البيان
والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة [كتاب التخيير والتمليك الأول]
[قال لرجل وتحته ابنته اقبل مني ابنتك وقد بنى
بها قال ذلك على وجه الغضب]
كتاب التخيير والتمليك الأول
(5/205)
من سماع ابن القاسم
من كتاب قطع الشجر قال: قال سحنون: أخبرني ابن القاسم، قال: سئل مالك عن
رجل قال لرجل وتحته ابنته: اقبل مني ابنتك، وقد بنى بها، قال: ذلك على وجه
الغضب، فقال: قد قبلتها منك، ثم قال: على أن تردوا علي مالي قال: لا أرده
عليك، فقال: أراها قد بانت منه بتطليقة، وأرى أن يخطبها بنكاح مستأنف،
وتكون عنده على اثنين، ولا أرى له من المال الذي استثنى شيئا، إذا لم يكن
ذلك نسقا واحدا، وذلك أنه أراد المباراة.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة المعنى على أصل ابن القاسم وروايته
عن مالك في أن مباراة الرجل امرأته طلقة بائنة، وإن لم يأخذ منها على ذلك
شيئا قياسا على مخالعته إياها على شيء يأخذه منها؛ لأنها مفارقة يتفقان
عليها في الوجهين جميعا، فرأى أن اتفاق الرجل مع أبي المرأة على قبوله
إياها، هو وجه المباراة؛ لأن المباراة مفاعلة، فلا تكون إلا من اثنين،
فسواء كانت من الزوجين أو من الزوج وأبي الزوجة، فلهذا قال: وذلك أنهما
أرادا المباراة، فلما كانت تبين منه بقبول أبيها إياها على وجه المباراة،
كان قوله بعد ذلك على أن تردوا علي مالي ندما منه، لا ينتفع به إلا
(5/207)
أن يكون نسقا متتابعا بالكلام، كما قال،
وذلك بمنزلة أن يطلق الرجل امرأته، ثم يقول بعد ذلك إن شاء زيد، وما أشبه
ذلك، أن ذلك لا ينفعه، إلا أن يكون الكلام متصلا متتابعا.
[مسألة: قال لامرأته أقضي ديني وأفارقك فقضته
ثم قال لا أفارقك]
مسألة وسئل عن رجل قال لامرأته: أقضي ديني وأفارقك، فقضته ثم قال: لا
أفارقك، حق كان لي عليك أعطيتنيه، قال: أرى ذلك طلاقا إذا كان ذلك على وجه
الفدية، قال: فإن لم يكن على وجه الفدية أحلف بالله ما كان على وجه الفدية،
وما أردت إلا أن أطلقها إلا بعد ذلك، إذا أقضتني، ويكون القول قوله.
وسئل عن المرأة إذا قالت: خذ مني هذه العشرين، وفارقني، قال: نعم، ثم قال
حين قبضها: لا أفارقك قال: أراه قد فارق، وما أرى الذي قال لامرأته أقضي
ديني على وجه الفدية وأفارقك، فكسرت شيها وأعطته إلا بمنزلة الرجل يقول
لغريمه: أعطني كذا وكذا من حقي ولك منه كذا وكذا يلزمه، ويثبت عليه، وكأني
أرى الطلاق يشبهه، فأراها أملك بنفسها في هذا، والله أعلم.
قال محمد بن رشد: قوله في الذي قال لامرأته: أقضي ديني وأفارقك، ثم قال: لا
أفارقك، حق كان لي عليك فقضيتنيه، أن ذلك يكون طلاقا إذا كان على وجه
الفدية، معناه: إذا ثبت أن ذلك كان على وجه الفدية ببساط، تقوم عليه بينة،
مثل أن تسأله أن يطلقها على شيء تعطيه إياه، فيقول لها: اقضي ديني وأفارقك،
وما أشبه ذلك، أو يقر بذلك على نفسه، فإذا ثبت ذلك أو أقر به على نفسه، كان
خلعا ثابتا، وإن لم تكن كسرت فيما قضته شيها، ولو كسرت فيه شيها كان أبين،
على ما قال في آخر المسألة، فإن لم يثبت ذلك ولا أقر به، وادعى أن ذلك لم
يكن منها على وجه الفدية، وأنه لم
(5/208)
يرد بذلك إيجاب الطلاق على نفسه، حلف كما
قال على الوجهين جميعا، يحلف بالله ما كان على وجه الفدية، وما أراد إلا أن
يطلقها بعد ذلك إذا قضته، ووقع في المبسوط من رواية ابن نافع عن مالك، أنه
يحلف ما أراد أن يطلقها إذا قضته، وليس ذلك بخلاف لقوله هاهنا، والمعنى في
ذلك أنه يحلف على ما ادعى أنه أراده من ذلك، وقد روي عن مالك: أن الفراق
يلزمه، ولا يكون من اليمين، وهو قول أصبغ، واختيار ابن المواز، قال: لأن
قبضه لما قبضه منها وجه خلع، والأول هو اختيار ابن القاسم، وقع اختلاف قول
مالك في هذا، واختيار ابن القاسم في رسم أوصى، من سماع عيسى.
وأما الذي قالت امرأته: خذ مني هذه العشرين دينارا وفارقني، فقال: نعم، ثم
قال حين قبضها: لا أفارقك، فلا اختلاف في أن ذلك خلع قد تم، وكذلك لو قال
لها هو ابتداء: أعطني عشرين دينارا وأفارقك، فلما قبضها قال: لا أفارقك، لم
يكن ذلك لها له؛ لأن قبضه العشرين منها رضا منه بالمفارقة، واختلف إن قال
لما أتته بها: لا أقبلها، ولا أفارقك على ثلاثة أقوال: أحدها: أن الفراق
يلزمه. والثاني: أنه يلزمه ويحلف، وهو قول ابن القاسم في رسم العرية، من
سماع عيسى. والثالث: الفرق بين أن تبيع فيه متاعها، وتكسر فيه عروضها، وبين
أن تأتيه بها من غير شيء تفسده على نفسها. وهو قول ابن القاسم في آخر سماع
أبي زيد. وكذلك إن كان له عليها دين إلى أجل، فقال لها: إن عجلت لي ديني
أفارقك، فعجلته له وقبضه منها، يلزمه الطلاق بإجماع؛ لأن قبضه منها قبل
حلوله رضا منه بالمخالعة، ويرد المال إليها إلى أجله؛ لأن تعجيله على
الطلاق حرام، ولو كان لما أتته به أبى من أخذه ومن طلاقها، لجرى ذلك على
الثلاثة الأقوال المذكورة، وستأتي هذه المسألة في رسم العرية من سماع عيسى،
وبالله التوفيق.
[مسألة: قال لامرأته إن دعوتني إلى الصلح فلم
أجبك فأنت طالق]
مسألة وقال مالك: فيمن قال لامرأته: إن دعوتني إلى الصلح، فلم أجبك، فأنت
طالق، فدعته إلى دينار، فقال: لم أرد هذا إنما أردت نصف متاعها أو مثل
مهرها، قال: ذلك إليه، ويحلف، ثم يخلى بينه
(5/209)
وبين ذلك. قال ابن القاسم: وإن لم تكن له
نية فلم يجبها حنث.
قال محمد بن رشد: قوله: ويحلف، يدل على أنه لم يكن مستفتيا في يمينه، وإنما
كان مخاصما فيها، فادعى البينة بعد إقراره باليمين أو قيام البينة عليه
بها، ولو كان مستفتيا لم يحلف، وإنما وجب أن ينوى مع قيام البينة؛ لأنها
نية محتملة، ليست بمخالفة لظاهر لفظه، من أجل أن الألف واللام في لفظة
الصلح، يحتمل أن تكون للجنس فتعم أنواع الصلح بالقليل والكثير، ويحتمل أن
يكون للعهد وهو الذي يشبه أن يتخالع به الزوجان، كما ادعى. ولو قال لها: إن
دعوتني إلى صلح فلم أجبك، فأنت طالق، لوجب أن لا ينوى مع إيقام البينة؛ لأن
لفظة صلح نكرة، فهي تقع على كل صلح، بقليل أو كثير، كمن حلف ألا يدخل بيتا
فقال: نويت شهرا وما أشبه ذلك. وقول ابن القاسم، وإن لم تكن له نية، ولم
يجبها حنث صحيح، مبين لقول مالك، وبالله التوفيق.
[مسألة: خالع امرأته على أن تخرج إلى بلد غير
بلده]
مسألة وقال مالك: من خالع امرأته على أن تخرج إلى بلد غير بلده، أخذ منها
على ذلك شيئا، أو لم يأخذ، ثم أبت أن تخرج فهي على خلعها ولا تجبر على
الخروج.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن الخلع عقد يشبه عقد النكاح إذ تملك به
المرأة نفسها، كما يملك بالنكاح المرأة زوجها، فوجب ألا تلزم الشروط فيه
بالخروج من البلد، أو الإقامة فيه أو ترك النكاح، وما أشبه ذلك من تحجير
المباح، كما لا يلزم شيء من ذلك في النكاح، إلا أن يكون بعقد يمين، مثل أن
يقول: فإن فعلت فعبدها حر، ومالها صدقة على المساكين، فيلزمها إن فعلت حرية
عبدها، أو الصدقة بثلث مالها، ولو خالعها على أن تخرج من البلد، فإن لم
تفعل فعليها لغير زوجها كذا وكذا، لحكم عليها بذلك له، على القول بأن من
حلف بصدقة شيء بعينه، وعلى رجل بعينه
(5/210)
فحنث، أنه يجبر على ذلك. والقولان في
المدونة. ولو قال: فإن لم تفعل فعليها لزوجها كذا وكذا لبطل ببطلان الشرط،
ولم يكن له من ذلك شيء على قياس أول مسألة من رسم سعد بعد هذا. ولو اشترط
عليها أن تخرج من المنزل الذي كانت تسكن فيه معه، لم يجز الشرط؛ لأنه شرط
حرام، ولزمها أن تسكن فيه طول عدتها، ولا شيء عليها، إلا أن يشترط عليها
كراءه، فيجوز ذلك. قاله في كتاب إرخاء الستور من المدونة، وبالله التوفيق.
[مسألة: أقر أن امرأته اختلعت منه على أن تعطيه
شيئا من مالها وأنكرت]
مسألة وقال مالك فيمن أقر أن امرأته اختلعت منه على أن تعطيه شيئا من مالها
وأنكرت ذلك، ولا بينة بينهما: إنه إن أقر أن الخلع قد ثبت ووقع الفراق، فقد
وقع عليه الطلاق، ويحلف بالله الذي لا إله إلا هو ما أعطته شيئا من مالها،
فإن قال: إنما كان ذلك بيني وبينها على أن تعطيني ما سمت، فإن تمت على ذلك
وتم ذلك لي، وقع الخلع بيني وبينها، فإن لم تتم على ما قالت، لم يقع بيني
وبينها شيء أحلف على ذلك، وقرت عنده، قال سحنون: في هذه المسألة جيدة جدا.
وقال أصبغ: إنما يجوز دعوى الزوج. وقوله: إني إنما أردت أنها إن أعطتني ما
سمت، وإلا فلا صلح بيني وبينها، إذا كان دعواه هذا متصلا بإقراره بالصلح
نسقا واحدا، فإما أن يقر بالصلح أولا، ثم يقول بعد ذلك: إنما أردت إن
أعطتني ما سمت، وإلا فلا صلح بيني وبينها، فلا يقبل قوله، ويمضي الصلح، ولا
أرى له إلا ما أقرت به المرأة.
قال محمد بن رشد: المسألة صحيحة جيدة، على ما قال سحنون، وقول أصبغ مبين
لقول مالك، على معنى ما في المدونة في الذي يخالع امرأته، فيخرج ليأتي
بالبينة ليشهد عليها فتجحد أن الطلاق له لازم، وتحلف هي، ولا يلزمها شيء
مما ادعى الزوج أنها خالعته عليه، فلا اختلاف في أن الرجل
(5/211)
إذا أقر أنه خالع امرأته فيما بينها وبينه
على شيء سمته له، أن الطلاق له لازم، أقرت أو أنكرت، وتحلف إن أنكرت، ولا
يكون عليها شيء مما زعم الزوج أنها سمته له في الخلع، إلا أن يكون إقراره
إنما كان على أنه خالعها على أنها إن أعطته ما سمت له، وإلا فلا خلع بينه
وبينها كما قال أصبغ: وإنما اختلفوا إذا قال الرجل وامرأته غائبة: اشهدوا
أني قد بارأت امرأتي على كذا وكذا، على قولين: أحدهما: أن الطلاق له لازم،
وتسأل المرأة، فإن أمضت له ما باراها عليه، لزمها ذلك، وإن لم تمضه لم
يلزمها. وهذا قول أصبغ في الواضحة. والثاني: أنها تسأل، فإن أمضت له ما
بارأها عليه، مضى الخلع عليه حينئذ، وإن لم تمضه، لم يلزمه الخلع، وكانت
امرأته، والله الموفق.
[صالحته امرأته على أن يفارقها وتعطيه شيئا من مالها]
ومن كتاب سعد في الطلاق وقال مالك في رجل
صالحته امرأته على أن يفارقها وتعطيه شيئا من مالها، على ألا ينكح
أبدا، فإن فعل، فما أخذه منها رد إليها. قال مالك: له المال الذي أعطته في
الذي أعطاها من فراقه إياها، وأما ما شرطت ألا يتزوج أبدا، فإن ذلك ليس
عليه.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأنه إذا لم يلزمه بالشرط ألا يتزوج على ما
ذكرناه في الرسم الذي قبل هذا، فأحرى ألا يلزمه به، أن يرد إليها ما أخذ
منها إن نكح؛ لأن الخلع يئول بذلك إلى فساد، إذ لا يدري، هل يرجع إليها
مالها، فيكون سلفا، أو لا يرجع فيمضي بالفراق؟ ويلزم في هذه المسألة على
قياس ما في سماع عيسى، عن ابن القاسم من كتاب طلاق السنة في الخلع بثمرة لم
يبد صلاحها أن يمضي الخلع، ويكون لها خلع مثلها، وهذا إذا عز على ذلك قبل
أن يدفع إليها ما خالعته عليه، وأما إن لم يعز على ذلك حتى دفعت إليه ما
خالعته عليه، وغاب عليه، فينفذ الخلع، ويبطل الشرط؛ لأن فسخه ورده إلى خلع
مثلها، تتميم للفساد الذي اقتضاه الشرط، وبالله التوفيق.
(5/212)
[مسألة: يملك
امرأته أمرها فتقول قد قبلت لأنظر في أمري]
مسألة قال: وقال مالك في الرجل يملك امرأته أمرها فتقول: قد قبلت لأنظر في
أمري، فيقول: ليس ذلك لك، أو يقول: فانظري، أو يقول: بعد قوله لها انظري
الآن، وإلا فلا شيء لك، قال مالك: ذلك بيدها حتى يقفها السلطان، فتطلق أو
تترك.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة كان يمضي لنا فيها عند من أدركنا من الشيوخ
أنها مسألة صحيحة مبينة لما في المدونة من أن المملكة إذا قيدت القبول في
المجلس، بأن تقول: قد قبلت لأنظر في أمري، أو قد قبلت أمري، وقالت: أردت
بذلك قد قبلت أن أنظر فيما جعل إلي، أن ذلك بيدها حتى يقفها السلطان، على
القول: بأنه ليس لها أن تقضي إلا في المجلس، وأن المسألة تخرج من الخلاف
بتقييد القبول في المجلس، وليس ذلك بين؛ لأن المسألة إنما تخرج من الخلاف،
ويكون لها أن تقضي ما لم يقفها السلطان، إذا قيدت القبول في المجلس بحضرة
الزوج، فلم ينكر عليها ذلك؛ لأن سكوته على ذلك، كالإذن منه لها في ذلك،
بمنزلة أن لو قال لها: أمرك بيدك، تنظرين لنفسك، وإن انقضى المجلس.
وأما إذا قالت: قبلت لأنظر في أمري، فرد عليها قولها، وقال لها: ليس ذلك
لك، إما أن تقضي الآن، وإلا فلا شيء لك، كما قال في هذه الرواية، فالمسألة
جارية على القولين، يسقط ما بيدها بانقضاء المجلس في القول الواحد، ولا
يسقط في القول الثاني حتى يوقف؛ لأنه لما رد عليها قولها، بقي الأمر على
حكم التمليك المبهم في دخول القولين فيه، والذي يبين هذا أنه لو قال لها:
أمرك بيدك على أن تقضي في مجلسنا هذا أو تردي، لم يكن لها أن تقضي بعد
انقضاء المجلس باتفاق، ولو قال لها: أمرك بيدك ولا عليك أن تعجلي بالقضاء
في المجلس؛ لكان الأمر بيدها، وإن انقضى المجلس باتفاق، وإنما وقع الاختلاف
إذا أبهم، فمرة رأى مالك مواجهته لها بالتمليك، كلاما يقتضي الجواب في
المجلس، كالمبايعة. ولو قال رجل لرجل: قد بعتك سلعتي بعشرة دنانير إن شئت،
فلم يقل أخذتها بذلك حتى انقضى المجلس،
(5/213)
لم يكن له شيء باتفاق، ومرة رأى أن التمليك
أمر خطير، يحتاج فيه إلى النظر والروية، فجعل الأمر بيد الزوجة، وإن انقضى
المجلس، بخلاف البيوع. وإذا وقفها الإمام بعد انقضاء المجلس، فقالت: أخرني
أرى رأيي وأستشير. فليس ذلك لها. وإنما ذلك في مجلسه على ما في سماع أشهب
في المولي يوقف، فيسأل أن يؤخر حتى يرى رأيه، وعلى ما في سماعه أيضا من
كتاب الشفعة في الشفيع يسأل أن يؤخر حتى ينظر ويرى رأيه.
وقد ذهب بعض المتأخرين إلى أنها تؤخر ثلاثة أيام حتى يرى رأيه، على ما روى
ابن عبد الحكم عن مالك في الشفيع، أنه يؤخر ثلاثة أيام ليرى رأيه، وعلى
الحديث في المصرات أنه بالخيار ثلاثا ليرى رأيه في الأخذ أو الرد؛ لأن حال
التصرية يعلم فيما دون ذلك، والأمر محتمل. وفي قول النبي - عَلَيْهِ
السَّلَامُ - لعائشة لما خيرها، «ولا عليك أن تعجلي حتى تستأمري أبويك»
تعلق لكلا القولين، إذ قد يحتمل أن يكون ذلك إعلاما بمالها من الحق في ذلك،
وأن يكون حقا أوجبه لها بقوله ذلك، والله الموفق.
[مسألة: أعطت المرأة زوجها شيئا على أن يخيرها
فليفعل فاختارت نفسها]
مسألة وقال مالك: إذا أعطت المرأة زوجها شيئا على أن يخيرها، فليفعل
فاختارت نفسها، فهي ثلاث ألبتة، ولا تحل له حتى تنكح زوجا، وذلك أن الخيار
إذا خيرها يقول: اختاري أن تقيمي أو
(5/214)
تذهبي، وليس بمنزلة التمليك.
قال محمد بن رشد: اختلف قول مالك في الرجل يملك امرأته أو يخيرها على شيء
تعطيه إياه، فمرة رأى التخيير والتمليك في ذلك جار على سنته، لا تأثير لما
أعطته من المال في شيء من ذلك؛ لأنها إنما أعطته المال على أن يملكها أو
يخيرها، فإذا ملكها أو خيرها وجب له المال، وكان لها هي في ذلك سنة الخيار
والتمليك، وهو قوله في هذه الرواية، فإن خيرها فقضت بالثلاث، لم يكن له أن
يناكرها، وإن قضت بواحدة أو اثنتين، لم يكن لها شيء، وإن ملكها فقضت بما
فوق الواحدة كان له أن يناكرها في ذلك، وتكون له الرجعة، ومرة رآها بما
أعطته من المال على أن يملكها أو يخيرها في حكم المملكة أو المخيرة قبل
الدخول؛ لأنها تبين بالواحدة بسبب المال، كما تبين المطلقة قبل الدخول
بواحدة، بسبب أنه لا عدة عليها، فيكون له أن يناكرها في التخيير والتمليك
إن قضت بما فوق الواحدة، وتكون طلقة بائنة، وعلى هذا القول يأتي قول ابن
القاسم في رسم أوصى، ورسم إن خرجت، من سماع عيسى. وعليه قيل: إن من أعطته
امرأته شيئا على أن يطلقها ثلاثا فطلقها واحدة، أنها لا حجة لها في ذلك، إذ
قد نالت بها ما نالت بالثلاث، إذ هي بائنة، والله الموفق للصواب بفضله.
[يريد سفرا ويقول لامرأته إن لم آتك إلى أجل
كذا وكذا فأمرك بيدك]
ومن كتاب حلف ألا يبيع سلعة سماها وسئل عن الرجل يريد سفرا، فتقول له
امرأته: إني أخاف أن تبطئ عني، فيقول لها: إن لم آتك إلى أجل كذا وكذا،
فأمرك بيدك، فمر الأجل، وتقيم بعد ذلك الشهر والشهرين، فتختار نفسها. أترى
ذلك لها؟ وتقول: إني إنما أقمت انتظارا ولم أترك ذلك. قال: أرى الخيار لها.
قلت له: أفترى أن تستحلف في مثل هذا أن إقامتها لم تكن تركا للخيار؟ قال:
أرى أن يستحلف النساء في مثل هذا، وما أرى ذلك عليها.
قال محمد بن رشد: رأى مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - للمرأة أن تقضي في
(5/215)
نفسها بما وجب لها من التمليك بعد الشهر
والشهرين، بخلاف المواجهة بالتمليك؛ لأن مواجهتها بالتمليك تقتضي الجواب
منها في المجلس، فاختلف في ذلك قول مالك، ولم يختلف قوله في هذه إلا في
إيجاب اليمين عليها، فلم يوجب ذلك عليها هاهنا.
وأوجبه عليها في كتاب ابن المواز، وهو قول ابن القاسم من رواية ابن عبد
الحكم عنه في رسم جاع، من سماع عيسى. وهذا على الاختلاف المعلوم في لحوق
يمين التهمة، ولو أقامت أكثر من الشهر والشهرين؛ لعد ذلك منها رضا، ولم يكن
لها خيار، بخلاف الأمة تعتق تحت العبد، فيكون لها الخيار وإن طال الأمر، ما
لم يطأها بعد العتق، والفرق بين المسألتين، أن منعها نفسها من العبد، دليل
على أنها على خيارها، وإن طال الأمر، وأما في هذه المسألة، فلا دليل معها
في أنها على خيارها من أجل أن الزوج غائب عنها، ولو جعل أمرها بيدها إن
تزوج عليها؛ لكانت مثل مسألة الأمة تعتق تحت العبد، بدليل امتناعها منه.
وقد قيل: إنها كالمواجهة بالتمليك، فيكون لها أن تقضي وإن طال الأمر، ما لم
يوقف وهو قول ابن المواز من رأيه على قياس قول مالك، في أن للمملكة القضا
ما لم يوقف، وقيل: لا يكون لها أن تقضي إذا انقضى المجلس الذي وجب لها فيه
التمليك، وهو قول ابن وهب من سماع يحيى، وقول أشهب في سماع زونان، وقول ابن
القاسم في رسم شهد، من سماع عيسى، من كتاب النكاح، على قياس قول مالك
الأول، في أنه لا قضاء للمملكة المواجهة بالتمليك بعد انقضاء المجلس،
فيتحصل في المواجهة بالتمليك قولان، وفي التي لم تواجه بالتمليك ثلاثة
أقوال، وبالله التوفيق.
[مسألة: تختلع من زوجها على أن يسلم إليها
متاعها وتسلم إليه متاعه]
مسألة وسئل مالك عن المرأة تختلع من زوجها على أن يسلم إليها متاعها، وتسلم
إليه متاعه، ويتفرقان على ذلك. قال: هذا خلع بائن، قيل له: فإنها لم تعطه
شيئا، قال: فيقول لها: أنت طالق، كأنه يقول لها: فتطلق بغير مخالعة، قيل
أفتراه بائنا؟ قال: نعم.
(5/216)
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة
أنها خالعته على أن يسلم كل واحد منهما إلى صاحبه متاعه، فأسلمت إليه ما
ظهر من متاعه، ولم تعطه شيئا مما غابت له عليه منه، وزعمت أنها لم تغب له
على شيء، ولا له عندها شيء، فلزمه الخلع بظاهر الحكم، ولم يصدق فيما ادعى
مما يبطله عنه من جحدها لمتاعه الذي إنما خالعها على أن تقر له به، وتعطيه
إياه وأمره أن يطلقها، فيقول: أنت طالق استحسانا، لئلا تخرج، ويأثم إن
تزوجت، وليجوز له أيضا هو نكاح إن شاء، أو رابعة إن كان عنده ثلاث سواها،
إذ هي بائنة، في عصمته في باطن الأمر، إن كان صادقا؛ لأن حكم الحاكم في
الظاهر، لا يحيل الأمر عما هو عليه في الباطن عند من علمه، ولو أقرت له
بالمتاع، لحكم عليها بدفعه إليه، ولو قال: إنها أقرت له بمتاعه، فخالعها
على أن تدفعه إليه فجحدت، إن تكن أقرت له بشيء للزمه الخلع في الظاهر
والباطن، ولم يكن عليها إلا اليمين، ما أقرت بشيء على معنى ما في المدونة
وما مضى في آخر مسألة من الرسم الأول، من السماع، وبالله التوفيق.
[يطلق امرأته وله منها بنت، فألقتها أمها إليه]
ومن كتاب الشجرة تطعم بطنين في السنة وسئل مالك عن الرجل يطلق امرأته، وله
منها بنت، فألقتها أمها إليه، وقالت: ليس لي بابنتك حاجة، فدفعها إلى
امرأته، وقالت له: إن وجدت شيئا تعطيني أخذتها منك، وإلا أرضعتها لك باطلا،
فقامت جدة البنت أم امرأته فقالت: لا أسلم ابنة ابنتي، وأنا آخذها، فقال له
مالك: أله سعة؟ قال: لا، قال: لا أرى ذلك لها، كأنه يقول: لا تأخذوا منه
شيئا في معنى ما رأيت منه.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال: إنه إذا كان الأب معسرا فليس للجدة
أن تأخذها، إلا أن تلتزم إرضاعها، إذ قد سقط ذلك عن الأب لعدمه، ولو كان
موسرا لكان للجدة أن تأخذها، ويكون على الأب أجرة رضاعها على معنى ما في
المدونة، خلاف ما روى ابن وهب عن مالك في
(5/217)
الأب الموسر، يجد من يرضع له ولده باطلا،
وبالله التوفيق.
[مسألة: يخير امرأته قبل أن يدخل بها وهي ممن
لم تحض فتختار نفسها]
مسألة وسئل مالك عن الرجل يخير امرأته قبل أن يدخل بها، وهي ممن لم تحض
فتختار نفسها، أفتراه طلاقا؟ قال: نعم، إذا كانت قد بلغت في حالها، يريد
بذلك مبلغ التي توطأ فيما ظنت، قال سحنون: لها الخيار وإن لم تبلغ؛ لأنه هو
الذي جعل ذلك إليها.
قال محمد بن رشد: القائل يريد بذلك مبلغ التي توطأ مثلها. هو ابن القاسم،
ولمالك في رسم بع ولا نقصان عليك، من سماع عيسى، من قول مالك: أن الطلاق
يلزمها، وإن لم تبلغ مبلغا يوطأ مثلها، إذا كانت قد عقلت وعرفت ما ملكت فيه
معنى الخيار والطلاق، لاستؤني بها حتى تعقل ثم تختار. وقاله ابن القاسم في
سماع أبي زيد من كتاب النكاح، وهو مفسر لقول مالك هاهنا. وقول سحنون: لها
الخيار وإن لم تبلغ، يحتمل أن يريد وإن لم تبلغ المحيض، وأن يريد وإن لم
تبلغ مبلغا يوطأ مثلها، إذا كانت قد بلغت مبلغا تعقل فيه، فهو أحق بتبيين
ما أراد، ومثله أيضا لابن القاسم في سماع أبي زيد، من كتاب النكاح، فتفسيره
هذا لقول مالك ضعيف، إذ الموجود له ولمالك خلافه، ولو كانت صغيرة لم تعقل
فيه، وتعرف معنى الطلاق والخيار، فليس قوله بخلاف لقول مالك، ومن تأول عليه
أنه أراد أن لها الخيار، وإن لم تبلغ مبلغا تعرف فيه معنى الطلاق، فقد
أبعد، والله أعلم.
[مسألة: حلف لسيده بأن امرأته حرام إن أبق]
مسألة وسئل مالك عن عبد حلف لسيده بأن امرأته حرام إن أبق، وقد كان أبق منه
قبل ذلك، فغاب عنه ليلة، فلقي سيده صاحب الإباق فجعل على يديه فلقيه
بالبلاط، فقال له الغلام: إني لم أبق، ولكني حملت البارحة إلى العقيق،
وأجرت فيه نفسي، فهذا خراجي
(5/218)
معي، فجاء صاحب الإباق فأخبره ثم جاء بعد
ذلك الغلام، فقال ذلك، فقال مالك: لا أرى هذا إباقا، ولا أرى عليه شيئا.
قال محمد بن رشد: هذا بين، على ما قال: إن مغيبه عن سيده على هذا الوجه ليس
بإباق، وقوله: ولا أرى عليه فيه شيئا، معناه لا أرى عليه فيه طلاقا، ولو
ادعت امرأته عليه أنه إنما غاب على سبيل الإباق، كما كان فعل قبل ذلك، إذ
حلف لسيده ألا يابق؛ لكان لها أن تحلفه إلا أن يأتي بسبب يعلم به صدقه فيما
زعم من أنه غاب في إجارة نفسه، والله أعلم.
[مسألة: صالحت زوجها واختلعت منه فظنوا أن
صلحهم لا يتم إلا أن يجعل أمرها بيدها]
مسألة وسئل عن امرأة صالحت زوجها واختلعت منه، فظنوا أن صلحهم لا يتم إلا
أن يجعل أمرها بيدها، فيفعل ذلك، فتختار نفسها. قال: هي واحدة إلا أن يكون
سما أكثر من ذلك، ويخطبها مع الخطاب.
قلت له: إنه قد كان ملكها. قال: إنما هو وجه الصلح، وقد جاءني العام غير
واحد، فيسألني عن ذلك، فلم أر فيه إلا ذلك. قال سحنون: كل مبارية أو مفتدية
أو مختلعة، قال لها زوجها عند مخالعتها أو مباراتها: اختاري، فقالت: قد
اخترت نفسي، ثلاثا أو قد حرمت نفسي، أو قد بنت منك، فناكرها الزوج عند ذلك،
وقال: إنما أردت واحدة، أحلف، وكان القول قوله، وإنما هذا عندي بمنزلة
الرجل يخير امرأته قبل دخوله بها، فتختار نفسها البتة، إن له أن يناكر
عليها من قبل أن الواحدة تبينها، فلما أن كانت الواحدة في هذه تبينها،
وكانت الواحدة في المختلعة تبينها أيضا، حملتها محملا واحدا.
قال محمد بن رشد: إنما قال مالك في هذه المسألة: إنها واحدة، إلا أن
(5/219)
يكون سمى أكثر من ذلك؛ لأنه غلب الخلع على
التمليك لما كان مقصودهما أولا، فحكم له بحكمه على انفراد، ولم يلتفت إلى
ما قارنه من التمليك، وقد قيل: إن التمليك هو المغلب، وإلى هذا ذهب سحنون،
إلا أنه رأى أن الطلاق الواقع به أو بالتخيير، إن كان اقترب به تخيير
بائنا، من أجل ما أعطت المرأة من المال، فحكم في ذلك بحكم المملكة والمخيرة
قبل الدخول، يكون للزوج أن يناكر فيما فوق الواحدة، ويكون الطلاق في ذلك
بائنا. ويأتي على القول بتغليب التخيير أو التمليك على الخلع، إذا اقترن به
أحدهما مع ألا يراعى مع ما أعطت المرأة من المال، كما لم يراعه مالك في
الذي أعطته زوجته مالا على أن يخيرها في رسم سعد، أن يحكم في ذلك بحكم
التمليك أو التخيير المنفرد من الزوج، دون مال يأخذه على ذلك، فيتحصل في
المسألة على هذا ثلاثة أقوال وبالله التوفيق، لا شريك له.
[طلقها زوجها ولها منه ولد صغير فتزوجت فأخذ
أبوه الصبي]
ومن كتاب حلف ليرفعن أمرا وسئل مالك عن المرأة طلقها زوجها، ولها منه ولد
صغير فتزوجت، فأخذ أبوه الصبي، ثم إن أمه كلمته في ذلك، فقاطعته، يعني
صالحته، وكتب بينهما كتابا أن يتركه عندها سنتين، ثم تدفعه إليه، فطلق
المرأة زوجها قبل انقضاء السنتين، فأرادت حبس ولدها بعد السنتين، فقال
أبوه: لا أقره عندك، فقد كتبت بيني وبينك كتابا في سنتين، قال: قال مالك:
أرى أن تدفعه إليها، فإن تزوجت قبضت ولدك من غير أن أرى ذلك عليك. قال ابن
القاسم: ثم سمعته بعد ذلك يقول: أرى أن لك أن تأخذ ولدك.
قال محمد بن رشد: ليس الذي سمع منه آخرا بخلاف لما قاله أولا؛ لأنه إنما
ندبه أولا إلى تركه عندها من غير أن يرى ذلك واجبا عليه، وذلك صحيح على
معنى ما في المدونة من أنها إذا تزوجت فقد سقطت حضانتها في الولد جملة،
فليس لها أن تأخذه إن مات الزوج عنها أو طلقها، وقد قيل: إن
(5/220)
حضانتها إنما تسقط ما دامت مع الزوج، فإن
مات عنها أو طلقها، رجعت فأخذت ولدها، وكانت أحق بحضانته، وهو قول المغيرة،
وابن دينار، وابن أبي حازم. ووجه هذا القول أن النكاح مما تدعو إليه
الضرورة، فلا يقدر على الصبر دونه، فأشبه سقوط حضانتها بمرضها، أو انقطاع
لبنها، أنها ترجع فيما إذا ارتفع المانع لها من الحضانة، وقد قيل: إن حقها
في الحضانة لا يسقط بالتزويج، إلا في جهة من حضن الولد في حال كونها مع
الزوج، فإن خلت من الزوج ثم مات ذلك الحاضن كان لها أخذ ولدها، وكانت أحق
بحضانته من غيرها. وهذا الاختلاف كله على القول بأن الحضانة من حق الحاضن،
وأما على القول بأنها من حق المحضون، فلها أن تأخذ ولدها إذا خلت من الزوج
قولا واحدا، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال لها حرم علي ما حل لي منك إن قبلتك
الليلة فاستغفلته فقبلته]
مسألة وسئل عن رجل قال لامرأته: حرم علي ما حل لي منك، إن قبلتك الليلة،
فاستغفلته فقبلته وهو لا يريد ذلك، فردده مرارا، ثم قال: أرى أن يحلف بالله
الذي لا إله إلا هو، ما هذا الذي أردت، يعني بذلك أنها قبلتني ولم أرد ذلك
على وجه أنه لم يركن ولم يداهن، فإذا حلف فهي امرأته.
قال محمد بن رشد: لم يذكر في هذه المسألة يمينا، في النذور من المدونة ولا
في رسم سلف من سماع عيسى، من كتاب الأيمان بالطلاق، وهو الأظهر أنه لا يمين
عليه في أنه لم يكن منه في ذلك مداهنة ولا استرخاء؛ لأن الزوجة إن ادعت
ذلك، فهي مدعية للطلاق ومن قولهم: إنه لا يمين للمرأة على زوجها في دعواها
الطلاق، وإن لم تدع ذلك عليه في دعواها، وإنما أتى مستفتيا، لم يصح أن
يستحلف، إلا أن يتطوع لها باليمين تطييبا لنفسها. فهو حسن، وبالله التوفيق.
(5/221)
[مسألة: كانت
امرأته غائبة فتزوج امرأة فقدمت الغائبة عليه]
مسألة وسئل عن رجل كانت امرأته غائبة، فتزوج امرأة، فقدمت الغائبة عليه،
فجزعت من نكاحه إياها عليها، فقال لها: لم تجزعين؟ يوم أختارها عليك،
فطلاقها بيدك، فطلق الغائبة التي تزوجها عليها التي جعل الأمر في يدها. قال
مالك: ما أرى طلاق الآخر، إلا بيدها، وأرى أنه قد اختارها عليها حين طلقها.
قال محمد بن رشد: وكذلك لو حلف لها بطلاقها إن آثرها عليها فطلق الأولى،
لطلقت عليه الثانية. قاله مالك في آخر كتاب الشفعة من المدونة في بعض
الروايات، وهو صحيح بين، إذ لا امتراء في أنه قد آثرها عليها، إذ أمسكها
وطلقها هي، وبالله التوفيق.
[مسألة: تكون تحته المرأة فيتزوج عليها فتغار
التي كانت تحته وتؤذيه]
مسألة وسئل عن رجل تكون تحته المرأة، فيتزوج عليها، فتغار التي كانت تحته،
وتؤذيه فيقول لها: لا تؤذني. إن حبستها أكثر من سنة فأمرها بيدك. قال مالك:
لا يعجبني أن يطأ الرجل امرأة طلاقها بيد الأخرى، أو أرى أن تطلق التي جعل
فيها الشرط. قلت له: أفترى ذلك عليه؟ قال: ما أشبهه بذلك، وما أدري ما
حقيقته. وسألت ابن القاسم عن هذا فقال: لا يعجبني قوله، والذي استحسن في
هذه المسألة، وما كلمت فيها من أرضى به، أنه يوقف، ويقال له: إما طلقت
الآن، وإما كان أمرها بيد امرأتك الأخرى، التي جعلت أمرها بيدها، فإما
طلقت، وإما أقرت الساعة.
قال محمد بن رشد: قول مالك: إنه يطلق التي جعل فيها الشرط، ليس ينقاس على
أصولهم في أن من ملك رجلا أمر امرأته إلى أجل معلوم، أنه يوقف الآن، فإما
أن يقضي وإما أن يرد، وكفى من الدليل على ذلك أن
(5/222)
مالكا قد قال: إنه ما يدري ما حقيقته. وقول
ابن القاسم هو الذي يأتي على المشهور من مذهبه. وروايته عن مالك في المدونة
وغيرها في الذي يقول لامرأته: أنت طالق ثلاثا، إن لم أطلقك واحدة إلى سنة،
أو أنت طالق واحدة إن لم أطلقك ثلاثا إلى سنة، أنه يوقف الآن، فيقال له:
إما طلقت امرأتك واحدة، وإلا طلقت عليك ثلاثا. ويأتي على مذهب من يرى أنه
لا يوقف الآن، ويترك إلى الأجل حتى يرى إن كان يبر أو يحنث. وهو قول سحنون
وأصبغ، وأحد قولي ابن القاسم، وعليه يأتي ماله في سماع أبي زيد، أنه لا
يوقف الآن، ويترك إلى الأجل، فإن لم يطلق حتى يحل، كان أمرها بيد امرأته،
وبالله التوفيق، لا شريك له.
[ملك امرأته نفسها فقضت بثلاث فقال إنما ملكتك
واحدة]
ومن كتاب سن رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وسئل عن رجل ملك امرأته
نفسها، فقضت بثلاث، فقال: إنما ملكتك واحدة، وكان ذلك في مجلسهما. قال: أرى
أن تحلف، قيل له: فإنه رد اليمين عليها، قال: لا، يحلف النساء في التمليك،
وليس يحلف فيه إلا الرجال.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال: لا اختلاف في المذهب أنه ليس للرجل
أن يناكر امرأته، إلا أن يحلف على نية يدعيها، على ما جاء في ذلك عن عبد
الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وكذلك لا اختلاف في أنه ليس له أن
يرد اليمين عليها، إذ لا يعلم صدقه من كذبه فيما ادعاه من النية.
[مسألة: قال لامرأته أمرك بيدك فقالت قد قبلت]
مسألة وسئل مالك عن رجل قال لامرأته: أمرك بيدك، فقالت: قد قبلت، ثم سئلت
بعد ذلك على الذي أرادت، فقالت: إنما أردت واحدة، فقيل له: أتستحلف إنما
أرادت واحدة؟ فقال: لا يستحلف النساء في التمليك.
(5/223)
قال محمد بن رشد: إنما قال: لا يستحلف
النساء في التمليك؛ لأن المرأة إذا جعل أمرها بيدها، صار الطلاق الذي كان
بيد الزوج بيدها، والزوج إذا ادعي عليه الطلاق لا يحلف، فإذا كان الزوج لا
يحلف مع تحقيق الدعوى، كان أحرى ألا تحلف المرأة فيما لا يحقق عليها فيه
الدعوى، وهذا الذي نحا إليه مالك، والله أعلم.
[مسألة: دعت زوجها إلى الفراق وأن تدفع إليه
ماله]
مسألة وسئل عن المرأة دعت زوجها إلى الفراق، وأن تدفع إليه ماله. فقال:
اشهدوا أني آخذ منها مالي وأطلقها وأفارقها، فإن هي كانت حاملا وطلبت مالها
مني، فهي امرأتي. قال مالك: لا أرى الطلاق إلا وقد لزمه، ولا ينفعه هذا
الشرط، فقيل له: فإنه لما أصبح من الغد، دفع إليها مالها وقد كانت دفعته
إليه، وقال: لا أفارقك ولا أطلقك، وأنت امرأتي، قال مالك: قد لزمه الفراق،
فإن أحب أن يرتجعها بنكاح جديد، يرد إليها ما أخذ منها، ويكون نكاحا جديدا،
ولا ينفعه ما اشترط.
قال محمد بن رشد: يريد بقوله وأن تدفع إليه ماله، أي أن ترد إليه ما أمهرها
به، وساق إليها في صداقها من ماله. وهذا إذا فعلاه يكون الفراق فيه طلقة
بائنة، وإن كانا قد لفظا بلفظ الفراق، ما لم ينصا على الثلاث؛ لأن الخلع
يغلب على حكم كنايات الطلاق التي تحمل على البتات، فلا تكون كما يغلب على
حكم الطلقة الواحدة التي تكون رجعية، فلا تكون رجعية.
وقوله: لا أرى الطلاق إلا وقد لزمه صحيح، وسواء في هذه المسألة قبض المال
أو لم يقبض المال؛ لإشهاده على نفسه بقوله: اشهدوا أني آخذ منها مالي
وأطلقها وأفارقها. ولو قال لها من غير أن يشهد على نفسه: ادفعي إلي مالي
وأطلقك وأفارقك، فلما جاءته بالمال، قال: لا أقبضه ولا أطلقك؛ لأني لم
(5/224)
أوجب ذلك على نفسي، وإنما قلت: إني أفعل
ولست أفعل لجرى الأمر في ذلك على الثلاثة الأقوال التي مضت في التكلم على
هذا المعنى في المسألة الثانية من أول السماع.
ووقع في بعض الروايات: اشهدوا بأني آخذ منها مالي، ولا أطلقها ولا أفارقها،
والمعنى في الرواية بثبوت إلا في الموضعين كالمعنى في سقوطها منها؛ لأنها
إذا ثبتت تكون صلة في الكلام، بمعنى وأطلقها وأفارقها كما هي في قول الله
عز وجل: {لِئَلا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلا يَقْدِرُونَ عَلَى
شَيْءٍ} [الحديد: 29] ، وقوله: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا
أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ} [الأنبياء: 95] ، وقوله: {مَا مَنَعَكَ أَلا
تَسْجُدَ} [الأعراف: 12] صلة بمعنى: ليعلم، وأنهم يرجعون، وما منعك أن
تسجد، وما أشبه هذا كثير، واشتراطه أنها إن كانت حاملا أو طلبت مالها فهي
امرأته لا ينفعه، كما قال، ولا يجوز أيضا؛ لأنه شرط حرام؛ إذ لا يجوز أن
ترجع إليه بعد أن بانت منه بالخلع إلا بنكاح جديد. وولي وصداق، فإن رد
إليها مالها على الشرط المذكور، ولم يعثر على ذلك حتى دخل بها، فرق بينهما
وكان لها ما رد إليها بالمسيس. وكان له أن يتزوجها بعد الاستبراء من الماء
الفاسد بثلاث حيض. وقد قيل: إنه لا يتزوجها أبدا إن كان أصابها في العدة،
ويكون كالمتزوج في عدة، قاله في مختصر ابن عبد الحكم، وهو بعيد، فإن عثر
على ذلك قبل الدخول، كان له أن يجدد عقد النكاح معها بولي، ويجعل المال
الذي قد كانت خالعته على رده إليه صداقها، كان قد رده إليها بعد أن دفعته
إليه أو لم يرده، والله أعلم.
[قال لامرأته انتقلي عني فقالت لا أنتقل عنك
حتى تبين لي أمري]
ومن كتاب يسلف في المتاع والحيوان
وسئل مالك عن رجل قال لامرأته: انتقلي عني، فقالت: لا أنتقل عنك حتى تبين
لي أمري: قال: انتقلي، ثم إن شئت طلقتك
(5/225)
عشرين، فانتقلت ولم تقض شيئا، ثم ندما.
قال: لا أرى عليه شيئا في قوله.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة في ظاهر ألفاظها اضطراب؛ لأن قوله فيها: ولم
تقض شيئا، يدل على أنه كان لها أن تقضي لو شاءت، ما لم يطل الأمر، أو ينقض
المجلس، على الاختلاف في ذلك، وإن قوله: ثم إن شئت طلقتك عشرين، يوجب لها
عليه تمليك الطلاق، بمنزلة اللو قال لها: فإن شئت الطلاق، فأنت طالق عشرين.
وقوله: لا أرى عليه شيئا في قوله، يدل على أنه لا يلزمه به شيء، ولا يجب
عليه لها به تمليك، والمسألة تتخرج عندي على الاختلاف في الذي يقول
لامرأته: إن جئتني بكذا وكذا فارقتك، فيكون طلاقا ثلاثا إن شاءت الطلاق،
على القول بأنه يلزمه طلاقها إن جاءت بذلك، ولا تكون طالقا إن شاءت الطلاق
على القول الثاني بعد يمينه أنه ما أراد إلزام الطلاق نفسه بمشيئتها. وقد
مضى ذكر هذا الاختلاف في أول رسم من السماع، وبالله التوفيق.
[مسألة: وقع بينه وبين امرأته شر في إن
استأذنته إلى بيت أهلها فقال لها أنت علي حرام]
مسألة وسئل عن رجل وقع بينه وبين امرأته شر، في إن استأذنته إلى بيت أهلها،
فقال لها: أنت علي حرام، إن لم تبيتي معي في هذا البيت الليلة، قال: فوجدت
المرأة حرا، فخرجت إلى دكان، غير باب البيت، فباتت عليه. وقال: إنما كانت
أصل يميني، أريد بذلك ألا تذهب تبيت عند أهلها. قال مالك: أرى أن يحلف
بالله ما أردت بذلك ألا تخرج من البيت، وإنما أردت بذلك ألا تبيت عند
أهلها، فإن حلف فلا شيء عليه.
قال محمد بن رشد: لم يراع البساط في هذه المسألة، إذ رآه حانثا
(5/226)
بمقتضى لفظه، إلا أن تكون له نية، فحلف
عليها، وذلك مثل ما في سماع سحنون من كتاب الأيمان بالطلاق، في مسألة
البالوعة، والمشهور مراعاة البساط، فإن لم يكن للحالف نية حملت يمينه على
بساطها، ولا تحمل على مقتضى اللفظ، إلا عند عدم البساط، على ما في رسم
الطلاق الثاني من سماع أشهب من كتاب الأيمان بالطلاق، في مسألة النقيب، وقد
قيل: إذا لم يكن لها بساط يحمل على ما يعرف من عرف الناس لا كلامهم،
ومقاصدهم بأيمانهم. والقولان قائمان من المدونة، وقد مضى القول في هذا
المعنى مجردا في رسم جاع فباع، من سماع عيسى، من كتاب النذور، وبالله
التوفيق.
[يقول لامرأته أمرك بيدك فتقول قد طلقت نفسي
ثلاثا]
ومن كتاب كتب عليه رجل ذكر حق
وسئل مالك عن الرجل يقول لامرأته: أمرك بيدك، فتقول: قد طلقت نفسي ثلاثا،
فيقول: لم أرد طلاقا، ثم يقول بعد ذلك: إنما أردت واحدة، قال: يحلف على
نيته وتلزمه تطليقة واحدة، ولا يلزمه غيرها. قال أصبغ: هذا عندنا وهم من
السامع، ولا يقبل منه نية، بعد أن قال: لم أرد شيئا، والقضا ما قضت المرأة
من البتات.
قال محمد بن رشد: قول أصبغ فما روى ابن القاسم عن مالك، من أن الزوج يحلف
على ما ادعى من أنه أراد واحدة، وتكون واحدة بعد أن أنكر أن يكون إلا
طلاقا، أن ذلك وهم من السامع، ليس بصحيح، بل الرواية في ذلك ثابتة عن مالك،
وقد وقع له في ذلك في رسم الطلاق من سماع أشهب، وفي رسم الكبش من سماع
يحيى، ومثله أيضا في رسم الكبش، من سماع يحيى، من كتاب الأيمان بالطلاق،
فلا ينكر ثبوت القول؛ لأنه معروف، جار على أصل قد اختلف فيه قول مالك، من
ذلك الذي يدعى عليه الوديعة فيجحدها، فتقوم عليه البينة بها، فيدعي ضياعها
أو ردها، والقولان قائمان من المدونة من كتاب اللعان، وكتاب العتق الأول،
وقول أصبغ: إن القضاء ما قضت به المرأة من البتات، يأتي على أحد قولي مالك،
ولو أقام على قوله: إنه لم
(5/227)
يرد بذلك طلاقا مثل أن يقول: إنما أردت أن
أمرها بيدها في كذا وكذا، لشيء يذكره من غير معنى للطلاق، لوجب أن ينظر في
ذلك، فإن تبين كذبه ببساط يدل على أنه أراد بذلك الطلاق، كان القضا ما قضت
به المرأة من البتات، وإن تبين صدق قوله ببساط يشهد له، حلف ولم يلزمه
طلاق، وإن أمكن ما يدعي من ذلك، ولم يتبين فيه صدقه من كذبه، حلف على ما
ادعاه، وكانت واحدة، إذ لا يصدق في إبطاله، أقل ما يلزمه بالتملك الظاهر،
وإنما له أن يسقط بيمينه ما زاد على ذلك، وقد مضى في أول رسم من سماع أشهب
من كتاب طلاق السنة ما يؤيد هذا في مسألة الذي كتب إلى أبي زوجته أنه قد
طلقها ليأتيها.
[مسألة: بدوي قال لامرأته أمرك بيدك فقالت
التمسوا لي شقتي]
مسألة وسئل مالك عن رجل بدوي قال لامرأته: أمرك بيدك، فقالت: التمسوا لي
شقتي. وكان لها في بيته شقة، فأخذتها، ثم ذهبت إلى أهلها، وارتحل عنها إلى
سفر، ولم يقل لها شيئا، وهو يريد بالذي قال لها: أمرك بيدك؛ الطلاق، وهي
إنما أرادت بنقلتها الطلاق، ولم تقل شيئا، قال مالك: ما أرى هذا إلا فراقا
حين انتقلت، وذلك الذي تريد بانتقالها وتركه إياها، وهو إنما ملكها وهو
يريد الطلاق، فلا أرى ذلك إلا فراقا.
قال محمد بن رشد: الحكم في الذي يملك امرأته أمرها، فلا تجيب بشيء، وتفعل
فعلا يشبه الجواب، مثل أن تنتقل، أو تنقل متاعها أو تخمر رأسها وما أشبه
ذلك أن تسأل عما أرادت به، فإن قالت: لم أرد بذلك طلاقا صدقت. قاله في سماع
زونان. وإن قالت: أردت بذلك الطلاق، صدقت فيما أرادت منه. قاله ابن القاسم
في المجموعة.
واختلف إن قالت: أردت بذلك الفراق، ولم تكن لي نية، ففي العشرة ليحيى، عن
ابن القاسم: أنها ثلاث، وهو ظاهر قول مالك في هذه الرواية، ما أرى ذلك إلا
فراقا؛ لأن الفراق إذا
(5/228)
أبهم في المدخول بها ثلاث. وقال محمد بن
المواز: هي واحدة. واختلف أيضا إذا سكت عنها، ولم ينكر عليها فعلها حتى
افترقا من المجلس، وقال محمد: تسأل أيضا، فإن قالت: أردت ثلاثا، كان للزوج
أن يناكرها بنية يدعيها وقت التمليك، ويحلف على ذلك. قال أصبغ: يمينين:
يمين أنه لم يعلم أن ما فعلته يلزمه به البتة، ولا رضي بذلك، يمين: أنه نوى
واحدة. وقال ابن المواز: يجمع ذلك في يمين واحدة، وفي العشرة ليحيى عن ابن
القاسم: إن انتقالها وسكوته على ذلك دون أن يسألها في المجلس عما تريد
بانتقالها، يوجب عليه طلاق البتات، بكل حال، ولا يناكرها إن قالت: أردت
الثلاث، ولا تصدق إن قالت: أردت واحدة.
وقول ابن القاسم هذا في العشرة صحيح. على قياس قوله فيها: إنها إذا أرادت
بانتقالها الفراق، ولم تكن لها نية في عدد الطلاق، أنها ثلاث. وقول محمد:
إنها تسأل أيضا بعد الافتراق صحيح، على قياس قوله: إنها إذا أرادت
بانتقالها الفراق ولم يكن لها نية في عدد الطلاق، إنها واحدة. وأما قوله:
إنه يحلف أنه لم يعلم أن ما فعلته يلزمه به البتة، ولا رضي بذلك، فليس
يلتام على أصله في أنها تسأل، وإن لم تكن لها نية، فهي واحدة، وبالله
التوفيق.
[مسألة: قال لامرأته أمرك بيدك فقالت قد قبلت]
مسألة وسئل مالك عن رجل قال لامرأته: أمرك بيدك، فقالت: قد قبلت، فقال:
أمرك بيدك، فقالت: قد قبلت، فقال: أمرك بيدك، فقالت: قد قبلت، فقال مالك:
تسأل فإن كانت أرادت الطلاق، فهو ثلاث تطليقات.
قال محمد بن رشد: أما إذا قال الزوج: لم تكن لي نية، فلا كلام في أنها ثلاث
تطليقات، وأما إن قال: لم أرد إلا واحدة، ففي كتاب محمد عن مالك: أنها
ثلاث. قال محمد: والأحسن عندنا أن القول قول الزوج، ويحلف، وتكون واحدة؛
لأنه يقول: إنما أردت التكرار عليها؛ لتبين ما أرادت بقولها: قد قبلت.
وقاله لنا عبد المالك. قال محمد: ولو أنها أبانت، فقالت: قد
(5/229)
طلقت، ثم ثنى فقالت: قد طلقت، ثم ثلث
فقالت: قد طلقت؛ لكان ذلك ماضيا. وقول محمد في قولها: قد قبلت، يدين جيد.
وأما قوله في قولها: قد طلقت: إن ذلك ماضيا، يريد الثلاث، فإنما بناه على
مذهبه في أن المملكة إذا قالت: طلقت نفسي لا تسأل، وتكون واحدة. وأما على
مذهب ابن القاسم الذي يقول: إنها تسأل في طلقت نفسي؛ لاحتمال أن تريد به
الثلاث، فقد يحتمل أن ينوى الزوج في أنه أراد التكرار عليها؛ لتبين ما
أرادت بقولها: قد طلقت، فتكون واحدة على هذا التأويل.
قال محمد في الذي يقول لامرأته: أمرك بيدك، أمرك بيدك، أمرك بيدك، فتقول:
قد قبلت، لكل واحدة طلقة، ويقول الزوج: ما أردت إلا واحدة؛ أنها واحدة.
وقاله عبد المالك، وهذا صحيح على قياس قول الرجل لامرأته: أنت طالق، أنت
طالق، أنت طالق، وأراد واحدة؛ أنها واحدة. ولو لم تكن له نية لكانت ثلاثا،
فكذلك التمليك. وقد روي عن مالك فيمن ملك امرأته، فقالت له: كم ملكتني؟
فقال: ملكتك مرة، ومرة، ومرة، ففارقته، فقال مالك: ليس ذلك بثلاث، إذا حلف
أنه ما ملكها إلا واحدة. قال أبو إسحاق: وفي هذه إشكال؛ لأنه أبان بقوله:
مرة، ومرة، ومرة، أنه ثلاث مرار، فكان يجب أن يكون لكل تمليك طلقة، فتكون
ثلاثا، إلا أن يكون قصد إلى حكاية الألفاظ أنها منه ثلاث مرات، يريد بها
تمليك واحد، فينوى في ذلك، والله أعلم.
[يضرب لها زوجها أجلا ثم يغيب عنها]
ومن كتاب الشريكين يكون لهما مال وقال مالك: في المرأة يضرب لها زوجها
أجلا، ثم يغيب عنها، إن جاء إلى سنة، وإلا فأمرها بيدها، فانقضت السنة، ثم
سئلت فقالت: أنتظر شهرا أو شهرين، أو نحو ذلك، فإن جاء وإلا رأيت رأيي. قال
مالك: أرى ذلك لها إذا كان على وجه النظر.
قال محمد بن رشد: قوله: ذلك لها إذا كان على وجه النظر، معناه
(5/230)
ذلك لها أن تفعله على وجه النظر لنفسها، لا
أن ذلك على سبيل الشرط الذي الحكم فيه أن ينظر فيه، فإن كان حظا وغبطة
وسدادا جاز، وإلا لم يجز، ولا يمين عليها في هذه المسألة باتفاق؛ لأنها
بينت أنها إنما أقامت متلومة له، غير تاركة لحقها، وإنما يختلف في يمينها
إذا أقامت، ولم تقل شيئا. وقد مضى القول على ذلك في رسم حلف.
[مسألة: قال لامرأته أمر امرأتي بيدك فقالت قد
فرقت بينكما بالبتة]
مسألة وقال مالك: في رجل قال لامرأته: أمر امرأتي بيدك، فقالت: قد فرقت
بينكما بالبتة، قال مالك: أرى أن قد وقع عليها الطلاق. قال ابن القاسم:
يريد إلا أن ينكر، مثل ما لو جعل ذلك بيد امرأته، فإن كانت له نية حين جعل
أمرها في يد المرأة، فناكرها، أحلف كما كان يحلف في امرأته، وإن صمت لزمه
ذلك، وإن لم تكن له نية حين جعل ذلك بيدها، وتأخر حتى تقضي، لم ينفعه ذلك.
وهو رأيي.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم مفسر لقول مالك، مثل ما في المدونة وغيرها
لا إشكال في ذلك، ولا اختلاف في المذهب، فلا وجه للقول فيه، وبالله
التوفيق.
[يغيب عن امرأته فتطول إقامته بالبلد، فيكتب
إليها ليخيرها]
ومن كتاب البز وسئل مالك: عن الرجل يغيب عن امرأته، فتطول إقامته بالبلد،
فيكتب إليها ليخيرها، أترى أن قد خرج من الماء؟ ثم قال: نعم. وقد سأل عمر
بن الخطاب حفصة: كم تصبر المرأة عن زوجها؟ فقالت: أربعة أشهر، أو ستة أشهر.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن المرأة إنما تتزوج الرجل لتسكن به،
وتأنس إليه به، وتستمتع منه؛ قال عز وجل:
(5/231)
{خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ
أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} [الروم: 21] ، فليس للرجل أن يغيب عن
امرأته المدة التي يضر بها مغيبه عنها، وهي ما فوق الأربعة الأشهر والستة،
التي أخبرت حفصة أن المرأة تصبر فيها عن زوجها. فإن فعل فهو آثم، إلا أن
تأذن له في ذلك، فإذا خيرها فأذنت له في ذلك، فليس عليه أكثر من ذلك؛ لأنه
حقها، فإذا أباحته له وحللته منه، لم يكن عليه فيه إثم.
وقول حفصة هذا هو أصل ما يكتب في شروط الصدقات، من ألا يغيب عنها أكثر من
ستة أشهر، إلا في أداء حجة الفريضة عن نفسه، فإن فعل فأمرها بيدها، ولا
يفرق بينهما بمغيبه عنها هذه المدة حتى يطول ذلك، والسنتان والثلاث في ذلك
ليس بطويل. قاله في رسم شهد، من سماع عيسى، من كتاب طلاق السنة، وقد مضى
القول على هذا المعنى في رسم الشريكين، من سماع ابن القاسم منه، وبالله
التوفيق.
[مسألة: الأمة يكون نصفها حرا ونصفها مملوكا
فيخطبها عبد فتابا أن تتزوجه]
مسألة وسئل مالك عن الأمة يكون نصفها حرا، ونصفها مملوكا، فيخطبها عبد
فتابا أن تتزوجه، فسألها سيدها، فطاوعته على تزويجها، ثم عتقها. أترى لها
الخيار؟ قال: نعم، أرى ذلك لها. قال: فقلت له: ألم يكن لها أن تابا، ولا
يجبرها سيدها على نكاحها؟ قال: بلى. قلت: فكيف يكون لها الخيار. قال: حالها
كحال الأمة، وإنما ذلك بمنزلة ما لو أن أمة ليس فيها عتق، طلبت إلى سيدها
أن يزوجها عبدا ففعل فزوجها، فله الخيار. قلت: إن هذه يخيرها سيدها، وإن
الأخرى لم يكن سيدها أن يخيرها. قال: بلى، ولكنها في حالها وحدودها. وكشف
شعرها في مثل حال شأن الأمة، فلا أرى لها إلا ذلك، وأن يكون لها الخيار.
قال محمد بن رشد: ليس العلة عند مالك في تخيير الأمة إذا أعتقت
(5/232)
تحت عبد ما كان لسيدها من جبرها على
النكاح، وإنما العلة في ذلك عنده، كون زوجها ناقصا عن مرتبتها، ولذلك يقول:
إنه لا خيار لها إذا أعتقت وزوجها حر، فوجب على هذا إذا تزوجت عبدا وبعضها
حر برضاها أن يكون لها الخيار إذا أعتق ما بقي منها، لنقصان مرتبة زوجها عن
مرتبتها.
ويأتي على قول أهل العراق، الذين يقولون: إن الأمة تخير إذا أعتقت، كان
زوجها حرا أو عبدا، ويرون العلة في تخييرها ما كان لسيدها قبل أن تعتق من
جبرها على النكاح، إلا أن يكون لها خيار إذا أعتق ما بقي منها، كانت تحت حر
أو عبد، إذ لم يكن لسيدها أن يجبرها على النكاح، من أجل أن بعضها حر، وهو
بعيد.
[اطلع على امرأته بزنا هل له أن يضارها حتى
تفتدى منه]
ومن كتاب باع غلاما بعشرين دينارا وسئل مالك عن رجل اطلع على امرأته بزنا،
هل له أن يضارها حتى تفتدى منه؟ قال: لا ينبغي له ذلك يضارها إن أحدثت أن
يستحل مالها بذلك، يضارها حتى تفتدى منه، ولا أرى ذلك يصلح له.
قال محمد بن رشد: لا يحل للرجل إذا كره المرأة أن يمسكها ويضيق عليها حتى
تفتدى منه، وإن أتت بفاحشة من: زنا، أو نشوز، أو بذاء؛ لقول الله عز وجل:
{وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ} [النساء: 20] ،
إلى قوله: {غَلِيظًا} [النساء: 21] ، هذا مذهب مالك وجميع أصحابه، لا
اختلاف بينهم فيه. ومن أهل العلم من أباح للرجل إذا اطلع على زوجته بزنا أن
يمسكها ويضيق عليها حتى تفتدى منه؛ لقول الله عز وجل: {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ
لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلا أَنْ يَأْتِينَ
بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [النساء: 19] ، وتأول أن الفاحشة المبينة هاهنا:
الزنا. وجعل الاستثناء متصلا.
ومنهم من تأول أن الفاحشة المبينة: البغض،
(5/233)
والنشوز، والبذا باللسان، فأباح للزوج إذا
أبغضته زوجته، ونشزت عنه، وبذت بلسانها عليه، أن يمسكها ويضيق عليها حتى
تفتدى منه، ومنهم من حمل الفاحشة على العموم، فأباح للزوج ذلك، كانت
الفاحشة التي أتت بها زنا، أو نشوزا، أو بذاء باللسان، أو ما كانت، والصحيح
ما ذهب إليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأنه إذا ضيق عليها حتى تفتدى منه،
فقد أخذ مالها بغير طيب نفس منها، ولم يبح الله ذلك إلا عن طيب نفس منها:
{فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا
مَرِيئًا} [النساء: 4] ، والآية التي احتجوا بها، لا حجة لهم فيها؛ لأن
الفاحشة المبينة فيها من جهة النطق أن تبذو عليه، وتشتم عرضه، وتخالف أمره؛
لأن كل فاحشة أتت في القرآن منعوتة بمبينة، فهي من جهة النطق، وكل فاحشة
أتت فيه مطلقة، فهي الزنا، والاستثناء المذكور فيها منفصل، فمعنى الآية لكن
إن نشزن عليكم، وخالفن أمركم، حل لكم ما ذهبتم به من أموالهن، معناه إذا
كان عن طيب أنفسهن، ولا يكون ذلك عن طيب أنفسهن إلا إذا لم يكن منهم إليهن
ضرر ولا تضييق. فعلى هذا التأويل، تتفق آي القرآن ولا تتعارض، وقد قيل في
تأويل الآية غير هذا، وهذا أحسن، والله أعلم.
[مسألة: عاتبته امرأته فقال برئت مني]
مسألة وسئل مالك عن رجل عاتبته امرأته، فقال: برئت مني. قال: هذا بين أنه
لا شيء عليه، وهذا من كلام الناس عند العتاب، ولا أرى فيه شيئا، فإن اتهم،
فإن أشده أن يحلف.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال؛ لأن برئت مني، من ألفاظ الطلاق التي
تصلح أن تقال عند العتاب عتابا، فإذا قال ذلك الرجل لامرأته في العتاب، لم
يلزمه به طلاق إلا أن يريد الطلاق، فإن أتى مستفتيا لم يلزمه فيه طلاق ولا
يمين، وإن خاصمته امرأته وأثبتت عليه أنه قال ذلك لها في
(5/234)
العتاب، استظهر عليه باليمين؛ لاحتمال أن
يكون أراد بذلك الطلاق. وإن كان قاله في العتاب؛ لأنه من ألفاظ الطلاق، ولو
قال ذلك لها في غير عتاب لبانت منه امرأته بثلاث. وهذا مثل ما في المدونة
في الذي يقول لامرأته: لا نكاح بيني وبينك، ولا سبيل لي عليك، ولا ملك لي
عليك؛ لأنه قال فيها: إنه لا شيء عليه، إذا كان الكلام عتابا، إلا أن يكون
أراد بذلك الطلاق. وقال فيها في الذي يقول لامرأته: ما أنت لي بامرأة، أو
لست لي بامرأة، أو لم أتزوجك؛ لأنه لا شيء عليه في ذلك، إلا أن يريد بذلك
الطلاق. واختلف إذا أراد به الطلاق، ولم تكن له نية في عدده. فقيل: تكون
واحدة، وقيل: تكون ثلاثا. وقد مضى ذلك في آخر سماع أبي زيد من كتاب طلاق
السنة، وستأتي منه مسألة في سماع أبي زيد، والله أعلم.
[مسألة: قال لأهل امرأته شأنكم بها]
مسألة وقال مالك: فيمن قال لأهل امرأته: شأنكم بها. قال: إن كان لم يدخل
بها، فإنه بين أنه ليست تكون عليه إلا واحدة، وإن كان قد دخل بها، فإني
أراها قد بانت منه، وهو عندي يشبه أن يقول: قد وهبتك لأهلك، أو قد رددتك
إلى أهلك. قيل: أرأيت إن قال: إنما أردت بالتي دخلت بها بقولي: شأنكم بها
واحدة؟ قال: ليس هذا بقول، والذي أرى أنها قد بانت منه.
قال محمد بن رشد: قوله في شأنكم بها، وقد وهبتك لأهلك، ورددتك إلى أهلك:
إنها في غير المدخول بها واحدة، والمدخول بها ثلاث، إلا أن ينوي واحدة،
وكذلك الخلية والبرية والبائن، ولا ينوى خلاف ما في المدونة، وما في رسم
يوصي، من سماع عيسى، من كتاب الأيمان بالطلاق، وخلاف المشهور من أنها في
غير المدخول بها ثلاث، إلا أن ينوي واحدة، وفي المدخول بها ثلاث ولا ينوى،
وقد قيل: إنها في غير المدخول بها واحدة. وفي المدخول بها، إلا أن ينوي
واحدة، وكذلك الخلية والبرية والبائن، يدخل
(5/235)
فيها كلها هذه الثلاثة أقوال، وظاهر قول
غير ابن القاسم في العتق من المدونة: أن الموهوبة ثلاث قبل الدخول وبعده،
ولا ينوى في ذلك؛ لأنه قال: إنه إذا وهبها فقد وهب ما كان يملك منها، وقد
كان يملك منها جميع الطلاق، وقد قيل في شأنكم بها: إنها واحدة قبل الدخول
وبعده، وهو الذي وقع في الموطأ من قول القاسم بن محمد، فرأى الناس ذلك
تطليقة. وأما خليتك وخليت سبيلك، وسرحتك، وفارقتك، وما أشبه ذلك، فقيل:
إنها ثلاث في المدخول بها، وفي التي لم يدخل بها إلا أن ينوي واحدة. وقيل:
إنها واحدة في التي لم يدخل بها، وثلاث في التي قد دخل بها، إلا أن ينوي
واحدة، والقياس أن ما كان من هذا كله قبل الدخول ثلاث، إلا أن ينوي واحدة،
فهو بعد الدخول ثلاث، وإن زعم أنه نوى واحدة، وما كان منها يكون قبل الدخول
واحدة، إلا أن ينوي ثلاثا، فيكون بعد الدخول ثلاثا، إلا أن ينوي واحدة،
وبالله التوفيق.
[مسألة: يطلق امرأته واحدة ثم إنها أعطته عشرة
دنانير ألا رجعة له عليها]
مسألة وسئل مالك عن الرجل يطلق امرأته واحدة، ثم إنها أعطته عشرة دنانير،
وهي في عدتها على ألا رجعة له عليها، ففعل، قال: أراه خلعا. قلت له: أفتراه
تطليقة أخرى مع الأولى التي طلق؟ قال: نعم، أراها تطليقتين.
قال محمد بن رشد: أما إذا أعطته عشرة دنانير على ألا رجعة له عليها كما قال
هاهنا، فهو خلع يقع عليها به تطليقة أخرى، واختلف إذا أعطته ذلك على ألا
يرتجعها، فقال ابن القاسم في رسم إن خرجت، من سماع عيسى: إن ذلك أيضا خلع،
يقع به عليه تطليقة أخرى، ولم يفرق بين أن يكون قد قبض العشرة أو لم
يقبضها، وقال أشهب في سماع زونان: إنه إن شاء
(5/236)
راجعها، فإن راجعها رد عليها العشرة، أي
تركها لها، ولم يأخذ منها، ويحتمل أن يتأول قول ابن القاسم، على أنه قد قبض
العشرة، فلا يكون ذلك اختلافا من القول، وبالله التوفيق.
[خالع الرجل امرأته على أن يعجل لها بعض دين لها عليه قبل محله]
ومن كتاب سعد قال مالك: إذا خالع الرجل امرأته
على أن يعجل لها بعض دين لها عليه قبل محله، على أن تضع عنه ما بقي
عليه من ذلك الدين، قال مالك: لا يجوز لأحد أن يعمل هذا، فإن جهل ذلك حتى
يقع الفراق عليه، جاز الطلاق، وجازت الوضيعة، ويرد المال إلى أجله الذي كان
إليه، وكذلك روى عيسى، عن ابن القاسم في كتاب الجلوس، قال ابن القاسم: إذا
كان لامرأة على زوجها عشرون دينارا إلى أجل، فقالت له: طلقني ولك العشرة،
وعجل لي العشرة ففعل؛ أنه يمضي الطلاق عليها والوضيعة، وترد العشرة إلى
أجلها.
قال محمد بن رشد: اعترض أبو إسحاق هذه المسألة، إذ لم يجعل ما حطت من دينها
مفضوضا على خلع مثله، وما يمكن أن يعطى للتعجيل، ووجه الرواية أنها إنما
خالعها بما وضعت، وشرطها في خلعها تعجيل بقية حقها، فوجب أن ينفذ الخلع
ويبطل الشرط؛ لأنه إذا وجب أن يبطل اشتراطها عليه ترك التزويج على ما مضى
في أول رسم سعد الأول، لما فيه من تحريم ما أحل الله، فأحرى أن يبطل هذا
الشرط، لما فيه من تحليل ما حرم الله.
وفي كتاب محمد بن المواز: ومن تزوج بعشرة نقدا، وعشرين إلى أجل، فصالحته
قبل البنا، وقبل النقد على أن عجل لها العشرة النقد، وأسقطت العشرين، يجز
ذلك، وأجاز الطلاق وترد إليه الخمسة، تأخذها منه إذا حل الأجل، وكذلك لو
صالحته على أكثر من الخمسة، إلى ما دون الخمسة عشر، ترد ما زاد على الخمسة،
فتأخذ ذلك عند الأجل، ولو صالحته على خمسة فأقل أو
(5/237)
على خمسة عشر فأكثر؛ لجاز ذلك، هذا معنى
قوله دون لفظه، وهو على قياس هذه الرواية؛ لأن الفراق يوجب لها خمسة نقدا،
وعشرة إلى أجل، فتلزمها الوضيعة، ويسقط عنها التعجيل، واعترضها أيضا أبو
إسحاق التونسي بما تقدم في اعتراضه للمسألة الأولى، ولو كان الدين للزوج
على المرأة فخالعته على أن عجلت له بعض دينه، وأسقط عنها بقيته لمضى
الطلاق، ورد إليها ما عجلت له واتبعها بجميع دينه، ولا اختلاف في هذا ولا
اعتراض؛ لأن الوضيعة والبضع صارا ثمنا للتعجيل، فوجب أن تبطل الوضيعة إن
كانت عوضا للتعجيل، ولم تكن عوضا للخلع.
[تختلع من زوجها وهما في سفر ويشترطان]
ومن كتاب اغتسل على غير نية وسئل عن المرأة تختلع من زوجها، وهما في سفر،
ويشترطان في سفرهما خلعهما، إن مات الرجل قبل أن يبلغ بلده رد عليها فيموت
الزوج قبل أن يبلغ بلده. قال مالك: خلعهما جائز، وما اشترطت من شرط من هذا
النحو وما أشبهه فهو باطل، إذا كان الخلع قد ثبت بينهما.
قال محمد بن رشد: رأى الخلع جائزا، والشرط باطل على أصله في مسألة رسم سعد
الأول، والذي قبل هذا، وقد مضى من التكلم في الرسمين ما فيه بيان هذه
المسألة، وبالله التوفيق.
[مسألة: أمة افتدت من زوجها بشيء من مالها
ففارقها، فأنكر ذلك سيدها]
مسألة وسئل عن أمة افتدت من زوجها بشيء من مالها، ففارقها، فأنكر ذلك
سيدها، فقال: يثبت الفراق، ويرد المال إلى سيدها.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في المدونة، وهو مما لا اختلاف فيه أن الأمة
لا تجوز مخالعتها إلا بإذن سيدها، وإن كانت مأذونا لها في التجارة؛ لأن
الخلع ليس من التجارة التي أذن لها فيها، إذ لا يملك بها مالا، وإنما يملك
بها
(5/238)
تخليصها من الزوج وراحتها منه، وكذلك
المكاتبة وأم الولد، واختلف في المديانة، هل يجوز مخالعتها، دون إذن
الغرماء أم لا؟ على قولين: أحدهما: أن ذلك قياسا على النكاح، والثاني: أن
ذلك ليس لها، بخلاف النكاح؛ لأن النكاح مما تدعو إليه الضرورة كالطعام
والشراب، فقد دخل الغرماء معها على ذلك، والخلع وإن كانت الضرورة قد تدعو
المرأة إليه، فلم يدخل معها الغرماء على ذلك، إذ لا يقع إلا نادرا. والحمد
لله وحده.
[أمة كانت تحت عبد فقالت إن عتقت وأنا تحت هذا
العبد فأشهدكم أني اخترت نفسي]
من سماع أشهب وابن نافع من مالك
من كتاب الطلاق الثاني قال أشهب: سمعته كتب إلى ابن فروخ أيضا. وسألت عن
أمة كانت تحت عبد فقالت: إن عتقت وأنا تحت هذا العبد فأشهدكم أني اخترت
نفسي، أو قالت: قد أخذت زوجي، فلا أرى ذلك لازما. وذلك أنها تجري إلى طلاق
يصيبها فيه، فتلد أولادا إلى أجل يأتي، إذا كان ذلك الأجل فارقته، ومن عينه
أنه ليس أحد علمناه عمل به ممن مضى.
قال محمد بن رشد: علل مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن ذلك لا يلزمها بوجهين:
أحدهما: أنها تحصل مطلقة إلى أجل قد يأتي، وقد لا يأتي بغير اختيار زوجها
ولا إرادته. وذلك مخالف للأصول. والثاني: أن ذلك مخالف لعمل الماضين، ومن
قول مالك: إن من شرط لزوجته أن تزوج عليها وما أشبه ذلك فأمرها بيدها،
فقالت: أشهدكم أنه إن تزوج علي فقد اخترت نفسي، أو قد اخترت زوجي، إن ذلك
لازم لها، ففرق بين المسألتين. وهذه المسألة هي التي يحكى أن ابن الماجشون،
سأل مالك عن الفرق فيها بين الحرة والأمة، فقال له: أتعرف دار قدامة؟ وكانت
دار يلعب فيها بالحمام، معرضا له بقلة التحصيل فيما سأل عنه، وموبخا له على
ترك إعمال نظره في ذلك، حتى
(5/239)
لا يسأل إلا سؤالا مستقيما في أمر مشكل،
وهذا من نحو قوله لابن القاسم في شيء سأله عنه: أنت حتى الساعة هاهنا تسأل
عن مثل هذا. ولعمري إن مثل ابن الماجشون في فهمه وجلالة قدره لحري أن يوبخ
على مثل هذا السؤال؛ لأن مالكا لم يفرق بين الحرة والأمة كما قال، وإنما
فرق بين خيار أوجبه الله بالشرع على لسان نبيه للزوجات، إلا ما على أزواجهن
العبيد، بشرط عتقهن بغير اختيار أزواجهن، وبين خيار شرطه الزوج باختياره
لزوجته، حرة كانت أو أمة. والفرق بينهما، أن ما خير الله تعالى عباده فيه
على شرط، وجعله شرعا مشروعا، فليس لأحد أن يسقط ما أوجبه الله له من الخيار
في ذلك قبل أن يجب له بحصول الشرط، ويوجب على نفسه، أحد الأمرين: من الأخذ
أو الترك؛ لأنه إذا فعل ذلك صار مبطلا للشرع الذي شرعه لعباده في حقه، وذلك
ما لا يجوز ولا يلزم من فعله، ألا ترى لو أن رجلا غنيا قال: أشهدكم أني إن
افتقرت، فلا آخذ من الصدقات التي أباحها الله للفقراء شيئا، وإن افتقرت
فأنا آخذ منها ما أوجبه الله لي من الحق فيها، ثم افتقر، ثم يحرم عليه
الأخذ إن أراد أن يأخذ، ولا لزمه الأخذ إن أراد ألا يأخذ، وكان مخيرا بين
الأخذ والترك على حكم الله تبارك وتعالى في الشرع، وما أوجبه الله للزوج
لزوجته على نفسه من الخيار في نفسها بشرط، بخلاف ذلك، يجب إذا اختارت نفسها
أو زوجها قبل حصول الشرط، بشرط حصوله إن لم يلزمها ذلك؛ لأنها إن اختارت
زوجها فهو حق لها تركته، إذ لا يلزمها قبول ما أعطاها زوجها، وإن اختارت
نفسها جاز ذلك عليها وعلى زوجها، ولم يكن لواحد منهما في ذلك رجوع؛ لأنه
طلاق وقع على صفة يلزم بحصولها، إذ لا فرق أن يقول الرجل لامرأته: أنت طالق
إن كان كذا وكذا، أو تقول هي إذا ملكها الطلاق بشرط: أنا طالق إن كان كذا
وكذا؛ لذلك الشرط، وهو أبين، والحمد لله، وبه التوفيق.
[يقول لامرأته قد وليتك أمرك إن شاء الله]
ومن كتاب الطلاق
وسئل عن رجل يقول لامرأته: قد وليتك أمرك إن شاء الله،
(5/240)
فتقول هي: قد فارقتك إن شاء الله. فقال:
فقد فارقها في رأيي. فقال له: يا أبا عبد الله، لأن تقطع يدي من جسدي أحب
إلي من أن أفارقها، وما أردت بذلك طلاقا، وما كان الذي كان مني ومنها إلا
لعبا لا نريد به طلاقا، فقال: إن كان الله يعلم أنك لم ترد بقولك ذلك
طلاقا، وأنه كان منك على وجه اللعب لا تريد به طلاقا، فلا أرى عليك شيئا.
وإن كنت إنما أردت به طلاقا، وإن كنت لاعبا، فهو الطلاق. ثم قال له: أتقول
امرأتك مثل مقالتك أنها لم ترد طلاقا؟ قال: نعم. وقد أقمنا بعد هذه
المقالة، أربعة أشهر أصيبها، لا نرى أن الذي وقعنا فيه شيئا. فقال: قال
لها: أمرك بيدك إن شاء الله، لا يريد بذلك طلاقا على وجه اللعب والمداعبة،
فقالت: قد فارقتك إن شاء الله لاعبين لا يريدان بذلك طلاقا، لا أرى عليك
شيئا إلا يمينك بالله الذي لا إله إلا هو، ما أردت بذلك طلاقا، وما كنت إلا
لاعبا، فلما رجع من الغد رجع إليه الأعرابي فقال: ما أرى عليك شيئا إلا أن
تحلف بالله ما أردت بذلك طلاقا.
قال محمد بن رشد: قال مالك في هذه المسألة أولا فارقها في رأيي؛ لأنه إفصاح
منه بالتمليك، وإفصاح منها بالفراق، لا تأثير للاستثناء بمشيئة الله في ذلك
لواحد منهما، كما لا تأثير للاستثناء بمشيئته تعالى في مجرد الطلاق، فلما
أخبره أنهما لم يريدا بذلك الطلاق، وأنه إنما كان ذلك منها على وجه اللعب،
سأله هل تقر له امرأته بذلك فيدين، أو لا تقر له بذلك، وتدعي الطلاق بما
ظهر من قوله وقولها فلا يصدق؟ فلما أخبره أنها تقول مثل مقالته، قال له: لا
أرى عليك شيئا، وذلك صحيح على أصولهم فيمن ادعى نية مخالفة لظاهر قوله،
وأتى مستفتيا، أنه ينوى فيما ادعاه، ولا يمين عليه. وقوله في آخر المسألة:
لا أرى عليك إلا اليمين، معناه إن طالبه أحد باليمين، وقوله: إن كنت أردت
بذلك طلاقا، وإن كنت لاعبا فهو الطلاق، صحيح على قولهم في أن الطلاق
(5/241)
هزله جد. من ذلك ما وقع في أثر المدونة
وغيرها. وقول أصبغ في نوازله من كتاب الأيمان بالطلاق، والله الموفق.
[مسألة: المسلم يزوج عبده النصراني أمته
النصرانية ثم يعتقها]
مسألة قال: وسألته عن الرجل المسلم يزوج عبده النصراني أمته النصرانية ثم
يعتقها، أترى لها خيارا؟ قال: نعم، لها الخيار ملكها بيد مسلم.
قال محمد بن رشد: وهذا كله كما قال؛ لأنهما وإن كانا نصرانيين فسيدهما
مسلم، وله حق في اختيارها نفسها؛ لأنه يصل بذلك إلى وطء الأمة، ويتفرغ
العبد لمنافعه، وقد مضى هذا في أول سماع عيسى، من كتاب طلاق السنة، وبالله
التوفيق.
[مسألة: قال لامرأته حرمت علي إن لم تقومي عني
فلا ترجعي إلي إلا أن أشاء]
مسألة وسئل عن من قال لامرأته: حرمت علي إن لم تقومي عني، فلا ترجعي إلي،
إلا أن أشاء، فقامت، ثم قالت له: أرجع، أرجع، فقال: لا. ثم قالت له: أرجع،
فقال: لا، ثم قالت له: أرجع، فقال: ما شئت، تعالي إن شئت. ولا يشاء ذلك
بقلبه، أترى عليه شيئا؟ فقال: ما أرى عليه في هذا شيئا. فقيل له: إنها لم
تأته، لما أرادت أن تأتيه خاف من ذلك؛ لأنه لم يشأ بقلبه أن تأتيه، فقال
لها: لا تأتي، ثم إنه خرج، ثم جاء، وقد اشتهى أن تأتيه، وأحب ذلك، وشاءه
بقلبه، فجاءته قبل أن يأمرها أن تأتيه، فجاءته ولم يأمرها، فقال: إني لأخاف
أن يكون عليك من يمينك شيء، أرأيت هي أكانت تعلم الغيب؟ كيف تعلم ما في
قلبك أنك اشتهيت أن تأتيك وشئته، إنما
(5/242)
ذلك إذا دعوتها.
وإنما يستدل على أنك قد شئت أن تأتيك إذا دعوتها تأتيك؛ لأنك قد شئت بقلبك
أن تأتيك، ليس يطلق الرجل بقلبه، ولا ينكح الرجل بقلبه. وإنما الدليل على
مشيئتك إذا قلت ذلك لها؛ أرأيت لو أنها أولا قالت له: آتيك، فقال لها: لا،
وهو إن يشأ أن تأتيه بقلبه، فجاء، فجاءته ولم تنظر إلى قوله، أكان ذلك
يخرجه من يمينه؟ لا ما ينفعه ذلك، ولا يطلق الرجل بقلبه، ولا يستدل على
مشيئته إلا بإذنه أن يدعوها، فإذا دعاها فلا شيء عليه، وإن كان لا يشاء أن
تأتيه.
قال مالك للذي قال لامرأته: أنت علي حرام إن لم تقومي، فلا ترجعي إلي حتى
أشاء ذلك، فقامت ثم استأذنته غير مرة أن ترجع، فيقول: لا، ثم قال تعالي إن
شئت، وهو لا يشاء بقلبه، أو تأتيه، فقال لها بعد أن قامت، مكانك لا تأتي،
ثم خرج ودخل، ثم شاء أن تأتيه بقلبه، ثم جاءته قبل أن يدعوها وقبل أن يأذن
لها، فقال له: من أين علمت حين دخلت أنك قد شئت بقلبك أن تأتيك؟ أرى إن كنت
نويت حتى تشاء ذلك بقلبك، تنوي مشيئتك، لا ينوي لسانك في شيء من ذلك أن ليس
شيء، وأنه ليأخذ بقلبي في قولك لها أولا: تعالي إن شئت، ثم قلت لها: لا
تأتي، أنه ليأخذ بقلبي أنه إذن وما أدري.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة أن يمين الحالف على امرأته لا ترجع
إلا أن يشاء، محمولة على أنه أراد ألا ترجع إلا أن يأذن لها في الرجوع، إذ
لا يستدل على ما في قلبه إلا بقوله، فإذا أذن لها في الرجوع فرجعت، وإن كان
لا يشاء رجوعها بقلبه، وإذا رجعت بغير أن يأذن لها فهو حانث، وإن كان قد
شاء رجوعها بقلبه إلا أن ينوي في ذلك كله مشيئته بقلبه، دون الإذن لها
بلسانه فتكون له نيته، ولا يحنث إن جاءته دون أن يأذن لها إذا كان قد شاء
ذلك بقلبه، ويحنث إن جاءت وقد أذن لها إذا كان لا يشاء ذلك بقلبه، هذا معنى
ما ذهب إليه في الرواية، وتوقف إذا أذن لها، ثم رجع
(5/243)
عن الإذن قبل أن تأتي، فقال لها: لا تأتي،
فأتت على الإذن المتقدم، فقال أولا: إنه يحنث، وأن رجوعه عنه يسقطه، ثم
قال: إنه ليأخذ بقلبي أنه إذن يريد أنه إذن لا يسقطه رجوعه عنه. وجه القول
الأول مراعاة المعنى دون اللفظ؛ لأن المعنى في يمين الحالف بمثل هذا على
زوجته ألا تعصي قوله، وتخالف أمره. ووجه القول الثاني مراعاة اللفظ دون
المعنى؛ لأنه إذا حلف عليها ألا ترجع حتى يأذن لها، فأذن لها أن تأتيه، ثم
نهاها عن الإتيان، كان لها أن تأتيه ولا يحنث؛ لأنه ما أتته إلا بعد أن أذن
لها. وقوله: ليس يطلق الرجل بقلبه، ولا ينكح الرجل بقلبه، ظاهره خلاف ما في
سماع أشهب من كتاب الأيمان بالطلاق، فيمن أجمع في نفسه على طلاق امرأته،
حتى يكون قد طلقها بقلبه، ولم ينطق بذلك لسانه: أنها طالق، وعلى ذلك كان
الشيوخ يحملونه. والصواب أن ذلك ليس بخلاف له، وأن معنى قوله ليس يطلق
الرجل بقلبه، ولا ينكح الرجل بقلبه، أي ليس من شأن الناس وعادتهم أن يفعلوا
ذلك، إذ لا تأثير له في الحكم الظاهر، وهو مثل قوله في مسألة سماع أشهب من
كتاب الأيمان بالطلاق، وما هذا بوجه الطلاق؛ لأن الصحيح أن من أجمع على
الطلاق بقلبه في نفسه، على أنه قد طلق امرأته، وقال في قلبه: إنها طالق،
فهي طالق، فيما بينه وبين الله في الباطن، وإن أبدى ذلك لها بكلامه، أو
بكتابة، أو بإشارة يفهم بها ما في نفسه، حكمنا عليه بذلك؛ لأن الكلام
والكتاب إنما هو عبارة عما في النفس من ذلك، والحمد لله.
[مسألة: قال لامرأته وهو يلاعبها أمرك بيدك]
مسألة وسئل عمن قال لامرأته وهو يلاعبها: أمرك بيدك، فقالت: قد تركتك، أو
ودعتك، فقال الرجل: لم أرد طلاقا، وما قلت ذلك إلا لاعبا، وقالت المرأة مثل
ذلك، فقال: أرى أن يحلف ما أراد إلا واحدة، وتكون عنده على ما بقي من
الطلاق في مسألتهم شبهة، وما هي بالنية. قيل له: أفترى على الرجل حرجا أن
يحلف أنه أراد واحدة، والله يعلم أنه لم يرد شيئا؟ فقال: لا بد له من هذا،
فكيف
(5/244)
يصنع؟ فيحلف ما أراد بقوله الطلاق، وتكون
واحدة.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة أن البينة قامت على ذلك، فلم يصدق
الرجل على ما ادعاه من أنه لم يرد بذلك الطلاق، وإن قالت امرأته مثل
مقالته، ويقال له طلاق البتات لك لازم بقول امرأتك بعد أن كلمتها، ملكتها،
قد تركتك، أو قد ودعتك؛ لأن هذا القول منها محمول على الثلاث، إلا أن تحلف
ما أردت واحدة، وما أردت الطلاق، لا بد لك من اليمين على أحد هذين الوجهين.
هذا معنى قوله في هذه الرواية، ولا يسوغ له فيما بينه وبين الله أن يحلف
أنه ما أراد إلا واحدة إن كان لم يرد الطلاق، ولكنه يمكن من ذلك، ويحمل منه
ما يحمل، وهذا على القول بأن النية تقبل منه بعد أن أنكر أن يكون أراد
الطلاق، وأما على القول بأن النية لا تقبل منه، وهو أحد قولي مالك، واختيار
أصبغ، على ما مضى له في رسم كتب عليه ذكر حق، من سماع ابن القاسم. فإن أقام
على قوله: إنه لم يرد الطلاق، حلف على ذلك، وكانت واحدة، وإن رجع، وقال: بل
أردت واحدة، لم يمكن من اليمين، وكانت ثلاثا على ما دل عليه ما قضت به، وقد
مضى في رسم كتب عليه، من سماع ابن القاسم في هذا المعنى زيادة، وتفسير مما
قلناه هاهنا. ولو أتى مستفتيا ولم تقم على أمرهما بينة، لصدق أنه لم يرد
بذلك الطلاق، ولم يكن عليه شيء على ما مضى في أول السماع، وبالله التوفيق.
[مسألة: خالع امرأته بشيء أعطته إياه وشرط
عليها]
مسألة وسئل عمن خالع امرأته بشيء أعطته إياه، وشرط عليها أنك إن طلبت الذي
أعطيتني، فأنت امرأتي، فأقامت شهرا، ثم طلبت ذلك، فدفعه إليها وردها إليه،
ثم دخل بها وأصابها، فقال: ليس له أن يردها إليه إن طلبت ذلك. وقد أتيا
عظيما إن ردها إليه بغير نكاح جديد، ما رأى أن يفرق بينهما، ولها ما رد
عليها مما كان خالعها عليه إن كان قد أصابها، ولو لم يكن أصابها لم يكن ذلك
لها. قيل:
(5/245)
أرأيت ذلك كله لها إذا أصابها؟ فقال: نعم،
كان ذلك أقل من صداق مثلها أو أكثر، قد يتزوج الرجل المرأة فيدخل بها، ثم
يعلم أن بينهما رضاع، فيكون ذلك كله لها: دينه ونقده، كان أقل من مهرها أو
أكثر.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأنه شرط حرام، فيبطل، وينفذ الخلع، ولا
يجوز له أن يراجعها إلا بنكاح جديد، فإن ردها إليه على الشرط المذكور، كان
الحكم في ذلك على ما ذكر، وقد مضى بيانه في رسم سن من سماع ابن القاسم،
وبالله التوفيق.
[مسألة: قالت لزوج ابنتها إنك مع ابنتي لعلى
الحرام فقال لا]
مسألة وسئل عن امرأة قالت لزوج ابنتها: إنك مع ابنتي لعلى الحرام، فقال:
لا، فقالت: بلى، فلما أكثرت عليه قال: إن كان ما تقولين حقا، وأنا مع ابنتك
على الحرام، وتم ذلك، فشدي بها يديك، ثم لا تزوجيها إلى الخليفة، ثم قال:
لم أرد طلاقا، فقال مالك: يقول لها: إن كان ما تقولين حقا، فشدي يديك، ثم
لا تزوجيها إلا الخليفة، فأرى أن يسأل عن نيته، فإن سلك هذه الناحية، أحلف
بالله الذي لا إله إلا هو ما أراد طلاقا، ولا أراد إلا إن كان ما تقولين
حقا، وثبت علي ذلك، ثم تكون امرأته أنه رأى أن يحلف ما أراد طلاقا، ولا
أراد إلا إن كان ما ذكرت حقا، فشدي يديك بابنتك، ثم زوجيها الأمير، فإن أبى
أن يحلف رأيت أن يطلق عليه البتة.
قال محمد بن رشد: وهذا بين على ما قال؛ لأن النية التي ادعى محتملة، فوجب
أن يصدق فيها مع يمينه، فإن لم يحلف طلقت عليه ثلاثا
(5/246)
بمقتضى اللفظ إذا عري من النية؛ لأن قوله:
شدي بها يديك، ولا تزوجيها إلا الخليفة، بمنزلة قوله: قد رددتها إليك، أو
قد وهبتها إليك، فزوجيها الخليفة.
[مسألة: قال لامرأته بحضرة شهود هل لك عندي شيء]
مسألة قال أشهب: وسمعت مالكا يسأل عن رجل قال لامرأته بحضرة شهود: هل لك
عندي شيء؟ فقالت: لا، ليس لي عندك شيء، ولا لك عندي شيء، فقال لهم: فاشهدوا
أنها قد برئت مني، وبرئت منها، فافترقا عند ذلك، ثم طلبت المرأة شيئا كان
لها عنده، فقالت: أما الطلاق فقد طلقتني، وأما الذي لي عليك، هو عليك بعد،
ألم تعطه؟ فقال: أليس إنما أراد أوجه المبارأة إن كانا أرادا ذلك، فأراه
جائزا ولا أرى لها شيئا، قيل: أما الرجل، فإنما أراد ذلك، وأما هي فتقول:
لم أرده، فقال: لا أدري إن كان أراد أوجه المباراة، فذلك جائز، قيل: إنها
تقول: لم أرد ذلك، ويقول الرجل ذلك الذي أردت، فقال: لا أدري ما تقولان،
ولكن يسأل عن ذلك الشهود الذين حضروا، فإن قالوا الذي ترى أنهما يريدان
المباراة، فذلك جائز، ولا شيء لها عليه. قيل له: إنما يشهدون على هذه
المقالة، أنه دعاها بحضرتهم، فقال لها: هل لك علي شيء؟ فقالت: ما لي عندك
شيء، ولا لك عندي شيء، فقال لهم: اشهدوا أني قد برئت منها، وبرئت مني.
فقال: إن شهدوا لك بمثل هذا لم أرى عليك شيئا.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة أن المرأة طلبت من زوجها متاعا كان
لها عنده بعد أن جرى بينهما ما ذكره، والزوج مقر لها به، إلا أنه يدعي أنه
صار إليه بالمباراة، ولو جحد أن يكون لها عنده ذلك المتاع الذي
(5/247)
طلبته منه، لصدق في ذلك دون يمين؛ لقولها:
ليس لي عليك شيء، فلما كان الزوج مقرا لها بالمتاع، لم ينتقل ملكها عنه إلى
الزوج بقولها: ليس لي عندك شيء؛ لأنه في ظاهره إخبار بكذب، إلا أن يتبين
أنها أرادت أنها قد تركته له على وجه المباراة، فلذلك قالت: ليس لي عندك
شيء، فلهذا قال مالك: يسأل الشهود الذين حضروا، فإن قالوا: الذي كنا نرى
أنهما أرادا المباراة، جاز ذلك عليها، ولم يكن لها شيء، وإن قالوا: الذي
كنا نرى أنهما لم يريدا وجه المباراة، أخذت متاعها، ولزم الزوج الطلاق.
ورأى الأمر على ما وقع محمولا على المباراة إذا لم يتبين للشهود ما أراده،
وذلك بين من قوله في آخر المسألة: إن الشهود إذا لم يشهدوا إلا على
مقالتهما فلا شيء على الزوج، صحيح في المعنى أيضا؛ لأن سكوتها على قوله
للشهود: اشهدوا أنها قد برئت مني، وبرئت منها، دليل على إقرارها بإرادة
المباراة، وفي إعمال شهادة الشهود بما يظهر إليهم من قصد المشهود عليه
وإرادته اختلاف أجازها هنا، وفي سماع أصبغ من كتاب التدبير، وزاد أصبغ: إن
للشاهد أن يبث الشهادة بذلك، ولم يعملها في رسم الكبش من سماع يحيى، من
كتاب الأيمان بالطلاق.
[مسألة: صالح امرأته بعد فطام ولده منها]
مسألة وسئل عمن صالح امرأته بعد فطام ولده منها، على أن عليها كفل ولده
منها ثلاث سنين لا تتزوج، فقال: أليس قد كانت ترى أن هذا الشرط لا يجوز؟
وأنه ليس من شروط الناس، وثلاث سنين عشرة. أرأيت إن قال لها: لا تتزوج
خمسين سنة؟ يشترط تحريم ما أحل الله، قيل له: أرأيت إن اشترط عليها ألا
تنكح حتى تفطم ولدها؟ فقال: يشترط عليها تحريم ما أحل الله لها، قيل له:
أفترى لها أن تنكح؟ فقال: لا أدري. قال الله عز وجل: {لا تُحَرِّمُوا
طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا} [المائدة: 87]
يصالحها هذا على تحريم
(5/248)
ما أحل الله. قال ابن نافع: وكان مالك لا
يرى بأسا أن تنكح، وإن اشترط كفله عليها، وأما أنا فلا أرى أن تنكح في
الحولين، إذا اشترط ذلك عليها.
قال محمد بن رشد: قد قال مالك في كتاب ابن المواز: إن ذلك يلزمها، ولا تنكح
حتى تفطم ولدها مثل قول ابن نافع، ويأتي على معنى ما في المدونة من أن
المرأة إذا آجرت نفسها ظئرا، فليس لها أن تتزوج، أنه ليس للمصالحة على رضاع
ولدها أن تتزوج في الحولين، وإن لم يشترط ذلك عليها، وما في رسم الرهون من
سماع عيسى من هذا الكتاب، أنه ينظر في ذلك، فإن كان لا يضر بالصبي، لم يحل
بينها وبين التزويج قول رابع في المسألة، وإنما وقع الاختلاف في هذا لما
يتقى من ضرر ذلك بالصبي، وما كانت العرب تعتقد من ذلك، حتى هم النبي -
عَلَيْهِ السَّلَامُ - أن ينهى عن ذلك فقال: «لقد هممت أن أنهى عن الغيلة
حتى ذكرت أن الروم وفارس يصنعون ذلك، فلا يضر أولادهم شيء» وأما اشتراطه
عليها ترك النكاح بعد مر الحولين قريبة أو بعيدة، فلا اختلاف في أن ذلك لا
يلزمها، كما لا يلزم الزوج اشتراط ذلك عليه.
[مسألة: دعته امرأته إلى الخلع]
مسألة وسئل عمن دعته امرأته إلى الخلع، فقال: آخذ منك هذا الخلخال على أن
أخالعك على ذلك إن لم تكوني حاملا فقد خالعتك، فآخذ الخلخال وأخالعك، وإن
كنت حاملا فأنت امرأتي، ثم افترقا على ذلك، فقال مالك: قد بانت منه، ووقع
الخلع، كانت حاملا أو غير حامل.
(5/249)
قال محمد بن رشد: أما إذا خالعها واشترط
أنها إن كانت حاملا فهي امرأته، فلا إشكال ولا اختلاف في أن الخلع واقع،
والشرط باطل؛ لأنه شرط رجوعها إلى عصمته بعد أن بانت منه بغير ولي ولا
صداق، وذلك ما لا يحل ولا يجوز. وقد مضى هذا المعنى في رسم سن، من سماع ابن
القاسم، وأما إذا قال لها: قد خالعتك بكذا وكذا إن لم تكوني حاملا، فيلزمه
الخلع، كانت حاملا أو غير حامل، على مذهب ابن القاسم، من رواية مالك في
المدونة وغيرها في الذي يقول لامرأته: أنت طالق إن لم تكوني حاملا، أنها
طالق مكانها، ولا يستأنى بها حتى ينظر، أبها حمل أم ليس بها حمل؟ ويأتي على
مذهب سحنون الذي يرى أن ينتظر بها في الطلاق حتى يعرف إن كان بها حمل أم
لا، أن ينتظر بها في الخلع أيضا، وبالله التوفيق.
[مسألة: صالح امرأته على أنها إن كان بها حمل
فلا نفقة عليه]
مسألة وسئل عمن صالح امرأته على أنها إن كان بها حمل فلا نفقة عليه، ولا
قليل ولا كثير قال: فلو كان لها شيء رأيت النفقة، فإن لم يكن لها ما تنفق،
فأرى عليه النفقة، ولا أرى أن يدع ولده حتى يموت؛ لقوله عز وجل: {وَإِنْ
كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ
حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6] فأراد، إذا لم يكن عندها شيء أن ينفق، فإن أيسرت
بعد ذلك رأيت أن يتبعها بما أنفق، فيأخذه منها.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة، والقول فيها في رسم البر من سماع ابن
القاسم، من كتاب طلاق السنة، فأغنى ذلك عن إعادته هنا، وبالله التوفيق.
[مسألة: يخالع امرأته فتحيض حيضة ثم ينكحها]
مسألة وسئل عن الذي يخالع امرأته، فتحيض حيضة، ثم ينكحها
(5/250)
فتحيض بعد نكاحه إياها حيضتين، ثم يطلقها،
ولم يمسها فقال: إن كان دخل بها فإنه متهم عليها، فإن لم يكن دخل عليها فلا
عدة عليها، وقد خلت.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: إنه إذا دخل بها فلا بد من استيئاف العدة
من يوم طلقها مس أو لم يمس، فإن تصادقا على أنهما لم يمسا؛ لأنهما يتهمان
على طرح العدة التي قد وجبت بظاهر الدخول، هذا منصوص في المدونة وغيرها.
وأما إذا طلقها بعد أن نكحها، وقبل أن يدخل بها، فإنها تبنى على عدتها
الأولى، إذ لا عدة لهذا الطلاق الثاني، فإن كان تزوجها بعد حيضة من يوم
خالعها، ثم طلقها بعد أن حاضت حيضتين، فلا عدة عليها. وقد حلت كما قال، وقد
مضى القول في هذه المسألة مستوفى في رسم سلعة سماها، من سماع ابن القاسم،
من كتاب طلاق السنة، وبالله التوفيق.
[طلق امرأته طلقة وهي حامل]
ومن كتاب الأقضية وسئل عمن طلق امرأته طلقة وهي
حامل، فأقام أشهرا ثم باراها على أن عليها رضاع ولدها، فطالبته
بنفقتها لما مضى من الشهور قبل المباراة، فقال: طلقها، فأقامت نصف الحمل،
لم تأخذ منه نفقة، ثم باراها بأن تكفيه نفقة ولدها، فطلبت نفقتها لما مضى
من الشهور قبل المباراة، فذلك لها، قيل: أرأيت إن قالت له: إنما باريتك على
رضاعه، فأما نفقة حمل فلا؟ فقال: أما نفقة حملها لما مضى قبل المباراة،
فذلك لها، وأما بعد مباراتها، فإنه يعرف أنه لم يكن يمنعها الرضاع، ويعطيها
هذا.
قال محمد بن رشد: أما ما مضى من نفقة حملها قبل المباراة فبين، أن ذلك لها
كما قال؛ لأنها قد وجبت لها عليه، فلا تسقط عنه إلا بما تسقط به الحقوق
الواجبة عمن وجب عليه، وأما نفقة ما بقي من الحمل بعد المباراة، فجعلها
تبعا لما التزمت لك من رضاعه بما دل على ذلك من العرف والمقصد،
(5/251)
فإن وقع الأمر مسكوتا عليه فلا شيء لها،
وإن اختلفا في ذلك فالقول قول الزوج مع يمينه، وهذا من نحو قولهم فيمن أكرى
دارا مشاهرة أو مساناة إن دفع كراء شهر أو سنة براءة للدافع مما قبل ذلك،
وكذلك لو طلقها وهي حامل ولم يخالعها، فدفع إليها نفقة الرضاع؛ لكان ذلك
براءة له من نفقة الحمل المتقدمة، وبالله تعالى التوفيق، لا شريك له.
[جعل امرأته بيد أبيها إن غاب عنها سنة]
من سماع عيسى بن دينار، من ابن القاسم
من كتاب نقدها نقدها قال عيسى: قال ابن القاسم: في رجل
جعل امرأته بيد أبيها إن غاب عنها سنة،
فغاب عنها سنة، فلما انقضت السنة، أراد الأب أن يفرق بينهما، وقالت المرأة:
لا أريد ذلك، وأنا أرضى أن أقيم مع زوجي، وأصبر عليه، أن ذلك لها، وأن
الإمام يجبر الأب على ألا يفرق بينهما ويمنعه من ذلك، وكذلك قال مالك. قال
ابن القاسم في سماع يحيى: فإن طلق قبل أن يمنعه السلطان مضى الطلاق، وإن
طلق بعدما منعه السلطان فلا يجوز.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم في سماع يحيى، تفسير لقوله في رواية عيسى
عنه، وقد مضى القول على هذه المسألة مستوفى في رسم استأذن سيده من سماع
عيسى، من كتاب النكاح. فمن أحب الوقوف عليه تأمله هناك. وفي أول سماع أبي
زيد مسألة من هذا المعنى، فنتكلم عليها عند انتهائنا إليها إن شاء الله.
[مسألة: المرأة تشتري من زوجها عصمته عليها]
مسألة وسئل عن المرأة تشتري من زوجها عصمته عليها، قال: أراه ثلاثا لا تحل
له حتى تنكح زوجا غيره، وإن لم يسم طلاقا، فإذا انقطعت العصمة فلا يبالى،
ألا يسمى طلاقا، وجعل يحتج ويقول:
(5/252)
لو قالت: قد اشتريت منك عصمتك علي، أو
اشتريت طلاقك علي، أو اشتريت ملكك علي، كأنه يراه شيئا واحدا ثلاثا قال:
ليس هذه فدية من اشترت كلما يملك منها قال عيسى: ما أراها إلا فدية، وأراها
طلقة واحدة بائنة، كالصلح والخلع.
قال محمد بن رشد: قد بين ابن القاسم وجه قوله، وظاهره أنها ثلاث في المدخول
بها، والتي لم يدخل بها، ولا ينوى في ذلك، وقول عيسى أبين؛ لأن المرأة إذا
بانت عن زوجها بطلقة بائنة، فقد خرجت من عصمته وملكه، فلا عصمة له فيها،
ولا ملك له عليها، ولا طلقة له فيها، وقد قال الله عز وجل: {وَلا
تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10] فلم يجب إلى ذلك أحد من
العلماء علمته إذا ارتدت المرأة أن تبين من زوجها بثلاث تطليقات، ولما كانت
المرأة تنال بالواحدة البائنة من ملكها نفسها ما تنال بالثلاث، لم يجب أن
يحمل فعلها على الثلاث، إذ لا منفعة لها في ذلك، بل قد يكون عليها فيه ضرر.
وعلى هذا قالوا فيمن أعطته زوجته مالا على أن يطلقها ثلاثا فطلقها واحدة،
أنه لا كلام لها في ذلك، ولأصبغ في رسم النذور، من سماعه، من كتاب الأيمان
بالطلاق، أنه ينوى، فإن لم تكن له نية فهي ثلاث، وهو قول ثالث في المسألة،
وبالله التوفيق.
[صالح الرجل امرأته وهي حامل ثم أراد أن
يتزوجها]
ومن كتاب استأذن سيده
وقال: إذا صالح الرجل امرأته وهي حامل، ثم أراد أن يتزوجها، فإنه يجوز له
أن يتزوجها قبل أن تضع، إلا أن تكون مثقلا، فإذا أثقلت لم يجز لزوجها ولا
لغيره أن يتزوجها حتى تضع؛ لأنه مرض، والمرأة لا تتزوج وهي مريضة. وقال:
إذا أثقلت المرأة جاز لها الفطر، إذا شق عليها الصيام، وليس عليها فدية،
وإذا
(5/253)
أرضعت وخافت على ولدها أفطرت وقضت الصيام،
وأطعمت عن كل يوم مسكينا مدا من حنطة.
قال محمد بن رشد: إثقال الحامل الذي لا يجوز لزوجها الذي إذا خالعها أن
يتزوجها فيه، هو أن يمضي لحملها ستة أشهر. قاله مالك في الموطأ وغيره، وهي
مصدقة في ذلك، لا ترى النساء فيه، ولا يسألن عنه، ولا يلتفت إلى قولهن فيه.
قاله ابن القاسم في رسم الجواب، من سماع عيسى، من كتاب الأقضية.
فأفعالها كلها جائزة، ما لم تقر على نفسها أنها قد أثقلت، أو يثبت ذلك
بالبينة العدلة، فإن تزوجها زوجها المخالع لها، فعثر على النكاح قبل أن تضع
فسخ النكاح، وإن كان قد دخل بها، كان لها الصداق المسمى بالمسيس، وإن لم
يعثر على ذلك حتى تضع وتصح من نكاحها، جرى ذلك على الاختلاف في نكاح المريض
أو المريضة إذا صحا، وإن ماتت من نفاسها لم يرثها.
وقوله في الرواية: ولا لغيره، لفظ وقع على غير تحصيل؛ لأن غيره لا يجوز له
أن يتزوجها أثقلت أو لم تثقل، وقوله في الحامل: إذا أثقلت جاز لها الفطر
إذا شق عليها الصيام، ليس على ظاهره، أثقلت أو لم تثقل، إذا اشتد عليها
الصيام، جاز لها الفطر، ولا فدية عليها. وقد قيل: عليها الفدية، اختلفت
الرواية في ذلك عن مالك، وقد فرق بين أن يشق عليها الصيام أو لا يشق إلا
أنها تخاف أن تطرح ولدها، ذهب إلى هذا ابن حبيب، وعليها القضاء على كل حال،
ومن أهل العلم من يرى عليها الفدية، ولا يرى عليها القضاء، ذهب إلى هذا من
يرى الآية قَوْله تَعَالَى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ}
[البقرة: 184] محكمة فيها، وفي المرضع والشيخ، وهي عند مالك منسوخة، وأما
المرضع فلها ثلاثة أحوال: حال لا يجوز لها فيها الفطر، وحال يجوز لها فيها
الفطر، وحال يجب عليها فيها الفطر، وقد مضى بيان ذلك في رسم صلى نهارا، من
سماع ابن القاسم، من كتاب الصيام، فمن أحب الوقوف عليه تأمله هنالك.
(5/254)
[مسألة: يشترط
لامرأته إن تزوج عليها فهي طالق]
مسألة وسألت ابن القاسم عن رجل يشترط لامرأته إن تزوج عليها فهي طالق، يعني
التي تحته، أو أمرها نفسها بيدها، أو التي يتزوج عليها طالق، أو أمر التي
يتزوج بيد التي تحته، فأراد أن يتزوج، وقال: لم أرد بالطلاق إلا واحدة، ولم
أملكك إلا واحدة. قال: أما التي تحته فلا يقبل قوله فيها، وهي طالق ألبتة،
إن تزوج عليها، وأما طلاقه في التي تزوج عليها، فقوله مقبول؛ لأن التي
تحته، لا يبينها منه إلا ألبتة.
فإن قبل قوله لم تنتفع بشرطها، وهو أملك بها. وأما التي يتزوج عليها فواحدة
تبينها؛ لأنه من طلق امرأة لم يدخل بها طلقة فقد بانت منه. وهي أملك
بنفسها. فهو ساعة يملك عقدتها بانت منه بواحدة، فقد انتفعت بشرطها فيها،
ولا حجة لها أن تقول في التي يتزوج عليها: أردت ألبتة؛ لأن واحدة تبينها
منه، وهو وجه ما سمعت، وأمرها بيدك مثله.
قال محمد بن رشد: تعليله هذا يدل على أنه إن تزوج عليها قبل الدخول، فله أن
يناكرها فيما زاد على الواحدة؛ لأن الواحدة تبينها، وكذلك إن كان التمليك
في الداخلة، فلم يعلم حتى دخل بها، كان لها أن تقضي بثلاث، ولم يكن له أن
يناكرها؛ لأن الواحدة لا تبينها، فإنما راعى في هذه الرواية معنى الانتفاع
بشرطها في نفسها، وفي الداخلة عليها، ولم يراع في المدونة ذلك.
وإنما جعل القضاء في الثلاث حقا لها بالشرط، فقال: لها أن تقضي بها في
نفسها قبل الدخول وبعده، ولم يجعل للزوج مناكرة قبل الدخول، وإن كانت
الواحدة تبينها فتنتفع بشرطها، فعلى قوله في المدونة: إن كان الشرط في
الداخلة عليها لها أن تقضي فيها بالثلاث، ولا يكون للزوج أن يناكرها، وإن
كانت واحدة الواحدة تبينها، وهذا على ما في رسم الرهون، من سماع عيسى، من
كتاب النكاح؛ لأنه جعل فيها اليمين على نية المرأة المشترط لها الشرط، كان
الطلاق فيمن في عصمته ممن لا تبين منه بالواحدة، أو في الداخلة عليها، ولم
(5/255)
يراع في المدونة ذلك، وإنما جعل التي تبين
منه بواحدة، وقد زدنا هناك هذه المسألة بيانا، فمن أحب الوقوف عليه تأمله
فيه، وبالله التوفيق.
[مسألة: الناشز التي تقول لا أصلي ولا أصوم]
مسألة وسئل عن المرأة الناشز التي تقول: لا أصلي، ولا أصوم، ولا أستحم من
جنابة، هل يجبر زوجها على فراقها؟ قال: لا يجبر على فراقها، ولكن إن شاء
فارقها وحل له ما افتدت به من شيء.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: إنه لا يجبر على فراقها، ولا يجب ذلك عليه،
إذ ليست بكافرة مرتدة بتركها الصلاة والصيام والغسل من الجنابة، إذا كانت
مقرة بفرض ذلك، على الصحيح من الأقوال، فله أن يؤدبها على ترك الصلاة
ويمسكها؛ قال الله عز وجل: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ
عَلَيْهَا} [طه: 132] ، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا
أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}
[التحريم: 6] ، فإن افتدت منه لتأديبه إياها على ترك الصلاة والصيام، حل له
أن يقبل منها الفداء، إذا لم يؤدبها لذلك، وقد مضى في رسم باع غلاما، من
سماع ابن القاسم، بيان هذا المعنى، وبالله التوفيق.
[المرأة يصالحها زوجها على رضاع ولدها]
ومن كتاب العرية وسئل عن المرأة يصالحها زوجها
على رضاع ولدها، وعلى إن أخذ منها فأقامت سنة، ثم أتت بامرأتين
تشهدان أنها إنما صالحته عن ضرورة، قال: تحلف مع شهادتها، ويرد عليها ما
أخذ منها، وتأخذ منه رضاع ما أرضعت من ولده.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال، إذ لا يحل لأحد أن يأخذ من مال
(5/256)
امرأته شيئا، إلا عن طيب نفس منها. قال عز
وجل: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا
مَرِيئًا} [النساء: 4] . وقال: {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ
مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ} [النساء: 19] وقد
مضى هذا المعنى في رسم باع غلاما من سماع ابن القاسم، فإذا افتدت المرأة من
زوجها ثم ثبت أنه كان يضربها، وجب أن يرد عليها ما أخذ منها، ويجوز في ذلك
شهادة النساء؛ لأنه مال، والطلاق قد مضى بغير شهادتهن، فإن شهد لها بالضرر
شاهدان، أو شاهد وامرأتان، رد عليها مالها بغير يمين، وإن شهد لها به رجل
واحد وامرأتان، حلفت مع شهادة الرجل، أو مع شهادة المرأتين، واستوجبت أن
يرد إليها ما أخذ منها.
ويجوز في ذلك أيضا شهادة شاهدين على السماع، فتأخذ ما أخذ منها بشهادتهما
دون يمين. قاله في سماع أصبغ، من كتاب الشهادات، وأكثر من ذلك أحب إليه،
وابن الماجشون لا يجيز في شهادة السماع أقل من أربعة شهود وبالله التوفيق.
[مسألة: يقول لامرأته إن كنت حاملا وإن كنت لست
حاملا فأمرك بيدك]
مسألة وسألته عن الرجل يقول لامرأته: إن كنت حاملا وإن كنت لست حاملا فأمرك
بيدك، فلا يكون ذلك لها، كانت حاملا أو لم تكن حاملا الساعة، ما لم يطأها
ويقفها السلطان.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن التمليك مقيس على الطلاق، فكما يعجل
الطلاق على من قال لامرأته: أنت طالق إن كنت حاملا وإن لم تكوني حاملا، ولا
يستأنا بها حتى يعلم إن كانت حاملا أم غير حامل، فكذلك يجب التمليك معجلا
للمرأة على هذا الوجه، ويأتي على مذهب سحنون أن يستأنا بها في التمليك، حتى
يعلم إن كانت حاملا أم لا، كما يستأنا بها عنده في الطلاق.
(5/257)
[مسألة: يقول
لامرأته ادفعي إلي عشرة دنانير وجيئي بها وأنا أطلقك]
مسألة وعن الرجل يقول لامرأته: ادفعي إلي عشرة دنانير، وجيئي بها وأنا
أطلقك، أو قال لعبده: ادفع إلي خمسين دينارا، وأنا أعتقك، فلما دفع إليه،
أو جاءته امرأته بعشرة دنانير، قال: لا أقبلها ولا أطلقك، أو يكون له عليها
دين، فيقول إن عجلت ديني فأنا أطلقك فتأتيه بدينه، فيقول لا أقبله، ولا
أطلقك، قال ابن القاسم: لا يلزمه شيء من هذا إذا حلف أنه لم يبت لهم الطلاق
ولا العتق.
قال محمد بن رشد: ولو أنه لما جاءته بالعشرة دنانير قبضها، أو لما أتته
بدينه معجلا قبضه، للزمه الطلاق؛ لأن قبضه ذلك رضى منه بالطلاق، بخلاف
العبد، لا يلزمه عتق العبد إذا جاءه بالخمسين دينارا، وإن قبضها لأنه إنما
قبض منه ما له أن يقبضه، شاء أو أبى من غير عتق، ويدخل فيه من الاختلاف ما
يدخل في الرجل، يقول لامرأته اقضي ديني وأفارقك، وهو حالّ لها عليه. وقد
مضى بيان هذا كله في أول رسم من سماع ابن القاسم وبالله التوفيق.
[قال لقوم أشهدكم أني خيرت امرأتي]
ومن كتاب يوصي لمكاتبه وسئل عن رجل قال لقوم: أشهدكم أني خيرت امرأتي، قيل
له إن التخيير ثلاثة، وأنت تريد أن ترتجع، فقال: إن ارتجعتها إلى يوم
القيامة فهي طالق ألبتة، فاختارت نفسها ثم تزوجت زوجا فأراد أن يتزوجها بعد
زوج قال ابن القاسم: إن تزوجها طلقت عليه بالبتة، ثم لم يتزوجها إلا بعد
زوج، فإن تزوجها بعد ذلك لم يكن عليه شيء وكذلك قال ابن وهب.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه؛ لأنه قد
(5/258)
حلف ألا يرتجعها إلى يوم القيامة، فمتى ما
راجعها حنث، كان ذلك قبل زوج أو بعد زوج، وإنما الاختلاف إذا طلقها طلاقا
رجعيا ثم حلف ألا يراجعها، أو ألا يرتجعها، فراجعها في العدة وقال: إنما
أردت ألا أراجعها بنكاح جديد بعد انقضاء العدة، أو راجعها بنكاح جديد بعد
انقضاء العدة، وقال: إنما أردت ألا أرتجها ما دامت لي عليها الرجعة، وقد
مضى القول في ذلك كله موعبا في رسم سلف من سماع عيسى من كتاب طلاق السنة،
فمن أحب الوقوف عليه تأمله فيه، وبالله التوفيق.
[مسألة: ملَّك امرأته أمرها]
مسألة قال ابن القاسم: في رجل ملَّك امرأته أمرها فقالت: قد قبلت ثم صالحها
بعد ذلك قبل أن تسأل ما قبلت، قال: تسأل، فإن قالت: كنت قد طلقت نفسي
بقولي: قبلت باثنتين أو ثلاثا، فالقول قولها، إلا أن يناكرها، فيحلف على ما
نوى.
قلت: أله أن يناكرها وهي ليست في ملكه؟ قال: نعم، ذلك له، فإن قال: لم أنو
شيئا، كان القضاء ما قضت، إن قالت كنت طلقت اثنتين، فبالصلح ثلاث، ولا تحل
له إلا بعد زوج، وفي البتة، لا تحل له أيضا إلا بعد زوج، وإن قالت: كنت
طلقت واحدة كان خاطبا من الخطاب، فإن تزوجها كانت عنده على طلقة بقيت؛ لأنه
قد مضت طلقتان: طلقة قضت بها، وطلقة الصلح.
وإن قالت لم أرد بقولي: "قبلت" طلاقا ولم أنو طلاقا، ولم أطلق شيئا، لم
يلزمه إلا طلقة الصلح، فإن تزوجها كانت عنده على طلقتين بقيتا له.
قلت: فلو قالت كنت طلقت ثلاثا فلم يناكرها، هل يرد عليها ما أخذ منها أو لا
يرد عليها ما أخذ منها؛ لأنها حين صالحت علمنا أنها لم تطلق ثلاثا؟ .
(5/259)
قلت: فإن ادعت الجهالة، قال: لا تعذر.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة على أصولهم، بينة المعاني، فلا موضع
للقول فيها إلا في قوله: إذا قالت كنت طلقت نفسي بقولي: قد قبلت اثنتين أو
ثلاثا إن القول قولها إلا أن يناكرها، فيحلف على ما نوى، يريد إلا أن
يناكرها ساعة قالت: أردت اثنتين أو ثلاثا، فإن سكت على قولها لم يكن له أن
يناكرها بعد ذلك.
وأما اليمين فليس عليه أن يحلف حتى يريد أن يراجعها. قاله في المدنية وكذلك
كل من ناكر امرأته في طلاق بائن، كالمملكة أو المخيرة قبل الدخول، أو الذي
تعطيه زوجته مالا على أن يخيرها، فتختار نفسها على القول بأن له أن يناكرها
من أجل أنها تبين بالواحدة بسبب المال، وكذلك الذي يناكرها في الطلاق
الرجعي، إنما له أن يناكرها ساعة قضت بأكثر من الواحدة، وله أن يؤخر يمينه
إلى أن يريد رجعتها، فإن لم يحلف حتى انقضت عدتها لم يكن عليه أن يحلف، إلا
أن يريد مراجعتها.
وأما قوله في التي قالت بعد أن صالحت: إنها كانت أرادت بقولها: "قبلت"
ثلاثا لترجع فيما صالحت به، وقالت: إنها جهلت أنها لا تعذر في ذلك بجهل،
فيشبه أن تكون هذه المسألة إحدى المسائل السبع، التي روي عن أبي عمر
الإشبيلي أن الجاهل لا يعذر فيها بجهله، والثالث الذي يسمع امرأته تقضي
بالثلاث فيسكت، ثم يريد أن يناكرها من بعد ذلك ويدعي الجهل، والثالثة
المرأة تختار في التخيير واحدة ثم تريد أن تختار بعد ذلك ثلاثا، وتقول:
جهلت وظننت أن لي أن أختار، والرابعة المملَّكة أو المخيَّرة يملكها زوجها
أو يخيرها فلا تقضي حتى ينقضي المجلس على قول مالك الأول، ثم تريد أن تقضي
بعد ذلك وتقول: جهلت وظننت أن ذلك بيدي متى شئت.
والخامسة التي يقول لها زوجها: إن غبت عنك أكثر من ستة أشهر، فأمرك بيدك،
فيغيب عنها وتقيم بعد الستة المدة الطويلة من غير أن تشهد أنها على حقها،
ثم تريد أن تقضي وتقول: جهلت وظننت أن الأمر بيدي متى ما شئت والسادسة
الأمة
(5/260)
تعتق تحت العبد فتتركه يطأها، ثم تريد أن
تختار وتزعم أنها جهلت أن الخيار كان لها. والسابعة الرجل يجعل أمر امرأته
بيد غيرها، فلا يقضي المالك حتى يطأها زوجها، ثم يريد أن يقضي ويقول: جهلت
وظننت أن ذلك لا يقطع ما كان من القضاء فيما ملكت فيه، وذلك أن ابن عتاب
حكى عن ابن بشير القاضي أنه قال: كان أبو عمر الإشبيلي - رَحِمَهُ اللَّهُ
- يقول: سبع مسائل لا يعذر فيها الجاهل بجهله، ولا يشرحها، وإذا سألناه عن
تفسيرها لم يفسرها لنا. قال: فتبعتها إلى يومي هذا، فلم أجد منها إلا خمس
مسائل، فذكر ثلاثا من هذه، ومسألة السارق يسرق الثوب وفيه دراهم جهلها، ولم
يعلم بها، ومسألة المرتهن يطأ الجارية المرهونة عنده ويدعي الجهل.
قال ابن عتاب فوجدت أنا منها مسائل كثيرة، فذكر مسائل مختلفة المعاني وقعت
في المدونة والمستخرجة وغيرهما من الدواوين نص فيها على أن الجاهل لا يعذر
بجهله، بعضها متفق عليها، وبعضها مختلف فيها. منها حديث مرغوسن في المقر
بالزنى جهلا وغيرها من المسائل وترك مسائل كثيرة لا يختلف في أن الجاهل لا
يعذر فيها بجهله، إذ لم يجد ذكر ذلك نصا فيها ولم يكن أبو عمر الإشبيلي ممن
يغلط مثل هذا الغلط، فيخفى عليه أن المسائل التي لا يعذر فيها الجاهل بجهله
أكثر من أن تحصى، وإنما أراد والله أعلم، سبع مسائل في نوع واحد، فيحتمل أن
يكون أراد السبع المسائل التي ذكرناها والله أعلم، ويحتمل أن يكون أراد
بالسبع المسائل ما قد ذكرته في كتاب الشفعة من كتاب المقدمات.
[مسألة: يقول لعبده أنت حر]
مسألة وسألت ابن القاسم عن الرجل يقول لامرأته: أنت طالق إن شئت، فقالت: قد
شئت إن شاء فلان، أو يقول لعبده: أنت حر
(5/261)
إن شئت، فقال: قد شئت إن شاء فلان، فيوجدان
قد ماتا هل ترجع المشيئة إليهما؟ قال ابن القاسم: إن وجدا قد ماتا فلا شيء
لهما، ولا ترجع المشيئة إليهما.
قلت: فلو كان قال لهما هذه المقالة، فقالا: قد شئنا إن شاء فلان، وفلان
بأرض بعيدة، مثل إفريقية والأندلس. قال: أما المرأة فيقال لها: إن شئت
فاقضي الآن، وإن شئت فاتركي، ولا تؤخري إلى قدوم فلان.
وأما العبد، فذلك له حتى يكتب إلى فلان، ويستقضي شيئته؛ لأنه ليس في العبد
من الضرر ما في المرأة؛ لأن المرأة يمنع من وطئها، والعبد ليس كذلك.
قلت: فإن كان الرجل الذي جعلت المرأة المشيئة إليه في الإسكندرية ونحوها من
القرب، أيؤخر إلى ذلك؟ قال ابن القاسم: إذا كان في القرب على ما ذكرت
اليومين والثلاثة، وما أشبهه الذي لا يكون على الزوج في ذلك ضرر، فإني أرى
أن يوقف، وأما الأجل البعيد الذي يكون على الزوج فيه ضرر، فإني أرى أن ترد
المشيئة إليها الساعة، فإما قضت وإما تركت.
قلت: فلو أن الزوج قال: أنا أترك الأمر حتى يشاء فلان ويقدم، فإني أخاف أن
يجعل ذلك بيدها فتطلق، وعسى فلان لا يطلق، قال: إذا بعد الأمر فلا يقبل
فيها رضى الزوج؛ لأن الموت يأتي فيقع المواريث. قال ابن القاسم: وليس
التأخير بشيء في القياس، وإن قرب الأمر، إنما القياس فيه أن يوقف الساعة.
قال محمد بن رشد: أما إذا قالت: قد شئت إن شاء فلان، أو قال العبد قد شئت
إن شاء فلان، فيوجد فلان قد مات قبل ذلك، أو مات بعد ذلك قبل أن تعلم
مشيئته، فلا اختلاف في أنه لا شيء لهما، وأن المشيئة لا
(5/262)
ترجع إليهما؛ لأنهما قيدا مشيئتهما بما لا
يمكن أن يكون، فبطلت، وكذلك إن قالا: قد شئنا إن شاء فلان، وفلان ميت، وقد
علمنا بموته، إذ لا يمكن أن يشاء الميت على مذهب ابن القاسم في الذي يقول
امرأتي طالق إن شاء هذا الشيء، لشيء لا يمكن أن يشاء، مثل الحجر وشبهه إنه
لا شيء عليه، ويأتي على مذهب سحنون الذي يلزمه الطلاق، ويرى ذلك ندما منه
أن يلزم الطلاق في المرأة، والعتق في العبد، ويعد ذلك منه ندما؛ لأن المرأة
والعبد ينزلان بما ملكا من العتق والطلاق، منزلة من ملكها، وقد يكره العبد
العتق، فيقول: إن شاء هذا الشيء، لشيء لا يشاء ندما. وأما إذا قالت: قد شئت
إن شاء فلان، وقد فوضت أمري إلى فلان، وفلان حي، فلا يخلو على مذهب ابن
القاسم من أن يكون فلان حاضرا أو غائبا قريب الغيبة، أو غائبا بعيد الغيبة،
فأما إن كان حاضرا، فينزل منزلتها ويقال له: إما أن تقضي وإما أن ترد،
ويكون ذلك إليه ما لم ينقض المجلس، أو ما لم يوقفه السلطان على اختلاف قول
مالك في الذي يكون إليه أمر المملَّكة بيدها، وأما إن كان غائبا قريب
الغيبة، قال: هاهنا مثل اليوم واليومين والثلاثة، وما أشبهه، وقال في
الواضحة من رواية أصبغ عنه مثل اليوم وشبهه، فيوقف الأمر، ويخير إلى أن
يعلم ما عنده استحسانا، قال: والقياس أن يقف الساعة، وإنما قال مالك: هو
القياس؛ لأنها لو سألت أن تؤخر إلى أجل قريب، ترى في ذلك وتنظر، لم يكن لها
بإجماع، فإذا لم يكن لها أن تؤخر في نفسها، لم يكن لها أن تؤخر إذا جعلت
ذلك لغيرها، وأما إذا كان غائبا بعيد الغيبة، فيرجع الأمر إليها وتوقف
الساعة على كل حال.
وأصبغ يرى أنه ليس لها أن تحول الأمر إلى غيرها وإن كان حاضرا، ويرجع الأمر
إليها، فتقضي أو ترد. وقوله يأتي على رواية علي بن دينار زيادة عن مالك في
كتاب الخيار من المدونة. والعبد والمرأة في القياس سواء، إذ لا فرق فيه بين
تمليك المرأة الطلاق، وتمليك العبد للعتق، إذ لا يفترقان في الحد الذي ذلك
إليهما فيه، فقوله في العبد: إنه ينتظر في البعيد الغيبة استحسان على غير
قياس.
ويأتي في نوازل سحنون من كتاب الإيلاء، القول في جعل الرجل أمر امرأته بيد
رجل غائب وبالله التوفيق.
(5/263)
[قال لامرأته
إن لم أتزوج عليك إلى ثلاث سنين فأنت طالق ألبتة]
ومن كتاب أوصى أن ينفق على أمهات أولاده وقال فيمن قال لامرأته: إن لم
أتزوج عليك إلى ثلاث سنين فأنت طالق ألبتة، فجزعت من ذلك واشتد عليها، فقال
لها: إن تزوجت عليك فأمرك بيدك، فقالت: اشهدوا أني قد اخترت نفسي الساعة،
إن هو تزوج، قال مالك: هي طالق الساعة.
قلت لابن القاسم: فإن رد عليها وقال: لم أرد إلا واحدة، قال: فذلك له، ويقع
ما أراد من الطلاق الساعة، ويكون له عليها الرجعة.
قال محمد بن رشد: قوله: فقالت اشهدوا أني قد اخترت نفسي الساعة إن هو تزوج
علي، معناه: فقالت: اشهدوا أني اخترت الساعة أن أكون طالقا ثلاثا، متى ما
تزوج علي، فلما كان ذلك لازما لها عند مالك، وقد كان حلف بطلاقها ثلاثا إن
لم يتزوج عليها إلى ثلاث سنين، صار في كل وجه يصرفه إليه، لا بد له من
الطلاق ثلاثا؛ لأنه إن تزوج بانت منه بثلاث لاختيارها نفسها إن تزوج عليها،
وإن لم يتزوج عليها إلى ثلاث سنين بانت منه بثلاث أيضا، فلهذا قال: هي طالق
الساعة، يريد ثلاثا؛ لأنه في حكم من قال: إن لم أطلق امرأتي ثلاثا إلى ثلاث
سنين فهي طالق ثلاثا.
وأما قول ابن القاسم: فإن رد عليها وقال: لم أرد إلا واحدة، فذلك له، ويقع
ما أراد من الطلاق الساعة، ويكون له عليها الرجعة، فمثله حكى ابن حبيب عنه
من رواية أصبغ، ولا وجه له يصح، والصواب في ذلك على قياس ما تقدم من قول
مالك ومذهبه في المدونة: أن يوقف فيقال له: إما تزوجت فيقع لك تطليقة
واحدة، وتكون لك الرجعة، وتبر في طلاق الثلاث، وإما أن تعجل عليك طلاق
الثلاث، إذ لا خلاص لك منها إلا بالتزويج، إذ لا فرق بين أن تختار واحدة إن
تزوج عليها، أو يقول: إن تزوجت عليك فأنت طالق واحدة، وذلك يوجب ما قلناه؛
لأنه في التمثيل بمنزلة من قال: إن لم أطلق امرأتي إلى ثلاث سنين واحدة،
فهي طالق ثلاثا. والواجب في ذلك على قول
(5/264)
مالك أن يقال له: إما طلقت واحدة فتبر في
طلاق الثلاث، وإما أن يعجل عليك طلاق الثلاث. وقد حكى ابن حبيب عن ابن
القاسم أنه لا يعجل عليه الطلاق في شيء من هذه المسائل إلى الثلاث سنين،
وهو مذهب سحنون، وقول ابن القاسم في سماع أبي زيد، قال أصبغ: ولا يطأ إلى
الثلاث سنين، فإن طلبت امرأته الوطء، ضرب له أجل المولى، وذلك يأتي على قول
غير ابن القاسم في العتق الأول من المدونة، وقول ابن القاسم، في رسم يوصي
من سماع عيسى من كتاب الإيلاء، خلاف قوله ومذهبه في المدونة إن له أن يطأ
لأنه على بر، إذ قد ضرب أجلا.
وقد مضى من معنى هذه المسألة في رسم حلف من سماع ابن القاسم من هذا الكتاب
وفي رسم القطعان من سماع عيسى من كتاب طلاق السنة.
[مسألة: قال لامرأته إن تزوجت عليك فأمرك بيدك]
مسألة قال: وسمعت مالكا والليث جميعا يقولان في رجل قال لامرأته: إن تزوجت
عليك فأمرك بيدك، فقالت: إني قد اخترت نفسي الساعة إن تزوج علي، قالا: فذلك
لها.
قال محمد بن رشد: هذا مثل قول مالك في المسألة التي قبلها، خلاف قول أشهب،
في سماع أصبغ، من كتاب النكاح. والاختلاف في هذا جار على أصل مختلف فيه،
وهو إسقاط الحق قبل وجوبه.
[مسألة: قال لها إن تزوجت عليك فأمرك بيدك]
مسألة قال ابن القاسم: فإذا قال لها: إن تزوجت عليك فأمرك بيدك، فأذنت له
قبل أن يريد أن يفعل بكثير، وسلمت، فلما فعل أرادت الرجوع، إن ذلك ليس لها،
وهو قول مالك القديم، إن ذلك له، وإن أذنت له قبل ذلك بكثير، فلما فعل ذلك
لم يكن لها أن ترجع، إلا أن مالكا رجع وقال: أحب إلي أن يكون ذلك عندما
(5/265)
يريد أن يفعل. وإن قال لها: إن تزوجت عليك
إلا برضاك فأمرك بيدك، فأذنت له أن يفعل متى ما أراد قبل أن يريد أن يفعل،
ثم فعل بعد ذلك، فأرادت الرجوع، إن ذلك ليس لها وليس بيدها من ذلك شيء.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول فيها مستوفى في أول رسم من سماع
ابن القاسم من كتاب النكاح، فمن أحب الشفاء من الوقوف على القول فيها تأمله
هنالك، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال لامرأته أنت طالق إن شئت]
مسألة وسمعته يقول فيمن قال لامرأته: أنت طالق إن شئت، أو لغلامه أنت حر إن
شئت، فزعم أنهما قالا: لا نشاء، وزعما أنهما قد اختارا حين أعطاهما ذلك
وشاءا ذلك، وهو يقر أنه قد أعطاهما، غير أنه يدعي أنهما لم يقضيا شيئا، ولا
نية بينهما.
قال ابن القاسم: القول قولهما، وهما مصدقان، والبينة عليه، وكذلك من يقول
لامرأته: أمرك بيدك، فيقر بأنه قد ملكها، غير أنه يدعي أنهما تفرقا، ولم
تقض شيئا، ولم تختر، وزعمت هي بأنها قد اختارت ساعة ملكها إن القول قولها،
وهي مصدقة والبينة عليه وهو مدع لأنه يقول: إنه قد أمكنهم من ذلك، وأعطاهم
إياه، ثم ادعى عليهم في ذلك دعوا، وإنما مثل ذلك مثل رجل أقر لرجل أنه
أسلفه خمسين دينارا وزعم أنه قد ردها إليه، وأنكر الآخر أن يكون ردها إليه
ولا أخذها منه، فعليه أن يقيم البينة أنه قد قضاه، وإلا غرم، والقول قول
صاحب المال، وكذلك قال مالك في الذي ملك امرأته أمرها، إن القول قولها، إلا
أن تكون له بينة. ونزلت به فقضا بها؛ لأنه قد أقر.
(5/266)
قال أصبغ: ولا أيمان عليهما لأن نكولهما
وحلفهما سواء لا يرد ما قالا.
قال محمد بن رشد في كتاب إرخاء الستور من المدونة في هذه المسألة: إنها
نزلت، فاختلف فيها أهل المدينة، وسئل عنها مالك فقال: القول قول الزوجة،
مثل قول ابن القاسم هاهنا، وروايته عنه، ولا شك أن اختلافهم فيها، كان إن
منهم من قال: إن القول قول الزوج، وهو قول أشهب من أصحاب مالك، وإليه ذهب
الشافعي، وهذا الاختلاف مبني على أصل قد اختلف فيه قول ابن القاسم، وهو
تصديق المأمور فيما أمره به الآمر من إخلاء ذمته أو تغير ذمة الآمر، فذهب
أشهب إلى أن المأمور لا يصدق في ذلك، فجوابه في هذه المسألة إن القول قول
الزوج على أصله، وجواب ابن القاسم إن القول قول الزوجة على أحد قوليه في
هذا الأصل.
وذلك أنه قال في السلم الثاني من المدونة فيمن له على رجل طعام من سلم
فقال: كله لي واجعله في غرائرك، أو في ناحية بيتك، فقال: قد فعلت وضاع، إنه
لا يصدق على أنه قد كاله حتى يقيم البينة على ذلك.
وقال فيمن كان له على رجل دين فقال له: ابتع لي حيوانا أو سلعة، فقال: قد
فعلت وتلف ذلك، إنه يصدق في ذلك، وذلك مثل قوله في مسألة اللؤلؤ من كتاب
الوكالات من المدونة. ومثل قوله في مسألة الرسول من كتاب الرواحل والدواب،
ومثل قوله في مسألة البنيان في آخر كتاب الدور، وخلاف قول أشهب فيها.
وإنما يكون القول قول الزوجة والعبد، على قول ابن القاسم وروايته عن مالك،
مع أيمانهما فإن نكلا عن اليمين، حلف الزوج وبقي مع امرأته، وحلف سيد
العبد، وكان له رقيقا، خلاف قول أصبغ إنه لا أيمان عليهما.
وقوله: لأن نكولهما وحلفهما سواء. معناه؛ لأن نكولهما بمنزلة أيمانهما، إذ
لا ترجع اليمين عنده بنكولهما على الزوج ولا على سيد العبد، ووجه قوله: إن
الزوج والسيد، لما ملكا الطلاق للزوجة، والعتق للعبد، صار كل واحد منهما في
ذلك بمنزلة من ملكه، فوجب ألا يحلف كما لا يحلف من قال: إنه قد أعتق عبده
أو طلق امرأته، وبالله التوفيق.
(5/267)
[مسألة: قال
لامرأته خيرة الله في يديك]
مسألة وقال في رجل قال لامرأته: خيرة الله في يديك، فاختارت، وقال: لم أرد
الطلاق، قال: يحلف بالله ما أراد به طلاقا ولا تمليكا، ولا شيء عليه، وكان
من الحجة في قوله خيرة الله في يديك، قال: يقال: خار الله لك وما أشبه ذلك.
قيل له: أفسكوته عنها وهو يسمعها تقضي؟ قال: يحلف بالله الذي لا إله إلا هو
ما كان صمته عنها رضى بذلك، ولا شيء عليه لأنه يقول تركتها تتكلم ما أصنع
بها.
قال محمد بن رشد: أما يمينه في قوله خيرة الله في يديك، إنه ما أراد به
طلاقا ولا تمليكا، فبين أن ذلك على ما قال، إذ يشبه ألا يكون أراد بذلك
طلاقا ولا تمليكا.
وأما قوله في الذي سكت وهو يسمعها تقضي: إنه يحلف ما كان صمته رضى بذلك،
فمعناه إذا أنكر في المجلس، ولو لم ينكر حتى طال الأمر وافترقا، ثم أتى بعد
ذلك وزعم أنه لم يكن صمته رضى بذلك، لم يصدق في ذلك؛ لأن سكوته على ما قضت
به حتى طال الأمر يدل على أنه أراد تمليكها بقوله خيرة الله في يديك،
وبالله التوفيق.
[مسألة: دخلت عليه امرأته فقال هي طالق ألبتة]
مسألة وقال أشهب بهذه المسألة، ونزلت في رجل دخلت عليه امرأته فقال: هي
طالق ألبتة، إن لم أفترعها الليلة، فوطئها فإذا هي ثيب ليست ببكر، قال: لا
شيء عليه، إنما أراد وهو يظن أنها عذراء. قلت: أرأيت إن كان حين علم أنها
ثيب، واستقر ذلك عنده، ترك وطأها تلك الليلة، فلم يطأها أتطلق عليه؟ قال:
نعم، قال أصبغ: ولو علم قبل الوطء بعد اليمين أنها ثيب، فترك وطأها ليلته
رأيته حانثا. .
(5/268)
قال محمد بن رشد: - رَحِمَهُ اللَّهُ -:
وهذا كما قال: إنه إذا وطئت تلك الليلة فلا حنث عليه، بكرا كانت أو ثيبا؛
لأن معنى يمينه إنما هو ليفترعها الليلة بوطئه إياها، فإذا وطئها بر وإن لم
يفترعها بوطئه إياها، إذ قد فات ذلك منها كمسألة كتاب النذور من المدونة في
الذي يحلف ليذبحن حمامات يتيمة فألفاها قد ماتت، ولا اختلاف هذا، إذ قد فات
افتراعها، فلا قدرة له عليه، وإنما الاختلاف إذا كان قادرا على ما حلف من
جهة الإمكان، إلا أن الشرع يمنعه منه، كمثل أن يجدها تلك الليلة حائضا،
فقال ابن القاسم في الواضحة: هو حانث، ومثله في الأيمان بالطلاق من المدونة
في الذي يحلف أن يبيع أمته، فإذا هي حامل، قال أصبغ: لا حنث عليه، واختاره
ابن حبيب؛ لأن امتناع الوطء فيها من جهة الشرع، كامتناعه من جهة عدم
الإمكان، فحمل ابن القاسم يمينه على اللفظ، وحمله أصبغ على المعنى؛ لأن
الحلف إنما أراد الوطء الحلال في مقصد يمينه، وبالله التوفيق.
[مسألة: يقول لامرأته وجهي من وجهك حرام]
مسألة وقال: في الذي يقول لامرأته وجهي من وجهك حرام: إنها ألبتة لا تحل له
حتى تنكح زوجا غيره.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة، لا اختلاف فيها في المذهب؛ لأن قوله
وجهي من وجهك حرام، بمنزلة قوله: أنت علي حرام، فهي في المدخول بها ثلاث،
ولا ينوى إن ادعى أنه أراد بذلك واحدة أو اثنتين إلا أن يأتي مستفتيا، ولا
ينوى في التي لم يدخل بها؛ لأن الواحدة تحرمها وقد تكررت هذه المسألة والتي
قبلها في هذا الرسم بعينه من كتاب الأيمان بالطلاق، والله الموفق.
[مسألة: صالح امرأته ثم قال لها اختاري فاختارت]
مسألة وقال مالك: من صالح امرأته ثم قال لها: اختاري، فاختارت
(5/269)
أنها واحدة، وذلك إذا تداعيا إلى الصلح
وتهايآ له، واجتمعا عليه، فيخيرها عند ذلك قبل وجوب الصلح، أو مع وجوبه،
قال مالك: وذلك أنهم يرون الصلح لا يتم لهم إلا بذلك. وقد نزل بنا هذا في
غير واحد فأشرت بذلك وهو رأي ابن القاسم.
قال محمد بن رشد: قد تقدمت هذه المسألة والقول فيها في رسم الشجرة من سماع
ابن القاسم فلا معنى لإعادة ذلك.
[مسألة: قالت لزوجها أنا أضع لك ما لي عليك من
مهري على أن تملكني أمري]
مسألة ولو أن المرأة قالت لزوجها: أنا أضع لك ما لي عليك من مهري، على أن
تملكني أمري، ففعل، فاختارت نفسها إنها البتات إلا أن ينكر عليها أنه لم
يرد إلا واحدة، فيحلف وتكون واحدة بائنة.
قال محمد بن رشد: قوله: إنه إذا ناكرها تكون واحدة بائنة بسبب ما أعطته من
المال على التمليك، خلاف قول مالك في رسم سعد من سماع ابن القاسم. وقد مضى
بيان ذلك هنالك فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال لامرأته إن أعطيتني ما لي عليك
فارقتك]
مسألة وقال ابن القاسم: فيمن قال لامرأته، إن أعطيتني ما لي عليك فارقتك،
أو أنا أفارقك ففعلت، فلما قبض ذلك أبا أن يفارقها. قال: قد اختلف فيها.
وأحب ذلك إلي أن يحلف بالله، إنه إنما قاله لينظر فيه، إما أن يفعل إن بدا
له، أو لا يفعل، كأنه يقول: لم أرد به أني قد فعلت ساعتئذ، قال: ثم لا أرى
عليه شيئا، وهي امرأته.
(5/270)
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى بيانها
والقول فيها في أول رسم من سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادته.
[مسألة: أعتق أم ولده على إن أسلمت له ولده
الصغير منها يكون عنده أنه يرد إليها]
مسألة وقال: فيمن أعتق أم ولده، على إن أسلمت له ولده الصغير منها، يكون
عنده أنه يرد إليها، وليس ذلك بمنزلة الحرة التي صالحها على أن تسلمهم
إليه، فذلك جائز ولا يرد إليها.
قال محمد بن رشد: مثل هذا في سماع أبي زيد من كتاب العتق، وقد روي عن ابن
القاسم أن ذلك يلزمها بمنزلة الحرة. حكى ابن المواز عنه القولين جميعا،
والأصل في هذا الاختلاف، أنه لما أعتقها على أن أسلمت إليه ولده منها، حصل
إسقاطها لما يجب لها من حضانة ولدها في حال العتق معا، فمرة رأى الإسقاط
مقدما على العتق، فلم يلزمها إياه، إذ لم تلتزمه إلا في حال رقها، وفي حين
لا تملك نفسها، ويقدر السيد فيه على إكراهها، فصارت في حكم المغلوبة على
ذلك، ومرة رأى العتق مقدما على الإسقاط فألزمها إياه، إذ لم تلزمه إلا في
حال حريتها بعد عتقها، فأشبهت الحرة يصالحها على أن تسقط حقها في حضانة
ولدها.
والأظهر أن ذلك لا يلزمهما؛ لأنهما إذا وقعا معا، فقد وقع كل واحد منهما
قبل كمال صاحبه، وعلى هذا الأصل وقع الاختلاف في الرجل يعتق أمته على أن
تتزوجه بكذا وكذا وقد مضى القول على ذلك مستوفى في رسم حلف من سماع ابن
القاسم من كتاب النكاح، وفيه بيان هذه المسألة.
[مسألة: نصراني أسلمت امرأته فأراد أن يسلم
فقالت أفتدي منك بمالي]
مسألة وقال: في نصراني أسلمت امرأته، فأراد أن يسلم، فقالت: أفتدي منك
بمالي، على أن لا تسلم حتى أملك أمري أو على أن لا يكون ذلك على رجعة،
ففعل، ثم أسلم. قال: إن افتدت منه قبل أن
(5/271)
يسلم، لم يثبت ذلك عليه، ورد ما أخذ منها،
وكان له عليها الرجعة إن أسلم في عدتها؛ لأنه لو طلقها وهو كافر، لم يلزمها
من طلاقه شيء، فجعله بمنزلة طلاقه.
قلت: فلو كانت افتدت منه على ذلك فلم يسلم أو أسلم بعد انقضاء عدتها، أكان
يكون له للذي افتدت به منه؟ قال: فلا أرى له شيئا وأرى أن تأخذه منه.
قال محمد بن رشد: وهذا بين على ما قال؛ لأن الخلع طلاق، فلما كان طلاقه
باطلا غير لازم كان خلعه مردودا غير ثابت، وبالله التوفيق لا شريك له وبه
أستعين.
[الجارية تنكح ويدخل بها زوجها قبل أن تبلغ
المحيض]
ومن كتاب بع ولا نقصان عليك قال مالك في الجارية تنكح، ويدخل بها زوجها قبل
أن تبلغ المحيض، فيملكها زوجها فتطلق نفسها هل يلزمها ذلك الطلاق؟ فقال
مالك: نعم، يلزمها ما طلقت إذا ملكت إذا كانت قد بلغت مبلغا يعرف ما ملكت
أن يوطأ مثلها.
قلت لابن القاسم: وما الفرق بينها وبين الغلام؟ فإن الغلام قد يكون قد عقل
وخالط الرجال، فلا يجوز طلاقه إذا لم يحتلم. قال: لأن الجارية إذا بلغت
مبلغا يوطأ مثلها، كان الحد على من قذفها، وإن الغلام لا يكون الحد على من
قذفه حتى يحتلم.
قال محمد بن رشد: تفرقته هذه بين تمليك الجارية قبل البلوغ، بأن الحد يجب
على من قذف الجارية قبل البلوغ إذا كانت قد بلغت مبلغا يوطأ مثلها، وأن
الغلام لا حد على من قذفه حتى يحتلم صحيح؛ لأن الرجل لو ملك أمر امرأته
صبيا أو نصرانيا فطلقها عليه للزمه ذلك، وإن كان لا حد على من قذف واحدا
منهما، وإنما جاز قضاء المملكة قبل البلوغ؛ لأن الطلاق
(5/272)
إنما هو من الزوج الذي ملكها أمرها، لا
منها، إذ الطلاق إنما هو للرجال لا للنساء، وقد مضى في رسم الشجرة من سماع
ابن القاسم، في حكم المملكة قبل البلوغ. ومضى في رسم تأخير العشاء من سماع
ابن القاسم من كتاب طلاق السنة، القول في طلاق المناهز للاحتلام فلا معنى
لإعادة ذلك، وبالله التوفيق.
[جعل أمر امرأته بيد ثلاثة نفر]
ومن كتاب لم يدرك من صلاة الإمام وقال: في رجل
جعل أمر امرأته بيد ثلاثة نفر، فطلق أحدهم واحدة، وطلق الآخر
اثنتين، وطلق الآخر ثلاثا، قال: تكون واحدة لأنهم كلهم اجتمعوا على واحدة،
وهم بمنزلة الشهداء لو أن رجلا شهد على أنه طلق امرأته ثلاثة، وشهد آخر
بأنه طلق امرأته واحدة، كانت واحدة؛ لأنهما قد اجتمعا على واحدة.
قال محمد بن رشد: أما الذي جعل أمر امرأته بيد ثلاثة نفر، فطلق أحدهم واحدة
والآخر اثنتين والآخر ثلاثا، فإنها تكون واحدة كما قال، إذ لا يلزمه إلا ما
اجتمعوا عليه كالحكمين إذا اختلفا في عدد الطلاق، ولو لم يطلق أحدهم شيئا
لم يلزمه مما طلق الآخران شيء.
وقد قيل: إنهم إذا اختلفوا لم يلزمه شيء وهو قول أصبغ في هذا وفي الحكمين،
أنهما إذا اختلفا لم يلزم الزوج شيء، من ذلك، ورواه عن ابن القاسم وأما
قوله: إنهم بمنزلة الشهداء إلى آخر قوله: فهو صحيح على المشهور من مذهب ابن
القاسم، وروايته عن مالك، في أن الشهادة على الطلاق تلفق، اتفقت أو اختلفت،
إذا كانت في مجلسين، وأنه يؤخذ بالزائد فيها إذا اختلفت وكانت في مجلس
واحد، فإذا شهد أحد الشاهدين على رجل أنه طلق امرأته واحدة، وقال الآخر: بل
إنما طلقها ثلاثا، وشهد أنه طلقها ثلاثا في غير ذلك المجلس، فهي واحدة؛
لأنهما قد اجتمعا على الواحدة، فإن كان منكرا للطلاق جملة حلف أنه ما طلق
شيئا ولزمته واحدة، وإن كان مقرا بالواحدة، حلف أنه ما طلق إلا واحدة ولم
يلزمه
(5/273)
غيرها. ويأتي على قول ربيعة في المدونة وما
يأتي في رسم حمل صبيا من سماع عيسى من كتاب الشهادات أن الشهادات لا تلفق،
ويحلف المشهود عليه على تكذيب شهادتهما، ولا يلزمه شيء، ولو كانوا ثلاثة،
فشهد أحدهم أنه طلق واحدة، والثاني أنه طلق اثنتين، والثالث أنه طلق ثلاثا،
للزمه على القول الأول تطليقتان ويبرأ من الطلقة الثالثة بيمينه، كانا في
مجلس واحد أو في مجلسين، وعلى القول الثاني يحلف ولا يلزمه شيء، ولو كانوا
أربعة فشهد الاثنان أنه طلق واحدة، وشهد الاثنان أنه طلق اثنتين في ذلك
المجلس، للزمته اثنتان على القول الأول، وعلى القول الثاني يقضى بأعدل
الشهود، فإن تكافئوا في العدالة سقطتا، وحلف المشهود عليه، ولم يلزمه شيء
ولو كان ذلك في مجلس آخر، للزمته طلقتان على القول الأول، وبرئ من الثالثة
مع يمينه، ولزمته على القول الثالث ثلاث تطليقات.
[قال لامرأته إن غبت عنك سنة فأمرك بيدك]
ومن كتاب سلف دينارا وسئل عمن قال لامرأته: إن غبت عنك سنة فأمرك بيدك،
فقالت: قد اخترت ألا أريد غيرك، ثم غاب عنها سنة فأرادت أن تختار، قال: ليس
ذلك لها.
قال محمد بن رشد: هذا على ما مضى في رسم أوصى من قول مالك والليث، ويأتي
على ما روى أصبغ عن أشهب في كتاب النكاح، أن ذلك لها، وقد مضى بيان ذلك
هناك، وبالله التوفيق.
[مسألة: جعل أمرها بيد الأخرى ثم وقع بين
المرأتين شر]
مسألة وقال: في رجل كانت تحته امرأتان، فجعل أمر الواحدة بيد الأخرى، يمكث
خمس سنين، يطأ التي جعل أمرها بيد الأخرى، ثم وقع بين المرأتين شر،
فطلقتها، فقال لها زوجها: إن كانت طالقا فأنت طالق. قال ابن القاسم: ليس
عليه فيهما شيء جميعا، لا
(5/274)
يطلق هذه ولا هذه؛ لأنه قد يطأ التي جعل
أمرها بيد الأخرى، فلما كان يطأها انفسخ ما كان جعل بيد الأخرى حين لم تطلق
عليه حتى وطئ.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة في المعنى، وقد بين ابن القاسم وجه
قوله فيها بما لا مزيد عليه، وبالله التوفيق.
[قال لامرأته أمرك بيدك وهو جاهل يظن أن ذلك
طلاق]
ومن كتاب إن خرجت من هذه الدار وسئل مالك عن رجل قال لامرأته: أمرك بيدك
وهو جاهل يظن أن ذلك طلاق، قال: إن كان أراد بقوله أمرك بيدك أنت طالق، فهي
طالق.
قال محمد بن رشد: هذا صحيح على ما في المدونة من أنه ما ليس من ألفاظ
الطلاق فلا يلزم به الطلاق، إلا أنه ينوى باللفظ بعينه الطلاق وقد قيل: إنه
لا يلزمه به الطلاق، وإن نواه، وهو قول مطرف في الثمانية وروايته عن مالك،
ويقوم من قول ابن الماجشون في كتاب الظهار من المدونة. وقال أشهب: لا يلزمه
بذلك الطلاق، إلا أن يريد أنها طالق إذا.. . من اللفظ لا طالق بنفس اللفظ
وهو قول لا وجه له.
[مسألة: ملك امرأته فقضت بالبتة فلم ينكر عليها
وادعى أنه جاهل]
مسألة وقال مالك: من ملك امرأته فقضت بالبتة فلم ينكر عليها وادعى أنه
جاهل، وظن أن ذلك ليس له، وأراد أن ينكر عليها حين علم، قال: ليس ذلك له،
ولا يعذر بالجهالة.
قال محمد بن رشد: هذه إحدى المسائل التي مضى القول فيها في رسم يوصي إن
الجاهل لا يعذر فيها بجهله، فلا معنى لإعادة ذكرها، والأصل في هذا أنه ما
كان يتعلق به حق لغيره، فلا يعذر الجاهل فيه بجهله،
(5/275)
وما لا يتعلق به حق لغيره، فإن كان مما
يسعه ترك تعلمه، عذر بجهله، وإن كان مما لا يسعه ترك تعلمه، لم يعذر فيه
بجهله، فهذه جملة كافية، يرد إليها ما شذ عنها، وبالله التوفيق.
[مسألة: طلق امرأته طلقة فقالت له: خذ مني عشرة
دنانير ولا تراجعني]
مسألة وسألت ابن القاسم عن رجل طلق امرأته طلقة، فقالت له: خذ مني عشرة
دنانير، ولا تراجعني، ففعل، فهل تكون عليه طلقة أخرى؟ قال: هذا صلح، وقد
بانت منه بتطليقتين، وتبنى على ما اعتدت، وإنما تبتدئ العدة التي تراجع ثم
تطلق، فإن تلك تبتدئ العدة من آخر ما طلقها، مس أو لم يمس، إلا المولى،
فإنه إن قال أنا أمس فلم يمس، لم تبتدئ العدة ومضت على عدتها.
قال محمد بن رشد: أما قوله في التي قالت لزوجها: خذ مني عشرة دنانير ولا
تراجعني: إنه صلح، فهو خلاف ما في سماع زونان عن أشهب، عن ظاهر ما في هذه
الرواية، إذ لم يفرق فيها بين أن يكون قد قبض العشرة أو لم يقبضها ويحتمل
أن تتأول هذه الرواية على أنه قد قبض العشرة؛ لأن معنى قول أشهب في سماع
زونان على أنه لم يقبض العشرة، فلا يكون ذلك اختلافا من القول، إذ لا يتصور
الخلاف إلا إذا رجع عن قوله قبل أن يقبض العشرة، وظاهر قول أشهب هذا أن
الأمر لا يلزمه وإن قبض العشرة، وله أن يردها بعد أن قبضها ويراجعها، وهو
بعيد؛ لأنه إذا قبض العشرة فقد ألزم نفسه ما واجبته عليه المرأة من إسقاط
حقه في مراجعته إياها، ولزمته بذلك طلقة بائنة قولا واحدا، وإنما الخلاف
إذا قال لها لما جاءته بالعشرة: لا أخذها، ولا أترك حقي في المراجعة؛ لأني
لم أوجب ذلك على نفسي، وإنما وعدت به، وذلك على قياس المسألة التي مضى
الكلام عليها في أول سماع
(5/276)
ابن القاسم. وهي: إذا قالت المرأة لزوجها:
خذ مني عشرين دينارا وفارقني، فلما جاءته بها، قال: لا آخذها ولا أفارقك،
ويدخلها القول الثالث، وهو: الفرق بين أن تبيع في العشرة متاعها، وتكسر
فيها عروضها، وبين أن تأتيه بها من غير شيء يفسده على نفسها، فينبغي أن لا
يحمل قول أشهب على ظاهره، وأن يتأول على ما يصح، فيقال: إن معنى قوله: ويرد
العشرة أن يتركها لها ولا يأخذها منها وذلك جائز في الكلام، كما يقول
الرجل: رددت السلعة بالعيب، وإن كان لم يقبضها بعد؛ لأن ما وجب للرجل قبضه،
فكأنه قد قبضه. وإذا حمل قول أشهب هذا على أنه لم يقبض العشرة احتمل أن
يحمل ما في رسم خرجت من سماع عيسى على أنه قبض العشرة، فلا يكون ذلك
اختلافا من القول، وبالله التوفيق.
وإن قالت له: خذ مني عشرة دنانير، على ألا رجعة لك علي، لكان صلحا باتفاق.
وقد مضى ذلك في رسم باع غلاما من سماع ابن القاسم. وقوله: إنها تبنى على
عدتها، بخلاف ما لو راجعها ثم طلقها صحيح، وقد مضى القول فيه مستوفى في رسم
سلعة سماها من سماع ابن القاسم من كتاب طلاق السنة فلا معنى لإعادة ذلك.
[مسألة: صالح الرجل امرأته أو خالعها فقال لها
أنت طالق]
مسألة وقال ابن القاسم: إذا صالح الرجل امرأته أو خالعها فقال لها: أنت
طالق، كانت تطليقتين: طلقة للخلع، وطلقة لما طلق، ولو قال: لم أرد إلا طلقة
الخلع، لم ينو في ذلك، وكانت تطليقتين، ولو قال لها: أنت طالق، طلقة الخلع،
لم يلزمه إلا واحدة.
قال محمد بن رشد: أما قوله في التي خالع زوجته وقال لها: أنت طالق إنها
تكون طلقتين، فهو مثل ما في المدونة. ومثل قول عثمان - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - فيها: إن الخلع مع الطلاق تطليقتان، وذلك إذا قال: قد خالعتك أنت
طالق، أو قد خالعتك وأنت طالق نسقا لا صماتا بين ذلك. وأما إن خالعها
(5/277)
وسكت، ثم قال بعد ذلك: أنت طالق، فلا يلزمه
الطلاق؛ لأن الخلع طلاق بائن، فلا يرتدف عليه الطلاق. وقد كان ابن عتاب
يفتي بأن من بارا امرأته في الحيض هذه المباراة، التي جرا عرف الناس عليها،
ثم طلقها بعد ذلك، إن الطلاق يرتدف عليه فيها، ما لم تنقض العدة.
وذلك استحسان على غير قياس، مراعاة لقول من يراها طلقة رجعية. وقد حكى عن
أبي المطرف بن فرج أنه أفتى بأن يجبر على الرجعة من بارا امرأته في الحيض،
وكان يحمل ذلك منه على الوهم والخطأ، وليس بخطأ صراح، ووجهه مراعاة الخلاف
في كونها طلقة رجعية.
وأما إن قال لها: أنت طالق طلقة الخلع، فبين أنه لا يلزمه على مذهب ابن
القاسم إلا طلقة واحدة، وتكون بائنة؛ لأن ابن القاسم لا يراعي في هذا اللفظ
دون المعنى، فيقول: إن الرجل إذا قال لامرأته: قد خالعتك أو باريتك، أو
صالحتك، أو طلقتك طلاق المباراة، أو طلاق الصلح، أو أنت مبراة أو مصالحة،
أو مخالعة، أو ما أشبه ذلك من الألفاظ، فهي واحدة بائنة على سنة الخلع، وإن
لم يأخذ من الزوجة على ذلك شيئا.
وابن الماجشون يرى ذلك كله بتاتا من أجل أنه أراد بها بائنة منه بذلك، ولا
تبين المرأة من زوجها إلا بالخلع أو الثلاث، فإذا لم يكن خلعا كان بتاتا،
فيراه بمنزلة من قال لزوجته: أنت طالق طلقة بائنة، ومطرف يرى ذلك كله طلاقا
رجعيا، ووجه قوله إنه إنما لم يلفظ بالثلاث، ولا أراد البتات وجب أن يكون
الطلاق رجعيا؛ لأن الطلقة الواحدة لا تبين فيها المرأة إلا بخلع يأخذه
منها.
وقد روى ذلك ابن وهب عن مالك فيمن خالع وأعطى قال في المدونة: وروى غيره
أنها بائن، وأكثر الرواة على أنها غير بائن؛ لأنها إنما تبين من زوجها
بخلع، فإذا لم يأخذ منها شيئا فليس بخلع، وإنما هو رجل طلق. وأعطى وبالله
بالتوفيق.
[مسألة: سألت من زوجها أن يخيرها أو تعطيه عشرة
دنانير]
مسألة قال ابن القاسم: قال مالك: لو أن امرأة قالت لزوجها: خذ مني عشرة
دنانير، وخيرني، ففعل ذلك، وأجابها وأخذ العشرة، أو
(5/278)
قالت له: ملكني على مثل ذلك، ففعل، أو أراد
الصلح، فقال لها: ضعي عني كذا وكذا وأصالحك فتراوضا على ذلك، وأجاب بعضهما
بعضا، إلا أنه لم يقع الصلح ولا الإشهاد بينهما، ثم بدا للمرأة في هذه
الوجوه بعد أن تواجبا عليها.
قال مالك: أما التي سألت من زوجها أن يخيرها أو تعطيه عشرة دنانير، ففعل
وخيرها، فإنها إن اختارت نفسها كانت ألبتة، وإن أبت أن تختار وقالت قد بدا
لي، فإن العشرة دنانير تكون للزوج، اختارت أو لم تختر، وكذلك التي سألت
التمليك أنها إذا بدا لها وأبت أن تقضي، فالعشرة الدنانير للزوج، قضت أو لم
تقض، فإن قضت ولم ينكر ذلك عليها زوجها في مجلسها فهي البتة، ولا تحل له
حتى تنكح زوجا غيره، وإن أنكر ذلك وقال: لم أملكك إلا واحدة، كان القول
قوله مع يمينه، وكانت طلقة بائنة يخطبها إن شاء مع الخطاب، وإن أراد الصلح
على ما ذكرت، فإنها إن بدا لها قبل الإشهاد، ووقع الصلح، فإن ذلك لها، ولا
غرم عليها، ولا شيء لزوجها مما سمت له، ولا يلزمه طلاق.
قال محمد بن رشد: لا اختلاف في أنه لا رجوع للمرأة في العشرة دنانير التي
أعطته على أن يملكها أو يخيرها، وإنما قد وجبت للزوج بما أعطاها من التمليك
والتخيير، قضت أو ردت، وإنما اختلف قول مالك هل يجوز التخيير والتمليك في
ذلك على سننها أم لا؟ فمرة رأى أنهما يحولان عن سنتهما فتقع الطلقة الواحدة
بكل واحد منهما بائنة كطلقة الخلع، بسبب ما أعطته من المال، فيكون للزوج أن
يناكرها في الخيار، كما له أن يناكرها في التمليك، وتكون الطلقة أو
الطلقتان في ذلك بائنتين، فلا يكون للزوج عليها في ذلك رجعة، وهو قول ابن
القاسم في هذه الرواية، إذ نص فيها على أنه إذا ناكرها كانت طلقة بائنة،
ومرة رأى أن التخيير والتمليك لا يحولان بذلك عن سنتهما معا، فلا يكون لها
أن تقضي في الخيار إلا بالثلاث، ولا يكون للزوج أن يناكرها فيها ويكون له
أن يناكرها في التمليك، وتكون له الرجعة، وهو الذي
(5/279)
يأتي على ما مضى من قول مالك في رسم سعد،
من سماع ابن القاسم، وقد مضى القول على هذا هناك. وأما إذا تداعيا إلى
الصلح، وتراضيا عليه، وأجاب بعضهما بعضا إليه، فلكل واحد منهما أن يرجع
عليه ما لم يقع الصلح ويمضياه على أنفسهما، فإن وقع لم يكن لواحد منهما
الرجوع عنه، ولزمهما التشاهد عليه. وقد مضى هذا المعنى في رسم من سماع ابن
القاسم، وهو الذي يأتي على ما في المدونة، وبالله التوفيق.
[مسألة: اصطلح الرجل وامرأته على الفراق فقال
لها قد خيرتك فاختارت نفسها]
مسألة وقال مالك: إذا اصطلح الرجل وامرأته على الفراق، فقال لها: قد خيرتك
فاختارت نفسها، فإن ذلك الخيار لا يكون ألبتة، وإنما هي طلقة واحدة بائنة؛
لأن الخيار في هذا ليس بخيار، وإنما هو صلح، فكل خيار لم تشتره المرأة، ولم
يكن من الرجل إلا على وجه الصلح، فإن ذلك لا يكون إلا طلقة واحدة.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة والقول فيها في رسم الشجرة من سماع
ابن القاسم، وتكررت أيضا في رسم أوصى من هذا السماع فلا وجه لإعادة القول
فيها.
[مسألة: كان لامرأته عليه حق فنجمته عليه في
أشهر مختلفة]
مسألة وسئل عن رجل كان لامرأته عليه حق، فنجمته عليه في أشهر مختلفة، على
أن إن لم يوفها كل نجم عند حلوله، فأمرها بيدها، فيحل نجم تقضي، فتختار
نفسها. قال: إن مسها بعد حلول الأجل، أو ضاجعها، أو تلذذ بها، أو كان معها
في بيت واحد، فلا أرى لها في ذلك النجم خيار، إلا أن تمنعه نفسها وتدفعه عن
نفسها بأمر يعرف عند الناس، فإن فعلت فلها الخيار متى ما اختارت ما كان، لا
يمسها ولا يقربها، وإن كان معها في بيت واحد، وادعت أنها منعته
(5/280)
نفسها حتى قضت، وادعى الزوج المسيس، فالزوج
مصدق، إذا كان يأوي إليها، ولها من الخيار في النجم الآخر الذي يحل، وفي
جميع النجوم التي وقتت له مثل ما كان لها.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة على أصولهم، وقوله فيها: إن لها أن تقضي
بعد حلول الأجل متى ما شاءت، ما كانت، لا يطأها زوجها ولا يقربها هو، مثل
قول مالك في المدونة في الأمة تعتق تحت العبد، إن لها الخيار، ما لم يمسها
زوجها. وقد مضى بيان هذا المعنى وما يتعلق به في رسم حلف من سماع ابن
القاسم، فأغنى ذلك عن إعادته هاهنا، وبالله التوفيق.
[مسألة: يخدم قبل أن يبني بأهله فتختار المرأة
نفسها]
مسألة وسئل عن الرجل يخدم قبل أن يبني بأهله، فتختار المرأة نفسها قال: لا
صداق لها، وكذلك النصرانية. تسلم قبل أن يبني بها، والأمة تعتق قبل البناء
بها، فتختار نفسها، قال: فلا صداق لها.
قال محمد بن رشد: هذا كله كما قال: لأن الله عز وجل قال: {وَإِنْ
طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ
لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] ، فلما لم يكن
واحد من هؤلاء مطلقا باختياره، لم يجب عليه نصف الصداق، ولا شيء منه. وقد
مضى هذا المعنى مشروحا في رسم الصلاة من كتاب طلاق السنة، وفي سماع سحنون
من كتاب النكاح فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[يقول لامرأته لأنت أحرم علي من أمي]
ومن كتاب أسلم وسئل عن الذي يقول لامرأته: لأنت أحرم علي من أمي قال: أراها
البتة.
(5/281)
قال محمد بن رشد: معنى هذا إذا أراد بذلك
الطلاق، وأما لو لم تكن له نية لكان ظهارا، فقد قال في المدونة: إنه إذا
قال: حرام كأمي أو مثل أمي ولا نية له إنه ظهار. قال: وهذا مما لا اختلاف
فيه، ولا فرق بين أن يقول: أنت حرام كأمي أو أنت أحرم من أمي في أنه ظهار،
وإذا لم تكن له نية، وذلك بين من سماع ابن القاسم من كتاب الظهار، فإذا
أراد بذلك الطلاق فهي البتة، على مذهب ابن القاسم، ولا ينوى في واحدة ولا
في اثنتين، وقال سحنون: ينوى فيما أراد من الطلاق، ولو قال: أنت حرام، ولم
يقل مثل أمي لكان طلاقا على مذهب ابن القاسم، وإن أراد به الظهار.
وحكى اللخمي أن لسحنون في العتبية أنه ينوى في أنه أراد بذلك الظهار، وليس
ذلك بموجود له عندنا في العتبية فأراه غلطا والله أعلم. وحكي عن يحيى بن
عمر أنه قال: يلزمه الطلاق، فإن تزوجها ولم يقربها حتى يكفر كفارة الظهار
قال: وهذا قول من لم يتبين له في المسألة حكم، والله أعلم.
[وطئ المرأة المملك طلاقها بعلم المملك ذلك فيها]
ومن كتاب جاع فباع امرأته وسأله رجل فقال: كانت تحتي امرأة فخطبت أخرى،
فقالت: لا أتزوجك إلا أن تجعل أمر امرأتك التي تحتك بيدي، قال: ففعلت
وتزوجتها على ذلك فأقامت شهرا وأنا مع امرأتي أياما أمسها فلما دخلت بها
طلقتها بالبتة قال: أكان عليك شرط أن أمرها بيدها حين تدخل عليها، أو لم
تذكر ذلك؟ قال: ليس علي إلا ما أخبرتك أن أمر امرأتي التي تحتي بيدك، فقال:
لا شيء بيدها إذا مسستها ووطئتها بعد أن جعلت ذلك بيدها، فلم تقض شيئا حتى
مسست ووطئت.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: وهو مما لا اختلاف فيه إن
وطئ المرأة المملك طلاقها بعلم المملك ذلك فيها يسقط ما له من
طلاقها. وقد مضى هذا في رسم سلف وغيره، وبالله التوفيق.
(5/282)
[مسألة: يجعل
زوجها أمرها بيدها إلى أجل إن لم يأت]
مسألة وسأله ابن عبد الحكم فقال له: المرأة التي يجعل زوجها أمرها بيدها
إلى أجل إن لم يأت، فتجاوز الأجل، ولم تقض شيئا، تنسى أو تجهل، قال: تحلف
بالله ما تركت ما كان بيدها من ذلك، ويكون القول قولها.
قال محمد بن رشد: قوله: فتجاوز الأجل، يريد بمثل الشهر والشهرين على ما مضى
في رسم حلف من سماع ابن القاسم، ولو أقامت أكثر من ذلك لعد ذلك منها رضى،
ولم يكن لها خيار، حسبما مضى القول فيه هناك، وإيجاب ابن القاسم اليمين
عليها هاهنا خلاف روايته عن مالك في الرسم المذكور من سماع ابن القاسم،
ومثل ما لمالك في كتاب ابن المواز، ولو أشهدت عند الأجل أنها تنتظره، وهي
على حقها لكان ذلك بيدها، وإن طال دون يمين، على ما في رسم شهد من سماع
عيسى من كتاب النكاح. وقد مضى في رسم الشهيدين الشريكين من سماع ابن القاسم
قبل هذا نحو هذا، وبالله التوفيق.
[مسألة: الأمة تعتق وهي حائض]
مسألة وسئل عن الأمة تعتق وهي حائض، هل لها أن تختار قبل أن تطهر؟ فقال: لا
تختار حتى تطهر، وقال ابن القاسم في غير هذا الكتاب: وإنما يكره أن تختار
وهي حائض، فإن فعلت جاز ذلك على الزوج.
قلت: فإن عتق زوجها قبل أن تطهر أترى ذلك يقطع خيارها؟ قال: لا أرى ذلك
يقطع خيارها؛ لأنها قد وقع لها الخيار، وإنما منع من ذلك حيضتها.
قال محمد بن رشد: قوله: إنها لا تختار حتى تطهر صحيح، إذ لا
(5/283)
يجوز إيقاع الطلاق في الحيض بحال، إلا
للمولى على اختلاف في ذلك من قول مالك، فإن فعلت، جاز على الزوج، ولم يجبر
على الرجعة؛ لأنه طلاق بائن. قد روي عن مالك أن للعبد الرجعة إن أعتق، فعلى
هذه الرواية إن اختارت نفسها في حال الحيض، فأعتق زوجها قبل أن تنقضي عدتها
أجبر على رجعتها.
وقوله: إنه إن أعتق زوجها قبل أن تطهر لم يقطع ذلك خيارها، ليس بخلاف
للمدونة من أنه إذا أعتق قبل أن تختار فلا خيار لها، بدليل قوله: لأنها قد
وقع لها الخيار، وإنما منعها من ذلك حيضتها، يريد، فلم يكن منها تفريط،
ولذلك كان لها الخيار، والتي لم تختر حتى عتق زوجها، وقد كان منها تفريط،
فلذلك لم يكن لها خيار، وهذا ظاهر الروايات، ويأتي على ذلك أنها إذا أعتقت
وأعتق هو بعدها، بفور ذلك قبل أن يكون منها تفريط في اختيارها نفسها، إن
لها الخيار، وقد ذهب ابن زرب إلى أن رواية عيسى هذه خلاف لما في المدونة.
وهو القياس؛ لأن الخيار إنما وجب لها من أجل نقصان مرتبته عن مرتبتها فإذا
ارتفعت العلة وجب أن يرتفع الحكم بارتفاعها والأول هو الظاهر من الروايات،
والله أعلم.
[بارا امرأته على مال أعطته وعلى أن ترضع ولده سنتين]
ومن كتاب الرهون وقال في رجل بارا امرأته على
مال أعطته وعلى أن ترضع ولده سنتين، هل يجوز أن تتزوج حتى يفرغ من
رضاعها؟ قال: أرى أن ينظر في ذلك، فإن كان لا يضر بالصبي، لم يحل بينهما
وبين التزويج، وإن كان في ذلك ضرر، لم تترك، وهو عندي بمنزلة من يسترضع
ولده من امرأة لا زوج لها، وأرادت التزويج فأرى أن ينظر في ذلك على وجه ما
وصفت لك.
قال محمد بن رشد: قد مضى في رسم الطلاق من سماع أشهب، القول في هذه المسألة
مستوفى فلا وجه لإعادته.
(5/284)
[جعل أمر امرأته بيد أبيها إن لم يأت بحقها
إلى سنة]
ومن كتاب إن أمكنتني وسئل عن رجل جعل أمر
امرأته بيد أبيها إن لم يأت بحقها إلى سنة، فأراد أبو الجارية سفرا
قبل الأجل، فجمع قوما وأشهدهم، وقال لهم: إن ختني جعل أمر ابنتي بيدي، إن
لم يأت بحقها إلى سنة، وأشهدكم أني قد زدته خمس عشرة ليلة بعد السنة، ثم
بدا له بعد ذلك فقال: لا أزيده شيئا فقال: ليس ذلك له، ولزوج ابنته الخمس
عشرة ليلة التي جعل له لا يكون لأبيها فيها قضاء في طلاقه حتى تمضي الخمس
عشرة ليلة بعد السنة، ثم يقضي إن أحب إن لم يأت بحقها.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن ذلك قد وجب للزوج، فليس له أن يرجع
فيه، وبالله التوفيق.
[جعل أمر امرأته بأيدي رجلين]
ومن كتاب العتق قال عيسى: وسألت ابن القاسم عن رجل
جعل أمر امرأته بأيدي رجلين، فقال: أمر
امرأتي بأيديكما، فطلقا جميعا واحدة، فقال: يجوز، إذا طلقا جميعا واحدة،
فإن طلق كل واحد منهما لم يجز، حتى يجتمعا جميعا على واحدة، أو عليهما
جميعا، وإن قال أمر امرأتي جميعا بأيديكما إن شئتما فهو مثله أيضا، وإن
قال: طلقا امرأتي، فأيهما طلق جاز طلاقه، وإن طلق كل واحد منهما طلقة جاز،
وإن طلقاهما جميعا كلتيهما جاز، وإن طلق واحدة منهما طلقة واحدة جاز، وإن
طلقهما جميعا واحد جاز، وذلك من قبل أنهما رسولان، فأيهما بلغ الطلاق جاز،
وإن طلق البتة، وقال الزوج: لم أرد إلا واحدة، كان القول قول الزوج، وإن
قال: طلقا امرأتي جميعا إن شئتما، فطلقا جميعا واحدة، أو طلقاهما جميعا
واحدة، أو طلق كل
(5/285)
واحد منهما واحدة، لم تجز حتى يجتمعا
عليهما جميعا؛ لأنه إنما قال: طلاق امرأتي جميعا إن شئتما بأيديكما، فإن
شاءا جميعا، وإلا فلا أمر لهما فيها.
قال محمد بن رشد: أما إذا قال: أمر امرأتي بأيديكما فلا اختلاف في أن ذلك
تمليك، وأن الطلاق لا يقع إلا باجتماعهما عليهما جميعا، أو على أحديهما.
وأما إذا قال: أعلما امرأتي بطلاقها، فلا اختلاف في أن ذلك رسالة، وأن
الطلاق واقع عليه، أعلماها أو لم يعلماها، وأما إذا قال: طلقا امرأتي فهذا
لفظ يحتمل الرسالة والتمليك.
واختلف على ما يحمل من ذلك، فقيل: إنه محمول على الرسالة حتى يريد التمليك،
وهو قول ابن القاسم هنا، وفي المدونة، إلا أنه حمل الرسالة على الإجماع
فرأى الطلاق واقعا عليه بنفس الرسالة، بلغاها الطلاق أو لم يبلغاها بمنزلة
قوله لهما: أعلما امرأتي بطلاقها وحمل الرسالة هنا على غير الإجماع، فرأى
أن الطلاق لا يقع عليه إلا بتبليغ من بلغها الطلاق منهما، كما لو وكل كل
واحد منهما على أن يطلق عليه، فإن طلق عليه جاز، وما لم يطلق لم يلزمه شيء،
وله أن يمنعه من أن يطلق عليه إن شاء بخلاف المملك الطلاق، وقيل؛ إنه محمول
على التمليك حتى يريد الرسالة، وهو قول أصبغ، وإياه اختار ابن حبيب.
وأما إذا قال: طلقا امرأتي إن شئتما فهذا تمليك، إلا أنه يقتضي أنه ليس
لهما أن يجتمعا على طلاق الواحدة، بخلاف قوله: أمر امرأتي بأيديكما؛ لأن
قوله: أمر امرأتي بأيديكما، معناه أمر امرأتي بأيديكما، تطلقان من شئتما
منهما أو جميعا إن شئتما، ولا يحتمل أن يكون معنى قوله طلقا امرأتي هذا
لجمعه إياهما في الطلاق. وهذا بين لا اختلاف فيه. والله أعلم ولا حول ولا
قوة إلا بالله العلي العظيم. وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد الكريم.
(5/286)
|