البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة

 [كتاب طلاق السنة الثاني] [العبد وامرأته يكونان لرجل فيفقد العبد وهما نصرانيان أو مسلمان]

(5/395)


من سماع عيسى من ابن القاسم
من كتاب نقدها نقدها قال عيسى: وسألت ابن القاسم، عن العبد وامرأته يكونان لرجل، فيفقد العبد، وهما نصرانيان أو مسلمان، إلا أن سيدهما مسلم، قال: يرفعه إلى الإمام، ويضرب له أجل المفقود، نصف أجل الحر المسلم، مسلمين كانا أو نصرانيين.
قلت: فإن ضرب له أجل المفقود، ثم عتقت الأمة، قال: إن اختارت نفسها رجعت إلى عدة المطلقة وتركت عدة المفقود.
قلت: فإن كانا نصرانيين، فأسلمت في أجل المفقود، قال: تترك عدة المفقود، وتعتد عدة المطلقة، فإن جاء زوجها في عدتها فأسلم، فهو أحق بها، وإن خرجت من عدتها وتزوجت، فلا سبيل له إليها وإن أسلم بعد ذلك، وإن كان قد أسلم في غيبته قبلها، ثم جاء فهو أحق بها، ما لم يدخل بها زوجها.
قال محمد بن رشد: قوله في هذه المسألة: وإن خرجت من عدتها وتزوجت فلا سبيل له إليها، وإن أسلم بعد ذلك، يريد بعد إسلامها لا بعد انقضاء عدتها؛ لأنه إن أسلم بعد انقضاء عدتها، فلا سبيل له إليها، وإن

(5/397)


كانت لم تتزوج، وأما إن أسلم بعد انقضاء عدتها، فقيل: إنه لا سبيل له إليها إذا تزوجت، كما قال هاهنا. وقيل: إنه أحق بها وإن تزوجت، ما لم يدخل بها الزوج. اختلف في ذلك قول مالك، والذي اختار ابن القاسم وأشهب في المدونة من قولي مالك، أنها لا تفوت إلا بالدخول، خلاف قول ابن القاسم هاهنا. وأما إذا أسلم في غيبته قبلها، فقال ابن الماجشون: إنه أحق بها وإن دخل بها الزوج، واختاره محمد، وهو الصواب، خلاف قول ابن القاسم هاهنا وفي المدونة، فلا اختلاف في الذي أسلم قبلها أنها لا تفوت بالعقد. واختلف هل تفوت بالدخول؟ ولا اختلاف في الذي أسلم في عدتها أنها تفوت بالدخول. واختلف هل تفوت بالعقد؟ فهذا تحصيل القول في هذا الوجه من المسألة، وسائرها صحيح، جار على أصولهم، لا وجه للقول فيه، وبالله التوفيق.

[مسألة: المطلقة تستحاض فيستمر بها الدم سبعة أشهر أو ثمانية ثم ينقطع ذلك عنها]
مسألة وسئل عن المطلقة تستحاض، فيستمر بها الدم سبعة أشهر أو ثمانية، ثم ينقطع ذلك عنها، هل ترجع إلى الحيض؟ قال مالك: ترجع إلى الحيض. قيل له: أفتعد تلك الاستحاضة حيضة، تبني عليها حيضتين؟ قال: إن استيقنت أن الذي كان بها أول من الدم حيضة، اعتدت بها، وإلا استقبلت ثلاث حيض. وكذلك قال مالك.
قال محمد بن رشد: قوله في التي تستحاض فيستمر بها الدم سبعة أشهر أو ثمانية، ثم ينقطع، إنها ترجع إلى الحيض صحيح، لا اختلاف وكذلك قوله: إن استيقنت أن الذي كان بها أول من الدم حيضة اعتدت بها صحيح أيضا، إلا أنه لم يبين بما تستيقن به ذلك. وإذا طلقت المرأة وهي طاهر، فرأت الدم، وتمادى بها المدة الطويلة، فلا يخلو هذا الدم من أن تكون رأته قريبا من الدم الذي قبله، أو بعيدا منه، فإن كانت رأته قريبا من

(5/398)


الدم الذي قبله، وكانت قد أقامت في الدم الذي قبله خمسة عشر يوما، أو أيامها المعتادة والاستظهار، فهذا الدم الذي رأته وتمادى بها المدة الطويلة، دم استحاضة، لا تعتد به في أقرائها، وتستقبل ثلاث حيض، وإن كانت رأته قريبا من الدم الذي قبله، وقد كانت أقامت في الدم الذي قبله من أيامها المعتادة والاستظهار، فهذا الدم الذي رأته وتمادى بها، تضيف منه إلى الدم الذي قبله تمام أيامها المعتادة والاستظهار، أو تمام خمسة عشر يوما، على اختلاف قول مالك ثم تغتسل وتصلي، وتكون في حكم من طلقت في الحيض، يجبر الزوج على الرجعة؛ لأنها حيضة تقطعت، والأيام التي بينهما ملغاة، وقد قيل: إنه لا يجبر على الرجعة؛ لأنه إنما طلقها وهي طاهر، فلم يرتكب نهيا، وهو بعيد، لوجود العلة الموجبة لأن يجبر على الرجعة، وهي التطويل في العدة، وتستقبل أيضا هاهنا ثلاث حيض، وإن كانت رأته بعيدا من الدم الذي قبله، فهو محمول على أنه حيض تعتد به في عدتها، وتقيم فيه أيامها المعتادة والاستظهار، أو خمسة عشر يوما على اختلاف قول مالك في ذلك، ثم تغتسل وتصلي أبدا، ما لم ترد ما تنكره بعد مدة يكون طهرا، فتترك الصلاة وتعد ذلك حيضة تعتد بها في عدتها، وقد قيل: إنها تعتد سنة، ولا تنظر إلى اختلاف الدم عليها. واختلف في المدة التي تكون طهرا فاصلا بين الحيضتين على أربعة أقوال: فقيل: خمسة أيام، وهو قول ابن الماجشون، وقيل: ثمانية أيام، وهو قول سحنون، وقد قيل من المدونة بدليل، وقيل: عشرة أيام، وهي رواية أصبغ عن ابن القاسم، ورواية التونسيين عن مالك، وقيل: خمسة عشر يوما، وهو قول محمد بن مسلمة، ورواية البغداديين عن مالك واختيارهم، والله أعلم.

[يطلق امرأته طلقة ثم لا يشهد على رجعتها حتى تنقضي عدتها وهو يطأها]
ومن كتاب استأذن سيده قال: وسألت ابن القاسم عن الرجل يطلق امرأته طلقة، ثم

(5/399)


لا يشهد على رجعتها حتى تنقضي عدتها، وهو في ذلك يطأها فقال: إن كان نوى بوطئه إياها الرجعة، وجهل أن يشهد، فإنه يقال له: أشهد وأمسك امرأتك كما كانت، وإن لم ينو بوطئه ارتجاعا، فعلم بذلك قبل أن تنقضي عدتها، قيل له: ارتجعها، ولا تمسها حتى تستبرئ نفسها من مائك الفاسد، الذي كان منك إليها بغير ارتجاع، وإن لم يتنبه لذلك حتى تنقضي عدتها، فقد بانت منه، فلا يحل له ولا لغيره نكاحها حتى تحيض ثلاث حيض.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن الرجعة إنما تكون بالبينة مع القول، أو ما يقوم مقام القول، مما لا يصح فعله إلا بعد المراجعة من الوطء، والقبلة والمباشرة للذة وما أشبه ذلك. قاله في كتاب ابن المواز: فإن انفردت النية دون القول أو ما يقوم مقامه، لم يكن ذلك رجعة. قاله في كتاب ابن المواز ويدخل في ذلك عندي ما في الطلاق بالنية دون القول من الاختلاف، وأما إن انفرد القول دون النية، فلا يكون ذلك رجعة، وكذلك إن انفرد الوطء دون نية، لم يكن ذلك رجعة، وكان من فعل ذلك قد وطئ حراما فإن انتبه لذلك في العدة، كان له أن يراجع بالقول؛ إذ لا يصح له الوطء إلا بعد الاستبراء من ذلك الماء الفاسد، وإن لم ينتبه لذلك حتى انقضت العدة، فقال: إنه لا يحل له ولا لغيره نكاحها حتى تحيض ثلاث حيض، يريد أنه يستوي هو وغيره في المنع من النكاح ابتداء، ويفترقان في التحريم، إن نكح ودخل، فأما غيره فلا تحل له أبدا. وأما هو فقيل: إنها تحرم عليه، وقيل: إنها لا تحرم؛ لأن النسب ثابت منه. من علل التحريم، بتعجيل النكاح قبل بلوغ أجله خاصة، قال: إنها تحرم عليه، ومن علله بتعجيل النكاح قبل بلوغ أجل مع اختلاط الأنساب، قال: إنها لا تحرم عليه؛ إذ ليس في ذلك اختلاط نسب. والليث بن سعد يرى الوطء رجعة، وإن لم ينو به الرجعة، يريد، والله أعلم، في الحكم الظاهر، فإذا وطئ وقال: إنه لم يرد بوطئه الرجعة، لم يصدقه، وألزمه الرجعة، كما لا يصدق في

(5/400)


القول إذ قال: إنه لم يرد به الرجعة عند الجميع، وبالله التوفيق.

[مسألة: يموت عنها زوجها أو يطلقها فترتفع عنها حيضتها أو تستحاض كم تقيم]
مسألة وسألته عن التي يموت عنها زوجها أو يطلقها فترتفع عنها حيضتها، أو تستحاض، كم تقيم؟ وهل الأمة ذات الزوج والحرة في ذلك سواء في الأزواج؟ قال مالك: أما إذا طلقهما أزواجهما، فالمستحاضة والتي ترتفع عنها حيضتها سواء، وهو قول مالك، وليس عند الناس في ذلك اختلاف، أنهن يقمن اثني عشر شهرا، تسعة منها استبراء، وثلاثة عدة، إلا أن ترى حيضة، فتستقبل أقصى اثنا عشر شهرا، من حين تطهر من هذه الحيضة، فلا تزال كذلك أبدا حتى تحيض ثلاث حيض، أو تستكمل اثنا عشر شهرا، فلا ترى الدم فيها فتحل، وأما المتوفى عنها زوجها، فإن الحرة تعتد أربعة أشهر وعشرا، والأمة تعتد شهرين وخمس ليالي، ثم يقال لهما: ارتفاع الحيضة والاستحاضة ريبة، فانتظرا حتى يمر بكما تسعة أشهر أقصى الريبة، إلا أن يكون لهما عذر، مثل أن يكونا يرضعان، فترتفع عنهما الحيضة من أجل ذلك، أو يكونا لا يحيضان في السنة إلا مرة، أو في ستة أشهر مرة، أو غير ذلك من العذر فيتزوجان إن لم يكن لهما من الريبة شيء حين يفرغان من عدتهما، فإن لم يكن لهما من العذر شيء، فإن الاستحاضة وارتفاع الحيض من الريبة، ولا ينكحان حتى تمر بهما تسعة أشهر، من حين يهلك عنهما زوجاهما، إلا أن يرتابا بعد ذلك، فيقيمان حتى يخرجا من الريبة. والاستبراء من الريبة في الوفاة بعد العدة، وفى الطلاق قبل العدة، يقال للحرة في

(5/401)


الوفاة: اعتدي أربعة أشهر وعشرا، وللأمة شهرين وخمس ليال، ثم استبريا أنفسكما بتمام تسعة أشهر، من حين يهلك زوجاكما، وفي الطلاق يقال للحرة وللأمة، انتظرا تسعة أشهر، من حلا! ن طلقكما زوجاكما، لعلكما تحيضان، والحرة والأمة في ذلك سواء، إلا أن الأمة تحل بحيضتين، والحرة بثلاثة، فإن مر بواحدة منهما تسعة أشهر ولم تحض، قيل لها: أنت ممن يئسن من المحيض، فاعتدي الآن ثلاثة أشهر، عدة التي قد يئست من المحيض، الحرة والأمة في الاستحاضة، وارتفاع الحيضة في الطلاق سواء. قال ابن القاسم: ولو أن الحرة أو الأمة المتوفى عنها زوجها حاضت حيضة واحدة في العدة، أو بعد العدة كفتها وحلت بها.
قال محمد بن رشد: ساوى في هذه الرواية بين المستحاضة والتي ترتفع حيضتها في الوفاة والطلاق، فقال: إنها تمكث في الطلاق تسعة أشهر، ثم تعتد بثلاثة أشهر، ثم تحل، وأما في الوفاة فلا تحل حتى تبلغ تسعة أشهر، وما قاله في الطلاق متفق عليه، إذا كانت المستحاضة لا تميز بين دم الحيضة من دم الاستحاضة. وأما إذا كانت تميز ما بين الدمين، فقد قيل: إنها تعتد بالأقراء، وتعمل على ما تميز، وقيل: إنها تعتد بسنة. قاله ابن القاسم، ورواه عن مالك، وهو قول غير ابن القاسم في المدونة إن عدة المستحاضة سنة، وأما في الوفاة فقد روي عن مالك أن المستحاضة تعتد فيها بأربعة أشهر وعشر، وتحل، بخلاف التي ترتفع حيضتها. وابن الماجشون يقول: إنه ليس على المستحاضة والمرتابة، أن يعتدا في الوفاة إلا بأربعة أشهر وعشر إذا لم يكن لهما من الريبة أكثر من ارتفاع الحيض والاستحاضة، فهي ثلاثة أقوال: وأما إذا لم يمر بالمتوفى عنها زوجها في الأربعة أشهر وعشر وقت حيضتها، أو كانت ترضع، فارتفع الحيض من أجل الرضاع، فإنها تحل بأربعة أشهر وعشر، إلا على رواية ابن كنانة عن مالك في سماع أشهب. واختلف في ارتفاع الحيض بالمرض، فقال أشهب: إن ذلك بمنزلة ارتفاعه بالرضاع، تحل المتوفى عنها

(5/402)


زوجها بأربعة أشهر وعشر، وتعتد المطلقة بالأقراء، وإن تباعدت، وهو ظاهر قوله في هذه الرواية: أو غير ذلك من العذر؛ إذ ليس ثم سوى ما ذكر، إلا المرض، وقد روى ابن القاسم عن مالك وقال به: إن ارتفاع الحيض مع المرض ريبة كالصحيحة سواء، فتتربص المتوفى عنها إلى تمام تسعة أشهر، وتعتد المطلقة سنة؛ تسعة أشهر استبراء، وثلاثة عدة، والأمة والحرة في ذلك كله سواء، إلا أن الأمة تحل بحيضتين إذا اعتدت بالأقراء، وتحل في الوفاة بشهرين وخمس ليال، حيث ما تحل الحرة بأربعة أشهر وعشر، إلا أن تكون ممن لا يومن الحمل منها، فتتربص إلى تمام ثلاثة أشهر؛ إذ لا يتبين الحمل في أقل من ثلاثة أشهر.

[أقر عند قوم أنه بارا امرأته ثم زعم بعد ذلك أنه كان مازحا ولم يبار]
ومن كتاب بع ولا نقصان عليك وسئل عن رجل أقر عند قوم أنه بارا امرأته، ثم زعم بعد ذلك أنه كان مازحا ولم يبار، وأنكرت هي أن تكون بارته، قال: إذا شهد عليه بإقراره، بانت منه بواحدة، ولا رجعة له عليها إلا بنكاح جديد، وإن مات في عدتها ورثته ولم يرثها.
قال محمد بن رشد: قوله في هذه المسألة في الميراث لا يصح بوجه؛ لأنه قال فيها: إذا شهد عليه بإقراره بانت منه بواحدة، ولا رجعة له عليها. فقوله: ولا رجعة له عليها، يدل على أن الشهادة كانت عليه في حياته، فإذا حكم عليه في حياته بأنها بائنة منه وجب ألا يكون بينهما ميراث، ولو كانت الشهادة عليه بعد موته، لوجب على ما قلناه، في معنى مسألة رسم طلق من سماع ابن القاسم، أن ترثه ولا يرثها مات في العدة أو بعدها؛ لأنه طلاق بائن، فلا وجه لقوله: وإن مات في عدتها على حال، والله أعلم.

[المرأة تكون في عدتها وهي ساكنة في دار مع أبيها]
ومن كتاب لم يدرك من صلاة الإمام وسئل عن المرأة تكون في عدتها وهي ساكنة في دار مع أبيها،

(5/403)


وأبوها مريض، هل ترى أن تبيت عند أبيها؟ قال: لا تبيت إلا في بيتها، قيل له: فتمكث عنده إلى نصف الليل، قال: لا تمكث عنده إلى نصف الليل وتخف المقام عنده بالليل، ولا بأس أن تخرج إليه عند طلوع الفجر أو قبله بيسير.
قال محمد بن رشد: هذا معنى ما في المدونة سواء، وهو صحيح؛ لأن المعتدة ممنوعة من المبيت في غير بيتها، فلا يجوز لها أن تمكث من الليل في غير بيتها ما يسمى مبيتا، وهو أكثر من نصف الليل، ومن الدليل على ذلك، أن من لقي قبل نصف الليل، صح أن يسأل: أين تبيت؟ ولم يصح أن يسأل: أين بات؟ ومن لقي نصف الليل صح أن يسأل أين بات؟ ولم يصح أن يسأل أين تبيت؟ ومن أقام نصف الليل، سواء في موضع، ونصفه في موضع آخر، لم يصح أن يقال: إنه بات في أحد الموضعين دون الآخر، فلذلك منع مالك المرأة أن تمكث عند أبيها إلى نصف الليل، وبالله التوفيق.

[قال لامرأته أنت طالق وأنت طالق ألبتة إن راجعتك]
ومن كتاب سلف دينارا في ثوب قال ابن القاسم: في رجل قال لامرأته: أنت طالق، وأنت طالق ألبتة، إن راجعتك، فأراد أن يراجعها بنكاح جديد بعدما خرجت من عدتها، وقال: إنما أردت ما دامت في عدتها، ألا أرتجعها في تلك الطلقة، قال: إن كانت عليه بينة لم أدينه، وإن لم تكن عليه بينة دينته ذلك، وإن لم تكن له نية، رأيت أن أرتجعها بنكاح جديد، أن تطلق ألبتة وهو بين.
قال محمد بن رشد: أما إذا أتى مستفتيا وحده غير مخاصم، فلا اختلاف في أنه ينوّى بغير يمين، ويباح له مراجعتها، وأما إذا أراد أن يتزوجها فمنع من ذلك، وروفع، ولا بينة عليه، إلا أنه أقر باليمين أو على يمينه بينة،

(5/404)


فلا تقبل منه البينة، ولا يمكن من مراجعتها؛ لأن نيته التي يدعي، مخالفة لحقيقة لفظه؛ إذ إنما حلف ألا يراجعها، ولو كان إنما حلف ألا يرتجعها على ما وقع في رسم العرية من سماع عيسى من كتاب الأيمان بالطلاق، لنوي مع قيام البينة؛ لأن حقيقة لفظ الارتجاع، إنما هو في العدة، وحقيقة لفظ المراجعة، إنما هو بعد العدة؛ لأن المراجعة مفاعلة من اثنين، وكذلك لو قيم عليه بعد أن راجعها وأتى مستفتيا. الحكم في ذلك سواء. وكذلك لو ارتجعها في العدة، وكانت يمينه ألا يرتجعها، وقال: إنما أردت ألا أراجعها بعد العدة إذا أتى مستفتيا نوي، وإن قيم عليه وعلى يمينه بينة أو كان مقرا باليمين، فرق بينهما ولم ينوَّ، وإن كان إنما حلف ألا يراجعها ولم يحلف ألا يرتجعها لنوي مع يمينه، على ما في رسم العرية من سماع عيسى، من الأيمان بالطلاق، خلاف ما في سماع أصبغ عن ابن القاسم منه، وبالله التوفيق.

[خالع امرأته على إن أعطته ثمرا لم يبد صلاحه أو جنينا في بطن أمه أو عبدا آبقا]
ومن كتاب إن خرجت من هذه الدار قال عيسى: سئل ابن القاسم عن رجل خالع امرأته على إن أعطته ثمرا لم يبد صلاحه، أو جنينا في بطن أمه، أو عبدا آبقا، أو بعيرا شاردا قال: يمضي الطلاق عليه، ويكون له عليها خلع مثلها.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول على هذه المسألة في رسم حلف من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته.

[مسألة: نعي الرجل لامرأته فتزوجت وولدت أولادا ثم قدم زوجها]
مسألة قال: وقال مالك: إذا نعي الرجل لامرأته، فتزوجت وولدت أولادا، ثم قدم زوجها ردت إليه، وتستبرأ بثلاث حيض إن كانت من أهل الحيض، وإن لم تكن من أهل الحيض، فثلاثة أشهر، وهي توارث زوجها القادم الأول، ترثه ويرثها. قيل: فإن ماتت قبل أن

(5/405)


يقدم زوجها، ثم قدم، هل ترى بينهما ميراثا؟ قال: يرثها الأول إذا قدم، وليس بينها وبين هذا الآخر ميراث، وإن كانت ماتت وهي تحته قبل أن يقدم الأول، فميراثها للأول، وميراثه لو مات في غيبته بعد تزويجها لها منه. قال عيسى: وإن كان الآخر مات قبل قدوم الأول، فأخذت ميراثها منه، وصداقها، ثم قدم الأول، فإنها ترد الميراث، ولا ترد الصداق؛ لأنها استوجبته بالوطء، ولو مات قبل أن يمسها، ردت الصداق والميراث.
وسئل عن رجل سافر فنعي لامرأته فتزوجت وولدت أولادا، ثم قدم زوجها فوجدها حبلى، ففرق السلطان بينها وبين زوجها الذي كان تزوجها، ثم توفي زوجها القادم بعد قدومه بعشرة أيام، قال: هي ترثه، وتعتد بأربعة أشهر وعشرة أيام، فإذا انقضت الأربعة أشهر والعشرة أيام، قبل أن تضع حملها انتظرت حتى تضع حملها ثم تزوجت إن شاءت، وإن وضعت حملها قبل أربعة أشهر انتظرت حتى تتم أربعة أشهر وعشر بعد زوجها القادم ثم تزوجت إن شاءت.
قال محمد بن رشد: هاتان مسألتان صحيحتان بينتا المعنى على ما في المدونة وغيرها، لا اختلاف في أن المنعي لزوجته، أحق بزوجته متى ما قدم، وإن تزوجت ودخل بها الزوج، فإنها ترد إليه بعد الاستبراء بثلاث حيض، أو بعد أن تضع حملها إن كان بها حمل، فإن مات زوجها المنعي وهي حامل من الزوج الثاني، اعتدت أقصى الأجلين، وكذلك إن مات وهي في استبرائها من الزوج الثاني، تعتد من يوم مات أربعة أشهر وعشرا، فإن حاضت فيهن بقية الثلاث حيض حلت، وإن لم تستكملها فيه لم تحل للأزواج حتى تستكملها وإن طلقها زوجها الأول وهي حامل من الزوج الثاني، فلا بد لها من ثلاث حيض مستقبلة بعد الوضع، بمنزلة من منعها من الحيض رضاع أو مرض، فإن طلقها الزوج وهي في استبرائها من الزوج الثاني كفتها ثلاث حيض من يوم

(5/406)


الطلاق، على مذهب مالك، ويأتي على ما روي عن عمر بن الخطاب، أن تستكمل استبراءها من الزوج الثاني، ثم تستأنف العدة من زوجها الأول، وسواء في هذا كله نعي إليها ببينة عدول أو غير عدول، كانوا شهدوا عليهم أو شهدوا بالزور، وإنما يفترق ذلك فيما بيع من ماله، ففي بينة الزور، يأخذ عروضه حيث وجدها أو ثمنها إن شاء، ويأخذ أمته وقيمة ولدها من مال المبتاع. وقيل: بل يأخذ قيمتها يوم الحكم، وقيمة ولدها، وقيل: بل ليس له إلا قيمتها يوم حملت خاصة، وفي التشبيه على الشهود يأخذ الثمن الذي بيعت به العروض، وليس له أن يأخذ العروض إلا بعد أن يدفع إلى المبتاع الثمن الذي ودى فيها، ويرجع به على البائع، وبالله التوفيق.

[مسألة: الأمة تعتق وهي تحت عبد فتطلق نفسها واحدة ثم يتوفى عنها زوجها]
مسألة وسئل عن الأمة تعتق وهي تحت عبد، فتطلق نفسها واحدة، ثم يتوفى عنها زوجها وهي في عدتها. قال: ترجع إلى عدة الوفاة فتعتد أربعة أشهر وعشرا.
قال محمد بن رشد: قوله: إنها ترجع إلى عدة الوفاة. خلاف ما في المدونة، من أن المطلقة لا ترجع إذا توفي زوجها إلى عدة الوفاة إلا في الطلاق الرجعي. وقد نص في المدونة على أنها إن طلقت نفسها واحدة، فهي واحدة بائن، فلا سبيل للزوج إليها، وإن أعتق في عدتها على مذهبه فيها، وقاله يحيى بن سعيد فيها. وقد روى ابن نافع عن مالك، أن للعبد الرجعة إن أعتق في العدة. وقال ابن نافع: لا رجعة له وإن أعتق. وقال الأوزاعي: إن أعتق زوجها في عدتها، فإن بعض شيوخنا يقول: هو أملك بها، وبعضهم يقول هي بائنة. قال أبو عمر بن عبد البر: ولا معنى لقول من قال إنها طلقة رجعية؛ لأن زوجها لو ملك رجعتها، لم يكن لاختيارها نفسها معنى، وأي شيء كان يفيدها اختيارها إذا ملك زوجها رجعتها؟ وقول ابن عبد البر وهم لا معنى له؛ لأنه لم يقل أحد إنه أملك بها، وإن لم يعتق، فيكون اختيارها لا معنى له كما قال، وإنما قال: إنه أملك بها إذا عتق، ولقائل ذلك وجه صحيح

(5/407)


من النظر، وهو أنه إنما خيرت في نفسها من أجل رق زوجها، فإذا ارتفع الرق كانت له الرجعة؛ لأن الحكم متى وجب لعلة، وجب أن يرتفع بارتفاع العلة، وذلك في القياس، مثل الذي يطلق عليه بعدم الإنفاق إذا أيسر في العدة وجبت له الرجعة.

[مسألة: حلف بطلاق كل امرأة يتزوجها]
مسألة وسئل عن رجل حلف بطلاق كل امرأة يتزوجها، وعتق ما يملك إلى أجل، فحنث، وهو يخاف على نفسه العنت، قال: أما الرقيق فلا يشتري منهم شيئا، وأما النكاح فإن خاف العنت على نفسه تزوج، ولا أحب له أن يتسرر.
قال محمد بن رشد: رأى النكاح إذا خشي على نفسه العنت أخف من التسري، وإن كان يلزمه طلاق ما ينكح إلى الأجل، كما يلزمه عتق ما يملك إليه من أجل أنه إذا تسرى يملك ما يتسرى، فيستخدم ويبيع، فيكون قد استباح شيئا زائدا على ما يومنه من العنت والزوجة لا يملكها ولا يستخدمها، ولا له منها أكثر مما اضطر إليه من الاعتصام بها عن الزنا، وبالله التوفيق.

[مسألة: جاء زوجها المفقود بعد أن تزوجت]
ومن كتاب أسلم وله بنون صغار وقال مالك: إذا فقد الرجل وله امرأة لم يدخل بها، فرفعت أمرها، فضرب لها أجل أربع سنين وأربعة أشهر وعشرا، فانقضى ذلك الأجل، كانت أملك بنفسها، تتزوج من شاءت، وأعطيت الصداق كاملا من ماله، فإن تزوجت، فجاء زوجها المفقود بعد أن تزوجت، لم ترد له نصف الصداق الذي أخذت؛ لأنها قد انتظرته، وضيق عليها، واعتدت منه، ومنعها النكاح، فلا أرى ترد عليه شيئا.
قال محمد بن رشد: قوله: فضرب له أجل أربع سنين وأربعة أشهر وعشرا، معناه: فضرب له أجل أربع سنين، واعتدت امرأته أربعة أشهر وعشرا؛

(5/408)


لأن الإمام إنما يضرب له أربع سنين بعد البحث عنه، وأما الأربعة أشهر وعشرا، فإنما هي عدة لا يضربها لها الإمام، ولا تستأذنه فيها، وإن أرادت أن تترك العدة وترضى بالمقام على العصمة، فذلك لها ما لم تأخذ في العدة، فإذا انقضت العدة بانت من زوجها في الحكم الظاهر، ما لم ينكشف خطأ ذلك الحكم بمجيئه أو علم حياته. ألا ترى أنها إن ماتت بعد العدة لا يوقف له ميراثه منها؟ وإن كان لو أتى في هذه الحال، كان أحق بها، وإن بلغ من السنين ما لا يجيء لمثله وهي حية، لم تورث منه، وإن كانت لم تتزوج، وقال ابن حبيب: إنها تورث منه إن كانت لم تتزوج، وهو بعيد. واختلف هل لها نفقة في هذه الأربع سنين؟ فقال المغيرة: إنه لا نفقة لها إلا أن تكون قد فرض لها قبل ذلك نفقة، فيكون سبيلها في النفقة سبيل المدخول بها، والصواب أن لها النفقة؛ لأنه كالغائب، ولم يختلفوا أن من غاب عن امرأته قبل الدخول غيبة بعيدة أنه يحكم لها بالنفقة في ماله، وإنما اختلفوا في الغيبة القريبة على ما مضى في رسم سلعة سماها من سماع ابن القاسم. واختلف فيما يحكم لها به من الصداق على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لا يحكم لها بشيء منه حتى يأتي وقت لو قدم لم يكن له إليها سبيل، وهو أن تتزوج ويدخل بها الزوج على اختلاف قول مالك في ذلك، فيقضى لها حينئذ بنصف صداقها، فإذا بلغ من السنين ما لا يجيء لمثله، قضي لها بقيمته، وكذلك يقضى لها بجميع الصداق، إن انكشف أنه مات قبل أن تتزوج، وإن انكشف أنه مات بعد أن تزوجت أو بعد أن تزوجت ودخل بها زوجها، لم يكن لها إلا نصف الصداق. وجه هذا القول، أنه يحكم لها بحكم الحي، لاحتمال أن يكون حيا ما دام أمره مجهولا، فإن بلغ من السنن ما لا يجيء إلى مثله، ولم يعلم له خبر، حمل أمره على أنه مات عند انقضاء الأجل المضروب لامرأته. هذا قول ابن الماجشون. وقال ابن وهب: إذا بلغ من السنين ما لا يجيء إلى مثلها، وقد كانت تزوجت، لم يكن لها إلا نصف الصداق. ووجه ذلك أنه حكم لها بحكم بوقت الحياة إلى الوقت الذي حكم بتمويته. والقول الثاني: أنه يقضى لها بنصفه، فإن بلغ من السنين ما لا يجيء إلى مثلها وقد تزوجت أو لم

(5/409)


تتزوج، أو ثبتت وفاته ما بينه وبين أن تبين منه بالدخول أو التزويج، على الاختلاف المعلوم، قضي لها ببقيته، حكى هذا القول ابن الجلاب في كتاب التفريع. وحكاه ابن سحنون أيضا. ووجهه أنه لما احتمل حين أبيحت للأزواج أن يكون ميتا، فيجب لها جميع الصداق، وأن يكون حيا، فلا يجب لها إلا نصف الصداق، على حكم المطلقة قبل الدخول، لم يقض لها إلا بما لا شك فيه وهو النصف، حتى يمضي له من الزمان ما لا يجيء إلى مثله، أو يثبت أنه مات قبل أن تتزوج، فيقضى لها ببقيته في الوجهين؛ لأنه إذا بلغ من السنين ما لا يجيء إلى مثله، حكم له أنه كان ميتا عند انقضاء الأجل. وقال ابن وهب: إذا بلغ من السنين ما لا يجيء إلى مثلها بموت لم يكن لها إلا نصف الصداق على أصله، في أنه يحكم له بحكم الحياة، إلى الوقت الذي حكم بتمويته. والقول الثالث: أنه يقضى لها بجميعه. وهو قول مالك في هذه الرواية. ووجهه أنه لما أنزل أمره على أنه قد مات في أن تعتد امرأته عدة الوفاة وتتزوج، أنزل أمره أيضا على ذلك في وجوب جميع الصداق لها. واختلف على هذا القول إن قدم بعد أن تزوجت ودخل بها الزوج، أو علم أنه مات بعد ذلك، فقال هاهنا: إنها لا ترد من الصداق شيئا؛ لأنها قد انتظرته وضيق عليها. وقال في سماع سحنون: إنها ترد نصفه، وهو القياس؛ لأن الغيب قد كشف خطأ الحكم الأول، فوجب أن يرجع إلى الصواب، ولا اختلاف بينهم في أن الحاكم إذا تبين له أنه قد خطأ خطأ لا اختلاف فيه، يرجع إلى ما بان له من الصواب، وأما إن لم يقدم، ولا علمت حياته ولا موته حتى بلغ من السنين ما لا يحيا إلى مثلها، فلا ترد من الصداق شيئا، كانت قد تزوجت أو لم تتزوج. ويأتي على قول ابن وهب المتقدم أنه إذا بلغ من السنين، ما لا يحيا إلى مثلها، وقد كانت تزوجت، أن ترد نصف الصداق، وهذا إذا كان الصداق حالا، وأما إن كان مؤجلا فاختلف في ذلك، كالاختلاف في قضاء ما لم يحل من ديونه، فقال أصبغ في الواضحة: تعطى الصداق عاجله وآجله، ويقضى من ماله ديونه التي عليه، حل أجلها أو لم يحل، ويوقف بقيته، وينفق منه على ما تلزمه نفقته، غير امرأته، وفي غير

(5/410)


الواضحة، لا تؤدى ديونه حتى تحل، واختلف في حد التعمير، من السبعين عاما إلى مائة وعشرين عاما، فإن فقد وهو ابن سبعين، على مذهب من يرى السبعين، أو ابن الثمانين والتسعين على مذهب من يرى ذلك، أو ما دونه، تلوم له عشرة أعوام، وإن فقد وهو ابن مائة على مذهب من يرى المائة، أو ما دونها، تلوم له العام والعامين وقيل: العشرة أعوام. وإن فقد وهو ابن مائة وعشرين، تلوم له العام ونحوه، وبالله التوفيق.

[مسألة: فقد الرجل فلم يدر موضعه]
مسألة قال: وقال مالك المفقود على ثلاثة أوجه: فأولها: إذا فقد الرجل فلم يدر موضعه، فإن ذلك يضرب لامرأته أجل أربع سنين وأربعة أشهر وعشرا، ويكتب إلى عمال الكور، وإنما يستبحث عن خبره قبل الأربع سنين، ويضرب لها بعد الاستبحاث والسؤال عنه، قال: فإذا استبحث وكتب فيه فلم يقع له خبر، ضرب له بعد ذلك أجل أربع سنين وأربعة أشهر وعشرا. فإذا مضى لامرأته أربع سنين وأربعة أشهر وعشرا أعطيت صداقها إن كان لها قبله، وتزوجت، ووقف ماله حتى يأتي من الزمان ما يعلم أنه ليس يحيا، وكذلك قال مالك في المفقود في صف المسلمين في قتال العدو، فذلك الذي لا تتزوج امرأته حتى يعلم أنه قد مات ويوقف ماله وامرأته أبدا حتى يعلم أنه قد مات، أو يأتي عليه من السنين ما يعلم أنه قد مات، والمفقود الذي يفقد في فتن المسلمين التي تكون بينهم، لا يضرب لامرأته أجل، وإنما يتلوم له أمر يسير، قدر ما ينصرف من هرب أو انهزام، ثم تعتد بعد التلوم على اجتهاد الإمام، ثم تتزوج ويقسم ماله. قال ابن القاسم: وأرى لمن فقد في فتن المسلمين إذا كانت المعركة على بعد من بلاده، مثل إفريقية أو نحوها، أن يضرب

(5/411)


لامرأته أجل سنة، وتتزوج امرأته، ويقسم ماله.
وسئل سحنون عن معركة تكون بين المسلمين في أفنيتهم فيقع القتل بينهم، فما تقول فيمن قتل في المعركة، ولا يعرف مثله إلا بمن حضرهم وليس من أهل العدل، ما يفعل في امرأته، وفي ماله؟ فقال: إذا قامت البينة العدلة أنه شهد المعركة، فإن امرأته تعتد في ذلك اليوم الذي كان فيه المعترك، ويقسم ماله، وهو عندي بمنزلة الميت، وإذا كانوا إنما رأوه خارجا مع العسكر، ولم يروه في المعترك في القتال، إلا أنهم نظروا إليه خارجا في جملة الناس، فإن سبيله سبيل المفقود، يضرب لامرأته أجل أربع سنين وأربعة أشهر وعشرا، ثم تتزوج، ويوقف ماله إلى الأمد الذي يعيش مثله إليه.
قال محمد بن رشد: وجه تفرقة مالك بين المفقود في قتال العدو، والمفقود في قتال المسلمين، هو أن يخشى إذا فقد في قتال العدو، أن يكون قد أسر ولم يقتل، فحمل أمره على أنه مأسور، حتى يعلم أنه مقتول، ولم يفرق بين أن يكون قتال العدو في بلاد الحرب. أو في بلاد المسلمين، إذا كان يحتمل أن يخفى أسره إن أسر كالمفقود في بلاد الحرب. وأما المفقود في حروب المسلمين، فالأغلب على أمره إذا فقد فيها أنه مفقود، فحمله على ذلك إذا تلوم له واستجس له، فلم يوقع له خبر، فرأى أن يكون التلوم إذا كانت المعركة بعيدة في بلاده سنة، وظاهر قوله أنها تتزوج بعد السنة، فتكون العدة داخلة في السنة، خلاف قوله: إذا تلوم له أنها تعتد بعد التلوم. والصواب أن تكون العدة داخلة في السنة وفي التلوم. فإن كان التلوم أقل من أربعة أشهر وعشرا، اعتدت بقية الأربعة أشهر وعشرا؛ لأنه إذا تلوم له فلم يسمع له خبر، حمل أمره على أنه إنما قتل في المعركة، لا أنه مات بعد ذلك، بخلاف المفقود الذي تكون العدة فيه بعد انقضاء الأجل؛ إذ لا يعلم له وقت، يغلب على الظن أنه مات فيه، كالذي فقد في المعركة، وإنما هو إذا شهدت البينة أنه كان في المعترك. وأما إذا رئي خارجا في جملة العسكر، ولم ير في المعترك،

(5/412)


فحكمه حكم المفقود على ما قال سحنون، فليس قوله بخلاف لقول ابن القاسم وروايته عن مالك، إلا في التلوم، إذا ثبت أنه كان في المعركة، فإنه لا يراه، وما مضى في أول سماع أشهب، خلاف لهذه الرواية في الذي يفقد في قتال العدو، وفي قتال المسلمين؛ لأنه ساوى بينهما فجعلهما في حكم المفقود، إلا في مبلغ الأجل. وقد مضى القول في ذلك هناك، والحمد لله.

[مسألة: تحته نصرانية فولد له منها أولاد ثم طلقها أو مات عنها]
مسألة وسئل عن رجل كانت تحته نصرانية، فولد له منها أولاد، ثم طلقها أو مات عنها، هل له أن يأخذ أولاده منها أو يأخذهم أهله إن مات؟ قال: ليس ذلك له ولا لهم، وأمهم أحق بهم ما لم تتزوج.
قلت: فإن تزوجت ولها أخت مسلمة أو نصرانية، فأرادت أن تأخذهم أتكون أحق بهم من أبيهم؟ فقال: إذا تزوجت أمهم أو ماتت، فالأب أولى ببنيه من خالتهم، قال: قلت لسحنون: أرأيت إن تزوجت هذه النصرانية، هل تكون جدتهم أو خالتهم من النصارى أحق بالصبيان من الأب والأولياء؟ قال: نعم، تكون أولى بمنزلة اللوكن مسلمات.
قال محمد بن رشد: ظاهر قول ابن القاسم هذا إن الأب أحق بالحضانة من الخالة، وإن كانت مسلمة. وقد روي ذلك عن مالك، ذكره ابن المواز عنه وهو خلاف المشهور في المذهب، وقد تأول أن معنى قول ابن القاسم في هذه الرواية: إن الأب أولى ببنيه من خالتهم، يريد النصرانية، مراعاة لقول من لا يرى للنصرانية حضانة، وهو ابن وهب قال: لأن المسلمة لو أثنى عليها بسوء لسقطت حضانتها، فكيف بهذه؟ فعلى هذا يتحصل في المسألة ثلاثة أقوال: أحدها: أن الأب أحق بالحضانة من الخالة، والثاني: أن الخالة أحق، والثالث: الفرق بين أن تكون الخالة مسلمة أو نصرانية. والصواب ألا فرق في هذا عنده بين المسلمة والنصرانية، وإنما هو اختلاف قول، فمرة رأى

(5/413)


الأب أحق من قرابات الأم، ومرة رأى قرابات الأم أحق منه. وتحصيل المذهب في هذا أنه لا اختلاف في أن الأم أحق من الأب؛ لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أنت أحق به ما لم تنكحي» ، وأن أم الأم بمنزلة الأم. واختلف هل يكون الأب أحق من قرابات أمها سوى أمها لأن أمها أمّ أمْ لا؟ على قولين، الأشهر منهما أنهن أحق منه. واختلف أيضا هل يكون الأب أحق بالحضانة من قراباته من النساء على قولين: أحدهما: أنه أحق منهن؛ لأنهن إنما يدلين به، فهو أحق منهن، والثاني: أنهن أحق منه؛ لأنهن وإن كن يدلين به، فإنه لا يحضن بنفسه ويستنيب في الحضانة غيره، ورأى ابن القاسم: بعض قراباته، وهي أمه أحق منه من سائرهن، فاختلف في الأب بعد الإجماع على أن الأم أحق منه على أربعة أقوال: أحدها: أنه أحق من قراباته وقرابات الأم، والثاني: أن قراباته وقرابات الأم أحق منه، والثالث: أنه أحق من قراباته، وأن قرابات الأم أحق منه، والرابع: أن قرابات الأم وبعض قراباته أحق منه، وأنه أحق من بعض قراباته، فإن لم يكن أب ولا أم، فلا اختلاف في أن قرابات الأم أحق من قرابات الأب.
ويستحق النساء الحضانة بوصفين: أحدهما: أن يكن ذوات رحم المحضون، والثاني: أن يكن محرمات عليه، فإن كن ذوات رحم منه ولم يكن محرمات عليه كبنت الخالة، وبنت العمة، لم يكن لهن حضانة، وإن كن محرمات عليه، ولم يكن ذوات رحم منه، كالأم من الرضاعة، والمحرمات بالصهر، لم يكن لهن حضانة أيضا. وأما الرجال فإنهم يستحقون الحضانة بمجرد الولاية، كانوا من ذوي رحمه المحرم، كالجد والعم والأخ وابن الأخ، أو من ذوي رحمه الذين ليس بمحرم كابن العم، أو لم يكونوا من ذوي رحمه كالمولي المعتق، والوصي من قبل الأب، ومن قبل السلطان، وإذا اجتمعت الخالات فالشقيقة أحق، ثم التي من قبل الأم، ثم التي من قبل الأب،

(5/414)


وكذلك الأخوات إذا اجتمعن، الشقيقة أحق، ثم التي للأم، ثم التي للأب؛ لأن الأم أمس رحما، وأما بنت الأخت، فقال ابن حبيب: إنه لا حضانة لها، والصواب: أن لها الحضانة؛ لأنها من ذوات المحارم المحرمات، فإن اجتمع بنت الأخت وبنت الأخ، كانت بنت الأخ أحق؛ إذ قد قيل: إنه لا حضانة لبنت الأخت، وقد قيل: إنها مقدمة عليها، وقيل: إنهما بمنزلة سواء، ينظر السلطان في أحرزهما، وبالله التوفيق.

[عدة التي تطلق وهي ترضع ولا تحيض]
ومن كتاب أوله يدير ماله وسألته عن التي تطلق وهي ترضع ولا تحيض، قال: عدتها من يوم يفطم، يعني إلا أن تحيض قبل ذلك ثلاث حيض.
قال محمد بن رشد: هذا مما لا اختلاف فيه، أن ارتفاع الحيض مع الرضاع ليس بريبة، فتعتد المطلقة المرضع بثلاث قروء أو سنة بيضاء لا دم فيها بعد الرضاع، والمتوفى عنها زوجها بأربعة أشهر وعشر، وإن لم تحض فيهن، إلا على رواية ابن كنانة عن مالك في سماع أشهب. وإنما اختلفوا في عدة المريضة في الطلاق والوفاة، إذا ارتفع حيضها بسبب المرض، فقيل: ارتفاع الحيض معه كارتفاع الحيض مع الرضاع، ليس بريبة، فتعتد في الطلاق بالأقراء وإن تباعدت، وفي الوفاة بأربعة أشهر وعشر، وقيل: إنه ريبة، فتعتد في الطلاق بسنة وتتربص في الوفاة إلى تسعة أشهر. وقد مضى هذا في رسم سلعة سماها من سماع ابن القاسم، وفي رسم الطلاق من سماع أشهب، وفي رسم استأذن من هذا السماع.

[تزوجها في مرضه وأصابها عدتها]
ومن كتاب العشور قال ابن القاسم: في نكاح المريض إذا تزوج في مرضه وأصابها، إن العدة عدة الوفاة، عليها أربعة أشهر وعشر. وقال في كتاب اللقطة: دخل أو لم يدخل بها، تعتد أربعة أشهر وعشرا. وقال في سماع أصبغ: إن عليها ثلاث حيض.

(5/415)


قال محمد بن رشد: وعلى ما في سماع أصبغ، لا عدة عليها إن مات عنها قبل أن يدخل بها. وهذا على اختلاف فيما يفسخ من الأنكحة التي اختلف الناس في فسادها، هل يفسخ بطلاق ويكون الميراث فيها؟ أو يفسخ بغير طلاق ولا يكون فيها الميراث؟ فقد قيل: فيها كلها الطلاق والميراث، وقيل: لا طلاق فيها ولا ميراث، وقيل: ما كان يفسخ منها قبل وبعد، فلا طلاق فيها ولا ميراث، وما كان يفسخ منها قبل، ولا يفسخ بعد، فالطلاق والميراث فيه قبل وبعد، والثلاثة أقوال كلها في المدونة. والذي يبين أن الاختلاف في عدة الوفاة، جار على هذا الأصل قول محمد بن المواز، وعدة النكاح الفاسد في الحرة والأمة، كالنكاح الصحيح، إلا في الوفاة، فإنه يختلف، فيما كان منه يفسخ قبل البناء، فعدتها أربعة أشهر وعشر، إذا مات قبل الفسخ، بنى بها أو لم يبن، وما كان منه يفسخ بعد البناء، فلا عدة وفاة فيه، وإن بنى ففيه ثلاثة حيض. وقاله أشهب وأصبغ، وإليه يرجع ابن القاسم. قال أصبغ: وغير هذا خطأ. قال محمد: يعني شيئا ذكر عن ابن القاسم فيمن نكح في العدة ثم مات، أنها تعتد أربعة أشهر وعشرا. قال محمد: لعله إنما تزوجها في عدتها منه. وقد حكى ابن المواز عن ابن القاسم من رواية أبي زيد عنه قولا ثالثا في نكاح المريض، إنه إن لم يكن بنى بها فلا عدة عليها، وإن بنى فأربعة أشهر وعشر وهو قول لا يحمله القياس، وبالله التوفيق.

[مسألة: قال لامرأته اذهبي فتزوجي]
مسألة وقال: في رجل قال لامرأته: اذهبي فتزوجي، إنه إن لم يكن أراد طلاقا فلا شيء عليه.
قال محمد بن رشد: معنى هذا إذا أتى مستفتيا، وأما إذا كان مطلوبا أو مخاصما، فيحلف ما أراد بذلك الطلاق، على ما مضى في أول رسم من سماع ابن القاسم، وفي رسم سن منه، وبالله التوفيق.

(5/416)


[المرأة يغيب عنها زوجها العشرين سنة]
ومن كتاب شهد على شهادة ميت وسئل عن المرأة يغيب عنها زوجها العشرين سنة، مثل طنجة أو إفريقية، فتشكو مغيب زوجها إلى القاضي وتركه إياها، ما يصنع بها؟ قال ابن القاسم: قال لي مالك: إن عمر بن عبد العزيز، قضى فيها أن يكتب إلى زوجها، إما أن يقدم إليها، وإما أن يحملها إليه، وإما أن يفارقها. وقال مالك: وأنا أرى ذلك وآخذ به، وأرى أن يقضى به. قلت: فما حد الغيبة، قال: أما الحين، يعني الأمر القريب، فيما ظننت، السنتين والثلاث، وأما إذا تطاول ذلك، فأرى أن يقضى عليه به. قال لي مالك: ويغرم نفقة ما أنفقت وهو غائب، إذا كان لا يبعث إليها بنفقة.
قال محمد بن رشد: قد تقدم القول على هذه المسألة في رسم الشريكين من سماع ابن القاسم. فأغنى ذلك عن إعادته هاهنا، وبالله التوفيق.

[يطلق امرأته وهي حائض فيؤمر برجعتها فيرتجعها وهو يريد أن يطلقها]
ومن كتاب الرهون
وقال: في الذي يطلق امرأته وهي حائض، فيؤمر برجعتها، فيرتجعها وهو يريد أن يطلقها إذا طهرت من الحيضة الأخرى، هل يصيبها إذا طهرت من ذلك الحيض؟ قال: نعم.
قال محمد بن رشد: وهو الذي يؤمر به أن يفعله؛ لأنه إنما يؤمر بالارتجاع للوطء ولو ارتجعها وهو ينوي أن يطلقها إذا طهرت الثاني دون أن يصيبها ففعل، لكان مضارا لها آثما فيها؛ لأن قول الله عز وجل: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [البقرة: 231] ، إنما نزلت في هذا المعنى كان الرجل يطلق امرأته ويمهلها، حتى إذا شارفت انقضاء عدتها راجعها ولا حاجة له بها، ثم

(5/417)


طلقها، وأمهلها حتى إذا شارفت انقضاء عدتها أيضا راجعها ثم طلقها، ليطول عليها العدة بذلك، فأنزل الله عز وجل الآية بالنهي عن ذلك والتحذير عنه.

[مسألة: طلق امرأته وأشهد على رجعتها شاهدا واحدا]
مسألة وقال: في رجل طلق امرأته وأشهد على رجعتها شاهدا واحدا، إنه إن كان دخل بها، فإن ذلك يجزيه، وإن كان خلا بها جاز قوله، وإن لم يشهد رأسا، وإن لم يخل بها فلا يجوز قوله، وإن كان له شاهدا إذا انقضت عدتها.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال وهو مثل ما في المدونة إذا ارتجع ولم يشهد ولا خلا بها حتى انقضت العدة، فلا يصدق على الرجعة؛ لأن الله ما أمره بالإشهاد على الرجعة بقوله عز وجل: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] ، دل على أن المرتجع ليس بمؤتمن على الرجعة، ولا مصدق قوله فيها، كما أن والي اليتيم، إذا ادعى دفع ماله إليه لم يصدق، وإن كان المال بيده أمانة؛ لقول الله عز وجل: {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ} [النساء: 6] ، وقد قال جماعة من العلماء: إن الإشهاد على الرجعة واجب، وتارك ذلك آثم، بخلاف الإشهاد على البيع؛ لأنه قد جاء ما دل على أنه غير واجب في البيع، وهو قوله: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} [البقرة: 283] ، وبالله التوفيق.

[مسألة: أسكن أخا له منزلا وإن أخاه ذلك طلق امرأته وخرج]
مسألة وسئل عن رجل أسكن أخا له منزلا، وإن أخاه ذلك طلق

(5/418)


امرأته وخرج، فقال صاحب البيت للمرأة: اخرجي، إنما أسكنت أخي، وقد خرج، إن ذلك ليس له، وإنها لا تخرج حتى تنقضي عدتها.
قال محمد بن رشد: اعترض أبو إسحاق التونسي هذه الرواية؛ لأنه إن كان أسكن أخاه إسكانا مطلقا، فله أن يخرجه متى ما شاء، كما لو اشترط ذلك عليه، فإذا كان له أن يخرجه، فكيف لا يكون له أن يخرج امرأته إذا طلقها؟ هذا بعيد، ووجه الرواية عندي أنه أسكن أخاه على أن يسكن ما شاء، فكان سكنى العدة تبعا لسكنى العصمة في الوجوب، لاتصاله به، كما كان سكنى عدة الوفاة تبعا لسكنى الحياة في الوجوب، لاتصاله به إذا أسكنه الدار حياته، وهذا بين إن شاء الله.

[يطلق امرأته وهي ترضع أو لا ترضع فيموت]
ومن كتاب البراءة
وسألته عن الذي يطلق امرأته وهي ترضع، أو لا ترضع، فيموت زوجها، فتدعي أنها لم تحض، فتطلب الميراث. قال: أما التي لا ترضع، فهي مصدقة حتى يأتي عليها سنة، ذكرت ذلك أو لم تذكر، وعليها اليمين، إلا أن يكون سمع منها أنها حاضت ثلاث حيض، وأما التي ترضع فهي مصدقة حتى تفطم ولدها وبعد الفطام بسنة.
قال محمد بن رشد: قوله: في التي لا ترضع، إنها مصدقة حتى يأتي عليها سنة، معناه أنها مصدقة إن لم تحض فيما بينها وبين سنة، مع يمينها، ويكون لها الميراث، ولا تصدق إذا انقضت السنة، فطلبت الميراث، وزعمت أن عدتها لم تنقض؛ لأن بها حسا تجده في بطنها، حتى يراها النساء، فيصدقنها فيما ادعت من ذلك. ومن دليل هذه الرواية والله أعلم، أخذ ابن العطار أن المطلقة إذا مرت بها سنة فزعمت أنها مسترابة، ينظر إليها النساء، فإن رأين بها ريبة تمادت في سكناها، ما بينها وبين خمسة أعوام، إلا أنه زاد وتحلف أنها

(5/419)


لم تحض في المدة الماضية، ولا يصح ذلك، وإنما يختلف فيما دون السنة، إذا صدقت دون أن ينظر إليها النساء. وقوله: ذكرت ذاك أو لم تذكره، يريد ذكرت ارتفاع حيضتها في حياة الزوج أو لم تذكر، تصدق في الوجهين جميعا، وعليها اليمين. وفي كتاب ابن المواز أنها لا تصدق، ويكون لها الميراث، إلا أن يذكر ذلك في حياته، ويعلم من قولهما قبل وفاته، وكذلك لو ادعت بقرب انسلاخ السنة أنها لم تستكمل الحيض الثلاث لصدقت، وإن كانت لم تذكر ذلك في حياته على هذه الرواية مع يمينها، ولا تصدق، وعلى ما في كتاب محمد إلا أن تكون ذكرت ذلك في حياته، ولو ادعت ذلك بعد الأربعة أشهر؛ لانبغى أن تصدق دون يمين، ولو ادعت ذلك بعد الستة أشهر ونحوها لانبغى أن تصدق مع يمينها، وإن لم تذكر ذلك، وأما لو ادعت بعد موت زوجها بأكثر من العام أو العامين أنها لم تستكمل ثلاث حيض، لتأخر الحيض عنها، لانبغى ألا تصدق، إلا أن تكون ذكرت ذلك في حياته قولا واحدا. فهذا تحصيل القول عندي في هذه المسألة دون يمين، وموضع يكون القول فيه قولها مع يمينها على اختلاف في مراعاة ذكر ذلك، وموضع لا تصدق فيه مع يمينها، إلا أن تكون ذكرت ذلك، وموضع لا تصدق فيه وينظر إليها النساء، وبالله التوفيق.
وحكم التي ترضع بعد الفطام، كحكم التي لا ترضع من يوم الطلاق؛ إذ لا اختلاف في أن ارتفاع الحيض مع الرضاع ليس بريبة، والله أعلم، وبه التوفيق.

[العبد تكون تحته المرأة الحرة أو الأمة فيطلقها اثنتين]
ومن كتاب الجواب وسئل عن العبد تكون تحته المرأة الحرة، أو الأمة، فيطلقها اثنتين، ثم تقوم له بينة أنه حر من أصله. قال ابن القاسم: يمسكها بواحدة تبقى له فيها، ويرتجعها على ما أحبت أو كرهت، إن كانت في العدة، ليس عليه إلا التطليقتان اللتان طلق، وإن كانت خرجت

(5/420)


من العدة، خطبها ونكحها قبل زوج، وسواء طلقها وهو ممن لا يعلم أن طلاقها اثنتان، أو طلقها وهو ممن يعرف أن طلاقها اثنتان فليس عليه إلا تطليقتان، إلا أن يكون أراد البينة على ذلك، طلق بهما، أو هو يريد ذلك، أو يتكلم بالبينة، فلا تحل له حينئذ حتى تنكح زوجا غيره، وسواء استحق بحرية من أصله ومولده، أو استحق بحرية عتق بها من ملك إذا كان ذلك قبل الطلاق، وطلاقه يجري مجرى الحدود، له وعليه إذا كانت الحرية قبلها عمل فيها، كما يعمل في حدود الأحرار، وكذلك الأمة إذا طلقت ثم ثبت أنها حرة قبل ذلك، فعدتها ثلاث حيض، ولزوجها عليها الرجعة، ما لم تحض الثالثة، إن كان طلقها يرتجع منه، وإن تزوجت بعد الحيضتين وقبل الحيضة الثالثة، ثم جاء العلم فسخ نكاحهما، وفرق بينهما، وإن كان قد دخل بها فيها لم ينكحها أبدا.
قال محمد بن رشد: هذا كله بين على ما قال؛ لأن جهل العبد والأمة بحريتهما لا تأثير له فيما يلزمهما من أحكام الحر، ألا ترى أنهما لو زنيا وهما لا يعلمان بعتقهما لحدا حد الأحرار، ولو وقع لهما ميراث لورثاه، فكذلك إذا طلق العبد امرأته طلقتين، ثم انكشف أنه كان حرا من قبل الطلاق، تبقى له في زوجته طلقة، ويكون له عليها الرجعة إن لم تنقض العدة، ولو انكشف أنه كان أعتق بعد أن طلق الطلقة الأولى، لبانت منه بالطلقة الثانية، وكذلك الأمة إذا طلقت فاعتدت بحيضتين، ثم انكشف أنها كانت أعتقت قبل الطلاق، تبقى عليها حيضة ثالثة من عدتها. وأما إن كان العتق بعد الطلاق، فعدتها حيضتان، وإن أعتقت قبل أن تحيض؛ لأن العدة قد لزمتها في حين الطلاق عدة أمة، فلا تنتقل عنها إلى عدة الحرائر. وقال ربيعة: إن أعتقت قبل أن تحيض اعتدت عدة الحرائر، وإن أعتقت بعد أن حاضت حيضة اعتدت

(5/421)


عدة أمة ولا اختلاف أعلمه في أن العدة بالنساء، وأن الأمة تعتد حيضتين، كان زوجها حرا أو عبدا، والحرة تعتد ثلاث حيض، كان زوجها حرا أو عبدا، وأما الطلاق، فذهب مالك أنه بالرجال، بطلاق العبد على مذهبه طلقتان، كانت امرأته حرة أو أمة، وطلاق الحر ثلاث تطليقات، حرة كانت امرأته أو أمة، وروي ذلك عن عثمان بن عفان، وزيد بن ثابت. وذهب أبو حنيفة إلى أن الطلاق على حكم النساء المطلقات. وروي ذلك عن عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب. وروي عن ابن عمر أنه قال: أيهما رق نقض الطلاق برقه.

[مسألة: العبد يريد أن يظعن بامرأته الحرة]
مسألة وسألته عن العبد يريد أن يظعن بامرأته الحرة، قال ابن القاسم: ليس للعبد أن يظعن بامرأته حرة كانت أو أمة، إلا أن يكون الشيء القريب جدا، مثل بعض الريف الذي لا يخاف عليها فيه ضيعة ولا ضرورة، فأما الأسفار والبلدان والبعد، فليس ذلك له، أرأيت لو ظعن بها في أرض غربة، ثم باعه سيده بها، مما يظعن به أو يخرجه، كيف كانت تكون، إن لم تقدر على الرجوع والنهوض معه، ولا يحملها سيده معه، ويمنعه من ذلك، أفيبقى يستطعم؟ ثم فليس للعبد أن يظعن بامرأته أمة ولا حرة، ولا أعلمه إلا قول مالك.
قال محمد بن رشد: قد بين ابن القاسم وجه قوله في أن العبد ليس له أن يظعن بامرأته بما لا تزيد عليه، وللحر ذلك، إلا أن يكون غير محسن إليها، ولا مأمون عليها، على ما مضى من قول مالك في رسم الطلاق من سماع أشهب، من كتاب النكاح وهو معنى ما في المدونة، وبالله التوفيق.

[مسألة: المرأة تأخذ في صداقها الجارية فتؤدبها وتنفق عليها في الأدب]
مسألة وسألته عن المرأة تأخذ في صداقها الجارية، فتؤدبها وتنفق

(5/422)


عليها في الأدب حتى يزيد ذلك في ثمنها أضعاف ثمنها، ثم يطلقها قبل الدخول بها، هل يكون له نصف الجارية بنمائها من غير غرم شيء من النفقة؟ قال ابن القاسم: نعم، له نصفها بنمائها بغير شيء، وليس عليه فيما أنفقت عليها ولا ما أدبتها به، قليل ولا كثير، وهو شريك في النماء، كما كان شريكا في النقصان والتلف.
قال محمد بن رشد: في المبسوط من قول ابن وهب: إنها لا ترجع عليه بما أنفقت في تعليم الخير، وهو قول محمد بن خالد في رواية أبي صالح، قال: وكذلك في الاستحقاق، يريد ما لم تكن النفقة أكثر مما زادت قيمتها، ولا ترجع بالزيادة؛ لأنها لو لم تزد قيمتها بما أنفقت عليها، لم يكن لها أن ترجع بشيء مما أنفقت إذ لم تنتفع بذلك، وهذا الاختلاف إنما هو على القول بأنهما شريكان فيها، وإن الغلة ينهما، فوجه قول ابن القاسم: إن الزوج يقول لها: إنما أنفقت على نصفك الذي لك، ولم تتكلفي بسبب نصفي شيئا زائدا، فترجعي به علي. ووجه القول الثاني أن المرأة تقول له: انتفعت بمالي فلا تذهب نفقتي على نصفك باطلا، فإما أن تؤدي إلي نصف النفقة، وإلا فخذ مني قيمة نصفك غير معلم، وهذا القول يأتي اختلافهم في وجوب الكراء للحاضن في الحضانة، والقولان متكافئان في الحجة، وأما لو مرضت فطبتها حتى برئت، لكان الأظهر ألا رجوع لها عليه؛ لأنه وإن كان الزوج قد انتفع بمعافاتها فهي مستهلكة؛ إذ لم يزد ذلك في قيمتها، ولم يختلفوا في أنه لا رجوع لها عليه بما أنفقت عليها فيما لا غنى لها عنه من طعامها وشرابها، إلا أن تكون صغيرة فتكبر، فقيل: إنه يكون لها الرجوع عليه بالنفقة، وكذلك إن كانت قد اغتلت منها غلة، فقيل: إن نفقتها تكون من غلتها، والقياس أن يكون لها الرجوع بالنفقة على كل حال، على القول بأنهما فيهما شريكان، وأما على القول بأنها لها والمصيبة منها، والغلة لها، فلا رجوع بما أنفقت عليها فيما لا غنى لها عنه من طعامها وشرابها، وأما النفقة عليها في تعليمها الخير، أو في معافاتها إن مرضت، فيجري ذلك على الاختلاف في الرجوع بالسعي والعلاج في

(5/423)


الاستحقاق، فقف على ذلك كله وتدبره، تجده صحيحا إن شاء الله، وبه التوفيق.

[مسألة: الرجل هل يفرض عليه في نفقة امرأته لحاف تلتحفه بالليل]
مسألة وسألته عن الرجل هل يفرض عليه في نفقة امرأته لحاف تلتحفه بالليل، أو نضوح، أو دهن، أو مشط، أو مكحلة، أو صبغ أو ما أشبه ذلك؟ وهل يفرق بينهما إذا وجد النفقة من الطعام والكسوة وإن لم يجد ما وراء ذلك؟ قال ابن القاسم: نعم، يفرض لها اللحاف للليل، والفراش، والوساد، والسرير، إن كان بموضع يحتاج فيه إليه، ولا يستغنى عنه، لخوف العقارب وشبه ذلك، ويفرض ذلك لها الدهن فيما يفرض، وأما المشط والمكحلة والصبغ، فلا أدري ما ذلك؟ ولا أراه، وتفرض لها النفقة والكسوة على قدرها من قدره، ليس عليه في ذلك خز ولا حرير ولا وشي، وإن كان يجد سعة، وإنما تفسير قدره من قدرها، إن كان مثلها يلبس القطن وما أشبهه، ومثله يقدر عليه، فرض لها، ويفرض لها لباس الشتاء والصيف، من الجبة والقرقل، والمقنع والخمار، والإزار، وما أشبه ذلك مما لا غنى لها عنه، ويسترها ويواريها، ويفرض لها قوتها من الطعام، وليس عليه أن يقيم لها اللحم كل ليلة، ولكن إن كان يجد سعة، أقام لها المدة بعد المدة، ويفرض لها من النفقة ما يكون فيها ماؤها وطحنها، ونضج خبزها، ودهانها وحنا رأسها، ومشطها، وما أشبه ذلك، وإن لم يجد إلا نفقة شهر وأيام، كما ذكرت لك، لم يفرق بينهما حتى يفنى ذلك، ثم يتلوم له السلطان، بقدر ما يرجى له، ويعرف من حاله، وإن لم يجد إلا الطعام والكسوة كما ذكرت، ولم يجد غيره، لم يفرق بينهما لذلك، وإن كانت من أهل بيت الغنى والشرف، وكانت الكسوة من وسط غليظ القطن والكتان، مثل الفسطاطي وما أشبه ذلك، وإن لم يجد إلا نفقة شهر، لا يفرق بينهما

(5/424)


إذا قدر على ذلك، كانت من أهل بيت الغنى والشرف، أو لم تكن، إذا قوي على طعامها وكسوتها، بحال ما وصفت لك، فهو أملك بها، ولا يفرق بينهما، وإن فرق بينهما إذا لم يجد النفقة، ثم وجد النفقة شهرا كما سألت وهي في العدة، فهو أملك بها، وإن لم يجد إلا نفقة الأيام اليسيرة، الخمسة، والعشرة، والخمسة عشر، وما أشبه ذلك، لم أر ذلك له؛ لأن هذا مما لا قدر له ولا منفعة فيه، ولأن ذلك يصير إلى ضرار، إذا انقضت تلك الأيام، فرق بينهما، ثم إن وجد مثلها رجع أيضا إليها، فهذا الضرر وشبه اللعب.
قال محمد بن رشد: أوجب في هذه الرواية على الرجل في فرض امرأته من الدهن ما تدهن به، ومن الحنا ما تمشط، وذلك لعرف معروف عندهم، وعادة جرى عليها نساؤهم، ولا يفرض ذلك عندنا؛ إذ لا يعرفه نساؤنا، ولأهل كل بلد من هذا عرفهم وما جرت به عادتهم. وأما الصبغ والطيب، والزعفران والحنا لخضاب اليدين والرجلين، فلا يفرض على الزوج لشيء من ذلك، قاله ابن وهب في رسم الأقضية من سماع يحيى، وهو معنى قول ابن القاسم هاهنا. واضطرب قوله في المشط، فله في أول الكلام، أنه لا يفرض ذلك عليه، وقال بعد ذلك: إنه يفرض عليه من النفقة ما يكون فيه حنا رأسها ومشطها، وأما الكسوة فلم يوجب على الزوج منها إذا عجز عما يشبهها إلا وسطها، وما لا يعرها، وإن كانت من بيت أهل الغنى والشرف، مثل وسط غليظ الكتان والقطن وما أشبه مثله، في رسم الكبش من سماع يحيى لابن القاسم، وفي رسم الأقضية منه لابن وهب، وهو نحو قول ربيعة في المدونة. أما العبا والشمال فعسى ألا يؤمر بكسوتها، وأما غليظ الثياب مثل الخيف والأترى فذلك جائز للمعسر، لا يلتمس منه غيره، خلاف ما حكى ابن المواز عن أشهب، من أنه إذا عجز عما يشبهها فرق بينهما وأما إذا كان عنده سعة، فليس له أن يقصر بها عما يبتذله مثلها إن كانت من أهل بيت الغنى والشرف، لا مما يكسو مثله في سعة حاله أهله، وإن لم تكن

(5/425)


من بيت الغنى، فقوله في صدر المسألة ليس عليه في ذلك خز ولا حرير ولا وشي، معناه في الخز والحرير المرتفع، الذي لا يشبه أن يبتذله مثلها إن قد يكون من الخز والعصب والشطوى ما يشبه العصب الغليظ، فيلزمه مثله إذا كانت حاله متسعة، وكان ذلك نحو لبسة أهل البلد، على ما في سماع يحيى لابن وهب ويحيى، وقوله: وإن لم يجد إلا نفقة شهر لا يفرق بينهما إذا قدر على ذلك بين لا إشكال فيه، ولا كلام؛ إذ لا اختلاف في أنه لا يفرق بينهما حتى يفنى ما عنده، ولا يجد شيئا ينفقه، وما دام يجد ما ينفق عليها ولو يوما بيوم، الخبز وحده، فلا يفرق بينهما، وإنما الاختلاف إذا لم يجد شيئا في قدر التلوم الذي يتلوم له، وكذلك يطلق عليه، فقال في المدونة: يتلوم له ولم يحد في ذلك حدا. قال: ومن الناس من لا يرجى له كأنه يريد، لا يتلوم لمن لا يرجى له. وقد روى قرعوس عن مالك، أنه لا يؤخر الذي لا يرجى له، كالذي لا يرجى له. وقال ابن حبيب: يتلوم له الشهر والشهرين، وإن لم يلح ولم يجد شيئا، ورواه عن مالك، وقال أصبغ: إذا كان لا يرجى له، ولا مال لها تنفق منه على نفسها، فيتلوم له الشهر ولا يبلغ به الشهرين، إلا إذا كان لها مال تنفق منه على نفسها، وقد روي عن مالك أنه لا يتلوم له شيء إذا لم يكن لها مال تنفق منه على نفسها. وقد روى ابن نافع عن مالك أنه لا يتلوم له إلا اليوم ونحوه، بقدر ما لا تجوع امرأته، روى عنه أنه يتلوم له اليوم واليومين والثلاثة، وقوله: إذا قوي على طعامها وكسوتها، يدل على أنه لا تطلق عليه بعجزه عن الإخدام، وهو المشهور في المذهب. وقد روى ابن المعدل عن ابن الماجشون، أنه يطلق عليه لعجزه عن النفقة على خادمها، كما يطلق عليه لعجزه عن النفقة عليها. وذهب ابن حبيب إلى أن الزوج لا يلزمه الإخدام، إلا أن يكون موسرا، وتكون زوجته من ذوات الأقدار. فإن لم يكن موسرا أو لم تكن زوجته من ذوات الأقدار، فعليها الخدمة الباطنة من العجن والطبخ والكنس، والفرش، واستقاء الماء إذا كان معها في الدار، إلا أن يكون زوجها من أشراف الناس الذين لا يمتهنون أزواجهم في الخدمة، فعليه الإخدام، وإن لم تكن زوجته من ذوات الأقدار. وقوله: إنه إذا فرق بينهما،

(5/426)


ثم وجد النفقة شهرا، إنه يكون أملك بها معناه، وإن لم يطمع له بمال سوى ذلك، وهو صحيح؛ لأنه إذا أيسر في العدة، وجبت عليه النفقة، وإن لم يرتجع، قاله ابن حبيب في الواضحة. وحكاه عن مطرف وابن الماجشون، وهو الذي يأتي على مذهب مالك في المدونة إذ قال فيها: إن كل طلاق يملك فيه الزوج الرجعة، فالنفقة على الزوج لامرأته وإن لم تكن حاملا، وكذلك المولي فلا يصح أن يحكم عليه بالنفقة، ويمنع من الرجعة، وقد حمل بعض الناس ما في الواضحة على أنه ساوى بين الذي يطلق عليه بالإيلاء، والذي يطلق عليه بعدم الإنفاق، في أنه لا نفقة على واحد منهما، حتى يرتجع، لقوله فيها: وكل طلاق لا يملك فيه الزوج الرجعة إلا بقول وفعل، فلا نفقة عليه حتى يرتجع، وليس ذلك بصحيح؛ إذ فرق بينهما، وقوله في الذي يطلق عليه بالإيلاء إنه لا نفقة عليه حتى يرتجع، مثله حكى ابن شعبان عن مالك، وذلك خلاف نص ما في المدونة وأما قوله: إنه إذا لم يجد إلا نفقة الأيام اليسيرة الخمسة والعشرة، والخمسة عشر، وما أشبه ذلك، فلا رجعة له، معناه: إذا لم يجد إلا ذلك، ثم ينقطع، وأما لو قدر على أن يجري عليها النفقة مياومة، فإن كان ممن يجريها قبل أن يطلق عليه مياومة، فله الرجعة، واختلف إن كان ممن يجريها قبل الطلاق مشاهرة، فقيل: له الرجعة، وقيل: لا رجعة له. حكى ابن حبيب القولين، وبالله التوفيق.

[مسألة: ينكح في العدة فيقبل أو يباشر أو يجس أو يغمز]
مسألة وسألته عن الذي ينكح في العدة، فيقبل أو يباشر، أو يجس، أو يغمز، ثم يعلم بذلك، فيفرق بينهما، هل ينكحها بعد ذلك؟ قال ابن القاسم: أحب إلي ألا ينكحها أمره بذلك من غير قضاء يقضي به عليه؛ لأنه أمر ليس بالقوي؛ لأن الوطء نفسه فيه من الاختلاف ما فيه، إذا لم يطأ، والذي يعقد في العدة، ويدخل بعد العدة، فيفرق بينهما، يؤمر أيضا بألا ينكحها بعد ذلك، ولا أرى أن يقضى عليه بذلك، ولا يجبر عليه، والذي يواعد في العدة، وينكح بعد

(5/427)


العدة مثله، إذا ثبت أنه واعد، والذي يواعد في العدة بأمر يعرف، أو بإقرار، فرق بينهما، وكانت طلقة، وإن كان مسها أمرته ألا ينكحها بعد ذلك من غير قضاء يقضى به عليه؛ لأنه قد اختلف الناس فيه، وغمروه (كذا) وقد روى ابن القاسم عن مالك: إنه جائز، وروى أشهب مثله.
قال محمد بن رشد: قوله: في الذي قبل أو باشر في العدة، إنها لا تحرم عليه، خلاف قوله في المدونة. وقوله في الذي واعد في العدة وتزوج بعدها ودخل بها: إنها لا تحرم عليه، خلاف قوله في رسم الرهون من سماع عيسى من كتاب النكاح. وقد مضى تحصيل القول في هذه المسألة في رسم الطلاق الثاني من سماع أشهب من كتاب النكاح، فمن أراد الوقوف عليه تأمله هناك.
وقوله: لأن الوطء نفسه فيه من الاختلاف ما فيه، أشار إلى رواية ابن نافع عن عبد العزيز بن أبي سلمة، أن من تزوج في العدة، ودخل فيها، وفرق بينهما، أنه يجوز له أن يتزوجها بعد ذلك إن أحب، وقد وقع له في المدونة ما ظاهره مثل قول مالك فيها، خلاف رواية ابن نافع هذه عنه، وهو قوله، وقال مالك وعبد العزيز: هو بمنزلة من نكح في العدة ودخل في العدة، وقد تأول أنه أراد أنهما سواء عند مالك في أن التحريم يقع بهما، وأنهما سواء عند عبد العزيز في أن التحريم لا يقع بهما، وبالله التوفيق.

[يقول لامرأته أنت طالق ألبتة إن لم أطلق امرأتي الأخرى إلى سنة]
ومن كتاب القطعان
وسئل عن الذي يقول لامرأته: أنت طالق ألبتة، إن لم أطلق امرأتي الأخرى إلى سنة، قال: يقال له: طلق من شئت منهما؛ لأن فرج إحداهما قد حرم عليك، قلت: ولا يضرب له أجل، قال: لا، قلت: فإن لم يطلق، قال: يحبس حتى يطلق، ولا يقرب واحدة منهما حتى يطلق إحداهما.

(5/428)


قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم هذا صحيح، على قياس مذهبه في المدونة في الذي يقول لامرأته: أنت طالق إن لم أطلقك، أو إن لم أطلقك إلى سنة، فإنه يعجل عليه الطلاق، وإنه إن قال لها: أنت طالق ثلاثا إن لم أطلقك واحدة، وإن لم أطلقك واحدة إلى أجل، أنه يوقف عن امرأته، فيقال له: إما طلقت واحدة، وإلا طلقت عليك ثلاثا، على قياس قول سحنون وأصبغ في القائل لامرأته: إن لم أطلقك فأنت طالق، أنت طالق إن لم أطلقك، أو أنت طالق إن لم أطلقك إلى سنة، إنه بمنزلة قوله: أنت طالق إن لم أفعل كذا وكذا، أو إن لم أفعل كذا وكذا إلى سنة، أن يكون قول الرجل لامرأته: أنت طالق إن لم أطلق امرأتي الأخرى إلى سنة بمنزلة قوله: أنت طالق إن لم أفعل كذا وكذا إلى سنة، فلا يلزمه في امرأته إلا ألا يطلق امرأته الأخرى إلى سنة، وعلى قياس هذا يأتي ما لابن القاسم في سماع أبي زيد، من كتاب التخيير والتمليك، ويدخل عليه الإيلاء إن طلبت امرأته المسيس، على القول الذي لا يجيز له أن يمس امرأته إلى ذلك الأجل، وهو قول ابن القاسم في رسم يوصي من كتاب الإيلاء، وقول غير ابن القاسم في العتق الأول من المدونة، وبالله التوفيق.

[مسألة: شك في طلاق امرأته أيقضى عليه بطلاقها]
مسألة وسئل عن رجل شك في طلاق امرأته أيقضى عليه بطلاقها، أم ذلك إليه، ولا يقضى عليه بطلاقها؟ قال: ذلك إليه ولا يقضى عليه بطلاقها.
قال محمد بن رشد: الشك في الطلاق ينقسم على خمسة أقسام: منه ما يتفق على أنه لا يؤمر ولا يجبر، وذلك مثل أن يحلف الرجل على الرجل ألا يفعل فعلا، ثم يقول: لعله قد فعل، من غير سبب يوجب ذلك الشك في ذلك، ومنه ما يتفق على أنه يؤمر ولا يجبر، وذلك مثل أن يحلف ألا يفعل فعلا، ثم يشك هل حنث أم لا لسبب أدخل عليه الشك؟ ومنه ما يتفق على أنه لا يجبر، ويختلف، هل يؤمر أم لا؟ وذلك مثل أن يشك الرجل هل طلق

(5/429)


امرأته أو لم يطلق؟ أو يشك هل حنث في يمينه فيها؟ فقال ابن القاسم: إنه يومر، ولا يجبر، وهو قوله في هذه الرواية، وقال أصبغ: لا يؤمر ولا يجبر، ومنه ما يختلف هل يجبر أو لا يجبر؟ وذلك مثل أن يطلق، فلا يدري، إن كان طلق واحدة أو اثنتين أو ثلاثا، ويحلف ويحنث، ولا يدري إن كان حلف بطلاق أو مشي، أو يقول: امرأتي طالق إن كانت فلانة حائض، فتقول: لست بحائض، وإن كان فلان يبغضني، فيقول: أنا أحبك، أو إن لم تخبرني بالصدق، فيخبره، ويزعم أنه قد صدقه ولا يدري حقيقة ذلك، والخلاف في المسألة الأولى من قول ابن القاسم، ومن قول ابن الماجشون، وفي الثانية بين ابن القاسم وأصبغ، ومنه ما يتفق على أنه يجبر، وذلك مثل أن يقول: امرأتي طالق إن كان أمس كذا وكذا لشيء يمكن أن يكون وألا يكون، ولا طريق إلى استعلامه، ومثل أن يشك في أي امرأة من امرأتيه طلق، فإنه يجبر على فراقهما جميعا، ولا يجوز له أن يقيم على واحدة منهما، وبالله التوفيق.

[مسألة: له امرأتان دخل بواحدة ولم يدخل بالأخرى فطلق واحدة ثم نسي]
مسألة وسئل عن رجل كانت له امرأتان: الواحدة قد دخل بها، والأخرى غير مدخول بها، فطلق واحدة تطليقة واحدة، ثم نسي أيهما ثم ماتتا أيرثهما؟ قال: أما التي تحته فإنها إن ماتت قبل انقضاء العدة ورثها، والأخرى إن شاء ورثها، وإن شاء لم يرثها، ذلك إليه في الاحتياط.
قال محمد بن رشد: أما قوله في التي قد بنى بها إنه يرثها إن ماتت قبل انقضاء عدتها صحيح؛ لأن الميراث بينهما قائم ما لم تنقض العدة، وإن تحقق أنها هي المطلقة، وأما قوله في الأخرى: إنه إن شاء ورثها وإن شاء لم يرثها، ذلك إليه في الاحتياط، ففيه نظر؛ لأنه أباح له أن يأخذ ما لا يدري هل هو له أم لا؟ وإن كان الاحتياط عنده ألا يأخذه، ويلزم على هذا لو لم تمت أن يومر بفراقها، ولا يجبر على ذلك، ووجه قوله أنه لما ورث التي قد دخل بها فكأنه لم يشك في طلاقها، وإنما شك في طلاق الأخرى، فأشبه عنده

(5/430)


من شك في طلاق امرأته، أنه يومر أن يفارقها، وإن ماتت ألا يرثها ولا يجبر على ذلك؛ لأن العصمة متيقنة فلا ترتفع بالشك، وليس هذا بين؛ لأن الطلاق في هذه متيقن في إحداهما، فكما لا يجوز له أن يمسك واحدة منهما، مخافة أن تكون هي المطلقة فكذلك لا يجوز له أن يرث التي لم يدخل بها، مخافة أن تكون هي المطلقة، إلا أن يتذكر أن الأخرى هي المطلقة، ويتيقن ذلك، ونحا فضل إلى أنه يكون له نصف ميراثه منها، كما يكون لكل واحدة منهما نصف ميراثها منه إن مات هو بعد انقضاء عدة التي دخل بها، وليس ذلك بصحيح؛ لأنه إذا مات هو بعد انقضاء عدة التي دخل بها، فقد تحققتا أن الميراث لإحداهما، وهما تتنازعانه، فيقسم بينهما بعد أيمانهما على حكم التداعي، وإن قالت كل واحدة منهما لا أدري من هي المطلقة منا؟ قيل لهما: إن سلمته إحداكما إلى صاحبتها وحللتها منه، فذلك حسن، وإن شئتما أن تقسماه فيما بينكما بنصفين، وتحلل كل واحدة منكما صاحبتها من النصف الذي أخذته، لاحتمال أن يكون لها، فذلك جائز، وليس كذلك هذه المسألة؛ لأن الزوج يقال له: أنت تشك في وجوب الميراث لك، فلا تأخذ ما تشك فيه إلا عن طيب نفس من الورثة، وبالله التوفيق.

[يكون لابنه المال فيموت الأب هل لإخوة الولد الذي له مال أن يحاسبوه]
ومن كتاب باع شاة وسئل عن الرجل يكون لابنه المال فيموت الأب، هل لإخوة الولد الذي له مال، أن يحاسبوه بما أنفق عليه أبوه؟ قال ابن القاسم: إن كان مال الابن ناضا، فوجدوه مصرورا كان لم ينفق منه شيء، لم يحاسبوه بما أنفق عليه أبوه، ولم يكن لهم مما أنفق عليه أبوه قبله، قليل ولا كثير. وإن كان ماله عرضا كان لهم أن يحاسبوه بما أنفق عليه أبوه من يوم كان للابن مال.
قلت: أرأيت إن كان مال الابن عرضا فأنفق عليه أبوه، فلما حضره الموت قال: لا تحاسبوه بما أنفقت عليه؟ قال: إذا يجوز قوله

(5/431)


ولا يكون لإخوته أن يحاسبوه، إذا قال: لا تحاسبوا ابني.
قلت: فما ترى هذه وصية لوارث لا تجوز؟ قال: ليست هذه وصية، وجل الناس ينفقون على أولادهم، وهذا شيء فعله في الصحة فليس بوصية.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول فيها محصلا مستوفى في أول سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته مرة أخرى، وبالله التوفيق.

[مسألة: النصرانية تسلم وزوجها نصراني هل عليه نفقة]
مسألة وسئل عن النصرانية تسلم، وزوجها نصراني، هل عليه نفقة وهو له عليها الرجعة إن أسلم وهي في العدة؟ قال ابن القاسم: ليس لها عليه نفقة؛ لأن الفسخ جاء من قبلها، ومنعته فرجها، وليس هو بمنزلة من طلق، وله عليها الرجعة؛ لأن أمرها فسخ بغير طلاق، فالفسخ لا يلزمه فيه نفقة، وتلك السنة، إلا أن تكون حاملا، فينفق عليها؛ لأن الولد يتبعه؛ لأنه ولده، وتلزمه نفقته، وكذلك هو في بطنها.
قال محمد بن رشد: في سماع أصبغ بعد هذا: إن عليه النفقة من أجل أن له الرجعة بالإسلام، ورواية عيسى أظهر عند أهل النظر؛ لأنه فسخ والفسوخ لا نفقة فيها، ولأن الفراق والمنع جاء من قبلها بإسلامها والنفقة لا تخلو من أن تكون واجبة بحق الاستمتاع أو بحق العصمة، فإن كانت واجبة بحق الاستمتاع، وجب أن تسقط إذ قد منعت الاستمتاع بإسلامها، وإن كانت واجبة بحق العصمة، وجب أن تسقط أيضا؛ إذ قد انفسخ النكاح وارتفعت العصمة، وكونه أحق بها إن أسلم في عدتها أمر متبع، لا يحمله القياس. ووجه رواية أصبغ، أنها لما كانت مأمورة بالإسلام، لم تكن متعدية في الإسلام، ولا مانعة لفرجها، بل هو المانع منه نفسه، بترك فعل ما يلزمه فعله من الإسلام، والله الموفق.

(5/432)


[ادعى ميراث امرأة فأنكر ذلك أبوها]
ومن كتاب العتق وسألته عن رجل ادعى ميراث امرأة، فأنكر ذلك أبوها، وقال: قد كنت طلقتها، وقال الزوج: إنما طلقتها واحدة أو اثنتين، وكانت هي في عدة، وقال الأب: بل طلقتها ثلاثا وأنا على ذلك شاهد، وأتى الزوج بشاهد، قال: الميراث للزوج، ويحلف على ما ادعى من الطلاق.
قلت لابن القاسم: فإن ماتت المرأة وادعى الأب أن العدة قد انقضت ولا ميراث للزوج، وقال الزوج: إنها هلكت في العدة، قال: القول في ذلك قول الزوج، وأرى عليه اليمين أنها إنما ماتت في عدتها.
قلت: أرأيت إن أبى اليمين في كلا الوجهين في العدة والطلاق؟ قال: يحلف الأب ويكون القول قوله.
قال محمد بن رشد: أما إذا اختلفا في عدد الطلاق، فقال الأب: ثلاثا، وقال الزوج: واحدة أو اثنتين، وأقام كل واحد منهما شاهدا على دعواه، فبين أن القول قول الزوج؛ لأنه لما كافأ دليل كل واحد منهما على دعواه دليل صاحبه، سقطا وبقيا على أصل الدعوى، فوجب أن يحلف الزوج؛ لأنه المدعى عليه في إسقاط ما وجب له من الميراث بالعصمة المتيقنة، وكذلك لو أقام كل واحد منهما شاهدين فتكافآ في العدالة، وإن كان الشاهد للأب دون الزوج، لوجب أن يحلف مع شاهده؛ لأنه يستحق بشهادته مالا، وأما إذا اختلفا في انقضاء العدة، فقال: إن القول قول الزوج، ويحلف أنها إنما ماتت في العدة، وهذا إذا اختلفا في وقت الطلاق فقال الزوج: طلقتها في وقت كذا وكذا، إلى ما لا يحاض في مثله ثلاث حيض، وقال الأب: طلقتها منذ كذا وكذا، لما يحاض في مثله ثلاث حيض، ولا اختلاف في هذا؛ لأن الميراث واجب للزوج بالعصمة المتيقنة، فعلى من ادعى ما يسقطه إقامة البينة،

(5/433)


ولو كان الزوج عبدا فأعتق بعد الطلاق وقبل موتها، فادعى الزوج أن ذلك كان قبل انقضاء العدة، وقال الأب: بل كان ذلك بعد انقضاء العدة، لجرى الأمر بذلك على الاختلاف في النصرانية تسلم تحت النصراني، ثم يسلم زوجها بعدها، فيريد رجعتها، فتزعم أنها قد حاضت ثلاث حيض بعد إسلامها كان منذ كذا وكذا، على ما سنذكره في نوازل أصبغ إن شاء الله، وأما إن اتفقا على وقت الطلاق، فإن كان قد مضى له من المدة ما تنقضي فيه العدة في الأغلب، وذلك ثلاثة أشهر، حمل أمرها على أن العدة قد انقضت، ولم يكن لها ميراث، إلا أن يأتي بما يدل على أن العدة لم تنقض من قولها قبل أن تموت؛ إذ هي مصدقة في ذلك، فإن لم يأت بذلك، وادعى على الأب أنه علم بذلك، لزمته اليمين، وإن كان لم يمض من المدة ما تنقضي فيه العدة في الأغلب، حمل أمرها على أن العدة لم تنقض، وكان للزوج الميراث، إلا أن يأتي الأب ببينة على قولها: إن عدتها قد انقضت، فإن لم يأت بذلك، وادعى على الزوج أنه علم بذلك، لزمته اليمين، يبين هذا قوله في كتاب الاستبراء من المدونة: إن الجارية المبيعة إذا لم تواضع للاستبراء فماتت، إنها إن ماتت قبل أن يمضي من المدة ما لا يكون فيه الاستبراء، فالمصيبة من البائع وإن ماتت بعد أن مضى من المدة ما يكون فيه الاستبراء، فالمصيبة من المبتاع، وذلك شهر على قولهم.

[مسألة: قالت في مرضها قد كنت تركت لزوجي كذا وكذا ثم هلكت]
مسألة وسألته عن امرأة قالت في مرضها: قد كنت تركت لزوجي كذا وكذا مما كان لي عليه من حق، ثم هلكت، فزعم أنها صادقته وإني قد كنت طلقتها في يمين قد كنت حنثت فيها قبل وضعها الصداق عني، أو بعد وضعها، أو قال: طلقتها في غير يمين، وقال الورثة: لم تطلق ولم تحنث، وإنما لك الوصية بالصداق، ليتم لك، إن لم تكن وارثا؛ لأنه لا وصية لوارث، قال: لا يقبل قولها فيما زعمت أنها وضعت عنه الصداق، ولا يكون له ميراث بإقراره

(5/434)


بالطلاق، قال ابن القاسم: قال مالك: ولو ثبت له الطلاق وقالت عند الموت: قد كنت وضعت في صحتي لم يقبل قولها، قلت لابن القاسم: وهو غير وارث، قال: نعم، وإن لم يرث كذلك، قال لي مالك: من قال عند الموت: قد كنت تصدقت من مالي بكذا وكذا على فلان، وقد كنت أعتقت في الصحة عبدي فلان، لم يكن للعبد عتق، ولا للآخر صدقة، إلا أن يقول: قد كنت فعلت ذلك في الصحة، فأنفذوه، فيكون في الثلث، قال: ولو صحت ولم تمت من مرضها ذلك لزمها قولها.
قال محمد بن رشد: قوله: إنه لا يقبل قولها فيما زعمت أنها وضعت عنه من الصداق، أمر متفق عليه إن لم يكن لها ولد يرفع التهمة عنها في إقرارها للزوج، وأما إن كان لها ولد يرفع التهمة عنها في إقرارها له، فقيل: إن ذلك جائز له كالأجنبي، وقيل: إن ذلك لا يجوز إذا لم يعرف الطلاق إلا بقوله، وفي قوله: إنه لا يكون له ميراث لإقراره على نفسه بالطلاق نظر؛ إذ الورثة يقولون: إنه لم يطلق، فكل واحد منهم يقر بالمال لصاحبه، ويدفعه عن نفسه له، فالواجب في ذلك أن يكون موقوفا فيمن رجع منهم أولا إلى تصديق صاحبه، وإكذاب نفسه، أخذه على الصحيح المشهور من الأقوال، القائم من المدونة، وهو أصل مختلف فيه، وأما إذا ثبت له الطلاق، فاختلف في ذلك على ثلاثة أقوال: أحدها: أن ذلك لا يجوز له من رأس المال ولا من الثلث، كان لها ولد أو لم يكن. والثاني: أنه إن كان لها ولد جاز ذلك له من رأس المال، وإن لم يكن لها ولد، لم يجز ذلك له من رأس المال ولا من الثلث. والثالث: أنه إن كان له ولد جاز له ذلك من رأس المال، وإن لم يكن له ولد، وكان يورث كلالة، جاز ذلك له من الثلث. والثلاثة الأقوال، قائمة من المدونة. فإذا قلنا: إن ذلك إنما يجوز لك من الثلث، ففي ذلك اختلاف، قيل: علمت بالطلاق أو لم تعلم، وقيل: بل إن علمت بالطلاق على ما في سماع سحنون من كتاب الوصايا في هذا المعنى من الاختلاف، وبالله التوفيق.

(5/435)


[مسألة: توفيت وأوصت لزوجها وهو غائب بثلث مالها]
مسألة وسألته عن امرأة توفيت وأوصت لزوجها وهو غائب بثلث مالها، وتركت ولدا منه أو من غيره، فقيل لها: إنه لا وصية لوارث، فقالت: إنه قد كان كتب إلي بالطلاق، فسترت ذلك، وقدم الزوج فصدقها، وقال الورثة: إنما بالزوج الوصية، وقال بنوها من غيره: إنها أرادت أن تحرمنا فضل ما بين الثلث والربع، قال: لا يقبل قولها، ولا إقراره بالطلاق، لموضع التهمة في ذلك، وينظر إلى وصيتها في ذلك، فإن كانت أقل ميراثه منها، دفع إليه ذلك، ولم يكن له أكثر من تتمة ميراثه منها، لما أقر به من فراقها، وإن كان الذي أوصت له كفاف ميراثه منها دفع له؛ لأنها لا تتهم فيه، ولا يتهم في ذلك، وإن كان أكثر من ميراثه، اتهم واتهمت، ولم يكن له إلا قدر ميراثه منها. قال ابن القاسم: وفرق بين التي قالت: قد كنت وضعت عن زوجي الصداق، وبين التي قالت: أعطوا لزوجي كذا وكذا، إن الوصية إنما أرادت أن يكون ذلك في الثلث، والتي أقرت لم ترد ثلثا فلذلك أخرج هذا من الثلث، ولم ينتفع الزوج بإقرارها إلا ببينة تقوم له على الوضيعة. وقال لي ابن القاسم: وليس لأهل الوصايا في التي أقرت أنها قد وضعت في صحة منها فيها وصية إن قصرت وصاياهم في ثلث ما بقي لا عتق ولا غيره.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة المعنى، وقد مضى قبل هذا الاختلاف في إقرار المرأة في مرضها الذي توفيت فيه أنها كانت وضعت عن زوجها الصداق في صحتها، فلا معنى لإعادة ذلك. وقوله: إن قصرت وصاياهم في ثلث ما بقي، معناه إن ضاقت وصاياهم عن ثلث ما بقي فلا يكون شيء من ذلك في ثلث ما أقرت به، لا عتق ولا غيره، وهو صحيح متكرر في المدونة وغيرها، وبالله التوفيق.

(5/436)


[مسألة: قال في مرضه إني قد كنت حلفت بعتق ما أملك]
مسألة وسألته عن رجل قال في مرضه: إني قد كنت حلفت بعتق ما أملك، إن لم أطلق ثلاث نسوة قبل الممات، وقد طلقت النسوة وبقيت واحدة، وأنا أخاف الحنث في رقيقي، ففلانة طالق، يعني زوجته التي تحته. هل يخرجه ذلك من يمينه؟ قال: أراه طلاقا إن كان بت طلاقها. ومما يبين ذلك أن لو قال: إن طلقت امرأتي فرقيقي أحرار، فطلقها في مرضه بتا أو غير ذلك، فإني لا أراه سالما من الحنث، ورقيقه أحرار في الثلث.
قال محمد بن رشد: قوله: إن كان بت طلاقها، قيل: معناه، إن كان أنفذه والأظهر له أراد به بتات الطلاق، ففرق بين البر والحنث على أصولهم في أنه يحنث بما لا يبريه، وبالله التوفيق.

[مسألة: طلق امرأته واحدة وهي مستحاضة كم عدتها إن هو أراد رجعتها]
مسألة وسئل عن رجل طلق امرأته واحدة وهي مستحاضة كم عدتها إن هو أراد رجعتها؟ قال: إن راجعها فيما بينه وبين سنة، فله الرجعة، وإن مضت السنة فلا رجعة له عليها.
قال محمد بن رشد: أما إذا كانت المستحاضة لا تميز بين دم الحيض والاستحاضة، فلا اختلاف في أن عدتها من الطلاق سنة كاملة، كما ذكر، واختلف إذا كانت تميز بين الدمين، فقيل: إنها تعتد بالأقراء، وقيل: إن عدتها سنة على كل حال، والقولان قائمان في المدونة. وقد مضى بيان هذا المعنى في رسم استأذن من سماع عيسى مستوفى، وبالله التوفيق.

[النفقة التي إذا لم يجدها فرق الإمام بينه وبين امرأته ما هي]
من سماع يحيى بن يحيى من عبد الرحمن
ابن القاسم من كتاب الكبش قال يحيى: وسألت ابن القاسم عن النفقة التي إذا لم يجدها

(5/437)


فرق الإمام بينه وبين امرأته ما هي؟ قال: القوت، وما يجزي من الثياب.
قلت: أرأيت إن كانت ذات شرف معروف ممن يعرف أن مثلها لا يخدم نفسها، ولا يلبس من الثياب إلا الحسنة، ولا يجزيها من العيش غليظه، وقد كان الرجل موسرا موسعا عليه، كان ينفق عليها نفقة مثله على مثلها، ثم أعدم، فصار لا يجد لها خادما ولا كسوة إلا من أدناها وأقلها ثمنا ولا قوتا إلا شعيرا أو قمحا ليس فيه إلا قوتها، دون قوت خادمها، وأحبت هي أن تضع عنه ثمن الخادم وسألته نفقتها ونفقة الخادم، فلم يجد إلا قوت السيدة من غليظ العيش، مثل الشعير، أو السلت، أو القمح غير المادوم، ويجعل ما يودم به زيتا. أترى أن يفرق بينهما وهو يجد هذا، وقد كانت حالهما في اليسارة وفي الشرف ما وصفت لك؟ قال: إن كان هذا وما أشبهه، فلا أرى أن يفرق بينهما وأجزى ما يجزي في مثل هذا من الكسوة الفسطاطي ونحوه. وأما القوت من الطعام فما يرى أنه الشبع في بلدهما الذي هما به، ويجزيه أن يخرج ذلك مما يقتات به أهل بلده، فإن من البلدان، من لا ينفق أهله شعيرا على حال فقيرهم ولا غنيهم، ومنهم من ذلك عندهم يستخف ويستجاز، فإن كان ببلد لا يعرف أهله إنفاق الشعير على أهليهم، لم يكن له أن يخصها بما لا يتحمله أهل بلدها، وإن كان ببلد يتجاوز به الشعير من اضطر إليه، لم يكن لها أن تأباه، إذا ألجئ إليه صاحبها وليس لها إلا ذلك.
قال محمد بن رشد: قوله: فإن كان ببلد لا يعرف أهله إنفاق الشعير على أهليهم، لم يكن له أن يخصها بما لا يتحمله أهل بلدها، خلاف ظاهر ما

(5/438)


في رسم الأقضية بعد هذا من سماع يحيى، ودليل ما في رسم الأقضية الثالث، من سماع أشهب من كتاب النكاح. وقد مضى هناك ذكر هذا، وتوجيه كل واحد من القولين، ولم يذكر المقدار الذي يفرض من ذلك. وفي المبسوط قال مالك: أدركت الناس وهم يفرضون مدا من حنطة، وليس عليه أن يطحنه لها، ولم أر أحدا يفرض لها طحنا، قيل لمالك: إن بالمغرب لا يكفيها مد، قال: بقدر ما يكفيها، قال أبو إسحاق: إنما فرض لها مدا؛ لأن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال للذي أفطر في شهر رمضان: «خذ هذا وتصدق به» ، نحو خمسة عشر صاعا بين ستين مسكينا، وإنما لم ير التوقيت مرة، لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لهند: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» ، والظاهر من مذهب مالك في المدونة قياسا على الظهار: أنه يفرض له مد بمد هشام، وكذلك حكى ابن حبيب في الواضحة عنه إلا أنه قال فيه: إنه مد وثلث، وقال: هو من رأيه أنه يفرض في الشهر قفيز بالكيل القرطبي، قال: هو أربعة وأربعون مدا. وقول مالك في المبسوط، وليس عليه أن يطحن المد لها، هو خلاف ما تقدم في رسم الجواب من سماع عيسى. وقد مضى هناك كثير من معاني هذه الرواية، فلا معنى لإعادة ذلك.

[المطلقة المبتوتة وهي حامل تطلب الكسوة]
ومن كتاب الصبرة وقال: في المطلقة المبتوتة وهي حامل، تطلب الكسوة: إنها إن طلبت في أول الحمل فلها الكسوة، وإن طلبت ولم يبق من أجل الحمل إلا الشهرين والثلاثة، أو نحو ذلك، قوم لها ما كان يصبر

(5/439)


لتلك الأشهر من الكسوة لو كسيت في أول الحمل، ثم أعطيته دراهم، ولم تكس؛ لأنها إن كسيت انقضى الحمل وانقطعت نفقتها وكسوتها، والثياب التي تكسى جديدة، فليس لها إلا قيمة ذلك.
قال محمد بن رشد: وهذا إذا كانت الكسوة مما تبلى في مدة الحمل، وأما إن كانت مما لا تبلى في مدته، مثل الفرو والمحشو وشبه ذلك، فالوجه فيه أن ينظر إلى ما ينقصه اللباس في مدة الحمل، فيعرف ما يقع من ذلك للأشهر الباقية، وهذا أيضا في التي تطلق بعد أن مضى أكثر الحمل، وأما التي تطلق في أول الحمل أو قبل أن يظهر حملها، فتستمر وتثبت، وتغفل عن طلب كسوتها حتى لا يبقى من أجل الحمل إلا الشيء اليسير، فإنه يفرض لها من الكسوة ما كان يفرض لها منها في أول الحمل؛ إذ لها ما مضى ويستقبل، وهذا كله يبين ما تقدم في رسم مرض من سماع ابن القاسم، وبالله التوفيق.

[المعترض عن امرأته ترفع أمرها إلى السلطان وهو مريض]
ومن كتاب الصلاة وسئل عن المعترض عن امرأته ترفع أمرها إلى السلطان وهو مريض، فقال: لا يضرب له أجل المعترض من امرأته حتى يصح، قيل له: فإن كان صحيحا حين رفعت أمرها إلى السلطان، فلما أجله السلطان مرض، قال: يمضي حكم السلطان فيه، ولا يزاد في الأجل بعد من أجل مرضه.
قال محمد بن رشد: وهذا إذا كان قد صح أكثر السنة، أو كان مرضه مرضا قد يقدر معه على معالجة الوطء وأما لو مرض بحدثان ما ضرب له الأجل مرضا شديدا لا حراك به، ولا قدرة له معه على الإلمام بأهله حتى ينقضي الأجل؛ لانبغى أن يزاد في الأجل مقدار ما فرض، والله أعلم.

[مسألة: أصاب الرجل جنون وقد نكح امرأة وابتنى بها]
مسألة قال: وسمعت مالكا يقول: إذا أصاب الرجل جنون. وقد

(5/440)


نكح امرأة وابتنى بها، تلوم له واستانوا به سنة، فإن ذهب عنه وإلا فرق بينهما. قيل له: أرأيت إن أصابه قبل الابتناء، أو أصابه من ذلك ما لا يخاف منه على امرأته عداه ولا أذاه؟ قال: إن أصابه قبل الابتناء، ضرب له أجل سنة ثم تخير امرأته عند انقضاء الأجل، فإن رضيت بالإقامة معه فذلك، وإن طلقت نفسها، لم يكن لها من الصداق شيء وجاز الفراق.
قلت: مما يعد ذلك الفراق؟ أطلقة بائنة؟ فقال: نعم.
قال محمد بن رشد: قوله: إن المجنون لا يفرق بينه وبين امرأته قبل البنا إلا من بعد ضرب الأجل، كالمدخول بها، يحمل على التفسير لما في سماع سحنون من كتاب النكاح، ولما في المدونة وإيجابه لها الخيار، وإن لم يخف عليها عداه ولا أذاه، هو مثل ما في رسم باع شاة من سماع عيسى من كتاب النكاح خلاف ما في سماع زونان منه لابن وهب وأشهب، وخلاف ما في المدونة لربيعة، وقوله: إنها لما طلقت نفسها قبل البناء، لم يكن لها من الصداق شيء؛ لأن الله إنما أوجب نصف الصداق على المطلق باختياره حيث يقول: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة: 237] الآية، وهو لم يختر الطلاق، وما كان منه فيه سبب يتهم فيه على اختياره، كالذي يعسر بالصداق فيطلق عليه قبل الدخول، فيتهم على أنه أخفى ماله لتطلق عليه، فلا يلزمه من الصداق شيء. وقد مضى هذا، والاختلاف فيه في سماع سحنون من كتاب النكاح. وقوله: إن الفراق في ذلك يعد طلقة بائنة، هو المعلوم في المذهب، إن كل طلاق يحكم به الإمام فهو بائن، إلا طلاق المولي، والمطلق عليه بعدم الإنفاق، وذهب أبو إسحاق التونسي إلى أن طلاق الإمام على المجنون والمجذوم والمبروص، إنما هي طلقة رجعية، وإن الموارثة بينهما قائمة ما دامت العدة لم تنقض، ولو صحوا من أدوائهم، لكانت لهم الرجعة. وقوله صحيح في المعنى، إلا أنه خلاف المعلوم الموجود في المذهب، وهو ينحو إلى

(5/441)


رواية عيسى عن ابن القاسم في رسم إن خرجت في الأمة تعتق تحت العبد، فتختار نفسها، ثم يتوفى زوجها في عدتها إنها ترجع إلى عدة الوفاة. قال أبو إسحاق التونسي: وانظر إذا ضرب لها أجل سنة قبل الدخول، هل لها نفقة إذا دعته إلى الدخول، مع امتناعها من ذلك لجنونه، كما إذا عسر بالصداق، إنه يومر بإجراء النفقة مع امتناعها منه لعدم قدرته على دفع صداقها، فأحال النظر ولم يبين في ذلك شيئا، والظاهر أنه لا نفقة لها؛ لأنها منعته نفسها لسبب لا قدرة له على دفعه، فكان في ذلك معذورا، بخلاف التي منعته نفسها حتى يؤدي إليها صداقها؛ إذ لعل له مالا يكتمه، وبالله التوفيق.

[ما يجب على الإمام أن يفرق به بين المرأة وزوجها إذا عجز عن النفقة عليها]
ومن كتاب الأقضية قال: وسألت ابن وهب عما يجب على الإمام أن يفرق به بين المرأة وزوجها إذا عجز عن النفقة عليها، غير أنه يجد أدنى العيش وأغلظه، وأوضع الكسوة وأقبحها، أيجزيه ذلك، أم يكلف قدرا معلوما من النفقة والكسوة؟ أيجب أن يفرق بينهما لعجزه عنها؟ أم يلزم من النفقة على قدر حال المرأة، وحال الرجل إذا كان واجدا موسرا؟ فقال: إذا عسر الرجل بعد يسر لم ينظر إلى ما كان عليه أولا، وليس للإنفاق على المرأة قدر معلوم تحت التفرقة بينهما بالتقصير عنه ما وجد ما يرد به جوعها من الخبز، ويواري به جسدها عن العري. الكسوة ما سوى الشمال والعبا، إذا كان ما يكسوها شبيها بالفسطاطي ونحوه أجزأه ذلك، إذا كان لا يجد إلا هو، ولم يفرق بينهما. قال:
وسألته يوم كتب إليه ابن بشير، فكان فيما سأله عنه في كتابه أن قال: هل على الموسر الشريف إذا كانت له امرأة من ذوات الشرف والقدر، أن يخدمها الخادمين والثلاثة، وينفق عليها وعليهن؟ وهل يلزمه لها من نفقتها اللحم والعسل، والفاكهة والزعفران،

(5/442)


والطيب والخضاب بالحنا وأشباه ذلك؟ وهل يفرض من الكسوة الخز والعصب والشطوي؟ فقال لي عبد الله بن وهب فيما يلزم الفقير من النفقة التي إذا لم يجدها فرق بينه وبين امرأته، مثل ما فسرت عنه في قوله أولا، قال: ولا يجزيه أن يرد به جوعهما إذا لم يجد ما يكسوها، وكذلك أيضا لا يجزيه أن يكسوها إذا لم يجد ما ينفق عليها إذا عجز عن أحد الأمرين فقد عجز عنهما جميعا، ووجب بعجزه عن أحدهما الفرقة بينه وبين امرأته، ثم كلما وسع الله عليه، وسع الإمام على امرأته، على قدر مال الزوج بالمعروف في كسوتها ونفقتها. قال: وأما سنة نفقة الموسر الشريف على ذات الشرف والهيئة، فإنه يلزم أن ينفق عليها من الطعام والإدام والحطب، وصالح الثياب، من أوسط ذلك مما لا يعرها إذا ألبسته ولا سرف فيه على صاحبها فيجحف بماله، ولها من اللحم مصلحتها غبا في الجمعة، المرة ونحوها، وليس لها عليه فاكهة ولا عسل، ولا ما أشبه ذلك من الأطعمة التي ينفقها الناس أهلهم ليست بقوت لهم، ولا بهم فقر إليها في معائشهم. قال: وأما الطيب والزعفران، وخضاب اليدين والرجلين بالحنا، فإنا نقول: إنما هذا وشبهه للرجال يصلحون به إلى نسائهم للذاتهم، فمن شح به فليس يلزمه حكم يقضي به عليه، غير أن عليه من الحنا ما تمتشط به، فأما ما تسأل المرأة من كسوة العصب والشطوي والخز، فإنه لا يلزمه إلا العصب الغليظ، وما أشبه ذلك من الشطوي والخز قال يحيى: ومعنى قوله في الخز، والعصب، والشطوي، إن ذلك إنما يلزمه منه الذي وصف، إذا كان ببلد تكون تلك الأصناف لبسة أهل البلد، ويكون ذلك مما يكسوه مثله في قدر ماله، وسعة ما في يده.

(5/443)


قال محمد بن رشد: ظاهر قوله في هذه الرواية ما وجد ما يرد به جوعها من الخبز، خلاف قوله في رسم الكبش قبل هذا. ومثل دليل الكبش، قول مالك في رسم الأقضية من سماع أشهب من كتاب النكاح وسائر ما فيها، نحو ما تقدم في الرسم الذي قبل هذا، وفي رسم الجواب من سماع عيسى. وقد مضى في الموضعين من التكلم على معاني ما تضمنته هذه الرواية، ما يغني عن إعادته، وبالله التوفيق.

[مسألة: يتوفى عنها زوجها ويدعي ما يكون للرجال والنساء مثله]
مسألة قال: وسألت ابن وهب عن المرأة يتوفى عنها زوجها، ويدعي غنما وبقرا وإبلا وثيابا وهي مما تكون للرجال والنساء مثله، وهي معروفة بالغنى، ويقول ورثة الزوج: المال لأبينا مات عنه، وأنت مدعية فعليك البينة، فقال: أما ما كان من حلي أو متاع البيت من الأسرة والقباب والفرش والأنماط والوسائد، والمحابس، والنمارق، والحجال، والبسط، والتوابيت، والآنية، والطست، والتور، والإبريق، وما أشبه هذا فهو للنساء، لا يكلفن عليه ببينة، قال: وأما ما كان من سلاح أو دابة أو عبد أو أمة أو قميص، أو ما يكون مثله من متاع النساء، فهو للرجال، ولا يكلف الورثة عليه البينة. قال ابن القاسم: في القصاع والبرم والقدر، إنه من متاع النساء. قال: وقد قال مالك فيما يكون مثله للرجال والنساء، مثل النساج والردا وما يرى أنه يكون مثله للرجال والنساء، إن الرجال أحق به مع أيمانهم قال: وقال غيره من أهل العلم: يقسم بينهما إذا لم يكن لأحدهما عليه بينة بعد أيمانهما. قال ابن وهب: والذي آخذ به وأستحسنه أن يقسم بينهما ما أشبه من ذلك، فيرى أنه يكون للرجال والنساء بعد أيمانهما على ما تداعيا فيه. قال: وأما ما ذكرت من الإبل والبقر والغنم، فإن ذلك للرجال، إلا ما قامت به البينة أنه

(5/444)


للمرأة، أو كان الرجل معها معروفا بالفقر، وهي معروفة بالغنى، ينسب ملك تلك البقر والغنم والإبل. إليها، ويذكر ذلك لها، فإذا كان هكذا من حالها فاشيا ظاهرا يعرف بالسماع. وقول عدول الجيران، فالمرأة أحق به، وإن لم تكن شهادة قاطعة.
قال محمد بن رشد: اختلف أهل العلم في اختلاف الزوجين في متاع البيت في حال العصمة أو بعد الطلاق، أو ورثتهما بعد موتهما، فذهب مالك إلى أنه إن ما كان من متاع النساء، فهو للمرأة مع يمينها، وما كان منه من متاع الرجال، فهو للرجل مع يمينه، وما كان منه مما يكون للرجال والنساء، فهو للرجل مع يمينه؛ لأن البيت للرجل، فيده أقوى من يد المرأة. وروي عن سحنون أنه ما كان من متاع النساء، فهو للمرأة بلا يمين. وحكاه الفضل أنه رأى لابن عبدوس معلقا بخط يده أن ابن القاسم يقول: ما كان من متاع النساء، فهو للمرأة دون يمين، وما كان من متاع الرجال، فهو للرجال دون يمين. وهذا الاختلاف في وجوب اليمين، إنما يصح في اختلاف ورثة الزوجين، أو اختلاف ورثة أحدهما مع الآخر دون تحقيق الدعوى، مثل أن يموت الرجل، فتقول المرأة لما هو من متاع النساء، هو متاعي، ويقول ورثة الزوج: احلفي لنا أن المتاع متاعك؛ لأن مورثنا مات عنه وأنت مدعية فيه، أو تموت المرأة فيقول الزوج: لما هو من متاع الرجال هو متاعي، ويقول ورثة المرأة: احلف لنا على ذاك؛ لأن المرأة هلكت عنه وأنت مدع فيه. فهاهنا لا يرى سحنون اليمين، ولا ابن القاسم، فيما حكى عنه ابن عبدوس. وهو كله من قول ابن وهب في هذه الرواية، ولا اختلاف في هذا على الاختلاف في لحوق يمين التهمة، وهي قولان مشهوران. وأما إن تداعى الزوجان في متاع البيت، فادعت المرأة شيئا من متاع النساء، وكذبها الزوج، أو ادعى الرجل شيئا من متاع الرجال، وكذبته المرأة، فلا بد في ذلك من اليمين. وقد نص على وجوب اليمين في ذلك ابن حبيب ومثله في المدونة وغيرها فلا

(5/445)


اختلاف في ذلك. وقيل: إن القول قول المرأة فيما كان من متاع النساء، والقول قول الزوج فيما كان من متاع الرجال، وما كان مما يكون للرجال والنساء، قسم بينهما بعد أيمانهما. وهو قول ابن وهب هذا، وقول المغيرة، وروي مثله عن ابن القاسم، وقيل: إنه يقسم بينهما ما اختلفا فيه بعد أيمانهما، كان من متاع الرجال، أو من متاع النساء، أو مما يكون للرجال والنساء؛ لأن الرجل قد يملك متاع المرأة، والمرأة قد تملك متاع الرجل من جهة الميراث. قاله ابن وهب في المبسوطة وهو قول الشافعي، وقيل: إن القول قول الرجل في جميع ما اختلفا فيه. وإن كان من متاع النساء؛ لأن البيت بيت الرجل، والمرأة فيه عارية عنده. وهو قول محمد بن مسلمة المخزومي في المبسوطة. وبه قال الحسن. فيتحصل في متاع المرأة ثلاثة أقوال: أحدها: أنه للرجل، والثاني: أنه للمرأة، والثالث: أن يقسم بينهما. وفي متاع الرجال، أو فيما كان من متاع الرجال والنساء قولان: أحدهما: أنه للرجل، والثاني: أنه يقسم بينهما وما وصف ابن القاسم أنه من متاع النساء من غير ما هو من حلي النساء، أو لباسهن، فإنما قاله فيما العرف فيه عنده أن النساء يتخذنه في بيوتهن، فإنما يرجع في ذلك أهل كل بلد إلى ما هو العرف عندهم. وقد قال في المدونة: إنهما إذا اختلفا في الدار، فالقول فيه قول الزوج؛ لأن عليه أن يسكن المرأة، والعرف عندنا في ذوات الأقدار أن المرأة تخرج الدار، فلو اختلفا فيها عندنا، لوجب أن يكون القول قول المرأة، وكذلك حفظت عن شيخنا الفقيه ابن رزق.

[مسألة: طلق امرأته ثم وطئها في عدتها]
مسألة قال: وأخبرني ابن القاسم عن مالك، أنه قال في رجل طلق امرأته ثم وطئها في عدتها، ولا ينوي ارتجاعا مثل أن يقول المطلق: ما كنت أرى إلا أن وطأها حلالا لي إلى انقضاء العدة، أو نحو

(5/446)


هذا مما يرى أن وطأه إياها بعد الطلاق لم يكن للارتجاع، إنه لا يكون الوطء ارتجاعا، إلا أن ينوي بذلك ارتجاعا. قال: وقال مالك: فإن مضت العدة وهي بتلك الحال بانت منه، وإن علم بقبيح ما هو عليه قبل انقضاء العدة، فأراد ارتجاعها، كان وجه ارتجاعها الإشهاد، ولم يحل له وطؤها حتى تعتد ثلاثة قروء من يوم يرتجعها، وليس من يوم طلقها؛ لأن عليها العدة من المسيس الفاسد.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة والقول فيها مستوفى في رسم استأذن من سماع عيسى، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.

[يغيب عن أهله والولد أصاغر في حجر أمهم]
ومن كتاب أوله أول عبد ابتاعه فهو حر وسألته عن الرجل يغيب عن أهله، والولد أصاغر في حجر أمهم تلزمه نفقتهم، فإذا قدم وادعت المرأة وهي أمهم أنها أنفقت عليهم من مالها، أيلزمه ذلك أم يبرأ بمثل ما يبرأ به من نفقتها، إذا زعم أنه كان يبعث بها إليها، ولا يكون لها عليه شيء، إلا أن ترفع أمرها إلى السلطان؟ قال: حالها فيما تدعي من الإنفاق عليهم من مالها بمنزلة ما تدعي أنها أنفقت على نفسها إذا لم ترفع ذلك إلى السلطان، حتى يقدم، لم تصدق عليه، وإن رفعت ذلك إلى السلطان فرض لها ولهم، وحسبه لها عليه من يوم يفرضه، وكان لها دينا تتبع به.
قال محمد بن رشد: قوله: إن الرجل يبرأ من نفقة ولده في حجر أمهم، بما يبرأ به من نفقة زوجته صحيح؛ لأنه مؤتمن على ذلك، كما هو مؤتمن في النفقة على زوجته، فليس عليه أن يشهد على شيء من ذلك، والقول فيه قوله، والأصل أنه مؤتمن في النفقة على من في حجره ممن يلزمه الإنفاق عليه مصدق. وقوله فيه دون إشهاد، هو أن الله أمره بذلك، كما أمره

(5/447)


بأداء الأمانة، ولم يوجب عليه في شيء من ذلك إشهاد. فقال عز وجل: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ} [النساء: 5] ، كما قال: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} [البقرة: 283] ، فوجب أن يصدق في هذا، كما يصدق في هذا وكما تصدق المرأة فيما ائتمنها الله عليه من الحيض والحمل بقوله: {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} [البقرة: 228] ، وأما قوله: فإن رفعت ذلك إلى السلطان فرض لها ولهم، إلى آخر قوله. فمعناه إذا عرف ملاؤه في غيبته، وذلك أنه لا يخلو في مغيبه من ثلاثة أحوال: أحدها: أن يكون معروف الملاء، والثاني: أن يكون معروف العدم، والثالث: أن تكون حاله مجهولة، فأما إذا كان معروف الملاء، فإن النفقة تفرض لها عليه على ما يعرف من ملائه، فتتبعه بذلك دينا ثابتا في ذمته، هذا معنى قول ابن القاسم هنا، ونص قول ابن وهب في الواضحة. وظاهر قوله فيها أنه لا خيار للمرأة في فراقه، كما يكون ذلك لها في المجهول الحال. ومعنى ذلك، إذا كان لها مال تنفق منه على نفسها، وما لم تطل إقامته عنها أيضا على ما مضى في رسم الشريكين من سماع ابن القاسم. وفي رسم شهد من سماع عيسى. وأما إن كان معروف العدم فلا يفرض لها السلطان عليه نفقة؛ إذ لا تجب على العديم نفقة لامرأته، ويفرق السلطان بينهما بعد التلوم، وإن أحبت الصبر عليه، كتبت لها كتابا بذلك اليوم من ذلك الشهر، أنها قامت عنده عليه طالبة لنفقتها، فإن قدم، وعلم أنه له مال، كان القول قولها: إنها أنفقت على نفسها من ذلك اليوم، إن ادعى أنه خلف عندها، أو بعث إليها، وأما إذا كان مجهول الحال، لا يعرف ملاؤه في غيبته من عدمه، فقال في المدونة: إن السلطان لا يفرض لها نفقة على زوجها في مغيبه حتى يقدم، فإن كان موسرا فرض عليه نفقة مثله لمثلها، وقال ابن حبيب في الواضحة: إنها إن أحبت الصبر عليه أشهد لها السلطان أن كان فلان زوج

(5/448)


فلانة اليوم مليا في غيبته، فقد أوجبنا عليه لامرأته فريضة مثلها من مثله. وسيأتي في سماع أصبغ القول في فرض نفقة الأبوين، والله المعين بفضله.

[يطلقها زوجها ألبتة فيكون لها السكنى في دار زوجها، فيموت]
من سماع سحنون وسؤاله ابن القاسم
قال سحنون: قال ابن القاسم في المرأة يطلقها زوجها ألبتة فيكون لها السكنى في دار زوجها، فيموت، فيقسم ورثته ماله، فلا يصير لها من جميع ماله ما يسعها من السكنى: إن عليهم أن يتوسعوا لها حتى يكون لها مسكنا في طول عدتها.
قال محمد بن رشد: إذا كانت الدار للميت، فللمرأة السكنى فيها حتى تنقضي عدتها مات بعد أن طلقها أو لم يمت، وإنما يفترق ذلك إذا لم يكن للزوج مسكن على ما يأتي القول فيه في سماع أبي زيد إن شاء الله، فإذا مات الزوج، والدار له، فللمرأة السكنى فيها حتى تنقضي عدتها، وهي أحق بذلك من الورثة ومن الغرماء، إن كان عليه دين، فإن كانت الدار ذات بيوت تنقسم، فللورثة أن يقسموها، فإن صار للمرأة في حظها من مساكنها ما يسعها للسكنى، فليس لها إلا ذلك، وإن لم يصر لها في حظها من مساكنها ما يحملها السكنى. فعليهم أن يتوسعوا لها فيها بما يقوم بها كما قال. وهذا على القول بأن للمرأة أن تعتد فيما شاءت من مساكن الدار التي كانت تسكن فيها مع زوجها، وأن تصيف في قاعة الدار، وإن لم تكن تصيف فيها مع زوجها، وهو مذهب ابن القاسم، وروايته عن مالك في المدونة، وأما على ما لمالك في كتاب ابن المواز من أنها لا تصيف إلا في الموضع الذي كانت تصيف فيه مع زوجها، وهو مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة وأما على ما لمالك في كتاب ابن المواز من أنها لا تصيف إلا في الموضع الذي كان تصيف فيه مع زوجها في حياته، فيلزمها أن تعتد في المسكن الذي كانت تسكن مع زوجها، وليس لها أن تنتقل منه إلى غيره إذ لم يبح لها أن تصيف في قاعة الدار، إلا أن كانت تصيف فيها مع زوجها قبل موته، ويأتي على قوله إن

(5/449)


المرأة تسكن في ذلك المسكن بعينه على كل حال، اقتسم الورثة الدار أو لم يقتسموها، وبالله التوفيق.

[مسألة: يسكن أولاده من امرأته مع امرأة له أخرى في بيت واحد]
مسألة قال: وليس للرجل أن يسكن أولاده من امرأته مع امرأة له أخرى في بيت واحد، ولا يجمعهم في مسكن واحد، إلا أن ترضى بذلك.
قال محمد بن رشد: وكذلك ليس له أن يسكن معها أبويه، قال ذلك مالك في رسم يتخذ المحرم خرقة لفرجه، من سماع ابن القاسم من كتاب النكاح، وذلك لما عليها في ذلك من الضرر، لاطلاعهم على أمرها، وما تريد أن تستتر به عنهم من شأنها. وقد مضى من القول على ذلك هنالك ما فيه كفاية، ومضى في رسم الطلاق الأول من سماع أشهب من كتاب النكاح، القول فيما للمرأة من تسكين الصغار من غير زوجها مع زوجها، فمن أحب الوقوف على الشفا من ذلك تأمله هنالك، وبالله التوفيق.

[مسألة: امرأة المفقود التي لم يدخل بها ما لها من الصداق إذا جاء زوجها وقد تزوجت]
مسألة وسئل ابن القاسم عن امرأة المفقود التي لم يدخل بها، ما لها من الصداق إذا جاء زوجها وقد تزوجت؟ وهل تكون تلك الفرقة طلاقا؟ وهل عليها في العدة إحداد؟ وهل هي من أهل العدة التي إذا تزوجت فيها فرق بينهما ثم لا يجتمعان أبدا؟ فقال ابن القاسم: إن كان لم يدخل بها زوجها الآخر، ردت إلى زوجها الأول، وإن كان قد دخل بها زوجها الآخر، ردت إلى زوجها الأول نصف الصداق، فإن كان قد دخل بها زوجها الآخر، ثم جاءت بينهما فرقة من موت أو طلاق، ثم تزوجها الأول، كانت عنده على تطليقتين، وكانت فرقته تطليقة. قال ابن القاسم: وعليها الإحداد في العدة بعد الأربع سنين في الأربعة أشهر وعشر، وإن دخل بها فيها فرق

(5/450)


بينهما، ولم ينكحها أبدا وكان كمن تزوج في العدة.
قال محمد بن رشد: قد مضى في رسم أسلم من سماع عيسى، القول في حكم صداق التي تفقد زوجها قبل الدخول، ومضى في رسم شك في طوافه من سماع ابن القاسم، الاختلاف في وجوب الإحداد عليها في العدة، ومضى في رسم أسلم من سماع عيسى من كتاب النكاح، القول فيمن تزوج في هذه العدة، مستوفى، فأغنى ذلك عن إعادة شيء من ذلك، وبالله التوفيق.

[مسألة: تدعي على زوجها أنه طلقها وليست لها بينة ثم يموت زوجها]
مسألة وسئل ابن القاسم عن المرأة تدعي على زوجها أنه طلقها، وليست لها بينة، ثم يموت زوجها، فتطلب ميراثها منه، فيقول لها الورثة: ليس لك ميراث، أليس قد زعمت أنه قد طلقك؟ فتقول: إنما ادعيت ذلك؛ لأني كنت أبغض المقام معه، ولم يطلقني، فقال: أرى لها الميراث، قال محمد بن خالد عن ابن نافع مثله.
قال محمد بن رشد: وكذلك لو ادعت أنه طلقها ثلاثا، ثم صالحته، فأرادت أن تتزوجه قبل زوج، وزعمت أنها إنما ادعت ذلك؛ لأنها كانت تبغض المقام معه، لكان ذلك لها على قياس هذه الرواية، وهو قول ابن المواز، وعلى قوله يحمل ما في رسم جاع من سماع عيسى من كتاب النكاح، وما يأتي في سماع أصبغ بعد هذا من هذا الكتاب. وقد قال بعض رواة أهل المدينة: إنها لا تصدق في الميراث، ولا في الرجوع إلى زوجها، وفرق سحنون بين المسألتين فقال: يكون لها الميراث، ولا تمكن من الرجوع إلى زوجها إلا بعد زوج، وأما إذا زعمت بعد أن صالحته أنه طلقها ثم أرادت أن تتزوجه قبل زوج، فلا تمكن من ذلك، أو زعمت أنه طلقها بعد أن مات،

(5/451)


فلا يكون لها ميراث. وقد روى زياد بن جعفر عن مالك في المدنية أنها ترثه. وإن مات، وهي ثابتة على قولها، وهو بعيد، وبالله التوفيق.

[مسألة: يفقد أو يغيب فينفق رجل على أهله وولده فيقدم أو يموت في غيبته]
مسألة وقال في الرجل يفقد أو يغيب، فينفق رجل على أهله وولده، فيقدم أو يموت في غيبته، فيعلم أنه قد كان عديما في غيبته، هل يتبعه بما أنفق على أهله وولده؟ فقال: لا يتبعه بما أنفق، قلت: فيرجع بما أنفق على المرأة عليها؟ قال: نعم ولا يتبع الولد بشيء.
قال محمد بن رشد: قوله: إنه لا يتبعه إذا كان عديما بما أنفق على أهله وولده صحيح. على معنى ما في المدونة وغيرها؛ لأنه إذا كان عديما فلا نفقة لابنه عليه، وكذلك الزوجة، وإنما هي بالخيار بين أن تفارقه أو تبقى معه بغير نفقة. وقال: يرجع على المرأة بما أنفق عليها يتبعها به، وإن لم يكن لها مال. قال: لأنها كبيرة مالكة أمر نفسها فلا تذهب نفقته عليها باطلا؛ لأن رضاها بإنفاقه عليها رضى منها باتباعه ذمتها، بخلاف الولد الصغير؛ لأن الولد إذا لم يكن له مال، ولا لأبيه فهو كاليتيم الذي لا مال له، لا شيء لمن أنفق عليه؛ لأن نفقته عليه على وجه الحسبة؛ إذ ليس له أن يوجب في ذمته دينا بغير رضاه ولا برضاه؛ إذ ليس ممن يجوز على نفسه رضاه، وإذا كان له أو لليتيم مال، فللمنفق عليهما أن يرجع بنفقته في أموالهما إذا كانت له بالنفقة بينة، وإن لم يشهد أنه إنما أنفق ليرجع بعد يمينه أنه إنما أنفق عليهما ليرجع في أموالهما لا على وجه الحسبة، وكذلك إذا لم يكن للابن مال، وأبوه موسر؛ لأن يسر الأب في هذا كمال الابن. وروى محمد بن يحيى السبئي عن مالك: أنه ليس له أن يرجع في أموالهما إلا أن يكون قد أشهد أنه إنما ينفق ليرجع في ذلك. وهذا إذا أنفق على اليتيم، وهو يعلم أن له مالا، أو على الابن وهو يعلم أن له مالا، أو أن أباه موسر. وأما إذا أنفق عليهما وهو يظن أنه لا مال لليتيم، ولا للابن، ولا لأبيه، علم أن لهما مال أو أن أب الابن موسر،

(5/452)


فليس له أن يرجع، وقيل: له أن يرجع. والقولان قائمان في المدونة، وبالله التوفيق.

[طلق المريض امرأته النصرانية أو الأمة في حال الحجر ألبتة]
من نوازل سحنون
قال سحنون: إذا طلق المريض امرأته النصرانية أو الأمة في حال الحجر ألبتة، ثم أسلمت أو أعتقت الأمة في العدة، ثم مات، فلا ميراث لهما؛ لأنه لا يتهم فيهما؛ لأنهما ليستا ممن كان الحجر لهما، وإن كان طلاقه لهما واحدة فأسلمت أو أعتقت في العدة، فله الرجعة؛ لأن الرجعة ليست بنكاح الملك، ألا ترى أن المحرم يرتجع ولا يتزوج؟ وإن أسلمت أو أعتقت في العدة ثم مات في العدة ولم يرتجع، فلها الميراث، وإن مات بعد انقضاء العدة ولم يرتجع، فلا ميراث لها. فخذ هذا على هذا الأصل؛ لأنه أصل قولنا، والذي لم يزل عليه أهل المدينة. وروى أصبغ عن ابن القاسم أن لها الميراث. قال أصبغ: لأنه يتهم أن يكون فر بميراثه حتى خشي أن يسلم أو يعتق، فترثه، فلما علم بذلك طلقها ولو أن مريضا تزوج أمة أو نصرانية، لم يجز ذلك وفسخ؛ لأنه يخاف أن تسلم النصرانية وتعتق الأمة، وقاله أصبغ.
قال محمد بن رشد: الظاهر من قوله: ولو أن مريضا تزوج أمة أو نصرانية، إلى آخر قوله، أنه من قول ابن القاسم، ولا إشكال أن ذلك لا يجوز على مذهب ابن القاسم؛ لأنه إذا كان متهما عنده في طلاقهما، فهو لا شك متهم في نكاحهما، وإنما الكلام هل يجوز له نكاحهما على مذهب سحنون الذي لا يتهمه في طلاقهما؟ والصحيح أن ذلك لا يجوز عنده ولا عند غيره؛ لأنه وإن لم يتهمه في نكاحهما، كما لم يتهمه في طلاقهما، فهو يفسخ من جهة فساد الصداق، للغرر الذي فيه بكونه من الثلث، وإذ لا يدري هل يثبت لها ما سمى أو صداق المثل؟ ومن جهة فساد العقد أيضا؛ إذ لا يمكن إيقاف

(5/453)


النكاح حتى ينظر هل يصح أو لا يصح؟ ألا ترى أنهم لم يجيزوا للمريض أن يتزوج في مرضه امرأة قد كان طلقها في ذلك المرض، وإن لم يتهم في توريثها من أجل أنها وارثة، لعلة فساد العقد من هذه الجهة؟ وقد وقع قوله: ولو أن مريضا تزوج أمة أو نصرانية، في بعض الكتب من قول سحنون، وذلك يبين ما ذهبنا إليه أنه لا يخالف ابن القاسم، في أن النكاح لا يجوز، وبالله التوفيق.

[مسألة: قال لامرأته أنت طالق كما قال الله في كتابه]
مسألة وسئل عن رجل قال لامرأته: أنت طالق كما قال الله في كتابه، قال: يلزمه طلاق السنة.
قال محمد بن رشد: وهذا بين على ما قال؛ لأن طلاق السنة هو الذي أمر الله تعالى به، وأرشد له حيث يقول: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق: 1] ، إلى قوله: {لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1] وهو الرجعة وطلاق السنة أن يطلق الرجل امرأته طلقة واحدة في طهر لم يمسها فيه، وبالله التوفيق.

[الحكمين هل يجوز ما فرقا فيه واحدة أو ثلاثا]
من سماع عبد المالك بن الحسن
من أشهب وابن وهب قال عبد المالك: وسئل أشهب وأنا أسمع عن الحكمين هل يجوز ما فرقا فيه واحدة أو ثلاثا؟ قال: إن فرقا واحدة فهي واحدة، وإن فرقا ثلاثا فهي ثلاث.
قال محمد بن رشد: اختلف في الحكمين إذا اختلفا في عدد الطلاق أو اتفق على ما فوق الواحدة على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يلزم من ذلك

(5/454)


واحدة في الوجهين جميعا، وهو الذي في المدونة، والثاني: أنهما إن اتفقا لزم ما اتفقا عليه، وإن اختلفا لزم من ذلك ما اجتمعا عليه، وهو قول ابن القاسم، والثالث: أنهما إن اتفقا لزم ما اتفقا عليه، وإن اختلفا لم يلزم من ذلك شيء، وهو قول أصبغ، فيأتي في اتفاقهما على ما فوق الواحدة قولان: أحدهما: أن ذلك لازم، والثاني: أنه يلزم من ذلك واحدة، وفي اختلافهما إذا حكم أحدهما بواحدة، والثاني بما فوق الواحدة قولان أيضا: أحدهما: أنه يلزم من ذلك واحدة، والثاني: أن ذلك ساقط لا يلزم منه شيء، وفي اختلافهما إذا حكم أحدهما باثنتين، والثاني بثلاثة ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لا يلزم من ذلك شيء، والثاني: أنه يلزم منه واحدة، والثالث: أنه يلزم منه اثنتان. فهذا تلخيص الاختلاف في هذا الباب.

[مسألة: يبيع امرأته هل يكون ذلك طلاقها]
مسألة وسألت ابن وهب عن الذي يبيع امرأته، هل يكون ذلك طلاقها؟ فقال: لا يكون ذلك طلاقا، ولكن إن طاوعته على البيع وأقرت أن مشتريها قد أصابها طائعة، رجمت، وإن زعمت أنه استكرهها برئت من الحد ولم يكن عليها شيء، وفي كتاب الاستبراء من كتاب أسد، قال ابن القاسم: أرى بيعه طلاقا، قال سحنون عن ابن نافع: وتكون طلقة بائنة، قيل لسحنون: غاب عليها المشتري أو لم يغب قال: نعم.
قال محمد بن رشد: هذا الذي ذكر أنه في كتاب الاستبراء من الأسدية لم يقع في المدونة، وقد مضى ما في هذه المسألة من الاختلاف في أول رسم من سماع ابن القاسم، فأغنى ذلك عن إعادته هنا. وقوله: إنها ترجم إن وطئها مشتريها طائعة، خلاف قول ابن القاسم في رسم جاع من كتاب الحدود في القذف، وسيأتي الكلام على ذلك هنالك إن شاء الله، وبالله التوفيق.

(5/455)


[مسألة: يقول لا أجد ما انفق على امرأتي إلا الخبز وحده هل يفرق بينهما]
مسألة وسألته عن الرجل يقول: لا أجد ما انفق على امرأتي إلا الخبز وحده، أترى أن يفرق بينهما إذا أرادت فراقه؟ قال: نعم، إلا أن يكون مع الخبز الكسوة.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما مضى في رسم الأقضية من سماع يحيى، وهو مما لا اختلاف فيه، أن على الرجل نفقة زوجته وكسوتها، بنص قول الله عز وجل: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] ، وأنه يجب أن يفرق بينهما لعجزه عنهما أو عن أحدهما، وأنه لا يفرق بينهما إذا قدر من نفقتها على الخبز، ولو يوما بيوم، غير مادوم، ومن الكسوة ما يشبهها ولا يعرها إذا لبسته. واختلف إذا عجز عن القمح، ولم يقدر إلا على الشعير، وأهل البلد لا يأكلونه، على ما مضى القول فيه في رسم الكبش من سماع يحيى. واختلف أيضا إذا عجز عما يشبهها من الكسوة، فقال في رسم الأقضية من سماع يحيى: إنه لا يفرق بينهما ما وجد ما يواري به جسدها من العري، وقال أشهب في كتاب ابن المواز: وليس له أن يقصر بها عما يشبهها على ما مضى القول فيه في رسم الجواب من سماع عيسى، وبالله التوفيق.

[مسألة: قام بالنفقة ولم يقم بالكسوة]
مسألة وسئل عن الرجل إذا قام بالنفقة ولم يقم بالكسوة، قال: يفرق بينهما.
قلت له: فكم يستانا في الكسوة، إذا قال: أرجو أن يأتي شيء؟ قال: شهرين، قال: وإذا قام بالنفقة لم يعجل عليه في الطلاق.
قلت له: كم يضرب له في الصداق إذا كان يجري النفقة؟

(5/456)


قال: فقال مالك: سنتين أو ثلاثا ورأي ابن وهب ثلاثا.
قال محمد بن رشد: قوله: إذا قام بالنفقة لم يعجل عليه في الطلاق، ويستانا به في الكسوة شهرين، يدل على أنه لا يستانا به في النفقة شهرين، وقد مضى في رسم الجواب من سماع عيسى الاختلاف في قدر ما يتلوم له في النفقة إذا عجز عنها، فلا معنى لإعادة ذلك. وقوله: إنه يضرب له في الصداق إذا كان يجري النفقة السنتين والثلاث، معناه إذا عجز عن الصداق، وأما إذا اتهم بأنه غيب ماله، فلا يوسع له في الأجل. قال ذلك ابن حبيب، إلا أنه جعل حد ما يتلوم له في الصداق إذا عجز عنه واجدا النفقة السنتين قال: ولو عجز عن الصداق والنفقة جميعا لم يوسع عليه في أجل الصداق إلا الأشهر إلى السنة. وهذا إذا طلبته المرأة بالصداق، وتركت أن تطلبه بأجل النفقة والتلوم عليه فيها. قال ذلك محمد بن المواز وهو صحيح، ولو كان له مال ظاهر لحكم عليه بدفع الصداق، وأمر بالبناء على امرأته، وهذا كله قبل الدخول، وأما بعد الدخول فلا يفرق بينهما بعجزه عن الصداق، وهو دين لها تتبعه به متى أيسر قاله مالك في المدونة وغيرها.

[تدعي أن زوجها طلقها ألبتة وقد صالحته ثم أرادت مراجعته قبل زوج]
ومن سماع أصبغ من ابن القاسم
من كتاب الحدود والبيوع
قال أصبغ: سألت ابن القاسم عن المرأة تدعي أن زوجها طلقها ألبتة، وقد صالحته ثم أرادت مراجعته قبل زوج، قال: إن شهد عليها بذلك شاهدان، رأيت أن يمنع من مراجعتها ويجبر على ذلك.
قلت: فإن لم يكن إلا شاهد واحد فأنكرت شهادته أو أقرت، وقالت: إنما كنت كاذبة. قال: إن أقرت بأنها كانت قد قالت ذلك، رأيت أن يمنع أيضا ولا تصدق في قولها: إني كنت كاذبة، فإن

(5/457)


أنكرت شهادته أصلا وزعمت أنها لم تقل من ذلك شيء رأيت أن تستحلف مع شهادة الشاهد، فإن أبت أن تحلف، لم أر أن تمنع من ذلك بحكم، ويخلى بينها وبين ذلك. وقاله أصبغ.
قال محمد بن رشد: أما إذا ادعت بعد أن صالحها وبانت منه، أنه كان طلقها ثلاثا، فلا اختلاف أعلمه في أنها لا تمكن من الرجوع إليه قبل زوج، وقد وقع في كتاب محمد لابن القاسم في الأمة تحت العبد فتختار نفسها، ولا نية لها، ثم تقول بعد ذلك: أردت الثلاث - إنها لا تصدق إذا لم يتبين ذلك عند اختيارها، ويقال لها: إن كنت صادقة فلا تنكحيه إلا بعد زوج، وليتورع هو عنها. والمعنى في ذلك عندي أنه رأى اختيارها نفسها بطلقة واحدة طلاقا رجعيا يكون للزوج عليها الرجعة، ما دامت في العدة إن أعتق على ما مضى له في رسم إن خرجت من سماع عيسى، فلا يصدقها إن أعتق أنها أرادت الثلاث، لاتهامها أنها أرادت قطع الرجعة عليه، واستحب للزوج أن يتورع عنها فلا يراجعها لاحتمال أن تكون صادقة في قولها. وحملها ابن المواز على أنها معارضة لرواية أصبغ. واختار رواية أصبغ، وقال: إنها حجة عليها. وقوله: إنها تستحلف مع شهادة الشاهد، معناه لشهادة الشاهد؛ لأنها لا تحلف معه بما شهد به، وإنما تحلف على تكذيبه بما شهد به عليها أنها قالته. وفي قوله: إنها إن لم تحلف خلي بينها وبين ذلك نظر؛ إذ لا معنى ليمين لا يوجب النكول عنها حكما، فكان القياس إذا أبت اليمين أن تمنع من ذلك. وقد قال في رسم جاع من كتاب النكاح من سماع عيسى: إنه لا يمين عليها بالشاهد الواحد. وقد مضى في سماع سحنون قبل هذا الاختلاف إذا أقرت بذلك وهي في العصمة، وبالله التوفيق.

[يغيب ويحتاج أبواه وامرأته وله مال حاضر فيرفعاه إلى السلطان]
ومن كتاب الكراء والأقضية
قال أصبغ: سألت ابن القاسم عن الذي يغيب ويحتاج أبواه

(5/458)


وامرأته وله مال حاضر، فيرفعاه إلى السلطان، قال: يباع ماله وينفق عليهما. قلت: فإن لم يكن له مال حاضر، أيؤمران أن يتداينا عليه، ويقضى لهما بذلك؟ فقال: أما الزوجة فنعم، وأما الأبوان فلا؛ لأنهما لو لم يرفعوا ذلك حتى يقدم فأقر لهم جميعا بذلك، غرم للمرأة، ولم يكن عليه أن يغرم ذلك للأبوين، وإن أقر لهما؛ لأن المرأة نفقتها عليه موسرة كانت أو معسرة، والمرأة تحاص الغرماء إذا رفعت ذلك، وكان يوم أنفقت موسرا، والأبوان ليسا كذلك، قال أصبغ: فنفقة الأبوين لا تجب إلا بفريضة من السلطان حين يجدهما يستحقانها، ويجد له مالا بعد يعديهما فيه وإلا فلا.
قال محمد بن رشد: قوله: إن مال الغائب يباع في نفقة أبويه هو مثل ما في كتاب إرخاء الستور من المدونة وكان الشيوخ يفتون أن أصول الغائب لا تباع في نفقة أبويه، بخلاف نفقة زوجته، ويتأولون أن المراد بمال الغائب الذي يباع في نفقة أبويه عروضه لا أصوله، والفرق عندهم في ذلك بين نفقة الزوجة ونفقة الأبوين أن نفقة الزوجة واجبة حتى يعلم سقوطها، ونفقة الأبوين، ساقطة حتى يعلم وجوبها بمعرفة حياته، وأنه لا دين عليه يغترق ماله، وقد كان القياس على هذا ألا يباع عليه أيضا عروضه في مغيبه، لاحتمال أن يكون حين الحكم عليه بذلك ميتا وأن يكون عليه دين يغترق عروضه، إلا أن ذلك في العروض استحسان. وبهذا المعنى فرقوا أيضا بين نفقة الزوجة والأبوين، في أن الأبوين لا يفرض لهما النفقة عليه في مغيبه وإن كان موسرا، إذا لم يكن له مال حاضر، ولا يومران أن يتداينا عليه، وإن فعلا لم يلزمه من ذلك شيء، بخلاف الزوجة في ذلك كله، ويلزم على الفرق الذي ذكرناه، لو كانت النفقة فرضت لهما عليه قبل مغيبه، فغاب وترك أصوله أن تباع عليه في نفقتها. وقوله: إن المرأة تحاص الغرماء بما أنفقت من يوم رفعت إذا كان يوم أنفقت موسرا، يدل على أنها لا تحاص إلا في الدين المستحدث، مثل قول

(5/459)


سحنون في رسم باع غلاما من سماع ابن القاسم. وقد مضى بيان ذلك هنالك. وقوله يعديهما فيه، مثله في كتاب ابن المواز، وهو يدل على أنه محمول على العدم حتى يثبت ملاؤه على ما ذهب إليه ابن الهندي خلاف ما ذهب إليه ابن العطار، وبالله التوفيق.

[نزلت به يمين في امرأته فأفتى بأن قد بانت منه]
ومن كتاب النكاح
قال: وسئل ابن القاسم عمن نزلت به يمين في امرأته، فأفتى بأن قد بانت منه، فقال لها: وقال للناس: قد بانت مني، ثم علم أنه لا شيء عليه، قال: لا ينفعه، وأراها قد بانت منه إذا قال ذلك.
قال محمد بن رشد: هذا قول أشهب أيضا، وقد حكى ابن حبيب أنه لا شيء عليه. وقال سحنون في كتاب ابنه: إن قال ذلك على وجه الخبر يخير مما قيل له فلا شيء عليه، وإن قال ذلك يريد الطلاق، طلقت عليه. والذي أقول به في هذا: إنه إن كان الذي أفتى به خطأ مخالفا للإجماع، لا وجه له في الاجتهاد، فلا شيء عليه، وإن كان قول قائل، أو له وجه في الاجتهاد أو مفتيه به من أهل الاجتهاد، فالطلاق له لازم؛ لأن إخباره بذلك التزام منه لفتوى المفتي، فينبغي أن يرد الاختلاف المذكور في المسألة إلى هذا. وهذا كله إذا أتى مستفتيا، وأما إذ أحضرته البينة بقوله لها وللناس: قد بانت مني، ثم ادعى أنه إنما قال ذلك؛ لأنه أفتي أنها قد بانت منه، وهي لم تبن منه ولم يعلم ذلك إلا بقوله، فلا يصدق في ذلك، ويؤخذ بما ظهر من إقراره هو نفسه بالطلاق، ولو كان لما حضرته البينة بقوله: قد بانت مني، وادعى أنه إنما قال ذلك؛ لأنه أفتى به غلطا، أقام البينة على أنه أفتي بذلك، لوجب أن يصدق في أنه قال ذلك كذلك مع يمينه على ذلك، وبالله التوفيق.

[مسألة: يقول لامرأته اذهبي فتزوجي فلا حاجة ل بك]
مسألة وسئل عن الذي يقول لامرأته: اذهبي فتزوجي فلا حاجة لي

(5/460)


بك، قال: إن لم يكن أراد بذلك طلاقا فلا شيء عليه، وقاله أصبغ، وقد قال مالك نحو ذلك.
قال محمد بن رشد: وهذا إذا أتى مستفتيا غير مطلوب، وأما إذا خوصم في قوله وطلب به، فتلزمه اليمين ما أراد بذلك الطلاق؛ لأن الشبهة في قوله: إنه أراد بذلك الطلاق بينة، يبين هذا ما مضى في أول رسم من سماع ابن القاسم، وفي رسم حلف منه، ورسم سن.

[مسألة: قالت له امرأته إن لم تتزوج علي فصداقي عليك صدقة]
مسألة وسئل عن رجل قالت له امرأته: إن لم تتزوج علي فصداقي عليك صدقة، فقبل ذلك منها ثم طلقها، هل ترجع في صداقها ذلك؟ قال: إذا طلقها بحضرة ذلك وحدثانه رجعت عليه، وإن طلقها بعد ذلك بما يرى أنه لم يطلقها، لمكان ذلك وما أشبهه، لم ترجع عليه بشيء، وكذلك بلغني أن مالكا قاله. وقاله أصبغ، وإن كان الطلاق الذي بحدثان ذلك بيمين نزلت لم يتعمد ولم يستأنف مثل يمين قد كان حلف بها قبل ذلك، فحنث فيها عند ذلك، فلا شيء عليه أيضا. قال أصبغ: سئل ابن القاسم، عن رجل قال لامرأته: إن لم تتركي لي صداقك فأنت طالق فتركته ثم طلقها هل ترجع عليه؟ قال: لا ترجع عليه، وليس لها أن ترجع عليه بشيء طلقها بحدثان ذلك أو بعد ذلك، وليست مثل الأولى، ولو شاءت هذه نظرت لنفسها وقاله أصبغ.
قال محمد بن رشد: الفرق بين المسألتين، أنها في المسألة الأولى إنما تصدقت عليه بالصداق، على أن يمسكها ولا يتزوج عليها؛ لأن هذا هو المعنى فيما اشترطت من ألا يتزوج عليها، فإذا طلقها ولم يمسكها، وجب أن ترجع فيما تصدقت به عليه إن لم يف لها بالمعنى الذي تصدق عليه من أجله، وذلك بمنزلة أن يسألها أن تضع عنه صداقها، فتقول له: أخشى إن فعلت أن

(5/461)


تطلقني، فيقول: لا أفعل، فتضع عنه، فيطلقها بفور ذلك، على ما وقع في سماع سحنون، من كتاب جامع البيوع. وأما المسألة الثانية، فإنما هي يمين بالطلاق قد لزمته، لا بد أن يقع عليه إن لم تترك له الصداق، فتركها له الصداق، إنما هو فرار من وقوع تلك اليمين التي حلف بها، فلا شيء لها في طلاقه إياها بعد ذلك، إلا أن تنظر لنفسها فتقول: لا أترك لك الصداق إلا على ألا تطلقني بعد ذلك، وهذا بين، والله أعلم.

[مسألة: النصراني تسلم امرأته هل عليه أن ينفق عليها ما دامت في العدة]
مسألة قال: وسألت ابن القاسم عن النصراني تسلم امرأته، أعليه أن ينفق عليها ما دامت في العدة؟ قال: نعم، هو أحب إلي أن يكون عليه ذلك أن ينفق عليها من يوم تسلم، وقيل: إن يسلم هو؛ لأنه أحق بها ما دامت في العدة، بمنزلة الذي يطلق واحدة، إن عليه أن ينفق عليها ما دامت في عدتها. وهذا ليس يمنعه إلا الإسلام، وإسلامه رجعة، إن أسلم فهي امرأته، فلا رجعة يحدثها، يرثها وترثه، ويكون أولى بها، وإن تركها لا يطلقها حتى تخرج من العدة، فهي امرأته، كما هي على حال ما كانت إذا كان قد أسلم في العدة، وقاله أصبغ كله وبلا مهر، وقد تنزل بالسلطان، فأرسل إلي فقضيت به.
قال محمد بن رشد: قد مضى في رسم باع شاة من سماع عيسى أنه لا نفقة لها، وتكلمت هنالك على توجيه كل واحد من القولين فلا معنى لإعادة ذلك هاهنا.

[مسألة: شهد عليه شاهدان بالبتة فطلق عليه القاضي]
مسألة قال أصبغ: سمعت ابن القاسم يقول فيمن شهد عليه شاهدان بالبتة فطلق عليه القاضي، والرجل يعلم أنهما شهدا عليه

(5/462)


بزور أيتزوجها؟ قال: فيما أعلم، نعم، قال أصبغ: يريد إن خفي له النكاح بغير زوج، وأنا لا أرى ذلك؛ لأنه يلبس بذلك على غيره من الجهال، ولعله ممن يقتدى به، وينظر إليه، ويلبس أحكام الإسلام وحدوده، ويعرض نفسه للسلطان، والسلطان لا يعرف حقيقته، وإنما يأخذ بما ظهر، فلا أراه يسعه ذلك فيما بينه وبين الله، وإن خفي لهذا، ولقد أمر أهل العلم الذي يرى الهلال وحده في الفطر ألا يفطر، وأن يصوم وهو يعلم أنه يوم الفطر. وقد نهى الرسول - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عن صيامه لهذا وأشباهه وهو قول أهل العلم من السلف وغيرهم، فيه مجتمع عليه بذلك، فكذلك الأول وأشد وأحرى.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأنه لا شيء عليه في تزويجها قبل زوج إذا علم أن الشاهدين إنما شهدا عليه بزور، من وجه تعريض نفسه للتهمة وعقوبة السلطان، والإلباس على الناس، إذا كان ممن يقتدى به؛ لأن حكم الحاكم بالظاهر لا يحيل الأمر عما هو عليه في الباطن عند من علمه، والأصل في ذلك قول الله عز وجل: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} [البقرة: 188] ، الآية، وهو قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض» الحديث. ويأتي على مذهب أهل العراق، الذين يرون حكم الحاكم بالطلاق طلاقا في الظاهر والباطن، وأن الرجل إذا علم أن الإمام طلق على الرجل زوجته بشهادة زور، يجوز له أن يتزوجها - أنه لا يحل له أن يتزوجها قبل زوج وإن خفي له ذلك، وأمن من عقوبة السلطان. وأما قوله في الذي يرى هلال شوال وحده: إن أهل العلم أمروه ألا يفطر وأن يصوم لهذا المعنى، فهو مثل ما في الموطأ، والمدونة، وسماع أبي زيد من كتاب الصيام.

(5/463)


واستحب ابن حبيب أن ينوي الفطر. وقد نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن صيامه لهذا وأشباهه، ولا يظهره، والصواب أن هذا هو الواجب عليه أن يفعله، وإن كان مخالفا لظاهر الروايات؛ لأن الصوم من أفعال القلوب، فلا يحل له أن ينوي الصوم وهو يعلم أن ذلك عليه حرام، وبالله التوفيق.

[مسألة: يطلق امرأته وهي حائض ولا تعلم ولا يرتجع حتى تطهر من الحيضة فيطلقها]
مسألة وسئل ابن القاسم عن الذي يطلق امرأته وهي حائض ولا تعلم، ولا يرتجع حتى تطهر من الحيضة، فيطلقها وهي حائض طاهر منها، ثم تعلم به، أيجبر على الرجعة؟ قال: نعم، يجبر على الرجعة ما لم تنقض العدة من الطلاق الأول، ثلاث حيض، إلا أن يكون قد ارتجع بعد طلاقه إياها وهي حائض، ثم طلقها بعد ذلك وهي طاهر حين طهرت فيها أو من بعد ذلك، فهذا لا يجبر على الرجعة ولا رجعة عليه، قيل لابن القاسم: أرأيت إذا قال: لا أرتجع، ما يصنع به السلطان؟ قال: يجبره. قلت لابن القاسم: وكيف ذلك الإجبار؟ أيقضي عليه بالرجعة ويشهد على القضية عليه بذلك، وتكون رجعة، وتكون امرأته بتلك الرجعة أبدا حتى إن خرجت من العدة وماتا توارثا، إلا أن يحدث طلاقا بعد ذلك؟ قال: نعم.
قال محمد بن رشد: قوله: إن المطلق في الحيض يجبر على الرجعة وإن طلقها بعد أن طهرت من تلك الحيضة صحيح، بين في المعنى؛ لأن هذه الطلقة الثانية لا عدة لها ولا تهدم عدة الطلاق الأول، فوجب أن يجبر على الرجعة ما لم تنقض العدة على مذهب ابن القاسم، أو ما لم تطهر من الحيضة الثانية على مذهب أشهب، وقال: إنه إن أبى الرجعة يجبر عليها، والإجبار يكون بأن يقضي عليه بها، ويشهد على القضية، فظاهر هذا أنه لا يضرب ولا يسجن، خلاف ما حكى ابن المواز عن ابن القاسم وأشهب أنه يهدد، فإن أبى سجن، فإن أبى ضرب، ويكون ذلك كله في موضع واحد؛ لأنه مقيم على

(5/464)


معصيته، فإن أبى قضي عليه بالرجعة، وألزم إياها. واختلف إذا قضي عليه بها، وألزم إياها كارها ولا نية له في ارتجاعها، هل يجور له وطؤها أم لا؟ فقيل ذلك له جائز؛ لأنها ترجع إلى عصمته بالحكم، وإن كان لذلك كارها كالسيد يجبر عبده على النكاح، فيجوز له الوطء، وقيل: لا يجوز له أن يستمتع بشيء منها، إلا أن ينوي مراجعتها، والأول أظهر. والله أعلم، وبه التوفيق.

[مسألة: ادعت أنه طلقها وهي حائض وينكر الزوج ذلك]
مسألة قلت له: أرأيت إذا ادعت أنه طلقها وهي حائض، وينكر الزوج ذلك، ويزعم أنه طلقها وهي طاهر؟ قال ابن القاسم: القول قول الزوج.
قال محمد بن رشد: قد روي عن ابن القاسم: أن القول قول المرأة، ويجبر على الرجعة، وهو قول سحنون. وجه هذا أن المرأة مصدقة في الحيض وموتمنة عليه. ووجه القول الأول أنها مدعية على الزوج ما يوجب لها الرجوع إلى عصمته من طلاقه إياها في حال لا يجوز له، وبالله التوفيق.

[النصرانية تسلم تحت النصراني ثم يسلم زوجها بعدها فيريد رجعتها]
من نوازل سئل عنها أصبغ قال أصبغ: سمعت ابن القاسم يقول في النصرانية تسلم تحت النصراني، ثم يسلم زوجها بعدها، فيريد رجعتها، فتزعم أنها حاضت ثلاث حيض بعد إسلامها، وأن إسلامها كان منذ أكثر من أربعين يوما لما يحاض في مثل ذلك، ويزعم الزوج أن إسلامها منذ عشرين ليلة، لما لا يحاض في مثله ثلاث حيض، إن الزوج مصدق، والقول قوله؛ لأنها مدعية عليه، لتمنعه الرجعة، بمنزلة الذي يطلق امرأته واحدة، ثم يريد رجعتها، ويقول: إنما طلقتها

(5/465)


أمس وتقول هي بل طلقتني منذ شهرين، وقد حضت ثلاث حيض، فالقول قول الزوج.
قال محمد بن رشد: قول أصبغ هذا على خلاف أصله في نوازله من كتاب العيوب، في الرجل يشتري العبد، فيحدث به بعد الشراء بمدة برص أو جذام، فيدعي أن العهدة لم تنقض وأن ابتياعه إنما كان منذ ستة أشهر، ويقول البائع: بل بعتكه منذ عام أو عامين، إن القول قول البائع؛ لأن المبتاع مدع يريد رد العبد على ما روى عنه عبد الأعلى إن القول قول المبتاع، ويرد العبد، وهو مذهب سحنون. قال: القول قول البائع، خلاف مما أجمع عليه أصحابنا في التمييز بين المدعي والمدعى عليه، ومن لزمته العهدة، فادعى أنها قد انقضت فهو المدعي، وعليه إقامة البينة؛ لأن دعوى انقضاء العدة كدعوى انقضاء العهدة، يدخل فيها من الاختلاف ما يدخل في دعوى انقضاء العهدة، وبالله التوفيق.

[مسألة: قال لامرأته أنت طالق ألبتة إن كنت حائض قالت أنا حائض]
مسألة قال أصبغ في رجل قال لامرأته: أنت طالق ألبتة إن كنت حائض قالت: أنا حائض، قال: أرى أن يخلي سبيلها، وأن الطلاق قد وقع عليها، ولو قالت: لست بحائض، لم أر أن يصدقها ولا يقبل منها، ولا ينتفع بذلك، وليخل سبيلها؛ لأن ذلك شك لا يدري ما هو عليه منها أصادقة هي أم كاذبة؟ فلا يقيم على الشك، إلا أن ينكشف له ذلك بأسباب يقبل عملها ويقع على يقينها به.
قال محمد بن رشد: قوله: فلا يقيم على الشك، يريد ويفرق بينهما بالحكم، هذا مذهب أصبغ فيما كان من هذا النوع مما يحلف الحالف فيه على غيره فيما قد مضى، فيكون الشك فيه قائما؛ إذ لا يعلم حقيقته إلا من جهته،

(5/466)


ولا يدري هل صدقه؟ مثل أن يقول امرأتي طالق إن كنت تبغضني أو إن لم تصدقني فتقول: أنا أحبك، ويخبره، ويزعم أنه قد صدقه وما أشبه ذلك. وابن القاسم يرى في مثل هذا أنه يؤمر ولا يجبر. وقد مضى هذا المعنى في رسم القطعان من سماع عيسى.

[مسألة: صالح امرأته على أن ترضع ولده سنة]
مسألة وسئل أصبغ عن رجل صالح امرأته على أن ترضع ولده سنة، فإن أبت أن ترضعه، فله عليها عشرة دنانير. قال أصبغ: أرى صلحهما على ما وقع وهي بالخيار، وليس هذا من عمل المسلمين، ولا بجميل، وله شرطه.
قال محمد بن رشد: هذا من قول أصبغ على أصله، في أن الصلح بالحرام يمضي، ولا يفسخ؛ لأنه صلح بحرام؛ لأنها قد ملكت بضعها على أنها بالخيار في شيئين، يجوز تحويل أحدهما في الآخر لأنه دين بدين، وذلك حرام. ألا ترى أنه لو استأجرها على رضاع ابنه سنة يعرض دفعه إليها، على أنها بالخيار بين أن ترضعه السنة أو تدفع إليه عشرة دنانير؟ لم يجز، وكان ذلك حراما؛ لأنها إن أرضعته فقد فسخت العشرة التي ملكت فيها في الرضاع؛ فكان ذلك دينا بدين، والذي يأتي على قول الجمهور في هذه المسألة، أن يفسخ الصلح ويمضي الطلاق ولا يكون عليها شيء، أو يكون عليها خلع مثلها على ما مضى من تحصيل القول في ذلك في رسم حلف من سماع ابن القاسم، وبالله التوفيق.

[عترض عن امرأته فضرب له أجل سنة]
من سماع أبي زيد بن أبي الغمر من عبد الرحمن بن القاسم قال أبو زيد: قال ابن القاسم: في رجل اعترض عن امرأته، فضرب له أجل سنة، فلما جاءت السنة قالت: لا تطلقوني وأنا أتركه إلى أجل آخر، قال: ذلك لها ثم تطلق متى شاءت بغير أمر

(5/467)


السلطان، وكذلك الذي يحلف بالطلاق، ليقضين فلانا حقه، فرفعت أمرها، أنه يوقف عن امرأته، فإذا جاءت أربعة أشهر، قيل له: وإلا طلقها عليك، فتقول امرأته: لا تطلقوني وأنا أنظره شهرين أو ثلاثة، لعله يقضيه، قال: فذلك لها أن تطلق متى شاءت بغير أمر السلطان.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: إن لها أن تطلق متى شاءت، ومعناه بعد الأجل الذي أنظرته إليه؛ لأن الطلاق على المعترض عن امرأته بعد السنة، وعلى المولي بعد الأربعة أشهر ليس بلازم، وإنما هو حق لها على الزوج في ألا يزاد على أحد هذين الأجلين شيئا، فإن رضيت هي بأن تزيده على أحدهما كان ذلك لها، ولا يبطل بذلك ما وجب لها من الحق في أن تطلق نفسها عند الأجل. وقد قال أصبغ: بعد أن تحلف ما كان تركها له عند الأجل الأول تركا للأبد، ولا رِضًى منها بالإقامة عليه على ذلك الارتجاع فيه، وتنظر، ولترى رأيها، وذلك بعيد؛ لأنها إذا قالت: أنا أنظره إلى أجل كذا وكذا، فقد بينت أنها على حقها عند الأجل الذي أنظرته إليه، فلا وجه ليمينها، وإنما يختلف لو تركته بعد وجوب القضاء لها، بمضي الأجل شهرا أو شهرين، ثم أرادت أن تطلق عليه، وقالت: إنما أقمت متلومة عليه، فقال مالك في رواية ابن القاسم عنه: ذلك لها، واختلف قوله في يمينها على ذلك. وقال ابن وهب في سماع يحيى من كتاب التخيير والتمليك، وأشهب في سماع عبد المالك منه: ليس ذلك لها، وقد سقط ما كان بيدها، وبالله التوفيق.

[مسألة: المعترض عنها زوجها فترفع ذلك إلى السلطان]
مسألة وقال مالك: في المعترض عنها زوجها فترفع ذلك إلى السلطان، إنها إن رفعت ذلك وزوجها مريض، لم يضرب له أجل حتى يصح، وإن ضرب له أجل وهو صحيح فمرض بعد ذلك، لم يزد شيئا على السنة لما أصابه فيها من المرض.

(5/468)


قال محمد بن رشد: قد تقدمت هذه المسألة والقول فيها مستوفى في رسم الطلاق من سماع يحيى فلا معنى لإعادته.

[مسألة: الحصور الذي لا يقدر على المسيس هل يضرب له أجل المعترض]
مسألة وسئل ابن القاسم عن الحصور الذي لا يقدر على المسيس، إنما معه مثل التالولة، هل يضرب له أجل المعترض، وهو لا يطمع له بوطء، قال: يطلق عليه مكانه وهو بمنزلة الخصي.
قال محمد بن رشد: وهذا بين على ما قال؛ لأن الأجل إنما يضرب للمعترض، رجاء أن يتداوى فيطلق من اعتراضه، ويلم بأهله، فإذا لم يكن في ذلك رجاء، لم يكن لضرب الأجل معنى.

[مسألة: لا يجد ما ينفق على امرأته فيتلوم له ثم يجاب]
مسألة قال ابن القاسم: في الذي لا يجد ما ينفق على امرأته، فيتلوم له، ثم يجاب، فيطلق عليه بعد التلوم، فتقول امرأته: لا تطلقوني عسى الله أن يرزقه، فتمكث أياما ثم تجيء، فتقول: طلقوني عليه. قال: ليس ذلك لها، ولا يعجل عليه ويتلوم له أيضا ثانية.
قال محمد بن رشد: قال في هذه المسألة: إن الطلاق لا يعجل عليه، ويتلوم له أيضا ثانية. وقال في أول السماع في امرأة المعترض والمولي إذا أنظرتاه بعد الأجل الواجب في ذلك، إلى أجل آخر، إن لهما أن يطلقا عند الأجل الذي أنظرتاه إليه، ولا يستأنف لهما في ذلك ضرب أجل آخر، والفرق بين الموضعين، أن الأجل للمعترض والمولي سنة متبعة، لا مدخل للاجتهاد فيها، فإذا حكم بها ووجب للمرأة القضاء بتمام الأجل، لم ينتقض الحكم الماضي بتأخير المرأة ما وجب لها من الحق إلى أجل آخر، والتلوم للعاجز عن النفقة ليس فيه حد محدود، ولا سنة متبعة، وإنما فيه الاجتهاد من العلماء، فإذا رضيت بالمقام معه بعد أن تلوم له، بطل ذلك التلوم، ووجب ألا تطلق عليه إذا قامت ثانية إلا بعد تلوم آخر، وبالله التوفيق.

(5/469)


[مسألة: طلق امرأته وهي حامل ثم مات]
مسألة وقال في رجل طلق امرأته وهي حامل، ثم مات: إن لها السكنى لا نفقة لها؛ لأن السكنى أوكد من النفقة.
قال محمد بن رشد: يريد أنه يطلقها ثلاثا أو طلقة بائنة، ولا مسكن له ثم مات وهي حامل، فرأى أن السكنى قد وجب لها في مال الزوج بالطلاق قبل الوفاة، ولا تسقط بموته، كما تسقط النفقة، وهو مذهب ابن القاسم في المدونة، قال هاهنا: لأن السكنى أوكد من النفقة، وإنما قال: إنه أوكد من النفقة، من أجل أن المتوفى عنها زوجها وهى حامل يكون لها السكنى إن كانت الدار للميت، أو كان قد نفد كراؤها إن كانت بكرا، ولا نفقة لها، فليست بحجة بينة؛ إذ لم يتكلم على أن الدار للميت. والصواب أن السكنى تسقط كما تسقط النفقة، كما أنه إذا مات ولم يطلق، لا يجب لها في لماله سكنى ولا نفقة، وهي رواية ابن نافع عن مالك في المدونة، وإجماعهم على أن النفقة تسقط بالموت حجة على أن السكنى يسقط بالموت أيضا؛ إذ لم يجب جميعه في ماله بالطلاق، وإنما يجب عليه شيئا بعد شيء، فما لم يأت منه لم يجب عليه بعد، ولا تقرر في ذمته، بدليل أنه لو أعسر في حياته، لسقط عنه السكنى، فوجب أن يسقط عنه بموته، كما تسقط عنه النفقة بموته، وكذلك قال يحيى بن عمر: إن السكنى ينقطع بموته، كما تنقطع النفقة، ففي جعل ابن القاسم جميع الكراء متقررا في ذمته بالطلاق، وهو لم يأت بعد نظر، فرواية ابن نافع عن مالك، هي التي يوجبها النظر، ولو كان الطلاق رجعيا لم يختلف في أن السكنى تسقط، كما تسقط النفقة؛ لأن المرأة ترجع إلى عدة الوفاة إذا مات زوجها وهي في العدة من الطلاق الرجعي، والمعتدة من الوفاة لا سكنى لها في مال الميت، إذا لم تكن معه في مسكن يملكه، ولا إذا إكراه، وكذلك لو كان المسكن للميت فطلقها ثلاثا وهي حامل، ثم مات، لسقط السكنى أيضا على قياس رواية ابن نافع عن مالك في المدونة، ولا يسقط على مذهب ابن القاسم، ولو قال قائل: إنه لم يتكلم في رواية أبي زيد إلا على أن المسكن

(5/470)


للميت بدليل قوله: لأن السكنى أوكد من النفقة؛ إذ لا يكون السكنى أوكد من النفقة إلا إذا كانت الدار للميت، ويقام تعليله، إن المسكن إذا لم يكن للميت يسقط السكنى عنه كما تسقط النفقة لكان تأويلا ظاهرا، يؤيده أن ذلك منصوص لابن القاسم في المدنية قال فيها: إن كانت الدار للميت أو كانت بكرا فنفد الكراء لم يسقط حقها في السكنى بموته، وإن لم تكن الدار للميت سقط حقها في السكنى بموته، ولم يجب لها في ماله شيء، ويتحصل في المسألة على هذا ثلاثة أقوال: أحدها: أن السكنى يسقط كما تسقط النفقة، كانت الدار للميت أو لم تكن، وهو الصحيح في القياس الذي يأتي على قياس رواية ابن نافع عن مالك، والثاني: أنه لا يسقط، كانت الدار للميت أو لم تكن، وهو مذهب ابن القاسم في المدونة؛ لأنه إذا لم يسقط حقها إذا لم تكن الدار للميت، فأحرى ألا يسقط إذا كانت الدار للميت، والثالث: أنه يسقط إذا لم تكن الدار للميت، ولا يسقط إذا كانت الدار له، وهو نص قول ابن القاسم في المدنية والذي يقوم من هذه الرواية على هذا التأويل.

[مسألة: تفسير المفقود]
مسألة وسئل عن تفسير المفقود فقال: هو الذي يعمى أمده، وينقطع خبره، ولا يدرى البلد الذي هو به. قال مالك: ولو عرف البلد الذي نزع إليه وغاب خبره كان مفقودا.
قال محمد بن رشد: قد مضى هذا المعنى في رسم سلعة سماها من سماع ابن القاسم، ومضى في أول سماع أشهب، وفي رسم أسلم من سماع عيسى وفي غيره من المواضع جمل كافية من أحكام المفقود، فلا معنى لإعادة ذلك، وبالله التوفيق.

[مسألة: النصرانية يطلقها زوجها النصراني فتحيض حيضة فيتزوجها مسلم]
مسألة وقال في النصرانية يطلقها زوجها النصراني فتحيض حيضة

(5/471)


فيتزوجها مسلم، قال: لا أفسخ نكاحه ذلك، دخل بها أو لم يدخل؛ لأن مالكا قد كان يقول قديما تجزيها حيضة.
قال محمد بن رشد: قوله: لأن مالكا قد كان يقول قديما تجزيها حيضة، يدل على أن الذي رجع إليه أنه لا يجزيها، إذا أراد المسلم أن يتزوجها إلا ثلاث حيض، وهو الذي في المدونة، فعلى قوله فيها يفسخ النكاح إن تزوجها قبل ثلاث حيض، وهو قول ابن وهب في كتاب ابن المواز وهذا الاختلاف يدخل في المعنى في النصرانية يطلقها المسلم؛ لأن الأصل في اختلافهم في الكفار، هل هم مخاطبون بشرائع الإسلام أم لا؟ فعلى القول بأنهم مخاطبون بشرائع الإسلام، لا يجوز للمسلم أن يتزوجها إذا طلقها زوجها، مسلما كان أو نصرانيا إلا بعد ثلاث حيض، وتمنع من نكاح نصراني إذا طلقها مسلم إلا بعد ثلاث حيض، وعلى القول بأنهم غير مخاطبين بشرائع الإسلام، يكتفى في ذلك كله بحيضة، على القول بأن الحيضة الواحدة هي للاستبراء، والاثنتان عبادة لغير علة، وكذلك المجوسية إذا أسلم زوجها فأبت الإسلام، يدخل فيها هذا الاختلاف، وهو موجود أيضا. حكى ابن المواز عن ابن القاسم من رواية أبي زيد عنه أنها تستبري نفسها بالحيضة. وقال أحمد بن ميسر: بثلاث حيض؛ لأنها عدة من مسلم. ذكره ابن حارث. فيتحصل في الكتابية إذا مات عنها زوجها المسلم، وقد دخل بها ثلاثة أقوال: أحدها: أنها تعتد بأربعة أشهر وعشر، وهو أحد قولي مالك، على القول بأن الكفار مخاطبون بشرائع الإسلام، والثاني: أنها تعتد بثلاث حيض، وهو قول مالك الثاني، على القول بأن الكفار غير مخاطبين بشرائع الإسلام، وأن الثلاث حيض كلها استبراء، والثالث: أنها تعتد بحيضة واحدة، على القول بأن الكفار غير مخاطبين بشرائع الإسلام، وأن الحيضة الواحدة استبراء، والاثنتان تعبد ولا يجب عليها في الوفاة قبل الدخول عدة، على القول بأن الكفار غير مخاطبين بشرائع الإسلام. وقد حكى هذا القول عن مالك ابن الجلاب.

(5/472)


[مسألة: اغتصب امرأة فحملت منه]
مسألة وقال: في رجل اغتصب امرأة فحملت منه، قال: لا يطأها زوجها حتى تضع، قيل له: فإن قال زوجها لا حاجة لي بامرأة اغتصبت، هي طالق ألبتة، قال: لا بد من الثلاث حيض بعد الوضع. قال: ولو لم تحمل من المغتصب، ثم طلقها زوجها حين اغتصبت، قال: فثلاث حيض تكفيها لهما جميعا من طلاق الزوج، ومن استبراء الماء الفاسد الذي للغاصب.
قال محمد بن رشد: قوله: إن الحامل من زنى لا يجوز لزوجها أن يطأها صحيح لا اختلاف فيه؛ لأن النهي الشديد قد جاء في ذلك عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، روي عنه أنه قال: وقد رأى امرأة عند خباء أو فسطاط، يريد حاملا، والله أعلم: «لعل صاحب هذه أن يلم بها، لقد هممت أن ألعنه لعنة تدخل معه في قبره، كيف يورثه وهو لا يحل له؟ وكيف يسترقه وهو لا يحل له» ، وفي حديث آخر: «ويحه، أيورثه وهو ليس منه؟ أو يستعبده، وقد عداه في سمعه وبصره» ، فإذا وطئ الرجل أمته وهي حامل من غيره أدب، إلا أن يعذر لجهالة، ولا اختلاف في هذا، وإنما اختلف هل له أن يباشرها أو يقبلها أم لا؟ على قولين، الصحيح منهما، أن ذلك لا يجوز له، وهو قول مالك، ومن أهل العلم من يوجب على الرجل إذا وطئ أمته وهي حامل من غيره عتق ما في بطنها، من أجل أنه قد عداه في سمعه وبصره، كما جاء في الحديث، ويرى الحكم عليه بذلك، وهو قول الليث بن سعد، ومنهم من لا يرى الحكم عليه بذلك، ويستحب له أن يفعله، وهو دليل قول مالك في الواضحة ونص قول ابن حبيب فيها، وقد قيل: إنه إنما يستحب له أن يعتقه لاحتمال أن يكون ما ظهر بها من حمل ليس بحمل، فلما وطئها حملت منه، فعلى هذا التأويل لا يستحب له عتقه إلا إذا ولدته لما يلحق به الأنساب

(5/473)


من يوم وطئها، ومن أهل العلم من يريد أنه يثبت نسب الحمل منه بوطئها وهي حامل، فيكون ابنا له وللذي كان الحمل منه، وهو شذوذ يرده قوله في الحديث: «أيورثه وليس منه» ؟ . وكذلك قوله: إن طلقها وهي حامل، فلا بد من ثلاث حيض بعد الوضع صحيح أيضا، لا اختلاف فيه؛ لأن الحمل يمنع من الحيض، كما يمنع منه الرضاع، فوجب ألا يحل إلا بثلاث حيض بعد الوضع، كما لا تحل المطلقة وهي ترضع ولا تحيض إلا بثلاث حيض بعد الرضاع، وكذلك لا اختلاف أعلمه في المذهب أنه إذا طلقها بعد أن زنت قبل أن يستبريها، ولا حمل بها، يدخل الاستبراء في العدة، وإذا كان مالك يقول في التي تتزوج في عدتها ويدخل بها الزوج، إنه يجزي من الزوجين جميعا ثلاث حيض من يوم دخل بها الزوج الثاني، فهذا أحرى.

[مسألة: تطلق وهي ترضع]
مسألة وقال: في التي تطلق وهي ترضع، قال: ثلاث حيض لا بد منهن، وإن أقامت سنين ترضع؛ لأن التي ترضع لا تكاد تحيض.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وقد مضى القول على هذه المسألة، وما يتعلق بها في رسم سلعة سماها من سماع ابن القاسم، وفي رسم الطلاق من سماع أشهب، وفي رسم استأذن من سماع عيسى، وفي غيرها من المواضع فلا معنى لإعادته.

[مسألة: هلك وترك دارا وعليه دين]
مسألة وقال ابن القاسم: في رجل هلك وترك دارا وعليه دين، قال: تباع الدار ويشترط لامرأته سكناها حتى تنقضي عدتها، قيل له: أرأيت إذا بيعت على ذلك، فلما مضى أربعة أشهر وعشر، ارتابت، أترى لها السكنى حتى تخرج من الريبة؟ قال: نعم، وإنما هي مصيبة نزلت به. قال سحنون: وإن مضت الريبة إلى خمس

(5/474)


سنين؛ لأن المبتاع قد علم أن أقصى العدة خمس سنين، فكأنه يقدم على العلم منه.
قال محمد بن رشد: قد روي عن سحنون، أنها إن ارتاب المرأة كان المشتري بالخيار، بين أن يفسخ البيع عن نفسه، أو يتماسك به على ألا يرد عليه البائع شيئا، ومثله في الواضحة وإياه اختار محمد بن المواز قال: لأن البيع إنما يقع على استثناء العدة المعروفة، ولو وقع البيع بشرط الاسترابة، كان فاسدا، واعترض ذلك أبو إسحاق التونسي، فقال: إذا كان البيع بشرط الاسترابة لا يجوز؛ إذ لا يدرى أيكون سنة أو خمس سنين؟ فأما إذا ملك الخيار في الأخذ أو الرد، كان أخذه على أن يسكن المرأة إلى انقضاء ريبتها، كابتداء الشراء على ذلك، إلا أن يكون هذا القول على أحد التأويلين فيمن خير بين شيئين فاختار أحدهما لا يعد كأنه أخذ ما ترك، ففسخه في الذي أخذ، ولا أدري ما معنى قول أبي إسحاق إن ذلك إنما يتخرج على أحد التأويلين في المسألة التي ذكر؛ إذ لا اختلاف أحفظه فيها، كما لا اختلاف في أنه لا يجوز أن يبيع الرجل سلعة بعشرة نقدا أو خمسة عشر إلى أجل، على أن البيع لازم له بأخذ الثمنين، أيهما شاء، وإنما يتخرج جواز ذلك على القول بأن من اشترى سلعا فاستحق منها جلها على العدد، فله أن يتماسك بما بقي منها بما ينوبه من الثمن، وإن كان مجهولا لا يعرف إلا بعد التقويم، ويحتمل أن يكون معنى قول محمد بن المواز: إنه مخير بين أن يرد البيع أو يتماسك به، على أنه بالخيار في الرد له، ما لم تنقضِ الريبة، لا على أنه يتماسك به، على أن البيع لازم له، طالت الريبة أم قصرت. وهذا أولى ما حمل عليه قوله: وقال محمد بن عبد الحكم لا يجوز البيع على شرط سكنى المرأة عدتها، ويفسخ لأنه غرر وخطر، وبالله التوفيق.

[مسألة: الجارية تباع وهي ترضع بكم تستبرأ]
مسألة وقال في الجارية تباع وهي ترضع بكم تستبرأ؟ قال: بثلاثة

(5/475)


أشهر، قيل له: فإن طلقها زوجها، قال: بحيضتين قبل الرضاع، قيل له: فإن توفي عنها زوجها، قال: شهرين وخمس ليال، وإن لم تحض إلا أن تستريب، قال: وإذا بيعت الأمة وهي ترضع، فمنعها ذلك من الحيضة، فثلاثة أشهر.
قال محمد بن رشد: الفرق بين أن تباع الأمة وهي ترضع، أو تطلق وهي ترضع، أن الحيضتين للأمة في الطلاق عبادة، فلا تنتقل عنها إلا إلى الأشهر، إلا أن تكون من الآيسات، لقول الله عز وجل: {وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ} [الطلاق: 4] ، والمرضع ليست من الآيسات، ولا من المرتابات، إذا علم السبب الذي من أجله تأخر الحيض عنها، وأن الحيضة في الأمة المبيعة ليست بعبادة، وإنما هي استبراء، ليعلم بها براءة رحمها، وبراءة رحمها يعلم بالثلاثة أشهر؛ إذ قد علم أن الحيض لم يتأخر عنها لريبة، وإنما تأخر بسبب الرضاع، وأما قوله في التي توفي عنها زوجها وهي ترضع، إنها تعتد بشهرين وخمس ليال وإن لم تحض، إلا أن تستريب، فالريبة إنما تكون هاهنا بحس تجده في بطنها، فإن وجدت ذلك فلا تحل حتى تذهب تلك الريبة عنها، وتبلغ إلى أقصى أمد الحمل، وأما إن لم تسترب، فتنقضي عدتها التي فرض الله عليها بالشهرين وخمس ليال، كما قال: فيسقط عنها الإحداد، ويسقط حقها في السكنى، إلا أنها لا تتزوج إن كانت مدخولا بها حتى يمر بها ثلاثة أشهر، فيعلم أنها لا حمل بها؛ لأن الحمل لا يتبين في أقل من ثلاثة أشهر، وبالله التوفيق.

[مسألة: له زوجتان سلامة وميمونة فقال لسلامة أنت طالق يوم أطلق ميمونة]
مسألة وقال: في رجل كانت له زوجتان: سلامة، وميمونة، فقال لسلامة: أنت طالق يوم أطلق ميمونة، ثم قال لميمونة: أنت طالق

(5/476)


يوم أطلق سلامة، فقال: أيتهما طلق أولا فإنه يقع عليها تطليقتان، وعلى صاحبتها تطليقة.
قال محمد بن رشد: وهذا بين على ما قال؛ لأنه إذا قال لسلامة: أنت طالق يوم أطلق ميمونة، فطلق ميمونة، وكان بطلاقه إياها قد طلق سلامة، ولما كان طلاق سلامة بطلاقه ميمونة، وقع الطلاق على ميمونة، لقوله لها: أنت طالق يوم أطلق سلامة، وكذلك إن بدأ بسلامة فطلقها، كان بطلاقه إياها قد طلق ميمونة، ولما طلق ميمونة بطلاقه سلامة، وقع الطلاق على سلامة لقوله لها: أنت طالق يوم أطلق ميمونة، فهذا ما لا إشكال فيه، والمسألة متكررة في رسم يوصي من سماع عيسى من كتاب الأيمان بالطلاق، وبالله التوفيق.

[مسألة: قال لامرأته أنت طالق إن استكملت في هذا البيت سنة]
مسألة وقال في رجل قال لامرأته: أنت طالق إن استكملت في هذا البيت سنة أو سكنته سنة، فسكنته أحد عشر شهرا، ثم انتقلت منه، فأقامت أشهرا، ثم رجعت إليه فسكنه سنة، أو أكثر، قال: لا حنث عليه، إلا أن تكون أقامت سنة مستقبلة من يوم حلف.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة أنه حلف على امرأته بهذه اليمين، والمرأة ساكنة في البيت، فحمل يمينه على أنه أراد ألا يتمادى في سكناه سنة، فجعل السنة التي حلف عليها تتعين من يوم اليمين، لكونها ساكنة في البيت يوم اليمين، ولذلك قال: إنها إن سكنته أحد عشر شهرا ثم انتقلت عنه ثم عادت إليه فسكنته سنة، إنه لا حنث عليه. وعلى هذا التأويل، ساوى بين أن يقول: إن استكملت أو إن سكنت، ولو لم تكن ساكنة في البيت يوم اليمين، فقال لها: أنت طالق إن سكنت بيت كذا سنة، أو إن استكملت السكنى في بيت كذا سنة، لوجب أن يحنث متى ما سكنت فيه سنة متصلة أو مفترقة؛ لأنه نكر السنة التي حلف عليها بقوله: سنة فلم يعينها، ولا عرفها

(5/477)


بتسميته ولا بإشارة إليها. فكان كمن حلف ليصومن سنة كاملة. أو أن لا يصوم سنة كاملة، فحنث، إنه يبر إن حلف ليصومن سنة كاملة، بصيام سنة مفترقة، ولا يحنث إن حلف ألا يصوم سنة كاملة، إلا بتمام صيام سنة كاملة متصلة أو مفترقة، إلا أن ينوي صلاة متصلة على مذهبه في المدونة أن من نذر أن يصوم، أنه لا يلزمه صيامها متتابعة، إلا أن ينوي ذلك، خلاف ما ذهب إليه ابن حبيب في ذلك، وإنما تعين السنة بلفظ النكرة في الكراء خاصة، من أجل أن الكراء لا يجوز على سنة غير معينة، فإذا قال الرجل للرجل: أكريك الدار سنة، تعينت السنة من يومئذ لهذه العلة، وبالله التوفيق.

[مسألة: حلف بالطلاق أنه لا يأتي أهله نهارا]
مسألة وقال: في رجل حلف بالطلاق، أنه لا يأتي أهله نهارا، قال: لا شيء عليه، قيل له: فإن حلف ألا يبيت عند امرأته أبدا، وقال: أنا آتي بالنهار، قال: ذلك له، ولا أبلغ به إن أطلق، وقال: قبل ذلك يتلوم له، فإن أبى طلق عليه.
قلت: أرأيت إن كانت عنده امرأتان، فكان يبيت عند إحداهما ولا يبيت عند الأخرى قال: لا تطلق عليه.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن الله عز وجل جعل الليل سكنا ليسكن الرجل فيه إلى أهله، والنهار مبصرا ليبتغي فيه الرجل من فضل ربه، فقال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [القصص: 72] ، وقال تعالى: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [القصص: 73] ، يريد تعالى لتسكنوا في الليل، ولتبتغوا من فضل الله بالنهار، فوجب ألا يكون على من حلف ألا يأتي أهله نهارا شيء؛ لأنه حلف

(5/478)


أن يفرغ نهاره لما جعله الله له، وأن يكون الرجل في حلفه ألا يبيت عند امرأته مضرا بها؛ لأنها لم تتزوجه إلا لتسكن إليه ويسكن إليها في الحين الذي جعله الله وقتا للسكون، وهو الليل، فمرة استحق ذلك ولم يره من الضرر الذي يجب به الطلاق عليه، ومرة رآه من الضرر البين الذي يجب به أن يطلق عليه بعد التلوم وهو الأظهر، لما قدمناه من دليل كتاب الله عز وجل. ولا إيلاء عليه بحال؛ لأن الإيلاء إنما هو على من حلف على ترك الوطء جملة، وهو إنما حلف على ترك الوطء بالليل دون النهار، وكذلك الذي يبيت عند إحدى امرأتيه، ولا يبيت عند الأخرى، لا تطلق عليه على القول الواحد، وتطلق عليه على القول الثاني بعد التلوم وهو الأظهر؛ لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لرافع: «يا رافع اعدل بينهما وإلا ففارقهما» .

[مسألة: دعا امرأته لحقه فلم تجبه فقال إن قمت ولم تفعلي فما أنت بامرأة]
مسألة وقال: في رجل دعا امرأته إلى ما يدعو إليه الرجال نساءهم، فلم تجبه إلى ذلك، فقال: إن قمت ولم تفعلي ما دعوتك إليه، فما أنت بامرأة، يريد بقوله ذلك الطلاق، فنقر رجل الباب، فقامت ولم يكن نوى طلقة ولا اثنتين ولا ثلاثا، قال: هو عندي لي ثقيل، فرأيت في معنى قوله: إن الطلاق قد لزمه ألبتة.
قال محمد بن رشد: قوله: يريد بذلك الطلاق، يدل على أنه لو لم يرد بذلك الطلاق، لم يكن عليه شيء، مثل ما في التخيير والتمليك من المدونة وقال: إنه إن أراد بذلك الطلاق فهو ثقيل، ولم يبين ما يلزمه، والذي ظهر إلى الراوي من معنى قوله: إنه البتات كذلك، روى أصبغ عنه نصا أنه ثقيل، والاحتياط فيه البتة، وقال أصبغ: هو جميع الطلاق، ظاهر قوله في وجه الحكم، واللزوم ليس من باب الاحتياط كما قال ابن القاسم. وقال عيسى بن دينار: هي واحدة، وقول ابن القاسم: هو الصحيح، لاقتضاء اللفظ له؛ إذ لا تخرج على أن تكون له امرأة إلا الطلاق، البتات؛ لأن المطلقة واحدة أو اثنتين باقية في العصمة، ما لم تنقض العدة ترثه ويرثها، وتجب عليه

(5/479)


نفقتها، ويملك رجعتها، وقد كان بعض الشيوخ يفتي من هذه المسألة في نازلة تنزل عندنا كثيرا، وهي الرجل يحلف على امرأته، فيقول: بالله إن فعلت كذا وكذا إن كنت لي بامرأة، أو الطلاق علي ثلاثا أو الأيمان لي لازمة، أو علي المشي إلى مكة، إن فعلت كذا وكذا، إن كنت لي بامرأة إن الطلاق يلزمه بقوله: إن كنت لي بامرأة، ولا يراعى عقد يمينه ويقول: إنما معنى ذلك أنه حلف أنه قد طلقها، وذلك لا يصح؛ لأنها يمين منعقدة، يصح فيها البر والحنث، والمعنى فيها: والله أو الطلاق ثلاثا علي إن فعلت كذا وكذا لأطلقنك طلاقا لا تكون لي بامرأة فيبر في يمينه بأن يباريها بطلقة واحدة يملكها بها أمر نفسها حتى لا تكون له بامرأة، وبالله التوفيق.

[مسألة: الولد إذا أنفق على والده أينفق على امرأته معه]
مسألة قال أشهب وابن نافع: سألنا مالكا عن الولد إذا أنفق على والده، أينفق على امرأته معه؟ قال: إن كان الولد موسرا أو كان ذلك يسيرا فما أشبه ذلك أن تكون عليه النفقة، وإن كان رجلا ناكحا بامرأة لها شأن، فما أرى ذلك عليه.
قال محمد بن رشد: في المدونة: إنه يجبر على نفقة امرأة واحدة من زوجات أبيه، كانت أمه أو ربيبة، وقال المغيرة في غير المدونة، ومحمد بن عبد الحكم: لا يلزم الإنفاق على ربيبته، وإنما ينفق على أبيه وأمه، ورواية أشهب هذه قولة ثالثة بين القولين، فقف على ذلك، وبالله التوفيق لا شريك له.
تم الجزء الثاني من كتاب طلاق السنة بحمد الله وحسن عونه
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما
والله المعين بفضله. يتلوه كتاب الأيمان والطلاق.
انتهى الجزء الخامس من البيان والتحصيل للإمام ابن رشد
من عمل ثمانية عشر جزءا
يتلوه أول السادس كتاب الأيمان بالطلاق

(5/480)