البيان
والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة [كتاب طلاق
السنة الأول] [نفقة الأب ينفق على ولده]
(5/319)
من سماع ابن القاسم من كتاب قطع الشجر قال
سحنون: أخبرني ابن القاسم قال: سمعت مالكا يقول في الرجل ينفق على ولده
ولهم مال قد ورثوه من أمهم، فكتب عليهم ما أنفق، فلما هلك أراد سائرهم من
الورثة أن يحاسبوهم ويحتجوا عليهم بالكتاب، قال: إن كان مالهم عنده موضوعا،
فليس عليهم غرم ما أنفق عليهم، إذا لم يقل ذلك عند موته؛ لأن الأب ينفق على
ولده، وإن كان لهم مال، ومن أمر الناس أن ينفق الرجل على ولده، ولهم المال،
وإن كان مالهم في عرض أو حيوان، رأيت أن يحاسبوهم به؛ لأنه كتبه، وإنما
اختلف ذلك؛ لأن المال الموضوع في يديه لم يكن يمنعه منه شيء، فلعله إنما
كتبه يريد أن يلزمهم أو يتركه فتركه، وأما الذي كان في العروض والحيوان،
فإنه يرى أنه يمنعه من ذلك بيعه، وكتب عليهم فيما يرى، والله أعلم. قال ابن
القاسم: وهذا أحسن ما سمعت إلي.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة تتفرع إلى وجوه، وقعت مفرقة في مواضع من هذا
السماع، وفي رسم باع شاة من سماع عيسى، وفي سماع أبي زيد من كتاب الوصايا،
يعارض بعضها بعضا في الظاهر، فكان الشيوخ يحملون ذلك على أنه اختلاف عن
القول، وقوله: إنه لا اختلاف في شيء مما
(5/321)
وقع في هذه الروايات كلها، وبيان ذلك أن
مال الابن لا يخلو من أربعة أحوال: أحدها أن يكون عينا قائما في يد الأب،
والثاني: أن يكون عرضا قائما في يده، والثالث: أن يكون قد استهلكه، وحصل في
ذمته، والرابع: أن يكون لم يصل بعد إلى يده، فأما إن كان عينا قائما في
يده، وألفي على حاله في تركته، فلا يخلو من أن يكون كتب النفقة عليه أو لم
يكتبها، فإن كتبها عليه لم تؤخذ من ماله، إلا أن يوصي بذلك، وهو دليل قوله
في هذه الرواية إذ لم يقل ذلك عند موته، وإن كان لم يكتبها عليه لم تؤخذ من
ماله، وإن كان أوصى بذلك. قاله ابن القاسم في سماع أبي زيد من كتاب
الوصايا.
وأما إن كان المال عرضا بيده بعينه، ألفي في تركته، فلا يخلو أيضا من أن
يكون كتب النفقة عليه أو لم يكتبها، فإن كان كتبها حوسب بها الابن، وإن
أوصى الأب ألا يحاسب بها، وهو ظاهر ما في هذه الرواية، ووجه ذلك أنه لما
كتبها عليه دل على أنه لم يرد أن يتطوع بها، فوصيته ألا يحاسب بها وصية
لوارث، وهو قول أصبغ في الواضحة: إن المال إذا كان عرضا لم تجز وصية الأب
ألا يحاسب بها، ومثله لابن القاسم في المدنية.
وإن كان لم يكتبها عليه حوسب بها، إلا أن يكون أوصى الأب ألا يحاسب بها
فتنفذ وصيته. وهذا قول ابن القاسم في رسم باع شاة من سماع عيسى.
وأما الحالة الثالثة وهي أن يكون الأب قد استهلك المال وحصل في ذمته، فإن
الابن يحاسب في ذلك، كتب الأب عليه النفقة أو لم يكتبها، وهو قول مالك في
رسم الشجرة بعد هذا، إلا أن يكون كتب لابنه بذلك ذكر حق، أشهد له به، فلا
يحاسب بما أنفق عليه. قال ذلك مالك في رواية زياد بن جعفر عنه. وهو تفسير
لما في الكتاب.
وأما الحال الرابعة وهو ألا يكون قبض المال، ولا صار بيده بعد، فسواء كان
عينا أو عرضا، هو بمنزلة إذا كان عرضا بيده. وقد مضى الحكم في ذلك. وما في
رسم سلعة سماها، ورسم كتب عليه ذكر حق محتمل أن يكون تكلم فيهما على أن
المال لم يصل إلى يده، أو على أنه قد أخذه واستهلكه.
وقد مضى الكلام على حكم الوجهين، ولا فرق بين موت الأب وموت الابن فيما يجب
من محاسبته بما أنفق عليه أبوه، وبالله التوفيق.
(5/322)
[مسألة: دخل
عليه وعنده امرأته فقال ما هذه قال مولاة لي هل لك أن أزوجكها]
مسألة وقال مالك في رجل دخل عليه رجل وعنده امرأته، فقال: ما هذه المرأة؟
قال: مولاة لي، هل لك أن أزوجكها؟ قال: نعم، فخرج، فكان يهزل. قال مالك: لا
أرى عليه طلاقا، إلا أن ينوي ذلك. قال ابن القاسم: أرى أن يحلف ما أراد
بذلك طلاقا، ثم لا شيء عليه، ويؤدب.
قال محمد بن رشد: لم ير مالك وابن القاسم على الرجل في هذه المسألة طلاقا
في زوجته، وإن كان زوجها بعد قوله إنها مولاته، ومن قولهما إن بيع الرجل
زوجته طلقة بائنة، كذا وقع لهما في سماع زونان من هذا الكتاب وفي سماع عيسى
من كتاب الحدود، وفي سماع يحيى من كتاب العتق.
وقد روي عن مالك أنها ثلاثة، كالموهوبة، وهو قول أصبغ، وأحد قولي ابن عبد
الحكم، وتزويجه إياها كبيعه لها، سواء. كذا قال محمد، فإنما لم يريا عليه
طلاقا في هذه الرواية من أجل أنه زوجها هازلا، فقولهما في هذا ينحو إلى
رواية الواقدي عن مالك، وفي سماع أبي زيد من كتاب النكاح، من أن النكاح لا
يجب بالهزل، وإيجاب ابن القاسم عليه اليمن صحيح مبين لقول مالك، ومثله
لعيسى في رسم لم يدرك من سماع عيسى من كتاب العتق.
فإن حلف ترك مع زوجته، وإن نكل عن اليمين جرى ذلك على الاختلاف في الذي
يقوم عليه شاهد بالطلاق، فينكل عن اليمين، فقيل: إنه يطلق عليه، وقيل: إنه
يسجن حتى يحلف، فإن طال ولم يحلف ترك، وقيل: إنه يحال بينه وبينها، ولا
يسجن، فإن طلبت امرأته المسيس، ضرب له أجل المولى.
ولابن القاسم في المجموعة في هذه المسألة أنها تحرم عليه بالثلاث، بنى بها
أو لم يبن. وهو على قياس القول بأن تزويج الرجل امرأته بتات وأن هزل النكاح
جد، وأما على مذهب من لا يرى النكاح في بيع الرجل امرأته طلاقا، وهو قول
ابن وهب في سماع زونان وأحد قولي محمد بن عبد الحكم، يبين أنه طلاق عليه في
هذه المسألة، وبالله التوفيق.
(5/323)
[مسألة: ماتت
المرأة أو طلقت أو اختلعت من زوجها قبل أن تظهر الزوج على عيبها]
مسألة قال مالك: إذا ماتت. المرأة أو طلقت أو اختلعت من زوجها قبل أن تظهر
الزوج على عيبها فلا شيء له، قال سحنون: ويرجع بالصداق على الذي غره، وإن
كانت هي غرته أخذ منها وترك لها ربع دينار، وكذلك لو كان الزوج غرها من
نفسه، ثم خالعته بشيء، ثم علمت بعيبه، رجعت عليه بما أعطته؛ لأنه قد كان
لها أن تفارقه.
قال محمد بن رشد: أما إذا ماتت المرأة قبل أن يظهر الزوج على عيبها، فلا
اختلاف في أنه لا شيء للزوج في العيب الذي غرته به؛ لأنها إذا ماتت فقد وجب
له ميراثه منها كالصحيحة سواء، وعيبها الذي كان بها من جنون، أو جذام
وشبهه، لا يضر بعد موتها، وكان كمن اشترى عبدا وبه عيب، فلم يعلم حتى ذهب،
إنه لا شيء له فيه.
وأما إذا طلقها أو خالعها فقال مالك: لا شيء له، وقال سحنون: له عليها
الرجوع بعد الطلاق وبعد الخلع، فإن طلق قبل البناء رجع بجميع الصداق عليها
إن كان نقده، وسقط عنه إن كان لم ينقده لأنه كان له أن يردها ويسقط عنه
جميعه، وإن طلق بعد البناء رجع بجميع الصداق على الذي غره، وإن كانت هي
غرته رجع عليها، وترك لها منه ربع دينار، وإن خالعها قبل البناء بأقل من
صداقها، رجع عليها بتمام صداقها، وكذاك إن خالعها بعد البناء بأقل من
صداقها، وكانت هي الغارة، رجع عليها ببقية صداقها، إلا أنه يترك لها من ذلك
ربع دينار، وإن كان الولي هو الغار رجع عليه بتمام صداقها، وكان لها منه ما
أبقت لنفسها مما لم يخالع عليه، وإن كان خالعها بمثل الصداق، أو أكثر منه،
فذلك لازم لها وماض عليها، كان ذلك قبل البناء أو بعده؛ لأنه كان له المقام
عليها.
وجه قول مالك إن العيب لم يضره لما طلق أو خالع باختياره قبل أن يعلم به،
فوجب ألا يرجع له بشيء، كمن اشترى عبدا فباعه قبل أن يعلم بالعيب، إنه لا
رجوع له بشيء.
ووجه قول سحنون: إنه لما رجع بضعها إليها
(5/324)
بالطلاق أو المخالعة أشبه الرد، فوجب للزوج
الرجوع عليها بما يجب في الرد، كمن اشترى عبدا وبه عيب لم يعلم به حتى باعه
من بائعه، إن له الرجوع عليه بتمام الثمن، وكذلك إذا كان العيب بالزوج فلم
تعلم به الزوجة حتى مات عنها أو طلقها أو خالعها، لا رجوع عليه بشيء عند
مالك، وخالفه سحنون في المخالعة، فقال: إن كانت خالعته قبل البناء بأكثر من
صداقها، رجعت عليه بالزائد، وإن كانت خالعته بعد البناء، رجعت عليه بجميع
ما خالعته به من قليل أو كثير؛ لأنه قد انكشف بما ظهر بالزوج من العيوب إن
الرد كان لها، والصداق قد وجب لها بالدخول.
[مسألة: رجل وامرأة شهدا على رجل بطلاق امرأته
وهو غائب]
مسألة وقال مالك في رجل وامرأة شهدا على رجل بطلاق امرأته وهو غائب: إنه
ينفق عليها، وتطلب ذلك فإن ثبت ذلك اعتدت من يوم طلق، ولا غرم عليها فيما
أنفقت؛ لأنه ألبس على نفسه.
قال محمد بن رشد: قوله: إنه ينفق عليها وتطلب ذلك، يريد أنه ينفق عليها من
ماله إذا طلبت الزوجة ذلك، ويطلب ثبت ذلك بشاهد آخر يشهد مع الشاهد الأول،
إذ لا تجوز شهادة النساء في الطلاق، فإن ثبت ذلك، يريد بشاهد آخر، اعتدت من
يوم طلق، وذلك إذا اتفق الشاهدان على اليوم الذي طلق فيه، فإن اختلفا اعتدت
من اليوم الآخر؛ لأن الشهادة تلفق على مذهب مالك، فتضاف الشهادة الأولى إلى
الأخيرة، لا الأخيرة إلى الأولى، ولو لم يذكر اليوم الذي طلق فيه، فمات
(كذا) أن يسأل الشهود عن ذلك كانت العدة من يوم شهادتهما عند القاضي، لا من
يوم الحكم بالطلاق إن تأخر الحكم عن الشهادة.
وقوله: ولا غرم عليها فيما أنفقت لأنه ألبس على نفسه يريد، أنه لا غرم
عليها فيما أنفقت من مالها، أو أنفق عليها
(5/325)
منه من يوم الطلاق، إلى يوم علمت بطلاقه؛
لأنه ألبس على نفسه، أي فرط، إذ لم يعلمها بطلاقه إياها، وفعلت هي ما كان
يجوز لها من الإنفاق على نفسها من ماله، وما كان يحكم لها به عليه لو سألت
ذلك، ولو أنفقت من مالها أو تسلفت لرجعت عليه بذلك عند مالك. قاله في سماع
أشهب بعد هذا.
وقال ابن نافع: لا يرجع بشيء من ذلك، وأما الذي يموت وهو غائب، فتغرم
الزوجة ما أنفقت من ماله بعد موته؛ لأنه لم يكن منه تفريط. هذا قوله في
كتاب طلاق السنة من المدونة.
ويجب على هذا التعليل أن تغرم ما أنفقت من ماله بعد أن طلق إلى أن يمضي من
المدونة ما يمكن أن يصل العلم إليها بذلك دون تفريط، وهو مقدار المسافة إلى
ذلك الموضع، إلا أنهم لم يقولوا ذلك، فوجه سقوط ذلك عنها هو أنه أذن لها في
الإنفاق من ماله، فلا رجوع له عليها فيما أذن لها فيه، والله أعلم.
[مسألة: عبد أعجمي عاتبه سيده في جارية زوجها
إياه، فقال قد فارقتها]
مسألة وقال مالك في عبد أعجمي عاتبه سيده في جارية زوجها إياه، فقال: قد
فارقتها قال: يسأل العبد، فإن عرف ما أراد من الطلاق فذلك له، وإلا فهي
ألبتة، إذا كان لا يدري من أجل العجمية. قال ابن القاسم: كأني رأيت محمل
قوله في ذلك إذا لم يعرف الطلاق، أنه أراد أن يبرأ منها فلذلك ألزمه ألبتة.
قال محمد بن رشد: الفراق من كنايات الطلاق، وقد قيل فيه: إنه من صريحه لقول
الله عز وجل: {أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2] فلا يعذر
الأعجمي بجهله أن ذلك طلاق، ويحمل إذا جهل ذلك على أنه أراد أن يبرأ منها،
فتلزمه ألبتة، على ما ظهر لابن القاسم من نحو قول مالك ونحوه لأصبغ في
نوازله من كتاب الأيمان بالطلاق، ويكون إذا جهل ذلك بمنزلة غير
(5/326)
الأعجمي، إذا لم تكن له نية؛ لأن من قال
لامرأته: قد فارقتك ولا نية له في واحدة ولا في اثنتين، فهي ثلاث، إذا كان
قد دخل بها، ولا فرق في هذه المسألة بين أن يقول الأعجمي: لم أرد ما أردت،
أو يقول لم تكن لي نية، وإنما يفترق ذلك إذا قال: أنت طالق، وكذلك روي عن
مالك؛ لأنه حمل قوله: لا أدري ما أردت على أنه أراد شيئا ونسيه، وحمله سعيد
بن المسيب ويحيى بن سعيد في التخيير والتمليك من المدونة، على أنه لم تكن
له نية، إذ قال الرجل لامرأته: قد فارقتك ولم يدخل بها، فقيل: هي واحدة،
إلا أن يريد ثلاثا، وقيل: هي واحدة، إلا أن يريد واحدة، والقولان في رسم
يوصي من سماع عيسى من كتاب الأيمان بالطلاق، وفي كتاب التخيير والتمليك من
المدونة في قد خليت سبيلك ولا فرق بينهما.
[مسألة: طلقها زوجها ولها منه ولد فرمته عليه
استثقالا له]
مسألة قال ابن القاسم: سمعت مالكا قال في امرأة طلقها زوجها، ولها منه ولد
فرمته عليه استثقالا له، فليس لها أن تأخذه؛ لأنها قد أسقطت حقها في
حضانته، إلا على القول بأن الحضانة من حق المحضون، وهو قول ابن الماجشون،
ولو كانت إنما ردته إليه من علة ومرض، أو انقطاع لبنها، لكان لها أن تأخذه
إذا صحت أو عاد إليها اللبن، على ما وقع لمالك في أول سماع أشهب من كتاب
الأيمان بالطلاق، ولو تركته بعد أن زال العذر حتى طال الأمر السنة وشبهها،
لم يكن لها أن تأخذه منه. واختلف إذا مات هل لها أن تأخذه لمن تصير إليه
الحضانة بعده؟ فقال في آخر رسم من سماع أشهب: ليس لها أن تأخذه؛ لأنه رأى
تركها إياه عند أبيه إسقاطا منها لحقها في حضانته. وقد قيل: إن لها أن
تأخذه بعد موته؛ لأن تركها له عند أبيه، إنما يحمل منها على إسقاط حضانتها
للأب
(5/327)
خاصة، وكذلك إذا قامت الجدة بعد السنة، لم
يكن لها أن تأخذه. وقال ابن نافع: لها أن تأخذه. ومثله لابن القاسم في
المدنية إن لها أن تأخذه، إلا أن يكون عرض عليها فأبت من أخذه. وهذا على
الاختلاف في السكوت، هل هو على الإقرار والإذن أم لا؟ وهو أصل قد اختلف فيه
قول ابن القاسم، وبالله التوفيق.
[مسألة: يكره السلطان المرء على أن يحج أباه]
مسألة قال مالك: لا يكره سلطان المرء على أن يحج أباه، ولا على إنكاحه.
قال محمد بن رشد: قوله: إن السلطان لا يكره الرجل على أن يحج أباه صحيح،
على القول بأن الحج على التراخي، ويأتي على القول بأنه على الفور، إنه
يلزمه ذلك، كما يلزمه أن يشتري له ماء لغسله ووضوئه، إذ لا يسعه أن يؤخر
ذلك من أمر دينه، وأما إنكاحه. فقد روي عن أشهب أنه يجبر على إنكاحه، ووجه
ذلك أن النكاح مما قد تدعو إليه الحاجة، وتمسه الضرورة، فوجب أن يكون
كالنفقة، وإذا كان يجبر على أن ينفق على زوجته؟ لحاجته إليها وجب أن يجبر
على تزويجه لحاجته إليها، فقول أشهب ينحو إلى ما في المدونة من إيجاب
النفقة على زوج الأب. وقول مالك منها ينحو إلى قول المغيرة، وقول محمد بن
عبد الحكم، في أنه لا يجب على الرجل أن ينفق على ربيبته، ولو تحققنا حاجة
الأب إلى النكاح لانبغى ألا يختلف في أن على الابن أن يزوجه، فالاختلاف في
هذا إنما هو عائد إلى تصديق الأب فيما يدعي من الحاجة إلى النكاح، وبالله
التوفيق.
(5/328)
[الرجل يلي
ولده ويكون لهم الميراث]
ومن كتاب سلعة سماها وسئل عن الرجل يلي ولده، ويكون لهم الميراث، فيموت
ولده، فتقوم جدته في ذلك، فيقول أبوه قد أنفقت عليه في رضاعه، وفي كذا وكذا
لأمر يسميه أترى عليه يمينا؟ قال: أما إن كان رجل مقل مأمون، فلا أرى ذلك،
وإن كان غنيا فأنى له أن يحلف، فإن جل الآباء هم ينفقون على أولادهم، وإن
كانت لهم أموال.
قال محمد بن رشد: لم يفرق في هذه المسألة بين أن يكون الميراث الذي لهم
عروضا أو قرضا، كما فرق بين ذلك إذا مات الأب في أول مسألة من السماع، فدل
ذلك على أنه تكلم في هذه المسألة على أن الميراث لم يقبضه بعد ولا صار
بيده، أو على أنه قبضه واستنفقه، أو على أنه نقص منه قدر ما ادعى أنه أنفقه
على ابنه. وقد مضى الحكم في يمين التهمة، والله أعلم.
[مسألة: يسافر بامرأته ولم يدخل بها]
مسألة وسئل عن الرجل يسافر بامرأته ولم يدخل بها، فيقيم عنها الأشهر، فتطلب
النفقة، قال: أرى أن ينفق عليها من ماله، ويلزم ذلك.
قال محمد بن رشد: قد قيل: لا نفقة لها إن كان مغيبه قريبا؛ لأنها لا نفقة
لها حتى تدعو إلى البناء، وهي لم تدع إليه قبل مغيبه، فإذا طلبته وهو
بالقرب، كتب إليه، فإما أن يبني أو ينفق. وقيل: لها النفقة من حين تدعو إلى
البناء، وإن كان غائبا على قرب، فليس عليها أن تنظره في شيء قد وجب لها في
ماله. وهذا القول أقيس، وهو ظاهر الرواية، إذ لم يفرق فيها بين قرب ولا
بعد، وبالله التوفيق.
(5/329)
[مسألة:
المختلعة يتزوجها زوجها ثم يطلقها قبل أن يمسها أتستأنف العدة أم تبنى]
مسألة وسئل عن المختلعة يتزوجها زوجها ثم يطلقها قبل أن يمسها أتستأنف
العدة أم تبنى؟ قال: بل تبنى، وذلك أنه ليس لها إلا نصف الصداق، وهو نكاح
جديد، ولا يشبه الذي يطلقها واحدة ثم يرتجعها، تلك تستأنف العدة، وإن لم
يطأها ليس حالهما واحدة.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: لأن المختلعة قد بانت من زوجها، فإن تزوجها
ثم طلقها قبل أن يمسها لم يكن عليها عدة من هذا الطلاق الثاني؛ لأنها مطلقة
قبل الدخول، فوجب أن تبني على عدتها؛ لأنها عدة قد لزمتها من طلاق بعد
الدخول، فلا تنهدم إلا بالدخول، ولو مات الزوج بعد أن تزوجها، وقبل أن يدخل
بها، لوجب عليها أقصى الأجلين، لوجوب العدتين جميعا عليها، الأولى بالخلع
بعد الدخول، والثانية بالموت بعد النكاح وقبل الدخول، وأما التي يطلقها
واحدة، ثم يرتجعها فيطلقها قبل أن يمسها "فإنها تستأنف العدة لأن الرجعة
تهدم العدة، ويعود بها الزوج إلى حاله قبل الطلاق؛ لأن العصمة لم تزل
بالطلاق، وإنما حدث به فيها ثلم صلح بالرجعة، فوجب إذا ارتجعها ثم طلقها،
أن يستأنف العدة، مس بعد ارتجاعه أو لم يمس؛ لأنه وإن لم يمس بعد الرجعة،
فقد مس قبلها وقبل الطلاق الذي انهدمت عدته بالرجعة، فصار طلاقه هذا طلاقا
من نكاح قد مس فيه، وكذلك الموت يهدم العدة عند مالك، كما تهدمها الرجعة
عنده، فترجع المرأة إذا مات زوجها في العدة، إلى عدة الوفاة، ومن أهل العلم
من يرى أنه لا يهدمها، فتعتد المرأة إذا مات زوجها في عدتها أقصى الأجلين،
وهو قول ابن عباس وسليم بن يسار، وابن شهاب، ولا أحفظ من يقول إن الرجعة لا
تهدم العدة، وأنه إذا ارتجعها ثم طلقها قبل أن يمسها إنها تبني على العدة،
إلا ما يروى عن منازعة ابن أبي ذيب في ذلك لابن شهاب، إذ قال له ابن شهاب:
إنها تستأنف العدة، فقال له ابن أبي ذيب: ما هكذا قلت لي، فقال له: نعم،
فقال له: لا، فقال له: نعم، فقال له: كذبت، فقال له: بل كذبت،
(5/330)
فحلف ألا يحدثه بحديث أبدا، فكتب إليه
بأحاديث إذ كان من مذهبه أن من. حلف لا يكلم رجلا لا يحنث بالكتابة إليه
وهو قول أشهب، والله الموفق.
[مسألة: تأتيها وفاة زوجها وزوجها غائب]
مسألة وسئل عن المرأة تأتيها وفاة زوجها، وزوجها غائب، أترى أن تشهد على
ذلك؟ فقال: لم؟ أفي شك هي؟ فقال: لا، قال: ما أرى ذلك عليها إذا كانت على
ثبت من أمرها، إلا أن تكون على شك.
قال محمد بن رشد: قوله: أترى أن تشهد على ذلك؟ معناه أترى أن تطلب الشهادة
على صحة الخبر بذلك؟ فلم ير ذلك عليها، إذا لم تشك في صحته، وهو كما قال،
إذ لا يلزمها أن تعتد بالشك، ولا تستبيح النكاح به بعد العدة، وبالله
التوفيق.
[مسألة: المفقود الذي يخرج إلى بلد بتجارة
فيفقد فلا يدرى أين وجه]
مسألة وسئل عن المفقود الذي يخرج إلى بلد بتجارة، فيفقد فلا يدرى أين وجه؟
أترى هذا مفقودا؟ قال: نعم، وأرى أن يكتب إلى ذلك الموضع فيطلب ويسأل عنه،
فإن عما أمره، ضرب لامرأته بعد ذلك أجل المفقود.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه، إن المفقود الذي
يضرب لامرأته أجل المفقود بعد البحث عنه، والسؤال عن خبره في الناحية التي
توجه إليها، ويوقف ماله حتى يأتي عليه من الزمان ما لا يجيء لمثله، هو الذي
يفقد في بلاد المسلمين، وقد خرج لتجارة أو غيرها، وإن عرف البلد الذي نزع
إليه ثم غاب خبره، على ما في سماع أبي زيد. وسيأتي في أول سماع أشهب، وفي
رسم أسلم، من سماع عيسى بيان حكم المفقود في بلاد الحرب، وبين الصفين في
قتال العدو، وفي قتال المسلمين، إن شاء الله، وبالله التوفيق.
(5/331)
[مسألة: تحيض
حيضة في كل سبعة أشهر يهلك زوجها فتعتد أربعة أشهر وعشرا]
مسألة وسئل عن المرأة التي تكون حيضتها في ستة أشهر، أو سبعة أشهر حيضة،
إنها تحيض حيضة في كل سبعة أشهر يهلك زوجها فتعتد أربعة أشهر وعشرا، أترى
أن تتزوج؟ قال: أرى أن ينظر في ذلك فإن نويت في نفسها رأيت أن ينظر إليها
من النساء من يعرف الحمل، فإن رأين أنه ليس بها شيء، وأنها ليست مرتابة،
رأيت أن تتزوج وإنه لا ينبغي أن يحمل الخاص على شيء لا تحمل عليه العامة
فمن النساء من لا تحيض أبدا.
قال محمد بن رشد: هذا هو المشهور في المذهب المعلوم من قول مالك وأصحابه:
إن المتوفى عنها زوجها وقد دخل بها تحل بتمام أربعة أشهر وعشرا، وإن لم تحض
فيها إذا لم يمر بها فيها وقت حيضتها، ولم يكن بها ريبة من حمل، وروى ابن
كنانة عن مالك في سماع أشهب أنها لا تحل حتى تحيض، أو يمر بها تسعة أشهر.
وحكى ابن المواز أن مالكا رجع عن هذا القول، وكذلك هو شذوذ من القول؛ لأنها
قد أكملت العدة التي فرضها الله عليها، ولا ريبة بها، فوجب أن تحل، وكذلك
إذا مر بها فيها وقت حيضتها فلم تحض من أجل أنها ترضع، وأما إن مر بها فيها
وقت حيضتها فلم تحض، وليس بها عذر يمنع الحيض، من مرض أو رضاع، فالمشهور في
المذهب، أنها لا تحل حتى تحيض، أو تمر بها تسعة أشهر، ولم يختلف في ذلك قول
مالك، وهو قول عامة أصحابه؛ لأن ارتفاع الحيض من غير سبب يعلم لارتفاعه
ريبة، وذهب ابن الماجشون، وسحنون، إلى أنها تحل بتمام الأربعة أشهر وعشرا
إذا لم يكن بها من الريبة أكثر من ارتفاع الحيض، وأما إن ارتابت من الحمل
بامتلاء في البطن، فلا اختلاف في أنها لا تحل حتى تسلم من تلك الريبة، أو
تبلغ أقصى أمد الحمل. واختلف إذا ارتفع حيضها بالمرض، فقال أشهب: إن
(5/332)
ارتفاعه به كارتفاعه بالرضاع، لا يكون
ارتفاع الحيض معه ريبة في الوفاة ولا في الطلاق، فتحل في الوفاة بأربعة
أشهر وعشرا، وتعتد في الطلاق بالأقراء وإن تباعدت قال ابن القاسم ورواه عن
مالك: أن ارتفاع الحيض مع المرض ريبة، كالصحيحة، فتتربص في الوفاة بتسعة
أشهر، وفي الطلاق بسنة، تسعة أشهر استبراء، وثلاثة عدة، وبالله التوفيق.
ومن كتاب أوله شك في طوافه
وسئل عن امرأة المفقود إذا خرجت من الأربع سنين، وضرب لها أجل أربعة أشهر،
أترى عليها إحدادا؟ قال: نعم، أرى عليها الإحداد. قال ابن القاسم: وإنما
يكون عليها الإحداد في الأربعة أشهر وعشر.
قال محمد بن رشد: ابن الماجشون، لا يرى عليها الإحداد في ذلك، وإليه ذهب
سحنون، من أجل أنها عدة متيقنة، إذ لعل الزوج حي، أو قد مات، قبل ذلك بمدة،
فانقضت العدة. وقول ابن القاسم هو القياس؛ لأنها عدة وفاة بظاهر الحكم، تحل
بها للأزواج، فوجب أن يكون عليها الإحداد كالعدة المتيقنة.
[مسألة: العبد يكون متزوجا فيطلق تطليقة فيريد
سيده أن يمنعه من الرجعة]
مسألة وسئل مالك عن العبد يكون متزوجا فيطلق تطليقة فيريد سيده أن يمنعه من
الرجعة، ويريد العبد أن يرتجع والسيد منعه قال: ليس لسيده أن يمنعه.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن الطلاق الرجعي لا يزيل العصمة، وإنما
يوجب فيها ثلما يمنع الوطء. وأحكام الزوجية كلها قائمة من النفقة
والموارثة، بارتفاع الرق، فإليه أن يرفع هذا الثلم عن العصمة بالرجعة،
بدليل قول الله عز وجل: {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ
ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1]
(5/333)
وهو الرجعة عند الجميع وليس ذلك بابتداء
نكاح، فيكون لسيده أن يمنعه من ذلك. ألا ترى أن المحرم يراجع زوجته؟ وبالله
التوفيق.
[مسألة: المرأة يكون لها ولد صغير ولولدها مال
أتنال معهم منه]
مسألة وسئل مالك عن المرأة يكون لها ولد صغير، ولولدها مال، أتنال معهم
منه؟ قال: إن كانت محتاجة، فأرى في ذلك لها، قيل له: إنها موسرة، أفترى أن
تأكل؟ قال: لا، قيل له: أفتخلط نفقتها بنفقتهم وتأكل معهم؟ قال: إن كانت
تفضل، فلا أرى بأسا، قيل له: إنها تقوم عليهم وتلي أمرهم افترى أن تأكل
معهم وإن لم تحتج؟ فلم ير ذلك إلا أن تكون محتاجة.
قال محمد بن رشد: وهذا كله على ما قال، إن كانت محتاجة، فلها أن تأكل من
ماله؛ لأن النفقة تجب لها فيه بالحكم لو سألت ذلك، وجائز للرجل أن يأخذ
لنفسه ما يجب له بالحكم، لقول رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لهند:
«خذي يا هند ما يكفيك وولدك بالمعروف» ، فأباح لها أن تأخذ من مال زوجها
بغير إذنه ما يجب لها فيه ولولدها من حق، ولم ير لها إن كانت موسرة أن تأكل
من مالهم، وإن كانت تقوم عليهم، وتلي أمرهم، لقول الله عز وجل: {وَمَنْ
كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ} [النساء: 6] ، فظاهر قوله هذا خلاف ما في
هذا الرسم بعينه من كتاب النكاح من أن للحاضن النفقة في مال المحضون، وقد
مضى من القول على ذلك هنالك، ما فيه كفاية إن شاء الله. وأما خلط
(5/334)
نفقتها بنفقتهم إن كانت لفضل، فالأصل في
جواز ذلك قول الله عز وجل: {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ
وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} [البقرة: 220] ، يقول
الله تعالى يعلم من يقصد بمخالطة يتيمه أن يوقفه ممن يقصد بذلك أن يرتفق به
وسيأتي مثل هذا في رسم أخذ يشرب خمرا.
ومن كتاب الشجرة تطعم بطنين في السنة
وسئل مالك عن الرجل يطلق امرأته ويريد سفرا فتدعي حملا أو تقول: دع لي
نفقتي قال: ليس ذلك لها، وإنما هو بمنزلة المقيم في ذلك، ولكن يستانا بها،
فإن استمر بها حمل جمع لها ذلك كله، فيدفع إليها، ولا يمنع من سفره.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في كتاب النكاح الثاني من المدونة، سواء إنه
لا يلزمه أن يقيم لها حميلا بالنفقة، فإن خرج وظهر بها حمل فأنفقت على
نفسها رجعت عليه بذلك، إذا كان موسرا يوم أنفقت، ولا اختلاف في هذا أعلمه،
وبالله التوفيق.
[مسألة: كان يأخذ لابنه عطاء وقسما فهلك الأب]
مسألة وسئل عن رجل كان يأخذ لابنه عطاء وقسما، فهلك الأب، فقال بنون له
آخرون: نحن نريد أن نحاسبك، قد أنفق ذلك عليك، وكان الابن في حجر أبيه،
قال: أرى أن يحسب ذلك ويحاسب به، فما كان في ذلك من فضل كان للابن قبل
أبيه.
(5/335)
قال محمد بن رشد: قوله: فما كان في ذلك من
فضل كان للابن قبل أبيه، يدل على أن ما كان يأخذ لابنه قد كان استنفقه وصار
له في ذمته، وقد أتى القول على ذلك في التقسيم الذي ذكرناه في أول مسألة من
السماع فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[امرأة كانت تسكن مع زوجها ثم هلك زوجها وله
منها ابنة بنت ثمان سنين]
ومن كتاب حلف ليرفعن أمرا وسئل مالك عن امرأة كانت تسكن مع زوجها ثم هلك
زوجها، وله منها ابنة بنت ثمان سنين، وللمتوفى إخوة ولأم الجارية إخوة من
مسكن الزوج على رأس مرحلتين، فأرادت أن تدخل بابنتها إلى إخوتها وهو مسكنها
الذي كانت تسكنه قبل أن تتزوج، فأبى عمومة الجارية أن يتركوها، قال: قال
مالك: المرأة لا أرى أن تدخل بها من عندهم قالت: فإن أخوتي يريدون أن
يدخلوني قال: ليس ذلك لهم، وليس لك أن تخرجيها من عند ولاتها.
قال محمد بن رشد: مثل هذا في كتاب ابن المواز من قول ابن القاسم وروايته عن
مالك، إنه ليس لها أن تدخل بهم مسافة الرحلة والرحلتين، قال أشهب: ولا إلى
الثلاثة برد، وهو مثل ما في المدونة من أنه ليس لها أن تخرج بهم إلى المكان
القريب، وليس في حد ذلك شيئا يرجع إليه في الكتاب أو السنة، وإنما هو
الاجتهاد، لقول الله عز وجل: {لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا
مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} [البقرة: 233] ، وقول النبي - عَلَيْهِ
السَّلَامُ -: «إذا اجتمع ضرران، نفي الأصغر للأكبر» ؛ لأن منع المرأة من
الخروج بولدها إضرار
(5/336)
بها، وإباحة ذلك لها إضرار بأولياء الصبي،
فوجب الاجتهاد في ذلك، ولذلك وقع فيه هذا الاختلاف، والله الموفق.
[مسألة: المتوفى عنها زوجها تؤذن إلى العرس
أتخرج إليه]
مسألة وسئل مالك عن المتوفى عنها زوجها تؤذن إلى العرس، أتخرج إليه؟ قال:
نعم ولا تبيت إلا في بيتها، ولا تتهيأ بشيء مما تنهى عنه المتوفى عنها
زوجها أن تلبسه.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال، إن لها أن تخرج إلى العرس إذا لم تبت إلا
في بيتها، ولا تتهيأ بما لا يجوز للحاد أن تفعله، إذ لا حرج عليها في حضور
العرس إذا لم يكن فيه من اللهو إلا ما أجيز في العرس، وقد مضى القول فيما
يجوز من ذلك مما لا يجوز في رسم سلف من سماع عيسى من كتاب النكاح، وبالله
التوفيق.
[مسألة: تزوج امرأة لم يدخل بها وأراد سفرا]
مسألة وسئل عن رجل تزوج امرأة لم يدخل بها وأراد سفرا فقال لهم: أدخلوها
علي الليلة، فقالوا: لا تفعل فوقع بينهم شجر من الكلام فقال لهم: اتركوني
ليس لي فيها حاجة، ودعوني، فانصرف عنهم.
قال مالك: أردت بذلك طلاقا؟ قال: لا، قال: ليس عليك شيء، قد يقول الرجل
لامرأته ليس لي بك حاجة، فإذا لم يرد به طلاقا فليس عليه شيء، وإن كان لها
من يحلفه حلف بالله ما أراد بذلك طلاقا.
قال محمد بن رشد: وهذا بين على ما قال؛ لأن ذلك ليس من ألفاظ الطلاق، فلا
يكون طلاقا، إلا أن يريد الطلاق، وتتهمه أنه أراد الطلاق بذلك، فهذه
المسألة عندي ضعيفة، فإن لم يطع باليمين، ونكل عنها ترك مع امرأته، ولم
يدخل ذلك من الاختلاف ما ذكرناه في أول رسم في مسألة الذي
(5/337)
قال في امرأته: إنها مولاته، وزوجها هازلا
بذلك، وبالله التوفيق.
[مسألة: صالح امرأته على أن ترضع ولده سنتين
وتكفله أربع سنين بعد ذلك]
مسألة وسئل عن رجل صالح امرأته على أن ترضع ولده سنتين وتكفله أربع سنين
بعد ذلك، لتمام ست سنين، فإن ماتت قبل ذلك فأبوها ضامن لنفقة الصبي حتى
تستكمل ست سنين، واشترط عليها إن لم يكن أصل هذا الصلح جائزا فله الرجعة
عليها، ورضيا بالصلح، وتفرقا عليه.
قال مالك: الشرط باطل، ولا يصلح في صلح رجل وامرأة أكز من الرضاع، فإن كان
قد رضيا بالصلح وتفرقا على ذلك، فما كان فوق الرضاع فهو ثابت على الأب،
ينفق على ولده، وما اشترط بأنه إن لم يكن هذا الصلح جائزا فلي عليك الرجعة،
فهذا باطل، لا رجعة له عليها، ولا أحب أن يصالح أحد على مثل هذا، إنما
الصلح في ذلك إلى الفطام. قال سحنون: يلزمها النفقة لو اشترط عليها نفقة
خمس عشرة سنة لكان ذلك لازما لها.
قال محمد بن رشد: قوله في اشتراط الرجعة عليها إن لم يكن الصلح جائزا إنه
شرط باطل، صحيح بين في المعنى في الصحة؛ لأن الشرع قد أحكم أن تبين المرأة
من زوجها بالصلح، كان جائزا أو غير جائز، فاشتراطه أن يكون له الرجعة عليها
إن لم يكن الصلح جائزا لا يجوز؛ لأنه شرط يخالف حكم الشرع، قد قال رسول
الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فهو باطل
وإن كان مائة شرط» ، وقوله: ولا يصلح في صلح رجل وامرأة أكثر من الرضاع، هو
مثل قوله في المدونة: وإنما لم يجز ذلك؛ لأنه غرر، إذ قد يموت الصبي قبل
الأجل الذي التزمت نفقته إليه، ومن
(5/338)
قوله: إن الخلع بالعبد الآبق، والجمل
الشارد، والجنين في بطن أمه، والثمرة قبل أن يبدو صلاحها جائز، فقيل: إن
ذلك اختلاف من قوله وقيل: إن ذلك فرق بين المسألتين؛ لأن غرر العبد الآبق،
والجنين، وما أشبهه، لا يقدر على إزالته، وقد تدعو المرأة الضرورة إلى
المخالعة، وليس لها إلا ذلك، وغرر التزام نفقة الولد بعد الرضاع أعواما
يقدر على إزالتها بأن يشترط ألا يسقط النفقة عنها بالموت، وأن يكون للزوج
أن يأخذها به إلى الأجل الذي سمياه وإن بعد، وكذلك ما أشبه النفقة مما يقدر
على إزالته كالصلح بمال إلى أجل مجهول، وما أشبه ذلك.
فيتحصل في المسألة ثلاثة أقوال: أحدها هذا والثاني أن الخلع بالغرر جائز،
كان الغرر مما يقدر على إزالته أو لا يقدر، وهو قول المخزومي في المدونة
وقول سحنون هنا، والثالث أن ذلك لا يجوز، كان مما يقدر على إزالته أولا
يقدر، وهو قول ابن القاسم في رسم إن خرجت من سماع عيسى من هذا الكتاب؛ لأنه
إذا لم يجز الخلع بالغرر الذي لا يقدر على إزالته، فأحرى أن لا يجيزه
بالغرر الذي يقدر على إزالته، واختلف على القول بأن الخلع بالغرر لا يجوز
إذا ألزم الزوج الطلاق، وأبطل ما خالع عليه من الغرر، هل له أن يرجع عليها،
إذا أبطل عنها الجميع بخلع مثلها؟ وإذا أبطل عنها البعض، كالذي يخالع على
رضاع ابنها، والنفقة عليه بعد الرضاع إلى أجل معلوم إذا بطل عنها ما أراد
على حول الرضاع أن يرجع عليها بمقدار ذلك الجزء من خلع مثلها، على قياس قول
ابن القاسم في رسم إن خرجت من سماع عيسى، وأما المختلعة على رضاع الولد
خاصة، فلا اختلاف في جواز ذلك، وإن كان فيه غرر، إذ قد يموت الولد قبل
انقضاء أمد الرضاع من قبل أن الرضاع قد يتوجه عليها في عدم الأب، فلما كان
قد
(5/339)
يتوجه عليها في حال استخف الغرر فيه، ولا
رجوع للأب عليها بشيء إذا مات الولد قبل انقضاء أمد الرضاع، إذا كانا إنما
عملا على أن أبرأته من مؤونة رضاعه بإفصاح وبيان.
واختلف إذا وقع الأمر مبهما، فحمله مالك في المدونة على ما تأول عليه ابن
القاسم على أنها إنما أبرأته من مئونة رضاعه، فلا يرجع عليها بشيء، وقال ما
رأيت أحدا طلب ذلك. وفي المختصر الكبير، إنه لو طلب ذلك لكان فيه قول،
وبالله التوفيق.
[مسألة: له الأخت بالأندلس فيريد أن يخرج إليها
ويخاف عليها الضيعة]
مسألة وسئل مالك عن الرجل تكون له الأخت بالأندلس، فيريد أن يخرج إليها
ويخاف عليها الضيعة، وفيما بينه وبينها فساد وحرب، يخاف الهلاك على دينه،
قال: لا أحب له أن يدخل في شيء يخاف فيه الهلاك على دينه.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن الخوف على الدين، كالخوف على النفس
وأشد، وإذا كان ذلك يسقط فرض الحج، لقول الله عز وجل: {مَنِ اسْتَطَاعَ
إِلَيْهِ سَبِيلا} [آل عمران: 97] ، فأحرى أن يسقط عنه ما يلزمه من إعانة
أخته مخافة الضيعة عليها.
[يغيب عن امرأته سنين ثم يتسلف لنفقتها]
ومن كتاب طلق وسئل مالك عن الرجل يغيب عن امرأته سنين، ثم يتسلف لنفقتها،
ويعلم ذلك جيرانها من حالها، وأنه لا يبعث إليها بنفقة، فيموت في غيبته،
فتطلب ذلك، وتريد أن تأخذه من ماله، أترى ذلك لها؟ قال: هذه أمور إنما يقضى
فيها على وجه ما ينزل باجتهاد الإمام العدل في ذلك، والحي إذا قدم أبين
عندي شأنا، إن طلبت النفقة أغرم فإن أنكر أحلف يريد بذلك ويبرأ، وقال في
الموت:
(5/340)
يغيب عشرين سنة، ثم يموت، فتريد أخذ ماله
استنكارا أن يكون لها ذلك في الموت، إلا أنه قال اجتهاد الإمام العدل في
ذلك حين ينزل بالذي يرى.
قال ابن القاسم: ذلك رأيي وأحسن ما سمعت في ذلك، قال: وبلغني عن مالك أنه
قال: إن كان حيا وقدم وقد كانت رفعت ذلك إلى السلطان، رأيت أن ترجع عليه إن
كان موسرا في غيبته، وإن كانت لم ترفع ذلك إلى السلطان، فقدم فأنكر، وزعم
أنه قد بعث إليها أو خلف عندها، رأيت أن يحلف ويبرأ، وإن قدم فأقر، نظر،
فإن كان موسرا في غيبته اتبعته، وإن كان معسرا لم تتبعه إلا من يوم أيسر،
وإن مات لم أر لها شيئا إلا أن ترفع ذلك إلى السلطان، فتكون لها يوم رفعت
ذلك إلى السلطان، إلى أن مات، وما كان قبل ذلك فلا شيء له؛ لأنه لو قدم
فأنكر، صدق وحلف، وهو قول مالك.
قال سحنون: إذا قدم الزوج فقال: كنت في غيبتي معدما، كان القول قوله مع
يمينه، وكلفت المرأة البينة أنه كان مليا وقاله عثمان بن كنانة.
قال محمد بن رشد: لا اختلاف أحفظه في أن القول قول الزوج مع يمينه إنه أنفق
على امرأته إن كان حاضرا، أو أنه خلف عندها نفقتها، أو بعث بها إليها إن
كان غائبا، إذا أنكرت الزوجة ذلك، وطلبته بالإنفاق، ويحلف في دعواه بعث
النفقة إليها، لقد بعث بها إليها، فوصلت إليها وقبضتها، كذلك في سماع أشهب
من كتاب الأقضية لابن غانم.
واختلف إن رفعت ذلك إلى السلطان في مغيبه، فقال: هاهنا وهو المحفوظ في
المذهب: إن القول قولها من يوم رفعت ذلك إلى السلطان. وذكر أبو القاسم بن
الجلاب في كتابه عن مالك في ذلك روايتين: إحداهما هذه.
والثانية إن القول قوله على كل حال، وإن رفعت ذلك إلى السلطان، ولها وجه
صحيح في النظر، وهو أنها تتهم على أنها إنما فعلت ذلك إعدادا ليكون القول
قولها، وإذا قدم من مغيبه فأقر أنه لم يبعث إليها بشيء، ولا خلف عندها
شيئا، أو أنكر فنكل وحلفت المرأة أو
(5/341)
كانت قد رفعت ذلك إلى السلطان، فصدقت من
يوم رفعت مع يمينها على القول بأنها تصدق في ذلك، فإنه يجب لها أن تتبعه
بالنفقة، إن كان موسرا، وتسقط عنه إن كان معدما. واختلف إذا قدم فادعى أنه
كان في مغيبه معدما، وقد جهل حاله يوم خروجه، على ثلاثة أقوال: أحدها أنه
محمول على اليسار، فلا يصدق فيما ادعى من أنه كان في مغيبه معدما، وهو قول
ابن الماجشون، في الواضحة، وتأوله بعض أهل النظر، على معنى ما في المدونة،
والثاني: أنه يصدق إن قدم معسرا، ولا يصدق إن قدم موسرا، وهو نص قول ابن
القاسم في كتاب ابن المواز، وظاهر ما في المدونة عندي.
والثالث أنه يصدق، قدم موسرا أو معسرا، وهو ظاهر قول سحنون، وابن كنانة
هاهنا، وأما إن علمت حاله يوم خروجه باليسر أو العدم، فهو محمول على ما علم
به من ذلك، وإن قدم على خلاف ذلك، هذا قول ابن الماجشون في الواضحة.
وحكى أبو عمر الإشبيلي في اختصار الثمانية لابن بطير أنها رواية لابن
القاسم، وهو صحيح؛ لأنه إذا خرج موسرا فقد ثبت أن الإنفاق عليه واجب، فلا
يسقط عنه إلا بيقين، وإذا خرج معدما، فقد ثبت أن الإنفاق قد سقط عنه، فلا
يعود عليه إلا بيقين وقد تأول ابن زرب على سحنون، وابن كنانة، إن القول
قوله، إن كان معدما وإن علم أنه خرج موسرا، وأنكره، وهو تأويل بعيد، لا
سيما إن كان قدم موسرا أيضا.
وأما إن مات في مغيبه، فالقياس ألا شيء لها في ماله، إذا لم ترفع ذلك إلى
السلطان، على ما حكى ابن القاسم آخرا أنه بلغه عن مالك؛ لأن المعلوم من شأن
الأزواج النفقة على أزواجهم، وإنما كان لها على زوجها في ذلك اليمين، فلما
مات سقط حقها في ذلك، إلا أن تدعي على الورثة أنهم علموا أنه لم يخلف عندها
شيئا، ولا بعث إليها بشيء، فيكون لها أن تحلف منهم على العلم، من كان مالكا
لأمر نفسه، وإلى هذا ينحو قول مالك أولا، وإن كان قد رأى أن يجتهد في ذلك
واستحسنه ابن القاسم.
[مسألة: الرجل يشهد عليه بأنه طلق امرأته ألبتة]
مسألة وسئل مالك عن الرجل يشهد عليه بأنه طلق امرأته ألبتة،
(5/342)
وقد ماتت، أترى أن يرثها؟ قال: لا، هو حي،
قيل له: أفرأيت إن مات هو، أترى أن ترثه؟ قال: ليس هي مثله، قال: نعم،
ترثه. قاله سحنون: معناه إن الشهود كانوا قياما معه فلم يقوموا عليه حتى
مات.
قال محمد بن رشد: قول سحنون: معناه إن الشهود كانوا قياما معه فلم يقوموا
عليه حتى مات، ليس بصحيح، إذ لو كانوا قياما معه فلم يقوموا عليه حتى مات،
لوجب أن يرث كل واحد منهما صاحبه؛ لأن شهادتهم كانت تبطل بترك قيامهم لها،
وإنما وهم سحنون، في تفسير قول مالك: والله أعلم، لما وقع في كتاب الأيمان
بالطلاق من المدونة من قول يحيى بن سعيد، في شهود شهدوا على رجل بعد موته،
أنه طلق امرأته، لا تجوز شهادتهم إذا كانوا حضورا. ولامرأته الميراث، وكذلك
لو كان يقول يحيى بن سعيد أيضا: لو ماتت هي، إن له الميراث، من أجل سقوط
شهادة الشهود لحضورهم، فليس معنى مسألة مالك، إلا أن الشهود كانوا غيبا.
وكذلك وقع له في رسم حمل صبيا من سماع عيسى من كتاب الأيمان بالطلاق، أن
الشهود كانوا غيبا لا يتهمون، فمالك أحق بتبيين ما أراد، ووجه تفرقته بين
ميراثها منه وميراثه منها هو أنه إذا كان هو الميت، فلم يعذر إليه في شهادة
الشهود، ولعله لو أعذر إليه فيهم لأبطل شهادتهم، فرأى لها الميراث، من أجل
أن الشهادة لا يجب الحكم بها إلا بعد الإعذار إلى المشهود عليه، وإن كانت
هي الميتة، أمكن أن يعذر إليه، فإن عجز عن المدفع وجب الحكم بالطلاق يوم
وقع، فلم يكن له ميراث منها.
وقال محمد بن المواز: إنما ورثته ولم يرثها لأنه كالمطلق في المرض؛ لأن
الطلاق وقع يوم الحكم، ولو لم يقع يوم الحكم لكان فيه الحد. قال أبو إسحاق:
وهو كلام فيه نظر؛ لأن الحاكم إنما ينظر شهادة البينة وهي تقول: إن الطلاق
وقع قبل الموت، وأما درء الحد بالشبهة إما لنسيانه، وإما لإمكان أن يكون
صادقا في إنكار الشهادة، ولو كان الطلاق وقع بعد الموت لورثها هو أيضا.
والقياس أنها لا ترثه، كما لا يرثها؛ لأن الإعذار
(5/343)
يجب إليهما جميعا، فكما لا يرثها وإن لم
يعذر إليها، لا ترثه وإن لم تعذر إليه، وهو قول سحنون ويحيى بن عمر. وسيأتي
في رسم بع من سماع عيسى طرف من هذا المعنى، وبالله التوفيق.
[العبد يتزوج المرأة فيطلقها فتتزوج فيريد أخذ
ولده]
ومن كتاب سن رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وسئل مالك عن العبد يتزوج
المرأة فيطلقها، فتتزوج، فيريد أخذ ولده، فقال: شأن العبد في هذا إلى
الضعف، ولعله يذهب به إلى بلدة أخرى فأرى أمه أحق به، وينظر في ذلك للولد.
وقال الله عز وجل: {لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ
بِوَلَدِهِ} [البقرة: 233] ، قال ابن القاسم: إذا كان العبد مثل القائم في
مال سيده التاجر، الذي له الكفاية، فأراه أحق بولده إذا تزوجت، وأما العبد
الوغد الذي يخارج في السوق أو يبعثه سيده في الأسفار، فأرى أمه أحق به؛ لأن
مثل هذا يأخذه إلى غير أهل ولا كفاية، وإن بيع العبد فانقطع به، رأيت أمه
أحق به وغدا كان أو غير وغد؛ لأنه يؤخذ ماله ويذهب به في البلاد.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة بين، وقول ابن القاسم صحيح لا وجه
للقول فيه.
[مسألة: بينه وبين ختنته كلام في امرأته فقال
لها انقلي ابنتك إلى بيتك]
مسألة قال مالك: في رجل كانت بينه وبين ختنته كلام في امرأته، فقال لها:
انقلي ابنتك إلى بيتك؟ ثم لقيها في الطريق، فدفع إليها دنانير، كانت
لابنتها عنده، ثم قال: انقلي ابنتك إليك؟ ثم سئل بعد ذلك، فقال: لم أرد
طلاقا. قال: يحلف بالله ما أراد طلاقا ولا نواه ثم ترد عليه امرأته ولا شيء
عليه.
(5/344)
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأن الشبهة
في أن يكون أراد بذلك الطلاق بينة، فإن لم يحلف دخل ذلك من الخلاف ما في
مسألة من شهد عليه شاهد بالطلاق فنكل عن اليمين، حسبما مضى في أول رسم من
هذا السماع. ولو أتى مستفتيا لم يجب عليه شيء ونوي دون يمين، والله الموفق.
[مسألة: مس الطيب للمتوفى عنها زوجها]
مسألة قال مالك: في المرأة المتوفى عنها زوجها إنها لا تمس طيبا إذا كانت
حاملا حتى تضع حملها، وإن قعدت سنين، وإنما مثل ذلك مثل ما لو أنها وضعت
بعد ذلك بيوم، فمست فيه الطيب، فكما كانت تمس الطيب بعد يوم، إذا هي وضعت،
فكذلك هي لا تمس الطيب وإن قعدت أكثر من أربعة أشهر وعشر حتى تضع حملها.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: لأن عدة المتوفى عنها زوجها وهي حامل، وضع
الحمل، لقول الله عز وجل: {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ
يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] ؛ لأنها آية خصصت قوله عز وجل:
{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} [البقرة:
234] ، الآية، وبينت أن المراد بها غير ذوات الأحمال، بدليل «قول النبي -
عَلَيْهِ السَّلَامُ - لسبيعة الأسلمية، وقد وضعت بعد وفاة زوجها بليال: "
قد حللت فانكحي ما شئت» ، وهذا الحديث يرد قول من قال: إنها تعتد أقصى
الأجلين، فوجب أن تحد طول عدتها طالت أو قصرت.
[اليتيم يكون عند الرجل فيأخذ نفقته]
ومن كتاب أوله أخذ يشرب خمرا قال: وسئل عن اليتيم يكون عند الرجل، فيأخذ
نفقته،
(5/345)
فيريد أن يخلطها بنفقته، ويكون طعامهما
واحدا، كيف ترى فيه؟ قال: أنا أخبرك بالشأن فيه، إن كان يعلم أنه يفضل
عليه، وأن الذي ينال اليتيم من طعامه، هو أفضل وأكثر من نفقته فلا أرى بذلك
بأسا وإن كان لا ينال من ذلك الذي هو أفضل فلا يعجبني.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال والأصل فيه قول الله عز وجل: {وَإِنْ
تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ
الْمُصْلِحِ} [البقرة: 220] ، وقد مضى هذا المعنى في رسم شك.
[صالح امرأته وهي حامل وشرط عليها ألا نفقة لها]
ومن كتاب تأخير صلاة العشاء في الحرس. وسئل مالك عن رجل صالح امرأته وهي
حامل، وشرط عليها ألا نفقة لها حتى تضع حملها، فإذا وضعت حملها، أسلمته
إليه، فإن طلبته بنفقته ورضاعه عليها حتى تفطمه، وإن لم تستقم له بذلك فهي
امرأته، قال مالك: الصلح جائز، وكل ما اشترط عليها جائز، إلا ما اشترط أنها
ترجع إليه، فلا ترجع إليه، وقد بانت منه.
قال محمد بن رشد: هذا كله كما قال لأن ما اشترط عليها أحق لها، فجاز أن
يشترط عليها حاشا الرجعة، وقد مضى معناه وما بينه في رسم حلف قبل هذا،
وبالله التوفيق.
[مسألة: الغلام الذي قد عرف السن وبلغ أن يطلق
أيجوز طلاقه]
مسألة وسئل عن الغلام الذي قد عرف السن وبلغ أن يطلق، أيجوز طلاقه؟ قال: إن
كان لم يبلغ الحلم، فلا أرى أن يجوز طلاقه، إلا أن يحتلم، إلا أن يكون ممن
لا يحتلم، فإذا بلغ مبلغ الحلم، جاز
(5/346)
ذلك عليه، ومن الناس من لا يحتلم أبدا.
قال محمد بن رشد: قد روى ابن وهب عن مالك، في المراهق إذا طلق، إن الطلاق
يلزمه، ومثله في رسم أخذ يشرب خمرا من سماع ابن القاسم من كتاب الأيمان
بالطلاق، في المناهز للحلم.
ومعنى ذلك، إذا كان قد أنبت فقال ابن وهب: لا يلزمه الطلاق حتى يحتلم، مثل
قول مالك هاهنا، فهذا الاختلاف جار على اختلاف قوله في المدونة في الإنبات،
هل يحكم له به بحكم الاحتلام أم لا؟ وهذا فيما يلزمه في الحكم الظاهر من
الطلاق والحدود، وأما فيما بينه وبين الله، إذا أتى مستفتيا فلا يلزمه طلاق
حتى يحتلم أو يبلغ حد سن الاحتلام، وذلك خمسة عشر عاما عند ابن وهب، وسبعة
عشر عاما عند ابن القاسم، وثمانية عشر، على اختلاف قوله في ذلك، وبالله
التوفيق.
[ينفق على ولده من امرأة قد طلقها]
ومن كتاب كتب عليه ذكر حق وسئل مالك عن الرجل
ينفق على ولده من امرأة قد طلقها، ثم إن الغلام ورث مالا فأنفق عليه
بعد ما ورث، ثم مات فأراد أن يحاسب الأم في ميراثها في مال الغلام، من يوم
ورث المال، وأبت الأم، قال مالك: ذلك للأب أن يحاسبها من يوم ورث، ولا أرى
على الأب يمينا للأم أنه قد أنفقه عليه من عنده إذا كان مقلا.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة مثل التي تقدمت في رسم سلعة سماها، ولم يفرق
فيها بين أن يكون المال عينا أو عرضا، كما فرق في أول رسم، فيحتمل أن يكون
المعنى فيها أن الميراث لم يكن قبضه بعد، ولا صار بيده، وأن يكون قد قبضه
واستنفقه وهو الأظهر، لقوله يحاسب الأم في ميراثها؛ لأن الأظهر في المحاسبة
أن يكون قد ترتب في الذمم، لا يصح جوابه إلا على أحد هذين الوجهين. وقد مضى
بيان هذا كله في أول السماع، والله الموفق.
(5/347)
[يطلق امرأته إلى أجل يسميه]
ومن كتاب سلعة سماها وسئل مالك عن الرجل يطلق
امرأته إلى أجل يسميه، وإن أناسا قد اختلفوا في ذلك، وأن عطاء بن
أبي رباح قد كان يقول ذلك، قال مالك: لا قول لعطاء ولا غيره، في أشباه هذه.
المدينة دار النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونقله الله
إليها، وجعلها دار الهجرة، فأما ما ذكر من طلاق الرجل إلى أجل، وأن صاحب
ذلك يستمتع بامرأته إلى ذلك الأجل، فإنا لم ندرك أحدا من علماء الناس يقول
هذا. وهذا يشبه المتعة التي أرخص فيها من أرخص من أهل مكة وغيرهم، فإذا كان
يجوز له أن يطلق امرأته إلى أجل شهر أو شهرين، ثم يصيبها بعد ذلك إلى
الأجل، فهو يجوز أن ينكحها على مثل ذلك، ينكحها إلى شهر، ثم هي طالق. فهذه
المتعة بعينها.
قال مالك: فإن كان هذا يجوز له، فإنه يجوز له أن يباري امرأته إلى شهر أو
سنة، فيقول: آخذ منك هذا، ثم أصيبك إلى سنة ثم قد باريتك بما أخذت منك،
ويجوز له أن يقاطع جاريته إلى رأس الهلال، ويقول: أصيبك إلى ما بيني وبين
ذلك، ومما هو مثل ذلك، أن يكاتب الرجل جاريته، فيكتب لها الكتابة ويقطع
عليها النجوم، ويشترط عليها شروط المكاتب، وعلى أني أصيبك سنة أو شهرا أو
شهرين، ثم أنت حرام، فإن كان هذا وما يشبهه من الأشياء، ومن عمل الإسلام،
ومما مضى عليه السلف، فقد صدق، وإن كان هذا وما يشبهه من الأشياء التي ذكرت
مخالفا لما قالوا، وعلى ذلك مضى العمل، وبه مضت السنة فقد أبطل القوم.
قال محمد بن رشد: قياس قول مالك الطلاق إلى أجل في أن ذلك لا يجوز، على ما
نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عنه من نكاح المتعة، وعلى
المسائل التي ذكرها صحيح، لاتفاق المعنى في ذلك على ما ذكر. واستدلاله على
صحة ذلك بأن
(5/348)
الذي عليه أهل المدينة التي هي دار الهجرة،
دليل على أن إجماعهم عنده حجة، فيما طريقه الاجتهاد، وأن اجتهادهم مقدم على
اجتهاد غيرهم، والذي عليه أهل التحقيق، أن إجماعهم إنما يكون حجة فيما
طريقه التوقيت، أو أن يكون الغالب منه أنه عن توقيت، كإسقاط زكاة
الخضراوات؛ لأنه معلوم أنها كانت في وقت النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -،
ولم ينقل أنه أخذ منها الزكاة، فلما أجمع أهل المدينة على ذلك، وجب أن يعمل
بما أجمعوا عليه من ذلك، وإن خالفهم فيه غيرهم.
ومثله الأذان الذي قد كان على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -، واتصل العمل به في المدينة، فوجب أن يعمل بما اتصل عملهم به
في ذلك، وإن خالفهم فيه غيرهم، ومثل هذا كثير.
[مسألة: يصدق المرأة صداقها فتشتري به متاعا ثم
يطلقها قبل أن يجمعها إليه]
مسألة قال مالك: وذكرت ما أنكروا من قول أهل المدينة في الرجل يصدق المرأة
صداقها، فتشتري به متاعا ثم يطلقها قبل أن يجمعها إليه، فأنكروا أن يكون
للزوج نصف ما اشترت، وأن على الزوج إذا تزوج امرأة أن يسكنها بيتا، وليس له
أن يسكنها بيتا لا سقف له، وليس له أن يسكنها بيتا ليس في ذلك البيت ما
يصلحها مما يحتاجون إليه، وليس له أن يضربها، وإن الرجل إذا تزوج المرأة
وأصدقها، كان عليه أن يتجهز له بما يصلح الناس في بيوتهم.
أما أن يكون الرجل مع أبويه فينتقل إلى بيت فيه من المتاع ما يصلح الناس:
الفراش والقدح وما أشبه ذلك، مما لا يستغني الناس عنه، وإنما ينتقل إلى أهل
وبيت، فيه ما يصلح من المتاع والفراش والقدح، وإن كان ذلك دنيا من الأمر أو
مرتفعا تلك المصلحة، التي تصلح.
وإنما أعطيت الصداق لتتخذ ذلك، وتتخذ خادما، إن كان في الصداق ما يبلغ ذلك،
فليس لها أن تأخذ الصداق، ولا تتخذ
(5/349)
متاعها ولا خادما، فإن كان ذلك عليها أن
تتخذ له ولها فاتخذت ذلك، ثم قدر له أن يطلقها، فليس عليها أن تغرم له شيئا
إلا نصف ما اشترت مما يصلحه ويصلحها، مما لا غنى لهما عنه مما لو دخلت
عليه، فإن كان الذي فعلت صوابا فليأخذ نصفه، وليس عليها الغرم، ولو كان
عليها لم يصر بيدها شيء لو بيع ذلك المتاع، لم يأت بنصف ثمن ما أعطاها فإن
قال الزوج: هي أدخلت هذا علي، فلو شاءت لم تشتر، فلو شاء هو عجل الطلاق،
والصداق على هيئته، فيأخذ نصفه، أو طلقها قبل أن يبعث إليها.
قال محمد بن رشد: أنكر مالك على أهل العراق قولهم: إن الرجل إذا تزوج
المرأة فعليه أن يسكنها بيتا له سقف، وعليه أن يضع فيه من ماله ما يصلح
المرأة مما يحتاجون إليه، وما أنكروا على قول أهل المدينة، إن على الرجل
إذا طلق امرأته قبل الدخول، أن يأخذ نصف ما اشترت بصداقها.
وذهب إلى أن المرأة يلزمها أن تتجهز من نقدها لزوجها بما يصلحه ويصلحها.
قال: فإذا كان يجب ذلك عليهما، وجب عليه إذا طلقها بعد أن تجهزت، وقبل
البناء بها أن يأخذ نصف ما اشترت، وقوله صحيح؛ لأنه قد أذن لها فيه وأدخلها
فيه، إذ دفع إليها الصداق على ذلك بالعرف الجاري، فلو كان له أن يأخذ منها
نصف ما نقدها، لباعت فيه جميع ما اشترت، فلم يبق بيدها شيء، فلم يكن لما
أنكروا من قول أهل المدينة وجه.
وقد قال أبو يوسف للمغيرة في احتجاجه عليه: أرأيت إن اشترت المرأة بصداقها
مزمارا أو أبواقا أيأخذ الرجل نصف ذلك؟ فقال له: أما عندنا فلا يتجهز
النساء إلى أزواجهن بذلك، فإن كان عندكم يتجهز النساء بذلك إلى أزواجهن،
لزمه أن يأخذ نصف ذلك، والله المعين.
[مسألة: يتزوج وهو مريض]
مسألة قال مالك: إن من حجتنا في الذي يتزوج وهو مريض، أنه
(5/350)
ليس لها ميراث؛ لأنه يمنع أن يطلق وهو
مريض، فأنزل ذلك منه على وجه الضرر، فكما كان يمنع من الطلاق وهو مريض، لحق
امرأته الثمن، فإنه لا ينبغي له أن يدخل عليها من ينقصها من ثمنها.
قال محمد بن رشد: وهذا بين على ما قال؛ لأن المعنى الذي من أجله لم يجز له
أن يطلق في المرض، موجود في النكاح، فلا يجوز له أن يزيد على ورثتهم، كما
لا يجوز له أن يخرج عنهم وارثا، والله الموفق.
[مسألة: النصرانية تسلم وهي حامل ولها زوج
نصراني]
مسألة وقال مالك: في النصرانية تسلم وهي حامل، ولها زوج نصراني، قال مالك:
أرى أباه أحق به، ويكون الولد على دين أبيه، وهي أولى بحضانته ما كان
صغيرا، وكذلك لو أنها أسلمت ولها ولد صغير، كان أبوه أحق به، ويكون على
دينه، وإن ماتت بعد أن تلده لم ترثه.
قال محمد بن رشد: هذا هو المشهور في المذهب، إن الولد لا يكون مسلما إلا
بإسلام أبيه، وقال ابن وهب: إنه مسلم بإسلام من أسلم من أبويه لأن الإسلام
يعلو ولا يعلى عليه.
ويؤيد قولَه قولُ النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «كل مولود يولد على
الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه» ، الحديث. على تأويل من جعل خبر
المبتدأ في يولد على الفطرة؛ لأنه على هذا التأويل يقتضي للعموم في جميع
المولودين، فلا يكون نصرانيا ولا يهوديا، إلا أن يكون أبواه جميعا على ذلك،
وقد تكلمنا على هذا الحديث، واستوعبنا القول فيه، في
(5/351)
كتاب أفردناه لذلك، فمن أحب الشفا من ذلك،
فليقف على ما ذكرناه إن شاء الله وبه التوفيق.
[يحلف بطلاق امرأته فيشك في تعينه]
ومن كتاب أوله الشريكين يكون لهما مال. وقال مالك: في الرجل يحلف بطلاق
امرأته، فيشك في تعينه، فيقف ويسأل، ويستفتي ثم يتبين له حنثه. قال مالك:
تعتد من حين وقف عنها، وليس من حين يتبين له. قيل لابن القاسم: فإن مات قبل
ذلك أيتوارثان؟ قال: ينظر في يمينه، فإن كان لم يحنث فيها لم ترثه وإلا
ورثته.
قال محمد بن رشد: قوله: إنها تعتد من حين وقف، وليس من حين يتبين له حنثه
صحيح لا اختلاف فيه؛ لأن العدة إنما تكون من يوم الطلاق، والطلاق إنما وقع
عليه يوم الحنث، لا يوم تبين له أنه حنث؛ لأنه إنما تبين له اليوم أن
الطلاق قد كان وقع عليه قبل حين وقف عنها، وقوله في الميراث: إنه ينظر في
يمينه، فإن كان يحنث فيها لم ترثه، وإلا ورثته. وفي بعض الكتب، لم ترثه ولم
يرثها ليس بخلاف لما تقدم في رسم طلق في الذي يشهد عليه الشهود، أنه طلق
امرأته ألبتة، أنها ترثه، ولا يرثها، والفرق بين المسألتين أن الرجل في هذه
لم يزل مقرا على نفسه بما أوجب عليه الطلاق، فوجب ألا يكون بينهما ميراث
بعد وقوع الطلاق، ومسألة كتاب طلق شهد عليه الشهود، وهو منكر لشهادتهم،
فوجب في ذلك الإعذار إليه، حسبما تقدم القول فيه، وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف بطلاق امرأته واحدة ألا يفعل شيئا]
مسألة وقال مالك: في رجل حلف بطلاق امرأته واحدة ألا يفعل شيئا، أو أن
يفعله، فيقع عليه الحنث، وهي في الدم. قال مالك: يجبر على رجعتها.
(5/352)
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال، وهو مما لا
اختلاف فيه؛ لأن الطلقة الواحدة، إذا لم يكن معها فداء، فهي رجعية، سواء
وقعت بيمين أو بغير يمين.
ومن طلق امرأته واحدة في الحيضة أجبر على الرجعة بالسنة الثابتة في ذلك عن
النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، قيل: ما دامت في العدة، وهو المشهور في
المذهب، وقيل: ما لم تطهر ثم تحيض ثم تطهر، وهو قول أشهب، ومن أهل العلم من
يرى أنه لا يجبر على الرجعة إلا ما دامت الحيضة التي طلقها فيها والمسألة
متكررة في آخر الرسم من سماع أشهب.
[مسألة: غاب عن امرأته فعرف موضعه أيضرب
لامرأته أجل المفقود]
مسألة وسئل مالك عمن غاب عن امرأته، فعرف موضعه، أيضرب لامرأته أجل
المفقود؟ قال: لا، ولكن يكتب إليه فيها، قيل له: فإن بعث إليها بنفقة
وأقرها قال مالك: أما الحين فإني أرى ذلك له، وإن طال ذلك لم يكن له أن
يبعث إليها بنفقة، ويحتبس عنها. قيل له: أفلذلك وقت؟ فقال: ما سمعت، ولكن
إذا طال ذلك.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: إن الغائب إذا عرف موضعه، فليس بمفقود فإن
احتبس عن امرأته كتب إليه، إما أن يقدم عليها، وإما أن يحملها إليه، وإما
أن يفارقها على ما جاء عن عمر بن عبد العزيز، وقع ذلك له في الإيلاء من
المدونة، وفي رسم شهد من سماع عيسى من هذا الكتاب، فإن لم يفعل وطال الأمر
طلق عليه؛ لأن ذلك من الإضرار بها.
وقد قال عز وجل: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [البقرة:
231] ، ولم يحد هاهنا حدا في الطول. وقال في رسم شهد المذكور: إن السنتين
والثلاث في ذلك قريب، وليس بطويل. وهذا إذا بعث إليها بنفقة، وأما إن لم
يبعث إليها بنفقة ولا علم له، قال: فإنها تطلق عليه بعد الإعذار إليه
والتلوم عليه، وأما إن علم أنه
(5/353)
موسر بموضعه، فيفرض لها النفقة عليه تتبعه
بها، ولا يفرق بينهما. هذا ظاهر قول ابن حبيب في الواضحة. ومعنى ذلك ما لم
يطل على ما قال هاهنا، والله أعلم.
[طلق امرأته وله منها ثلاثة أولاد رجال]
ومن كتاب اغتسل على غير نية. وسئل مالك عن رجل
طلق امرأته وله منها ثلاثة أولاد رجال، فنكحت بعده رجلا، فولدت له
ولدا، ثم نازع زوجها الذي فارقها ولده منها، فقال لقوم شهدوه: أشهدكم أنهم
ليسوا لي بولد، فقال ابنها من غيره: آخذك بحق أمي وقد قذفتها، وطلبت الأم
ذلك، وعفا بنوه عن ذلك، قال مالك: أرى أن يحلف بالله ما أراد قذفا، ولا قال
ذلك إلا على وجه أنه يريد ولو كانوا ولدي ما صنعوا كذا وكذا، كمثل الرجل
يقول لخادمه: لو كنت لي خادما ما فعلت كذا وكذا، فإذا حلف لم أر عليه شيئا.
قال محمد بن رشد: وقعت هذه المسألة في كتاب القذف من المدونة وزاد فيها ابن
القاسم، فإن لم يحلف ضرب الحد، وهو تمام المسألة. وإن حلف لم يكن عليه شيء؛
لأنه كلام إن لم يرد به القذف فليس بسب واختلف في الكلام المتردد بين السب
والقذف، مثل أن يقول له: يا خبيث، ويا ابن الخبيث، فقال أشهب: يحلف أنه ما
أراد بذلك القذف فإن حلف نكل، وإن نكل حد. وقال ابن القاسم في المدونة ينكل
حلف أو لم يحلف، يريد، ويكون تنكيله، إذا لم يحلف بعد السجن أشد، واضطرب
قوله في هذا الأصل، وبالله التوفيق.
[مسألة: المحرم يراجع امرأته]
مسألة وقال مالك: في المحرم: إنه يراجع امرأته ما دامت له عليها الرجعة،
فأما المختلعة، والمباراة، ومن لا رجعة له عليها من
(5/354)
النساء، فلا يراجعها المحرم؛ لأن ذلك نكاح
جديد.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه أحفظه؛ لأن المطلقة
واحدة باقية في العصمة، ما لم تنقض العدة، فليس الارتجاع بعقد النكاح،
وإنما هو إصلاح للثلم الذي أوجبه الطلاق فيها، وبالله التوفيق.
[مسألة: امرأة المفقود تتزوج قبل أربع سنين]
مسألة وسئل عن امرأة المفقود تتزوج قبل أربع سنين، قال: يفرق بينهما، فإذا
انقضت عدتها أنكحها إن أحب ذلك، عندي مثل المتوفى عنها زوجها، ولا المطلقة،
إذا أنكحها قبل انقضاء العدة، ثم دخل بها؛ لأن امرأة المفقود تتزوج في أربع
سنين مخالفة لهما. وإني أرى أن يكون في هذا عقوبة من السلطان، لامرأة
المفقود وناكحها.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأنه ليس بمتزوج في عدة، إلا أن ينكشف أن
نكاحه وقع في العدة، وقد دخل بها، فتحرم عليه. وقد مضى هذا المعنى والقول
فيه مجودا في رسم أسلم من سماع عيسى من كتاب النكاح.
[تصالح زوجها على رضاع ابنه ونفقته إلى فطامه
فتحتاج ولا تجد ما تنفق عليه]
ومن كتاب البر وسئل مالك عن المرأة تصالح زوجها على رضاع ابنه ونفقته إلى
فطامه، فتحتاج، ولا تجد ما تنفق عليه. قال مالك: يكلف الأب نفقته، قال ابن
القاسم: ويتبعها إن أيسرت.
قال محمد بن رشد: قد روي عن ابن القاسم: أن لا يتبعها بشيء، رواه أصبغ عنه
في الموازية، وعيسى في المدنية، والقياس أن يتبعها؛ لأن النفقة قد وجبت
عليها بالصلح، فهو في إنفاقه عنها كالحميل إذا أدى، يرجع
(5/355)
بما غرم، وإنما قال: إنه لا يتبعها
استحسانا من أجل أن النفقة واجبة عليه في الأصل، وإنما ألزم ذلك إياها من
"أجل ذلك، لا من أجل أنه حميل بها، إذ لم يتحمل بشيء. والمسألة متكررة في
سماع أشهب من كتاب التخيير. وقد مضى القول على هذا المعنى في سماع سحنون من
كتاب النكاح، والحمد لله.
[مسألة: يوسع على اليتيم في نفقته]
مسألة قال مالك: أرى أن يوسع على اليتيم في نفقته. وكان ربيعة يقول ذلك،
ويقول: هو أثبت لهم، إذا طابت أنفسهم، وأحسن إليهم. قال مالك: ولا ينظر إلى
صغره فرب كثير أكثر نفقة من كبير، قال مالك: وكان سالم بن عبد الله له
خريطة كبيرة ليتامى له، فلا يختم عليها يجعل فيها كل شيء لهم من فضل تقطيع
ثوب أو دينار أو درهم.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال، ينبغي أن يوسع عليهم في الإنفاق على قدر
أموالهم من غير إسراف. قال الله عز وجل: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا
لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا}
[الفرقان: 67] ، وقال عمر بن الخطاب: إذا أوسع الله عليكم فأوسعوا على
أنفسكم، وبالله التوفيق.
[مسألة: عدة الوفاة من اللائي يئسن من المحيض
واللائي لم يبلغن المحيض]
مسألة قال: وقد كان من قول مالك في عدة الوفاة من اللائي يئسن من المحيض،
واللائي لم يبلغن المحيض، أن تعتد المرأة منهن إلى مثل الساعة التي توفي
فيها زوجها أو طلقت فيها، ثم قال بعد
(5/356)
ذلك: أرى أن يلغى بقية ذلك اليوم. قال ابن
القاسم: وأنا أرى أن يلغى ذلك اليوم، فإن امرأة تزوجت بعد الوقت الذي هلك
زوجها فيه، أو طلقها، لم أر أن يفسخ؛ لأنها قد استكملت الذي قال الله في
كتابه وتزوجت بعده.
قال محمد بن رشد: قول مالك الأول، هو القياس، إذ لا اختلاف في أنه يجب
عليها أن تبتدئ العدة من الساعة التي طلق فيها زوجها أو توفي عنها، ولا يصح
لها بإجماع، أن تلغي بقية ذلك اليوم فتبتدئ بالعدة من عند غروب الشمس، فإذا
وجب عليها بإجماع أن تبتدئ بالعدة من تلك الساعة، وتجنبت الطيب والزينة من
حينئذ، إن كانت عدة وفاة، وجب أن تحل في تلك الساعة من النهار، وبقاؤها إلى
بقية النهار، زيادة على ما فرضه الله عليها.
ووجه القول الثاني أن السنة والشهر واليوم، لما كان أول كل واحد منها غروب
الشمس عند العرب، بخلاف العجم. وأجمع أهل العلم لذلك، أن من نذر اعتكاف
يوم، يبدأ من أول الليل، رأى أن تبتدئ المعتدة بعد أيام عدتها من عند غروب
الشمس، فمعنى قوله: أرى أن تلغي بقية ذلك اليوم، معناه، تلغيه في حسابها،
لا أنها تكون فيه غير معتدة. فإن تزوجت المرأة على قول مالك الثاني، بعد
الوقت الذي هلك زوجها فيه، وقبل غروب الشمس، فسخ نكاحه. وقول ابن القاسم
قول ثالث في المسألة، استحسان مراعاة للاختلاف، وقد مضى في سماع سحنون من
كتاب النذور ما يزيد هذه المسألة بيانا، والله الموفق.
[قال لامرأته أنت طالق واحدة إن بت عنك فبات
عنها]
ومن كتاب ابتاع غلاما بعشرين دينارا وسئل مالك عن رجل قال لامرأته: أنت
طالق واحدة إن بت عنك فبات عنها، فطلقت منه بواحدة، ثم ارتجعها، ثم بات
عنها بعد ذلك ليالي. قال: لا شيء عليه إلا الأولى.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة على أصله في المدونة وفي غير
(5/357)
ما مسألة من العتبية، حاشا مسألة الوتر، في
رسم حلف من سماع ابن القاسم من كتاب النذور، وقد استوفينا القول على ذلك
هنالك، فلا معنى لإعادته، والله الموفق.
[مسألة: قال: إن أنفقت شيئا من مالها أو دراهم
لم تعين فيها]
مسألة وسئل عن امرأة غاب عنها زوجها، فأنفقت مالا. قال: إن أنفقت شيئا من
مالها أو دراهم، لم تعين فيها، فأراه لها عليه غرما يغرمه زوجها لها، رفعت
ذلك إلى السلطان أو لم ترفعه، وذلك إذا أقر به، فإن لم يقر به، فمن يوم
ترفعه إلى السلطان، فإن أنفقت عشرة دنانير كل سنة، فهي عليه غرم، وإن تعينت
في ذلك لم يلزم زوجها ما أربت في ذلك، ينظر إلى قيمة ما أنفقت، فيكون على
الزوج، وما أربت في ذلك فهو على المرأة، وأرى إذا كان على الزوج دينا كثيرا
مما له، حاصت المرأة الغرماء بما أنفقت. قال ابن القاسم: من يوم ترفع ذلك
إلى السلطان، وكانت هي والغرماء أسوة يتحاصون في ماله. قال سحنون في الدين
المحدث: وأما الدين القديم، فإنها لا تحاص أهله إذا كان ذلك الدين قبل
نفقتها؛ لأنه لم يكن موسرا حين أنفقت وعليه دين يحيط بماله، وإنما النفقة
لها إذا كان موسرا، فهو إذا كان دينه يحيط بماله، فهو غير موسر، ولا نفقة
لها عليه.
قال محمد بن رشد: قوله: إنها إن تعينت فيما أنفقت على نفسها في مغيب زوجها
فأربت في ذلك، لم يلزم زوجها ما أربت به، معناه: إن اشترت ما تأكل أو تلبس
بدين، إن لم يكن عندها نقد، فزادت من أجل ذلك في الثمن، لم يكن لها أن ترجع
عليه إلا بثمن بمثل ذلك نقدا، والزائد على ذلك يكون عليها، ولا يلزم الزوج
من ذلك شيء. وقوله: فإن لم يقر به فمن يوم ترفعه إلى السلطان، هو المحفوظ
في المذهب. وقد مضى في رسم طلق ما في
(5/358)
ذلك من الاختلاف. وقوله: إنه إن كان عليه
دين أكثر من ماله، حاصت المرأة الغرماء بما أنفقت، معناه: من يوم ترفع ذلك،
على ما قال ابن القاسم، إذ لا يجوز إقراره لها بالإنفاق من أجل الدين الذي
عليه، إذ لا يجوز إقرار المديان لمن يتهم عليه.
ومعناه عندي في الدين المستحدث، على ما قال سحنون. وقد كان بعض الشيوخ يحمل
قول سحنون، على أنه خلاف لقول مالك، ويقول لها على ظاهر قول مالك، محاصة
الغرماء في الدين القديم؛ لأن للغريم أن ينفق على امرأته ما لم يفلس، وإن
أحاط الدين بماله، وليس ذلك عندي بصحيح؛ لأن إنفاقه على امرأته، بخلاف
إنفاق امرأته على نفسها ورجوعها عليه بما أنفقت إذ لا يتحقق أنه لم يخلف
عندها نفقة، فلعله قد ترك عندها نفقة فجحدت ذلك ورفعت أمرها إلى السلطان،
إعدادا ليكون القول قولها، فرجوعها على الزوج بالنفقة التي ادعت، إنما هو
دين أوجبه الحكم لها، فيجب ألا يحاص به إلا في الدين المستحدث، كما قال
سحنون. ولو كانت نفقتها على نفسها في مغيب زوجها بعد رفعها أمرها إلى
السلطان، كنفقته هو عليها لوجب أن يبدأ بها على الغرماء إذ نفقتها هو عليها
في حكم المبداة، وهذا بين، وبالله التوفيق لا رب غيره ولا معبود سواه.
[أعتق عبدا له صغيرا وللعبد أم هي أمة الرجل
المعتق]
ومن كتاب صلى نهارا وسئل عن رجل أعتق عبدا له صغيرا، وللعبد أم، هي أمة
الرجل المعتق، وللغلام جدة حرة، فأرادت الجدة قبضه منه. قال مالك: لا أرى
أن يفرق بينه وبين أمه، إلا أن يكون ذلك مضرا به.
قال محمد بن رشد: إنما رأى ألا يفرق بينه وبين أمه، ورآها أحق بحضانته من
جدته الحرة؛ لأن سيدها هو الذي ينفق عليه، من أجل أنه أعتقه صغيرا. ألا ترى
أن قول مالك وغيره في المدونة وغيرها، أن من أعتق صغيرا وأمه عنده، إنه لا
يبيعها إلا ممن يشترط عليه نفقته، ليكون مع أمه في
(5/359)
نفقة سيدها، وكان القياس أن تكون الجدة
الحرة أحق بحضانته من الأم، من أجل سيدها، كما أنها أحق بحضانته من الأم،
من أجل زوجها إن كان لها زوج؛ لأن حكم السيد على أمته، أقوى من حكم الزوج
على زوجته.
وما أدري لم أوجبوا على من أعتق صغيرا ثم باع أمه، أن يشترط نفقته على
المشتري حتى يبلغ؟ وما المانع من أن يكون مع أمه عند المشتري، وتكون نفقته
على البائع ورضاعه؟ اللهم إلا أن يقال: نفقته لا تلزمه، إلا أن يكون عنده،
فيكون المعنى في المسألة على هذا إنه إنما أوجب عليه ألا يبيعها إلا لمن
يشترط عليه نفقته من عنده، وهو عند المشتري ويلزم على قياس هذا في الذي
أعتق الصغير وأمه أمة عنده، وله جدة حرة أن تكون الجدة أحق بحضانته إذا رضي
المعتق أن ينفق عليه، وهو عندها ورضيت هي بالتزام نفقته، فانظر في ذلك.
[مسألة: زوّجها سيدها ثم طلقها زوجها فوطئها سيدها في عدة من طلاق أو وفاة]
مسألة قال مالك: في أمة زوّجها سيدها، ثم طلقها زوجها، فوطئها سيدها في عدة
من طلاق أو وفاة، قال: لا أرى لسيدها أن يطأها بعد أن تحل أبدا، مثل
النكاح.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة والقول فيها في رسم باع غلاما من هذا
السماع من كتاب النكاح فلا معنى لإعادته.
[مرض فذهب عقله، فطلق امرأته ثم أفاق فأنكر ذلك]
ومن كتاب مرض وله أم ولد وسئل مالك عن رجل مرض، فذهب عقله، فطلق امرأته ثم
أفاق فأنكر ذلك، وزعم أنه لم يكن يعقل الذي صنع، وأنه كان لا يعلم شيئا من
ذلك. قال: أرى أن يحلف ما كان يعقل، ويخلى بينه وبين أهله.
(5/360)
قال محمد بن رشد: وإنما يكون ذلك إذا شهد
العدول أنه كان يهذي ويتخبل عقله، وأما إذا شهدوا أنه لم يستنكر منه شيء في
صحة عقله، فلا يقبل قوله، ويمضي عليه الطلاق. قاله ابن القاسم في العشرة.
وكذلك الحكم في السكران. روى ذلك زياد عن مالك. وقد مضى القول في حكم
السكران مستوفى في أول كتاب النكاح. وهذه المسألة المتكررة في هذا الرسم من
كتاب الأيمان بالطلاق، والله الموفق.
[مسألة: المجنون المغلوب على عقله ضمان ما
أفسده من الأموال]
مسألة قال ابن القاسم: وإن قتل أحدا كان من الخطأ، وكان على العاقلة، وما
أفسد أو كسر كان بمنزلة الموسوس في ماله، وما جرح كان من الخطأ إن كان مما
تحمله العاقلة فعليهم، وإن كان مما لا تحمله العاقلة فعليه.
قال محمد بن رشد: حكم ابن القاسم في هذه الرواية للمريض الذي ذهب عقله،
والموسوس فيما جنا أو أفسد من الأموال، بحكم الصحيح، يفعل ذلك خطأ، فأوجب
عليهما ضمان ما أفسدا من الأموال، وحمل العاقلة ما بلغ من جنايتهما الثلث
فصاعدا، وهو على قياس قول مالك في رواية أشهب عنه، من كتاب الجنايات في
المجنون المغلوب على عقله، إنه ضامن لما أفسد من الأموال وقد قيل: إن جميع
ما أصاباه في الدماء والأموال هدر، كالبهيمة.
قاله ابن المواز في أحد قوليه في الصغير يحبو فيصيب إنسانا بجرح أو غيره،
إنه لا عقل فيه، وقد قيل: إن ما أصاباه من الأموال فهو هدر، وما أصاباه من
الدماء والجراح فهو في أموالهما، إلا أن يبلغ الثلث فصاعدا، فيكون على
العاقلة، وهو قول ابن القاسم في رسم العشور من سماع عيسى من كتاب الجنايات.
وجه القول الأول: أن جناياتهم في الأموال والدماء، لما كانت بغير قصد منهم؛
إذ لا يصح القصد منهم، أشبهت جنايات العاقل خطأ، إذ ليست بقصد منه إليها،
ووجه القول الثاني: أنهم لما كانوا في هذه الحال ممن لا
(5/361)
يصح منهم القصد، أشبهوا البهيمة التي لا
يصح منها القصد، فكانت جناياتهم هدرا، ووجه القول الثالث: أنه لما كانت
الأموال يضمنها العاقل بالقصد وغير القصد، من أجل أنه ممن يصح منه القصد،
وجب ألا يضمنها من لا عقل له، من أجل أنه ليس ممن يصح منه القصد.
ولما كانت الدماء والجراح يفترق فيها من العاقل القصد من غير القصد، وجب أن
يحكم فيها على من لا يعقل، بحكم من يعقل، إذا لم يقصد، إذ لا يصح ممن لا
يعقل، وبالله التوفيق.
[مسألة: طلقت المرأة فادعت حملا أنفقت على
نفسها من مالها]
مسألة قال مالك: إذا طلقت المرأة فادعت حملا، أنفقت على نفسها من مالها.
فإذا تبين حملها، أُعطيت ما أنفقت، فإن طاوعها فأنفق عليها طائعا، ثم تبين
له أنه ليس بها حمل، لم أر عليها غرما، وإن قضى عليه السلطان بذلك رأيت أن
يغرم.
قال محمد بن رشد: قد قيل: إنه يرجع عليها وإن أنفق عليها بغير قضاء، وهو
قول ابن الماجشون وروايته عن مالك واختيار محمد بن المواز.
وقيل: إنه لا رجوع له عليها، وإن أنفق عليها بقضاء، وهو قول مالك في كتاب
النكاح لابن المواز. ولهذه المسألة نظائر كثيرة، تفوت العد. منها مسألة
كتاب الشفعة من المدونة في الذي يثيب على الصداق وهو يظن أن الثواب يلزمه.
ومنها مسألة كتاب الصلح منها في الذي يصالح عن دم الخطأ، وهو يظن أن الدية
تلزمه. ومنها مسألة الصداق، في سماع أصبغ من كتاب النكاح. ومنها ما في سماع
أصبغ من كتاب الشهادات، وما في سماع عيسى ونوازل سحنون من كتاب الهبات
والصدقات.
[مسألة: المرأة الحامل إذا طلقت فطلبت الكسوة]
مسألة وقال مالك: في المرأة الحامل إذا طلقت فطلبت الكسوة، قال: ينظر في
ذلك إلى ما بقي لها من الأشهر، ثم ينظر إلى قدر
(5/362)
الكسوة، فتعطى دراهم على قدر ما بقي لها من
قدر الكسوة، والكسوة عندنا الدرع والخمار والإزار، وليست الجبة عندنا كسوة.
قال محمد بن رشد: وقعت هذه المسألة هاهنا مجملة وبيانها في رسم الصبرة من
سماع يحيى. قال فيه: إنها إن طلقت في أول الحمل فطلبت الكسوة، فلها الكسوة،
وإن طلبتها ولم يبق من أجل الحمل إلا الشهرين والثلاثة، أو نحو ذلك، قُوِّم
لها ما كان يصير لتلك الأشهر من الكسوة لو كسيت في أول الحمل، ثم تعطاه
دراهم، ولم تكس؛ لأنها إن كسيت انقضى الحمل والكسوة جديدة، وهذا إذا كانت
الكسوة مما تبلى في مدة الحمل، وأما إن كانت لا تبلى في مدة، مثل الفرو
والمحشو وشبه ذلك، فالوجه فيه أن ينظر إلى ما ينقصه اللباس في مدة الحمل،
فيعرف ما يقع من ذلك للأشهر الباقية، وبالله التوفيق.
[حلف ألا يصحب أخا له في سفر فيقدم قبله بيوم
ثم إنه أدركه في الطريق]
ومن كتاب المحرم يتخذ الخرقة لفرجه وسئل مالك عن رجل حلف ألا يصحب أخا له
في سفر، فيقدم قبله بيوم، ثم إنه أدركه في الطريق، فكان يسايره ويصحبه، غير
أنه مفارق له في النفقة، قال: لا أرى أن يفعل ذلك، قيل له: إنه قد فعل،
قال: إن كانت يمينه خفيفة فليكفر، وإن كانت ثقيلة فإني أخاف عليه.
قيل له: إنه حلف بتطليقة واحدة، أترى له أن يراجعها؟ قال: منذ كم حلف، قال:
منذ خمس عشرة ليلة، وامرأته غائبة، قال: نعم أرى أن يجعلها تطليقة، ويُشهد
على رجعتها.
قال محمد بن رشد: هو بما يقتضيه اللفظ حانث؛ لأنه حلف ألا يصحبه في سفر،
وسايره فيه، والحنث يدخل بأقل الوجوه، إلا أن المعنى في يمين الحالف، ألا
يصحب أخا له في سفر، ألا يصحبه صحبة الارتفاق والانتفاع، فلذلك لم يحقق
عليه الحنث. وقال: أخاف عليه. ورأى إيجابه على
(5/363)
نفسه إبراء لساحته فأمره أن يجعلها طلقة،
قد حنث فيها، ويرتجع إذا كانت لم تنتقض، والله الموفق لا رب سواه.
[يطلق امرأته وهي ترضع فيريد أن ينتزع منها
ولدها]
ومن كتاب سعد في الطلاق وقال مالك: في الذي يطلق امرأته وهي ترضع، فيريد أن
ينتزع منها ولدها، ويزعم أنه يريد بذلك ألا تتأخر حيضتها، ولئلا ترثه إن
مات، أو تريد هي ذلك، ولعل الولد قد عرف أمه، قال مالك: إن تبين أن قوله:
أخاف أن يتأخر الحيض صدقا لا يريد بذلك ضررا، ولم يعرف الولد أمه، فلا يقبل
غيرها، رأيت ذلك له، وإن رأى أنه إنما يريد الضرر، منع من ذلك وإن كان
الصبي قد علق أمه، وخيف عليه في نزعه منها ألا يقبل ثدي غيرها، لم يكن ذلك
له أيضا. قال مالك: والمرأة إذا أرادت أن تضع رضاع ولدها، وتحوله إلى
غيرها، كهيئة ما وصفنا من أمر أبيه، لم يكن ذلك لها.
قال محمد بن رشد: أما إذا علق الولد أمه ولم يقبل ثدي غيرها، فليس للأب أن
ينتزعه منها، لما ذكره، ولا للأم أن تطرحه إليه أيضا. وأما إذا لم يكن يعلق
أمه، فللأم أن تطرحه إليه إن شاءت، إذ ليس يجب عليها إرضاعه إذا كان للأب
مال، وهو يقبل ثدي غيرها، إلا أن تشاء، وليس للأب أن ينتزعه منها، مخافة ما
ذكره، إلا أن يتبين تصديق قوله، ويعلم أنه لم يرد بذلك الضرر.
هذا تحصيل قول مالك في هذه المسألة. وقوله في الأم إذا أرادت أن تدع رضاع
ولدها، وتحوله إلى غيرها، كهيئة ما وصفنا من أمر أبيه، لم يكن ذلك لها،
معناه إذا لم يقبل ثدي غيرها. قال ابن المواز: وهذا
(5/364)
في طلاق الرجعة. قال مالك: وكذلك إن قال
لأني أريد أن أتزوج أختها أو عمتها أو خالتها، أو كانت رابعة، فقال: لأتزوج
غيرها، فذلك له إن شاء، وكذلك إذا كان يقبل ثدي غير أمه، وكذلك إن كانت
الأم هي الطالبة، فقول مالك هذا فذلك له إن شاء، معناه: إذا تبين صدق قوله،
وأنه لا يريد بذلك ضررا على ما قال في مسألة الكتاب. وقوله: وكذلك إن كانت
الأم هي الطالبة لطرحه، معناه: إن ذلك لها إن أرادت، كما يكون ذلك للأب،
إذا علم أنه لا يريد بذلك، إلا ما ذكر، لا الضرر، إذ لا يستوي حكم الأب
والأم في ذلك، إلا على الوجه الذي ذكرناه، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال لامرأة تزوجها ومعها أمها إن حلت
بينك وبين أمك فأمرك بيدك]
مسألة وقال مالك: في رجل قال لامرأة تزوجها ومعها أمها، إن حلت بينك وبين
أمك فأمرك بيدك، فخرجت الأم، وقد كانتا في بيت واحد، فأرادت امرأته أن تأتي
أمها، فمنعها من ذلك، وقال: لم أرد إلا ألا أفرق بينكما، وأنتما في بيت
واحد، إن خرجت عنك أمك، فلا آذن لك إليها، وليس على هذا حلفت، قال مالك:
أرى ذلك إلى نيته، ويحلف بالله ما أردت إلا ذلك.
قال محمد بن رشد: وهذا على ما قال؛ لأن النية التي ادعى الزوج محتملة، فوجب
أن يصدق فيها، واستظهر عليه باليمين، لما تعلق في ذلك من حق الزوجة؛ لأنها
تتهمه أن يكون كاذبا فيما ادعى من نية، فهي يمين تهمة يدخلها من الخلاف ما
في لحوق يمين التهمة. وبالله التوفيق.
[مسألة: نفقة أم الولد يتوفى عنها سيدها وهي
حامل]
مسألة قال مالك: في أم الولد يتوفى عنها سيدها وهي حامل، والحرة يتوفى عنها
زوجها وهي حامل، ليس لواحدة منهما نفقة، لا من جملة المال، ولا من حصة
الولد.
(5/365)
قال محمد بن رشد: أما الحرة يتوفى عنها
زوجها وهي حامل، فلا اختلاف في المذهب في أنه لا نفقة لها، لا من جملة
المال، ولا من حصة الولد، وحسبها ميراثها، وأما أم الولد يتوفى عنها سيدها
وهي حامل، فالمشهور أنه لا نفقة لها، كالزوجة، وقد روي عن مالك، أن لها
النفقة من جملة المال، وهو قول ابن القاسم في كتاب ابن المواز.
قال: لا سكنى لأم الولد على السيد من عتق أو موت، إلا أن تكون حاملا، فلها
النفقة والسكنى، ولها المبيت في الحيضة في غير بيتها، من عتق أو وفاة. وقال
أشهب: لها السكنى على الضعف من غير إيجاب، ولكن استحباب، إلا أن تكون
حاملا، واختلف على القول بأنه لا نفقة لها في الأمة يموت عنها سيدها وهي
حامل، فقيل: إن لها النفقة؛ لأنها لا تخرج حرة حتى تضع، مخافة أن ينفش
الحمل، وهو قول ابن الماجشون، وأحد قولي مالك، وقيل: إنه لا نفقة لها لأنها
حرة، بتبين الحمل، وهو المشهور، وأما أم الولد إذا أعتقها سيدها وهي حامل،
فلها النفقة.
وروي ذلك عن مالك وهو قول ابن القاسم في الواضحة. وسفيان الثوري يرى للحرة
إذا توفي زوجها وهي حامل النفقة من جملة المال. وروي ذلك عن عبد الله بن
عمر، فبلغ ذلك قبيصة بن ذؤيب فقال: سبحان الله لو جعلت لها النفقة لجعلت من
حظ ذي بطنها، وبالله التوفيق.
[مسألة: مطلقة مبتوتة ادعت الحمل وطلبت النفقة]
مسألة وقال مالك: في مطلقة مبتوتة ادعت الحمل وطلبت النفقة، قال مالك: تنفق
من مالها، وتحسب ذلك على زوجها، حتى يتبين حملها، فتأخذ ذلك منه، وينفق
عليها فيما يستقبل، حتى تضع حملها، فإن انكشف أمرها على غير حمل غرمت له ما
أنفق عليها.
قال محمد بن رشد: قد قيل: إنه لا نفقة لها حتى تضع، مخافة أن ينفش الحمل،
وهو أحد قولي مالك في مختصر ابن شعبان، وقد مضى القول إذا أنفق عليها ثم
انفش الحمل في رسم مرض فلا معنى لإعادته.
(5/366)
[مسألة: شهادة
امرأة لم تثبت من أمر رضاعها عند الأهلين والمعارف]
مسألة وقال مالك: لا أرى شهادة المرأة الواحدة تقطع شيئا، إلا أن يكون شيئا
قد فشى وعلم في صغرهما، وأما شهادة امرأة لم تثبت من أمر رضاعها عند
الأهلين والمعارف، حتى يكون ذلك شيئا قد علم، فلا أرى شهادتها جائزة. قال
مالك: وشهادة المرأتين لا تقطع شيئا، إلا أن يعلم ذلك ويذكر، فتجوز
شهادتهما على ما وصفت.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ظاهر ما في كتاب النكاح الثاني من المدونة، من أن
شهادة امرأة واحدة تجوز في الرضاع مع الفشو، خلاف ما في كتاب الرضاع، من
أنه لا يجوز في ذلك إلا شهادة امرأتين مع الفشو أيضا.
وقال مطرف وابن الماجشون، وابن وهب، وابن نافع، وسحنون: تجوز شهادة
المرأتين في ذلك، والمرأة والرجل، وإن لم يفش ذلك، قبل ذلك من قولهما.
فشهادة امرأتين مع الفشو تجوز باتفاق، وشهادة المرأة الواحدة دون فشو، لا
تجوز باتفاق، ويختلف في شهادة المرأة الواحدة مع الفشو، وفي شهادة المرأتين
دون فشو، ومن يشترط الفشو في شهادتهما، لا يشترط العدالة ومن لا يشترط
الفشو، يشترط العدالة، وقد مضى القول على هذا أيضا في رسم جاع فباع امرأته
من سماع عيسى من كتاب النكاح، والله الموفق.
[مسألة: يطلق امرأته ثم يرتجعها ويكتمها رجعتها
حتى تنقضي عدتها]
مسألة وقال مالك: في الرجل يطلق امرأته ثم يرتجعها، ويكتمها رجعتها حتى
تنقضي عدتها، وهو مقيم معها في البلد، ثم يريد أن يراجعها قال: ذلك له ما
لم تنكح، والحاضر والغائب في هذا سواء، بمنزلة أنه أملك بها، ما لم تنكح،
إلا أن الحاضر أعظم في الظلم.
قال محمد بن رشد: وهذا على ما قال؛ لأن الارتجاع إليه، وليس من شرط صحته أن
يعلمها بذلك، إلا أنه يستحب له ذلك، فإذا راجعها وأشهد
(5/367)
على رجعتها في العدة فهي زوجته، وإن انقضت
عدتها قبل أن تعلم بذلك، وبالله التوفيق.
[المفقود في أرض الإسلام بين الصفين]
من سماع أشهب وابن نافع عن مالك
من كتاب الطلاق الثاني قال سحنون: قال أشهب وابن نافع: سئل مالك عن
المفقود في أرض الإسلام بين الصفين،
والمفقود في أرض العدو بين الصفين، كم تعتد امرأته؟ فقال: سنة، قيل له:
تعتد بعد السنة أربعة أشهر وعشرا؟ قال: نعم، قيل له: ومتى يضرب لها أجل
سنة؟ أمن يوم فقد، أم من يوم يضرب لها السلطان؟ قال: من يوم يضرب لها
السلطان، وينظر في أمرها.
قال محمد بن رشد: قوله في المفقود في أرض الإسلام بين الصفين، يريد في
الفتن التي تكون بين المسلمين، فساوى في هذه الرواية بين قتال المسلمين،
وفي قتال العدو، وجعلهما جميعا في حكم المفقود، إلا في ضرب الأجل، فإن
المفقود يضرب له أجل أربع سنين، ويضرب لهذين أجل سنة، ثم تعتد امرأته بعد
الأجل، وتتزوج إن أحبت، ولا يقسم ماله حتى يأتي عليه من الزمان ما لا يحيى
إلى مثله، وإن كان لم يتكلم في الرواية على قسم المال، فهذا هو مراده فيها.
والله أعلم، بدليل قوله: إن ضرب الأجل إنما يكون من يوم يضربه السلطان،
وينظر فيه، والعدة من بعد انقضاء الأجل، على حكم ضرب الأجل في المفقود
والعدة، إذ لو كان المال يقسم، لما كان في ذلك ضرب أجل، إلا على سبيل
التلوم، ولكانت العدة من يوم المعركة، وعلى هذا حمل أحمد بن خالد رواية
أشهب هذه، وقال: إنه قول الأوزاعي، فالمفقودون على هذه الرواية ثلاثة:
مفقود في بلاد المسلمين، له حكم، ومفقود في بلد
(5/368)
الحرب، له حكم الأسير، ومفقود في الحروب،
له حكم المفقود في بلاد المسلمين، إلا في ضرب الأجل، وهو قول مالك في رواية
أشهب هذه، وجعل مالك في رواية ابن القاسم عنه الواقعة في رسم أسلم، من سماع
عيسى، حكم المفقود في قتال العدو، وحكم الأسير، كالمفقود في بلاد الحرب،
وحكم للمفقود في قتال المسلمين في الفتن التي تكون بينهم، بحكم الميت، يقسم
ماله، وتتزوج امرأته بعد أن تعتد، وقيل: بعد أن يتلوم له إن كانت المعركة
بعيدة من بلده. وسيأتي الكلام على هذا في رسم أسلم من سماع عيسى إن شاء
الله.
[مسألة: يتوفى عنها زوجها وقد امتشطت أتنقض
مشطها]
مسألة وسئل عن التي يتوفى عنها زوجها وقد امتشطت أتنقض مشطها؟ فقال: لا،
أرأيت إن كانت مختضبة كيف تصنع؟ لا أرى أن تنقضه، قال ابن نافع: وهو رأيي.
قال محمد بن رشد: قوله: إنه ليس عليها إذا توفي عنها وهي ممتشطة، أن تنقض
مشطها، معناه إذا كانت امتشطت بغير طيب، وأما لو كانت امتشطت بطيب، أو
تطيبت في سائر جسدها، لوجب عليها أن تغسل الطيب، كما يجب عليها لو توفي
عنها وهي لابسة ثوب زينة، أن تخلعه عنها، وكما يجب على الرجل إذا أحرم وهو
متطيب، أن يغسل الطيب عنه، كما أمر عمر بن الخطاب، معاوية بن أبي سفيان،
وكثير بن الصلت، وعلى ما جاء عن النبي من قوله للأعرابي الذي أحرم بعمرة
وعليه قميص وبه أثر صفرة «انزع قميصك، واغسل هذه الصفرة عنك وافعل في غمرتك
ما تفعل في حجتك» .
[مسألة: الرجعة بنية بعد الطلاق]
مسألة قال: وسمعته كتب إلى ابن فروخ وسأله عن رجل قال.
(5/369)
أشهدكم أني طلقت امرأتي يوما من الدهر، فقد
ارتجعها، ثم طلقها بعد تطليقه، ولم يكن شأنه ارتجاعها، هل يكون ذلك له أم
لا حتى يرتجعها بعد الطلاق بقول مستقبل؟ قال: هذا مثل الأول، ولا أرى ذلك
ثابتا من قوله حتى يرتجعها قبل الطلاق، ولا يكون ارتجاع قبل الطلاق فيما
أرى، والله أعلم.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن الرجعة لا تكون إلا بنية بعد الطلاق،
لقول الله عز وجل: {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ
أَمْرًا} [الطلاق: 1] ، والفرق من جهة المعنى بين الطلاق قبل النكاح،
والرجعة قبل الطلاق، أن الطلاق حق على الرجل، والرجعة حق له، فالحق الذي
عليه يلزمه متى ما التزمه، والحق الذي له، ليس له أن يأخذه قبل أن يجب له،
ولا اختلاف في أنه ليس لأحد أن يأخذ حقا قبل أن يجب له، وإنما اختلفوا في
إسقاطه قبل وجوبه، كالشفعة له أن يسقطها قبل وجوبها على اختلاف، وليس له أن
يأخذها قبل وجوبها باتفاق، وبالله التوفيق.
[مسألة: يكتب إلى امرأته بطلاقها]
مسألة قال: وسمعته يسأل عن الذي يكتب إلى امرأته بطلاقها، فقال: أراه من
ذلك في سعة مخيرا، حتى يخرج الكتاب من يده، فإذا خرج من يده، كان عندي
بمنزلة الإشهاد، ورأيت أن قد لزمه طلاقها، بمنزلة الذي يكتب كتابا بصدقة،
فهو مخير فيه حتى يخرج من يده، ينظر ويستخبر، فإذا خرج من يده، كان بمنزلة
ما لو أشهد عليه، ورأيت ذلك ماضيا عليه؛ لأن الذي يكتب الكتاب هكذا بشيء هو
كتبه يقول: انظر واستخبر فيه، فهو يكتب، وهو يريد النظر والاستخبار، فأنا
أرى هذا هكذا، إلا أن يكون حين كتب
(5/370)
بذلك قد عزم على الطلاق والصدقة، فأرى ذلك
نافذا وإن لم يخرج من يده الكتاب في الطلاق وفي الصدقة كذلك أيضا.
قال محمد بن رشد: قوله: أراه من ذلك في سعة مخيرا، معناه: إذا كتبه غير
عازم على إنفاذه.
وتحصيل القول في هذه المسألة أن الرجل إذا كتب طلاق امرأته لا يخلو من
ثلاثة أحوال: أحدها أن يكون كتبه مجمعا على الطلاق، والثاني أن يكون كتبه
على أن يستخبر فيه، فإن رأى أن ينفذه أنفذه، وإن رأى ألا ينفذه لم ينفذه،
والثالث أن لا تكون له نية. فأما إذا كتبه مجمعا على الطلاق، أو لم تكن له
نية، فقد وجب عليه الطلاق، طاهرا كانت أو حائضا، فإن كانت حائضا أجبر على
رجعتها، وأما إذا كتبه على أن يستخبره ويرى رأيه في إنفاذه، فذلك له ما لم
يخرج الكتاب من يده. قال في الواضحة وكتاب ابن المواز: ويحلف على نية فإن
أخرج الكتاب من يده عازما على الطلاق، ولم تكن له نية، وجب عليه الطلاق
بخروج الكتاب من يده، وصل إليها أو لم يصل، طاهرا كانت أو حائضا أيضا،
ويجبر على رجعتها إن كانت حائضا.
واختلف إن أخرج الكتاب من يده، على أن يرده إن بدا له، فقيل: إن خروج
الكتاب من يده كالإشهاد، وليس له أن يرده وهي رواية أشهب هذه. وقيل: له أن
يرده إن أحب، وهو قوله في المدونة. والقولان في رسم النسمة من سماع عيسى من
كتاب الأيمان بالطلاق، وسواء على مذهب ابن القاسم كتب إليها: أنت طالق، أو
إذا طهرت من حيضتك فأنت طالق لأنه عنده أجل آت، فيتعجل عليه الطلاق، وقال
أشهب: إذا كتب إليها: إذا طهرت فأنت طالق، أو إذا حضت فأنت طالق، لم يعجل
عليه الطلاق حتى تطهر، وحتى تحيض.
فأما قوله: في إذا حضت إنه لا يعجل عليه الطلاق، فله وجه، إذ قد لا تحيض،
فأشبه قوله: إذا قدم فلان فأنت طالق، وأما قوله: إذا طهرت فليس بين، إذ لا
بد أن تطهر، وإن تمادى بها الدم كانت مستحاضة، والمستحاضة في حكم الطاهر،
والذي نحا إليه أنها تموت قبل أن تطهر، فيكون الطهر لم
(5/371)
يأت، بخلاف الأجل الذي لا بد من إتيانه،
ماتت أو لم تمت. وإذا كتب إليها على مذهب أشهب إذا ظهرت فأنت طالق، فإن
كانت حائضا لم يقم عليه طلاق حتى تطهر، وإن كانت طاهرا وقع عليها الطلاق،
وقيل: لا يقع عليها إلا بالطهر الثاني.، على اختلافهم فيمن قال لأمته: إذا
حملت فأنت حرة وهي حامل.
قال محمد بن المواز: وأحب إلي لمن أراد أن يطلق امرأته الغائب، أن يكتب
إليها: إذا جاءك كتابي هذا، فإن كنت قد حضت بعدي وطهرت فأنت طالق، مخافة أن
يقع طلاقه إياها في حال الحيض، وهذا جيد، إلا أنه قد لا يقع عليه طلاق أصلا
إن كانت لم تحض بعده وطهرت؛ لأنه إنما طلقها على هذا الشرط، فإن كتب إليها:
إن وصل إليك كتابي هذا فأنت طالق، فلا اختلاف في أنه لا يقع عليه الطلاق،
إلا بوصول الكتاب إليها فإذا وصل إليها طلقت مكانها، وأجبر على رجعتها إن
كانت حائضا، فإن كتب إليها: إذا وصل إليك كتابي هذا فأنت طالق، وأرسل إليها
به، فيتخرج ذلك على قولين: أحدهما إن ذلك بمنزلة كتابه إليها: إن وصل إليك
كتابي هذا.
والثاني إن الطلاق يقع عليه مكانه، على الاختلاف في القائل لامرأته: إذا
بلغت معي موضع كذا وكذا فأنت طالق، حسبما وقع من ذلك في رسم سلف من سماع
عيسى من كتاب الأيمان بالطلاق، وفي سماع عبد المالك بن الحسن منه، وبالله
التوفيق.
[مسألة: سألت زوجها أن يكتب إلى أبيها إني قد
طلقت ابنتك ليأتيها]
مسألة وسئل عن جارية متزوجة كانت تكتب إلى أبيها تسأله أن يزورها وهو عنها
غائب، فلم يفعل، فلما رأت ذلك، سألت زوجها أن يكتب إليه: إني قد طلقت
ابنتك، ليأتيها، فكتب زوجها بذلك إليه، ثم خاف ذلك، وأخذ بنفسه منه شيء،
ولم يكن حين كتب بذلك إلى أبيها يريد طلاقها. فقال: إن صح هذا هكذا، فلا
أرى
(5/372)
عليه شيئا ولا طلاقا، إن صح هذا، وكان على
هذا، وشديد أن يعمد الرجل الذي بيده الطلاق، فيكتب بهذا، لو كانت هي كتبت
ذلك على لسانه، وإني لأخاف أن تكون إنما أرادت خديعة، فإن صح هذا على هذا
فلا أرى عليه طلاقا ولا شيئا، ورأيت إن قام أبوها الآن بالكتاب فقال: هذا
كتابك الذي بطلاق ابنتي ألا شيء له، فقيل له: إنه ليس يخاصمه أحد، إنما هو
أمر فيما بينه وبين الله، قال: إن صح هذا فلا أرى عليه طلاقا، قيل: أرأيت
إن قام أبوها بالكتاب وقال: لو كان دعا قوما فأشهدهم على هذا وقال: إنما
سألتني أن أكتب هذا الكتاب كذا، وأنا أكتب به لذلك، لا أريد به طلاقا، قيل
له: أرأيت إن لم يكن أشهدهم، وجاء أبوها بالكتاب، فجاءت هي وهو يقتص هذه
القصة، أترى أن يستحلف؟ قال: لا أدري، وما الناس كلهم عندي سواء في مثل هذا
الاختلاف، أما الرجل المأمون، فكنت أرى في رأيي أن يقبل ذلك منه، ويصدق
فيه. قيل له: أرأيت لو أن المرأة قالت أردت خديعة بذلك، وأردت الطلاق،
فأنكر ذلك، قال: إن علم ذلك من شأنهما، لم أر عليه حنثا، وإن لم يكن إلا
قوله وقد ظهر كتابه بطلاقها، وثبت ذلك عليه، رأيت أن يطلق عليه. قيل له: أي
الطلاق؟ قال: ينوى ويكون واحدة.
قال محمد بن رشد: في ألفاظ هذه المسألة إشكال، وفي ظاهر كلامه فيها اضطراب
واحتمال، والذي يتحصل منه أنه إن صح الوجه الذي ذكره في كتابه إلى أبي
زوجته أنه طلقها، يريد ببينة تشهد على ذلك، أو جاء الزوج مستفتيا وحده فلا
طلاق عليه، وإن جاءوا كلهم معا، يذكر الزوج والزوجة القصة على وجهها، ويقول
الأب: أنا لا أدري صدقهما من كذبهما، صدق مع يمينه، إن كان مأمونا، وإن قام
الأب بالكتاب في مغيب الزوج، فلما وقف عليه أقر به، وادعى أنه إنما كتب
بذلك، كما ذكر، لم يصدق في ذلك إلا أن
(5/373)
يكون قد أشهد شهودا على أنه إنما كتب
بالطلاق لذلك، فإن لم يكن أشهد على ذلك، لزمه الطلاق. قال في الرواية ينوى
وتكون واحدة قال ذلك أشهب في نظير هذه المسألة، وهو صحيح على أصولهم فيمن
ادعى على رجل حقا فأنكره المدعى عليه، وأقام المدعي ببينة على ما ادعاه،
فإن المدعى عليه يحلف ما له عنده شيء، ويغرم ما شهدت به البينة، إذ لا خروج
له من ذلك، كما لا خروج له من الطلقة الواحدة المتيقنة، ولو رجع فقال: أردت
بذلك الطلاق واحدة، لكانت واحدة، ولم يكن عليه في ذلك يمين، على القول بأن
من قال قد طلقت امرأتي ولا نية له، إنها واحدة، وأما على القول بأنها ثلاث،
إذا لم تكن له نية، فقيل: إنه لا ينوى لإنكاره أولا أن يكون أراد الطلاق،
وتكون ثلاثا، وقيل: إنه يحلف وتكون واحدة، والاختلاف في هذا على اختلافهم
فيمن ادعى عليه وديعة فأنكر، ثم أقر، وادعى التلف. والقولان قائمان من
المدونة، والحمد لله.
[مسألة: امرأة المحلل إذا فرق بينهما ما الذي
يكون لها]
مسألة وسئل عن امرأة المحلل إذا فرق بينهما، ما الذي يكون لها؟ أمهر مثلها
أم المهر الذي فرض لها؟ قال: أيما امرأة أصابها فلها المهر الذي فرض لها.
قال محمد بن رشد: مثل هذا في موطأ يحيى: إن لها مهرها وفي موطأ ابن بكير
مهر مثلها. وهذا الاختلاف في الصداق إنما يكون إذا تزوجها بشرط أن يحلها
على اختلافهم في الأنكحة الفاسدة، للشروط المشترطة فيها إذا فسخت بعد
الدخول، أو أقرت، وقد ذهب الشرط وهو ينوي أن يحلها دون شرط كان بينه وبينها
أو بينه وبين أوليائها، علم الزوج بذلك أو لم
(5/374)
يعلم، لكان لها الصداق المسمى قولا واحدا،
والله أعلم.
[مسألة: بينه وبين امرأته كلام فقال لها اذهبي
إلى بيتك فقالت على ماذا]
مسألة وسئل عن رجل كان بينه وبين امرأته كلام، فقال لها: اذهبي إلى بيتك،
فقالت: على ماذا؟ فقال لها: اذهبي على طلقة، فقالت: لا، فقال: اذهبي على
طلقتين، فجلست ولم تذهب، قال: أراه قد طلقها تطليقتين، قيل له: إنما قال
لها اذهبي إلى بيت أهلك على طلقتين، فلم تذهب، قال: أرى الطلاق قد خرج من
فيه، وأراه قد طلقها طلقتين.
قال محمد بن رشد: إنما أوجب عليه التطليقتين، وإن لم تذهب، من أجل أنه لم
يوجب الطلقتين عليه بشرط ذهابها، وإنما فهم من قصده أنه أراد أن يطلقها إن
شاءت، فعبر عن مشيئتها بذهابها إلى بيتها؛ لأن المرأة إذا طلقت رجعت إلى
بيتها، فقال لها: اذهبي على طلقة، ومعناه: أنت طالق واحدة إن شئت، فقالت:
لا أشاء، فقال لها: اذهبي على تطليقتين، ومعناه: أنت طالق تطليقتين إن شئت،
فأوجب عليه التطليقتين لرضاها بهما، بدليل سكوتها.
ويدخل في هذا الاختلاف في السكوت، هل هو كالإذن أم لا؟ وهو أصل قد اختلف
فيه قول ابن القاسم، وقد مضى بيان ذلك في رسم أسلم من سماع عيسى من كتاب
النكاح، ولو أوجب التطليقتين عليه بشرط ذهابها، فقال لها: إن ذهبت إلى بيتك
فأنت طالق تطليقتين، لم يلزمه شيء، إلا بذهابها، وبالله التوفيق.
مسألة قال: وسألته عن الرجل يغيب عن امرأته ثم يطلقها، فلا تعلم بطلاقه
إياها حتى تتسلف وتنفق، ثم يقدم، أعليه لها ما تسلفت؟ قال: لا أدري ما سلف،
أما أنا فأرى لها النفقة عليه إذا
(5/375)
لم تكن علمت بطلاقه، ويكون عليه مما تسلفت
قدر النفقة عليها، وأما أن تأخذ الدينار فأكثر منه، فلا أرى ذلك لها عليه،
وعليه قدر النفقة التي ينفق مثله على مثلها، قلت له: إنه قد طلقها قبل ذلك،
فلم تعلم، فقال لي: أما أنا فأرى عليه النفقة، قال سحنون: قال لي ابن نافع:
لا أرى لها عليه شيئا، ولا تشبه هذه التي تنفق من شيء خلفه عندها زوجها.
قال محمد بن رشد: أما ما زادت في السلف، مثل أن تشتري ما قيمته دينار بأكثر
من دينار إلى أجل، فتبيعه بدينار في نفقتها، فلا يلزمه باتفاق. وقد مضى ذلك
في رسم حلف من سماع ابن القاسم. وأما ما أنفقت مما خلفه عندها من ماله، فلا
غرم عليها فيه باتفاق، واختلف فيما أنفقت من مالها أو تسلفته عليه من غير
أن يتعين فيه بزيادة على هذين القولين. وقد مضى ذلك أيضا والقول فيه في أول
رسم من سماع ابن القاسم.
[مسألة: أم الأم يصير لها ولد ابنتها بموت أمهم]
مسألة قال: وسألته في الرجل يكون له الولد، فيصيرون لجدتهم من أمهم، بموت
من أمهم، أو تزويج، أيكلف أبوهم مع النفقة عليهم، النفقة على جدتهم أو أجر
حضانتها إياهم؟ قال: لا أرى أن يكلف إلا النفقة على ولده، ولا أرى عليه
للجدة، إلا أن يتراضيا على شيء.
فقلت له: لم يراضها وهو يقول: أحببت أن تحضنهم بغير شيء، وإلا فادفعي ولدي
إلي فعندي أهلي وإخوتي يحضنونهم، وهو في ذلك واجد موسر، فقال لي: أرى ذلك
له، ولا أرى لها عليه فيهم شيئا
(5/376)
إلا نفقة ولده، ثم قلت له بعد ذلك: سألتك
عن أم الأم يصير لها ولد ابنتها بموت أمهم، أو يتزوجها رجل، أيكون لها على
أبيهم أجر حضانتها إياهم مع نفقتهم؟ فقلت لي: لا أرى لها عليه شيئا فيهم،
إلا نفقة ولده فقط، أترى أمهم كذلك، إذا قامت عليهم وحضنتهم، وفطموا، فطلبت
أجر حضانتهم مع نفقتهم؟ فقال لي: نعم، لا أرى لها عليه أجر حضانته ولا شيئا
إلا نفقة ولده، إلا أن يصالحها على شيء، فأما أن يكون لها عليه شيء فلا أرى
ذلك لها عليه.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما مضى في رسم شك في طوافه من سماع ابن القاسم من
هذا الكتاب، وخلاف ما يأتي بعد هذا في رسم الأقضية الثاني من هذا السماع،
وخلاف ما في رسم شك في طوافه أيضا من سماع ابن القاسم، من كتاب النكاح. وقد
مضى القول هناك على المسألة، وقلنا إن الاختلاف فيها جار على الاختلاف في
الحضانة، هل هي من حق الحاضن أو من حق المحضون؟ وفي سماع ابن القاسم من
كتاب الوصايا تفرقة، لا تخرج عن القولين.
[مسألة: فارقها زوجها ولها منه ولد فأقام مع
أبيه سنتين ثم مات]
مسألة وسئل عن امرأة فارقها زوجها ولها منه ولد، فأقام مع أبيه سنتين، ثم
مات وترك الولد وماشية وأموالا، فأرادت أمه تقبضه، فقال: وأين كانت أمه عنه
في حياة أبيه؟ قلت: منحية، لا أرى ذلك لها ولا أرى لها أخذه.
قال محمد بن رشد: وقد قيل: إن لها أن تقبضه إذا مات الأب. وقد مضى ذلك،
والقول في المسألة مستوفى في آخر رسم من سماع ابن القاسم.
[مسألة: طلق امرأته البتة وهي حامل هل عليه أجر
القابلة]
مسألة وسئل عن الرجل يطلق امرأته البتة، وهي حامل، أترى عليه
(5/377)
أجر القابلة؟ فقال: ما سمعت بذلك ولا أعلمه
عليه، ولا سمعت بأحد سأل عن هذا.
قال محمد بن رشد: قوله: ولا أعلمه عليه، يقتضي أنه يراه على المرأة، وأصبغ
يراه على الأب. وقال ابن القاسم: إن كان أمرا يستغني عنه النساء، فهو على
المرأة، وإن كان لا يستغني عنه النساء، فهو على الأب، وإن كانا ينتفعان به
جميعا، فهو عليهما جميعا، على قدر منفعة كل واحد منهما في ذلك، وقع ذلك من
قولهما في رسم يوصي من سماع عيسى من كتاب الجعل والإجارة، فهي ثلاثة أقوال،
وبالله التوفيق.
[مسألة: يجبر الذي يحلف بالطلاق وامرأته حائض
على رجعتها]
مسألة وسألته فقلت له: أليس ترى أن يجبر الذي يحلف بالطلاق وامرأته حائض
على رجعتها كما يجبر الذي يطلق حائضا؟ فقال: ما أشبهه به، وإني لا أراه.
قال محمد بن رشد: قد تقدمت هذه المسألة والقول فيها في رسم الشريكين من
سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادته، والحمد لله.
[مسألة: يطلق امرأته فحاضت حيضة ثم ارتجعها
فطلقها قبل أن يمسها]
مسألة وسئل عن الذي يطلق امرأته، فحاضت حيضة ثم ارتجعها، فطلقها، قبل أن
يمسها، فقال: تعتد من يوم طلقها الطلاق الآخر ثلاث حيض.
قال محمد بن رشد: قد تقدمت هذه المسألة والقول فيها في رسم سلعة سماها من
سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[يقول امرأتي طالق البتة إن أقلت فلانا]
ومن كتاب الطلاق وسئل عن الذي يقول امرأتي طالق البتة، إن أقلت فلانا،
(5/378)
أيوقف عن امرأته، حتى ينظر أيقيله أم لا؟
فقال: لا.
قال محمد بن رشد: وهذا بين على ما قال؛ لأنه على بر، وله أن يطأ امرأته،
وإنما يوقف عن امرأته، ويدخل عليه أجل الإيلاء الذي يحلف أن يفعل فعلا مما
يمكنه فعله في الحال، مثل أن يقول امرأتي طالق إن لم أدخل الدار، وما أشبه
ذلك.
وستأتي هذه المسألة والقول فيها في موضعها من كتاب الإيلاء، إن شاء الله.
[مسألة: قال لامرأته إن خرجت من بيتك فهو فراق
بيني وبينك فخرجت]
مسألة وسئل عن رجل قال لامرأته: إن خرجت من بيتك فهو فراق بيني وبينك،
فخرجت، فقال له مالك: أي شيء نويت، فقال: لم أنو شيئا، فقال: أحب إلي ألا
تقربها وأن تدعها.
قال محمد بن رشد: لم يبين في هذه الرواية ما يقع عليه من الطلاق فيها إذا
لم تكن له نية، والمعلوم من قوله في قول الرجل لامرأته قد فارقتك، إنها
ثلاث في المدخول بها إذا لم تكن له نية.
واختلف في التي لم يدخل بها، فقيل: هي ثلاث، إلا أن ينوي واحدة، وقيل: هي
واحدة، إلا أن ينوي ثلاثا. وقد مضى ذلك في أول رسم من سماع ابن القاسم
وقوله فراق بيني وبينك مثله في المعنى سواء.
[مسألة: يطلق امرأته وله منها ابنة فيقول
أرسليها إلي تأكل معي]
مسألة وسئل مالك عن الذي يطلق امرأته، وله منها ابنة، ابنة أربع سنين،
فيقول ما عندي مال أنفق عليها، أرسليها إلي تأكل معي، فقال: أخاف أن يكون
مضرا بها، ولكن تنظر فيما يقول، فإن كان كذلك أمرا غالبا معروفا، قيل لها:
أرسليها تأكل مع أبيها وتأتيك، فإن كان لا يزال يكتسي الثوب ويأكل اللحم
فذلك وجه.
(5/379)
قال محمد بن رشد: ليس للرجل الموسر أن تأكل
ابنته عنده، ويلزمه أن يدفع نفقتها إلى أمها الحاضنة لها، فإن ادعى أنه لا
يقدر على ذلك، نظر في حاله، فإن تبين صدق قوله، وأنه لا يريد الضرر بما دعا
إليه من أن يأكل ولده معه، كان ذلك له كما قال، وإلا فلا، وبالله التوفيق.
[مسألة: يتوفى عنها زوجها فتحلق رأسها هل عليها
من كفارة]
مسألة وسئل عن المرأة يتوفى عنها زوجها، فتحلق رأسها، هل عليها من كفارة؟
قال: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ}
[البقرة: 215] ، فأما شيء مؤقت فليس ذلك عليها. وهذا من عمل الجاهلية
{وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ
فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} [النساء: 119] .
قال محمد بن رشد: الحلق عند المصيبة مما لا يحل في الشريعة ثبت أن رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أنا بريء من السالقة
والحالقة والشاقة» ، يريد بالسالقة النائحة من قول الله عز وجل:
{سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} [الأحزاب: 19] ، والحالقة حلق الرأس
والشاقة التي تشق عليها ثيابها؛ لأنه من عمل أهل الجاهلية وأمر الشيطان
وتغيير خلق الله، وقد لعن رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - المغيرات لخلق
الله فمن فعل ذلك من النساء، فكفارتها التوبة والاستغفار، وتؤمر بالصدقة
استحبابا، لما جاء من أن الصدقة تكفر الذنب، وليس في ذلك شيء موقوف، كما
قال مالك، وبالله التوفيق.
[مسألة: طلق امرأته حاملا وهي ترضع]
مسألة وسئل عمن طلق امرأته حاملا وهي ترضع، أترى عليه
(5/380)
النفقتين جميعا كلتيهما، نفقة الحمل، ونفقة
الرضاع؟ قال: أرى ذلك عليه جميعا.
قال محمد بن رشد: قال: في كتاب الرضاع من المدونة: إن على المرأة أن ترضع
ولدها بعد الطلاق في العدة، ما دامت النفقة على الزوج، فذهب بعض الناس إلى
أن ذلك خلاف لرواية أشهب هذه، وقال على ما في المدونة لا نفقة لها في
الرضاع، ما دامت النفقة لها واجبة على الزوج بسبب الحمل، وليس ذلك بصحيح؛
لأن النفقة واجبة في العدة بحق العصمة التي أوجب الله فيها على الأم إرضاع
ولدها بقوله: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ
كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى
الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:
233] ، فأوجب لهن الإنفاق على أزواجهن بحق العصمة، وأوجب عليهن الإرضاع طول
العصمة، وأما البائن فلا نفقة لها، إلا أن تكون حاملا، لقول الله عز وجل:
{وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ
حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6] ، ولا إرضاع عليها إلا أن تشا، فتكون لها الأجرة،
لقول الله عز وجل: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}
[الطلاق: 6] ، فليس وجوب النفقة لها بسبب الحمل الذي يسقط ما أوجب الله لها
من الأجرة في الرضاع. وهذا بين، والله الموفق.
[مسألة: تشتري من صاحبتها يومها من زوجها]
مسألة وسئل عن المرأة تشتري من صاحبتها يومها من زوجها، فقال: لا يعجبني،
وإني لأكرهه، أرأيت لو اشترت منها شهرا أو سنة، وإني لأرجو أن تكون الليلة
خفيفة.
قال محمد بن رشد: كره هنا أن تشتري المرأة من صاحبتها يومها من
(5/381)
زوجها، وخفف في رسم الطلاق الأول، من سماع
أشهب، من كتاب النكاح أن يرضي الرجل إحدى امرأتيه بالشيء، يعطيها عن يومها،
فيكون فيه عند صاحبتها.
وقد مضى هناك القول فيهما والوجه في الفرق بينهما، فلا معنى لإعادته،
والحمد لله.
[مسألة: يضرب له أجل سنة في إصابة أهله فلا
يصيبها فيفرق بينهما]
مسألة قال: وسألته عن الرجل يضرب له أجل سنة في إصابة أهله، فلا يصيبها،
فيفرق بينهما، أيكون لها الصداق كله؟ فقال: أما الرجل الذي قد ثوا مع
امرأته، وكشفها وتلذذ منها، وأطال المقام، ثم استعدت عليه، فضرب لها أجل
سنة في إصابتها، فمضت السنة فلم يصبها ففرق بينهما.
وقد خلقت الثياب، وطال العهد، فإني أرى لها الصداق كله، ولا يؤخذ منها له
شيء، وأما الذي يضرب له أجل سنة بحداثة دخوله، ثم لا يصيبها حتى تمضي
السنة، فيفرق بينهما، فلا أرى لها إلا نصف الصداق، وأرى ذلك له من كل ما
اشترت يكون له نصفه.
قلت: أرأيت ما لم يجد عندها من ذلك، أيتبعها به؟ فقال: أما الشيء الذي
استنفقته أو أهلكته، فأرى ذلك له عليها يتبعها به، وأما طيب تطيبت به، أو
ثوب لبسته، فأبلته، أو خادم هلكت، أو شيء انكسر، فلا أرى عليها في ذلك
شيئا.
قال محمد بن رشد: قوله: إنه لا يستوجب جميع الصداق، إلا بالطول قبل ضرب
الأجل، خلاف ما في المدونة، من أن السنة المضروبة له طول إقامة، تستوجب بها
المرأة جميع الصداق، وإن ضربت بحدثان الدخول، ومن أهل العلم من يوجب للمرأة
الصداق كله بالدخول بها، وإرخاء الستر عليها، وإن لم يصبها فظاهر قول عمر:
إذا أرخيت الستور، فقد وجب الصداق، ومنها من لم ير لها إلا نصف الصداق، وإن
طال الأمر، ما لم يمسها
(5/382)
لقول الله عز وجل: {وَإِنْ
طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ
لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] ، فقول مالك في
مراعاة الطول، قول وسط بين القولين، ويرجح ما في المدونة بالقول الأول، وما
في هذه الرواية بالقول الثاني.
وأما قوله: إنه يكون له من كل ما اشترت نصفه، فقد مضى القول فيه في رسم
سلعة سماها من سماع ابن القاسم. وقوله: إنه لا يتبعها بما لبسته فأبلته
صحيح لا اختلاف فيه؛ لأنها إنما لبسته بعد الدخول، وإنما يختلف فيما لبسته
قبل الدخول مما نقدها، على ما مضى القول فيه في رسم شك في طوافه، من كتاب
النكاح.
وقوله: فيما استنفقته إنه بمنزلة ما أفسدته أو أهلكته، معناه: أنها
استنفقته فيما يخصها مما يلزم الزوج من نفقتها، وأما ما أنفقته على نفسها
مما يلزم الزوج لها، فلا رجوع له عليها فيه، إذا فرق بينهما بقرب الدخول،
بل لها الرجوع عليه بنصفه، وإنما لم ير الرجوع له عليها في الطيب الذي
تطيبت به من صداقها، وإن كان الطيب لا يلزمه أن يقوم به لها من أجل أنها
إنما تطيبت له، فهو المستمتع به معها، وبالله التوفيق.
[مسألة: طلقت فحاضت الحيضة الثالثة ألها أن
تتزوج قبل أن تطهر منها]
مسألة وسئل عن المرأة طلقت فحاضت الحيضة الثالثة، ألها أن تتزوج قبل أن
تطهر منها؟ قال: نعم ذلك لها، ولكن لا يعجل حتى يعلم أنها حيضة ويقيم
أياما، فيعلم أنها حيضة.
قال محمد بن رشد: قوله ذلك، يدل على أن قوله: ولكن لا يعجل معناه على
الاستحباب، إذ لو حمل على الوجوب لتناقض الكلام.
وقول أشهب في المدونة: غير أني أستحب ألا يعجل بالتزويج حتى يعلم أنها حيضة
مستقيمة، بتماديها فيها، يأتي على روايته هذه عن مالك، وعلى أن الحيض الذي
يكون حيضة تعتد بها المرأة في أقرائها في الطلاق، ويكون ذلك استبراء للأمة
في البيع، فقد قيل فيه ثلاثة أيام، وهو قول محمد بن مسلمة. وقد
(5/383)
قيل: خمسة أيام، وهو قول ابن الماجشون.
وإنما قلنا على أنه يأتي على أن لأقل الحيض حدا لأنه قال: إنه إن انقطع وجب
على المرأة الرجوع إلى بيتها، ووجبت لزوجها عليها الرجعة، فوجه قوله: إنه
تحكم لما تراه المرأة من الدم، من أول ما تراه بأنه حيضة في الظاهر، فيوجب
عليها الانتقال من مسكن الزوج، ويبيح لها التزويج على كراهة، ويمنع الزوج
من ارتجاعها، إذ لا يتحقق أنها حيضة إلا بتماديها فيها، فإن لم تتماد فيها
وانقطع الدم، فلم ترجع من قرب، وكانت قد تزوجت، فسخ النكاح، وصحت رجعة
الزوجة إن كان قد ارتجع، وكان له أن يرتجع إن كان لم يرتجع.
وأما إن رجع من قريب فلا يفسخ النكاح وتبطل الرجعة؛ لأن الدم الثاني مضاف
إلى الأول. وما بين ذلك من الطهر يلغى، وأما على مذهب من لا يوقت لأقل
الحيض حدا، أو يقول: إن الدم وإن كان دفعة واحدة، يكون حيضة تعتد به
المطلقة في الطلاق، ويكون استبراء في الأمة في البيع، إذا كان منفصلا مما
قبله ومما بعده، وهو مذهب ابن القاسم، وروايته عن مالك في المدونة؛ لأنه
قال فيها: إن الأمة المبيعة إذا دخلت في الدم من أول ما تدخل، فمصيبتها من
المشتري، وقد حل للمشتري أن تقبل وأن يباشر، يجوز للمرأة أن تتزوج بأول ما
تراه من الدم، ولا معنى لاستحباب التأخير في ذلك؛ لأن الدم إن انقطع لا
يخلو من أن يعود عن قرب أو عن بعد، فإن عاد عن بعد انكشف أن ذلك الدم هو
الحيضة الثالثة، وأن هذا الدم حيضة رابعة، وإن عاد عن قرب كان مضافا إلى
الدم الأول، وعلم أنه كان ابتداء الحيضة الثالثة، وأن ما بينهما من الطهر
يلغى، لا حكم له.
وسحنون يوجب عليها ألا تتزوج حتى تقيم في الدم إقامة يعلم بها أنها حيضة،
ويحتج برواية ابن وهب عن مالك، في أن المطلقة لا تبين من زوجها بما تراه من
أول الدم الثالث، حتى يعلم أنها حيضة مستقيمة، وأن الأمة لا تحل للمشتري في
البيع ولا تدخل في ضمانه بأول الدم حتى تتمادى فيه ويعلم أنها حيضة
مستقيمة.
وقد قال ابن القاسم في كتاب الاستبراء من المدونة: إن الدم يوم أو بعض يوم
إذا انقطع، يريد ولم يعد حتى مضى من المدة ما يكون طهرا فاصلا يسأل النساء
عنه، فإن قلن:
(5/384)
إنه يكون حيضا كان الاستبراء، وإلا فلا
فعلى قوله هذا يسأل النساء عنه، فإن قلن: إنه لا يكون حيضا، يكون الحكم في
ذلك على ما في سماع أشهب. واختلف في هذا الدم إذا انفصل مما قبله ومما
بعده، ولم يعد حيضة تعتد به المرأة في أقرائها لقلته على هذا القول، هل
تقضي صلاة تلك الأيام أم لا؟ فالذي يأتي على المذهب، أنها لا تقضي صلاة تلك
الأيام؛ لأن الاختلاف فيه إنما هو هل يكون حيضة تعتد به المرأة في أقرائها؟
لا في هل يكون حيضا يسقط وجوب الصلاة؟ وإنما القائل: إنه لا يكون ما دون
ثلاثة أيام حيضا يسقط وجوب الصلاة، أبو حنيفة، وقد روي عن سحنون أنه يقضي
صلاة تلك الأيام، وقوله خارج عن المذهب مثل قول أبي حنيفة وبالله التوفيق.
[مسألة: طلق امرأته فقالت إني حامل فجعل معها
امرأة]
مسألة وسئل عمن طلق امرأته فقالت: إني حامل، فقال: أمستأجر أجيرة تكون
معها، فإنها ليست عندي بمأمونة؟ فجعل معها امرأة، ثم استمرت حاملا، فقال
الزوج: قد اعترضت عنها، ولا أعلمه كان مني إليها شيء، فقال مالك: هم يحتجون
عليه بأنه جعل امرأة معها، قيل له: فإنه يقول جعلت ذلك، قال: فأرى إن لم
يأتوا بالبينة لاعن، وإن جاءوا بالبينة كان الولد منه، ولا أرى عليه فيما
قال حدا ما، وإنما قال: ولا أعلمني أصيبها، وقد تحمل المرأة ولا يبلغ ذلك
منها.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة أن الزوج ليس مقرا بأنه قال: قد
اعترضت عنها ولا أعلمه كان مني إليها شيء، وإنما تدعي ذلك عليه وهو ينكر أن
يكون قاله ويدعي هو أنه لا، فرأى مالك ثبوت الشك عليه
(5/385)
في ذلك بهذا القول، يوجب أن يلحق به الولد،
وقوله صحيح، كالرجل يدعي على الرجل، فيشهد عليه أنه قال: لا أدري من جرحني،
إن قوله يبطل، ويلزم على هذا في المودع يدعي رد الوديعة، فيشهد عليه أنه
قال: لا أدري إن كنت رددتها أم لا، ألا يصدق في الرد، إلا أن يفرق بين
الحقوق واللعان، فقد فرق بينهما في غير ما موضع؛ لأنه أغلظ منها، وقد اعترض
أبو إسحاق التونسي قول مالك هذا وقال: ينبغي أن يكون له أن يلاعن؛ لأنه
يقول الذي شككت فيه قد تيقنته، وإنما لا يكون له أن يلاعن مع تماديه على
الشك، كمن شك هل له على رجل مائة؟ ثم يتيقن، فادعاها، إن شكه أولا يسقط
اليمين عن المدعى عليه، قال: إلا أن يقال: إن إقراره بالشك، ورجوعه عنه إلى
إقرار يدعيه، بخلاف إنكاره أن يكون قال ذلك، ويجعل إنكاره للشك كتماديه
عليه، وليس ذلك ببيِّن. والمسائل التي نظرتها بها أشبه من التي نظرها هو
بها. فقول مالك في أن الولد يلزمه بما شهد به عليه صحيح، وأما قول مالك:
وما أرى عليه حدا فيما قال، إلى آخر قوله، فيفيد؛ لأنه بإنكاره الوطء قاذف،
فإذا لم يصدق في إنكاره، ولا مكن من اللعان وجب أن يُحدّ، والله أعلم وبه
التوفيق.
[مسألة: طلق امرأته وهي حامل فمطلها بالنفقة
حتى مات أتتبعه ورثتها بنفقتها]
مسألة وسئل عمن طلق امرأته وهي حامل، فمطلها بالنفقة حتى مات، أتتبعه
ورثتها بنفقتها؟ فقال: ومن أين يعلمون أنها كانت حاملا؟ إذا استوقن أنها
كانت حاملا، فأرى أن يتبع بذلك، فيغرمه، والحد الذي يتيقن فيه حملها تحرك
الولد، وأنا أرى أن يؤخر النفقة حتى يتبين الحمل، فيكون عليه نفقة ما مضى
وما يستقبل.
قال محمد بن رشد: هذا هو المشهور في المذهب، أن يحكم للحمل
(5/386)
بتحركه في وجوب النفقة له، واللعان عليه،
وكون الأمة حرة به إذا مات سيدها، وبها حمل منه، وما أشبه ذلك. وفي مختصر
ابن شعبان عن مالك، إنه لا ينفق على المرأة تدعي الحمل حتى تضع، فيحسب ذلك
لها، وتعطاه، قال: كم من امرأة تدعي مثل هذا، ثم ينكشف أمرها، على أنه ليس
بها حمل، ولعله أن يطلب منها ما أعطاها، فلا يجد عندها شيئا. قال: ثم رجع
إلى ما في مختصر عبد الله، إن النفقة تلزمه، بتبيُّن الحمل، وهذا الاختلاف
داخل فيما ذكرناه من اللعان وغيره.
[يطلق امرأته بالإسكندرية وله منها ولد فتريد
الخروج بهم إلى الفسطاط]
ومن كتاب الأقضية الثاني وسئل عن الرجل يطلق امرأته بالإسكندرية، وله منها
ولد، فتريد الخروج بهم إلى الفسطاط، أذلك لها؟ فقال: ما أظن ذلك. فقلت له:
إن بين الإسكندرية وبينها مسيرة ثلاثة أيام، فليس للأم أن تخرج بهم إلى
الفسطاط، فقال لي: ليس لها، إذا كان مسكن الأب الإسكندرية، فقلت له: هي
مسكنهم، فقال لي: ليس ذلك لها.
قال محمد بن رشد: قد مضى مثل هذا القول والقول فيه في رسم حلف من سماع ابن
القاسم فلا وجه لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: عدة المرأة المتوفى عنها زوجها ممن
تحيض]
مسألة وسمعته وسأله ابن كنانة عن المرأة المتوفى عنها زوجها ممن تحيض، تعتد
أربعة أشهر وعشرا، ولم تحض في ذلك، وذلك حالها أنها لا تحيض إلا في ستة
أشهر، ولم تسترب، أتتزوج؟ فقال: لا تتزوج حتى تحيض وتبرأ من الريبة، قال
سحنون: وقال لي ابن نافع: قد انقضت عدتها وهي غير مستبرأة، فلتنكح، ولا
تنتظر
(5/387)
شيئا، وإنما التي تنتظر التي تكون حيضتها
أقل من أربعة أشهر، فتجاوز وقت الحيضة وهي تحيض.
قال محمد بن رشد: قد تقدمت هذه المسألة والقول فيها مستوفى في رسم "سلعة
سماها" من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: تفسير قول الله عز وجل واللائي يئسن من
المحيض من نسائكم إن ارتبتم]
مسألة قال أشهب: وسألته عن قول الله عز وجل: {وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ
الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ
أَشْهُرٍ وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ
يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] ، ما تلك الريبة في الحيض؟ لا تدري لِم
لَمْ تحض؟ فقال: لا، ولكن الله ذكر التي تحيض، فبين عدتها، ثلاثة قروء،
وذكر الحامل، فبين عدتها أن تضع حملها، وبقيت التي يئست من المحيض، واللائي
لم تبلغ المحيض، فبين عدتهما، فقال: {وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ
مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ
وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4] يقول: إن ارتبتم فلم تدروا ما عدتهن
ثلاثة أشهر، فجعل ثلاثة أشهر عدة الصغيرة التي لم تبلغ المحيض، وعدة التي
يئست من المحيض. فقلت له: وليست تلك الريبة أن ترتاب في الحيضة، فلا تدري
لم لم تحض؟ فقال: لا، إنما هي إن ارتبتم فلم تدروا بأي شيء يعتد من
الحوامل، ولا من اللائي يحضن، فتعتد ثلاثة قروء.
قال محمد بن رشد: ذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في هذه الرواية، إلى أن
الريبة في قول الله عز وجل: {إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ
أَشْهُرٍ} [الطلاق: 4] ريبة ماضية في الحكم، لا ريبة مستقبلة في معاودة
الحيض لهن، وإن قوله: {إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ} [الطلاق: 4]
بمعنى: إذا ارتبتم. وذهب ابن بكير وإسماعيل القاضي إلى أن
(5/388)
المعنى في قَوْله تَعَالَى: {إِنِ
ارْتَبْتُمْ} [الطلاق: 4] ، أي: إن ارتبتم في معاودة الحيض لهن، وأنها ريبة
مستقبلة، قالا: ولو كانت ريبة ماضية في الحكم، لكان حقه أن يكون " أن
ارتبتم "، بفتح الألف من أن. وقالا: إن اليأس في كلام العرب، إنما هو فيما
لم ينقطع فيه الرجا تقول: يئست من المريض لشدة مرضه، ومن الغائب لبعد
غيبته، ولا تقول: يئست من الميت الذي قد انقطع منه الرجا، فلو كان معنى
الآيسة التي أوجب الله عليها في العدة ثلاثة أشهر، هي التي لا ترتاب في
معاودة الحيض، لوجب إذا ارتفع عن المرأة المحيض، وهي في سن من يشبه أن تحيض
أن تعتد بالأقراء، حتى تبلغ سن من لا يشبه أن تحيض، وإن بقيت عشرين سنة،
كما يقول الشافعي. وهو خطأ من وجهين: أحدهما: أنها إن جاءت بولد لما لا
تحمل له النساء من المدة التي لم يلحق به الولد، وإن كانت العدة لم تنقض،
ومحال أن تعتد المرأة من زوج في مدة لا يلحق فيها به الولد.
والوجه الثاني: مخالفة ما جاء عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في عدة
التي ترتفع حيضتها، وهي في سن من تحيض من مطالبة ثلاث حيض أو ستة بيضاء، لا
دم فيها، فإذا قلنا: إن اليائسة التي أوجب الله عليها العدة بثلاثة أشهر،
هي التي ترتاب، فلم تدر لِمَ لَم تحض؟ بدليل هذا، ألا تجب عدة على من لم
تعلم أنها ممن لا تحيض لصغر أو كبر، ولا ترتاب في أمرها، إلا أنه لما لم
يكن حد يرجع إليه، حمل الباب في ذلك محملا واحدا.
وقد ذهب ابن لبابة إلى أن الصغيرة التي لا تحيض ويومن الحمل منها لا عدة
على واحدة منهما. وقال: إنه مذهب داود، وإنه القياس؛ لأن العدة إنما هي حفظ
للأنساب، فإذا أمن الحمل، فلا معنى للعدة، وهو شذوذ من القول. وفي قول الله
عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ
ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ
عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49] ، دليل على أن
التي تطلق قبل الدخول والمسيس لها لا تجب عليها العدة، أُمن منها الحمل أو
لم يؤمن، وإذا قلنا: إن
(5/389)
اليائسة التي أوجب الله عليها العدة بثلاثة
أشهر، هي التي لا ترتاب في الحيض؛ إذ ليست في سن من تحيض، وهو الذي ذهب
إليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في هذه الرواية، فالتي ترتفع حيضتها بعد أن
حاضت وهي في سن من تحيض، محمولة عليها إذا قعدت تسعة أشهر، فلم ير بها حيض،
ولا ظهر بها حمل، ولا كان لها عذر يمنعها من الحيض، من مرض أو رضاع، على ما
بيناه من الاختلاف في المرض في رسم سلعة سماها من سماع ابن القاسم؛ لأنها
بمعنى اليائسة، والسنة الثابتة في ذلك عن عمر بن الخطاب، فلا تحل المرأة
المطلقة ولا حمل بها، إذا كانت في سن من تحيض، أو قد حاضت مرة أو مرتين إلا
بثلاثة قروء، أو سنة بيضاء، لا دم فيها، تسعة أشهر استبراء، ينزل ببلوغها
إليها دون أن نرى فيها دما، بمنزلة الآيسة، ثم ثلاثة أشهر عدة كما قال الله
عز وجل.
[مسألة: امرأة لها ولد صغير وله مال فهي تستنفق
وخادمها من ماله]
مسألة وسئل عن امرأة لها ولد صغير، وله مال، فهي تستنفق وخادمها من ماله،
فقال: أليس لها مال؟ قيل: بلى، قال: لو لم يكن لها مال لم يكن فيه شك، فأما
إذا كان لها مال، فلينظر في ذلك، فإن كان ما تعمل إليه من الخدمة والحضانة،
مثل الذي ينفق عليهم، فذلك جائز، وينظر، فإن كان يجد له من يخدمه وينفق
عليه قيام جارية أمه عليه في الحضانة له والرفق به، بدون نفقة هذه، لم يكن
لهم أن يستنفقوا من ماله.
قال محمد بن رشد: أجاز هاهنا للأم، وإن كان لها مال، أن تستنفق هي وخادمها
من مال ولدها، إن كان ما تعمل إليه من الخدمة والحضانة، مثل ما تستنفق،
فجعل لها في مال ولدها حظا بالحضانة، وذلك خلاف ما تقدم في رسم الطلاق
الثاني من هذا السماع، وفي رسم شك في طوافه من سماع ابن القاسم. ومثل ما في
رسم شك من سماع ابن القاسم
(5/390)
من كتاب النكاح. وقد مضى القول على هذا
المعنى هناك مستوفى فلا معنى لإعادته مرة أخرى، والحمد لله.
[مسألة: توفي زوجها فتركت أولادها خمسة أشهر أو
سبعة، ثم قيل لها أنت أحق بهم]
مسألة وسئل عمن توفي زوجها، فتركت أولادها خمسة أشهر، أو سبعة، ثم قيل لها:
أنت أحق بهم، ما لم تنكح، فقالت: والله ما علمت بهذا. أترى لها في ذلك
تكلما؟ قال: نعم، الشأن في هذا قريب، وقد تجهل السنة.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة في مواضع، ومضى القول فيها مستوفى في
أول رسم من سماع ابن القاسم، وبالله التوفيق.
[فارق امرأته وله منها بنت فطرحتها إليه ولحقت
بأهلها فتأيمت عندهم ثم تزوجت]
ومن كتاب الأقضية وسئل عمن فارق امرأته وله منها بنت فطرحتها إليه، ولحقت
بأهلها، فتأيمت عندهم ما شاء الله، ثم تزوجت لا تعرض للبنت ولا تريدها حتى
ماتت، فلما ماتت، قامت أمها تطلب البنت بنت ابنتها لتأخذها، فقال: إن كان
لذلك سنة أو أكثر من ذلك، وأشباه ذلك، فلا أرى ذلك لها، قد تركوها ورفضوها،
وإن كان ليس ذلك إلا يسيرا فأرى ذلك لها.
قال محمد بن رشد: هذه المسألة نحو التي فوقها، وقد تكرر هذا المعنى في
مواضع من هذا الكتاب ومن غيره، ومضى تحصيل القول فيه في أول رسم من سماع
ابن القاسم من هذا الكتاب.
[عبد كان تزوج أمة قوم فطلقها طلقة فأقام بذلك
شهرا أو نحوه ثم لقيه سيدها فكلمه فيها]
ومن كتاب الأقضية الثالث وسئل عن عبد كان تزوج أمة قوم، فطلقها طلقة، فأقام
بذلك شهرا أو نحوه، ثم لقيه سيدها، فكلمه فيها، فقال: إني قد
(5/391)
ارتجعتها، ثم أبق ولم يذكر ذلك إلا لسيدها،
ولم يحق ذلك بدخول عليها ولا كينونة عندها، أيطلق عليه، أم يضرب له أجل
المفقود؟ قال مالك: هذا شاهد واحد، فأرى أن يرفع ذلك إلى السلطان، فأرى
للسلطان أن يفرق بينهما، ولا يضرب له أجل المفقود؛ لأن الرجعة لم يشهد
عليها إلا شاهد واحد، فأرى أن يفرق بينهما.
قال محمد بن رشد: قول مالك: هذا شاهد، يفرق بينهما، ولا يضرب له أجل
المفقود؛ لأن الرجعة لم يشهد عليها إلا رجل واحد، نص منه على إجازة شهادة
السيد على ارتجاع أمته، خلاف قول ابن القاسم في كتاب إرخاء الستور من
المدونة: إن شهادته على ارتجاعها لا تجوز، قياسا على ما قال مالك -
رَحِمَهُ اللَّهُ -: إن شهادته على إنكاحها لا تجوز، ولا اختلاف في أن
شهادته على إنكاحها لا تجوز؛ لأنه يشهد على فعل نفسه ليجيزه، ولأن ذلك يوجب
لها صداقا، فهو يتهم من أجل أنه له انتزاع مالها، وأما شهادته على ارتجاع
الزوج لها، فقول مالك: إنها جائزة، أظهر من قول ابن القاسم؛ إذ لا تهمة على
السيد في ذلك في مال يجره إليها، بل هو مقر على نفسه أنها باقية في عصمة
الزوج، وذلك ينقص ثمنه، ويحول بينه وبين الاستمتاع بها. وقياس ابن القاسم
الارتجاع على النكاح ليس بصحيح، وبالله التوفيق.
[امرأة اليهودي والنصراني يسلم قبل أن يدخل بها
زوجها أله عليها رجعة إن أسلم]
ومن كتاب الطلاق وسئل عن امرأة اليهودي والنصراني يسلم قبل أن يدخل بها
زوجها، أله عليها رجعة إن أسلم؟ فقال: لا رجعة له عليها، وكيف له عليها
رجعة وهي ليست في عدة لا رجعة له عليها؟
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه أحفظه في المذهب، إن
المرأة إذا أسلمت قبل أن يدخل بها زوجها فلا سبيل له عليها إن أسلم بعد
ذلك؛ إذ ليست في عدة منه؛ لأن السنة إنما جاءت في أنه أحق بها
(5/392)
ما دامت في عدتها. وقد كان القياس ألا يكون
له إليها سبيل إذا أسلمت قبله، دخل أو لم يدخل، إلا أنه ليس فيما قامت به
السنة عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قياس ولا نظر.
وظاهر قوله: إنها إذا أسلمت قبله، ولم يبن بها، أنه لا سبيل إليها وإن أسلم
مكانها، خلاف ما في رسم النسمة من كتاب النكاح. وقد مضى القول على ذلك
هنالك، وبالله التوفيق.
[أوصى بابنته إلى ولي فتركها مع عمتها حتى بلغت
الجارية أو كادت تبلغ]
ومن كتاب الوصايا الذي فيه الحج والزكاة قال أشهب: سمعت مالكا يسأل عمن
أوصى بابنته إلى ولي، فتركها مع عمتها حتى بلغت الجارية، أو كادت تبلغ، ثم
تزوجت العمة فطلبتها الجدة أم أمها، وأرادت أخذها، وأحبت الجارية أن تكون
مع عمتها، ورضي بذلك الولي. قال: أرى أن تترك مع عمتها إذا أحبت ذلك
الجارية ورضي بذلك الولي، ولا تأخذها الجدة إذا رضي بذلك الولي، قلت له:
أرأيت أن تترك مع عمتها، ولا تأخذها الجدة إذا رضي بذلك الولي؟ قال: نعم،
إذا رضي بذلك الولي، أو أحبت ذلك الجارية.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة، والمعنى فيها أن الجدة لما تركتها مع
عمتها المدة الطويلة، سقط حقها في حضانتها ولما تزوجت العمة أيضا، سقطت
حضانتها بالتزويج، فرجع الأمر فيها إلى الولي، يتركها عند من شاء منهما،
فإذا رضي الولي أن تكون مع عمتها وأحبت ذلك الجارية، لم يكن للجدة سبيل إلى
أخذها. قال ابن نافع في المدنية: وتعزل في مكان مع عمتها وجدتها. قال ابن
القاسم فيها: إن كانت عرضت على الجدة فأبت من أخذها، فلا سبيل لها إليها،
وإن كانت لم تعرض عليها فهي أحق بها متى ما قامت، وقوله يأتي على أن السكوت
ليس بإذن. وقد مضى هذا في أول رسم
(5/393)
من سماع ابن القاسم، وتكررت المسألة أيضا
فوق هذا في هذا السماع وفي غير ما موضع، وبالله التوفيق.
تم الجزء الأول من كتاب طلاق السنة
بحمد الله تعالى وحسن عونه والصلاة الكاملة على سيدنا محمد خاتم النبيين.
(5/394)
|