثلها على هذا المؤجل الذي يسمى لها إلى خمس
سنين، فما كان من شيء قل أو كثر يضاف ذلك إلى المؤجل، فتأخذه نقدا، وكانت
الخمسون إلى أجلها، وقال أصبغ فيها مثل قول أبي زيد إلى خمس سنين.
قال محمد بن رشد: جعل ابن القاسم في هذه الرواية حد الابتناء معروفا بالعرف
والعادة، فأجاز أن يكون ابتداء أجل الكالئ منه، وأن يكون مؤخرا إليه على ما
حكي عن مالك، وهو قوله في المدونة في الذي تزوج
(5/32)
بخمسين وخمسين على ظهره، فقال: إن ذلك الذي
على ظهره يحل بدخول الزوج عندهم، فهو جائز. وقال ابن المواز: إنما جاز ذلك؛
لأن الدخول حال، لو شاءت المرأة أن تدعوه إلى الدخول، لكان لها ذلك. وقول
ابن القاسم أظهر، إذ لا يلزم الزوج الدخول بها من ساعته، إذا دعته إلى ذلك،
وله أن يؤخر ما يشبه، ولا يكون على المرأة فيه ضرر إذا أجرى لها نفقتها،
كما يكون لها من الحق أن تؤخر إلى ما يشبه إذا دعي هو إلى تعجيل الابتناء
بها، وقد مضى القول على ذلك في رسم الطلاق الأول من سماع أشهب، وفي أول
سماع عيسى من كتاب السلم والآجال: إن وقت الابتناء مجهول، فلا يكون أجلا
للكالئ، مثل قول أبي زيد وأصبغ، وجه القول الأول. . ما احتج به ابن القاسم
من أن النكاح أوسع من البيوع، ووجه القول الثاني. . قياس النكاح على
البيوع. وقد قال مالك: أشبه شيء بالبيوع النكاح. وقول أبي زيد: فما كان من
شيء قل أو كثر، يضاف إلى المؤجل، ظاهره كان أكثر من المعلوم والمجهول، أو
أقل من المعلوم وحده، لا يعتبر بشيء من ذلك في صداق مثلها. وقد مضى
الاختلاف في هذا في رسم يوصي من سماع عيسى فلا معنى لإعادته.
[مسألة: الرجل ينكح المرأة فيسمي لها صداقا
مسمى على أن يحج بها من ماله]
مسألة وقال: في الرجل ينكح المرأة، فيسمي لها صداقا مسمى، على أن يحج بها
من ماله، فقال: إن نظر في أمرهما قبل البناء، فأرى أن يفسخ نكاحهما؛ لأن
هذا ليس من الصداق.
وقيمة ما ينفق على مثلها في حجها من الكراء والنفقة والكسوة، وما يتكلف
لمثلها في حجها. قيل: أرأيت إن كان لم يجعل صداقها إلا الحج بها؟ قال: إن
علم به قبل البناء فسخ، وإن فات أمرها فابتنى بها، رأيت أن يجعل لها صداق
مثلها ولا تعطى ما ينفق على مثلها في الحج. وقد قال مالك في التي يكون
صداقها شيئا معلوما والحج بها تموت قبل أن يحج بها وبعد البناء: إنه يعطي
(5/33)
ورثتها ما كان ينفق على مثلها في حجها،
وأنا لا أرى لهم إلا أن يحمل لهم مثلها إلا أن يتراضى الزوج والورثة على
أمر يجوز بينهم، وذلك أنه كراء قد لزمه ولزمها، فإذا ماتت فإنما لورثتها
عليه ما كان يكون لها في حياتها. ألا ترى أنها لو قالت له: إني لا أريد
الحج فادفع إليّ ما كنت تنفق عليّ لو حججت، لم يكن ذلك لها، وكذلك لو أنه
أراد أن يعطيها نفقة مثلها ويبرأ من حملها لم يكن ذلك له. فاشتراطها الحج
كراء لها، وقد لزمها ولزمه، فورثتها بمنزلتها. قيل له: فالنكاح على أن يكون
الصداق حملانها إلى بلد أو لخدمة عبد أو خدمة الزوج إلى أجل من الآجال.
قال: لا أرى ذلك يجوز في الصدقات، ولا أحب أن يجب به النكاح، فإن وقع فسخته
قبل البناء، وأجزت النكاح بعد البناء، ورددت الصداق إلى صداق مثلها، وأبطلت
الأجرة والكراء كله من الصدقات.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى تحصيل القول فيها والكلام عليه في رسم
لم يدرك من سماع عيسى، فلا معنى لإعادته هنا مرة أخرى وبالله التوفيق.
[المعترض عن امرأته يفرق بينهما بعد انقضاء
الأجل]
ومن كتاب المكاتب
قال: وسألته عن المعترض عن امرأته، يفرق بينهما بعد انقضاء الأجل، ثم
ينكحها نكاحا جديدا فيعترض عنها أيضا، فتريد فراقه، أيكون ذلك لها؟ قال:
ذلك لها إذا قامت معه في الابتناء الآخر قدر ما تعذر فيما تدعي من اختيارها
له وانقطاع رجائها منه، إذا كان العذر في ذلك بينا.
قلت: وما بيان ذلك؟ قال: أن يكون الرجل يطأ غيرها وإنما
(5/34)
ابتلي بالاعتراض عنها، فتقول: رجوت أن يذهب
الله ذلك عنه، وأن يكون قد تعالج أو نحو ذلك. فإذا كان على هذا فالفراق
إليها بعد انقضاء أجل السنة.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة، على معنى ما في المدونة من أن العنّين
إذا تركته امرأته ولم ترفعه إلى السلطان، وأمكنته من نفسها، ثم رفعته بعد
ذلك، فلها أن تقول: اضربوا له أجل سنة؛ لأن الرجل قد يتزوج المرأة فيعترض
عنها، وتكون له أخرى فيصيبها، فتقول: تركته وأنا أرجو؛ لأن الرجال بحال ما
وصفت. وعلى ما حكى ابن حبيب أيضا من امرأة المعترض إذا صبرت عليه ثمّ بدا
لها، فإن كان بحدثان ما كانت رضيت بالصبر عليه لشر وقع بينهما، فليس لها
ذلك، وإذا بدا لها بعد زمان، وقالت: كنت رجوت أن ينطلق من اعتراضه، ويذهب
ذلك عنه بالعلاج وغيره، فذلك لها. وكذلك تقول المرأة في هذه المسألة: إنما
تزوجته وأنا أرجو أن يكون ذهب ذلك عنه بالعلاج، فيكون ذلك لها، وتصدق فيما
ادعته، ويكون الفراق إليها بعد انقضاء عهدة السنة إذا لم يكن قيامها عليه
بحدثان دخوله بها لشر وقع بينهما كما قال ابن حبيب، يريد بعد يمينها إن
ادعى الزوج عليها، أنها أرادت فراقه لأمر وقع بينهما، لا للمعنى الذي قامت
به وبالله التوفيق.
[مسألة: تشترط عليه امرأته عند النكاح إن تسرى
عليها فالسرية صدقة عليها]
مسألة قال: وسألته عن الرجل تشترط عليه امرأته عند عقدة النكاح، إن تسرَّى
عليها فالسرية صدقة على امرأته، قال: إن علم هذا قبل البناء فسخ، وإن ابتنى
بها فالشرط باطل ولا صدقة لها.
قال محمد بن رشد: قوله: إن الشرط باطل، ولا صدقة لها، صحيح، على ما في
المدونة، وهو المشهور في المذهب من أن الصدقة بيمين لا يحكم بها، وإن كانت
لرجل بعينه، وحكم للنكاح بحكم ما فسد لصداقه من أجل أن للشرط تأثيرًا فيه،
فيفسخ قبل الدخول، ويثبت بعده، ويكون فيه
(5/35)
صداق المثل. وهذا إن كانت التسمية في العقد
على الشرط، وأما إن كان تزوجها على الشرط نكاح تفويض، دون تسمية صداق، ثم
سمى لها بعد ذلك صداقا، فالنكاح ثابت، والشرط باطل، والصداق المسمى لازم.
وفي المدنية لمحمد بن دينار أن الصدقة بالشرط تلزمه، وأنه إن أعتقها بعد أن
اتخذها لم ينفذ عتقه، وكانت لها صدقة بالشرط. قال: وإن اشترط إن اتخذها فهي
صدقة عليها وحرة، فاتخذها كان مخيرا بين عتقها والصدقة بها. ولابن نافع
فيها، إن من باع سلعة من رجل وقال: إن خاصمتك فيها فهي صدقة عليك، فخاصمه
فيها، أن الصدقة تلزمه، فعلى قولهما في لزوم الصدقة بالشرط، ينبغي أن يكون
النكاح جائزا، والشرط لازما، كسائر الشروط اللازمة. واستدل بعض الشيوخ من
هذه المسألة على أن من التزم لامرأته إن تسرر عليها فأمر السرية بيدها إن
شاءت باعتها عليه وإن شاءت أمسكتها له، أن البيع لا يلزمه فيها، خلاف ما
ذهب إليه ابن العطار. ووجه هذا الاستدلال أن الصدقة إذا كانت لا تلزمه
فأحرى ألا يلزمه البيع، وليس ذلك ببين؛ لأن المعنى في الصدقة والبيع مفترق.
وإنما الوجه في أن البيع لا يلزمه أنها وكالة منه لها على بيعها، وللموكل
أن يعزل الوكيل على الوكالة متى ما شاء. هذا الذي حفظناه عن الشيوخ في ذلك،
ولا يبعد عندي ألا يكون له أن يعزلها عن هذه الوكالة؛ لأنه لما نكحته على
ذلك فقد أخذ عليها عوضا يلزمه، كالمبايعة، وقد مضى بيان هذا المعنى في رسم
الجواب من سماع عيسى، فقف عليه وبالله التوفيق.
[البكر يغيب عنها أبوها الغيبة البعيدة أينكحها
السلطان أو الولي]
ومن كتاب الأقضية قال يحيى: وسألت ابن وهب عن البكر يغيب عنها أبوها الغيبة
البعيدة، إما أن يتخذ موضعه الذي غاب به وطنا، أو يتردد في تلك الناحية
للتجارة، فتضيع، وتريد النكاح، أينكحها السلطان أو الولي؟ أم لا يجوز ذلك
لغير الأب؟ أما إذا قطع الأب عنها نفقته، وأطال عنها غيبته، فإن إنكاح
الولي أو الإمام إياها برضاها
(5/36)
جائز، ثم لا يكون للأب أن يفسخ ذلك ولا أن
يرده، قال: وإن كان الأب يجري لها النفقة لا زال يتفقدها ويرسل إليها بما
يصلحها حتى تؤمن عليها الضيعة، فلا يجوز لأحد: إمام ولا غيره، أن يفتات على
أبيها بإنكاحها إلا بإذنه ورضاه.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى الحكم فيها موعبا مستوفى في رسم مساجد
القبائل من سماع ابن القاسم، فأغنى ذلك عن إعادته هنا وبالله التوفيق.
[مسألة: يتزوج المرأة من مجوسية أو نصرانية في
عدتها ثم يسلم الرجل وامرأته]
مسألة قال ابن القاسم: في الرجل يتزوج المرأة من مجوسية أو نصرانية في
عدتها، ثم يسلم الرجل وامرأته: إنه لا يفرق بينهما.
قال محمد بن رشد: يريد إذا كان إسلامهما بعد أن انقضت العدة، وطئ فيها أو
لم يطأ. وأما إن كان إسلامهما في العدة، فيفسخ النكاح إن كان العقد قبل أن
تحيض حيضة، على ما في سماع أبي زيد، من أن المسلم إذا تزوج النصرانية بعد
حيضة من عدة زوجها النصراني، لا يفسخ نكاحه. وعلى ما في كتاب ابن المواز
لابن وهب، أن نكاحه يفسخ إن تزوجها قبل انقضاء الثلاث حيض، يفسخ نكاحهما
إذا أسلما في العدة، وأما إن كان انعقد بعد حيضة أو حيضتين، وإن وطئ بعد
إسلامه في العدة قبل أن يفسخ النكاح، لم تحل له أبدا على مذهب من يرى
التحريم المؤبد بالوطء في العدة، وهو قول مالك وجميع أصحابه وبالله
التوفيق.
[مسألة: نكاح الرجل أمته التي أعتق إلى أجل
بغير رضاها]
مسألة قال يحيى: أخبرني ابن القاسم أنه سمع مالكا يقول: ينكح
(5/37)
الرجل أمته التي أعتق إلى أجل بغير رضاها
ما لم يتقارب أجل عتقها، وما دام يجوز له أخذ مالها. قال: وقال مالك: لا
يجوز له أن ينكحها إذا أعمرها رجلا ثم جعلها حرة بعد الأجل إلا برضاها، ولا
يجوز ذلك للمحرم أيضا. قيل له: فالموصى لها بالعتاقة بعد أجل تخدم إليه،
أللورثة أن ينزعوا مالها وينكحوها بغير رضاها؟ قال: ليس لهم من ذلك شيء
بغير رضاها، لا ينكحونها ولا يأخذون من مالها قليلا ولا كثيرا، قرب أجل
عتقها أو بعد. وقال سحنون مثله. وإنما منع الورثة أن ينزعوا مالها؛ لأنه به
قومت في الثلث، فصار ذلك كعضو منها.
قال محمد بن رشد: جرى ابن القاسم فيما حكي عن مالك من هذه المسائل، وذهب هو
إليه من رأيه، وتابعه عليه سحنون، على أصل واحد، وهو أنه إنما يجوز للرجل
أن يكره على النكاح بحق الملك من يجوز له أن ينتزع ماله، فقال: إن للسيد أن
ينكح أمته التي أعتق إلى أجل بغير رضاها ما لم يتقارب أجل عتقها، وما دام
يجوز له أخذ مالها. وقال: إنه ليس له أن ينكح الأمة التي أعمرها رجلا
وجعلها حرة بعد الأجل إلا برضاها، من أجل أنه لا يجوز له أن ينتزع مالها
على ما في سماع ابن القاسم من كتاب الخدمة. وأما المخدم، فلا إشكال أنه ليس
له أن يكرهها على النكاح، إذ لا حق له في رقبتها ولا في أخذ شيء من مالها.
وقال في الموصى لها بالعتق إلى أجل: إن الورثة لا يكرهونها على النكاح كما
لا ينتزعون مالها. وقد قيل: إنه إنما له أن يكره على النكاح بحق الملك من
له أن يطأ، فعلى هذا لا يكره الرجل معتقته إلى أجل على النكاح قرب أجل
عتقها أو بعد، إذ ليس له أن يطأها. وهو أحد قولي مالك في رواية أشهب عنه،
فللرجل أن يكره مدبرته على النكاح باتفاق، إذ له أن يطأها وأن يأخذ مالها،
وهو القياس في أم الولد،
(5/38)
إذ له أن يطأها، ولا يأخذ مالها. وقد قيل:
إنه لا يكرهها على النكاح، ومضى القول على ذلك في رسم طلق من سماع ابن
القاسم، وليس للرجل أن يكره المعتق بعضها على النكاح باتفاق، إذ ليس له أن
يطأها ولا أن يأخذ مالها، وهو القياس في المكاتبة. وقد روي عن مالك أنه
يجبرها على النكاح لما جاء من أن المكاتب عبد ما بقي عليه من كتابته شيء،
ولأنه يملك رقه إذ له أن يعجز نفسه. وقوله: وإنما منع الورثة أن ينتزعوا
مالها؛ لأنه به قومت في الثلث، فصار كعضو منها ليس بتعليل بين؛ لأن التقويم
لا يقع على المال حقيقة، إذ لا يسمى عند التقويم، وإنما يقال: كم قيمة هذه
الأمة بما لها من المال؟ دون أن يسمَّى أو يوصف، كما لا يقع الثمن على مال
العبد إذا بيع بماله. ألا ترى أنه إذا استحق لا يجب به رجوع، وإنما يقوم
معها من المال ما اكتسبته في حياة سيدها. واختلف هل يقوم معها ما اكتسبته
بعد موته؟ فعلى هذا التعليل يكون للورثة أن ينتزعوا منها ما استفادته بعد
التقويم وما استفادته بعد موت سيدها وقبل التقويم على القول بأنها لا تقوم
به. وقد قيل: إن للورثة أن ينتزعوا مالها ما لم يقرب الأجل. وإن قومت به،
وهو ظاهر قول غير ابن القاسم في كتاب الوصايا الأول من المدونة. وعلى قياس
قول مالك في رواية مطرف عنه: إن من أعتق عبدا إلى أجل، أن ينتزع ماله وإن
مرض، إذا كان الأجل بعيدا، ولورثته بعده أن ينتزعوه أيضا ما لم يقرب الأجل،
إذ لا فرق في حق الورثة بين ما أعتق في حياته أو أوصى بعتقه من ثلثه بعد
وفاته؛ لأن الثلث له حيا وميتا. وقد قيل أيضا: إنه ليس للورثة أن ينتزعوا
مالها، وإن لم تقوم به، وهو قول ابن القاسم ها هنا وظاهر ما في الوصايا
الأول من المدونة، وعلى قياس قوله في سماع أصبغ في الذي يعتق عبده إلى أجل،
إنه لا يجوز له أن ينتزع ماله إذا مرض، ولا يجوز لورثته انتزاعه، وبالله
التوفيق.
[الرجل يخطب المرأة إلى وليها فتزوجه ثم تنكر
المرأة أن يكون ذلك بعلمها]
ومن كتاب أوله أول عبد ابتاعه فهو حر قال: وسألته عن الرجل يخطب المرأة إلى
وليها فتزوجه
(5/39)
ويشهد له، ثم تنكر المرأة أن يكون ذلك
بعلمها أو رضاها، أتستحلف أنها ما علمت ولا وكلته بإنكاحها؟ قال: أما إذا
كان الإشهاد ظاهرا وإطعام الوليمة وإشهار الأمر في دارها أو حيث يرى أنها
به عالمة، فأرى أن تحلف بالله ما وكلته ولا فوضت إليه ذلك، وما ظنت أن
اللعب الذي كان في دارها وحيث يرى أنها تسمعه وتعلم به، ولا الطعام الذي
صنع بذلك الموضع، إلا لغير وليمتها ما علمت ما ادعى من نكاحها، ولا رضيته،
ثم لا يكون عليها شيء، ولا يثبت ذلك النكاح. قال: وأما الشيء للذي يُرى
أنها لم تقارب علم ذلك، مثل أن يشهد القوم في المسجد وما أشبه ذلك، فلا أرى
أن تحلف فيه.
قلت: إذا كان الأمر المشهور الذي رأيت عليها فيه اليمين إن نكلت، لزمها ذلك
النكاح، فقال: نعم نكاحها على اليمين مع اشتهار الأمر وظهور الأسباب التي
يستدل بها على علمها ورضاها، يوجب ذلك النكاح عليها، وأما ما كان على غير
ذلك فلا أرى عليها شيء؛ لأنه لا يشأ رجل أن يتوقع امرأة فيلزمها اليمين في
مثل هذا، إلا فعل، فلا أرى ذلك عليهن.
قال محمد بن رشد: قد قيل إنه لا يمين عليها في دعوى الرضا بالنكاح؛ لأنها
إذا نكلت عن اليمين لم يلزمها النكاح. وقيل إنها تحلف رجاء أن تقر، فإن
حلفت سقط عنها النكاح، وإن نكلت لم يلزمها النكاح. وتقسيمه في هذه الرواية
بين أن يكون ثم سبب يدل على علمها أو لا يكون، قول ثالث في المسألة. وقوله:
إن النكاح يلزمها إن نكلت على اليمين مع ظهور الأسباب، يريد مع يمين الزوج
إن كان حقق الدعوى عليها. وأما إن كان لم يحققه عليها فعلى الاختلاف في
رجوع يمين التهمة والله أعلم. وقد
(5/40)
مضى في رسم البز من سماع ابن القاسم وبالله
التوفيق.
[يتزوج امرأة وبها برص أو جذام ويدخل بها ويقيم
معها ثم يتبين مرضها]
من سماع من سماع سحنون بن سعيد من عبد الرحمن بن القاسم. قال سحنون: وسألت
عبد الرحمن بن القاسم عن الزوج يتزوج امرأة وبها برص أو جذام أو جنون،
ويدخل بها ويقيم معها، ثم يتبين ذلك فيردها بذلك العيب أو يطلقها. أيحلها
هذا الوطء لزوج كان قد طلقها أو يكونا به محصنين؟ قال: لا إلا أن يكون قد
علم بوطئها بعد علمه ثم طلقها، فإما أن يردها أو يطلقها ولم يطأها بعد
العلم والرضى، فلا أرى ذلك يحلها، ولا يحصنها ولا تحصنه، وكذلك الذي يطأ
امرأته في صيام واجب من رمضان أو نذرا أو حائض، أو محرمة أو معتكف ووقف في
صيام تطوع، ثم قال مالك: لا يحلها ولا يحصنها ولا تحصنه، إلا كل وطء عقدته
صحيحة، ليس لأحد فيها خيار ولا فساد، ووطء صحيح ليس بمحرم ولا صائم، ولا
حائض، ولا كل ما كان مثل هذا وما أشبهه.
قال محمد بن رشد: اتفق مالك وأصحابه فيما علمت أن الوطء بالعقد الفاسد لا
يقع به تحليل ولا إحصان إذا فسخ، وعلى أن الوطء بالعقد الذي فيه خيار لأحد
الزوجين أو لغيرهما لا يقع به تحليل ولا إحصان إذا رده من إليه رده.
واختلفوا إذا أجازه على ثلاثة أقوال: أحدها أنه يقع به التحليل والإحصان،
وهو قول أشهب في كتاب ابن المواز، والثاني لا يقع به التحليل ولا إحصان حتى
يطأ بعد الإجازة، وهو المشهور المعلوم في المذهب. والثالث أنه لا يقع به
تحليل ولا إحصان أصلا حتى يطلق ثم يستأنف عقد آخر، لا خيار فيه، وهذا ما
يأتي على قول رواية ربيعة في المدونة ومذهب الأوزاعي أن العبدين الزوجين
إذا أعتقا لا يكونان محصنين بذلك
(5/41)
العقد الذي كان في حال الرق، واختلفوا إذا
كان العقد صحيحا والوطء فاسدا على ثلاثة أقوال: أحدها أنه لا يقع بذلك
تحليل ولا إحصان، وهو قول ابن القاسم وروايته عن مالك. والثاني أنه يقع
بذلك التحليل والإحصان. وهو مذهب ابن الماجشون واختيار ابن حبيب. والثالث
أنه يقع به الإحصان، ولا يكون به التحليل، وهو قول المغيرة وابن دينار، وقد
قاله مالك، ثم رجع عنه، والوطء الفاسد الذي اختلف في وقوع التحصين والإحلال
به هذا الاختلاف الذي ذكرناه هو أن يطأ في حال الحيض أو الإحرام، أو
الاعتكاف، أو في صيام واجب من رمضان، أو نذر لأيام بأعيانها، أو كفارة
يمين، واختلف في صيام التطوع وقضاء رمضان والنذر لأيام ليست بأعيانها، فقيل
إن حكم الوطء في ذلك كله حكم الوطء الصحيح، قاله ابن حبيب في الواضحة، وحكى
أنه مجمع عليه من قول مالك وأصحابه، وليس بصحيح، وقيل إن حكم الوطء في ذلك
كله حكم الفاسد. وهو ظاهر قول مالك الذي رجع إليه في رواية سحنون هذه. وقيل
إن حكم الوطء في ذلك حكم الوطء الفاسد حاشا صيام التطوع. وهو قول مالك
الأول في هذه الرواية، هذا تحصيل القول في هذه المسألة وبالله التوفيق.
[مسألة: المجنونة المخبلة يزوجها أبوها]
مسألة قال ابن القاسم: في المجنونة المخبلة يزوجها أبوها ويجوز ذلك.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: لأن البكر لا أمر لها في نفسها مع أبيها.
فإذا كان له أن يزوجها في حال الصغر، ويجوز ذلك عليها، كان له أن يزوجها في
حال الجنون، ويجوز ذلك عليها.
(5/42)
[مسألة: الأمة
تغر من نفسها فتتزوج فيصدقها ويدخل بها ثم يستحقها سيدها]
مسألة وقال ابن القاسم في الأمة تغر من نفسها فتتزوج فيصدقها مثلي صداق
مثلها، فيدخل بها ثم يستحقها سيدها، إن النكاح يفسخ، ويكون لها صداق مثلها،
ويؤخذ منها الفضل.
قلت: فإن أصدقها أدنى من صداق مثلها أو أصدقها ربع دينار وقد كانت بكرا
فأقبضها وقيمة عذرتها أكثر مما أصدقها؟ قال: فليس لها أكثر من ذلك، إلا أن
يصدقها أقل من ربع دينار، أو لا يصدقها شيئا فترجع إلى صداق مثلها. قال
سحنون: وقال غيره مثل هذا إلا أنه قال: إذا أصدقها مثلي صداق مثلها أعطيت
ما بين صداق أمة وحرة، نصف صداق أمة ونصف صداق حرة.
قال محمد بن رشد: قوله: إنه إن كان أصدقها أكثر من صداق كمثلها، كان لها
صداق مثلها، وأخذ منها الفضل، هو نص قول ابن القاسم في المدونة، وعليه
ينبغي أن يحمل قول مالك فيها، وإن كان ظاهره خلاف ذلك إذ لا يصح أن يترك
لها الزائد على صداق مثلها، وهي غارة، وقد كان القياس إذا لم يراع حق السيد
في ذلك، وقال إنه إذا أصدقها أدنى من صداق مثلها، وقيمة عذرتها أكثر من
ذلك، لم يكن لها إلا ذلك. قال أشهب: كما لو زنى بها طائعة إلا أن يكون لها
إلا قدر ما يستحل به فرجها، كالحرة إذا غرت نفسها بجنون أو جذام أو برص.
وهو قول ابن أبي حازم. وإنما يستقيم أن يكون لها مما أصدقها صداق مثلها على
ما لابن القاسم في كتاب ابن المواز من أنه إذا أصدقها أقل من صداق مثلها،
كان لها صداق مثلها، من أجل حق السيد، ومساواته بين أن لا يصدقها شيئا أو
يصدقها أقل من ربع دينار في أنها ترجع إلى صداق مثلها، يدل على أن النكاح
بأقل من ربع دينار نكاح فاسد، يفسخ قبل الدخول ويثبت بعده، ويكون فيه صداق
(5/43)
المثل، لا خيار للزوج في ذلك، خلاف قوله في
المدونة مثل قول غيره فيها. وقد قيل: إنه يفسخ قبل الدخول وبعده وقع ذلك في
بعض روايات المدونة.
[مسألة: الرجل يقول للرجل تزوج ابنتي ولك هذه
الدار]
مسألة قال: وسألت ابن القاسم عن الرجل يقول للرجل: تزوج ابنتي ولك هذه
الدار، فتزوجها، قال: أراه جائزا دخل أو لم يدخل.
قلت: فإن قال له تزوجها واجعلها صداقها؟ قال: ذلك جائز.
قلت: من أي وجه جوزته؟ قال: إنما هو عندي بمنزلة ما لو قال رجل لرجل: تزوج
وأنا أعينك بدار أو بخادم. فإن تزوج كان ذلك له، وإن لم يتزوج لم يكن له
شيء. وقوله: على أن يتزوج، فضل.
قلت: فإن قال: تزوج ابنتي بخمسين دينارا وأنا أعطيك هذه الدار، قال: لا خير
فيه؛ لأنه من وجه نكاح وبيع.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: إنه إذا قال: تزوج ابنتي ولك هذه الدار، إن
ذلك جائز، إذ لم يعطه الدار على صداق مسمى، فيكون ذلك بيعا قد اقترن مع
النكاح. ويقوم من هذه المسألة معنى خفي صحيح، وهو أن البيع والنكاح يجوز أن
يجتمعا في صفقة واحدة، إذا كان نكاح تفويض لم يُسمَّ به صداق، مثل أن يقول:
أزوجك ابنتي نكاح تفويض، على أن أبيع منك داري بكذا وكذا، وقد مضى في حكم
البيع والنكاح إذا سمّى به صداق في صفقة واحدة في رسم "أوصى أن ينفق على
أمهات أولاده" من سماع عيسى، فلا وجه لإعادته هنا وبالله التوفيق.
(5/44)
[مسألة: المرأة
تأمر وليها يزوجها ويشترط لها فيزوجها ولا يشترط لها]
مسألة وسئل عن المرأة تأمر وليها يزوجها ويشترط لها، فيزوجها ولا يشترط
لها، فيدخل بها زوجها، فتعلم أنه لم يشترط لها، فالنكاح جائز، والشرط باطل.
قلت: فإن لم يدخل بها؟ قال: يقال للمرأة ترضى بغير شرط، فإن قالت: لا، قيل
للزوج: اشترط لها وهي امرأتك، وإن أبت لم يلزمها شيء، وفارقها.
قلت: وتأمره أن يشترط لها، قال: نعم، آمره. واحتج بالليث وشروطه لابنته.
قال محمد بن رشد: قوله: إنها إذا لم تعلم أن الولي لم يشترط لها الشروط
التي أمرته أن يزوجها عليها، إلا بعد دخوله بها، إن النكاح جائز، والشرط
باطل، صحيح، على معنى ما في المدونة في الذي يأمر الرجل أن يزوجه بألف،
فيزوجه بألفين، ويزعم أن الزوج أمره بذلك، ويدخل بها، إنه ليس لها إلا ما
أقر به الزوج؛ لأنها تركت أن تبين من حقها، فكذلك هذه لا شيء لها فيما أمرت
به وليها من الشروط؛ لأنها فرطت في حقها، إذ تركته يدخل قبل أن تبين ما
أنكحها عليه من الشروط، وفي قوله: إنه يقال لها: إن لم تدخل ترضى بغير شرط،
فإن قالت: لا. قيل إلى آخر قوله، دليل على أنها إن قالت: نعم، جاز النكاح
وثبت، ولم يفرق بين قرب ولا بعد. فظاهره خلاف ما مضى في أول سماع يحيى. وقد
مضى القول على ذلك هنالك. وقوله: إنها إذا قالت: لا، يقال للزوج: اشترط لها
وهي امرأتك، معناه إن رضيت بذلك عند اشتراطه لها الشروط، ولا يلزمها رضاها
بها أولا. وذلك بيّن من قوله: وإن أبت لم يلزمها شيء وفارقها. وقد بينا وجه
ذلك في أول مسألة من سماع يحيى، فلا معنى لإعادته وبالله التوفيق.
(5/45)
[مسألة: البكر
تعطي الرجل مائة دينار على أن يتزوجها فيتزوجها]
مسألة وسئل ابن القاسم عن البكر تعطي الرجل مائة دينار على أن يتزوجها
فيتزوجها، ثم يعلم الأب قبل الدخول أن النكاح ثابت، ويرد الزوج المائة التي
أخذ، ويغرم مائة أخرى، وهو مثل البيع، سواء في العبد الذي يُعطى مالا يشتري
به ولا يفسخ العقد، دخل أو لم يدخل.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة والقول فيها مستوفى في أول رسم من
سماع عيسى، فلا معنى لإعادته وبالله التوفيق.
[مسألة: مكاتب تزوج حرة فكانت معه سنين ثم ادعت
أنه غرها من نفسه]
مسألة قال: وسئل ابن القاسم عن مكاتب تزوج حرة فكانت معه سنين، ثم ادعت أنه
غرها من نفسه، وزعمت أنها لم تعلم حين نكحته أنه مكاتب، قال ابن القاسم:
أرى أن يحلف بالله الذي لا إله إلا هو أنها لم تعلم، ويكون لها الخيار، ومن
العبيد عبيد يكون أحدهم في حاله وتجارته ومنظره حال الحر، وهي امرأة في
خدرها لا تعلم بذلك، فالقول قولها حتى يعلم أنها قد علمت.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن المكاتب ليس بكفؤ للحرة، فهو محمول على
أنه غرها، فالقول قولها مع يمينها أنها لا تعلم إن ادعى عليها أنها علمت
باتفاق، ويفرق بينهما، ويكون لها الصداق المسمى بالمسيس. وهذه المسألة أقوى
في إيجاب اليمين من الذي يقوم بعيب في سلعة اشتراها، فيريد البائع أن يحلفه
ما علم بالعيب، ولم يدع أنه أعلمه به، فلا يدخل في هذه من الاختلاف ما دخل
في تلك، وأما إن لم يدعي عليها أنها علمت، وأراد أن يحلفها دون أن يحقق
عليه الدعوى، فيجري الأمر في ذلك على الاختلاف في لحوق يمين التهمة. وأما
إن ادعى عليها أنه أعلمها أنه مكاتب، فتحلف بالله
(5/46)
الذي لا إله إلا هو ما أعلمها بذلك. وقال
ابن كنانة: إن كان تزوجها ببلده الذي يعرف به، وأمر كتابته فيه ظاهر معروف،
فلا يقبل قولها إنها لم تعلم ذلك، وإنما يقبل قولها وتصدق إذا تزوجها بغير
بلده.
قال محمد بن رشد: ولو كانت مكاتبة أو أمة فادعت أنها لم تعلم أنه مكاتب
وأنها تزوجته وهي تظنه حرا لم يكن لها شيء إلا أن تدعي عليه أنه غرها
وأخبرها أنه حر، فتزوجته على ذلك فيحلف على ذلك، فإن نكل عن اليمين حلفت
هي، وكان لها الخيار، وبالله التوفيق.
[مسألة: يتزوج المرأة على مائة دينار فتأخذ منه
حميلا بخمسين فيطلقها قبل أن يدخل بها]
مسألة قال ابن القاسم: في الرجل يتزوج المرأة على مائة دينار فتأخذ منه
حميلا بخمسين، فيطلقها قبل أن يدخل بها. قال: ترجع على الحميل بخمس وعشرين
دينارا، وعلى الزوج بخمسة وعشرين دينارا، وإنما هو بمنزلة رجل زوج ابنا له
كبيرا أو رجلا أجنبيا، بمائة دينار، على أن ضمن عنه من الصداق خمسين،
والخمسون الأخرى على الزوج، وطلق الزوج قبل أن يدخل بها، فإنما يتبع الأب
بخمسة وعشرين دينارا، ويتبع الابن بخمسة وعشرين دينارا، ولا يكون غرم ذلك
على واحد منهما خاصة، إلا أن تحب المرأة أن تأخذ الزوج بالخمسين، وتدع
الحميل، فيكون ذلك لها؛ لأن الحميل يتبع بها الزوج إن غرم، والأب في ابنه
أو أجنبي، لا يتبع بشيء منها، فأما اتباع المرأة فهو أبينها والذي وصفت لك
والبيع مثله. ألا ترى لو أن رجلا باع سلعة من رجل بمائة دينار، وانتقد منه
مائة دينار، على أن يأخذ منه المشتري حميلا بخمسين، فأدرك السلعة رجل استحق
منها نصفها، وتماسك بنصفها، ولم يتبع الحميل إلا بنصف الخمسين. فإن قال:
إنما أخذت خوفا من أن يُستحق منها شيء فاتبع به الحميل فليس كما قيل، واتبع
كل واحد منهما بنصف الحق.
(5/47)
قال محمد بن رشد: قوله: والأب في ابنه أو
أجنبي لا يتبع بشيء منها، نص جلي على أن ضمان الصداق في عقد النكاح على
الابن أو عن الأجنبي محمول على الحمل حتى يتبين أنه أراد الحمالة، وسيأتي
بعد هذا مثل هذا. وقد مضى الكلام على هذا في رسم الكبش من سماع يحيى.
وقوله في الذي تحمل للمرأة بخمسين دينارا من صداقها وهو مائة، فطلق الزوج
قبل الدخول: إن الحميل لا يلزمه إلا خمسة وعشرون، نصف الخمسين التي تحمل
بها، صحيح في القياس والنظر؛ لأن الخمسين التي تحمل بها شائعة في جميع
الصداق، فلما سقط بالطلاق نصفه سقط نصف الخمسين التي تحمل بها الحميل،
ومثله في رسم باع شاة من سماع عيسى من كتاب الحمالة، وفي سماع أصبغ من كتاب
المديان. وأصبغ يقول: إن لها أن تأخذ الحميل بالخمسين الواجبة لها قبل
الزوج، وهو قول ابن الماجشون، وابن كنانة. ووجهه أنها تقول: إنما أخذته
وثيقة من حقي مخافة أن تطلقني وبالله التوفيق.
[مسألة: الرجل يفض البكر بيده]
مسألة وقال ابن القاسم في الرجل يفض البكر بيده، قال: عليه ما شَانَها به
بعد الأدب. قال سحنون: وكذلك قال ابن وهب. قيل لابن القاسم: فإن كانت
امرأته؟ قال: فلا شيء عليه، ولا يجب بذلك عليه صداق.
قال محمد بن رشد: أما إذا فعل ذلك بغير زوجته، فلا اختلاف أن عليه ما شانها
به، يريد ما شانها به عند الأزواج مع الأدب. وأما إذا فعل ذلك بزوجته فقال:
ها هنا لا شيء عليه. معناه أنه ليس عليه أدب ولا ما شانها به إن أمسكها ولم
يطلقها، ولا يجب عليه بذلك جميع صداقها إن طلقها قبل أن يمسها، يريد ويكون
عليه إن فعل ذلك ما شانها فعله عند غيره من الأزواج. وفي سماع أصبغ عن ابن
القاسم: إن ذلك من الزوج كالوطء
(5/48)
يجب عليه به جميع الصداق. وقال أصبغ:
القياس أنه وغيره بالأصبع سواء في أنه يجب عليه بذلك إن طلقها قبل أن يمسها
ما شانها عند غيره من الأزواج لا في وجوب الأدب عليه، فقول أصبغ في سماعه
مثل قول ابن القاسم ها هنا وبالله التوفيق.
[مسألة: خالعت المرأة زوجها على مال أعطته وهي
عالمة بأن النكاح فاسد]
مسألة وقال ابن القاسم في النكاح الفاسد إذا خالعت المرأة زوجها على مالٍ
أعطته إن كانت عالمة بأن النكاح فاسد فذلك جائز للزوج، وإن لم يعلم رجعت به
على الزوج؛ لأنها إذا علمت فإنما هي تركت له شيئا أو أعطته إياه ولم
يلزمها.
قلت: فإن أعطته شقصا في دار، هل لشفيع فيه شفعة إذا كانت عالمة بفساد
النكاح؟ قال: نعم من قبل أن الناس اختلفوا في ذلك النكاح، فمن ثمّ رأيت
الشفعة فيه؛ لأنه ليس من ناحية الهبة.
قلت: فإن استحق بعض ما أعطته من مال، أيرجع عليها بشيء؟ قال: لا، من قبل
أنه لم يكن ينبغي له أن يأخذ منها شيئا، فهو إذا استحق فليس له أن يرجع
بشيء؛ لأنه قد صار إلى ما كان يؤمر به.
قال محمد بن رشد: مذهب ابن القاسم: أن الخلع تابع للطلاق بحيث ما لزم
الطلاق ثبت الخلع، ولم يكن للمرأة فيه رجوع، وحيث ما لم يلزم الطلاق لم
يثبت الخلع، وكان للمرأة أن ترجع فيما أعطت إلا أن تكون عالمة بفساد
النكاح، وأن الواجب فيه الفسخ. هذا بين من مذهبه في المدونة، فجوابه في هذه
المسألة على القول بأن الطلاق لا يلزم في النكاح الفاسد الذي
(5/49)
يختلف في فساده، ويجب عنده فيه الفسخ، وهو
خلاف ما اختاره في المدونة لرواية بلغته عن مالك من أن الطلاق يلزم في كل
نكاح يختلف في فساده. فعلى ما اختاره فيها يثبت الخلع ولا يكون لها فيه
رجوع، وإن لم تعلم بفساد النكاح، ولذلك رأى الشفعة في الشخص الذي خالعت به.
ويلزم على قياس هذا القول أن يكون للزوج الرجوع عليها في الاستحقاق. ومذهب
ابن الماجشون أن الخلع لا يلزم في النكاح الذي يجب فسخه لفساده، ولا في
النكاح الذي تملك المرأة فيه الفُرقة فيه إذا لم تعلم بذلك، وثبتت فيما سوى
ذلك مما يكون الخيار فيه لغيرها. وذهب ابن المواز إلى أنه لا يرد إلا فيما
يجب فسخه، ولا خيار فيه في إمضائه لأحد، فاعلم أنها ثلاثة أقوال وبالله
التوفيق.
[مسألة: الرجل يتزوج المرأة ثم يجن قبل أن يدخل]
مسألة قال: وسألت ابن القاسم عن الرجل يتزوج المرأة ثم يجن قبل أن يدخل،
فتختار فراقه، فيفرق بينهما. قال: قال مالك: لا شيء لها من المهر.
قلت: فالرجل يعسر بالصداق أو بالنفقة فيفرق بينهما؟ قال: تتبعه بنصف
الصداق.
قال محمد بن رشد: الفرق عند ابن القاسم بين المسألتين أن الله تعالى يقول:
{وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ
فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] .
والذي يجن فتختار امرأته فراقه لم يكن منه طلاق، ولكن الفراق من قبلها.
والذي يعسر بالصداق أو بالنفقة، يحتمل أن يكون الفراق من قبله؛ لأنه يُتهم
على أنه أراد الطلاق، فأخفى ماله لتطلق المرأة نفسها، فلا يكون عليه شيء من
الصداق. وابن نافع لا يرى لها شيئا من الصداق كمن جن فطلق عليه قبل البناء؛
لأن الفراق جاء من قبلها وهو القياس. وسكت ها هنا عن ضرب الأجل للمجنون قبل
البناء، ويبينه ما في
(5/50)
سماع يحيى من طلاق السنة أن مالكا قال:
يضرب له أجل سنة، وإن كان قبل البناء، وكذلك يفرق بينهما. وبالله التوفيق.
[مسألة: الرجل يفقد قبل دخوله بأهله فيفرق
بينهما بعد الاستقضاء]
مسألة قلت: فالرجل يُفْقَد قبل دخوله بأهله، فيفرق بينهما بعد الاستقضاء،
وتُعطى صداقها كاملا ثم تتزوج، فيأتي زوجها. قال: يرجع عليها بنصف صداقها.
وفي رواية أبي محمد عيسى بن دينار، لا يرجع عليها بشيء ولها الصداق كاملا؛
لأنها انتظرته وضيق عليها واعتدت منه ومنعها النكاح، فلا ترد عليه شيئا.
قال محمد بن رشد: القولان لمالك في سماع عيسى من كتاب الكفالة، وفي سماع
عيسى من طلاق السنة لمالك من رواية أبي محمد عيسى، وفي سماع سحنون خلافه.
وقوله: فيأتي زوجها أو يعلم أنه مات بعد أن تزوجت ودخل بها الزوج باتفاق،
أو بعد أن تزوجت قبل أن يدخل بها الزوج على القول بأنها تفوت بالعقد، ولا
يكون له إليها سبيل إن جاء؛ لأن الطلاق يقع عليه بذلك. وقد قيل: إنه لا
يقضى لها بشيء من الصداق حتى يأتي وقت لو قدم الأول لم يكن له إليها سبيل،
وهو أن يتزوج ويدخل بها الزوج أو لا يدخل على اختلاف قول مالك في ذلك في
المدونة، فيقضى لها حينئذ بنصف صداقها، إلا أن ينكشف أنه مات قبل ذلك، أو
يبلغ من السنين ما لا يحيا لمثلها، فيقضى لها بجميعه وإن كانت قد تزوجت،
وهو قول ابن الماجشون. وقيل: إنه لا يقضى لها إلا بنصفه، فإن بلغ من السنين
ما لا يحيا لمثلها أو ثبت وفاته ما بينه وبين أن تبين منه بالدخول أو
التزويج على الاختلاف المعلوم، قُضي لها ببقيته. حكى هذا القول ابن سحنون
وابن الجلاب والله الموفق لا رب غيره.
[مسألة: الرجل يزوج ابنه ويضمن عنه الصداق]
مسألة قال سحنون: قلت: فالرجل يزوج ابنه ويضمن عنه الصداق
(5/51)
ثم يعدم الأب؟ قال: يقال للابن: جئ
بالصداق. فإن أبا طلقت عليه، واتبعت المرأة الأب بنصف الصداق.
قلت: فإن أعطى الابن الصداق ودخل ثم أيسر الأب، أيرجع على أبيه بما أدى؟
قال: نعم. وهو القياس أن يرجع به عليه.
قال محمد بن رشد: قوله: إنه يرجع على أبيه بما أدى نص جلي على أنه حمل
ضمانه عنه الصداق على الحمل، وذلك مثل ما تقدم فوق هذا. وقد مضى القول عليه
في أول رسم من سماع يحيى. لا يختلف في وجوب الرجوع له على أبيه على القول
بأن الضمان في ذلك حمل ولا حمالة، وإن كان قد اختلف في التي تصالح زوجها
على مؤونة حملها أو رضاعه ونفقته إلى فطامته، فتحتاج ولا تجد ما تنفق،
فينفق الأب، هل له أن يتبعها أم لا؟ ففي رسم البز من سماع ابن القاسم من
طلاق السنة، ورسم الطلاق من سماع أشهب من كتاب التخيير أنه يتبعها. وروي عن
ابن القاسم أنه لا يتبعها. والفرق بين المسألتين أن النفقة قد كانت في
الأصل واجبة على الأب المنفق، والصداق لم يكن في الأصل واجبا على الابن،
لحمل أبيه إياه عنه في أصل العقد. وبالله التوفيق.
[مسألة: الرجل يقول إن تزوجت فلانة فهي طالق
فتزوجها]
مسألة قال أصبغ: قلت لأشهب: فالرجل يقول: إن تزوجت فلانة فهي طالق،
فتزوجها، فتطلق باليمين، أيكون لها نصف الصداق؟ قال: نعم.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: إنه إذا تزوجها وسمى لها في أصل العقد
صداقا، قال: لها نصف الصداق؛ لأنها مطلقة قبل الدخول. وقد
(5/52)
قال تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ
قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة: 237] الآية، ولو لم يسم لها في أصل
العقد صداقا لم يجب لها شيء، إلا أن يدخل بها، فيجب لها صداق مثلها. واختلف
إذا سمّى لها في أصل العقد صداقا فدخل بها، فقيل: لها صداق كامل، وهو قول
مالك. وقيل: لها صداق ونصف، وهو قول أهل العراق. قال ابن نافع: وهو في
القياس حسن، يريد لأن الطلاق لزمه قبل الدخول، فوجب عليه بذلك نصف الصداق،
ثم لما دخل بها بعد ذلك وهي بائنة منه، يرى أنها زوجته لم تبن منه، لزمه
بالدخول صداق كامل، فكان عليه صداق ونصف، وعلى هذا القياس يأتي ما في كتاب
النكاح الثاني من المدونة، وفي الأختين يتزوجهما أخوان فتدخل امرأة كل واحد
منهما على صاحبه أنه ترد امرأة كل واحد منهما إليه، فيكون على كل واحد
منهما صداقان: صداق لزوجته، وصداق للتي دخل بها وهو يرى أنها زوجته وبالله
التوفيق.
[مسألة: رجل تزوج إلى قوم بصداق مسمى وأهدى
هدية وأشهد في السر]
مسألة وسألته: عن رجل تزوج إلى قوم بصداق مسمى، ومن سنة البلد أن يهدي
الرجل إلى امرأته هدية تطيب بذلك نفسها، ويُسر بذلك أهلها، فأعد الرجل
هدية، وأشهد في السر أن هذا الذي أرسل ليس هو هدية، وإنما هو عارية منه أو
متعة، إلى حين القيام في استرجاعها وأخذها منها، وإنما فعلتُ هذا الآن
وبعثت به إليها لأطيب به نفسها، ومن كان منها فأرسل إليها وامرأته ترى ويرى
أهلها أنها هدية على حال ما يصنع غيره، فقبلوها وهم يرون أنها هدية إليهم،
فقام بعد ذلك يطلبها إليهم، فقال: أختانه وامرأته بعد البناء أو قبل البناء
لا ندفع إليك شيئا؛ لأنا لم نقبله منك إلا على هدية على حال ما يهدي الناس
إلى أزواجهم. ولو علمنا ما تذكر حقا لم نقبله منك. قيل: أترى لما طلب وجها؟
قال سحنون: إن كان
(5/53)
قد أشهد بذلك في السر ولم يعلمهم بأنه منه
إليهم هدية، ثم امتهنوا ذلك على غير علم، فليس عليهم في امتهانهم شيء، وهو
يأخذ ما وجد بعينيه، وإن ضاع منها شيء لزمهم ذلك، إلا أن تكون لهم بينة على
الذهاب. وقال أبو زيد بن أبي الغمر مثله.
قال محمد بن رشد: قول سحنون في هذه المسألة: ومن سنة أهل البلد وشأنهم،
يريد من عادة أهل البلد وما استمر عليه فعلهم. وقوله: إن كان قد أشهد بذلك
في السر، ولم يعلمهم بأنه منه إليهم هدية، كلام فيه إشكال، كيف يصح أن
يعلمهم بأنه منهم هدية وهو لم يرد به الهدية؟ فمعنى قوله: إن كان أشهد بذلك
في السر ولم يقل لهم في العلانية إنه منه إليهم هدية نفعه الاستشهاد، وكان
له أن يأخذ متاعه، ولم يكن عليهم مما امتهنوا منه على غير علم شيء، يريد إن
كانوا امتهنوا ذلك امتهانا لا تمتهن العواري. وأما إن كانوا امتهنوا ذلك
كما تمتهن العواري فلا شيء عليهم امتهنوا ذلك على علم أو على غير علم. وأما
قوله: وإن ضاع منها شيء لزمهم إلا أن تكون له بينة على الذهاب، فوجهه أنه
أعمل إشهاده في السر، فحكم لها بحكم العارية في الضمان كما حكم لها بحكمها
في الاسترجاع. وقول ابن القاسم في رسم النكاح من سماع أصبغ، إنه لا ضمان
عليها إذا لم تقبل ذلك على وجه العارية أصح في القياس والنظر، إذ ليس له أن
يلزمهم ضمان ما لم يلتزموا ضمانه وحبسه أن ينفعه الإشهاد في استرجاع متاعه.
ولو قال لهم في العلانية إنه منه إليهم هدية، لم ينفعه الإشهاد في السر،
بدليل قوله: ولم يعلمهم بأنه منه إليهم هدية. وجوابه في هذه المسألة على
القول بأنه لا يقضى بالعرف في الهدية. وقد مضى اختلاف قول مالك في ذلك،
والقول فيه في رسم مساجد القبائل من سماع ابن القاسم. وأما على القول بأنه
يقضى فلا ينتفع بالإشهاد
(5/54)
في السر في ذلك إذ ليس له أن يبطل بإشهاده
حقا واجبا عليه وبالله التوفيق.
[مسألة: الرجل يهب جاريته النصرانية لعبده
المسلم]
مسألة وقال: لا بأس أن يهب الرجل جاريته النصرانية لعبده المسلم، إذا كان
ذلك مما يصلح في خدمتها، ويريد بذلك أن يولد للعبد منها.
قال محمد بن رشد: لا فرق في هذا بين المسلمة والنصرانية؛ لأن المسلم يجوز
له ملك النصرانية، كما يجوز له ملك المسلمة، سواء، فإذا كان العبد ممن يشبه
أن يملك مثل ملك الجارية وكانت هبة صحيحة مستقيمة، قصد بذلك تمليكه إياها،
لا عارية فرجها له، جاز ذلك على ما مضى في رسم باع غلاما في سماع ابن
القاسم، ورسم الطلاق الثاني من سماع أشهب وبالله التوفيق.
[مسألة: الأمة يزوجها سيدها بصداق هل يحق له أن
ينتزع منها صداقها]
مسألة وعن الأمة يزوجها سيدها بصداق فزعم ابن القاسم أن للسيد أن ينتزع
منها صداقها ولا أرى ذلك، يريد ليس له أن يأخذه منها. ألا ترى أن من قول
مالك في الحرة تريد أن تقضي دينا من صداقها أن ذلك لا يكون لها، إلا الشيء
اليسير وكذلك الأمة.
قال محمد بن رشد: لمالك في كتاب الرهون من المدونة مثل قول سحنون ها هنا.
ودليل قول ابن القاسم في كتاب النكاح الثاني منها مثل قوله ها هنا: إن له
أخذ مهرها، كما له أخذ مالها. ولبكير بن الأشج فيه أن له أخذه إلا ما يستحل
به فرجها. وقال ابن حبيب: إنه يلزمه أن يجهزها منه إلى زوجها بما يجهز به
مثلها، فيتحصل في المسألة أربعة أقوال، أجراها على المذهب
(5/55)
قول مالك، وأصحها في القياس والنظر قول ابن
القاسم، وقول بكير وابن حبيب استحسان وبالله التوفيق.
[المرأة تستحلف وليها على نكاحها على أن يزوجها من فلان بكذا]
من سماع محمد بن خالد من عبد الرحمن بن القاسم
قال محمد بن خالد: سألت ابن القاسم عن المرأة
تستحلف وليها على نكاحها على أن يزوجها من فلان بكذا وكذا، وشرط كذا
وكذا، وأشهدت على الولي الموكل بذلك. فذهب الولي فزوجها بذلك من الصداق
وترك الشرط.
فقال ابن القاسم: إن كان لم يدخل، فالأمر إليها، إن شاءت أقامت، وإن شاءت
انفسخت من تزويجه.
قال محمد بن رشد: قوله: إن كان لم يدخل، فالأمر إليها إن شاءت أقامت وإن
شاءت فسخت. ظاهره في القرب والبعد، إذ لم يفرق بين ذلك. وهو مثل ما مضى في
سماع سحنون، وخلاف لما تقدم في أول سماع يحيى، وقد مضى القول على ذلك هنالك
مستوفى وبالله التوفيق.
[مسألة: الرجل يتصدق بداره على رجل على أن
يتزوج ابنته]
مسألة قال: وسألت ابن القاسم عن الرجل يتصدق بداره على رجل على أن يتزوج
ابنته فيقبل صدقته على ذلك، فيتزوج ابنته ويصدقها الدار التي تصدق بها عليه
أبوها ليس مع الدار شيء غيرها. قال: أراه نكاحا جائزا، ولا أرى بذلك بأسا.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة، وقد تقدمت والقول فيها في سماع سحنون،
فلا وجه لإعادته والله الموفق.
[مسألة: الرجل يخصى من قبل أن يدخل على امرأته
هل لها الخيار في نفسها]
مسألة قال: وسألت ابن القاسم عن الرجل يُخْصَى من قبل أن يدخل على امرأته.
هل لها الخيار في نفسها؟ فقال: نعم ذلك لها.
(5/56)
قلت: لابن القاسم: فإن خصي بعدما دخل بها
ومس؟ فقال: لا خيار لها.
قال محمد بن رشد: هذا هو المشهور في المذهب. وذهب أصبغ إلى أنه لا فرق بين
أن يخصى قبل أن يمس أو بعد ما مس؛ لأنها بلية نزلت به، وليس ذلك من قبله
ليضر امرأته، فهي مصيبة نزلت بها، وقوله هو القياس. ووجه القول الأول: أن
المرأة إنما تزوجت على الوطء، فإذا نزل به ما يمنعه من الوطء قبل أن يطأ،
كان لها الخيار، إذا لم يتم لها ما نكحت عليه، وإذا نزل به ذلك بعد أن وطئ
لم يفرق بينهما، إذ قد نالت منه ما نكحت عليه، ولا حجة لها في امتناع
المعاودة، إذا لم يكن ذلك من قبله إرادة الإضرار بها وبالله التوفيق.
[الوصي يزوج يتيمته في حجره قبل أن تبلغ المحيض]
من سماع عبد المالك بن الحسن من عبد الرحمن بن القاسم قال:
وأخبرني عبد المالك بن الحسن أنه سمع ابن القاسم سئل عن
الوصي يزوج يتيمته في حجره قبل أن تبلغ المحيض،
قال: يفسخ النكاح إن كان لم يبن بها، وإن كان بنى بها وأصيب بها النكاح
وتطاول ذلك عليها مضى، إلا أن تكون مسكينة لا قدر لها فيمضي النكاح وإن لم
يدخل بها.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة والقول فيها موعبا في رسم شك في طوافه
من سماع ابن القاسم. فلا معنى لإعادته ها هنا.
[مسألة: الرجل يزوج ابنته البكر ولا ولد له
غيرها فيموت فتزعم أنها ليست ابنته]
مسألة وسألت عن الرجل يزوج ابنته البكر، ولا ولد له غيرها، فيموت الأب،
فتزعم الابنة أنها ليست ابنته، وإنما هي يتيمة، وتنتفي من الميراث، ولا
بينة للزوج أنها هي بعينها، إلا سماعا من الأب أن له ابنتا بكرا، فشا ذلك
في الناس، ولا يثبتها الشهود. هل يلزمها النكاح؟ وكيف إن كان لها إخوة غير
عدول، فشهدوا أنها أختهم، ما الأمر فيه وما يصنع بنصيبها من الميراث؟ وكيف
إن قبلت
(5/57)
قولها ولم يلزمها النكاح إن زعمت بعد ذلك
أنها ابنته؟ قال: لا يلتفت إلى قولها. وقول أبيها هو الذي يلزمها على ما
أحبت أو كرهت في نكاحها وميراثها، ولحوق نسبها، وجميع أمورها.
قال محمد بن رشد: سحنون في النوادر فيمن أقام بينة على رجل أنه زوجه ابنته
فلانة، لا يعلمون أن له ابنة غيرها، وهي بكر، فأنكرت الابنة، إن النكاح لا
يلزمها، إلا أن تعرف البينة التي شهدت على النكاح عينها أو غيرهم فيلزمها،
وقوله: حقيقة القياس؛ لأن النبي عليه السلام يقول: «البينة على المدعي
واليمين على من أنكر» . والزوج مدعٍ على هذه الجارية أنها ابنة الرجل الذي
زوجها، والجارية منكرة لذلك، فوجب أن يكون على الزوج إقامة البينة على ما
يدعي. وهذا إذا مات الأب أو غاب؛ لأنه إن كان حاضرا فالقول قوله إنها
ابنته؛ لأن استلحاقه لها جائز، ما لم يتبين كذبه. والصواب قول ابن القاسم،
وإن لم يكن على حقيقة القياس، إذ قد يؤدي طرد القياس إلى غلو في الحكم،
ويكون الاستحسان أولى منه. وقد كان ابن القاسم يقول: ويروى عن مالك أنه
قال: تسعة أعشار العلم الاستحسان. فإذا أقر الرجل أن له ابنة بكرا وفشا ذلك
من قوله وزوجها ومات وهي في حجابه، فلما طلبها الزوج بالنكاح أنكرت، وقالت:
لست ابنة له، وإنما أنا يتيمة في حجره، ولم يكن في حجره غيرها، فيشك فيها،
ولا سمع أن ابنته التي تزوجها، وكان يقر بها سمع أنها ماتت ولا غابت، وجب
أن تحمل على أنها هي ابنته التي زوجها، وكان يقر بها، فيلزم النكاح ويحكم
عليها به؛ لأن الظن يغلب على صحة ذلك حتى يكاد أن يقطع عليه. والحكم بما
يغلب عليه الظن فيما طريقه غلبة الظن أصل في الشرع. وقد روي عن القاضي أبي
(5/58)
بكر بن زرب أنه كان يقول في رجل هلك وأحاط
بوراثته زوجه وبنوه منها، فشهد الشهود أنهم يعرفون عين الزوجة، ولا يعرفون
أعيان البنات، إن شهادتهم جائزة، واستدل على ذلك برواية عبد المالك هذه
قال: ولو قال الشهود إنهم يعرفون أعيان البنات، ولا يعرفون عين المرأة لم
تجز الشهادة؛ لأن البنات محمولات على الحجاب، ولذلك يعذر الشهود في ذلك،
وتنفذ شهادتهم. والزوجات لسن محمولات على الحجاب كالبنات، ولذلك فرقت
بينهما وليس قوله بصحيح، لا فرق في هذا بين الزوجات والبنات. والذي جرى به
العمل ألا يكلف الحاكم الشهود على الموت والوراثة، الشهادة على أعيان
الورثة ابتداء، لا الزوجة ولا غيرها، حتى يحتاج إلى الإعذار إليهم فيما
يثبت عليهم أو على الميت الذي ورثوه، فحينئذ يكلف الشهود الشهادة على
أعيانهم ليعذر إليهم، فإن لم يثبتوا أعيانهم لم يصح له الحكم عليهم، إلا أن
يثبت أعيانهم عنده بغيرهم، وكذلك إن ماتوا أو غابوا، هذا الذي لا يصح سواه
والله أعلم.
[مسألة: الرجل يبتلى بالجذام هل لامرأته الخيار
في الطلاق]
مسألة قال: وسألت عبد الله بن وهب عن الرجل يبتلى بالجذام ونسأل الله
العافية، فترفع امرأته أمرها إلى السلطان، ويكون المبتلى حينئذ ليس بفاحش
المنظر، غير أنه بين به لا يشك فيه فهل لامرأته الخيار. إذا كان شيئا لا شك
فيه؟ فإنه بلغنا أنه لا يكون لها الخيار حتى يكون من ذلك ما لا قرار عليه،
وليس على شيء منه صبر ولا قرار إذا استيقن به. فما حد ذلك الذي إذا بلغه
كان لامرأته الخيار واجبا؟ والمجنون الذي لا يفيق إذا كان يخاف أذاه، أو
كان ممن لا يخاف ذلك منه. هل لامرأته الخيار أيضا إذا أرادت فراقه؟ وإن كان
ينفق عليها من ماله إذا كان الجذام بينا عند الناس لا شك فيه،
(5/59)
فرق بينهما إذا طلبت الفرقة، وإن لم يكن
مؤذيا ولا فاحشا؛ لأنه يزيد، ولا تؤمن زيادته ولا نقصانه. وإن كان الأمر
الخفي الذي شك فيه، وليس بيّنًا يعرفه الناس أنه جذام، لم يفرق بينهما، ولم
يكن لها خيار. وأما المجنون، فسواء كان معتوها مطبقا مخبلا، أو جنون أفاقه،
يخنق فيه المرة بعد المرة، إذا كان يؤذي امرأته في ذلك، ولا يعفيها من
نفسه، ويخاف عليها منه، حيل بينه وبينها في الخوف، وضرب لها أجل سنة يتعالج
فيها، وهو قول مالك في السنة، ولا أعلمه إلا أنه قال: يحبس في حديد أو
غيره، إذا لم يكن يؤمن عليها منه، وينفق عليها من ماله، فإن برئ، وإلا كان
لها الخيار إذا انقضت السنة. وذلك رأيي.
وأما إذا كان يعفيها من نفسه ولا يرهقها السوء في صحابته، ولا يخاف عليها
منه ولا من ناحيته في خلوته، لم أر لها الخيار، ورأيتها امرأته بحالها.
وقال أشهب: ليس للجذام حد، إلا أنه إذا كان متفاحشا لا يحتمل النظر إليه،
وتغض الأبصار دونه. فأرى أن لها الخيار، وإن شاءت أقامت، وإن شاءت فارقت،
فإن شاءت الإقامة، ثم بدا لها كان ذلك لها. وأما الجنون الذي لا يفيق منه،
فإن كان ممن يخاف أذاه ولو مرة أو مرتين في الشهر، فأرى لامرأته الخيار،
وإن كان لا يخاف أذاه فلا خيار لها.
قال محمد بن رشد: في قول ابن وهب في الجذام: إنه يزيد ولا يؤمن زيادته ولا
انتقاصه، دليل على أنها إن رضيت بالمقام معه ثم أرادت بعد ذلك القيام عليه،
لم يكن ذلك لها. وإن زاد جذامه على ما كان حين رضيت بالمقام معه خلاف ما
مضى في رسم الجواب قبل هذا. وتفرقته في المجنون بين أن يعفي امرأته من نفسه
أو لا يعفيها، خلاف ما مضى في رسم باع شاة من سماع عيسى. وقول أشهب في
الجذام إنه لا يكون للمرأة الخيار إلا إذا كان
(5/60)
فاحشا تغض الأبصار دونه، معناه: إذا كان
حادثا بعد العقد. وقوله: إذا رضيت بالإقامة ثم بدا لها، كان ذلك لها، ظاهره
وإن لم يزد خلاف ما مضى في رسم الجواب من سماع عيسى قبل هذا. وخلاف قول ابن
وهب هنا فهو قول تافه في المسألة. وقد مضى تمام القول على هذه المسألة
موعبا في رسم نقدها من سماع عيسى، فلا معنى لإعادته.
[مسألة: أسلم النصراني وهو غائب وامرأته
نصرانية فأسلمت بعده ثم نكحت]
مسألة قال عبد الله بن وهب: إذا أسلم النصراني وهو غائب، وامرأته نصرانية
فأسلمت بعده، ثم نكحت، ولا علم لها بإسلام زوجها، وقالت البينة إن إسلامه
كان قبل إسلامها، فإنه إن أدركها قبل أن يبتني بها زوجها فالأول أحق بها،
وإن لم يدركها إلا بعد البناء فلا سبيل له إليها. قال مالك: إن كان إسلام
المرأة قبل إسلام زوجها وهو غائب فانقضت عدتها ثم نكحت، فقدم زوجها، فلا
سبيل له إليها بعد انقضاء عدتها نكحت أو لم تنكح.
قال محمد بن رشد: إذا أسلمت النصرانية قبل إسلام زوجها فإسلامها يوجب
الفرقة بينهما، إلا أن السنة قد أحكمت أنه يكون أحق بها إن أسلم في عدتها،
واختلف إن لم تعلم بإسلامه في عدتها حتى تزوجت. فقيل: إنه لا سبيل له إليها
إذا تزوجت. وهو قول مالك في رواية ابن وهب عنه في المبسوطة وقيل: وهو أحق
بها. وإن تزوجت ما لم يدخل بها الزوج، وهو قول مالك في المدونة وغيرها وقول
ابن وهب ها هنا.
ونظير هذه المسألة الرجل يطلق امرأته ثم يراجعها فتعلم بالطلاق ولا تعلم
بالرجعة، فتتزوج بعد انقضاء العدة، ثم يعلم أنه قد كان راجعها في العدة،
والمفقود تتربص امرأته أربع سنين بأمر السلطان ثم تعتد وتتزوج فيقدم زوجها،
أو تعلم حياته. فقيل: إنهما يفوتان جميعا بالعقد، وقيل: إنهما لا
(5/61)
يفوتان إلا بالدخول. اختلف في ذلك قول
مالك، واختلفت فيه الرواية أيضا عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
-. واختلف أيضا إذا كان إسلامه قبل إسلامها فلم يعلم بذلك حتى تزوجت. فقال
ابن وهب ها هنا، ومثله في الشفعة من المدونة: إنه أحق بها ما لم يدخل بها
الزوج الثاني الذي تزوجها بمنزلة إذا كان إسلامه في عدتها. وقال ابن
الماجشون: إنه أحق بها أبدا، وإن دخل الزوج فيفسخ النكاح وترد إليه بعد
الاستبراء، واختاره محمد بن المواز، وهو الصواب؛ لأنها نصرانية تحت مسلم،
فلم تجب عليها عدة. وسواء دخل بها الأول أو لم يدخل. فالاختلاف إذا أسلم
قبلها، إنما هو هل تفوت بالدخول أو لا تفوت به؟ ولا اختلاف في أنها لا تفوت
بالعقد، والاختلاف إذا أسلم في عدتها إنما هو هل تفوت بالعقد أو لا تفوت
به؟ ولا اختلاف في أنها تفوت بالدخول. فهذا تحصيل الاختلاف في هذه المسألة.
وقوله في آخرها في التي أسلمت قبل زوجها وهو غائب إنه إن قدم فلا سبيل له
إليها بعد انقضاء عدتها نكحت أو لم تنكح، كلام فيه تقديم وتأخير وحذف.
ومعناه: إن قدم بعد انقضاء عدتها فأسلم، فلا سبيل له إليها نكحت، أو لم
تنكح. وبالله تعالى التوفيق.
[مسألة: التي لم تبلغ المحيض إذا زوجت وافتضت
وطلقت هل يعفى عن صداقها]
مسألة قال: وسألته عن الصبية الصغيرة التي لم تبلغ المحيض، ومثلها يوطأ،
زوجها أبوها رجلا فدخل بها ووطئها ثم طلقها قبل أن تبلغ المحيض، إلا أنه
افتضها. هل يجوز عفو الأب عما بقي عليه من الصداق؟ قال: لا أرى عفو الأب
جائزا ولا أرى عفوها هي جائزا؛ لأنه يولى عليها.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأنه إذا دخل بها الزوج وافتضها فقد وجب
لها جميع صداقها بالمسيس، وليس للأب أن يضع حقا قد وجب لها، إلا في الموضع
الذي أذن الله له فيه، وهو قبل المسيس. لقول الله عز
(5/62)
وجل: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ
قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة: 237] الآية، وهو عند مالك الأب في
ابنته البكر، والسيد في أمته. وأن يكون ذلك منه على وجه النظر، رجاء
استدامة العصمة عند ابن القاسم، وهذا لا وجه فيه للنظر إذ قد وقع الطلاق،
فوجب ألا يجوز وضعه حقها باتفاق وبالله التوفيق.
[مسألة: ينكح ابنة الرجل فيقول ماذا لابنتك فلا
يلتزم الناكح بما سمى]
مسألة قالت: وسألت ابن وهب عن الذي تنكح إليه ابنته، فيقول الناكح: ماذا
لابنتك؟ فيقول: لها كذا وكذا لأشياء يسميها، فيرجع الناكح في صداقها للذي
قال الأب وسمى، ثم يوجد الأمر على غير ما قال وسمى، فقال: إذا عُثر على هذا
قبل الدخول، قيل للزوج: إن شئت فأقم على هذا، وإن شئت ففارق ولا شيء عليك
من الصداق، لا قليل ولا كثير، وإن لم يعثر على هذا إلا بعد الدخول ردت إلى
صداق مثلها.
قال محمد بن رشد: قوله: وإن لم يُعثر على هذا إلا بعد الدخول، ردت إلى صداق
مثلها، يريد أنه يرجع بالزائد عليها، لا على الولي، فيؤخذ ذلك من صداقها إن
كان قائما، وإن كان قد تلف أخذ من مالها واتبعت به دينا إن لم يكن لها مال،
خلاف ما ذهب إليه ابن حبيب، من أنه يرجع بذلك على الولي الذي غره، إلا أن
تكون ثيبا، وقد علمت بكذب وليها فتقدمت على معرفة ذلك، فيرجع عليها إن كان
لها مال، وإلا رجع على الولي. وقد قيل إنه لا كلام للزوج في ذلك؛ لأنه فرط،
إذ لم يتجسس ويتثبت لنفسه، وهو قول أصبغ في الخمسة ورواية يحيى عن ابن
القاسم في العشرة. ووقعت أيضا في رسم الكبش في بعض الروايات. وذلك إذا
وصفها الولي بذلك من غير شرط. وأما إذا تزوجها على أن لها من المال كذا
وكذا لما ليس لها، فيكون للزوج إن علم بذلك قبل الدخول أن يردها، ولا يكون
عليه شيء من
(5/63)
الصداق. وإن لم يعلم بذلك حتى دخل ومس كان
لها الصداق بالمسيس، ورجع هو على من غره وزوجه على ذلك من الأولياء إلا أن
تكون هي التي غرته دون الولي، فيرجع عليها بما أصدقها، ويترك لها منه قدر
ما يستحل به فرجها. هذا قول مالك وأصحابه، إلا محمد بن المواز فإنه ذهب إلى
أن الولي إذا زوج وليته بشرط أن لها من المال ما ليس لها، فإنما ترجع على
من شرط له ذلك، وغره بما زاد من المهر على صداق مثلها إن هو خلى سبيلها ولم
يرض بها، وهو بعيد. وقد مضى هذا كله في رسم يوصي من سماع عيسى. فإن سمى لها
الولي شيئا من ماله عرضا كان أو أصلا عند النكاح، بشرط أو بغير شرط، فقال
لها: داري الفلانية، أو عبدي فلان، كان ذلك لها نحلة لا تفتقر لحيازة. وقيل
إنها تفتقر إليها، اختلف في ذلك قول ابن القاسم في رواية يحيى عنه الواقعة
في بعض روايات العتبية. وأما إن قال: لها الدار الفلانية أو المملوك المسمى
بفلان، فقيل إن ذلك نحلة، بمنزلة إذا قال لها: داري الفلانية أو عبدي فلان،
وهو قول ابن القاسم في رواية يحيى عنه. وإليه ذهب ابن حبيب. وقيل إنه لا
يجب لها بهذا القول شيء من ذلك، وهو قول أصبغ في الخمسة. وإذا لم يجب ذلك
لها، فقد مضى الاختلاف فيما للزوج في ذلك من الحق في الشرط وغير الشرط.
واختلف إذا سماها دنانير أو دراهم أو طعاما أو عروضا موصوفة، فقال لها كذا
وكذا، أو سكت، أو قال: في مالي، أو عندي، أو علي، أو قبلي، على ثلاثة
أقوال: أحدها أنه لا يلزمه من ذلك شيء إذا كان ذلك منه على وجه التزيين
لوليته إلا أن يرى أنه أراد بذلك، وهو قول أصبغ. والثاني أنه قال في مالي
أو عندي أو علي أو قبلي لزمه ذلك نحلة لا تفتقر إلى حيازة، يؤخذ بذلك عاش
أو مات، وإن لم يقل إلا: لها كذا وكذا، وسكت لم يلزمه، إلا أن يكون أبا أو
وصيا، وهو قول ابن حبيب. والثالث أنه قال لها في ماله، كان ذلك في ماله إن
كان له مال، وإن لم يكن له لم يتبع بذلك. وإن قال لها عندي فهي عدة لا
يلزمه إخراج ذلك، إلا أن يتطوع
(5/64)
به، كان له مال أو لم يكن. وإن قال لها:
علي أو قبلي، فهو لازم له في ماله إن كان له مال ودين يتبع به في ذمته إن
لم يكن له مال. وإن قال: لها كذا وكذا ولم يزد على ذلك لم يلزمه شيء. وهو
قول ابن القاسم في رواية يحيى عنه وبالله التوفيق.
[مسألة: حكم نكاح الشغار إذا لم يعلم به إلا
بعد البناء]
مسألة قال: وسألته عن نكاح الشغار، إذا لم يعلم به إلا بعد البناء، قال: إن
علم به قبل البناء فسخ، ولم يكن لها من الصداق شيء، وإن لم يعلم به إلا بعد
البناء، فسخ أيضا، وكان لها صداق مثلها.
قال محمد بن رشد: قوله إنه يفسخ قبل البناء وبعده، ويكون فيه صداق المثل،
إن فسخ بعد الدخول، هو مثل ما في المدونة في نكاح الشغار،، ومعناه إذا لم
يكن معه تسمية صداق. وقد قيل إنه لا يفسخ بعد الدخول، وهي رواية علي بن
زياد عن مالك. واختلف في وجه فسخه بعد الدخول، قيل لمطابقة النهي له على
القول بأن النهي يقتضي فساد المنهي عنه، وقيل: لأنه نكاح فسد لعقده، إذ لا
ينفرد البضع عن الصداق؛ لأن كل واحد من البضعين بإزاء صاحبه، فإذا بطل
الصداق، بطل العقد، بخلاف الصداق الفاسد الذي هو بائن عن البضع، فإذا بطل
الصداق، لم يبطل ببطلانه العقد. وقد قيل إن فسخه بعد الدخول على القول بأن
النكاح إذا وقع بخمر أو خنزير، أو بغير صداق يفسخ قبل الدخول وبعده، ووجه
رواية علي بن زياد قياسه على ما فسد لصداقه، إذ لا يكون البضع صداقا. وقد
قيل: إنما اختلف قول مالك في فسخه بعد الدخول؛ لاختلاف الناس في تأويل
الشغار، إذ ليس نص في الحديث؛ لأن المروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما هو أنه «نهى عن الشغار» ، وما في الحديث تفسير
من نافع، وأما إذا سُمِّيَ مع نكاح
(5/65)
الشغار صداق لم يختلف قول مالك، في أنه لا
يفسخ بعد الدخول، واختلف هل يكون فيه صداق المثل بالغا ما بلغ؟ أو الأكثر؟
من صداق المثل أو المسمى؟ وذهب ابن لبابة إلى أنهما إذا دخلا على كل واحد
منهما، الأكثر من صداق المثل أو المسمى، وإذا دخل أحدهما ولم يدخل الآخر
ففسخ نكاح الذي لم يدخل منهما كان على الذي دخل صداق المثل، كان أقل من
المسمى أو أكثر؛ لأنه يقول: إن كان صداق مثلها أقل من التسمية. إنما زدت
على صداق مثلها ليزوج وليتي وليخلو ذراعي منها، فإذا فسخ نكاحها فلا أعطيها
إلا صداق مثلها، وكذلك إن سميا في إحداهما صداقا لم يسميا في الآخر، فدخلا؛
لأن التي لم يسم لها صداقا يفسخ نكاحها بعد الدخول. وحمل ما في المدونة على
هذا وبالله التوفيق.
[مسألة: المسلم هل يعقد نكاح ابنته النصرانية]
مسألة قال: وسألته عن المسلم هل يعقد نكاح ابنته النصرانية؟ قال: يعقد
نكاحها إذا زوجها مسلما، وإن أراد نكاحها نصراني لم يَلِ عقد نكاحها، وكان
ذلك إلى أهل دينها، ليس لأبيها من ولايتها شيء؛ لقول الله تبارك وتعالى:
{مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنفال: 72] .
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: إنه إذا أراد نكاحها نصراني، فلا ينبغي له
أن يلي عقد نكاحها، إذ لا حظ فيه لمسلم. وقد أجاز ابن حبيب أن يزوجها من
نصراني إذا لم تكن من نساء الجزية. وهذا أصح والله أعلم. وأما تزويجه إياها
من مسلم فقد مضى القول عليها موعبا في رسم الشجرة تطعم بطنين في السنة من
سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته وبالله التوفيق.
[المعتقة إلى أجل هل لسيدهاتزويجها]
من سماع من سماع أصبغ من ابن القاسم من كتاب القضاء العاشر:
قال أصبغ: سمعت ابن القاسم يقول في المعتقة إلى أجل: إن لسيدها
(5/66)
أن يزوجها. قال: قال مالك: ويأخذ مال
المعتقة إلى سنة إلا أن يقرب عتقها. قال ابن القاسم: وكذلك النكاح، إلا أن
يقرب عتقها، مثل أخذ المال سواء. قيل لابن القاسم: فمرض السيد قبل عتقها
بسنة، أيأخذ مالها؟ قال: لا لأنه يأخذه لغيره، وليس للورثة أن يأخذوه بعده.
قيل لأصبغ: فللورثة أن يزوجوها بعده؟ فقال: لا، كما لا ينتزعون المال بعده،
كذلك لا يزوجون، وقد خرج موضع الانتزاع والتزويج بمرضه الذي يسقط ذلك عنه،
فهو لا يرجع لورثته.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما تقدم في رسم الأقضية من سماع يحيى، أن تزويج
الأمة تابع لانتزاع مالها. وقد قيل إنه تابع لجواز وطئها، وهو قول مالك في
إحدى روايتي أشهب عنه. والقياس أن للسيد انتزاع مال معتقه إلى أجل وإن مرض،
إذا كان الأجل بعيدا، وأن ورثته ينزلون بمنزلته في ذلك ما لم يقرب الأجل،
وهو قول مالك في رواية مطرف عنه. وقول ابن عبد الحكم وأصبغ، واختيار ابن
حبيب. واختلف في حد جواز ذلك، فقيل: الأشهر، وهو قول مالك، وقيل: الشهر،
وهو قول أصبغ. ولا اختلاف في المدبر وأم الولد أن السيد لا ينتزع أموالها
إذا مرض؛ لأن المرض فيها كقرب الأجل في المعتق إلى أجل.
[مسألة: رجل أهدى لامرأته أملك بها هدية ثم
طلقها قبل الدخول]
مسألة قال أصبغ: وسمعت ابن القاسم، وسئل عن رجل أهدى لامرأته أملك بها هدية
ثم طلقها قبل الدخول، أو وجد النكاح مفسوخا. قال: أما الطلاق، فلا شيء له
فيها. وإن أدركها بعينها. قيل له: فلم يجد ما ينفق عليها، ففرق بينهما.
قال: هذا وما أشبهه
(5/67)
طلاق، حتى يكون نكاحا حراما لا يقر عليه،
أو إنكاحا مفسوخا يفسخ إذا لم يدخل. وإن كان مما يثبت إذا دخل فإن هذا إذا
كان وعلم فرق بينهما، فإنه إن أدرك هديته بعينيها فهو أملك بها وهي له
كلها؛ لأنه أعطى حين أعطى وهو يرى أنها امرأته، فإذا هي ليست بامرأته؛ لأنه
نكاح لا يقرَّان عليه. وإن كانت قد فاتت، فلا شيء له عليها، بمنزلة من تصدق
عليه بصدقة فأثاب عليها ثوابا وهو يرى أن الثواب يلزمه في الصدقات، ثم علم
فطلب، فإنه إن أدرك ثوابه أخذه، وإن فات فلا شيء له عليه. قال: ولو أثابه
حين أثابه وهو يعلم أن ذلك لا يلزمه، لم يكن له أن يرجع فيه، وإن أدركه
بعينه.
قلت: أرأيت إن كان النكاح مفسوخا وأدرك هديته بعينها، إلا أنها قد نقصت؟
قال: فلا شيء له غيرها يأخذها منقوصة. قيل له: فإن كانت قد زادت ونمت؟ قال:
لا أرى له زيادتها، ولا أرى له إلا القيمة يوم أعطاها. والقياس أنها له
بنمائها، وإن كانت قد زادت، ولكن القيمة في هذا عندي أعدل. قال أصبغ: وإن
دخل بها في النكاح المفسوخ فلا شيء له أيضا وإن أدركها بعينها؛ لأن النكاح
الذي أهدى عليه وأعطى قد تم له بالدخول، وإنما الجواب على أنه فسخ قبل
البناء بعد العطاء. ولو كان العطاء بعد الدخول ثم فسخ، رأيت ذلك له؛ لأنه
أعطى على الثبات والقناعة وإكمال لنكاحه. والعشرة بينهما فيه، فلم يقر
عليه. وذلك إذا كان الفسخ فيه بحدثان العطية، فأما إن كان زمان ذلك قد طال
جدا السنتين أو السنين قبل الفسخ ثم فسخ، فلا أرى له فيه شيئا، وإن أدركه
بعينيه، مثل الخادم
(5/68)
يدركها، أو المنزل بعينيه؛ لأن الذي أعطى
له قد رسخ له حين استمتع منه واستمتع بعطيته، فالفسخ فيه كطلاق حادث منه ها
هنا، وهو رأيي ولم أسمع فيه بشيء.
قال محمد بن رشد: أما الذي أهدى لامرأته هدية قبل البناء، ثم طلقها قبل
البناء أو بعده، فبين أنه لا رجوع له في هديته، وإن كانت قائمة لا تنطلق
باختياره، ولو شاء لم يفعل فلا شيء له فيما أعطى. وأما الذي يجد ما ينفق
عليها ففرق بينهما. فقوله: إنه لا رجوع له فيما أهدى كالطلاق، هو على أصله
في أن ذلك طلاق، يجب للمرأة فيه نصف صداق. وعلى قول ابن نافع الذي لا يرى
للمرأة في ذلك شيئا من الصداق، يرى الطلاق عليه بعدم النفقة أو الصداق،
كالفرقة بينهما بالجنون والجذام، يكون له أن يرجع في هديته إن كانت قائمة.
وقد مضى الفرق بين المسألتين في سماع سحنون. وأما إذا ألفى النكاح مفسوخا،
ففرق بينهما قبل البناء، فقال: إنه يرجع في هديته إن كانت قائمة؛ لأن السبب
الذي أهدى عليه لما بطل، وجب أن تبطل الهدية ببطلانه، كمسألة نوازل سحنون
من كتاب جامع البيوع في الذي يضع من ثمن سلعة باعها بسبب ما كان خشي
المبتاع من تلفها أو الوضيعة فيها، فيسلم من ذلك، أن له الرجوع فيما وضع.
ومسألة يحيى من كتاب الأيمان بالطلاق، في الذي يؤخر بالحق لسبب. فلا يتم
ذلك السبب. وقد قال ابن القاسم في الدمياطية إنه لا يرجع بها. ولو كان
النكاح صحيحا فوجد بالمرأة عيبا يجب له به ردها، فردها قبل الدخول، لكان له
أن يرجع في هديته، على ما في كتاب الصرف من المدونة، في الذي يبيع من الرجل
السلعة، فيهبها له هبة من أجل ما باع منه السلعة، ثم يجد بالسلعة عيبا، أنه
يرجع بالثمن والهبة، خلاف قول سحنون: إنه لا يرجع بالهبة، وقوله على أن
الرد
(5/69)
بالعيب نقص بيع. وأما مسألة الثواب في
الصدقة التي نَظَّرَها بها فلا تشبهها؛ لأن المعنى فيها أنه أعطى ما ظن أنه
واجب عليه، ثم علم أنه غير واجب عليه. وقد اختلف في ذلك أيضا، ولها نظائر
كثيرة في المدونة والعتبية، ومنها مسألة الذي ينفق على المطلقة وهو يظن
أنها حامل، أو على زوجته ويظن أن النكاح صحيح ثابت. وقد فرق ابن القاسم بين
الوجهين في الدمياطية، فقال في الرجل يتزوج المرأة ويهدي هدية الملاك، ثم
يسأله أهلها أن يدخل بها، أو ينفق عليها، فينفق عليها ثم يوجد النكاح
مفسوخا، إنه لا يرجع عليها بهدية الملاك، ويرجع عليها بالنفقة، ولمراعاة
هذا القول استحسن في الرواية إذا تمت أن تكون له القيمة، ولا يأخذها
بنمائها؛ لأن القياس على ما قال أن يكون له النماء، كما يكون عليه النقصان،
ولا اختلاف إذا فسخ النكاح بعد الدخول في أنه لا شيء له في الهدية، وإن
كانت قائمة، إلا أن تكون الهدية بعد الدخول والفسخ بحدثان ذلك، على ما قال.
وهذا كله في الهدية التي يتطوع بها الزوج من غير شرط، ولا جرى بها عرف.
فأما الهدية المشترطة فحكمها حكم الصداق في جميع الأحوال، وأما الهدية التي
جرى بها عرف فأجراها ابن حبيب على القول بوجوب القضاء بها، مجرى الصداق
يرجع بنصفها في الطلاق، فعلى قوله: إن طلق قبل أن يدفعها يلزمه نصفها.
وأبطلها مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن الزوج في الموت والطلاق. وقد تكلمنا
على وجه قوله في رسم مساجد القبائل، من سماع ابن القاسم. فعلى قياس قوله:
إن طلق بعد أن دفعها، لم يرجع بشيء منها، وعلى القول بأنه لا يحكم بها،
حكمها حكم التي يتطوع بها من غير شرط. وقد مضى القول في ذلك، والله الموفق
للصواب.
[مسألة: الرجل يزوج ابنته ويقبض صداقها وهي بكر
في حجره وقد استهلكه]
مسألة وسمعته وسئل عن الرجل يزوج ابنته ويقر بقبض صداقها وهي بكر في حجره
وقد استهلكه فقال: هو ضامن له أيضا. قيل
(5/70)
له: فقال: قد دفعته إليها. قال: فإن كان
دفعه إليها عينا فهو يضمنه؛ لأن الأبكار ليس يدفع إليهن الدنانير، إنما
يجهزن. قيل: فدخلت على زوجها، فزعم أنه جهزها بكذا وكذا، ودفعه إليها،
وأنكرت ذلك، قال: تحلف وتبرأ. قال أصبغ: وذلك ما لم يكن التناكر مع الدخول
بما يتبين فيه كذبه بدخولها بغير شيء.
قال محمد بن رشد: وقعت هذه المسألة في أصل السماع عقب مسألة الرجل يتزوج
البكر فيدفع صداقها إلى أبيها ببينة فيستهلكه ولا مال له. وجوابه فيها أن
الأب ضامن للصداق، ويدخل الزوج بامرأته ولا شيء عليه، ولذلك قال في هذه
المسألة: هو ضامن له أيضا، يريد ويدخل الزوج بزوجته، ولا شيء عليه، فساوى
بين أن يكون للزوج بينة على دفع الصداق، أو لا تكون له بينة على ذلك إذا
أقر الأب بالقبض، مثل قوله في آخر السماع خلاف قول ابن وهب وأشهب قبل ذلك
في تفرقتهما بين ذلك في دعوى الضياع. والذي يأتي على قولهما في هذه المسألة
ألا يكون للزوج سبيل إلى الدخول بامرأته، حتى يدفع الصداق إليها، فيدفعه
إليها، ويتبع به الأب المقر في ذمته. وقوله: إن الأبكار ليس يُدفع إليهن
الدنانير، إنما يجهزن صحيح. والأصل في ذلك قول الله عز وجل: {وَلا تُؤْتُوا
السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا
وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ} [النساء: 5] فنهى أن تدفع إليهم
أموالهم لئلا يفسدوها ويبذروها، وأمر أن يُرزقوا ويُكسوا منها، فوجب أن
يدفع إليهم ما يحتاجون إليه من نفقتهم وكسوتهم، وكذلك ما تحتاج إليه المرأة
من جهازها إلى زوجها. وأحب أن يدفع إليها وإن كانت مولى عليها. وإنما وجب
أن يكون القول قول الأب في أنه جهز ابنته البكر، إلى زوجها، بما قبض من
صداقها، وإن كان مدعيا في ذلك؛ لأنه على ذلك قبضه منه، والعرف يشهد له به.
وإنما وجبت عليه اليمين، لما تعلق في ذلك من حق الزوج.
(5/71)
والذي يسقط عنه اليمين، إحضار البينة،
وإبراز الجهاز، وإقامته وإرساله بمحضر البينة. وإن لم تبلغ البينة مع
الجهاز بيت ابنته. قال ذلك ابن حبيب في الواضحة. ولو ادعى الأب أنه جهز
ابنته إلى زوجها بما لها قبله من ميراث أمها أو غير ذلك، وأنكرت، لما كان
القول قوله في ذلك، ولكلف إقامة البينة على إيراد الجهاز بيتها. لقول الله
عز وجل: {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا
عَلَيْهِمْ} [النساء: 6] .
ومن كتاب الكراء والأقضية قال: وسمعت أصبغ يُسأل عن الرجل تشترط عليه
امرأته في كتاب صداقها ألا يسيء إليها، فإن فعل فأمرها بيدها، فإن تزوج
عليها أو تسرر عليها. هل ترى هذا من الإساءة؟ فقال أصبغ: لا أراه من
الإساءة، إلا أن يكون ذلك وجه ما يشترطون، ويأخذون عندهم بظاهر معروف
عندهم، إن الإساءة في هذا الشرط النكاح وشبهه، وإلا فلا. قيل له: فإن ضربها
ضربا مبرحا أو غير مبرح، أتراه من الإساءة؟ فقال: إن ضربها في أمر تستأهله
على وجه الأدب بالأمر الخفيف، فلا أراه من الإساءة، ولو كان على غير ذلك
ضربها مرارا، رأيتها إساءة، أو جاء من ذلك أمر مفرط وإن كان غير مرار.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال في النكاح والتسرر: لأن الله تعالى أذن في
ذلك وأباحه بقوله عز وجل: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ
مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3] وقوله: {وَالَّذِينَ هُمْ
لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون: 5] {إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ
مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 6] ومن فعل ما أباحه الله تعالى له
فليس بمسيء، ولا حجة للمرأة عليه في ذلك بشرطها، إلا أن يعلم أنهما قصدا
(5/72)
ذلك وأراداه بسبب يدل على ذلك أو بساط. قال
في الضرب الخفيف على وجه الأدب في أمر تستأهل عليه الأدب، إن ذلك ليس من
الإساءة؛ لأن الله أذن للأزواج في ضرب أزواجهم بقوله: {وَاللاتِي
تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ
وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء: 34] وهذا إذا علم السبب الذي أدبها عليه ببينة
أو أقرت به. وأما إن لم يعلم ذلك وأنكرته فلا يصدق الزوج عليه، ويكون لها
الأخذ بشرطها بعد يمينها إنه ضربها على غير سبب استوجبت عليه الأدب، إلا أن
يكون الرجل من الموثوق به في دينه وفضله وأمانته، فيصدق في ذلك، وأما الضرب
المفرط فهو من الإساءة، وكذلك إن ضربها مرارا وإن لم يكن ضربا مفرطا، فيحمل
ذلك من فعله على الإساءة، إلا إن تبين أنه إنما ضربها على أمر تستأهل الضرب
وبالله التوفيق.
[مسألة: تغر من نفسها بأنها حرة وهي أمة فتنكح وتلد ثم تُستحق]
مسألة قال أصبغ: وسمعت ابن القاسم وسئل عن التي تغر من نفسها بأنها حرة،
وهي أمة، فتنكح وتلد، ثم تُستحق فيدعي الناكح أنه ظن أنها حرة، أيصدق ويكون
القول قوله؟ قال: نعم. وقاله أصبغ وهو على ذلك أبدا وعلى ما ادعى، ولا يكلف
البينة أنه نكح على ذلك ولم يعلمه، حتى يأتي خلافه. والسيد ها هنا مدع
فعليه البينة أنه أعلمه. وقال أصبغ: ويقوم الولد على الأب يوم يحكم عليه
فيهم. قيل له: فما مات منهم قبل ذلك؟ قال: ليس فيهم شيء، وليس لسيد أمهم
فيهم شيء. قيل له: فما قتل منهم فأخذ الأب ديتهم؟ قال: يكون عليه قيمته،
وتكون له الدية، إلا أن تكون القيمة أكثر مما أخذ من الدية، فلا يكون عليه
غير ذلك.
(5/73)
وقاله أصبغ: ولو أقر الأب أنه نكح على
معرفة أنها أمة، والفاشي غير ذلك من أمرها أو أمر الأمة أنها غرت وادعت
أنها حرة، والنكاح كان على ذلك بالسماع والمأخذ أو السبب أو الشك، لم يصدق
الأب؛ لأنه يدفع عن نفسه الغرم، ويريد إرقاق الولد وهم أحرار. قال أصبغ:
ولو قتلوا فأخذ الأب الدية فاستهلكها، ثم جاء السيد وهو عديم، ثم اتبعه
بالقيمة، لم يكن له على غارم الدية إتباع؛ لأن الأب أخذها بوجه ما يجوز
وبحكم حكم له به يوم أخذها وهذا رأيي.
قال محمد بن رشد: قوله في الذي يتزوج المرأة، فتُستحق، فيدعي أنه لم يعلم
أنها أمة، وأنه ظن أنها حرة، إن القول قوله، وإن السيد مدعٍ عليه إن ادعى
عليه أنه علم أنها أمة صحيح بَيّن؛ لأن نكاحه إياها بإذنها ورضاها شاهد على
أنه إنما تزوجها على أنها حرة، زوَّجها منه رجل ادعى أنه وليها أو سيدها؛
لأن السيد لا يستأمِر أمته في النكاح، إذ له أن يكرهها على ذلك. وقول أصبغ:
إن الأب لا يصدق أن امرأته علم أنها أمة، إذا كان الظاهر من أمره أنه
تزوجها على أنها حرة صحيح، إذ ليس فداء ولده منها بقيمتهم حقا له، إن شاء
أن يتركه تركه، وإنما هو حق عليه في مذهب مالك وجميع أصحابه وعامة العلماء،
فيتهم على أن يسقط ذلك عن نفسه بإقراره. وقد كان القياس أن يكون الولد
رقيقا لسيد الأمة؛ لإجماعهم على أن كل أمة تلد من غير سيدها، فولدها
بمنزلتها، إلا أنهم تركوا القياس في هذا لإجماع الصحابة على أنهم أحرار
وعلى أن على الأب قيمتهم، حاشا أبو ثور، وداود، فإنهما قالا: الأولاد رقيق
على مقتضى القياس. وقوله: إن القيمة فيهم على الأب يوم الحكم، وإنه لا شيء
عليه فيمن مات منهم قبل ذلك. وهو قول مالك في المدونة وجميع أصحابه، حاشا
المغيرة وأشهب، فإنهما أوجبا على الأب
(5/74)
قيمتهم يوم ولدوا، فلا تسقط القيمة عندهما
بموت من مات منهم قبل الحكم والله أعلم. وقد مضى في سماع سحنون الحكم في
غرور الزوج، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
تم كتاب النكاح الرابع
(5/75)
|