البيان
والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة [كتاب التخيير
والتمليك الثاني] [سأل ختنه أن يخلي
سبيله، فقال له الزوج لا تكثر علي الأمر في يديك]
(5/287)
من سماع يحيى بن يحيى من ابن القاسم من
كتاب الكبش قال يحيى: وسألت ابن القاسم عن الرجل يزوج ابنته البكر، رجلا
فتكرهه الابنة والأهل، فيسأله أبو الجارية أن يفارقها، فيكره ذلك، ويمسك
عنه زمانا، يرجو الاستصلاح للجارية، وإلى أهل الرجل، فتمادوا في الكراهة له
أعواما، وإن الرجل لقي ختنه يوما، فأقبل عليه وسأله أن يخلي سبيله، فقال له
الزوج: لا تكثر علي، الأمر في يديك، فاصنع ما شئت، فقال أبو الجارية لمن
حوله: قد أحسن وأجل، جزاه الله خيرا أما إذا جعلت الأمر بأيديهما فما لنا
عليك من سبيل، فقال له رجل ممن حضره: قد أمكنك الرجل، وجعل الأمر بيدك،
فقال أبو الجارية عند ذلك: أشهدكم أني قد اخترت ابنتي، وفرقت بينهما، فأطرق
الزوج قليلا، ثم قال: إني لم أرد ذلك، فماذا ترى أن يلزم الزوج بهذا القول؟
فقال: أرى القول قول أبي الجارية فيما طلق به من واحدة أو أكثر، وهو عندي
بمنزلة الذي يملك امرأته أمرها، فإن كان الزوج ناكر الأب إن زاد على طلقة،
أحلف وكانت طلقة بائنة؛ لأنه لم يبن بها. قيل له: وكيف ينوى وهو يزعم أنه
لم يرد طلاقا؟ فكيف يجوز له أن يدعي أنه نوى
(5/289)
واحدة، وقد أنكر ألبتة أن يكون أراد بقوله
شيئا من الطلاق؟ وما ترى قوله: لم أرد هذا إنكارا على الأب إذا جاوز طلقة؟
قال: ذلك له، وإن كان أنكر أن يكون أراد طلاقا. ويحلف وكذلك قال مالك.
قال محمد بن رشد: وقع في بعض الكتب، فأطرق الرجل طويلا، يريد أطرق مفكرا
فيما قضى به الأب من الفراق، وناظرا لنفسه فيما بين أن يسلمه أو ينكره،
فسواء كان ذلك قليلا أو كثيرا ما لم يطل الأمر حتى ينقضي المجلس، فيتبين
منه التسليم بفعل الأب، فلا يكون له بعد ذلك أن ينكر ما مضى في أول رسم إن
خرجت من سماع عيسى، وإنما قال: إن القول قول الأب فيما طلق به من واحدة أو
أكثر، لاحتمال قوله قد اخترت ابنتي، وفرقت بينهما، أن يريد بذلك الثلاث،
وأن يريد به الواحدة؛ لأن قول المملك الطلاق، يحمل على ما يحمل عليه قول
الزوج ابتداء، ولو قال الرجل لامرأته: قد فارقتك قبل الدخول، لنوي فيما
أراد بذلك من واحدة أو أكثر، فكذلك يسأل الأب هاهنا ما أراد بقوله، قد فرقت
بينهما، وقد مضى القول في أن الزوج يقبل منه نيته في أنه أراد واحدة، ويمكن
من الحلف على ذلك بعد أن أنكر أن يكون أراد بذلك الطلاق، وفيما يكون الحكم
إن أقام على قوله: إنه لم يرد بذلك الطلاق في رسم كتب عليه ذكر حق من سماع
ابن القاسم، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[صالح امرأته في مرضها على إن أعطته لفراقه إياها دارا وعرضا من العروض]
ومن كتاب الصبرة وسئل عن رجل صالح امرأته في
مرضها على إن أعطته لفراقه إياها دارا وعرضا من العروض، وتعجل قبض
ذلك، قال مالك: إن كان للذي أعطته قدر ميراثه منها فأدنى جاز له ذلك.
قلت له: أرأيت إن كان يوم أخذه قدر ميراثه، ويوم ماتت قيمة ما أخذ أكثر من
ميراثه منها أتراه جائزا؟ وكيف إن كان يوم أخذه أكثر من ميراثه، ويوم ماتت
قدر الميراث، وأدنى، متى ينظر إلى
(5/290)
قيمة ما أعطته؟ فقال: حين يقع الصلح
بينهما.
قلت: أرأيت إن هلك ماله أو بعضه قبل أن تموت، أيرجع الورثة على الزوج بشيء؟
قال: لا أرى ذلك لهم قد انقطع الأمر بينهم يوم وقع الصلح، فكأنه عندما حكم
واقع مضى بأمر جائز؛ لأن الذي أخذ الزوج، لو هلك لم يرجع على الورثة من
قيمته بشيء.
قلت له: أرأيت إن أعطته دارا أو أرضا؟ فقال الورثة: لا نجيز؛ لأن مثل هذا
إنما كنا أجمعين نقتسمه بالسهام، فإذا خصته به فنحن نخرج له القيمة،
ونأخذه. فقال ليس ذلك لهم؛ لأنه قد ضمنه ومصالحته إياها بالذي أعطته كبيع
من البيوع.
قال محمد بن رشد: اختلف في خلع المريضة على ثلاثة أقوال: أحدها: أن ذلك
جائز على ورثتها إذا خالعت بخلع مثلها. روى ذلك ابن وهب عن مالك، فعلى هذه
الرواية غلب الخلع على حق الورثة وجعله كبيعها وشرائها، يجوز إذا لم يكن
فيه محاباة بأن تخالع بأكثر من خلع مثلها.
والثاني: إن ذلك لا يجوز من غير تفصيل، وهو ظاهر قول مالك في المدونة وكتاب
ابن المواز. ووجه هذا القول أن ما خالعت به في مرضها، أرادت أن يأخذه الزوج
من رأس مالها، عاشت أو ماتت، وهو غير وارث، فوجب أن يبطل وإن كان أقل من
ميراثه منها. والقول الثالث: أن ذلك يجوز إن كان قدر ميراثها منها فأقل،
ولا يجوز إن كان أكثر من ميراثه منها، واختلف على هذا القول متى ينظر فيه،
فقيل يوم الصلح، فإن كان مثل ميراثه منها أو أقل أخذه، وإن كان أكثر من
ميراثه منها لم يكن له منه شيء إلا أن تصح من مرضها، ولا ميراث له منها على
حال، وهو قول ابن القاسم هاهنا.
وظاهر قوله في المدونة، وقيل يوم الموت، وهو قول أصبغ في الواضحة وقول ابن
نافع في المدونة، ويكون ما خالعت به على هذا القول موقوفا إن كان شيئا
بعينه، لا
(5/291)
تقضي فيه شيئا إلا أن تحتاج إليه فتنفقه،
فإن صحت أخذه إن كان قائما، أو ثمنه إن مات باستنفاقها إياه؛ وإن تلف كانت
مصيبته منه، وإن ماتت أخذه كله أو ما أدرك منه إن فات باستنفاق أو غيره إن
كان قدر ميراثه منها فأدنى، وإن كان أكثر من ميراثه منها لم يكن له شيء
منه، ولا ميراث له منها على حال، وإن كانت خالعت على شيء غير معين، وكانت
غنية لم يوقف عليها شيء منه، ولا ميراث له منها على حال، وإن كانت خالعت
على شيء غير معين، وكانت غنية لم يوقف على شيء من مالها، وكان لها أن تنفق
منه كما ينفق المريض في مرضه، فإن صحت مضى ذلك عليها، وإن ماتت في مرضها
نظر في ذلك على ما تقدم.
وقوله: إنها صالحته على أرض أو دار أو قيمة ذلك قدر ميراثه منها فأقل، إن
ذلك جائز على الورثة، ولا كلام لهم فيه، دليل على ما حكى سحنون عن بعض أهل
العلم، إنه لا يجوز للمريض أن يبيع من بعض ورثته أغبط ماله، وإن لم يحاب في
الثمن، وبالله التوفيق.
[مسألة: الصبية التي يوطأ مثلها يبني -بها
زوجها فتصالحه على مال]
مسألة وسئل عن الصبية التي يوطأ مثلها يبني بها زوجها فتصالحه على مال
تدفعه إليه، ولم تبلغ المحيض، أيجوز ذلك الصلح بينهما؟ فقال: نعم، أراه
جائزا تقع به الفرقة بينهما ويكون للزوج ما أعطته إذا كان ما أعطته يصالح
به مثلها.
قال محمد بن رشد: وقع في المدنية لمالك من رواية ابن نافع عنه مثل رواية
يحيى هذه، وزاد وإن كان أعطت أمرا يستنكر، ليس مثله يخالع به مثلها، رد
عليها جميع ما أعطته وثبت عليه الطلاق.
قال أبو بكر بن محمد: المعروف من قول أصحابنا: إن المال مردود، والخلع ماض،
وقاله ابن الماجشون في الواضحة: ولا اختلاف إن كانت ما خلعت به خلع مثلها،
هل يرد المال؟ لما في رده من الحظ لليتيمة مع نفوذ الطلاق على الزوج، أو لا
يرد؛ لأنه وقع على وجه نظر، لو دعا الوصي إليه ابتداء لفعله، وعلى هذا
يختلفون
(5/292)
في الصبي، يبيع أو يبتاع، أو يفعل ما يشبه
البيع والشراء، مما يخرج على عوض، ولا يقصد فيه إلى فعل معروف، وذلك سداد
ونظر من فعله يوم فعله فلا ينظر فيه الأب أو الوصي حتى يكون غير سداد،
بنماء أو حوالة سوق بزيادة فيما باعه، أو حوالة سوق بنقصان فيما ابتاعه،
فقيل: إنه ليس له أن ينقصه؛ لأنه إنما ينظر في فعله يوم وقع، وعلى هذا تأتي
رواية يحيى هذه، وما ذكرناه من رواية ابن نافع عن مالك في المدونة وما وقع
لأصبغ في الخمسة، وقيل له: أن ينقصه لأنه إنما ينظر في فعله يوم ينظر فيه،
وعلى هذا يأتي قول من قال في هذه المسألة: إن الخلع ماض والمال مردود، وهو
المشهور في المذهب. ويقوم ذلك أيضا من قول أصبغ في نوازله من كتاب المديان
والتفليس، وهو الذي يأتي على ما في كتاب كراء الأرضين من المدونة في أن ما
اشترى الوصي من مال اليتيم، يعاد في السوق؛ لأنه قال: إنه يعاد، ولم يقل:
إنه ينظر إليه يوم ابتاعه إن كانت قيمته يوم النظر فيه أكثر، وإذا قاله
فيما اشترى الوصي من مال اليتيم، فأحرى أن يقوله فيما باعه اليتيم، وبالله
التوفيق.
[مسألة: اليتيمة البالغ إذا كرهت زوجها فافتدت
منه وهي بكر لم يبن بها]
مسألة قيل لسحنون: ما تقول في اليتيمة البالغ إذا كرهت زوجها فافتدت منه
وهي بكر لم يبن بها؟ هل ترى ما أخذ منها الزوج هل يسوغ له وما تركت له
محطوطا عنه؟ وكيف إن قامت بعد ذلك تطلبه فيما أخذ منها وما تركت له؟ قال
سحنون: وأرى ذلك جائزا عليها، ولازما لها، ولا رجوع لها في شيء مما أعطته
أو وضعت عنه.
قال محمد بن رشد: هذا معلوم من مذهب سحنون إن البكر التي لم يول عليها بأب
أو وصي، أفعالها جائزة، إذا بلغت المحيض، وهو قول غير ابن القاسم في كتاب
النكاح الثاني من المدونة، ورواية زياد عن مالك، وقد قيل: إن أفعالها
مردودة ما لم تعنس أو تتزوج، ويدخل بها زوجها، وتقيم معه
(5/293)
مدة يحمل أمرها فيها على الرشد قبل العام،
وهو قول ابن الماجشون. وقيل: ثلاثة أعوام ونحوها. واختلف في حد تعنيسها على
خمسة أقوال: أحدها: ثلاثين سنة، وهو قول ابن الماجشون، وقيل أقل من
الثلاثين، وهو قول ابن نافع وقيل أربعون وهي رواية مطرف عن مالك وأصبغ وقيل
من الخمسين إلى الستين.
وهي رواية سحنون عن ابن القاسم وقيل حتى تقعد عن المحيض وهو قول مالك في
المدنية من رواية ابن القاسم عنه، وبالله التوفيق.
[قال الرجل امرأتي طالق واحدة بائنة للتي قد
دخل بها]
ومن كتاب الصلاة قال: وسمعت مالكا يقول: إذا قال الرجل: امرأتي طالق واحدة
بائنة، للتي قد دخل بها، فهي ألبتة؛ لأنه لو قال هي بائنة، ولم يقل طالق
واحدة بائنة، كانت البتة. قال: وإن قال هي طالق طلاق الخلع، كانت واحدة
بائنة، وكذلك لو قال قد خلعت امرأتي أو باريتها، أو افتدت مني، لزمته طلقة
واحدة بائنة، وكذلك يلزمه طلقة واحدة بائنة، إذا قال هي طالق طلاق الخلع.
قال: فإن قال لامرأته: قد خيرتك، فقالت: قد طلقت نفسي واحدة بائنة، إن ذلك
ليس بشيء؛ لأن المخيرة ليس لها أن تقضي إلا بفراق ألبتة، أو تقيم على غير
طلاق، قال: وإن قال لامرأته: قد ملكتك أمرك، فقالت: قد طلقت نفسي واحدة
بائنة، فإن أنكر عليها احلف ما ملكها إلا واحدة، وكان أحق بامرأته، إن أراد
ارتجاعها، ويكون الذي قضت به من قولها طلقت نفسي واحدة بائنة، وواحدة غير
بائنة، وإن لم ينكر عليها فهي ألبتة، وذلك أنه إذا قال لها: هو من قبل نفسه
من غير أن يملك امرأته امرأتي طالق واحدة بائنة، كانت ألبتة في رأيي.
قال محمد بن رشد: قال في المخيرة إذا قالت: قد اخترت واحدة بائنة، إن ذلك
ليس بشيء، وكان القياس أن يكون ثلاثا، كما يكون في
(5/294)
التمليك ثلاثا، إلا أن يناكرها، وكما يكون
ثلاثا، إذا قال هو لامرأته: ابتداء من غير تمليك ولا تخيير: أنت طالق واحدة
بائنة، وكذلك في المدنية من رواية عيسى عن ابن القاسم: إن الرجل إذا ملك
امرأته ألبتة، فقالت: قد طلقت نفسي واحدة بائنة، إنها ثلاث وليس له أن
يناكرها، وأنه إذا ملكها فطلقت واحدة بائنة فهي ثلاث، إلا أن يناكرها، ووجه
رواية يحيى أنه إذا خيرها، فإنما جعل لها أن تختار ثلاثا أو تترك، فإذا
قالت: قد اخترت واحدة بائنة، كانت بقولها واحدة، قد تركت ما جعل إليها،
واتهمت في قولها بائنة، إنها نادمة، ولم يصدق فيها، وواحدة هي من ألفاظ
المملكة، فإذا وصفت ببائنة، قيل لها: هي ثلاث، إلا أن يناكرها، وأما قوله
في الذي قال لامرأته: أنت طالق طلاق الخلع، أو قد خالعتك، أو باريتك، إنها
طلقة بائنة، فقد مضى ذلك وما فيه من الاختلاف في رسم إن خرجت من سماع عيسى،
وبالله التوفيق.
[سألت زوجها النفقة وقالت لا أضع ذلك عنك إلا
أن تجعل أمري بيدي]
ومن كتاب المكاتب وسألته عن امرأة سألت زوجها النفقة عند خروجه إلى سفره،
وقالت: لا أضع ذلك عنك إلا أن تجعل أمري بيدي، إن أقمت أكثر من سنة، فقال:
بل أجعل أمرك بيد فلان، إن أقمت عنك أكثر من سنة، فأجابت وفعل الرجل.
فلما أقام أكثر من سنة، أراد الرجل أن يطلق عليه، وكرهت المرأة فقال: قال
مالك: يجبر على اتباع قول المرأة؛ لأن ذلك إنما جعل بيده وثيقة لها.
قلت له: فإن لم ترفع ذلك إلى السلطان حتى يطلق عليه، قال: أرى الطلاق قد
وقع على الرجل الذي جعل ذلك بيده، إلا أن يكون السلطان قد تقدم إليه ونهاه،
وأعلمه أنه لا يجيز طلاقه، فإن تعدى أمر السلطان، لم يضر ذلك للذي جعل
التمليك بيد هذا المتعدي.
(5/295)
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة في
أول سماع عيسى من هذا الكتاب، ومضى القول عليه مستوفى في رسم استأذن من
سماع عيسى من كتاب النكاح، فمن أحب الوقوف عليه تأمله هناك.
[يجعل زوجها بيدها الخيار إلى أجل مسمى]
ومن كتاب الأقضية قال يحيى: وسألت ابن وهب عن المرأة
يجعل زوجها بيدها الخيار إلى أجل مسمى،
فلما حل الأجل، لم تقل شيئا، ولم تقض بطلاق ولا غيره، ثم بدا لها بعد
انقضاء الأجل: فأرادت أن تطلق نفسها بالذي كان من الخيار بيدها، فقال الذي
أخذ به في هذه الأجل ولها في نفسها وليس لها بيدها من طلاقها شيء، إذا لم
تقض به عند الأجل الذي جعل ذلك بيدها عنده، وهي عندي بمنزلة المرأة يخيرها
زوجها وهما قاعدان، فلا تقضي شيئا حتى يقوم عنها ويفترقان من مجلسهما غير
هارب عنها، ولا متعجل للقيام، ليقطع ما جعل بيدها، فلا يكون لها شيء مما
كان أعطاها إذا لم تقض به حتى افترقا من مجلسهما بحال ما وصفت لك، وكذلك
الذي يجعل الخيار بيدها عند أجل من الآجال فتركته عند الأجل، أرى ألا شيء
لها بعد انفصاله.
قال محمد بن رشد: جعل ابن وهب حكم التي وجب لها التمليك بانقضاء الأجل،
كحكم المواجهة بالتمليك في سقوط ما بيدها، بترك القضاء عند الأجل، الذي وجب
لها التمليك فيه، وذلك مثل قول أشهب في سماع زونان.
ومثل قول ابن القاسم في رسم شهد من سماع عيسى من كتاب النكاح خلاف المشهور
من مذهب ابن القاسم، وروايته عن مالك وقد مضى القول على هذه المسألة موعبا
في رسم حلف من سماع ابن القاسم من هذا الكتاب، وفي غير ما موضع فلا معنى
لإعادة ذلك، وبالله التوفيق.
(5/296)
[الرجل يصالح عن امرأته]
ومن كتاب أول عبد ابتاعه قال: وسألته عن الرجل
يصالح عن امرأته، أو عن رجل أجنبي، على أمر يدفعه إلى الذي يصالحه
من مال الذي يصالح عنه، فإن أنكر ذلك المصالح عنه، فهو في مال المصالح.
قال: وذلك جائز لازم للذي صالح، والغرم عليه إن كره الذي صولح عنه أن يقبل
ما أوجب عليه المصالح من الغرم.
قلت: وإن اشترط المصالح على الرجل أني إنما أدفع ما أصالح به من مالي، فإن
أنكر الذي أصالح عنه، فأنا أقوم عليه بمثل ما كان يطلبه الذي صالحت عنه إن
أنكر صلحي عنه وسخطه.
قال محمد بن رشد: ظاهر قوله في هذه المسألة أنه إنما أوجب على المصالح غرم
عن الزوجة بغير إذنها أو عن الغريم الذي عليه الدين بغير إذنه، وهو منكر
لما عليه من الدين، إذا لم يرض واحد منهما بالصلح من أجل أنه اشترط ذلك
عليه، وهو ظاهر قول ابن القاسم وروايته عن مالك في كتاب إرخاء الستور من
المدونة وقول ابن حبيب في كتاب الوثائق: إن المرأة ترجع على الزوج، ولا
يرجع الزوج على من صالحه عنها إلا أن يشترط عليه الضمان، وهو خلاف قول ابن
القاسم وروايته عن مالك في كتاب الصلح من المدونة وقول أصبغ في الواضحة وفي
نوازله بعد هذا من هذا الكتاب من أنه إذا صالح ضامن، وإن لم يشترط عليه أنه
ضامن؛ لأنه بمصالحته إياه أخرج امرأته من يده، أو طرح سائر دينه، فذلك
كالمبايعة.
وقال ابن دينار: إن صالح عن المرأة أبوها أو ابنها أو أخوها أو من له
قرابة، فهم ضامنون، وأما غيرهم فلا، ولم يجب على ما سأله عنه من اشتراط
المصالح عن الرجل، إنه يدفع ذلك من ماله، على أنه إن أنكر ذلك المصالح عنه
اتبعه بمثل ما كان يطلبه به، للذي صالحه عنه، والجواب عن ذلك أنه لا يجوز؛
لأنه مخاطرة وغرر وشراء دنانير مجهولة، بدنانير معلومة، فذلك في الحرام
البين الذي لا خفاء به، ولو اشترط أنه إن أنكر المصالح عنه، رجع في ماله،
وأخذه لما جاز
(5/297)
ذلك أيضا على قياس مسألة نوازل عيسى من
كتاب المديان والتفليس، فتدبر ذلك وبالله التوفيق. وأما إذا كان الذي عليه
الدين مقرا بما عليه، فصالح عنه بغير ما عليه، ففي ذلك ثلاثة أقوال قائمة
من المدونة. . أحدها أنه لا يجوز أن يصالح عنه بما يكون فيه مخيرا بين أن
يدفع ما عليه أو ما صالح به عنه إلا أن يكون التخيير يرجع إلى قلة وكثرة.
والثاني إن ذلك جائز، وإن كان مخيرا في كل حال، والثالث أنه يجوز إن كان
التخيير يرجع إلى ما يجوز تحويل بعضه في بعض، ولا يجوز إن كان التخيير يرجع
إلى ما لا يجوز تحويل بعضه في بعض، وهذه جملة سيأتي تفسيرها في غير هذا
الموضع إن شاء الله تعالى، وبه التوفيق.
[تصالح زوجها على عبد في الحضر]
ومن سماع سحنون من عبد الرحمن بن القاسم قال سحنون: وسألت ابن القاسم عن
المرأة تصالح زوجها على عبد في الحضر،
فوجد به عيبا أو يموت، فتدعي المرأة أنه مات بعد الصلح، وينكر الزوج، قال:
على المرأة البينة أنه مات بعد الصلح، أو حدث به عيب بعد الصلح.
قلت له: فإن ثبت أنه مات بعد الصلح، لا يكون فيه عهدة قال: لا، وليس هو مثل
البيع.
قال محمد بن رشد: اعترض بعض أهل النظر قوله في هذه المسألة، على المرأة
البينة أنه حدث به عيب بعد الصلح، وقال: هذا خلاف أصولهم في أن ما كان من
العيوب يقدم ويحدث، ولا يدرى إن كان حادثا بعد العقد، أو قديما قبله، القول
فيه قول البائع، فكان ينبغي أن يكون القول قول المرأة في أن العيب لم يكن
بالعبد يوم الصلح، أو لم يعلم أنه كان به يومئذ، إن كان مما يخفى، إلا أن
يكون للزوج بينة أنه كان به عندها، وليس ذلك بصحيح، بل المسألة صحيحة، لا
فرق بين العيب والموت إذا وجد العيب بالعبد قبل القبض؛ لأن ذهاب البعض
كذهاب الكل، وهو معنى المسألة،
(5/298)
وقد نص ابن حبيب على ذلك، وبين الفرق بين
وجود العيب الذي يقوم ويحدث قبل القبض أو بعده في البيوع من الواضحة. فانظر
ذلك، وقف عليه، والله المعين.
[اشتكت به امرأته أنه يضربها ويؤذيها]
من سماع عبد المالك بن الحسن من ابن وهب قال عبد المالك: سئل عبد الله بن
وهب عن رجل اشتكت به امرأته أنه يضربها ويؤذيها،
فكتب لها على نفسه كتابا إن عاد إلى أذاها فهي مصدقة فيما تدعي من أذاه
لها، وأمرها بيدها، تختار نفسها بطلاق البتة، فلما كان بعد أيام، أشهدت تلك
المرأة رجالا وزوجها غائب عنها، أن زوجها قد عاد، إلى آذاها، وأنها قد طلقت
نفسها، فأنكر الزوج أن يكون أذاها، وندمت المرأة فيما كانت أشهدت عليه
الشهود من شكيتها الأذى، وطلقت نفسها ألبتة، وأنكرت أن يكون أذاها وزعمت
أنها لعب بها وخدعت حتى كذبت على زوجها، فهل يلزمها وزوجها ما كان من
طلاقها نفسها ويجوز قولها: إن زوجها آذاها حتى أشهدت على طلاقها نفسها، ولا
يعرف ذلك إلا بما قالت يومئذ، فقال: قد بانت منه بالبتة، ولا تحل له حتى
تنكح زوجا غيره؛ لأنه قد أعطاها التصديق، وجعل القول قولها، وقد زعمت الضرر
واختارت عليه نفسها. فلم يبق بيده ولا بيدها قليل ولا كثير، ولا ينفعها
ندمها بعد ذلك، وتكذيبها نفسها، وقولها: خدعت ليس بنافعها بعد وقوع الطلاق
عليها.
وقال أشهب: سواء في جميع ذلك رجوعها، لا رجوع لها، ولكن ينظر متى ادعت أنه
قد أتى إليها ما وجب لها به التمليك وفارقت، فإن كان بين ذلك الأيام، أو
أقرت بأنها لم تفارقه إلا بعد افتراقهما من المجلس الذي آذاها فيه، فلا
خيار لها؛ لأنها تركت الخيار حين وجب لها، وإن كان ذلك قريبا أو كانت قد
قالت أو تقول الآن إنما
(5/299)
قلت لكم: إني اخترت في المجلس، فقد وجب
الفراق بينهما، وإن أنكرت أو كذبت نفسها.
قال محمد بن رشد: قول أشهب: إنها إن أقرت أنها لم تفارقه إلا بعد افتراقهما
من المجلس الذي آذاها فيه، فلا خيار لها، هو مثل قول ابن وهب في رسم
الأقضية من سماع يحيى: إن ذلك بمنزلة المواجهة بالتمليك سواء، يسقط حقها
بانقضاء المجلس الذي وجب لها فيه التمليك، على قول مالك الأول، ومثل قول
ابن القاسم في رسم شهد من سماع عيسى من كتاب النكاح، خلاف المشهور من قوله
وروايته عن مالك، والذي يأتي في هذه المسألة على المشهور من قول مالك، إن
ذلك بيدها وإن طال الأمر بعد الوقت الذي وجب لها فيه التمليك، بأذاه إياها
إذا منعته نفسها، بدليل امتناعها منه كالأمة تعتق تحت العبد، وقد مضى هذا
المعنى مشروحا مبينا في رسم حلف من سماع ابن القاسم قبل هذا.
وأما قول ابن وهب في إعمال التصديق الذي جعل إلى الزوجة، وإمضاء الطلاق
عليها، فلا اختلاف فيه، إذا لم يكن ذلك شرطا في أصل العقد، وقد اختلف إذا
كان التمليك بشرط التصديق في الضرر، مشترطا في أصل العقد.
فروي عن سحنون أنه قال: أخاف أن يفسخ قبل البناء، فإن دخل بها فلا يقبل
قولها إلا ببينة على الضرر. وكان ابن دحون يفتي بأن من التزم التصديق في
الضرر، إن ذلك لا يلزمه، ولا يجوز إلا بالبينة، ومن هذا المعنى مسألة الذي
يزوج أجيرا له جارية له على أنه إن رأى منه أمرا يكرهه، فأمرها بيده، وقد
مضى القول فيها في أول رسم من سماع ابن القاسم من كتاب النكاح، فقف عليه،
فإن الاختلاف الذي ذكرته فيها داخل بالمعنى في شرط التصديق في الضرر في أصل
العقد، والله الموفق.
[مسألة: قال لامرأته اختاري فنقلت متاعها]
مسألة وسئل عن رجل قال لامرأته: اختاري، فنقلت متاعها، فسئلت فقالت: لم أرد
شيئا، فقال: إن لم تكن اختارت فلا شيء لها.
(5/300)
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة
والقول فيها مستوفى في رسم كتب عليه من سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادته.
[مسألة: طلق امرأته تطليقة ثم قالت له أنا
أعطيك عشرة دنانير]
مسألة وقال أشهب: في رجل طلق امرأته تطليقة ثم قالت له: أنا أعطيك عشرة
دنانير، على أن لا تراجعني، فقال: إن شاء راجعها، فإن راجعها رد عليها
العشرة.
قال محمد بن رشد: قول أشهب هذا، خلاف قول ابن القاسم في رسم إن خرجت من
سماع عيسى، وليس خلافا لما في رسم باع غلاما من سماع ابن القاسم؛ لأنها
مسألة أخرى، لا اختلاف فيها.
وقد مضى القول هناك، وفي سماع عيسى، وظاهر قول أشهب هذا إن الأمر لا يلزمه
وإن قبض العشرة، وله أن يردها بعد أن قبضها ويراجعها، وهو بعيد؛ لأنه إذا
قبض العشرة، فقد ألزم نفسه ما واجبته عليه المرأة من إسقاط حقه في مراجعته
إياها، ولزمته بذلك طلقة واحدة، قولا واحدا.
وإنما الخلاف إذا قال لها لما جاءته بالعشرة: لا أخذها، ولا أترك حقي في
المراجعة؛ لأني لم أوجب ذلك على نفسي، وإنما وعدت به، وذلك على قياس
المسألة التي مضى الكلام عليها في أول سماع ابن القاسم، وهي إذا قالت
المرأة لزوجها: خذ مني عشرين دينارا، وفارقني، فلما جاءته بها قال: لا
آخذها ولا أفارقك ويدخل فيها القول الثالث، وهو الفرق بين أن تبيع بالعشرة
متاعها، وتكسر بها عروضها، وبين أن تأتيه بها من غير شيء تفسده على نفسها،
فينبغي ألا يحمل قول أشهب على ظاهره، وأن يتأول على ما يصح، فيقال: إن معنى
قوله: ويرد العشرة أي يتركها، ولا يأخذها منها، وذلك جائز في الكلام، كما
يقول الرجل رددت السلعة بالعيب، وإن كان لم يقبضها بعد؛ لأن ما وجب للرجل
قبضه، فكأنه قد قبضه، وإذا حمل قول أشهب هذا على أنه لم يقبض
(5/301)
العشرة، احتمل أن يحمل ما في رسم إن خرجت
من سماع عيسى على أنه قبض العشرة، فلا يكون ذلك اختلافا من القول، وبالله
التوفيق.
[ملك امرأته نفسها فقالت اخترت أمري]
ومن سماع أصبغ بن الفرج من ابن القاسم
من كتاب النكاح قال أصبغ: سمعت ابن القاسم يقول فيمن ملك امرأته نفسها
فقالت: اخترت أمري، فسئلت ما أردت بذلك، فقالت: الصلح فتفرقا على ذلك ثم
علم أنه صلح، فلا يراجعها إلا بنكاح جديد، وإن خيرها فقالت مثل ذلك، فهو
سواء، وهو صلح إذا كان قد رضي بذلك. قيل له: إنما ظن أنه يلزمه، فقال: أليس
قد رضيا وافترقا على الرضا. قال: هو صلح، قال أصبغ: هذا الجواب على رأي من
لا يرى قولها: اخترت أمري ولم تسم الصلح، وأراد به شيئا. وأنا لا أرى ذلك
الرأي؛ لأن قولها اخترت أمري في الخيار والتمليك فراقا لأنه عندي جواب له
للكلام إلى آخر قول أصبغ.
قال محمد بن رشد: إنما ألزمه الصلح الذي قالت المرأة إنها أرادته بقولها:
قد اخترت أمري في التخيير والتمليك، لرضى الزوج به، وافتراقهما عليه، ولو
لم يرض به، وأنكره لم يلزمه شيء في المسألتين جميعا؛ لأنه يرى قولها: اخترت
أمري طلاقا.
هذا ظاهر الرواية، ومعنى ذلك: إذا قالت أردت الصلح أو رضيت الصلح به، وأما
إن قالت: إنما أردت بذلك أني اخترت طلقة الصلح، أو طلاق الصلح، لا تنبغي
ألا يكون في التخيير شيئا، وأن يكون له أن يناكرها في التمليك، بمنزلة إذا
ملكها أو خيرها فقالت: قد اخترت واحدة بائنة، على ما مضى في رسم الصلاة من
سماع يحيى. وقد مضى القول على ذلك هنالك. ولا اختلاف في قولها اخترت نفسي
إن ذلك
(5/302)
ثلاثا، ولا تسأل المرأة عما أرادت بذلك،
ولا في قولها قبلت أمري إنها تسأل فيما أرادت بذلك، واختلف في اخترت أمري
وقبلت نفسي، فذهب أصبغ إلى أنهما جميعا ثلاث ثلاث، ولا تسأل ما أرادت بذلك،
وذهب أشهب إلى أنها تسأل فيهما جميعا. وذهب ابن القاسم، تسأل في اخترت
أمري، ولا تسأل في قبلت نفسي. فهذا تحصيل القول في هذه الأربعة ألفاظ،
وبالله التوفيق.
[مسألة: له أربع نسوة فسافر فقدم بخامسة فزعم
أنه قد كان خير امرأة من نسائه]
مسألة قال أصبغ: سئل ابن القاسم عن رجل له أربع نسوة، فسافر، فقدم بخامسة،
فزعم أنه قد كان خير امرأة من نسائه، فاختارت نفسها وسماها، وقالت المرأة:
لم يخيرني، قال: لا يقبل قوله، ويفرق بينه وبين الخامسة، ويدرأ عنه الحد
فيها إن كان أصابها، وتطلق عليه المرأة التي زعم أنه كان خيرها فاختارت،
وتستقبل العدة من يوم أظهر وأخبر أنه خيرها، وتستبرئ الأولى التي تزوجها،
وفرق بينهما نفسها بثلاث حيض، إن كان أصابها ودخل بها، ثم يكون خاطبا من
الخطاب فيها قال أصبغ مثله، وقال: فإن صدقته المرأة في الخيار وفي
الاختيار، فلا يصدق، ولا ينتفع بذلك، والجواب فيها على جواب التكذيب
والإنكار سواء في جميع ذلك.
قال محمد بن رشد: قول أصبغ تفسير لقول ابن القاسم، والمسألة كلها بينة
صحيحة؛ لأنه يؤخذ في الحكم الظاهر بما أقر به على نفسه من طلاق التي خيرها
فاختارت نفسها، ولا يصدق في الباطن على ذلك؛ لأنه مدع فيه ليصح له نكاح
الخامسة، فعليه إقامة البينة على ذلك.
وقوله: إنها تستقبل العدة من يوم أظهر وأخبر أنه خيرها، معناه العدة التي
يباح لها بالحكم أن تتزوج بانقضائها، وأما العدة التي تحل بها للأزواج في
باطن الأمر فيما بينها وبين الله، فمن يوم خيرها واختارت نفسها، وبالله
التوفيق.
(5/303)
[مسألة: يرسل
إلى امرأته يملكها أمرها]
مسألة وسمعته وسئل عن الرجل يرسل إلى امرأته يملكها أمرها، ثم يبدو له قبل
أن يبلغ لها ذلك الرسول، وكيف إن توانى الرسول، فذهب غيره ممن سمع ذلك منه
إليها، فقالت: قد اخترت نفسي، قال: قد وقع الفراق في هذا الوجه وخرج ما كان
في يده، وليس له أن يرد الرسول إذا كانت الرسالة على الإجماع، وإنما هو
بمنزلة الكتاب إذا كتب على الإجماع، فليس له أن يحبسه إلا أن يكون حين كتبه
أراد أن يستشير وينظر، فذلك له.
قال محمد بن رشد: قوله: وليس له أن يرد الرسول إذا كانت الرسالة على
الإجماع، يدل على أنه إذا كانت الرسالة على غير الإجماع، وعلى أنه يرد
الرسول إن أحب فذلك له، ولا اختلاف في هذين الوجهين البينين، وإنما
الاختلاف إذا أرسله ولم تكن له نية على ما هو محمول، فحمله في المدونة على
الإجماع حتى يريد غيره الإجماع، وفي رسم العتق من سماع عيسى على غير
الإجماع حتى يريد الإجماع، وقد مضى القول على ذلك هنالك، ولا أعلم في
الكتاب اختلافا أنه إذا كتبه، ولا نية له، أنه محمول على الإجماع.
ويلزمه الطلاق، ولا في أنه أكتبه على أن ينظر ويستشير، فإن رأى أن ينفذه
أنفذه، وإن رأى ألا ينفذه، لم ينفذه، فأرسل به ولا نية له أن الطلاق قد
لزمه حسبما ذكرناه في سماع أشهب من كتاب طلاق السنة، واتفاقهم على هذا في
الكتاب يقتضي على اختلافهم في الرسول، ويبين أن الأصح من القولين في ذلك ما
في المدونة، وبالله التوفيق.
[صالح امرأته وادعى أنه صالحها على عبدها فلان]
من مسائل نوازل سئل عنها أصبغ وسئل عن رجل صالح امرأته، وادعى أنه صالحها
على عبدها فلان، وادعت أنها صالحته على عشرة دنانير، وأنكرت دعواه في
العبد، فأقام شاهدين، فشهدا أنه إنما صالحها على العبد، وأقامت
(5/304)
هي أيضا شاهدين أنها صالحته على عشرة
دنانير، وزعم الشهود الأربعة أنهم حضروا صلحهما في يوم واحد، وساعة واحدة،
وكلمة واحدة، فقال شاهدان: لفظ لفظة، فصالح فيها على العبد ورضيت، وقال
آخران: بل تلك اللفظة التي لفظها قد حضرناها معكم. إنما صالحها على عشرة
دنانير.
قال أصبغ: هذه بينة قد أكذبت بعضها بعضا اجتمعت على أن اللفظة كانت واحدة،
واختلفتا فيما وقع به الصلح، فأرى الشهادة كلها مطروحة؛ لأن البينة متكافئة
ومكذبة بعضها بعضا، كأنها لم تشهد أصلا، فإن شاء الزوج أخذ العشرة التي
أقرت بها المرأة فذلك، وإلا فقد تم الصلح ولا شيء له.
قلت: فإن ادعى الزوج حين شهدت البينتان، أنه صالحها بالأمرين جميعا:
الدنانير، والعبد، قال: ذلك سواء؛ لأن البينة قد أكذبت بعضها بعضا فهي
مطروحة.
قال محمد بن رشد: قول أصبغ هذا صحيح على مذهب ابن القاسم؛ لأنه لم يختلف
قوله في أن الشهود إذا اختلفوا هكذا في نوعين، وتكافأت البينتان أنهما
تسقطان، وإنما اختلف قوله إذا شهدت إحدى البينتين بأكثر مما شهدت به البينة
الأخرى، فمرة قال: إنه يؤخذ بالبينة التي زادت، وهو المشهور من قوله، ومرة
قال: إنهما إذا تكافأتا سقطتا، كاختلافهما في النوعين. والقولان في
المدونة.
وقد فرق بين أن تكون الزيادة في المعنى دون اللفظ، مثل أن تشهد إحدى
البينتين بمائة، والثانية بخمسين، وبين أن تكون الزيادة في اللفظ والمعنى،
مثل أن تشهد إحدى البينتين بمائة وخمسين والثانية بمائة، وهي تفريقة حسنة،
لها وجه ظاهر.
وقد روى المدنيون عن مالك، أن الشهود إذا اختلفوا في النوعين، قضى
بشهادتهما جميعا، ولم يجعل ذلك تكاذبا، فعلى قوله: إن ادعى الزوج العبد
والدنانير، قضى له بهما جميعا، وإن ادعى العبد، قضى له به بشهادة من أحقه
له، وبالله التوفيق.
(5/305)
[مسألة: يقول
لامرأته أنت صلح أو أنت طالق طلاق الصلح]
مسألة وسألته عن الرجل يقول لامرأته: أنت صلح، أو أنت طالق طلاق الصلح، أو
قد صالحتك، أو يقول للناس: اشهدوا أني قد صالحت امرأتي والمرأة حاضرة أو
غائبة عالمة أو لم تعلم، راضية أو كارهة، قال: فذلك كله سواء، وهي طالق
طلقة بائنة، لا رجعة له عليها، أخذ منها شيئا أو لم يأخذ، فذلك كله سواء،
وكذلك إن قال لها: أنت مبارية، أو قال: قد طلقتك طلاق المباراة، أو باريتك،
أو قد باريتها، رضيت بذلك أو لم ترض، فهي طالق طلاق المباراة، وطلاق الصلح
في كل ما سألت عنه.
قال لي: وأما قوله: أنت طالق طلقة بائنة، فهذه كقوله: أنت بائنة. وألغى
قوله أنت طالق طلقة لقوله بائنة، فهي بائنة. وكذلك حين قال: أنت طالق طلاق
الصلح ألغى قوله: أنت طالق، وجعله صلحا، وضعف قول من يقول: إن قوله أنت
طالق طلاق الصلح، وقوله قد صالحتك، ولم ترض إن ذلك ثلاث.
قال محمد بن رشد: هذا كله مذهب ابن القاسم. وقد مضى في رسم إن خرجت من سماع
عيسى بيان مذهبه في ذلك وما فيه من الاختلاف فلا معنى لإعادته، وتكررت
المسألة أيضا في رسم الصلاة من سماع يحيى، وبالله التوفيق.
[مسألة: اشترط لامرأته كل امرأة يتزوجها عليها
فأمرها بيدها]
مسألة وقال: فيمن اشترط لامرأته كل امرأة يتزوجها عليها فأمرها بيدها،
فتزوج عليها سرا وكتمها، ثم طلق التي شرط ذلك لها قال ذلك بيدها وإن طلقها.
قال محمد بن رشد: ابن الماجشون لا يرى بيدها شيئا من ذلك بعد
(5/306)
طلاقها، ومعناه في الطلاق البائن على ما
روي عن سحنون وقد مضت المسألة والقول فيها في سماع أصبغ من كتاب النكاح،
وبالله التوفيق.
[مسألة: يأتي الجماعة فيقول لهم اشهدوا أني قد
خالعت امرأتي على كذا وكذا دينارا]
مسألة وسئل ابن نافع عن الرجل يأتي الجماعة فيقول لهم: اشهدوا أني قد خالعت
امرأتي على كذا وكذا دينارا، والمرأة غائبة، هل ترى لهذا خلعا، حضرت
المرأة، أو غابت أمضت الخلع أو أنكرته؟ قال: أراه خلعا بائنا، وتطليقة
بائنة إلا أن يكون أراد أكثر من ذلك منها، فيكون إلى ما أراد به من الأكثر،
ويقال للمرأة إذا حضرت أتمضين الذي ادعى عليك من عطيتك له في خلعك أم لا
تمضين؟ فإن أمضته له فكسبيل ذلك، وإن أبت مضى الخلع وكانت أملك بنفسها،
وحلفت له أنها لم تعطه شيئا ولم يكن له من الذي ادعاه من عطيتها قليل ولا
كثير، ويمضي الخلع.
قال محمد بن رشد: قوله: ويقال للمرأة إذا حضرت أتمضين ما ادعى عليك من
عطيتك له أم لا تمضين؟ يدل على أنه إنما أراد بقوله في مغيب المرأة: اشهدوا
أني قد خالعت امرأتي على كذا وكذا، أي اشهدوا على أني قد خالعتها قبل هذا
فيما بيني وبينها على كذا وكذا.
وهذا ما لا اختلاف فيه، أن الخلع له لازم، فإن أقرت المرأة بما ادعى عليها
أنها سمته له على الخلع لزمها، وإلا حلفت وسقط عنها والطلاق لازم له على كل
حال، وإنما الاختلاف إذا قال لهم وهي غائبة: أشهدكم أني قد خالعتها لقوله
هذا على كذا وكذا، هل يلزمها الخلع إن لم ترض أن تعطيه ما خالع عليه أم لا؟
على قولين وقد مضى ذلك في أول رسم من سماع ابن القاسم، وبالله التوفيق.
[مسألة: البكر يزوجها وليها ثم يباريها وليها]
مسألة قيل لأصبغ: ما تقول في البكر يزوجها وليها، ثم يباريها وليها
(5/307)
من زوجها برضاها، أو تباري هي عن نفسها،
ووليها ليس بوالد ولا وصي؟ وكيف إن كانت صغيرة لم تبلغ المحيض زوجها أبوها
ثم هلك عنها، فباراها زوجها قبل بلوغها وقبل دخوله بها، ثم تنتقض وتطلب نصف
صداقها؟ وكيف أن يباريها إلا بحميل يحمل له بما أدركه من قبلها في نصف
صداقها؟ هل يلزم الحميل حمالته إن رأيت أن لها نصف الصداق؟ قال: لا يجوز
عليها ما بارت به ما دامت في حال الصغر ولم تحض، أو السفه بالضعف، وحد
الولاية لو كان لها ولي، فهذا يرد ما أعطت أو بارت به عليها متى ما قامت،
ويمضي الفراق على كل حال بينهما؛ لأنه طلاق من الزوج.
وهذه مثل الذي يبارى عنها بغير علمها من أب أو أخ، فيمضي الفراق، ولها
الرجوع على زوجها بما وضع له، أو أعطى من مالها بغير علمها، فالصغيرة
والسفيهة واحدة، فافهم، والحميل الذي ذكرت في مسألتك للمباراة وما لحق بها
ضامن، إن كان ممن لا يولى على مثله أيضا، فالحميل هاهنا والذي بارا عن
المرأة بغير علمها ولا أمرها، سواهما غارمان، غير أن الزوج في هذا يرجع على
الذي عامله إذا رجعت عليه، المرأة، والذي بارى عن الصبية لا يرجع بشيء؛ لأن
الصبي لا يرجع عليه، والصبية بمنزلة السفيه الذي يبيع فيبطل ثمنه عنه، ولا
يكون للمشتري عليه فيه رجعة، وكذلك حميله. وحميله أولى بالبعد من الرجوع
بالصبية في مسألتك بهذا المجرى.
قال محمد بن رشد: قوله: إن البكر التي لا أب لها ولا وصي، إذا بارى عنها
وليها، أو بارت هي عن نفسها، وإن الصغيرة التي يزوجها أبوها فيهلك عنها، ثم
يباريها زوجها قبل البناء بها، يمضي الفراق عليه، ويرجع بما وضعت من صداقها
وهي صغيرة أو بكر سفيهة، أو وضعه وليها إذا لم يكن أبا ولا وصيا، بمنزلة
الذي يباري عنها بغير علمها أبوها أو أخوها يمضي الفراق على كل حال؛ لأنه
طلاق من الزوج، وترجع على زوجها بما وضع أو
(5/308)
أعطى له من مالها بغير علمها صحيح على مذهب
ابن القاسم خلاف قول سحنون في البكر التي لا أب لها ولا وصي، إن أفعالها
جائزة، وقد مضى ذلك له في رسم الصبرة من سماع يحيى، وقوله: إن الحميل الذي
تحمل للزوج بما أدركه من قبل البكر، أو الصغيرة، في مباراته إياهما ضامن إن
كان لا يولى على مثله صحيح أيضا، لا اختلاف فيه وسواء أقام الولي عنها
فأبطل ما وضعت عن الزوج، أو قامت هي عن نفسها، إلا أن يكون إنما تحمل بما
أدركه منها، فلا يلزمه ضمان، إلا أن تكون هي القائمة في ذلك عن نفسها.
قاله في نوازله من كتاب الكفالة والحوالة. وقوله: والحميل هاهنا، والذي
بارا عن المرأة بغير علمها ولا أمرها سواهما غارمان، هو مثل ما في كتاب
الصلح من المدونة. ومثل قول أصبغ في الواضحة: إن المصالح ضامن وإن لم يشترط
عليه للضمان، خلاف ظاهر ما في كتاب إرخاء الستور من المدونة.
وما مضى في أول رسم ابتاعه من سماع يحيى. وما ذكر ابن حبيب في كتاب
الوثائق، إنه لا ضمان عليه إلا أن يشترط عليه الضمان. وأما قوله: غير أن
الزوج يرجع في هذا على الذي عامله إذا رجعت عليه المرأة، والذي بارى على
الصبية لا يرجع بشيء، فمعناه: غير أن الزوج يرجع في هذا على الذي عامله،
وعلى الحميل الذي تحمل له إذا رجعت عليه المرأة، والذي بارى الصبية ولم
يباره عنها أحد، لا يرجع بشيء إذا لم يأخذ ضامنا.
وأما إذا أخذ ضامنا من الصبية في مباراته إياها، فإنه يرجع عليه، كما يرجع
على الذي بارى عن المرأة بغير علمها ولا أمرها، وإنما تفترق المسألتان، إذا
لم يأخذ هاهنا من الصبية في مباراته إياها، فلا يرجع عليها. ويرجع على الذي
بارى عن المرأة بغير علمها ولا إذنها، وإن لم يقل أنا ضامن، وقد قيل: إنه
لا ضمان عليه إلا أن يشترط عليه الضمان ذكرناه. ولابن دينار في المدينة قول
ثالث إنه إن كان أبا أو ابنا أو أخا فهم ضامنون، وأما غيرهم فلا، وبالله
التوفيق.
[مسألة: يصالح امرأته على عبد آبق]
مسألة قيل لأصبغ: فالرجل يصالح امرأته على عبد آبق وعلى إن
(5/309)
أعطاها هو عشرة دنانير، فقال: ينظر إلى
قيمة العبد يوم وقع الصلح، فإن كانت قيمته أكثر من عشرة دنانير، ردت المرأة
العشرة إلى الزوج، وكان لها من العبد مقدار العشرة، وللزوج ما بقي، مثل أن
تكون قيمته خمسة عشر، فيكون لها ثلثاه، وللزوج ثلثه.
قال أصبغ: فإن كانت قيمته عشرة فأدنى أمضيت ما صنعا، ومضت العشرة للمرأة
والعبد للزوج، وجعلته بسبيل الصلح، كأنها صالحته على العبد الآبق وحده، أو
كأنه صالحها على العشرة وحدها.
قيل له: فإن كان مكان العبد ومسألتي على حالها جنين أو ثمرة لم تطب أو لم
توبر متى ينظر إلى قيمة ذلك؟ قال أصبغ: أما في الجنين، فقيمته يوم ولدته
أمه وتم؛ لأنه قبل ذلك لم يكن شيئا، وفي الثمرة التي لم توبر ينظر لقيمتها
يوم أبرت؛ لأنها لم تكن قبل ذلك شيئا.
وقد صارت الآن ثمرة تصير للبالغ إن باع أو يشترط وإن لم تطب فيوم وقع
الصلح؛ لأنها كانت بعد ثمر، إلا أنها كانت في حال غرر وخوف ورجا، كحال
العبد في إباقه.
قال محمد بن رشد: لم يجر أصبغ في هذه المسألة على أصل؛ لأنه نقض البيع فيما
قابل العشرة من الآبق، وجعل للخلع من الآبق ما زاد على العشرة، وقال: إنه
إذا لم يكن في قيمة الآبق زيادة على العشرة، مضى البيع بينهما، ولم ينقض،
وكان يلزم إذا نقض البيع فيما قابل العشرة من الآبق، أن ينقض البيع في
جميعه إذا كانت العشرة مقابلة لجميعه، ولم يكن في قيمته زيادة على العشرة،
وكذلك لأصبغ في كتاب ابن المواز أنه إن كانت قيمته عشرة فأدنى، ردت العشرة
إلى الزوج، والآبق إلى المرأة.
وهو الذي يطرد على أصله، وكذلك لم يجر أيضا على أصل واحد في تقويم ما سمت
المرأة للزوج من الغرر، إذ قال في العبد الآبق وفي الثمرة التي قد أبرت ولم
يبد صلاحها إنه ينظر إلى قيمة ذلك يوم وقع الصلح، يريد على غرره، لو كان
يحمل بيعه على ذلك.
وقال في الجنين: إنه ينظر إلى قيمته يوم ولدته أمه، وكان يلزمه أن
(5/310)
يقول في الجنين، قيمته يوم وقع الصلح به
على غرره، كما قال في الثمرة التي لم تطب، وفي العبد الآبق، أو أن يقول في
الثمرة والآبق: إن القيمة تكون في ذلك يوم يحل البيع بطياب الثمرة ووجود
العبد الآبق كما قال في الجنين؛ إن القيمة تكون فيه يوم يحل بيعه، وهو يوم
ولادته، وكذلك قال سحنون: إن القيمة تكون في الآبق والشارد والجنين، يوم
يقبض ذلك الزوج.
وأما قوله في الثمرة التي لم توبر: إن القيمة تكون فيها يوم الإبار، فهو
خارج عن ذلك كله، إذ لم يقل: إن القيمة تكون فيه يوم وقع الصلح على غررها،
على ما قال في الآبق والثمرة التي أبرت، ولم يبد صلاحها، ولا قال: إن
القيمة تكون فيها يوم الطياب على ما قال في الجنين. وقول أصبغ في هذه
المسألة يأتي على قياس قول ابن نافع ومطرف في المصالح بشقص فيه شفعة عن
موضحتين، إحداهما عمدا والأخرى خطأ لأنه لم يجعل من قيمة الآبق للخلع الذي
هو مجهول إلا ما زاد على العشرة دنانير، المعلومة، كما لم يجعل ابن نافع
ومطرف من قيمة الشقص لموضحة العمد المجهول ديتها، إلا ما زاد على موضحة
الخطأ المعلوم ديتها، إلا أنه نقض أصله في آخر المسألة، والذي في كتاب ابن
المواز هو الذي يطرد على أصله، والذي يأتي فيها على قياس قول ابن القاسم في
الموضحتين، إذ جعل نصف الشقص للموضحة العمد، ونصفه للموضحة الخطأ؟ إذ قال:
إن الشفيع يأخذ الشقص بالشفعة بدية موضحة الخطأ وبنصف قيمة الشقص أن يكون
نصف الآبق العشرة دنانير، ونصفه للخلع للذي هو مجهول، فيفسخ البيع في نصفه،
وترد المرأة العشرة دنانير إلى الزوج، ويكون لها نصف الآبق، ونصفه للزوج.
والذي يأتي فيها على قياس قول المخزومي الذي جعل الشقص للموضحة العمد، وحمل
على ذلك دية موضحة الخطأ أن ينظر إلى قيمة الآبق، فيضم إلى ذلك العشرة
الدنانير، ثم ينظر ما يقع للعشرة من الجميع، فإن كان يقع من ذلك الثلث،
علمت أنه يقع للعشرة دنانير من العبد الآبق الثلث، وللخلع الثلثان، فيفسخ
البيع في الثلث، وترد العشرة إلى الزوج، ويكون للزوجة من العبد الثلث الذي
انفسخ فيه البيع، وللزوج الثلثان بالخلع، وهكذا قال سحنون في كتاب ابنه في
هذه
(5/311)
المسألة، قياسا على قول المخزومي الذي
استحسنه في مسألة الصلح بالشقص عن الموضحتين، إلا أنه قال: إن القيمة في
العبد الآبق، تكون يوم يقبض ذلك الزوج على ما ذكرناه من مذهبه في ذلك، وإذا
لم ير سحنون القيمة في العبد، إلا يوم يقبضه الزوج، فالذي يأتي على مذهبه
في ذلك، أنه إن عثر على الأمر قبل القبض، مضى الطلاق على الزوج وانفسخ
البيع جملة في العبد الآبق، فرجع إلى الزوجة تطلبه لنفسها، ورجعت العشرة
إلى الزوج، وكذلك يلزم على قول أصبغ في الجنين والثمرة التي لم توبر، إذ
قال: إن التقويم في الجنين، لا يكون حتى يوضع، ولا في الثمرة حتى توبر، وإن
عثر على ذلك قبل أن يوضع الجنين، وقبل أن توبر الثمرة أن يمضي الطلاق على
الزوج وينفسخ البيع جملة في الجنين والثمرة، إذ لا يصح إن عثر على الأمر
قبل الوقت الذي يصح فيه التقويم أن يؤخر الحكم فيه إلى وقت يصح فيه
التقويم.
فتنتفع المرأة بالعشرة، وهي لا تجب لها، ولا بد من ردها، أو رد بعضها إلى
الزوج، وإن كان ابن لبابة قد ذهب إلى هذا فقال: قول أصبغ ليس له وجه يصح
تأويله عليه، فلو قال يمضي الطلاق ويمهل في أمرها حتى يرجع الآبق ويخرج
الجنين، ويجوز بيع الثمرة، فإذا كان ذلك قوم الانتفاع بالعشرة على الرجاء
والخوف في الأمر الماضي من يوم تعاملهما، إلى يوم جاز البيع في العبد
والجنين والثمرة، فيضاف ذلك إلى العشرة، ويكون للزوج من عبدها وثمرتها
وجنينها هذه العدة، يباع ذلك فيها، والفضل للزوج إن كان في ذلك فضل، وإن لم
يكن فضل ولم يكن له ولا عليه شيء، ومضى الطلاق عليه، ولو قال قائل يمضي
الطلاق وله خلع مثله، كما روى عيسى عن ابن القاسم في رسم إن خرجت إذا خالع
بثمر لم يبد صلاحه، إن الثمرة لها، وله عليها في مالها خلع مثلها، يريد
لكان لذلك وجه، فأما هذا فله وجه كما ذهب إليه، وأما الأول فلا يصح من غير
ما وجه. والله تعالى أعلم وبه التوفيق. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي
العظيم.
[يقول لامرأته إن أنا أخذت من مال ابنتك شيئا
فأمرها بيدك]
من سماع أبي زيد بن أبي الغمر من عبد الرحمن بن القاسم قال أبو زيد: أخبرنا
ابن القاسم عن الرجل يقول لامرأته:
(5/312)
إن أنا أخذت من مال ابنتك شيئا، فأمرها
بيدك، فيأخذ منه ويستهلكه، فهل يكون في يد الأب ما جعل الزوج بيده؟ وكيف إن
قالت الابنة لزوجها قد وضعت عنك ما جعلت لأبي، وهل ذلك إن كان في عقدة
النكاح أو بعد عقدة النكاح واحد؟ .
قال ابن القاسم: إن كان ذلك من الأب عند شرط النكاح على وجه النظر لابنته،
والاحتياط لها أو بعد عقدة النكاح، وتركت الابنة ذلك، فلا أرى أن يجوز فراق
الأب، وأرى أن يجبر الأب على أن لا يفرق بينهما إذا رضيت الابنة بترك ذلك،
إذا كانت مرضية الحال، وإن كانت غير مرضية الحال، فأرى قضاء الأب عليها
جائزا.
قال محمد بن رشد: إنما شرط في تركها الشرط لزوجها، أن تكون مرضية الحال، من
أجل أن الأب إنما اشترط ذلك عليه حياطة لمالها، فإذا كانت ممن لا يجوز لها
أمرها في مالها، لم يجز لها أن تضع الشرط عن زوجها فيه، وإن كانت ممن يرضى
حالها ويجوز أمرها في مالها، جاز لها أن تضع الشرط عن زوجها؛ لأن الحق فيه
إنما هو لها، إذ هي أملك بمالها منه.
وأما إذا أخذ من مالها شيئا واستهلك قبل أن تضع عنه الشرط، أو وهي ممن لا
يجوز لها وضع الشرط، فالقضاء في ذلك، بيد الأب، فإن أحب الأب أن يفرق
بينهما، وأحبت هي الإقامة مع زوجها، فلم يعط في ذلك جوابا بينا.
والذي ينبغي أن ينظر السلطان في ذلك، كما قال في رسم استأذن من سماع عيسى
من كتاب النكاح، في الذي شرط على زوج ابنته أنه إن نكح عليها، فأمرها بيده؛
لأن حجة الأب بالضرر الداخل عليها في مالها، أقوى من حجته في الضرر الداخل
عليها بالنكاح، وهذه المسألة بخلاف أول مسألة من سماع عيسى للمعاني المفرقة
بينهما، وبالله التوفيق.
[مسألة: دفع إليه مالا قراضا واشترط عليه إن
أحدث فيه حدثا فأمر امرأته بيد المقارض]
مسألة وسئل عن رجل دفع إلى رجل مالا قراضا واشترط عليه إن
(5/313)
أحدث فيه حدثا فأمر امرأته بيد المقارض ما
حدث، هل له من ذلك شيء أن يقضي؟ قال: نعم، إذا كان حدثا بينا يعرف، فأرى
ذلك بيد صاحب المال، وإنما هو بمنزلة اليمين إذا حدث فيه حدث، فامرأته
طالق، فما كان يلزمه في نفسه، فكذلك إذا أحدث فيه حدثا، كان مما جعل في
تمليك امرأته بيد صاحب المال.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن التمليك يجر إلى الطلاق فهو يلزم بما
يلزم به الطلاق من الشروط. ولا اختلاف في ذلك، والله الموفق.
[مسألة: ملك امرأته أمرها فقالت ما أنت لي بزوج
وما أنا لك بامرأة]
مسألة وقال في رجل ملك امرأته أمرها فقالت: ما أنت لي بزوج، وما أنا لك
بامرأة، قال: هي البتة إلا أن يناكرها.
قال محمد بن رشد: هذه الألفاظ وما أشبهها قال فيها في المدونة: إنها تكون
طلاقا إذا أريد بها الطلاق، فلما قالت ذلك المرأة جوابا لزوجها في التمليك،
حملت على أنها أرادت بها الطلاق.
وأما قوله: إنها تكون ثلاثا إلا أن يناكرها، فقد اختلف في ذلك، فقيل: إنها
تكون واحدة، إلا أن يريد بها ثلاثا. وقد مضى هذا في سماع أبي زيد من كتاب
طلاق السنة، وبالله التوفيق.
[مسألة: شهد عليه شاهد أنه خير امرأته فاختارت
نفسها]
مسألة وسئل عمن شهد عليه شاهد أنه خير امرأته، فاختارت نفسها، وشهد آخر أنه
أقر عندهم أنه خير امرأته، وأنها اختارت نفسها فقال: أراها ألبتة، وأراها
شهادة جائزة قد اجتمعا على التحريم جميعا.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن الشهادة على الرجل أنه فعل
(5/314)
شيئا، كالشهادة عليه أنه أقر أنه فعله،
يثبت هذا بما يثبت هذا، ويوجب هذا ما يوجب هذا، فوجب أن تلفق الشهادة في
ذلك، إذ لم يختلف الفعل والإقرار، ومثل هذا في كتاب الغضب وكتاب القذف من
المدونة، ولا اختلاف فيه أحفظه في المذهب، وبالله التوفيق.
[مسألة: يجعل لامرأته بعد الدخول إن غاب عنها
سنة فأمرها بيدها]
مسألة وقال في رجل يجعل لامرأته بعد الدخول إن غاب عنها سنة فأمرها بيدها،
فيغيب فتختار نفسها، فيأتي فيقول: لم أرد إلا واحدة، إنه يحلف ويكون أحق
بها، إذا أدركها في عدتها، وإن لم يدركها في عدتها كان خاطبا من الخطاب.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه إن له أن يناكرها
إذا أنكر عليها ما قضت به من الثلاث ساعة علمه، وإن كان ذلك بعد مدة من
اختيارها نفسها.
[مسألة: يقول للرجل كلما جاء شهر وكلما حاضت
امرأتي حيضة فأمرها بيدك]
مسألة وقال في الرجل يقول للرجل: كلما جاء شهر، وكلما حاضت امرأتي حيضة
فأمرها بيدك، إنه يوقف الذي جعل ذلك بيده متى ما علم، فإن طلق الثلاث جميعا
جاز ذلك عليه، وإن أبى أن يطلق سقط ما بيده. قال: وإن أراد الزوج أن يرجع
فيما جعل بيده من ذلك قبل أن يوقف، فليس ذلك له.
قال محمد بن رشد: مساواته في هذه المسألة بين أن يقول: كلما جاء شهر، وكلما
حاضت امرأتي حيضة صحيح، على أصله في المساواة في تعجيل الطلاق بين أن يقول
امرأتي طالق، كلما جاء شهر، أو كلما حاضت حيضة؛ لأن ما كان من الأجل يعجل
فيه الطلاق، يعجل فيه التوقيت في التمليك.
وقوله: فإن طلق الثلاث جميعا جاز ذلك عليه، ليريد ولا مناكرة له في ذلك،
(5/315)
لأن لفظة كلما تقتضي التكرار، فكما يعجل
عليه فيها الطلاق ثلاثا في المسألتين جميعا، فكذلك يكون للمملك بها أن يقضي
بالثلاث فيهما جميعا، ولا يكون للزوج في ذلك مناكرة، ويأتي على مذهب من رأى
فيمن قال: كلما حاضت امرأتي حيضة فهي طالق، إنه لا يلزمه فيها إلا طلقة
واحدة إن كانت أمة، أو تطليقتين، إن كانت حرة، أن يكون للزوج أن يناكرها إن
طلق المملك ثلاثا في الحرة، وتكون اثنتين، أو إن طلق اثنتين في الأمة،
وتكون واحدة، ويأتي على مذهب أشهب فيمن قال لرجل: أمر امرأتي بيدك، كلما
حاضت حيضة، إنه لا يوقف، ولا يكون بيده شيء حتى تحيض، كلما حاضت ما بقي من
طلاق ذلك المملك شيء، ولا يسقط ما بيد المملك في ذلك الوطء؛ لأنه على
مذهبه، كمن قال: كلما فعلت فلانة كذا وكذا، فأمرها بيدك.
وفي مختصر ما ليس في المختصر. أن من ملك امرأته أمرها أو رجلا أجنبيا إلى
أجل، أنه لا قضاء لواحد منهما في ذلك، حتى يأتي ذلك الأجل، وللزوج أن يطأ
إلى ذلك الأجل، كالتمليك إلى قدوم فلان سواء، والمشهور في المذهب تعجيل
التوقيف في ذلك، كما يعجل الطلاق فيه على من حلف بالطلاق إليه، وأن الوطء
بعلم المملك يقطعه، كانت الزوجة أو أجنبيا، وهو مذهب ابن القاسم.
وقيل: إنه لا يقطعه وهو مذهب أصبغ وقيل: إنه يقطعه إن كانت الزوجة هي
المملكة، ولا يقطعه إن كان المملك أجنبيا. وهو قول ابن الماجشون واختيار
ابن حبيب.
[مسألة: نزلت به يمين فأفتي أن قد بانت منك
امرأتك]
مسألة قلت: فرجل نزلت به يمين، فأفتي أن قد بانت منك امرأتك، فقال لها
وللناس: قد بانت امرأتي، ثم علم أنه لا شيء عليه، فقال: لا ينفعه وقد بانت
منه، إذا قال ذلك.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة مكررة في رسم النكاح من سماع أصبغ من
كتاب طلاق السنة. ومضى القول فيها هناك، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
(5/316)
[مسألة: جعل
أمر امرأته بيدها فقالت قد فرغت]
مسألة وقال: فيمن جعل أمر امرأته بيدها، فقالت: قد فرغت، أو جعله في يد رجل
فقال: قد فرغت إن ذلك مثل قولها وقوله قد قبلت، يسأل وتسأل ماذا قبلا.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن قولها قد فرغت من الألفاظ التي يحتمل
أن يريد بها الطلاق، فوجب أن تسأل عما أرادت بذلك مثل إذا قالت قد شئت، أو
قد رضيت، أو قبلت، أو قد اخترت، وما أشبه ذلك، والله الموفق.
[مسألة: قال الزوج إن لم أطلقها إلى رأس الهلال
فأمرك بيدك]
مسألة وسئل عن رجل كانت تحته امرأة، فتزوج عليها، فقالت له امرأته القديمة:
هكذا تزوجت علي، فقال الزوج: إن لم أطلقها إلى رأس الهلال، فأمرك بيدك،
فقالت: أشهدكم إن لم يطلقها إلى رأس الهلال، فقد اخترت نفسي بثلاث ألبتة.
قال: إن لم يطلقها إلى رأس الهلال كما قال، طلقت امرأته التي جعل أمرها
بيدها.
قال محمد بن رشد: هذا من قول ابن القاسم خلاف قوله في المدونة ومذهبه
المعلوم في رسم أوصى من سماع عيسى وغيره. مثل مذهب أصبغ وسحنون. وقد مضى
القول في ذلك في رسم أوصى من سماع عيسى من هذا الكتاب، وفي رسم القطعان من
سماع عيسى من كتاب طلاق السنة فلا معنى لإعادة شيء من ذلك، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال لامرأته إن أعطيتني عشرة دنانير
طلقتك]
مسألة وقال في رجل قال لامرأته: إن أعطيتني عشرة دنانير طلقتك، فجاءته بها،
فقال: قد بدا لي أن أطلقك، قال ذلك على وجه إن
(5/317)
كانت باعت متاعها، وكسرت حليها في ذلك حتى
جاءته بها، فأرى الطلاق قد ثبت، ورأيته في معنى قوله يقول: وإن جاءته بها
من غير أن تتكلف بيع دارها ولا حليها ولا متاعها، فذلك بيد الزوج.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة فيها ثلاثة أقوال. وقد مضى القول فيها مستوفى
في أول رسم من سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادته هنا مرة أخرى، وبالله
التوفيق.
كمل كتاب التخيير والتمليك
والحمد لله
(5/318)
|