البيان
والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة [كتاب الأيمان
بالطلاق الأول] [قال إن زدت على رطل
وربع فامرأتي طالق]
(6/5)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
صلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم
من سماع ابن القاسم من مالك رواية سحنون من كتاب الرطب باليابس قال سحنون:
أخبرني ابن القاسم، قال: سئل مالك عن رجل، قال: إن زدت على رطل وربع
فامرأتي طالق وكان يبيع لحما وزنا فباع صدرا وزنا، ثم بدا له أن يبيع ما
بقي بالأجزاء لا يدري باع بأكثر أو لا؟
قال: أراه حانثا إلا أن يعلم أن الأجزاء كانت أقل من رطل وربع، فإن علم
أنها أقل أو مثل فذلك إلى نيته، وإن لم يعلم، وقال: لا أدري لعله أكثر، فهو
حانث.
قال محمد بن رشد: رأيت لابن دحون أنه قال: يطلق عليه في هذه المسألة
بالقضاء والفتيا لأنه شاك، والشك دخل عليه من نفسه لا من غيره، قال: وفيه
اختلاف، وفى قوله نظر؛ لأنه أجمل، ولا بد فيه من التفصيل.
(6/7)
أما إذا باع جزافا وهو ذاكر ليمينه ولا
يدري هل الأجزاء التي باع أقل أو أكثر فلا اختلاف في أنه يطلق عليه بالحكم
إذا أقر بذلك على نفسه؛ لأنه كمن حلف بالطلاق على ما يشك فيه ولا يمكن
معرفته.
وأما إن كان بالأجزاء وهو يعتقد بتقديره أن الذي باع أقل من رطل وربع ثم
أتاه الشيطان فأدخل عليه الشك وقال له: لعلك قد غلطت في التقدير، فهذا لا
يؤمر ولا يجبر.
وأما إن أتاه الذي باع منه اللحم فقال له: وجدت فيه أكثر من رطل وربع ولم
يدر هل صدقه أو كذبه فهذا يؤمر ولا يُجْبر، وكذلك إن باع بالأجزاء وهو ناس
ليمينه فلم يدر أن كان الذي باع أقل أو أكثر يؤمر ولا يجبر، فهذا وجه القول
في هذه المسألة، وقد مضى في رسم القطعان من سماع عيسى من كتاب طلاق السنة
من تقسيم الشك في الطلاق ما يبين هذا وبالله التوفيق.
[مسألة: معه أخت لامرأته في بيت ساكنة فحلف
بطلاق امرأته لا يساكنها]
مسألة وسئل مالك: عن رجل كانت معه أخت لامرأته في بيت ساكنة، فحلف بطلاق
امرأته لا يساكنها فخرج عنها وبقيت امرأته في البيت فجعل يطلب منزلا ينتقل
إليه فأقاما فيه أياما حتى أصابا منزلا فجمع امرأته إليه فيه ثم إنه خرج
يريد سفرا وترك امرأته في ذلك المنزل، ثم إن المنزل انهدم من بعده وهو غائب
فرجعت امرأته إلى المنزل الأول فكانت مع أختها حتى قدم زوجها، أترى عليه
حنثا؟
(6/8)
قال: أرى يُدَيَّن، إن كان لم ينو ألا تدخل
امرأته لتزور أختها أو لتمرضها فلا أرى بأسا أن تدخل وتمرض ولا أرى عليه
حنثا، وذلك أنه خرج ولم يسكن، وإنما كان ذلك منها على غير ما نوى زوجها،
قال أصبغ: معنى هذه، المسألة إنما حلف ألا يساكنها هو بنفسه وهذا الذي نوى،
فإما إن كان حلف منها ألا يساكنها فترك امرأته معها وخرج يطلب بيتا لكان
حانثا في تركه إياها معها حتى وجد منزلا.
قال محمد بن رشد: قول مالك في هذه المسألة خلاف قوله في المدونة وخلاف ما
يأتي في رسم القطعان من سماع عيسى من أن من حلف ألا يسكن دارا فلم يجد ساعة
حلف بعياله وأهله وولده ومتاعه وإن كان في جوف الليل حنث، وتأويل أصبغ عليه
غير صحيح؛ لأنه لو تكلم على أنه نوى ألا يساكنها هو بنفسه لما قال إنه يحنث
برجوع امرأته إلى منزل أختها وكونها معها على وجه السكنى، ولا يحنث إن فعلت
ذلك على وجه الزيارة أو التمريض إلا أن يكون نوى ذلك، ووجه قوله أنه راعى
مقصد الحالف دون الاعتبار لمقتضى لفظه؛ لأن من حلف ألا يساكن رجلا فمعنى
لينتقلن عنه في أعجل ما يقدر، فإذا لم يغره في ارتياد منزل والانتقال إليه
لم يحنث، وما في المدونة يأتي على اعتبار مقتضى لفظه دون مراعاة قصده؛ لأنه
إذا حلف على ألا يساكن رجلا ولم ينتقل عنه تلك الساعة فقد ساكنه بعد يمينه،
وقد بينا هذا الأصل والاختلاف فيه في رسم الثمرة ورسم جاع من سماع عيسى من
كتاب النذور وفي غيره من
(6/9)
المواضع، وإيجاب مالك عليه الحنث برجوع
امرأته إلى مساكنة أختها بغير علمه بعد أن انتقل بها عنها ليس ببيّن؛ لأنه
لم يحلف عليها ألا تساكن أختها فيحنث برجوعها إلى مساكنتها، وإنما حلف ألا
يساكنها هو، فإذا انتقل عنها بزوجته وجميع متاعه فقد بر ووجب ألا يحنث
برجوعها إلى مساكنتها بغير علمه إلا أن يعلم بذلك فيقرها، كمن حلف ألا يدخل
على فلان بيتا فدخل فلان عليه ذلك البيت أنه لا يحنث إن خرج عنه من ساعته
باتفاق.
[مسألة: حلف بطلاق امرأته ألا يدخل عليه من قبل
أخته هدية]
مسألة وسئل: عمن حلف بطلاق امرأته ألا يدخل عليه من قبل أخته هدية وكان له
ولد صغير أو كبير يدخل عليها فيصيب اليسير من الطعام وأشباه ذلك هل ترى ذلك
منفعة فيكون حانثا؟ أم ما ترى في ذلك؟
قال: أما من خرج من ولاية أبيه من الكبار واستغنوا عنه فأصابوا شيئا منها
فلا أرى عليه شيئا؛ لأنه لا يصل إليه من منفعة ولده شيء، وأما ولده الصغار
فإن لم يكونوا يصيبون من عندها إلا اليسير الذي لا ينتفع به الأب في عون
ولده مثل الثوب يكسوه إياه فيكون قد انتفع بذلك حين كفاه ذلك أن يشتري له
ثوبا ويطعمه طعاما يغنيه ذلك عن مؤنته أو شبه ذلك، فإذا كان ذلك رأيت أن قد
دخلت عليه منفعة فأراه عند ذلك حانثا.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة المعنى لا وجه للقول فيها، وتفرقته
فيما أكل عندها ابنه الصغير من الطعام بين أن يكون يسيرا لا
(6/10)
يحط عنه به من مؤنة ولده شيء، أو كثير ينحط
به عنه من ذلك يبين ما وقع في رسم العتق من سماع أشهب من كتاب النذور، ولو
خرج من عندها بطعام فأكله لحنث يسيرا أو كثيرا على ما في المدونة في الذي
يحلف ألا يأكل لرجل طعاما فدخل ابن له صغير فأطعمه خبزا فخرج به فأكله
الحالف.
[مسألة: قال لامرأته إذا أخرجت إلي متاعي فأنت
طالق]
مسألة وسئل مالك: عن رجل كانت بينه وبين امرأته محاورة فدعته إلى الفرقة
وله عندها متاع فخاف أن تحبسه عنده، فقال لها: إذا أنت أخرجت إلي متاعي
فأنت طالق فرضيت فقامت مجمعة للطلاق فأخرجت بعض المتاع ثم ندمت فكرهت فراق
زوجها فأبت أن تخرج له بقية متاعه.
فقال: أرى أن تخرج له بقية متاعه، وأرى الطلاق قد وقع عليه.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة أنه لما خشي أن تجحد المتاع وتحبسه
عنه فقال لها: إذا أخرجت إلي متاعي فأنت طالق يبين أن معنى يمينه أنت طالق
إن أقررت لي بمتاعي وأخرجته إلي، فلما أقرت له بمتاعه وأخرجت له بعضه لزمها
الطلاق؛ لأن الحنث يدخل بأقل الوجوه، كمن قال لامرأته: أنت طالق إن أكلت
هذا الرغيف فأكلت
(6/11)
بعضه، وكذلك لو أقرت له بمتاعه ولم تخرج
إليه منه شيئا لوجب أن تطلق عليه؛ لأنها إذا أقرت له بمتاعه فقد حصل له
غرضه الذي حلف عليه لقدرته على أخذ متاعه منها إن امتنعت عن إخراجه إليه
وصار بمنزلة من قال لامرأته: أنت طالق إن دخلت الدار وصليت فيها، فدخلت
الدار ولم تصل فيها، ولو أخرجت إليه بعض متاعه وجحدت الباقي لم يلزمه طلاق
فيما بينه وبين الله؛ لأن غرضه الذي طلق عليه لم يتم له، كمن قال لامرأته:
أنت طالق إن أعطيتني مائة دينار فأعطته خمسين دينارا ويطلق عليه إن قامت
بذلك بينة؛ لأن الطلاق قد لزمه بظاهر الأمر إذا أخرجت إليه المتاع، والقول
قوله أن ذلك جميع ما له عندها من المتاع، وفي رسم أبي زيد بيان هذا، ولو
كانت مقرة له بمتاعه فقال لها: أنت طالق إذا أخرجت إلي متاعي لم يلزمه
الطلاق إلا بإخراج جميعه؛ لأنه قد تبين هاهنا أنه أراد أن يطلقها إذا رجع
إليه جميع ماله مخافة أن يحتاج في قبضه منها إلى عناء أو مخاصمة، فصار
بمنزلة من قال لامرأته: أنت طالق إن أعطيتني مائة دينار، فلا تطلق إلا أن
تعطيه جميع المائة، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال لامرأته أنت طالق إن لم أضربك إلى
شهر]
مسألة وقال مالك: من قال لامرأته: أنت طالق إن لم أضربك إلى شهر، لم أر أن
يعجل عليه حتى يأتي الشهر، وقال ابن القاسم: إن كان الذي حلف عليه من الضرب
ضربا ليس مثله
(6/12)
يترك والبرنية، رأيت أن يطلق عليه الساعة
ولا ينتظر به.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة لا اختلاف في أنه لا يعجل عليه الطلاق
حتى يأتي الشهر؛ لأنه على بر، وإنما اختلف قول ابن القاسم هل له أن يطأ إلى
الشهر أم لا على قولين؟ وقد مضى القول على هذا مستوفى في رسم يوصى لمكاتبه
من سماع عيسى من كتاب الإيلاء، ولم يبين القدر الذي لا يباح له البر فيه من
الضرب. وحكى ابن حبيب في الواضحة أنه إن كان حلف على عشرة أسوط ونحوها خلي
بينه وبين البر ولم يطلق عليه إذا زعم أن ذلك لذنب أذنبته فيصدق في ذلك،
قال: وإن حلف على أكثر من ذلك مثل الثلاثين سوطا ونحوها طلق عليه ولم يمكن
من البر في ذلك إن كان لغير شيء تستوجبه، يريد: فإن كان لشيء تستوجبه مكن
من البر، ومعنى ذلك عندي إذا ثبت عند السلطان أنها فعلت ما يوجب عليها ذلك
المقدار من العقوبة لا أنه يصدق في قوله، قال: فإن لم يرفع إلى السلطان حتى
فعل فقد أساء ولا عقوبة عليه إلا الزجر والسجن.
[مسألة: قال امرأته خلية إن فرطت أو توانيت في
حقي]
مسألة وقال مالك: من قال: امرأته خلية إن فرطت أو توانيت في حقي على فلان
حتى آخذه منه قال: إن توانى رجاء أن يأتيه بحقه حتى مرض فحال المرض بينه
وبينه فقد حنث، وإن كان أقام يوما أو يومين ونحو ذلك وهو جاهد غير مقصر حتى
جاءه المرض فشغله عنه فالله أعذر بالعذر.
(6/13)
قال محمد بن رشد: ولو كان يقدر على التوكيل
في مرضه ففرط وتوانى ولم يفعل حنث، قاله ابن دحون، وهو صحيح.
[مسألة: يحلف بطلاق امرأته ليضربنها إلى أجل
يسميه]
مسألة وقال مالك في الرجل يحلف بطلاق امرأته إن لم يضربها كذا وكذا أو يقول
غلامي حر إن لم أضربه كذا وكذا، ثم تأتي المرأة أو العبد يدعيان أنه لم
يضربهما، ويقول الرجل قد ضربت: إنه ليس على السيد ولا على الزوج البينة على
ذلك ويصدق ويحلف، قال ابن القاسم: وذلك مخالف للحقوق في قول مالك؛ لأن
الرجل لو حلف بطلاق امرأته ألبتة إن لم يقض رجلا حقه إلى أجل سماه فحل
الأجل وزعم أنه قد قضاه، قال مالك: إن لم يكن له بينة على القضاء طلق عليه
بالشهود الذين أشهدهم على أصل الحق.
قال محمد بن رشد: أما الذي يحلف بطلاق امرأته ليضربنها إلى أجل يسميه أو
بعتق عبد ليضربنه إلى أجل يسميه، فلا اختلاف في أن كل واحد منهما مصدق مع
يمينه بعد الأجل على أنه قد ضرب قبل الأجل؛ لأن ضرب الرجل زوجته والسيد
عبده ليس بحق لهما تسأله الزوجة من زوجها أو العبد من سيده؛ فيتوثق باليمين
من الحالف على ذلك ويلزمه الإشهاد على تأديبه ولعله ضرب هذا فلا يسوغ
للشاهد إن استشهد على ذلك أن يحضره ليشهد به، قال في الواضحة: وإن مات
السيد فادعى العبد أنه لم يضربه وجهل الورثة ذلك فالقول قول العبد حتى
يدعوا أنه قد ضربه فينزلوا بمنزلة السيد في ذلك.
وأما الذي يحلف بطلاق امرأته ألبتة إن لم يقض رجلا حقه إلى أجل
(6/14)
سماه فحل الأجل وزعم أنه قد قضاه وزعمت
المرأة أنه لم يقضه وأنه قد حنث فيها بطلاق البتات، ففي ذلك ثلاثة أقوال:
أحدهما: أن القول قوله مع يمينه فيحلف ويبرأ من الحنث بمنزلة الذي يحلف على
ضرب امرأته أو أمته وإن أنكر صاحب الحق القبض حلف وأخذ حقه، وهو قول مالك
في رواية زياد عنه.
والثاني: أنه لا يصدق في القضاء ولا يمكن من اليمين ويبرأ من الحنث بما
يبرأ من الدين من إقرار صاحب الحق بقبضه، أو شاهد ويمين، أو شاهد وامرأتين،
وهو الذي يأتي على قول سحنون في كتاب ابنه.
والثالث: أنه لا يبرأ من الحنث بشاهد ويمين ولا بشاهد وامرأتين ولا بإقرار
صاحب الحق، ولا يبرأ إلا بشاهدين عدلين، وهو قول مطرف وابن الماجشون
وروايتهما عن مالك ورواية ابن القاسم هذه عن مالك ورواية ابن وهب عنه في
رسم أسلم من سماع عيسى، وقد قيل: إنه يبرأ أيضا بإقرار صاحب الحق إذا كان
مأمونا لا يتهم أن يوطئ حراما، وهو قول أشهب وابن عبد الحكم في الواضحة.
قال ابن نافع في المبسوطة: مع يمينه، وزاد ابن القاسم في رسم أسلم من سماع
عيسى: إذا كان من أهل الصدق ولا يتهم، وهذا كله إذا كانت على أصل اليمين
بينة، وهو معنى قوله في هذه الرواية: طلق عليه بالشهود الذين أشهدهم على
أصل الحق؛ لأنه يريد بقوله: على أصل الحق على أصل اليمين.
وأما إذا لم يكن على أصل اليمين بينة إلا أن الزوج أقر باليمين لما رفع
فيها وطلب بها، فيتخرج ذلك على قولين:
أحدهما: أن إقراره على نفسه باليمين كقيام البينة بها عليه.
والثاني: أنه يحلف لقد قضاه حقه قبل الأجل ويبرأ من الحنث ولا يبرأ من
المال إذا لم يقر صاحبه بقبضه ولا شهدت بذلك بينة، وسواء كانت على أصل
الدين بينة أو لم تكن، وذهب بعض الشيوخ وهو ابن دحون إلى أن قيام البينة
على أصل الحق كقيامها على أصل اليمين
(6/15)
على ظاهر قوله في هذه الرواية: طلق عليه
بالشهود الذين أشهدهم على أصل الحق، وليس ذلك بصحيح؛ لأن الشهادة على أصل
الحق لا تأثير لها في وجوب الطلاق، فالمعنى في ذلك ما ذكرناه، ولو أنكر
اليمين ولم تقم عليه بها بينة لم تلحقه في ذلك يمين، ولو أنكر اليمين وأقر
أنه لم يدفع الحق قبل الأجل فلما قامت عليه البينة باليمين أقام هو بينة
على دفع الحق قبل الأجل قبلت منه بينته على اختلاف في هذا الأصل قائم من
المدونة وغيرها، وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف بالطلاق ألا يكلم امرأته كذا وكذا
فأراد أن يقبلها]
مسألة وسئل مالك: عن رجل حلف بالطلاق ألا يكلم امرأته كذا وكذا فأراد أن
يقبلها.
فقال: أخشى أن تكون أن يعتزلها فإن كان كذلك فلا يفعل، قال: وإن لم يكن نوى
اعتزالها فلا أرى بأسا أن يقبلها ويطأها.
وقال محمد بن رشد: لا يخلو الحالف في يمينه هذه من ثلاثة أحوال: أحدها: أن
ينوي أن يعتزلها، والثاني: أن ينوي ألا يعتزلها، والثالث: ألا تكون له نية.
فإن نوى أن يعتزلها حنث إن وطئها أو قبلها، وإن نوى ألا يعتزلها لم يحنث
بشيء من ذلك، وإن لم تكن له نية فالظاهر من قوله: وإن لم يكن نوى اعتزالها
فلا أرى بأسا أن يقبلها أو يطأها أن يمينه عنده محمولة على غير الاعتزال
حتى ينوي الاعتزال، وهو ظاهر قول ابن شهاب في أول كتاب الإيلاء من المدونة،
ووجه ذلك ظاهر، وهو أن الكلام غير الوطء، كل واحد منهما بائن عن صاحبه ليس
بداخل فيه،
(6/16)
فوجب ألا يحنث إذا حلف ألا يكلم امرأته
فوطئها، كل يحنث إذا حلف أن يطأها فكلم بخلاف الذي يحلف إن هو يطأ فيثب
عليها بذكره فيما دون فرجها، هذا هو محمول على الاجتناب حتى ينوي الفرج
بعينه، على ما قال في كتاب الإيلاء: أن العبث عليها بالفرج داخل تحت الوطء،
ألا ترى أنه لو حلف ألا يعبث عليها بذكره فوطئها لم يشك في أنه حانث،
وأصبغ: يرى أنه إذا حلف ألا يكلمها فوطئها يحنث من جهة فهمها لما يريده
منها كالذي يحلف ألا يكلم رجلا فيشير إليه، وقد مضى القول على ذلك في سماعه
من كتاب النذور، وبالله التوفيق.
[عبد كانت تحته أمة فحلف بطلاقها في شيء ألا يفعله ففعله]
ومن كتاب سلعة سماها قال: وسئل مالك: عن عبد
كانت تحته أمة فحلف بطلاقها في شيء ألا يفعله ففعله وسيد الجارية
شاهد عليه، فقال: إنما حلفت بطلاقها واحدة ونسي سيد الجارية يمينه، فاستحلف
الزوج فحلف أنه ما حلف إلا بتطليقة واحدة، أفترى ذلك يجزيه أم يستحلف عند
المنبر؟
قال: لا يجزيه حتى يحلف عند المنبر.
قال محمد بن رشد: قوله وسيد الجارية شاهد عليه ليس بخلاف لما في المدونة من
أنه لا يجوز شهادة السيد على عبده بطلاق زوجته؛ لأنه إنما ذكر ذلك وصفا
للأمر على ما وقع، ولم يحلفه من أجل شهادته لا سيما وهو قد نسي يمينه،
وإنما حلفه من أجل أنه قد أقر على نفسه أنه حلف بطلاقها وحنث فادعت عليه
الزوجة من عدد الطلاق أكثر مما أقر به،
(6/17)
فوجب أن يحلف، بخلاف إذا ادعت أنه طلق
وأنكر، وإيجابه عليه لليمين عند المنبر صحيح؛ لأنه إذا وجب عليه أن يحلف
عنده في الحقوق بظاهر قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من حلف على
منبري إثما فليتبوأ مقعده من النار» ، كان أحد أن يحلف عنده في الطلاق؛ لأن
حرمة الفرج آكد من حرمة المال.
[مسألة: حلف ألا ينفق على امرأته سنة]
مسألة وسئل: عن الرجل يحلف لامرأته بطلاقها البتة إن أنفق عليها سنة فغاب
عنها سنة، ثم أتى بعد ذلك فيريد أن يدفع لها في ذلك دنانير نفقة السنة.
قال: إذا دفع إليها ذلك فقد أنفق عليها، قال: إنه إنما دفع إليها بعد
السنة؟ قال: وإن كان، فهو كذلك، إلا أن تكون له نية إن رفعت أمرها إلى
السلطان، فيقضى عليه أن يقول لم أرد وإن قضي على، فلعلها أن ترفع أمرها إلى
السلطان فيقضي عليه، فإذا قال: لم أرد هذا ولا نويته، إنما أردت ألا أنفق
عليها طائعا، فإذا كان هذا نيته فلا أرى عليه شيئا.
قال محمد: قوله في الذي حلف ألا ينفق على امرأته سنة فيدفع إليها بعد السنة
دنانير عن نفقة السنة أنه حانث صحيح؛ لأن الذي يحلف أن لا ينفق على امرأته
سنة إنما يريد توفير ماله على نفسه بترك الإنفاق عليها، فلا فرق بين أن
ينفق عليها في السنة أو يدفع ذلك إليها بعد السنة، ولو ادعى أنه إنما نوى
ألا ينفق عليها في السنة وأنه أراد أن يعطيها ذلك
(6/18)
بعد السنة لم ينوه في ذلك؛ لأنها نية
مخالفة للمعنى الذي حلف عليه، ومن ادعى نية مخالفة لظاهر يمينه الحكم به
عليه لم ينو إلا أن يأتي مستفتيا ونواه إذا ادعى أنه إنما نوى ألا ينفق
عليها طائعا، يريد مع يمينه على ما قال في آخر سماع أشهب؛ لأنها نية
محتملة، إذ قد قيل: إنه لا يحنث إذا قضى عليه السلطان وإن لم تكن نية، وهو
قول ابن الماجشون في الواضحة، خلاف قول مالك هذا وقوله في سماع أشهب ودليل
ما في التخيير والتمليك من المدونة، وقد مضى القول على هذا المعنى في رسم
سلف من سماع ابن القاسم من كتاب النذور، وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف بالطلاق ألا يشتري لحما ثم اشتراه]
مسألة وسئل مالك: عن رجل خرج يبتاع لأهله لحما فوجد على المجزرة زحاما فحلف
بطلاق امرأته البتة إن اشترى لأهله ذلك اليوم لحما، فرجع إلى بيته فعاتبته
امرأته في ذلك فخرج فاشترى كبشا فذبحه فأكلوا من لحمه.
فقال: ما أراه إلا قد حنث وأرى هذا لحما، قال ابن القاسم: إلا أن تكون إنما
كانت كراهيته ذلك لموضع الزحام على المجزرة ووجد لحما أو كبشا في غير
المجزرة فاشتراه فأرى أن ينوي في ذلك.
قال محمد بن رشد: لم يراع مالك البساط في هذه المسألة إذ رآه حانثا بشرائه
الكبش من أجل أنه لحم، وذلك مثل قوله في رسم يسلف من سماع ابن القاسم من
كتاب التخيير والتمليك ومثل ما في سماع سحنون
(6/19)
من هذا الكتاب في مسألة البالوعة، ورعاه
ابن القاسم فلم ير عليه حنثا بشرائه اللحم أو كبشا في غير زحام إذا كانت
يمينه من أجل أنه كره الشراء في الزحام، وهو المشهور في المذهب، ألا تحمل
اليمين إلا على مقتضى اللفظ إلا عند عدم البساط، ومثله في سماع أشهب بعد
هذا في مسألة النقيب، وقد قيل: إن اليمين إذا لم يكن له بساط، تحمل على ما
يعرف من عرف الناس في كلامهم ومقاصدهم بأيمانهم، والقولان قائمان من
المدونة، وقد مضى القول في هذا المعنى مجودا في رسم جاع من سماع عيسى من
كتاب النذور.
وقول ابن القاسم في آخر المسألة، فأرى أن ينوى في ذلك معناه، فأرى أن يصدق
أنه إنما حلف كراهية الزحام، ولا يمين عليه في ذلك إن شهدت بينة مصورة
الحال أو أتى مستفتيا. ولو شهد عليه أنه حلف بالطلاق ألا يشتري لحما ثم
اشتراه، فقال: إنما كنت حلفت لأني خرجت لشرائه فوجدت على المجزرة زحاما ولم
تعلم البينة ذلك لطلق عليه ولم يصدق فيما ادعاه من ذلك، وبالله التوفيق.
[يحلف بطلاق امرأته البتة إن خرجت على بيت أهلها إلا بإذنه]
ومن كتاب أوله شك في طوافه وسئل مالك: عن الرجل
يحلف بطلاق امرأته البتة إن خرجت على بيت أهلها إلا بإذنه إن لم
يضربها، فخرجت مرة فضربها، هل ترى عليه شيئا في ذلك إن هي خرجت؟
قال: لا، إلا أن يكون نوى ذلك.
قال محمد بن رشد: هذه المسألة موافقة لما في كتاب النذور من المدونة أن من
حلف ألا يكلم رجلا عشرة أيام فكلمه فحنث ثم كلمه مرة
(6/20)
أخرى بعد أن كفر أو قبل أن يكفر أنه ليس
عليه إلا كفارة وحدة، وموافقة أيضا لجميع روايات العتبية، من ذلك ما في
سماع أبي زيد بعد هذا من هذا الكتاب، وأول مسألة من سماع أشهب من كتاب
النذور، وأول مسألة من رسم باع غلاما من سماع ابن القاسم من كتاب طلاق
السنة حاشا مسألة الوثر من رسم حلف من سماع ابن القاسم من كتاب النذور، وقد
مضى هناك من القول على توجيه كلا القولين ما أغنى عن إعادته هنا، وبالله
التوفيق.
[مسألة: رجل طلب بحق فقال امرأتي طالق ما له
عندي حق]
مسألة وسئل مالك: عن رجل استأجره رجل يعمل له، وادعى الذي استأجره أنه
استأجره يعمل له معول وعمله على ذلك رجل، فقال المستأجر: حرم أهلي إن كنت
استأجرته على معول وإن كان شهد على فلان لقد شهد بباطل، ثم سئل الشاهد
فقال: ما أشهد بشيء، قال مالك: أليس أنت مستيقن أنك حلفت على حق؟ قال: نعم،
قال: فلا شيء عليك.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال لأنه موكول إلى أمانته في صدق ما حلف عليه
ما لم يتبين كذبه بعد اليمين بشهادة شهود شهدوا عليه لم يكذبهما في يمينه،
ولو أن الشاهد شهد عليه لم يضره؛ لأنه قد كذبه في يمينه، بمنزلة رجل طلب
بحق، فقال: امرأتي طالق ما له عندي حق، ولئن شهد علي به فلان وفلان إنهما
لكاذبان، فشهدا عليه عدلا أو عدم
(6/21)
الحق فلأنه لا حنث عليه لأنه قد كذبهما في
يمينه، وسيأتي هذا المعنى في رسم يشتري الدور والمزارع من سماع يحيى والقول
فيه إن شاء الله.
[مسألة: قال لرجل جاء يستسلفه سلفا فقال ما
عندي]
مسألة وحدثني عن ابن كنانة أن مالكا سئل عن رجل قال لرجل: جاء يستسلفه
سلفا، فقال: ما عندي، قال الرجل: امرأتي طالق إن كان لك مني بد، فأعطاه
الذي سأله من السلف، وقال: هذا أنا قد أعطيتك، ولكن انظر أنت في يمينك،
فاختلف فيها أهل المدونة واضطربوا فيها اضطرابا شديدا، فسئل عنها مالك وأتى
بها صاحبها إليه، فقال: ألم يأخذها على وزن صاحبه الذي سأله؟ قال: نعم،
قال: لا أرى عليه حنثا إذا أراد وجه السلف، واحتج في ذلك وقال: إن منعه
حنث، وإن أعطاه حنث، لا أرى عليه شيئا، وكأنه لم يره من وجه ما حلف عليه.
قال محمد بن رشد: إنما اضطرب في هذه المسألة أهل المدونة؛ لأن قوله إن كان
لك مني بد لفظ يحتمل أن يراد به إن كان لك محيص عن أن تسلفني ما سألتك إياه
من السلف، فمن حمل يمينه على هذا رآه حانثا وإن أسلفه؛ لأنه قد كان له محيص
عن أن يسلفه، ويحتمل أن يراد به لألزمنك حتى تسلفني ما سألتك إياه من السلف
شئت أو أبيت، وعلى هذا حمل مالك يمينه، فلذلك قال: إنه لا حنث عليه إذا أخذ
السلف منه
(6/22)
على مثل الوزن الذي سأله إياه، وذلك بين من
قوله إنما أراد وجه، ومن احتجاجه بأن قال إن أعطاه حنث وإن منعه حنث، وقوله
في آخر المسألة وكأنه لم يره من وجه ما حلف عليه معناه وكأنه لم ير من أوجب
عليه الطلاق وأعطاه السلف من وجه ما حلف عليه؛ لأن الوجه في ذلك عنده أنه
مهد محيص له عن أن يسلفه، ويحتمل أن يراد باللفظ أنه لا بد لك أن تفتقر إلي
كما افتقرت إليك فأقارضك بالحرمان كما فعلت، فمن حمل يمينه على هذا رآه
أيضا حانثا لأنه حلف على غيب لا علم له به، والله أعلم.
[قال لامرأته إذا كفلت ابني ثلاث سنين فأنت طالق البتة]
ومن كتاب الشجرة تطعم بطنين في السنة وسئل مالك: عن رجل
قال لامرأته إذا كفلت ابني ثلاث سنين فأنت طالق
البتة، وكان بينه وبينها كلام، فقال لها: ما يمنعني من فراقك إلا
مكان ابني، ولكن إذا كفلته ثلاث سنين فأنت طالق.
فقال: أراها طالقا البتة حين تكلم به.
قال ابن رشد: مثل هذا في سماع عبد المالك عن ابن القاسم، وإنما لزمه الطلاق
في الوقت لأنه مطلق إلى أجل هو آت على كل حال، كمن قال لامرأته أنت طالق
إلى ثلاث سنين، هذا مفهوم من قصد الحالف على بساط المسألة أنه إنما كره أن
يطلقها وله منها ولد صغير يشقى بكفالته فأراد أن يوقع على نفسه طلاقها بعد
ثلاثة أعوام كي إن عاش الولد إلى هذه المدة كان قائما بنفسه مستغنيا بذاته،
ولم يكره حصانة الولد فيكون ذلك شرطا في الطلاق لا يقع عليه إلا باستيفائها
مدة الحضانة كمثل أن يكره من زوجته حضانتها للصبي وتسأله أن يبيح لها ذلك،
فيأبى ويقول: إن حضنته ثلاثة أعوام فأنت طالق، فهذا لا يقع عليه طلاق إن لم
يستكمل حضانة الثلاثة الأعوام، كمن قال لزوجته: إن صحب فلان زوجته ثلاثة
(6/23)
أعوام فأنت طالق، وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف بطلاق امرأته ألا يفارقه حتى يذهب
به إلى السلطان]
مسألة وسئل: عن رجل وقع بينه وبين رجل خصومة فحلف بطلاق امرأته ألا يفارقه
حتى يذهب به إلى السلطان أو إلى صالح فلقي حاطبا خليفة صالح، فقال: أرسله.
فقال مالك: حاطب ليس بصالح، ولو شاء لجلس معه حتى يصبح فيلقى صالحا، وكأنه
رآه حانثا وشدد عليه في ذلك.
قال محمد بن رشد: قوله حاطب ليس بصالح، يدل على أنه لم ير أن يبرأ إلا أن
يذهب به إلى من سماه بعينه، وذلك على القول بمراعاة مقتضى حقيقة الألفاظ في
الأيمان دون ما يظهر من المقاصد فيها؛ لأن الظاهر من مقصد الحالف بهذه
اليمين أنه إنما أراد الإرهاب عليه بالذهاب به إلى من يهابه لمرتبته، وسمى
صالحا لتوسمه ذلك فيه، فلو ذهب به على هذا إلى من هو فوق صالح من الحكام
لبر كذلك لو حلف ألا يفارقه حتى يذهب به إلى السلطان أو إلى حاطب خليفة
صالح فذهب به إلى صالح لبر، وهو الذي يأتي على ما في رسم الطلاق الأول من
سماع أشهب، وأما إذا ذهب به إلى حاطب خليفة صالح الذي سمى فلا اختلاف أنه
لا يبر بذلك، وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف لأمه بطلاق امراته ألا تأمره فيها
ولا تمنعه أن ينفعها]
مسألة وسئل: عن رجل قال لامرأته وعاتبته أمه في امرأته فقال لها هي طالق
البتة إن كانت تأمرني فيك ولا تمنعني أن أنفعك
(6/24)
فانقلبت إلى امرأتي فقلت لها إني أخشى أن
أكون وقعت في عظيم، فقالت: ما هو؟ قال: إني قد حلفت لأمي بطلاقك أنك لا
تأمرني فيها ولا تمنعيني أن أنفعها، وإنما المال الذي في يد الرجل مال
المرأة، فقالت له: قد قلت لك عام الأول لا تعطيها شيئا من مالي، قال: فذكرت
له ذلك.
فقال مالك: أراها قد بانت منك بثلاث.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال أنه إنما حلف على يقينه ناسيا لقولها، فلما
تذكره وجب عليه الحنث؛ لأن ذلك لغو وهو لا يكون إلا في اليمين بالله أو ما
كان في معناه، وبالله التوفيق.
[مسألة: يسلمه الرجل وديعة فقال امرأتي طالق
البتة إن كانت في بيتي]
مسألة وسئل مالك: عن رجل يسلمه الرجل وديعة كان استرفقه إياها قال قد
دفعتها إليك، فما زال العداء بينهما حتى قال امرأتي طالق البتة إن كانت في
بيتي، فلقيه رجل فقال له في علمك، فقال: في علمي.
قال مالك: إن كان استثناؤه ذلك نسقا متتابعا ليس فيما بينهما صمات وكان ذلك
كلاما واحدا نسقا فلا أرى عليه حنثا، وله ثنياه.
قال محمد بن رشد: يريد أن ثنياه تنفعه إن وجدت الوديعة في بيته ولا يحنث،
وهو صحيح لأنه قيد عموم قوله بالعلم، وغير العلم بالعلم، فخرج من ذلك غير
العلم؛ لأن تقييد العموم بصفة يقتضي أن يخرج منه من ليس على تلك الصفة،
فذلك في المعنى كالاستثناء بحرف من حروف الاستثناء، فوجب أن يكون له حكمه
في أنه عامل بشرط تحريك اللسان واتصاله بالكلام، وقد مضى هذا المعنى مبينا
في رسم الجنائز والذبائح والنذور من سماع أشهب من كتاب النذور وبالله
التوفيق.
(6/25)
[مسألة: حلف
بطلاق امرأته ليرفعن أمرا إلى السلطان فرفعه إلى صاحب الحرس]
مسألة حلف بالطلاق ليرفعن أمرا وسئل مالك: عن رجل حلف بطلاق امرأته ليرفعن
أمرا إلى السلطان فرفعه إلى صاحب الحرس؟
فقال مالك: ليس صاحب الحرس سلطانا، قال ابن القاسم: يريد صاحب الحرس الذي
يعس، فأما صاحب الشرط فهو سلطان، قال: ولا يكون صاحب المسلحة سلطانا.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن لفظ اسم السلطان عام يقع على كل من له
القضاء والحكم بين الناس، قال عز وجل: {فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلا
بِسُلْطَانٍ} [الرحمن: 33] ، فإذا رفع أمره إلى من إليه تنفيذ الحكم في ذلك
الأمر فقد بر، والعسس ليسوا بحكام وإنما هم أعوان لهم يرفعون الأمور إليهم،
فوجب أن لا يبر بالرفع إليهم من حلف أن يرفع إلى السلطان وبالله التوفيق.
[مسألة: قال امرأته طالق إن قضاك شهرا فيستأذى
عليه صاحب الحق]
مسألة قال: وسئل مالك: عن الرجل يكون له الحق على رجل قد حل فخرج يطلبه
بحقه ويقول المطلوب امرأته طالق إن قضاك شهرا فيستأذى عليه صاحب الحق فيأمر
السلطان ببيع متاعه حتى يقتضي، كيف ترى الأمر فيه؟
قال: أرى أن يدين، إن قال لم أرد إلا ألا أقضي أنا ولم أرد
(6/26)
السلطان فذلك له وأدينه في ذلك ما الذي
أراد بيمينه، فإن حاشا السلطان لم أر عليه شيئا وإن لم يحاش السلطان رأيته
حانثا.
قال محمد بن رشد: قوله إنه يدين يريد مع يمينه على ما يأتي في آخر سماع
أشهب، وابن الماجشون لا يرى عليه حنثا إذا قضاه بأمر السلطان أو باع
السلطان عليه ماله فقضاه إلا أن يريد مغالبة السلطان أو يحلف بين يديه
فيتبين أنه أراد مغالبته، وقد مضى الاختلاف في هذه المسألة في رسم سلعة
سماها قبل هذا فلا وجه لإعادته.
[مسألة: يحلف بطلاق امرأته البتة ليقضينه حقه
إلى شهر]
مسألة وسئل مالك: عن الرجل يكون له قبل الرجل الحق فيحلف بطلاق امرأته
البتة ليقضينه حقه إلى شهر إلا أن يحب أن يؤخره في مثل يمينه الذي حلف له
بها، فلما كان قبل الشهر بيوم وخاف صاحب الحق أن يحل الشهر فيحنث أنظره من
قبل نفسه شهرا آخر وأشهد له، والذي عليه الحق حاضر لم يسأله ولم يستنظره.
قال مالك: عسى، يريد بذلك أن ذلك يجوز، قال سحنون: قال ابن القاسم: ورأيت
مالكا يخففه، وقال: لا بأس به وإن لم يسأله، نظرته جائزة ولا حنث عليه،
وهذا الذي أراد مالك، وروى عيسى عن ابن القاسم مثله.
قال محمد بن رشد: أما نظرته إياه دون أن يستنظره إذا حلف ليقضينه حقه إلى
أجل كذا وكذا إلا أن يحب أن يؤخره فجائزة على ما يقتضيه اللفظ إذا لم يقل
إلا أن يستنظره فيجب أن ينظره، وإنما قال مالك:
(6/27)
عسى أن يجوز وخففه ولم يقطع بجوازه مخافة
أن يكون قصد الحالف إلا أن يستنظره فيجب أن ينظره، ولم يتكلم هل تبقى عليه
اليمين إلى الأجل الذي أنظره إليه أم لا؟ ولا اختلاف في أنها تبقى عليه في
هذه المسألة لقوله فيها: في مثل يمينه الذي حلف له بها، ولو قال إلا أن يحب
أن يؤخره ولم يقل في مثل يمينه التي حلف له بها لتخرج ذلك على قولين:
أحدهما: أن اليمين تُبْقِي عليه إلى الأجل الذي أخره إليه لأنه هو المعنى
المفهوم من قصد الحالف، وهو قول مالك في رسم نذر سنة بعد هذا.
والثاني: أن اليمين تسقط عنه بالتأخير ولا يرجع عليه؛ لأنه هو الذي يقتضيه
ظاهر اللفظ في حكم الاستثناء في اللسان، ويدل عليه قوله في هذه المسألة في
مثل يمينه التي حلف له بها، ولو قال إلا أن يوسع له في الأجل أو يفسح له
فيه لبقيت عليه اليمين إلى الأجل الذي أخره إليه على ما في سماع عيسى بعد
هذا في رسم أوصى قولا واحدا؛ لأنه هو ذلك الأجل الذي حلف عليه إلا أنه مده
له ووسع عليه فيه، والله أعلم.
[قال لجارية أنت حرة إن لم أبعك فإذا هي حامل
منه ولم يعلم]
ومن كتاب طلق ابن حبيب وسئل مالك: عن رجل كان له سوط وأنه غاب عن أهله
أشهرا فقدم عليهم فعتب عن غلام له أراد ضربه فسألهم أن يعطوه السوط،
فقالوا: لا نعلم مكانه، فكأنه ظن أن ذلك منهم كراهية ضربه الغلام، وإنهم
خبوه عنه، فقال: حرم علي ما حل لي إن لم تأتوني به، فطلبوه فلم يجدوه
ووجدوا سوطا غيره فأتوه به، فقال الخادم وغيرها من أهل البيت: هو هو، ولم
يعرفوه وأنكر أن يكون هو.
(6/28)
قال مالك: أرى إن لم تكن عرفته أن الطلاق
قد لزمك وقد بانت منك، وقال: لم أره يذكر شيئا أراده.
قلت له: فإن ذكر نية أكنت تنويه؟ قال: لم أره يذكره، وكأن وجه قوله أن يكون
ذلك له، ومعنى ذلك في رأيي أن يقول لم أرده، وإن لم تكن له نية إنما حلفت
على أني أظن أنهم غيبوه. قال ابن القاسم: ومثل ذلك كمثل الرجل يقول لجارية:
أنت حرة إن لم أبعك، فإذا هي حامل منه ولم يعلم، فهل إن كانت له نية حين
حلف وأراد، إلا أن تكون حاملا وإلا فقد عتقت عليه؛ لأنه لم يصل إلى بيعها،
وكذلك قال إلى مالك، قال ابن القاسم: وكذلك السوط فيما رأيت من وجه قول
مالك، إلا أن تكون له نية أن يقول: إنما حلفت وأنا أظن أنهم غيبوه، فإذا
كانت نيته فلا شيء عليه.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة خالف ابن القاسم فيها مالكا وذهب إلى أن تفسير
قوله على مذهبه، فقال: ومعنى ذلك في رأيي أن يقول إلى آخر قوله: فالتبست
المسألة بذلك وأشكلت، وقول مالك فيها: إنه حانث، إلا أن تكون له نية وإن
كان حلف وهو يظن أنهم غيبوا عنه السوط، وذلك بين من قوله: لأنه قال أرى إن
لم تكن عرفته، فإن الطلاق قد لزمك وبانت منك، وهو إنما حلف وهو يظن أنهم
غيبوا عنه السوط كراهية لضرب الغلام، وقوله: لم أره يذكر نية يدل على أنه
لو ذكر نية لنواه، والنية التي ينتفع عنده بها، وعلى مذهبه أن ينوي في حلفه
عليهم أن يأتوه به إن كانوا خبوه وهم عالمون بموضعه على ما ظنه بهم على
قياس قوله كالذي يحلف بحرية أمته فإذا هي حامل منه أنه حانث إلا أن يكون
نوى إن لم تكن
(6/29)
حاملا، وأما قوله وأراد إلا أن تكون حاملا
فهو كلام وقع على غير تحصيل، ومراده به وأراد إن لم تكن حاملا؛ لأن قوله:
إلا إنما هو استثناء ولا اختلاف في أن الاستثناء بـ "إلا أن"، لا بد فيه من
تحريك اللسان، وقول ابن القاسم فيها إنه لا حنث عليه إذا حلف وهو يظن أنهم
غيبوه لأنه رأى أن حلفه وهو يظن ذلك بمنزلة النية التي رأى مالك أنه ينوي
فيها وينتفع بها، وذلك خلاف لقوله، لا تفسير له كما ذهب إليه، وكذلك لا
يحنث على مذهبه في مسألة الأمة التي حلف بحريتها ليبيعنها وإن لم تكن له
نية؛ لأنه إنما حلف وهو يظن أنها غير حامل، وكذلك لو حلف بحريتها فألفاها
الليلة فإذا هي حائض لم يحنث عند ابن القاسم وحنث على مذهب مالك، وهو قول
أصبغ، وهذا على اختلافهم في مراعاة المقصد في الأيمان والاعتبار بمقتضى
اللفظ دون مراعاة القصد.
ولو حلف ليطأنها الليلة فألفاها ميتة أو ماتت من ساعتها لم يحنث باتفاق،
كمسألة الحمامات الواقعة في النذور من المدونة، وإنما لا يحنث في مسألة
السوط إن لم يأتوه بالسوط على مذهب مالك إن كانت له نية، وعلى مذهب ابن
القاسم إن كان حلف وهو يظن أنهم غيبوه عنه إذا تحقق أنهم لم يغبوه عنه،
وأما إن لم يتحقق ذلك واتهمهم في قولهم أنهم لم يغيبوه عنه فهو حانث، إلا
أنه لا يحكم عليه بالطلاق إذ لا يتحقق حنثه فيؤمر بذلك ولا يجبر عليه
وبالله التوفيق.
[مسألة: رفع الدراهم في بيته ثم طلبها فلم
يجدها]
مسألة وسئل مالك: عن رجل رفع دراهم له في بيته فالتمسها بين فرشه فلم
يجدها، فقال لامرأته: أين الدراهم؟ فقالت: ما رأيتها، فقال: أنت طالق البتة
إن كان أخذها أحد غيرك، ثم إنه خرج ورجع على مصلى كانت له في البيت فرفعه
فإذا هو بالدراهم
(6/30)
تحت المصلى، وذكر أنه جعلها ثم نسيها.
قال: أرى أنها طلقت عليه البتة، قيل له: إنه يقول إنما حلفت ما أخذها غيرك،
وإنها لم تأخذها هي ولا غيرها، ففكر فيها ثم تعجب فيمن يقول لم يحنث، ثم
قال مالك: إنما ذلك بمنزلة ما لو قال لم يسرقها أحد غيرك لم يحركها أحد
غيرك، فأراه حانثا.
وفي سماع عيسى من كتاب بع ولا نقصان عليك، قال ابن القاسم: في رجل افتقد
بضاعة في بيته فاتهم امرأته، فقال لها: أين البضاعة؟ فقالت له: ما أدري،
فقال لها: أنت طالق إن لم تأتني بها بعينها، ثم وجدها في مكان جعلها فيه،
قال: هي طالق، ثم أتي بهذه المسألة التي فوقها، وقال: هي طالق، قال: ولقد
كان بيني وبين ابن بر فيها كلام، فسألنا مالكا عنها، فقال: قد حنث في قوله
في هذه المسألة، وعجب ممن يقول لم يحنث.
قال محمد بن رشد: قول مالك في الذي رفع الدراهم في بيته ثم حلف لما طلبها
فلم يجدها بالطلاق، أن امرأته أخذتها، ثم وجدها حيث جعلها إن الطلاق يلزمه،
إلا أن تكون له نية أنه إن كانت أخذت هو على قياس قوله في المسألة التي
قبلها؛ لأنه إنما حلف وهو يظن أنها قد أخذت فانكشف الأمر بخلاف ما ظن، وفي
الثمانية من رواية ابن الماجشون عنه أنه لا حنث عليه، وأنها نزلت فسئل عنها
عامة أهل المدينة فلم يختلفوا في أنه لا شيء عليه، وهو على قياس قول ابن
القاسم في المسألة التي قبلها؛ لأن معنى يمينه إنما هي أخذتها إن كانت
أخذت، وأما مسألة البضاعة لابن القاسم فهي كمسألة السوط المتقدمة بعينها،
فقوله فيها خلاف قوله في مسألة السوط، مثل قول ابن دينار في مسألة البضاعة
هذه، وقول مالك في مسألة البضاعة هذه على قياس قوله في مسألة السوط، وقد
مضى من القول في مسألة السوط ما فيه بيان وشفاء، فلا معنى لإعادته، وبالله
التوفيق.
(6/31)
[مسألة: حلف
ألا يزوج ابنته لابن عمه ثم خطبها بعد ذلك]
مسألة وسئل مالك: عن رجل كانت له ابنة متزوجة فكان بينها وبين زوجها كلام،
فقال أبوها اتق الله يا عبد الله، فإما أمسكت بمعروف، وأما سرحت بإحسان،
فقال له زوجها: احلف لي بطلاق امرأتك لئن أنا فارقتها ألا تزوجها فلانا
لابن عم له، فقال: نعم امرأته طالق البتة إن أنت فارقتها إن زوجتها فلانا
فأقامت معه بعد ذلك ما شاء الله ثم وقع بينه وبينها شر، فقال له أبوها: اتق
الله يا عبد الله إنما بك ما أعطيتها مما هو عليك أو دفعته إليها، فأنا له
ضامن وخل سبيلها، فقال زوجها لأبيها: فقد ملكتك ذلك، فوقف الأب إعظاما
للتفرقة، ثم قال لابنته: يا فلانة، هذا زوجك قد كان من أمره كذا وكذا
وملكني، فقالت: قد رددت عليه ما أعطاني وبرئت منه وبرئ مني، فقال الزوج: قد
رضيت، فذهب بها، ثم إنها اعتدت فانقضت عدتها ثم خطبها الذي كان أبوها حلف
فيه ولم يكن زوجها فارق ابنته يوم حلف ألا يزوج ابن عمه.
فقال مالك: أرى اليمين عليك، قيل له: فما لهذا حيلة؟ قال: بلى، إن هي
استأذنت السلطان حتى يزوجها فإنها ثيب مالكة أمرها لم أر عليه شيئا.
قال محمد بن رشد: قول مالك في هذه المسألة إن اليمين عليه وهو لم يفارق
ابنته يوم سأله طلاقها خلاف المشهور في المذهب من حمل الأيمان على بساطها،
مثل قوله في رسم سلعة سماها، وقد تقدم القول على ذلك هنالك ولو لم يكن في
هذه المسألة بساط تحمل عليه يمين الحالف من سؤال الأب إياه الطلاق لتخرج
ذلك على الاختلاف في اليمين هل هي محمولة على التعجيل حتى يريد التأخير، أو
على التأخير
(6/32)
حتى يريد التعجيل، والاختلاف في هذا جار
على اختلاف أهل الأصول في الأمر هل يقتضي الفور أم لا؟ وقد مضى هذا المعنى
في كتاب النذور في رسم سن من سماع ابن القاسم ورسم المكاتب من سماع يحيى،
وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف بالطلاق أن يشق كبده إن شق ثوبه]
مسألة وسئل مالك: عن رجل كانت بينه وبين رجل منازعة فجبذ بثوبه، وقال له:
لأشقه، فامرأته طالق البتة إن لم يكن لو أنك شققته لشققت جربك، ثم قال له
الثانية امرأته طالق إن لم يكن لو أنك شققته لشققت كبدك إلا ألا أقدر عليك،
فردده مرتين.
ثم قال له مالك: استغفر الله ولا شيء عليك، قيل له: كأنك لم تر عليه شيئا
إلا أن يشق الثوب؟ قال: نعم، ولم ير عليه شيئا، قال سحنون: هذه جيدة جدا
يرد إليها كل رواية عن مالك مما يشبهها؛ لأنه قد اختلف في مثل هذا قوله.
قال محمد بن رشد: اختلف لو كان كذا وكذا لما لم يكن يفعل كذا وكذا على
ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه لا شيء عليه إذا لم يكن ذلك الشيء كان الذي حلف ليفعلنه مما
يجوز فعله أو مما لا يجوز، وهو قول مالك هذا؛ لأنه لم ير عليه شيئا إذا لم
يشق الثوب، وشق الكبد مما لا يجوز له أن يفعله، فهو فيما لا يجوز له أن
يفعله، وهو قول أصبغ في الواضحة.
والثاني: أنه يحنث إن كان الذي حلف ليفعلنه مما لا يجوز له أن يفعله ولا
يحنث إن كان مما يجوز له فعله، وهو قول مالك في رواية ابن الماجشون عنه،
ودليل قوله في كتاب الأيمان بالطلاق من المدونة في
(6/33)
مسألة الذي حلف لو كان حاضرا لفقأ عين الذي
شتم أخاه؛ لأنه قال فيها: إنه حانث لأنه حلف على ما لا يبر فيه ولا في
مثله، فدل ذلك من قوله أنه لو حلف على ما يجوز له أن يبر فيه لم يحنث، فقول
مالك في مسألة المدونة خلاف قوله في هذه المسألة، إذ لا فرق بين المسألتين،
وهو الذي لجأ إليه سحنون، وقد دل على ذلك أيضا قول ابن القاسم في التفسير.
الثالث: إنه حانث في المسألتين جميعا، وذهب ابن لبابة إلى أن المسألتين
مفترقتان وليس ذلك بصحيح إذ لا فرق بين أن يحلف على فقء عينيه لو كان حاضرا
أو على شق كبده أو شق ثوبه، وقوله كأنك لم تر عليه شيئا إلا أن يشق الثوب
معناه حلف بالطلاق أن يشق كبده إن شق ثوبه فيما يستقبل لم يختلف في أنه لا
شيء عليه إن لم يشق الثوب ولا في أنه يعجل عليه الطلاق إن شقه، ولا يمكن من
البر بشق كبده، وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف ألا يركب حمارا في حج فخرج إلى جدة]
مسألة وسئل مالك: عن رجل حلف ألا يركب حمارا في حج فخرج إلى جدة وهو من أهل
المدينة مرابطا، أفترى له أن يركب حمارا؟
قال: لا أرى له ذلك، ونهاه عنه، قال عيسى: إنما نهاه عن ركوب الحمار إلى
جدة لأن طريقه على مكة، فأما لو كان طريقه على غير مكة فليركب حمارا إن
شاء، وروى يحيى عن ابن القاسم إن كان نوى ألا يركبه في حج لشيء كرهه من
ركوب الحمار في الحج فلا شيء عليه في ركوب الحمار في غير الحج إلى مكة
وغيرها.
قال محمد بن رشد: رواية يحيى لم تثبت في جميع الأمهات،
(6/34)
وهي صحيحة في المعنى لا إشكال في أنه إنما
حلف لكراهته معنى يختص بركوب الحمار في شيء من مناسك الحج، فلا حنث عليه في
ركوب الحمار في غير حج إلى مكة وغيرها، وإن كان حلف لكراهية معنى يختص
بركوب الحمار في طريق مكة إلى المدينة فهو حانث إن ركب في طريق مكة إلى جدة
أو إلى غيرها، وإن كان حلف لكراهة معنى يختص بركوب الحمار في طريق مكة إلى
الحج فيحنث بركوبه الحمار إلى جدة وإن كان طريقه على مكة على ما قاله عيسى
من أجل أنه إذا مر بمكة وجب عليه أن يدخلها محرما بعمرة، والعمرة بعض عمل
الحج فيصير قد ركب حمارا في بعض أعمال الحج والحنث يدخل بأقل الوجوه،
وبالله التوفيق.
[قال لرجل احلف ويميني على مثل يمينك]
ومن كتاب سن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وسئل مالك:
عن رجل قال لرجل: احلف ويميني على مثل يمينك، فحلف بالعتق والطلاق، فأنكر
ذلك.
قال مالك: إذا أنكره مكانه فذلك له، وإن صمت لزمته اليمين.
قال محمد بن رشد: قوله إن ذلك له إذا أنكر مكانه معناه إن ادعى أنه إنما ظن
أنه يحلف بالله، وأنه لم يرد إلا ذلك على ما في رسم سلف من سماع عيسى وعلى
ما حكى ابن حبيب في الواضحة، ويكون عليه اليمين في ذلك على ما حكاه ابن
حبيب، وهذا إذا كانت للحالف زوجة إن كان حلف بالطلاق، أو عبيد إن كان حلف
بالعتق على ما في رسم أبي زيد لأنه إنما أراد أن يكون عليه مثل ما عليه
فإذا لم يلزم الحالف في يمينه شيء لم يلزمه هو شيء إلا أن يقول مثل قوله
محاكاة له أو يقول على مثل ما حلفت به فيلزمه ذلك على ما قاله ابن حبيب في
الواضحة، فالروايات كلها مفسرة بعضها لبعض لا يحتمل شيء منها على الخلاف،
وبالله التوفيق.
(6/35)
[مسألة: حلف
بتطليقة على موت ناقة أنها ماتت فيما بين الظهر والعصر]
مسألة وسئل مالك: عن رجل حلف بتطليقة على موت ناقة أنها ماتت فيما بين
الظهر والعصر ثم شك في ذلك، فأتى يسأل مالكا بعد حين.
فقال مالك: إن كانت لم تحض ثلاث حيض من يوم حلفت فارتجعها وأشهد على ذلك
فقد وقعت عليك تطلقة، وإن كانت قد حاضت ثلاث حيض من يوم حلفت كنت خاطبا من
الخطاب وقد بانت منك إلا بنكاح جديد.
قال محمد بن رشد: يريد أن هذا يؤمر به ولا يجبر عليه إن أباه؛ لأن هذا من
الشك الذي لا يحكم فيه في الطلاق، وقد مضى في رسم القطعان من سماع عيسى من
كتاب طلاق السنة تقسيم الشك في الطلاق على مذهب مالك، فلا معنى لإعادته،
وبالله التوفيق.
[قال امرأته طالق لقد بعته منه بمحضر فلان
وفلان]
ومن كتاب أخذ يشرب خمرا وسئل مالك: عن عبد كانت له زوجة وأن سيده أرسل إليه
في خرج كان للعبد، فأرسل إليه إني قد بعته من أخيك، فأتى سيده مغضبا يظن
أنه كتمه إياه، فقال: أين الخرج؟ قال: بعته من أخيك، قال: فاحلف بطلاق
امرأتك، قال العبد: امرأته طالق إن لم يكن أخوك أرسل إلي فيه وبعته إياه
وانتقدت ثمنه، ثم إن العبد ذكر بعد ذلك فإذا أخو الرجل هو الذي لقيه في
الخرج وباعه إياه وانتقد ثمنه، وأنه لم يأته فيه رسول.
قال مالك: لا أرى عليك في ذلك حنثا، إنما أراد وجه
(6/36)
الكتمان وأنه اتهمه ألا يكون باعه، وأنه
غيبه، فما أرى في ذلك شيئا، قيل: إنه حلف لقد أرسل إلي وإنما لقيته؟ قال:
ما أرى عليه شيئا.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال إنه لا حنث عليه لأنه لم يقصد بيمينه إلا
الحلف على ما استحلفه سيده عليه من أنه قد باع الخرج ولم يغيبه عنه، وما
زاد في يمينه من أن أخاه أرسل إليه فيه لم يقع عليه فيه اليمين، إذ لم
يستحلفه سيده على ذلك ولا قصد هو إلى الحلف عليه ولا إلى أن يحقق بيعه به
إذ لا تأثير لذلك في تحقيق البيع، ولو كان لما زاده في يمينه تأثير في
تحقيق البيع مثل أن يذكر أنه لم ينتقد الثمن وهو قد حلف أنه باعه وانتقد
ثمنه وهو أن يقول امرأته طالق لقد بعته منه بمحضر فلان وفلان، ثم ذكر أنه
لم يبعه منه إلا فيما بينه وبينه لتخرج ذلك على قولين في مسائل حكاها ابن
حبيب من هذا النوع، وستأتي هذه المسألة متكررة وما يشبهها في رسم استأذن من
سماع عيسى.
[مسألة: طلاق السكران]
مسألة وسئل: عن عبد سكران أتى إلى باب دار رجل فأغلق صاحب الدار بابه
فزعزعه السكران من الليل، فقال وهو سكران متلطخ: قد قفلته كانت له امرأة
حرة- فهي طالق، فقال له صاحب الدار: ويحك ما أظنك إلا وقد حرمت عليك، قال:
إن كانت حراما فهي حرام، قيل له: ويحك ما نظنك إلا وقد طلقت منك، قال: إن
كانت طالقا فهي طالق.
قال مالك: أراها قد بانت منه.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة أن العبد السكران
(6/37)
أتى إلى باب دار رجل وهو يظن داره، فلما
أغلق صاحب الدار باب داره دونه، ظن هو أن زوجته هي التي أغلقت الباب دونه،
فقال: هي طالق طالق يريد امرأته، فخاطبه صاحب الدار بما خاطبه به وراجعه هو
بما راجعه، فرأى مالك أنها قد بانت منه بثلاث من أجل قوله إن كانت طالق فهي
طالق؛ لأنها قد كانت طالقا بطلقتين بقوله: هي طالق طالق، فوقعت عليه تطليقة
ثالثة بقوله إن كانت طالقا فهي طالق، ولم يلزمه شيء بقوله إن كانت حراما
فهي حرام، إذ لم تكن بعد حراما، وإنما كانت طالقا تطلقتين، وهو إذا أشهدت
عليه بذلك بينة، وأما إن أتى مستفتيا فادعى أنه لم يرد بذلك طلقة ثالثة،
وإنما أراد الإخبار بأنها طالق إن كانت طالقا فينوي في ذلك وينوي أيضا إن
أتى مستفتيا في أنه لم يرد بقوله هي طالق طالق إلا طلقة واحدة، وإنما كرر
اللفظ بالطلاق على سبيل التأكيد.
وإيجابه الطلاق عليه بقوله هي طالق وهو يشير إلى صاحب الدار يظن أنها
امرأته معارض لأول مسألة من سماع عيسى أيضا من كتاب، والقولان في هذا
المعنى قائمان من العتق الأول من المدونة: مسألة مرزوق وناصح، وقد تأول في
هذه المسألة أن امرأة السكران هي التي أغلقت الباب دونه، وهو بعيد على ظاهر
اللفظ، وبالله التوفيق.
[مسألة: عبد بين أخوين فحلف أحدهما بطلاق
امرأته إن لم يبع نصيبه منه]
مسألة وسئل: عن عبد كان بين أخوين فحلف أحدهما بطلاق امرأته إن لم يبع
نصيبه منه أو يشتريه منه أو يقاومه إياه، فقال أخوه: أنا أبتاعه منك بدين
إلى سنة وأرهنك ما اشتريت منك فيه، واجعله على يدي رجل، فكيف ترى؟
(6/38)
فقال: لا أرى له أن يفعل هذا، لم يخرج منه
بعد، كأنه في يديه، فلا أرى ذلك له، فقال له الرجل: فإن ذلك قد نزل، أفترى
علي في يميني شيئا؟ قال: ارتجع الغلام فبعه من غيره وانتقد ثمنه، ولم ير
عليه في يمينه شيئا، قال ابن القاسم: لست آخذ فيه بقول مالك إذا صح أصل
البيع وسلم من الدلسة، فأراه قد بر وخرج من يمينه ارتهن ذلك الذي باع أو لم
يرتهنه، وغيره من البيوع أحب إلي.
قال محمد بن رشد: قول الحالف في يمينه: إن لم يبع نصيبه منه أو يشتريه منه
أو يقاومه إياه معناه ليبيعن نصيبه من العبد إلا أن يشتريه منه أخوه أو
يقاومه إياه، فخشي مالك لما اشتراه منه أخوه بدين إلى أجل على أن يرهنه
إياه إلى ذلك الأجل ألا يبر بذلك البيع مخافة أن يكون إنما باعه منه هذا
البيع ليأخذه منه عند الأجل فيما لو عليه من الثمن، فكأنه في يديه لم يبعه
لكونه رهنا به بالثمن، وأمره أن يرتجع الغلام فيبيعه من غيره، ومعناه: إن
طاع له أخوه المبتاع بذلك، إذ من حقه أن يتمسك ببيعه إذ ليس ببيع فاسد على
مذهبه، وهذا إن كان قبض منه ما اشترى وجعله على يدي رجل كما ذكر، ولو كان
لم يقبضه وتركه رهنا بيديه لكان البيع فاسدا، إذ لا يجوز أن يباع شيء من
الحيوان أو العروض الذي لا يجوز تأخير قبضها على أن يبقى بيد البائع رهنا
إلى أجل، لا يجوز أن يتأخر قبضها منه.
وقد قال ابن القاسم في المجموعة: إن مالكا إنما خاف أن يدخله البيع الفاسد
فلا يبر الحالف، كمن باع عبدا إلى أجل على ألا يدفعه إليه إلا إلى الأجل،
وليس قوله ببين، إذ قد ذكر أنه يجعله على يدي رجل. وقوله ولم ير عليه في
يمينه شيئا معناه أنه لا يحنث إذا ارتجع الغلام، إذ لم يفته البر بالبيع
بعد حين لم يضرب له أجلا إلا على القول بأن اليمين على التعجيل حتى يريد
التأخير، وقد مضى القول في ذلك في رسم طلق. ورأى ابن القاسم أنه يبر بذلك
البيع إذا صح أصله وسلم من الدلسة يريد من التواطي على رد العبد إليه،
وإنما قال: إن غيره من البيوع أحب إليه للاختلاف
(6/39)
فيه، إذ قد قيل: إنه لا يجوز أن يشتري أحد
شيئا بثمن إلى أجل على أن يرهن البائع ما أشتري، كان من الأصول التي يجوز
تأخير قبضه أو من العروض والحيوان الذي لا يجوز تأخير قبضه، بشرط أن يجعل
بيد عدل، وهو قول أشهب في سماع سحنون من كتاب السلم والآجال، وقد ذكر هناك
العلة عنده في ذلك، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال جاريتك طالق إن تزوجتها]
مسألة وسئل: عن غلام قد ناهز الحلم تزوج جارية امرأة وكان يخلو بها ويغيب
عليها ويغتسل منها، ثم إنه قال لسيدتها: أرسليها إلي، قالت: لا، أنت لعنت
عليها وتضربها، فقال لها: أمسكي جاريتك فهي طالق إن تزوجتها.
فقال مالك: ما أرى من أمر بين، وإنه لأمر مشكل، وإن أحب إلي أن يفرق بينهما
وتعتد منه، ثم قال: ما الذي أراد؟ فقالوا: قد سألناه: فقال: لا أدري، إنما
هو كلام خرج مني لم أرد به شيئا، قال: هو أمر مشكل، أرى أن يفرق بينهما،
قيل له: بالبتة أم بواحدة؟ قال: فرق بينهما وَأْمُرْهَا أن تعتد حتى أنظر
في ذلك، ولم يفصل فيها شيئا، وكان رأيه فيما أظن أو قاله البتة في أول
قوله، ثم وقف. قال عيسى: وسألت ابن القاسم عن هذا فقال: إذا لم يعرف ما
أراد فهي البتة، وهو أحب قوله إلي.
قال محمد بن رشد: إنما تطلق هذه الأمة بقوله أمسكي جاريتك لأنه أراد به وجه
ردها على مولاتها، وبين ذلك بقوله هي طالق إن تزوجتها، لا بقوله هي طالق إن
تزوجتها لأنها زوجته قبل ذلك فصار ذلك بمنزلة قول
(6/40)
الرجل في ثوب قد باعه: هو صدقة إن بعته،
ولذلك ألزمه ابن القاسم البتة إذ لم يعلم ما أراد بقوله أمسكي جاريتك، ولو
كان إنما أراد أنها طالق بقوله هي طالق إن تزوجتها على ما في نوازل أصبغ من
أن من حلف ألا يشتري شيئا بعد أن اشتراه أنه حانث إلا ألا يلزمه البائع
الأخذ، ولا يمكن ألا يلزم النكاح بعد انعقاده لما ألزمه البتة؛ لأن الواحدة
في هذا ظاهرة، وقول ابن القاسم إنها البتة إذا لم يعرف ما أراد يدل على أنه
لو ادعى نية لقبلت منه، والأظهر أنها ثلاث ولا ينوي بعد الدخول؛ لأن قوله
لسيدتها أمسكي جاريتك كقوله لها قد رددتها إليك سواء، ولما قال أيضا هي
طالق إن تزوجتها ولم يقل هي طالق إن راجعتها دل على أنه أراد إبانتها بذلك
القول، وإلزامه الطلاق وهو قد ناهز الحلم قبل أن يحتلم، معناه إذا كان قد
أنبت، قاله ابن أبي زيد، وهو خلاف ما في رسم تأخير صلاة العشاء من سماع ابن
القاسم من كتاب طلاق السنة، وهذا الاختلاف جار على اختلاف قول مالك في
المدونة في الإنبات، هل يحكم به بحكم الاحتلام فيما يلزمه من الحدود أو لا؟
وبالله التوفيق.
[مسألة: ما زاده من الكلام بعد كمال يمينه]
مسألة وسئل: عن رجل قالت له امرأته يا ابن الخبيثة، ثم جحدت أن تكون قالت
له يا ابن الحبيشة، وقالت: إنما قلت له يا ابن الخبيثة، فقال لها: أنت طالق
إن لم تكوني قلت لي يا ابن الخبيثة، ثم سكت قليلا فقال لها: لقد قلتها لي
ثلاث مرات، ثم شك أن تكون قالتها له ثلاث مرات، إلا أنه تثبت أنها قالتها
له وهو متيقن لذلك.
قال: أرأيت الكلام الأخير الذي كان بينه وبين كلام يمينك
(6/41)
التي حلفت بها أردت به طلاقا أو ذكرته؟
قال: لم أرد ذلك إلا أني حلفت إذ حلفت وأنا مستيقن قد قالته لي ثم سكت وقلت
لها بعد ذلك بقليل لقد قلتها لي ثلاث مرات.
قال مالك: ما أرى عليك شيئا إلا أن تكون أردت بذلك طلاقا أو ذكرته.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن ما زاده من الكلام بعد كمال يمينه لا
يقع عليه اليمين إلا أن يتصل باليمين، كما أن الاستثناء فيه لا يعمل بعد
انقطاع الكلام، وبالله التوفيق.
[حلف بطلاقها البتة أنها ما لها حق]
ومن كتاب يسلف في المتاع والحيوان وسئل: عن رجل كانت بينه وبين امرأته
منازعة في بيت وكانت بنت عمه، فحلف بطلاقها البتة أنها ما لها حق، فجاءت
بالبينة أنه لجدها، وجاء الرجل بالبينة - أن أباه كان يحوزه دون إخوته،
وجاء بشاهد واحد يشهد أن أباه كان استخلصه من إخوته.
قال مالك: أرى أن يحلف بالله الذي لا إله إلا هو إن حقه لحق، وما لها فيه
من حق، وإن الذي حلف عليه بالطلاق لحق، ويخلى بينه وبين امرأته.
قال محمد بن رشد: قوله إنه يحلف بالله الذي لا إله إلا هو أن
(6/42)
قوله لحق وما لها فيه من حق، وإن الذي حلفت
عليه بالطلاق حق ويخلى بينه وبين امرأته مع أن له شاهدا يشهد له باستخلاص
أبيه البيت ليس بكلام محصل. والصواب: أن يحلف أن ما يشهد به الشاهد من
استخلاص أبيه البيت حق، وأن ما حلف عليه من الطلاق حق، فإذا حلف على ذلك
استحق البيت وخلي مع امرأته، ولو لم يكن له شاهد على الاستخلاص لحلف على ما
نص ما ذكر وبقي مع امرأته ولم يستحق البيت؛ لأن الحيازة بين الأقارب ليست
بعاملة إلا مع الهدم والبنيان، أو مع المدة الطويلة على اختلاف في ذلك، وفي
آخر رسم الطلاق الأول من سماع أشهب بيان هذا الذي ذكرناه من أنه إذا لم يكن
دليل على صدق دعواه من شاهد يحلف معه حلف وبقي مع امرأته ولم يكن له ما
ادعاه، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال لزوجته أنت طالق البتة إن رددت
الثوبين]
مسألة وسئل مالك: عن رجل كسا امرأته ثوبين وكان أحدهما عند الخياط فطرح
إليه إزارا وهو أحدهما، فكرهته، فقال لها حين كرهته أنت طالق البتة إن
رددتهما إلي إنهما لا يرجعان إليك إلا بعدو من السلطان فردته إليه فرده
إليها، ثم إنها ردته إليه.
فقال مالك: ما أرى إلا وقد طلقت عليك، فقال الرجل: إنما نويتهما كليهما،
فقال: قد فهمت ما تقول، أرأيت لو كانت عشرة أثواب فردت التسعة ألم تحنث؟ ما
أراه إلا وقد حنث.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال إنه بحنث برد أحدهما إليه بعد أن ردته إليه
على أصولهم فيمن حلف ألا يفعل شيئين ففعل أحدهما، أو لا يفعل شيئا ففعل
بعضه؛ لأن الحنث يدخل بأقل الوجوه، ولا ينوي فيما
(6/43)
زعم من أنه أراد كليهما فيما يحكم به عليه
من الطلاق، إلا أن يأتي مستفتيا من أجل أنها نية مخالفة لظاهر لفظه؛ لأن من
حلف ألا يفعل شيئين فقد حلف ألا يفعل واحدا منهما في ظاهر لفظه، وبالله
التوفيق.
[حلف بطلاق امرأته ألا يجاور أباه وهو يستطيع]
ومن كتاب تأخير صلاة العشاء في الحرس وسئل: عن رجل
حلف بطلاق امرأته ألا يجاور أباه وهو يستطيع،
قال: هذا عندي أن يستأذي عليه السلطان أو حلف عليه لأنه مستطيع لترك
مجاورته أباه، أو يحلف عليه أبوه أن يكون ذلك مخرجا له، وليس للسلطان أن
يجبر على مثل هذا أحدا، وقال له: كم لك مذ حلفت؟ قال: منذ عشرة أيام، قال:
كأني رأيته يرى إن كان أقام معه أن يكون قد حنث، وكأني رأيته يرى ذلك.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال له إنه يحنث بمجاورته وإن استعدى عليه أبوه
السلطان مع ذلك كله، إذ لا يجبره السلطان على مجاورته. ولو أجبره على ذلك
وأكرهه بما يصح الإكراه به وإن كان لا يجوز له ذلك لكان له مخرجا من يمينه،
ولو ادعى أنه نوى ألا يقدم عليه أبوه أو يحلف عليه، يستعدي عليه السلطان
لما صدق في شيء من ذلك مع قيام البينة عليه باليمين، ولم يجعل حرجه في عقوق
أبيه بتحنيثه بيمينه عدم استطاعة لأنه لما حلف على ترك مجاورته فقد قصد إلى
إسخاطه.
ولو قصد بيمينه البر بأبيه مثل أن يكون له زوجة يخشى أن تضربه لقرب الجوار
لكان له مخرج في يمين أبيه عليه في ذلك، والله أعلم، وقوله كأني رأيته يرى
إن كان أقام معه أن يكون قد حنث معناه إن كانت
(6/44)
إقامته معه إقامة تمكنه الرحلة عنه فيما
دونه، وهو على قوله في أول رسم من هذا السماع، خلاف ما في المدونة من أن من
حلف ألا يساكن رجلا ينتقل عنه تلك الساعة وإلا حنث، وقد مضى القول على ذلك
هناك، فلا معنى لإعادته.
[مسألة: وقعت له خصومة فحلف بالطلاق ألا يتركها
حتى يبلغ أقصى ما فيها]
مسألة كتب عليه ذكر حق، وسئل: عن رجل وقع بينه وبين رجل خصومة في سلعة
اشتراها، فحلف بالطلاق أو بالعتق ألا يتركه حتى يبلغ أقصى ما فيها، فخاصم
فيها فأقام شاهدا وكانت الخصومة في بيع، فقضى عليه باليمين مع الشاهد،
وأراد أن يرد اليمين عليه، قال مالك: لا أحب أن يرد اليمين عليه؛ لأني أرى
أنه إذا ردها عليه لم يبلغ أقصى ما حلف عليه.
قال محمد بن رشد: وهذا إذا علم أن الشاهد شهد بحق، وأما إن علم أنه شهد
بباطل فلا يحل له أن يحلف معه، ولا أن يحلف خصمه وهو حانث أيضا إن لم يحلف
معه؛ لأنه لما حلف ألا يتركه حتى يبلغ أقصى ما فيها وهو يعلم أنه لا حق له
فإنما قصد ألا يفارقه حتى يأخذ ما يدعيه قبله من الباطل إن حكم له به عليه،
إلا أن يكون أراد غيظه وألا يأخذ منه شيئا، تلك نيته فلا يكون عليه شيء إن
لم يحلف مع الشاهد حلف خصمه أو لم يحلفه هذا معنى.
قال ابن القاسم في رسم البراءة من سماع عيسى: وأما إن لم يدر أن كان ما
ادعاه قبله حقا أو باطلا إلا بشهادة الشاهد، فقال في الرسم المذكور: إنه
حانث إن لم يحلف معه، يريد: وإن كان لا يسوغ له أن يحلف معه ولا يدري صدقه
من كذبه؛ لأنه لما حلف ألا يفارقه
(6/45)
حتى يبلغ أقصى ما فيها، فإنما أراد ألا
يسامحه في ترك شيء مما يحكم له به عليه، والله الموفق.
[مسألة: عوتب في أمه فحلف بالطلاق أني ما
علمتها إلا فظة غليظة]
مسألة وسئل: عن رجل حلف بطلاق امرأته البتة وعوتب في أمه في شيء من أمرها
فحلف بالطلاق أني ما علمتها إلا فظة غليظة عليه تحريمه مالها.
قال: يدين في يمينه، ويحلف على ما حلف عليه.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: إنه يدين ويحلف، وإن قامت عليه البينة
باليمين وطولب بها لأنها نية محتملة ليست بمخالفة لظاهر قوله، ولو أتى
مستفتيا لم يكن عليه شيء.
[مسألة: قال لزوجته أمام الشهود أنت طالق البتة
ثلاثا إن أذنت لك]
مسألة وسئل: عن رجل قالت له امرأته وعنده شهود: ايذن لي أن أذهب إلى أهلي،
فقال: أنت طالق البتة، أنت طالق البتة، أنت طالق البتة، إن أذنت لك،
فقالوا: قد طلقت، فقال: إنما أردت أن أسمعها وأردد اليمين عليها ولم أقطع
كلامي.
فقال: ما أظنها إلا وقد بانت منه وقد ألبس، وإن ما فيه ما ترى من الإشكال
وما هو بالبين. قال ابن القاسم: أرى أن يحلف أنه ما أراد إلا أن يفهمها
ويسمعها، ولا يكون القول قوله.
(6/46)
قال محمد بن رشد: الواجب في هذه المسألة
على المشهور في المذهب من مراعاة البساط في الأيمان ألا يلزمه طلاق ولا
يمين؛ لأنها لما سألته الإذن إلى أهلها دل ذلك على أنه إنما أراد بقوله
الحلف بالطلاق ألا يأذن لها فيما سألته الإذن فيه، لا تبتيل الطلاق إذ لم
تسأله ذلك.
ولو سألته ذلك، فقال لها: أنت طالق البتة، أنت طالق البتة، أنت طالق البتة،
إن أذنت لك إلى أهلك - لوجب أن تبين منه بالثلاث قولا واحدا، ويجعل قوله أن
أذنت لك إلى أهلك ندما منه، وإنما يصح هذا الاختلاف على القول بأن البساط
لا يراعى في الأيمان. وقد مضى ذكر الاختلاف في ذلك في رسم سلعة سماها، وقد
وقعت هذه المسألة في رسم سلف دينارا من سماع عيسى معراة من البساط.
وقال مالك فيها: إن الطلاق لزمه، أذن لها أو لم يأذن لها. ودينه ابن القاسم
مع يمينه مثل قوله هاهنا، وعلى قوله في المدونة لا يمين عليه، فقد قال
فيها: من قال: أنت طالق أنت طالق أنت طالق إن دخلت الدار - أنه ينوى إن
دخلت الدار في أنه إنما أراد واحدة، فلم ير عليه طلاقا إلا أن تدخل الدار،
وذلك على أصله فيها فيمن أقر بالنفقة لرجل، وقال: إن البنيان له أو
بالخاتم. وقال: إن الفص له إن قوله مقبول إذا كان الكلام نسقا متتابعا، وقد
روى أصبغ عنه في كتاب المديان والتفليس فيمن قال لفلان علي ألف دينار وعلى
فلان وفلان: إنها كلها عليه وإن كان الكلام نسقا واحدا متتابعا، بخلاف قوله
لفلان علي وعلى فلان وفلان ألف دينار، وخالفه أصبغ، فلم ير عليه إلا ثلاث.
الهدف: إذا كان الكلام متتابعا، فرواية أصبغ هذه عنه على قياس قول مالك في
مسألة الطلاق، وقوله من رأيه على قياس قول ابن القاسم في المدونة، وإيجاب
(6/47)
ابن القاسم عليه اليمين استحسان مراعاة
للخلاف، وهو أحسن الأقوال وأولاها بالصواب عند عدم البساط، والله أعلم.
[مسألة: حلف بطلاق امرأته في دين أنه إذا وقع
قسمه في دينه ليقضين ذلك الحق]
مسألة وسئل: عن رجل حلف بطلاق امرأته البتة في دين عليه أنه إذا وقع قسمه
في دينه ليقضين ذلك الحق.
فقال: لا أرى عليه شيئا حتى يأخذ القسم، فإذا أخذ القسم ووقع في يديه
فليدفع ذلك، فإن هو تهاون في قبضه بتوليج أو تثاقل أو ترك لذلك أو داهن في
ذلك وهو يقدر على أخذه فأرى عليه الطلاق، فإن هو غلب على القسم فلم يقدر
على أخذه ولم يكن فيه منه مداهنة، فلم أر عليه طلاقا.
قال محمد بن رشد: ظاهر قوله أنه إن فرط وتهاون في ذلك حتى مضى الوقت الذي
كان يقبضه فيه لو جد في قبضه أن الطلاق يلزمه وإن لم يأمن من قبضه بعد، قال
ابن المواز: وقد قيل: إنه لا يحنث حتى يرتفع العطاء وينقطع الإعطاء، فأما
ما دام يرجو فلا حتى ييئس من أخذ ذلك.
وجه قول مالك: مراعاة المعنى، وذلك إنما قصد ألا يمطله بحقه، وعلى ذلك وقعت
يمينه، فإذا ترك اقتضاء القسم الذي حلف ليقضينه منه حتى مضى وقته المعهود،
فقد مطله وحنث، والله اعلم.
ووجه ما في كتاب ابن المواز: اعتبار اللفظ دون مراعاة المعنى، وهو أصل
مختلف فيه، وبالله التوفيق.
(6/48)
[مسألة: دابتين
كانتا له ولامرأته ولابنته فقال الحلال علي حرام إن انتفعت بشيء منهما]
مسألة وسأل مالكا رجل: عن دابتين كانتا له ولامرأته ولابنته، فقال: الحلال
علي حرام إن انتفعت بشيء منهما.
فقال: يسلم ذلك إليهما فيبيعانهما ولا أحب له أن يجعل ثمنهما في شيء ينتفع
به ولا في دابة أخرى ولا يجعله في كسوة أحد ممن يلزمه كسوته ويكف عنه بذلك
الكسوة التي كانت تلزمه ولا في شيء مما تلزمه النفقة لا بد له منه، ولكنهما
يجعلا فيه بعد هذا فيما شاءا لا يفرض لهما فيه ولا يدخلان ثمنه في شيء مما
يرفع به النفقة عنه، قال أصبغ بن الفرج: إنما معنى هذا في فتيا مالك أن
الحالف أراد أن يسلمه ذلك إليهما، فأما من حلف على ثوبه أو عبده ألا ينتفع
به فليحبسه ولا يبعه ولا يهبه ولا يتصدق به؛ لأنه إذا فعل فقد انتفع به،
وهذا إذا حلف ألا ينتفع بشيء من ثمنه، فإن لم يرده فلا بأس أن يبيعه وينتفع
بثمنه ويهبه إن شاء.
قال محمد بن رشد: قول أصبغ هذا إذا اعتبرته متناقض يرد آخره أوله، أما قوله
أولا: إنما معنى هذا في فتيا ملك أن الحالف أراد أن يسلم ذلك إليهما، فأما
من حلف على ثوبه أو عبده ألا ينتفع به فليحبسه ولا يبعه ولا يهبه ولا يتصدق
به لأنه إذا فعل ذلك فقد انتفع به فهو صحيح؛ لأنه معنى قول مالك على ما
قال؛ لأن من حلف ألا ينتفع بشيء ولم تكن له نية في وجه من وجوه الانتفاع
ولو كان ليمينه بساط مذكور يحمل عليه، ولا مقصد مظنون يرد إليه فالواجب أن
يحمل الانتفاع على عمومه في كل شيء، فلا ينتفع به في وجه من وجوه المنافع
ولا بثمنه ولا بهبته ولا يتصدق به ولا يعتقه إن كان عبدا؛ لأن ذلك كله
انتفاع، ولا يبرأ إلا بحبسه دون انتفاع أو إهلاكه فيما لا يحمل عليه في
الدنيا ولا يثاب عليه في الأخرى، وأما قوله آخرا: وهذا إذا حلف ألا ينتفع
بشيء من ثمنه فإن لم
(6/49)
يرده فلا بأس أن يبيعه وينتفع بثمنه ويهبه
إن شاء، فهو نص منه على أنه إذا حلف ألا ينتفع به ولم ينو ترك الانتفاع
بثمنه فله أن يبيعه وينتفع بثمنه، وذلك خلاف قوله أولا؛ لأنه حمل الانتفاع
على الانتفاع بعينه دون الانتفاع بثمنه لقوله به، فاتبع ظاهر اللفظ ولم
يراع المعنى، وهو خلاف المشهور في المذهب، وبالله التوفيق.
[مسألة: أجير زرع حلف لا خان فدرى أندرا ثم عمد
إلى التبن فأعاده]
مسألة وسئل مالك: عن مملوك بذي المروة وسيده بالعراق وله خلفاء بالمدينة،
فكان بين العبد وبين رجل من أهل ذي المروة مشاتمة، فقال له الرجل الساكن
بذي المروة: إنك لخائن، فحلف له المملوك بطلاق امرأته البتة، وكانت للمملوك
امرأة حرة: إن كنت خنت تمرة واحدة، فشهد عليه أنهم رفعوا تمرا من مربد إلى
مربد فبقي في أسفل المربد نوى، فقال له الحفاظ الذين معه: اشتر لنا به لحما
نأكله، وكان قدر صاع، وشهد عليه أنه استخبأ يوما رطبا هو وصاحب له، فأخذ كل
إنسان منهم بعضه فذهب به إلى منزله، فقال الغلام: إنما حلفت على الخيانة،
فأما كل شيء وسع علي فيه فلم أرده ولم أحلف عليه، فقال وكلاء الرجل الذي
بالعراق: هذه أشياء قد وسعنا للقدمة فيها يأكلون من الرطب والنوى.
قال مالك: أرى أن يحلف العبد بالله الذي لا إله إلا هو أنه ما حلف بطلاق
امرأته إلا على تمر يبيعه فيختان ثمنه أو يسرقه، فأما ما أصبت مما وسع علي
فيه فلم أحلف عليه، إذا حلف فلا شيء عليه.
(6/50)
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن ما جرت
العادة أن أرباب الأموال يسامحون القدمة فيه ولا ينكرونه عليهم إذا هم
فعلوه، محتمل ألا يكون الحالف أراده، إذ ليست بخيانة محضة، فنواه في ذلك مع
يمينه، وذلك صحيح على الأصول، ومن هذا المعنى في كتاب ابن المواز: وعن أجير
زرع حلف لا خان، فدرى أندرا، ثم عمد إلى التبن فأعاده فخرج له منه شيء
فأخذه، فإن كان ذلك التبن تركه ولا يريد معاودته فلا شيء عليه، وهو مثل
السنبل يلقط خلف الحصاد.
قال أبو محمد: وذلك إذا علم بذلك رب الزرع، يريد أبو محمد: إذا علم أن تبن
الزرع إذا دري يعيد دروه من شاء لا يمتنع منه فيستوي في ذلك الأجير وغيره،
فلا يكون حانثا، والله أعلم.
[مسألة: قال لامرأته إن تزوجت ما عشت فكل امرأة
أتزوجها طالق البتة]
مسألة وسئل مالك: عن رجل قال لامرأته: إن تزوجت ما عشت فكل امرأة أتزوجها
طالق البتة، فطلق امرأته وأراد أن يتزوج.
قال مالك: أرى أن يدين، فإن كان إنما أراد وهي عندي على وجه ما يرضي به
امرأته فأرى أن يحلف ويتزوج، وإن كان إنما أراد ما عاشت ولم ينو في ذلك ما
كانت عندي فأرى ذلك يلزمه.
قال محمد بن رشد: قوله: وإن كان إنما أراد ما عاشت ولم ينو في ذلك ما كانت
عندي معناه ونواه مع يمينه وإن كانت نيته مخالفة لظاهر لفظه، لكون النية في
ذلك محتملة لكونها زوجة، أو لو لم تكن زوجة له، فقال: إن تزوجت ما عاشت
فلانة فكل امرأة أتزوجها فهي طالق، ثم أراد
(6/51)
أن يتزوج قبل أن تموت، وقال: إنما أردت ما
عاشت وكانت زوجة لفلان وما أشبه ذلك لم ينو في ذلك مع قيام البينة عليه،
ولم يكن له أن يتزوج ما عاشت إلا أن يخاف على نفسه العنت، وبيان هذا في
كتاب الأيمان بالطلاق من المدونة، وقد مضى في آخر رسم من كتاب أوله شك في
طوافه من سماع ابن القاسم من كتاب النكاح القول في هذه المسألة إذا كانت
اليمين فيها شرطا في أصل العقد فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[: حلف بالطلاق أن لا يدخل لهما في شيء فذهب
يريد الإصلاح بينهما]
ومن كتاب أوله اغتسل على غير نية وقال مالك: في رجل دخل بين ابني عم له
بصلح فاتهماه جميعا في أمرهما، فحلف بطلاق امرأته البتة إن دخل في أمرهما
بشيء، ثم إنه اجتمع أحدهما مع رجل آخر، فكان يذكر له أمره، والرجل الذي حلف
قاعد، فقال له الرجل: يا فلان، للحالف اذهب ادع لي فلانا حتى أسمع من
كلامهم، فذهب الحالف فلم يجده.
فقال مالك: إن كان إنما أراد الكلام والإصلاح فيما بينهما ولم يرد بذلك
المشي ولم يحلف عليه فلا أرى عليه شيئا.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال إنه إن لم تكن له نية فهو حانث؛ لأن ذهابه
ليدعوه إلى من يريد الإصلاح بينهما دخول في أمرهما. وقوله: إنه إن كان لم
يرد المشي ولم يحلف عليه، فلا أرى عليه شيئا. معناه: وعليه اليمين، إلا أن
يأتي مستفتيا على ما تقدم من أصله في غير ما مسألة، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال لها إن فوضت لك شيئا فأنت طالق
البتة ثم قال لمعلمه ادفع إليها إجارتي]
مسألة وسأله حايك: عن امرأة له قال لها: إن فوضت لك شيئا فأنت طالق البتة،
ثم قال بعد ذلك لمعلمه: ادفع إليها إجارتي،
(6/52)
فسأل مالكا عن ذلك ولم تكن قبضت شيئا.
فقال: الأمر تفويض، ولا أرى الطلاق إلا قد لزمه.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال، فلا وجه للقول فيه، وبالله التوفيق.
[مسألة: طلق امرأته واحدة وهو مريض ثم صح وخرج
ثم مرض فطلقها أخرى]
مسألة وسئل مالك: عن رجل طلق امرأته واحدة وهو مريض ثم صح صحة بينة وخرج،
ثم مرض فطلقها أخرى.
قال مالك: أرى أن ترثه ما دامت في العدة ولا ترثه بعد انقضاء العدة.
قال محمد بن رشد: وهذا بين على ما قال؛ لأنه لما صح صحة بينة بعد أن طلقها
كان بمنزلة ما لو طلقها وهو صحيح، فوجب ألا ترثه إلا ما دامت في العدة، ولا
يعتبر بالطلاق الثاني في المرض؛ لأنه ليس يقاربه، ومثل هذا في المدونة، وهو
مما لا اختلاف فيه، وبالله تعالى التوفيق.
[مسألة: قال لها أنت طالق البتة إن كنت اشتريت
الحمام لمن تظنين]
مسألة وسئل مالك: عن رجل نهته امرأته عن صحابة قوم كانوا يلعبون بالحمام،
فدخل عليها يوما معه حمام، فقالت له: أخبرني لمن اشتريت هذه الحمام، فأبى
أن يخبرها، فقالت: ما أظنك كتمتني إياه إلا أنك اشتريته لمن نهيتك عنه،
فقال لها: أنت طالق البتة إن كنت اشتريته لمن تظنين.
قال: أرى أن يحلف لها في ذلك ما اشترى لمن تظن إن طاوعها على اليمين.
(6/53)
قال محمد بن رشد: وهذا بين على ما قال أنه
لا يمين عليه إلا إن شاء، يتطوع لها باليمين تطييبا لنفسها؛ لأنها لو ادعت
عليه أنه طلقها لم يلزمه يمين بدعواها، فكذلك إذا ادعت عليه أنه حلف حانثا،
فكيف إذا لم يحقق عليه الدعوى، وإنما اتهمته أنه كذبها وحلف حانثا، وبالله
التوفيق.
[حلف بطلاق امرأته البتة ألا يكلم أخا له عشرة
أيام وكان حلفه ضحوة]
ومن كتاب البز وسئل مالك: عن رجل حلف بطلاق امرأته البتة ألا يكلم أخا له
عشرة أيام، وكان حلفه ضحوة، أترى أن يعتد بذلك اليوم؟
قال: أحب إلي أن يلغي ذلك اليوم ولا يعتد به، قال ابن القاسم: وهو رأيي.
قال محمد بن رشد: القياس ألا يلغي بقية ذلك اليوم وأن يعد عشرة أيام من تلك
الساعة، وهو قول مالك الأول، وعليه يأتي جوابه في هذه المسألة؛ لأنه استحب
أن يلغي ذلك اليوم فلا يكلمه حتى تمضي عشرة أيام بعد انقضاء بقية ذلك
اليوم؛ لأنه أبرأ من الحنث مراعاة للقول بأن الواجب إلغاء بقية ذلك اليوم،
وهذا القول الذي رجع إليه مالك، فلو كلمه بعد عشرة أيام من تلك الساعة لم
يحنث عنده؛ لأنه استحب إلغاء ذلك اليوم ولم يوجبه، ولو حلف على قياس هذا
ليكلمنه في هذه العشرة الأيام فلم يكلمه حتى انقضت عشرة أيام من تلك الساعة
حنث، وقد مضى القول على اختلاف قول مالك في هذه المسألة في هذا الرسم من
هذا السماع من كتاب طلاق السنة، ومضى في سماع سحنون من كتاب النذور ما يزيد
ذلك بيانا، فلا وجه لإعادة ذلك، وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف على زوجته بطلاقها ألا تخرج من
بيته سنة إلا بإذنه]
مسألة وسئل مالك: عن رجل حلف على زوجته بطلاقها ألا تخرج من بيته سنة إلا
بإذنه، فكان يأذن لها كلما أرادت أن تخرج، ثم
(6/54)
سافر ثلاثة أشهر فأذن لها عند خروجه أن
تخرج حيث أحبت، ثم قدم فأقام فأرسلت أم امرأته إليها أن ايتني، فقالت: إن
زوجي ليس هاهنا، وقد حلف ألا أخرج إلا بإذنه، فإذا جاء استأذنته في ذلك،
فمر الرجل بأم امرأته فقالت له: ألا تأذن لفلانة تأتيني، فإني أرسلت إليها،
فقالت: لا أستطيع أن أخرج حتى يأذن لي زوجي، فقال لها زوج ابنتها: نعم
وكرامة، أنا آذن لها وأرسلها إليك، ثم خرج زوج ابنتها من عندها فأرسلت
إليها أمها، فقالت: لا أستطيع أن أخرج، فقالت لها أمها: إنه قد أذن لك،
فخرجت إلى أمها قبل أن يدخل زوجها بيته أو تكلمه في ذلك، فما ترى عليه؟
قال مالك: إن كان قال لها ذلك وهو يريد أني قد أذنت لك وتلك نيته فلا أرى
عليه شيئا، وإن لم يكن نوى في قوله أنا آذن لها وأرسلها إليك الإذن في ذلك
فأراه قد حنث.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال إن ذلك ليس بإذن إلا أن يريد بذلك أني
قد أذنت لها، وأما قوله إنه حانث إن لم يرد بذلك الإذن فيدخل في ذلك اختلاف
بالمعنى؛ لأنها لم تخرج عاصية لزوجها في الخروج بغير إذنه، وإنما خرجت لما
أخبرتها أمها أنه قد أذن لها، فيحنث على مقتضى اللفظ لأنها قد خرجت قبل
الإذن، ولا يحنث على اعتبار المعنى؛ لأن معنى يمينه ألا تعصيه بخروجها دون
أن يأذن لها، ألا ترى أنه لو أذن لها فخرجت بعد أن أذن لها ولم تعلم بالإذن
لحنث لكونها عاصية بالخروج، إذ لم تعلم بالإذن، وهو الذي يأتي على قول ابن
القاسم في أول مسألة من رسم أسلم من سماع عيسى، وسيأتي القول عليها هنالك
إن شاء الله.
[مسألة: منت عليه بثوب اشترته بدين حلف ألا
يلبسه حتى يكتب عليه الثمن]
مسألة وسئل: عن رجل كان تزوج امرأة فاشترت امرأته ثوبا بدين
(6/55)
فكسته زوجها فمنت عليه بذلك، فقال: أنت
طالق البتة إن لبسته حتى تكتبي علي ثمنه، فدعت مولاة امرأته جارية لها
كاتبة فكتبت عليه بذلك كتابا وأشهدت بذلك عليه امرأته مع المولات وأشهدت
بذلك مولاتها لزوجته، ثم أخذه ولبسه وباعه.
فقال له: ما أردت بذلك؟ فقال: أردت أن أدفع ثمنه من عندي، فقال: أرى أن
تدفع إلى صاحب الثوب ثمنه وتكتب له بذلك كتابا ولا تدفع إلى زوجتك الثمن
وأرجو ألا شيء عليك.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة أنها لما منت عليه بالثوب الذي
اشترته بدين حلف ألا يلبسه حتى يكتب عليه الثمن ليدفعه إلى البائع من عنده
إذا حل الأجل على ما أخبر الحالف أنه أراد، فرأى مالك أنه قد بر بكتاب
زوجته عليه الثمن لنفسها إلى ذلك الأجل، ولم ير عليه حنثا في أخذه ولباسه
بعد أن كتب عليه الثمن؛ لأنه إنما كتبه على نفسه لها وهو يريد أن يدفعه إلى
بائع الثوب على ما نوى.
وقوله: أرى أن يدفع إلى صاحب الثوب ثمنه يريد إذا حل الأجل ويكتب له بذلك
كتابا يريد على نفسك من الآن إنما هو استحسان ليس على أنه يحنث إن لم يفعل
ذلك؛ لأن اللباس قد وقع بعد أن انحلت اليمين عنه بكتابه الثمن على نفسه على
ما حلف عليه، فقوله في آخر المسألة: وأرجو ألا يكون عليك شيء، معناه: في
أخذك الثوب ولباسه بعد أن كتبت على نفسك الثمن لزوجتك، وليس معناه أرجو ألا
شيء عليك إن دفعت إلى صاحب الثوب ثمنه إذا حل الأجل وكتبت له على نفسك
كتابا من الآن؛ لأن لباس الثوب قد وقع، فإن كان لم يحنث فلا يحنث بعد، وإن
كان قد حنث فلا يزول عنه الحنث، وهذا بين والحمد لله.
[مسألة: قال امرأتك طالق البتة إن كنت فعلت كذا
وكذا قال نعم]
مسألة وسئل مالك: عن رجل لقيه رجل، فقال له: إني أخبرت أنك
(6/56)
فعلت كذا وكذا، قال: لم أفعل، قال: فامرأتك
طالق البتة إن كنت فعلت كذا وكذا، قال: نعم امرأتي طالق البتة إن كنت فعلت،
واستثنى في نفسه إلا كذا وكذا، الذي استحلفه عليه.
قال: إن كان شيئا إنما وسوس به نفسه لم يحرك به لسانه، ما أراه إلا وقد
حنث، ورأيته إن كان تكلم به فلا شيء عليه.
قال محمد بن رشد: ورأيته برئ إن كان تكلم به فلا شيء عليه، معناه: وإن لم
يعلم بذلك المحلوف له، قاله ابن القاسم من سماعه في كتاب النذور، وهو نص
على نية الحالف، لا على نية المحلوف له، ومثله لابن وهب في سماع عيسى
وزونان، خلاف قول ابن القاسم في رسم حمل صبيا من سماع عيسى، وخلاف ما في
رسم الصلاة من سماع يحيى، وقد اختلف في هذا اختلافا كثيرا قد مضى تحصيله في
رسم شك من سماع ابن القاسم من كتاب النذور، ومضى هناك أيضا الاختلاف في
الاستثناء دون تحريك اللسان، فلا معنى لإعادة ذلك، وبالله التوفيق.
[: حلف بطلاق امرأته وغاضبته إن هو خرج في سفر
لم يرجع إليها سنين]
ومن كتاب باع غلاما بعشرين دينارا وعن رجل حلف بطلاق امرأته وغاضبته إن هو
خرج في سفر لم يرجع إليها سنين.
قال: إن أراد بلدا مثل مصر ويخرج إلى غيرها فلا أرى عليه شيئا، وإن لم يرد
موضعا فأرى اليمين عليه إن خرج من المدينة إلى سفر من الأسفار.
قال محمد بن رشد: هذا ما لا اختلاف فيه إذا لم ينو بلدا بعينه
(6/57)
فاليمين له لازمة إن خرج إلى ما تقصر فيه
الصلاة من الأسفار، وإنما يختلف لو قال: إن خرج من المدينة ولم يقل في رسم
سفر على ما يأتي القول فيه في رسم الطلاق الأول من سماع أشهب، إن شاء الله.
[مسألة: تحمل برجل فقال له الحميل إني لأخشى أن
تغرمني]
مسألة وعن رجل تحمل برجل، فقال له الحميل حين أراد أن يتحمل به: إني لأخشى
أن تغرمني، فقال له: امرأته طالق البتة إن أغرمتك منها شيئا، فلما حل الحق
أراد الحميل أن يسلفها إياه؛ لأنه إذا سلفها إياه فقد غرمها عنه.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن معنى يمينه لا أغرمتك منها شيئا إلا
وديتها أنا فلا تغرمها أنت، فإذا لم يؤدها إلا من ماله فكأنه قد أغرمه
إياها، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال لأخيه امرأته طالق إن نفعتك بشيء
فاشترى لامرأته لحما بدرهم]
مسألة وعن رجل قال لأخيه: امرأته طالق إن نفعتك بشيء، فاشترى لحما بدرهم
فبعث به مع غلام له إلى بيته فأخطأ فدفعه إلى أخيه، فأتى إلى بيته فسألهم
عن اللحم، فقالوا له: لم يأتنا شيء، فسأل الرسول فإذا هو قد دفعه إلى أخيه.
قال مالك: لا أرى عليه شيئا وأرى أن يطلب الرسول بالثمن ويطلبهم الرسول
بالثمن، يريد لأخيه، قال سحنون: لا
(6/58)
يكون للرسول أن يتبع الأخ بشيء؛ لأنه أفاته
ثم يدعى الغلط فلا يقبل منه، قال عيسى: إذا تجافى الحالف عن إغرام الرسول
وتجافى الرسول عن إغرام الأخ لم يحنث أيضا، وإن تجافيا جميعا عن إغرام الأخ
حنث، وهو قول أصبغ وغيره من أهل العلم.
قال محمد بن رشد: لم يثبت قول سحنون في جميع الروايات، ووجه أنه حمله على
التعدي ولم يصدقه فيما ادعاه من الغلط، وإذا حمل على التعدي كان حكمه حكم
الوكيل يهب مال موكله أو يحابي فيه فيفوت ذلك.
وفي ذلك ثلاثة أقوال:
أحدها: أن رب المال يرجع على الوكيل إن كان له مال، فإن لم يكن له مال رجع
على الموهوب إن كان له مال، فإن لم يكن لواحد منهما مال رجع على أيهما أيسر
أولا، وليس لمن رجع عليه منهما أن يتبع صاحبه بشيء، وإن أيسرا جميعا لم يكن
له أن يتبع إلا الوكيل، بمنزلة إذا كانا جميعا موسرين ابتداء، وهو مذهب ابن
القاسم في المدونة، وعليه يأتي قول سحنون هذا.
والثاني: أنه يرجع على الموهوب له إن كان له مال، فإن لم يكن له مال رجع
على الوكيل إن كان له مال، فإن لم يكن لواحد منهما مال رجع على أيهما أيسر
أولا، فإن رجع على الوكيل كان للوكيل أن يتبع الموهوب له، وإن رجع على
الموهوب له لم يكن للموهوب له أن يتبع الوكيل، وهو معنى غير قول ابن
القاسم، وهو أشهب في المدونة، وإذا كان للوكيل إذا رجع إليه أن يرجع على
الموهوب له فالقياس على هذا إذا كانا موسرين أن يكون صاحب المال مخيرا في
أن يتبع من شاء منهما؛ لأن الموهوب غريم غريمه، فله أن يتبعه ويدع غريمه،
وقد روى ذلك عن أشهب.
والقول الثالث: أنه ليس لرب المال أن يتبع إلا الوكيل، فإن وجده معدما وكان
الموهوب له موسرا فرجع عليه رجع الموهوب له على الوكيل، وهذا القول هو معنى
ما حكاه أشهب
(6/59)
عن بعض أهل المشرق، ونحا هو إليه في سماع
أصبغ من كتاب البضائع والوكالات، وأما إذا صدق الرسول في أنه أخطأ باللحم
على ما ذهب إليه مالك فلا اختلاف في أن له أن يطلب الرسول ويطلبهم الرسول
بما طلب به، وان أراد أن يترك الرسول وبطلب الأخ، فذلك له إن رجع على
الرسول ورجع الرسول على الأخ، فله هو أن يرجع عليه لأنه غريم غريمه.
وقال: إن الرجوع في ذلك يكون بالثمن، وذلك إذا كانت القيمة مساوية للثمن؛
لأن الواجب في ذلك الرجوع بالقيمة لا بالثمن الذي اشترى به، هذا إن كان
اللحم جزافا، وأما إن كان وزنا فلا يكون الرجوع إلا بالمثل؛ لأن من تعدى
على وزن فعليه المثل، ولو كان إنما أرسل باللحم مع غلامه على ما استفتح به
المسألة لرجع بمثل اللحم أو قيمته إن كان جزافا على أخيه، ولم يكن في ذلك
كلام، وقول عيسى تفسير لقول مالك؛ لأن الحالف إذا أغرم الرسول وتجافى
الرسول عن إغرام الأخ الحالف، وإنما نفعه الرسول، وإذا أغرم الرسول الأخ
وتجافى الحالف عن إغرام الرسول فإنما نفع الحالف الرسول لا الأخ الذي حلف
على ألا ينفعه، وبالله التوفيق.
[: كسا امرأته ثوبا فسخطته فحلف بطلاقها البتة
إن هي لبسته]
ومن كتاب نذر سنة يصومها وسئل مالك: عن رجل كسا امرأته ثوبا فسخطته فحلف
بطلاقها البتة إن هي لبسته، فذهب به ليرده على صاحبه فبعثت جارية لها
فاتبعته حتى علمت موضعه ثم أرسلت فاشترته وقطعته درعا فلبسته.
قال مالك: أرى أن يُنَوَّى، فإن قال: إنما أردت ألا أكسوها أنا ولا تلبسه
من مالي ولم أرد أن تتداوله الأسواق، أو أبيعه ثم تشتريه، أو تكساه فتلبسه،
وإنما كانت نيتي من عندي، فلا أرى
(6/60)
عليه حنثا، ويحلف على ذلك، وإن لم تكن له
نية ولم ينو شيئا من هذا فأرى أن قد طلقت عليه.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة على أصولهم في أن اليمين إذا عريت عن
النية ولم يكن لها بساط عمل على مقتضى اللفظ، وأن من ادعى فيما يحكم به
عليه من الأيمان نية محتملة غير مخالفة لظاهر لفظه نوي فيها مع يمينه إذا
حضرته البينة ولم يأت مستفتيا، وبالله التوفيق.
[مسألة: كان يسأل رجلا عشرة دنانير إلى أجل
وحلف بطلاق امرأته إن لم يقضه]
مسألة وسئل: عن رجل كان يسأل رجلا عشرة دنانير إلى أجل وحلف بطلاق امرأته
إن لم يقضه، فأراد أن يرهنه فيها سواري ذهب.
قال: لا خير فيه.
قال محمد بن رشد: هذا هو المشهور في المذهب القائم من المدونة وغيرها أن من
حلف ليقضين رجلا حقه لا يبر بالرهن ولا بالقضاء الفاسد؛ لأن البر لا يكون
إلا بأكمل الوجوه، وقد قيل: إنه يبر بالرهن وبالقضاء الفاسد وإن نقض، وهو
قول أشهب في سماع أصبغ من كتاب النذور، وقد مضى القول على هذا المعنى
مستوفى في أول مسألة من سماع ابن القاسم من كتاب النذور، فلا معنى لإعادة
شيء من ذلك.
[مسألة: قال أنت طالق البتة إن خرجت في حق حتى
أحج فأراد سفرا في ذي القعدة]
مسألة وسئل: عن امرأة خرجت إلى بيت أهلها بغير إذن زوجها فعاتبها زوجها في
ذلك، فقالت: إنما خرجت في حق أديته، فقال: أنت طالق البتة إن خرجت في حق
حتى أحج، فأراد سفرا
(6/61)
في ذي القعدة، فأمرها أن تلحق بيت أهلها
فخرجت إليهم.
قال مالك: لا أرى هذا حقا ولا شيء عليه.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال، فلا وجه للقول فيه، وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف لرجل بالطلاق البتة أن يقضينه حقه
إلى أجل يسميه]
مسألة وعن رجل يحلف للرجل بالطلاق البتة أن يقضينه حقه إلى أجل يسميه إلا
أن يحب أن ينظره فيأتي الأجل فينظره شهرا ثم يقول له بعد حلول ما أنظره
إليه: ما علي يمين.
قال مالك: اليمين عليه إن لم يقضه حنث.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول في هذه المسألة وما يتخرج فيها من الاختلاف
في رسم حلف ليرفعن أمرا، فأغنى ذلك عن إعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف بطلاق امرأته البتة إن أنفق عليها
شهرا إلا أن يرى غير ذلك]
مسألة وسئل مالك: عن رجل حلف بطلاق امرأته البتة إن أنفق عليها شهرا إلا أن
يرى غير ذلك فجاءته وهو يتغذى فأكلت معه وتركها تأكل معه.
فقال له: أردت أن تأكل معك؟ قال: نعم، قال: إن كان ذلك الذي نويت ورأيت فلا
شيء عليك، كلام فيه نظر،
(6/62)
وأراه وقع على غير تحصيل، إذ لا يضره إلا
أن تكون له نية؛ لأن قوله: إلا أن يرى غير ذلك - يحمل إذا لم تكن له نية،
على أنه إنما أراد بذلك إلا أن أنفق عليها، لا على أنه أراد بذلك إلا أن
ألا أطلقها؛ لأن رد الاستثناء إلى الإنفاق له فائدة، وهو أقرب مذكور، ورده
إلى الطلاق لا فائدة فيه؛ لأنه برى، والبرى في الطلاق لا يصح ولا ينفع مع
أنه أبعد مذكور، ويترك أن يتحمل على ما فيه الفائدة، وهو أقرب مذكور، وهذا
ما لا إشكال فيه ولا اختلاف، ونحوه في كتاب العتق الأول من المدونة، وإنما
يختلف إذا قال امرأتي طالق إن فعلت كذا وكذا إلا أن يشاء الله، فقيل: إن
الاستثناء لا ينفعه وإن رده إلى الفعل، والصواب: أنه ينفعه إلا أن يرده إلى
الطلاق، وسيأتي القول على هذا إن شاء الله.
[: حلف فقال حرم علي ما حل لي في رجل يشتمه إن
لم يكتب بينة ويرفعها]
ومن كتاب المحرم يأخذ الخرقة لفرجه وسئل مالك: عن رجل حلف، فقال: حرم علي
ما حل لي في رجل يشتمه إن لم يكتب بينة ويرفعها، أفترى إذا رفعها أن يخرج
عن يمينه أم حتى يخاصمه ويقاعده؟
(6/63)
فقال: بلى حتى يخاصمه ويقاعده.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن معنى ما حلف عليه أن يثبت عليه سبه
إياه ويوبخه بتوقيفه إياه على ذلك وتقريره عليه، فلا يبر إلا ببلوغ الغاية
في ذلك بالمخاصمة والمقاعدة، فإن تجافى بعد هذا عما يتعين له عليه في سبه
إياه من الأدب لم يحنث، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال لها إن خرجت بك من موضعك إلا برضاك
فأنت طالق فرضيت]
مسألة وسئل مالك: عن رجل حلف لامرأته من غير شرط يكون لها عليه إن خرجت بك
من موضعك إلا برضاك فأنت طالق البتة، فرضيت وأشهدت بذلك أنها راضية غير
مكرهة ولا مضطرة ولا مغلوبة على أمرها راضية بذلك مسلمة له راغبة في رضاه.
قال مالك: أرى إن خرجت معه عن رضا منها فلا شيء عليه، ولكن أرى عليه إن
أرادت منه أن يردها إلى الموضع الذي أخرجها إليه بعد رضاها وتسليمها ذلك
إلى الموضع الذي خرجت منه أن ذلك يلزمه. قيل له: وإن هو خرج بها برضاها إلى
موضع ولم يجد ما يردها به ولم يقو على ذلك؟
قال: لا أرى أن يخرجها إلى موضع إن سألته ذلك وطلبته.
قال سحنون: لا يلزمه ذلك أن يردها إلا أن يكون شرط لها أن يردها.
قال محمد بن رشد: قد اختلف في هذه المسألة على ثلاثة أقوال:
أحدهما: قول مالك: هذا إنه يلزمه أن يردها إذا سألته ذلك فإن لم يفعل حنث
وإن كان تطوع لها باليمين.
والثاني: أنه لا يلزمه أن يردها وإن كان اليمين شرطا في العقد، وهو قول ابن
القاسم في رواية سحنون عنه الواقع في رسم سلف من سماع عيسى من كتاب النكاح.
والقول الثالث: الفرق
(6/64)
بين أن يتطوع لها باليمين أو يكون شرطا
عليه في أصل العقد، وهو قول ابن القاسم في رواية عيسى عنه، وقد مضى هذا كله
والقول فيه مستوفى بعلله في رسم الشجرة تطعم بطنين في السنة من سماع ابن
القاسم في كتاب النكاح، فلا وجه لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: لم يشهد للمرأة على زوجها بالطلاق إلا
شاهد واحد]
مسألة وسألته امرأة: عن زوج لها كان يضربها وكان يخبرها أن بني عم له
يحملونه على ذلك، وأنه كان بينه وبينها كلام وضربها، فقالت له: هذا عمل بني
عمك يحملونك على هذا، قال: أنت طالق البتة، إن كانوا قالوا لي شيئا، فقالت
له: اتق الله فإنها الفروج، أنت كنت تخبرني أنهم هم الذين يحملونك، قال:
فإني وهمت حين حلفت، ورجل يشهد على مقالته.
قال: أرى أن يستحلف بالله فيما يدعي، لو شهد عليه رجل آخر حلف مع الذي شهد
عليه أنه قال وهمت لرأيت ذلك فراغا من الأمر، يريد بذلك أن تطلق عليه.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال؛ لأن شهادة الرجل الواحد عليه بهذه
المقالة كشهادته عليه بالطلاق، وإذا لم يشهد للمرأة على زوجها بالطلاق إلا
شاهد واحد فلا يلزمه إلا اليمين، وهذا ما لا اختلاف فيه أعلمه، وبالله
التوفيق.
[: مسألة مرض فذهب عقله فطلق امرأته ثم أفاق
فأنكر ذلك]
مسألة أوله مرض وله ولد، وسئل عن رجل مرض فذهب عقله
(6/65)
فطلق امرأته ثم أفاق فأنكر ذلك وزعم أنه لم
يكن يعقل الذي صنع، وأنه كان لا يعلم شيئا من ذلك.
قال: أرى أن يحلف ما كان يعقل ويخلى بينه وبين أهله.
قال محمد بن رشد: وإنما يكون ذلك إذا شهد العدول أنه كان يهدي ويتخبل عقله،
وأما إذا شهدوا أنه لم يستنكر منه شيء في صحة عقله فلا يقبل قوله، ويمضي
عليه الطلاق، قاله ابن القاسم في العشرة، وكذلك الحكم في السكران، وقد مضى
القول في حكم السكران في أول كتاب النكاح مستوفى، وقد تكررت هذه المسألة في
هذا الرسم من هذا السماع من كتاب طلاق السنة، ومضى القول عليها هناك،
وبالله التوفيق.
[: حلف لها في جارية ألا يطأها وهو ينوي برجله
على بطنها]
ومن كتاب أوله قال سحنون قال أشهب وابن نافع سئل مالك: عمن ابتلي من امرأة
بالغيرة فحلف لها في جارية ألا يطأها، وهو ينوي ألا يطأ برجله على بطنها.
فقال: أكره أن يفعل ذلك، وذلك يسوق إلى غير ذلك.
قال محمد بن رشد: هذا نحو ما في رسم أبي زيد من كتاب النذور من اللغو في
اليمين، وهو على وجهين:
أحدهما: أن يلغز فيه لمن يحلف له متعدرا من شيء أو متمخيا منه أو تطيبا
لنفسه في غير حق يتعلق له قبله كنحو هذه المسألة، إذ لا حق لامرأته في ترك
وطء أمته.
والثاني: أن يلغز له على وجه المكر والخديعة في حق يتعلق له قبله، فأما
الوجه الأول ففيه ثلاثة أقوال:
أحدهما: أنه لا ينتفع بلغزه؛ لأن اليمين على نية المحلوف له، وهو قول مالك
في التخيير والتمليك من المدونة في الذي
(6/66)
يحلف للسلطان طائعا، فيقول: امرأتي طالق
وزعم أنه أراد امرأة كانت له قبل.
والثاني: أنه ينتفع به وتكون له نيته فيه، إلا أن ذلك يكره له أن يفعله
مخافة أن يكون ذلك ذريعة إلى استسهاله على وجه المكر والخديعة، وهو قول
مالك في هذه الرواية.
والثالث: أنه ينتفع به وتكون له نيته فيه، ولا يكره له أن يفعله، والى هذا
ذهب ابن حبيب.
وأما الوجه الثاني ففيه قولان:
أحدهما: أنه لا ينتفع بلغزه؛ لأن اليمين على نية المحلوف له.
والثاني: أنه ينتفع بلغزه وتكون له نيته فيه، وهو آثم في فعله، وسواء كان
لغزه في اليمين بالله وما لا يحكم به عليه من المشي وشبهه، أو فيما يحكم به
عليه من العتق والطلاق، غير أنه إن كان فيما يحكم به عليه من العتق والطلاق
وطولب باليمين فادعى الإلغاز فيه استظهر عليه في ذلك باليمين، كانت عليه في
اليمين بينة أو لم تكن، إذا كان مقرا باليمين، وأما إن أنكر اليمين فلما
ثبت عليه ادعى الإلغاز فيه فلا يصدق، ويقضي عليه بما ظهر من يمينه، وقد مضى
بيان هذا في رسم الرهون من سماع عيسى من كتاب النذور.
[مسألة: قال امرأتي طالق إن كان يدخل بطون
العباد شيء أخبث من الشراب المسكر]
مسألة وسئل: عمن قال: امرأتي طالق إن كان يدخل بطون العباد شيء أخبث من
الشراب المسكر.
فقال مالك: الدم والميتة ولحم الخنزير، وما هذا عندي باليمين، ثم تفكر فيها
طويلا، ثم قال: لو طلقتها واحدة ثم ارتجعتها، فقيل له: إنها ليست عنده إلا
بواحدة، فقال: قال الله عز وجل في الربا: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ
اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة: 279] ، وليس هذا في الخمر، يأخذ دينارا
بدينارين يأكله، إذا أخذه الذي يشرب الخمر جلد وخلي، وإذا أخذه الذي يأكل
الميتة عذب عذابا أليما، فأرى أن يفارق امرأته، قال: أترى أن يفارقها؟ قال:
نعم.
(6/67)
قال محمد بن رشد: حمل مالك يمين الحالف
بالطلاق على أنه لا يدخل بطون العباد شيء أخبث من الشراب المسكر، على أن
المعنى فيه أنه لا يدخل بطونهم شيء هو أشد في التحريم وأعظم في الإثم وأكبر
في الجرم من الشراب المسكر، ولذلك رأى الطلاق قد لزمه. وقيل: من أجل أنه
رأى الربا أشد تحريما وأعظم إثما وأكبر جرما، بدليل ما توعد الله به في
الربا، ولم يذكر في الخمر مثله، فعلى هذا التأويل لو حلف الحالف أنه لا
يدخل بطون العباد أخبث من الربا [لم يحنث. وقيل: إنه إنما رأى الطلاق قد
لزمه من ناحية الشك أنه لا يدري أي المحرمات أخبث، أي أشد في التحريم وأعظم
في الإثم، بدليل قوله: وما هذا عندي بالبين، فعلى هذا التأويل لو حلف أنه
لا يدخل بطون العباد أخبث من الربا] لحنث أيضا، وهو أولى التأويلين لعدم
النص في ذلك، وهذا صحيح إذا أراد الحالف هذا المعنى الذي حمل عليه مالك
يمينه أو كان ثم بساط يدل عليه.
وأما إذا عريت يمينه من نية أو بساط فلا ينبغي أن يحنث؛ لأن الخبث القائلة
والشر والخبيث نعت كل فاسد، وفي الخمر معاني خبيثة ليست في سائر المحرمات
من ذهاب العقل وإيقاع البغضاء والعداوة والصد عن ذكر الله وعن الصلاة كما
ذكر الله تعالى، فيجب أن تحمل يمين الحالف بهذه اليمين إذا لم تكن له نية،
على أنه أراد أنه لا يدخل بطون العباد شيء أشد عليهم وأضر بهم في دينهم
ودنياهم من الشراب المسكر فلا يحنث؛ لأن من سكر جهل على الناس وسفه في ماله
واستسهل الجرائم وعطل الفرائض، وقد روي أن سبب يمين هذا الحالف هو أنه رأى
سكرانا في بعض أزقة المدينة يروم تناول القمر ليدخله في كميه، وفي بعض هذا
بيان.
[مسألة: الأحق بالحضانة]
مسألة وسئل: عمن فارق امرأته وله منها بنت فطرحتها إليه ولحقت
(6/68)
بأهلها فتأيمت عندهم ما شاء الله ثم تزوجت
لا تعرض للبنت ولا تريدها حتى ماتت، فلما ماتت قامت أمها تطلب البنت، بنت
ابنتها لتأخذها.
فقال: ألذلك سنة؟ إذا كان لذلك سنة أو أكثر من ذلك أو أشباه ذلك فلا أرى
ذلك لها، قد تركها وعضدها وإن كان ليس ذلك إلا يسيرا فإن ذلك لها.
وفي كتاب الطلاق: أن الأم نفسها أرادت أن تأخذ ولدها بعد تركها إياه، فقال
مالك: إن كانت تركتهم من علة مثل أن تكون مرضت وانقطع لبنها فذلك لها، وإن
كان على غير ذلك فليس ذلك لها، قال ابن نافع: وللجدة أن تأخذها إذا كانت في
موضع أبيها.
قال محمد بن رشد: قد تكررت هذه المسألة في هذين الرسمين من هذا السماع من
كتاب طلاق السنة وفي غيره من المواضع منه ومن غيره، ومضى القول عليها
مستوفى في أول رسم من سماع ابن القاسم من كتاب طلاق السنة أيضا، فلا فائدة
في إعادته، وبالله التوفيق.
[: جعل ليمينه بالطلاق على الفعل أجلا بعد أن
كان أبهم يمينه أولا إلى غير أجل]
ومن كتاب الطلاق الثاني وسئل: عن مريض قال لامرأته: أنت طالق البتة إن لم
تقومي علي؛ لأنكحن عليك أرفق بي منك أو أخرج إلى أنطابلس، فلم تقم عليه، ثم
لقي رجلا فأخبره بيمينه، فقال له الرجل: ألا جعلت ليمينك أجلا، قال: فإني
أشهدكم أنها طالق البتة، إن لم أتزوج عليها إلى ثلاث سنين، أو أخرج إلى
أنطابلس.
قال: فليفِ بما جعل على نفسه، قيل له: إنه قد جاء الأجل ولم يفعل، قال: ليس
ذلك له، قال أشهب فيها: يحال بينها وبينه،
(6/69)
ويضرب له أجل المولي ولا يطأها إلى الأجل
لأنه قد عقد على نفسه اليمين الأول إلى غير أجل، فإذا انقضت الأربعة الأشهر
وقف فقيل له: تزوج أو اخرج إلى أنطابلس وإلا فرق بينكما، فإن لم يفعل طلق
عليه بالإيلاء تطليقة، فإن انقضى أجل الثلاث سنين ولم يفعل شيئا مما حلف
عليه وهي في بقية من عدتها من طلاق الإيلاء حنث، فطلق عليه بالبتة؛ لأن
الحنث دخل عليه وهي امرأته، وإن لم تنقض السنون الثلاث حتى خرجت من العدة
فقد بانت منه بلا طلاق ولا طلاق عليه بالبتة؛ لأن الحنث دخل عليه بها، وقال
ابن نافع: يحنث بهذه الآخرة إذا انقضى الأجل ولم يفعل ما حلف عليه.
قال محمد بن رشد: قول مالك في الذي جعل ليمينه بالطلاق على الفعل أجلا بعد
أن كان أبهم يمينه أولا إلى غير أجل: فليف بما جعل على نفسه، يدل على أنه
فيما يؤمر به من على ما كان عليه قبل أن يجعل ليمينه أجلا، فلا يجوز أن
يطأ؛ لأنه على حنث باليمين الأولى.
والوجه في ذلك: أنه ليس له أن يسقط عن نفسه حكم اليمين الأولى من أنه فيها
على حنث لا يجوز له الوطء يضرب له الأجل في يمينه الثانية على القول بأن من
حلف بالطلاق ليفعلن فعلا إلى أجل يجوز له أن يطأ إلى ذلك الأجل إذ قد اختلف
في ذلك.
وقوله لما قيل له إنه قد جاء الأجل ولم يفعل - ليس ذلك له معناه ليس له أن
يفيء بعد الأجل بفعل ما حلف عليه ليفعلنه إلى الأجل ويقع عليه الحنث بمضي
الأجل، فقول أشهب تفسير لقول مالك، ومعناه: أنه يضرب له أجل المولي إن
رفعته امرأته إلى السلطان وطلبته بحقها في الوطء، وقد بقي من الأجل أكثر من
أربعة أشهر، فإن ضرب له أجل الإيلاء فطلق عليه فانقضت الثلاث سنين قبل أن
تنقضي عدتها ولم يفعل شيئا مما حلف عليه وقع عليه الحنث بالطلاق، وإن انقضت
عدتها من طلاق الإيلاء قبل حلول الأجل لم يلزمه بحلول الأجل شيء إلا أن
يكون قد تزوجها قبل حلوله فترجع عليه اليمين ويحنث بحلوله إن لم يفعل ما
(6/70)
حلف عليه قبله، وقول ابن نافع يحنث بهذه
اليمين الآخرة إذا انقضى الأجل ولم يفعل ما حلف عليه، معناه: إن بقيت على
حالها لم ترفع أمرها إلى السلطان وإلا طلق عليه بالإيلاء، فهو صحيح أيضا
ليس بخلاف لقول مالك. وقد تأول ابن أبي زيد على مالك في قوله: فليفِ بما
جعل على نفسه أن له أن يفيء قبل الأجل وبعد، وإنه لا يحنث بعد بانقضاء
الأجل، وأن قوله: ليس ذلك له - معناه: ليس له من يمينه مخرج إلا بالفيء
بفعل ما حلف عليه، وقال: إنما يصح ظاهر جواب مالك على أنه جعل الأجل
للتزويج وأبهم الخروج إلى أنطابلس بلا أجل، فهذا لا يطلق عليه إذا مضت
الثلاث سنين، ويدخل عليه الإيلاء إن رافعته، وهو تأويل بعيد، ومعناه: لو صح
صحيح على أصولهم.
[مسألة: حلف المرأة بالطلاق]
مسألة وسئل مالك: عمن كانت بينه وبين امرأته محاورة فتحالفا، فقال لها
زوجها: ليس هذا بشيء، ولكن احلفي بالطلاق، فقالت: أنت طالق إن لم يكن كذا
وكذا.
فقال: ليس للنساء طلاق.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال، وهو مما لا اختلاف فيه أن الطلاق إلى
الرجال ليس إلى النساء منه شيء، لقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا
النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق: 1] ، وقوله: {وَإِذَا
طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [البقرة: 231] ... الآية، وما أشبه هذا من الآيات،
إلا أن تملك نفسها أو تخير في أمرها، فتختار نفسها، فيجب لها ذلك على السنة
فيه، لقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ
كُنْتُنَّ تُرِدْنَ} [الأحزاب: 28]
الآية، وبالله التوفيق.
(6/71)
[مسألة: قال في
النصف من السنة امرأتي طالق البتة إن فعلت كذا وكذا هذه السنة]
مسألة وسئل: عمن قال في النصف من السنة: امرأتي طالق البتة إن فعلت كذا
وكذا هذه السنة.
فقال: إن كان نوى ما بقي من السنة فذلك له، وإن لم يكن نوى شيئا فليستقبل
من يوم حلف اثني عشر شهرا.
قال محمد بن رشد: إنه إن لم ينو شيئا فليستقبل من يوم حلف اثني عشر شهرا،
ولم يذكر هل يلغي بقية ذلك اليوم أو يحسب من تلك الساعة، وقد مضى الاختلاف
في ذلك والقول فيه في رسم البز من سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادته، وكذلك
من قال: لله علي أن أصوم هذه السنة، يصوم اثني عشر شهرا من ذلك اليوم، إلا
أن ينوي بقية تلك السنة، وقد مضى في رسم بع ولا نقصان عليك من كتاب الصيام
ذكر الاختلاف الحاصل بين ابن القاسم وأشهب هل يعد ذلك اليوم ولا يقضيه، أو
لا يعده كأنه يقضيه، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[: سئل البائع أن يضع من ثمنها فحلف بالطلاق
ألا يضع عنه]
ومن كتاب الأقضية الثالث وسئل مالك: عن موصى إليه باع ثلاثة أشياء من مال
البيت بثمانية عشر دينارا ودرهمين فيمن يزيد، فأغلاها فيما يقولون بثلاثة
دنانير، فسئل البائع أن يضع من ثمنها فحلف بالطلاق ألا يضع عنه، فسأله أن
ينظره، فقال: إن لم يدخل علي في يميني شيء فقد أنظرته، فَأُفْتِيَ ألا شيء
عليه في يمينه فأنظره، فجاءني أخو امرأته فأوقفتها عنه.
فقال: أرى أن يحلف بالله الذي لا إله إلا هو ما هذا الذي أراد، وما أراد
إلا ألا يضع عنه من الثمن شيئا، وأنه لم يرد إلا أن ينظره، فإذا حلف على
ذلك فلا شيء عليه.
(6/72)
قال محمد بن رشد: تحصيل القول في هذه
المسألة أن الحالف لا يخلو أن يريد بيمينه لا يضع عنه ألا يرفقه أو أن يريد
بها ألا يضع عنه خاصة لا أن ينظره، أو ألا يكون له نية، فأما إذا نوى
بيمينه ألا يضع عنه ألا يرفقه فهو حانث إن أنظره؛ لأنه إذا أنظره فقد
أرفقه، وأما إذا نوى ألا يضع عنه خاصة لا ألا ينظره فلا حنث عليه إن أنظره.
واختلف إن كانت يمينه بما يقضي به عليه من الطلاق أو العتاق فطولب بذلك هل
يصدق فيما ادعى أنه نواه بيمين أو بغير يمين؟ فقال مالك في هذه الرواية:
إنه يستحلف، وقيل: إنه يصدق بغير يمين، وهو الذي أفتي به الحالف على ما ذكر
في الرواية، وأما إذا لم تكن نية فظاهر الرواية أنه لا حنث عليه على مقتضى
اللفظ إن أنظره، ويستظهر عليه باليمين أنه إن لم تكن له نية إن كان مطلوبا؛
لأنه يتهم أن يكون نوى ألا يرفقه على القول في لحوق يمين التهمة، وقيل: إنه
حانث على المعنى؛ لأن مقصد الحالف ألا يضع ألا يرفق، وهو قول مالك في رواية
ابن وهب عنه، وأما إذا حلف ألا ينظره فوضع عنه فلا حنث عليه قولا واحدا؛
لأن النظرة يخشى منها هلاك جملة الحق بمغيبه أو فلسه، فوجب ألا يحنث حملت
يمينه على المعنى أو على مقتضى اللفظ، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال لامرأته إذا قدمنا إلى المدينة
فدخلنا الدار فأنت طالق]
مسألة وسئل مالك: عن رجل قال لامرأته بمكة وهما يريدان المدينة: إذا قدمنا
إلى المدينة فدخلنا الدار فأنت طالق إن خرجت منها سنة، فقدمت فدخلت دارا أو
دارين قبل أن تدخل منزل زوجها وخرجت منه إلى دارها، أترى عليه حنثا؟
(6/73)
قال: لا حنث عليه فيما دخلت من دار فخرجت
منها قبل أن تصير إلى منزله، فإذا صارت إلى منزله ثم خرجت قبل انقضاء السنة
حنث، قيل له: إنها قدمت نهارا؟ قال: تستقبل السنة من الليلة التي تأتي، قيل
له: إنها دخلت منزلا غير منزله الذي يسكن فيه ثم خرجت إلى منزله، قال: أحب
إلي ألا ينزلها حتى يقدم بها إلى منزله، قيل له: إنه أنزلها على أهل له
تسلم عليهم ثم تصير إلى منزله، قال: فأنا آمره ألا يفعل فأحب إلي ألا
ينزلها إلا منزله، ثم تخرج حتى تتم السنة.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة؛ لأن يمينه إنما وقعت على المنزل الذي
يريد سكناه بها في المدينة، كان له أولها أو لغيرهما بكراء؛ لأنه لما قال:
فدخلت الدار؛ معرفة بالألف واللام - علم أنه إنما أراد دار السكنى، فحملت
على ذلك، ووجب أن لا يكون عليه شيء فيما سوى ذلك المنزل من الدور إن دخلت
شيئا منها قبل أن تصير إلى ذلك المنزل، ولم تحمل يمينه على استغراق جنس
الدور إذ لا يحمل مثل هذا اللفظ على استغراق الجنس إلا إذا عدم العهد، ولو
قال فدخلنا دارا للزمته اليمين في أي دار دخلت، وقوله: إنها تستقبل السنة
من الليلة التي تأتي هو على الاختلاف الذي قد مضى القول عليه في أول رسم
البز من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته.
[مسألة: حلف بالطلاق على أخته ألا يدخل عليها
بيتا ما دام زوجها زوجها]
مسألة وسئل: عن رجل حلف بالطلاق على أخته ألا يدخل عليها بيتا ما دام زوجها
زوجها، فأقام سنين لا يدخل عليها، ثم
(6/74)
غاب زوجها ومرضت فانتقلتها أمها إلى بيتها
تمرضها فدخل عليها.
قال: ما يعجبني، وأحب إلي ألا يدخل عليها، قال: إنها عندنا منذ شهرين،
فقال: أحب ألا يدخل عليها، قيل له: أحب إليك ألا يدخل عليها؟ قال: نعم.
قال محمد بن رشد: قوله ما يعجبني وأحب إلي ألا يدخل عليها تجاوز في اللفظ؛
لأن وجوب الحنث عليه بين بدخوله عليها في أي بيت كانت ما دامت في عصمة ذلك
الزوج؛ لأنه لما قال بيتا بلفظ النكرة كان ذلك عموما في جميع البيوت إلا أن
تكون له نية، ولو حلف ألا يدخل عليها بيتها لم يكن عليه شيء في دخوله عليها
بيت أمها إذا انتقلت إليه لتمرض ونحو ذلك، وكذلك لو حلف ألا يدخل عليها
البيت على قياس ما مضى في المسألة قبل هذه.
[مسألة: دعوت امرأتي إلى فراشي وامتنعت علي
فأردت أن أضربها]
مسألة ولقد قال لنا مالك: لقد جاءني رجل مرة يسألني فقال: إني دعوت امرأتي
إلى فراشي وامتنعت علي فأردت أن أضربها فما ترى؟
فقلت له: والله ما أراك أن تفعل، قد يكون للنساء العذر والعلة.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: إنه لا يجوز له أن يضربها إلا أن يتحقق أنه
لا عذر لها في الامتناع منه في ذلك الوقت وإنما تذهب إلى الإضرار به في
منعه بما أحله الله له من الاستمتاع بها الذي تكحتر
(6/75)
عليه نشوزا عليه، قال الله عز وجل:
{وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} [النساء: 34] ... الآية، معناه:
تعلمون ذلك وتخافون زيادته.
[مسألة: حلف أن يطأ امرأته الليلة فعالجها ولم
يعالج وطأها حتى أصبح]
مسألة وقد جاءني رجل فقال: إني دعوت امرأتي في جوف الليل إلى فراشي فأبت،
فقلت لها: أنت طالق البتة إن لم أصبك قبل الصبح، فجاءتني فأمكنتني من نفسها
فعالجتها حتى مللت فلم أستطيع لها، بهذا قد ابتلى إلا أنه قال: إني استثنيت
فقلت إلا ألا أقدر على ذلك، فعالجتها حتى قريبا من الصبح فلم أستطع لها
فنمت حتى أصبحت فلم أر عليه شيئا، قيل: لم يقدر على إصابتها وقد استثنى
الذي استثنى لو لم ينم حتى يصبح، فقلت له: أراك قد نمت، فلا أدري ما هذا.
قال محمد بن رشد: لم يعذره مالك في هذه المسألة وإن كان مغلوبا على ترك
الوطء بعدم الاستطاعة إذ لم ير عليه شيئا من أجل أنه استثنى ألا ألا أقدر
كما لا يعذره إذا غلب على ترك الفعل الذي حلف ليفعلنه بالنسيان، ولعمري أن
بينهما فرقا؛ لأن النسيان للناسي فيه سبب، إذ لم ينس إلا بالاعتراض عن
استدامة تذكر ذلك الشيء، فإذا نسي فعل ما حلف ألا يفعله، فقد كان في ذلك
تفريط لزمه فيه الحنث، والذي حلف أن يطأ امرأته الليلة فعالجها ولم يعالج
وطأها حتى أصبح لم يكن منه تفريط، فقد كان القياس أن يكون في حكم المكره لا
يحنث، كمن حلف ألا يفعل فعلا فأكره على فعله، غير أنهم فرقوا في الأيمان في
الإكراه على
(6/76)
فعله وعلى ترك الفعل على قياس، ويحتمل أن
يكون إنما أوجب عليه الحنث لأنه خشي أن يكون قد وقع منه تقصير في استدعاء
اللذة بقلبه وصرف همته إلى ذلك دون أن يحيل فكره إلى معنى آخر؛ لأن هذا هو
سبب الإنعاظ في جرى العادة، ألا ترى أن من خطرت ببابه خطرة في الصلاة فانعظ
يومر أن يتذكر أمر الموت وما بعده ليكسر ذلك منه ما نابه من الإنعاظ، فلا
يكون على هذا التأويل قوله في هذه الرواية خارجا عن القياس، ويكون على أصله
في النسيان، ومن أهل العلم سوى مالك من يرى أنه مغلوب بالنسيان، فلا يرى
عليه به حنثا في الفعل ولا في الترك، ويحتج بقول النبي - عَلَيْهِ
السَّلَامُ -: «تجاوز الله لأمتي عن الخطأ والنسيان وعما استكرهوا عليه»
وبقوله: «إنما الأعمال بالنيات» ، وهذا لا يلزم لأن المراد بذلك رفع الحرج
في ترك الواجبات وفعل المحظورات على سبيل النسيان، لا فيما يلزم فيه الحنث
مما لا يلزم فيه الحنث، وبالله التوفيق.
[مسألة: تحريم الحلال هل يعد يمين]
مسألة وعن ثلاثة نفر ابتاعوا غنما فتقاووها بينهم، فاشترى أحدهم شاتين من
الغنم بثمانية وأربعين درهما، فجزوا الغنم، ثم جاء الذي ابتاع الشاتين إلى
أحد شريكيه، وهو الذي كان ابتاع الغنم وأشركهما، فقال له: هذه دراهمك
ثمانية وأربعون درهما،
(6/77)
فقال له الشريك: بل عليك ثمانية وأربعون
درهما ونصف درهم، فقال: الحلال علي حرام إن كان علي إلا ثمانية وأربعون
درهما، فدعا الشريك شريكهما الثالث، فقال: كم علي في ثمن الشاتين؟ فقال:
ثمانية وأربعون درهما ونصف درهم، فقال: ما علي إلا ثمانية وأربعون درهما في
ثمن الشاتين.
فقال له مالك: أنت على يقين من يمينك أنك لم تشتر هاتين الشاتين إلا
بثمانية وأربعين درهما، فقال: نعم، فقال له مالك: إنك قد كنت حنثت قد حرمت
عليك امرأتك، أرأيت إن لم يكن يلزمك هذا النصف على من يكون؟ فقال: يكون
علينا ثلاثة، فقال: إن لم ترد شهادتهما بشيء فقد حنثت، فقال: ما أرد
شهادتهما بشيء إلا أنهما كانا شريكين لي، فهما يجران لأنفسهما، فقال له:
سلهما على شهادتهما وكررها عليهما، فلعلهما يثبتان على الشهادة، ويقولان:
كنا نظن ذلك، فقال: قد ثبت الشهادة، فقال: إن لم ترد شهادتهما بشيء جازت
شهادتهما عليك، فحرمت عليك امرأتك، فقال: بأي شيء أرد شهادتهما؟ ما أستطيع
ذلك إلا أنها لي شريكان، فقال: إن لم ترد شهادتهما بشيء جازت شهادتهما
عليك، فحرمت امرأتك، وإنما يكون على كل أحدهما دانق، فلا يتهمان في دافق
على هذا فترد شهادتهما عنك بذلك، فإن لم ترد شهادتهما بشيء فقد حنثت، فقال
له بعد ذلك بيوم: يا أبا عبد الله، أرأيت أن الحنث قد وقع علي بشهادتهما
وهما يجران لأنفسهما لِيَسَارَةِ ذلك وأنهما لا يتهمان في
(6/78)
شهادتهما من أجل دانق؟ فقال: نعم، وما يثبت
ذلك له؟ ولكن رأيت أن العدل لا يتهم في شهادته حتى يرد في دانق يجره إلى
نفسه، ولقد قلت أن ايتني بهما، فقال: يأبيان، ولست أدري أعدلان هما أم لا؟
فقال: إنما يتكلم في مثل هذا على العدالة، فقال: جاءني جازر أسود وكلهم
جازر ولا أراهما إلا مثله، فإن كانا عدلين فلا أرى أن يتهما في مثل هذا،
قيل له: أرأيت عليه الحنث بشهادتهما إذا كانا عدلين؟ أفرأيت ذلك النصف يقع
عليه أم يطرح، فقال: لا أدري، ولقد قلت أرأيت هذا النصف إن لم يكن عليك على
ما هو؟ فقال: هو علينا جميعا، وما أراه إلا وقد أصاب.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة أن الحالف لما نازعه شريكه في ثمن
الشاتين فحلف بالحلال عليه حرام أنه لم يشترهما إلا بثمانية وأربعين درهما،
قامت زوجته أو أحد بسببها يَدَّعِي عليه الحنث وشهد له شريكاه أنه اشترى
منهما الشاتين بثمانية وأربعين درهما ونصف، فأجاز مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ
- شهادتهما عليه في الحنث بالحلال عليه حرام ولم يتهمهما في أنهما يجران
إلى أنفسهما بشهادتهما بما يجب لهما من النصف الدرهم وهو ثلثان ليسارة ذلك
كما قال في المدونة في الشاهد يشهد في الوصية وقد أوصي له فيها باليسير أن
شهادته فيها جائزة فساوى في هذه الرواية في هذا، بين الوصية وغير الوصية،
وهو القياس، وقال مالك للحالف: أنت على يقين أنك لم تشتر هاتين الشاتين إلا
بثمانية وأربعين درهما؟ فلما قال له: نعم، سكت عن الجواب في ذلك وهو لا شيء
عليه فيما بينه وبين الله إن كان صادقا، وقال له: إنك قد حنثت وحرمت عليك
امرأتك، يريد في الحكم الظاهر، بشهادة شريكيك عليك أنك اشتريت الشاتين
(6/79)
بثمانية وأربعين درهما ونصف إن لم ترد
شهادتهما بشيء، فلعلهما لا يثبتان الشهادة.
فلما أخبره أنهما يثبتان الشهادة وأنه لا يقدر على رد شهادتهما إلا بأنهما
شريكان له يجران إلى أنفسهما، لم ير ذلك مما يرد به شهادتهما ليسارة ذلك.
فوقف أشهب على ذلك بعد ذلك بيوم، وقال له: يا أبا عبد الله، أرأيت أن الحنث
قد وقع عليه بشهادتهما وهما يجران لأنفسهما ليسارة ذلك، وأنهما لا يتهمان
في شهادتهما من أجل دانق، فقال: نعم وما يثبت ذلك له؟ يريد للحالف، ولكن
رأيت العدل لا يتهم في شهادته حتى يرد في دانق يجره إلى نفسه.
ووقفه أيضا هل يثبت على الحالف النصف بشهادتهما إن كانا عدلين ووجب عليه
الحنث بها؟ فقال له: لا أدري.
ويتخرج على قولين:
أحدهما: أنه يثبت عليه النصف بشهادتهما فيكون لهما منه ثلثاه وهو الذي يأتي
على قول ابن القاسم في المدونة في مسألة الشاهد يشهد في الوصية قد أوصي له
فيها بشيء يسير، وهو قول مالك في رواية مطرف عنه.
والثاني: أنه لا يثبت عليه لهما من النصف شيء بشهادتهما، وهو قول ابن
الماجشون في مسألة الوصية، وقد قيل: إن شهادتهما لا تجوز في الطلاق لجرهما
إلى أنفسهما بشهادتهما ما يجب لهما من نصف الدرهم، وهو الذي يأتي على ما في
المدونة؛ لأنه لم يجز فيها شهادة الشاهد لغيره إذا شهد لنفسه فيها بيسير
إلا في الوصية، فهذه ثلاثة أقوال:
أحدهما: أن شهادتهما تجوز في الطلاق والمال؛ لأن شهادتهما في المال في ضمن
شهادتهما بالطلاق.
والثاني: أن شهادتهما تجوز في الطلاق ولا تجوز في المال، إذ لا تجوز شهادة
أحد لنفسه في قليل ولا كثير.
والثالث: أن شهادتهما تجوز في الطلاق، ولا في
(6/80)
المال.
وفي المسألة قول رابع: أنهما إن طلبا المال بطلت شهادتهما في الطلاق، وإن
لم يطلباه جازت شهادتهما في الطلاق، وهو الذي يأتي على ما في رسم الطلاق
الثاني بعد هذا، وفي آخر نوازل سحنون من كتاب الأقضية.
وفي هذه المسألة معنى يجب أن يوقف عليه ويعرف وجهه، وهو أن الحالف لم يحلف
بالحلال عليّ حرام أنه لم يشتر الشاتين إلا بثمانية وأربعين درهما إلا
تكذيبا لشريكه فيما ادعاه عليه من أنه ابتاعهما بثمانية وأربعين درهما
ونصف، ومن قولهم: إن من حلف تكذيبا لشهادة الشهود فلا يطلق عليه بشهادتهم،
فكان القياس ألا تطلق عليه بشهادتهما؛ لأنه إنما حلف تكذيبا لأحدهما،
والوجه في ذلك أنه أقر على نفسه باليمين ولم يثبت أنه حلف تكذيبا لأحدهما،
وقد قيل: إن معنى المسألة أنه أنكر اليمين فشهد عليه بها الشريكان لزوجته،
والأول هو الأظهر من لفظ المسألة.
ويلزم على قياس قول مالك في هذه المسألة لو شهد رجلان على رجل أنه حلف
بالطلاق ما لأحد عليه حق، وإن لهما عليه ثلث درهم - أن تطلق عليه بشهادتهما
ليسارة خطب ما شهدا به لأنفسهما، وبالله التوفيق.
[: قال لها إن كلمت فلانا فأنت طالق ثم قال لها
إن كلمت فلانا سنة فأنت طالق]
ومن كتاب الأقضية وعن رجل قال لامرأته: إن كلمت فلانا فأنت طالق، ثم أقام
أياما، فقال لها: إن كلمت فلانا سنة فأنت طالق، ثم أقام أياما، فقال: إن
كلمت فلانا فأنت طالق، ثم إنه كلمته كم تطلق عليه؟
قال: أرى أن ينوى، فإن كان إنما أراد بذلك تطليقة واحدة يرددها عليها
ويعلمها إياها يتهددها بذلك، فلا طلاق علية إلا
(6/81)
تطليقة واحدة، قيل له: أفترى عليه فيما
يزعم أنه نوى اليمين، فقال: نعم، أرى عليه اليمين لو نوى ذلك.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة أن الحالف طولب بهذه اليمين وهو
مقر بها، فلهذا أوجب عليه اليمين فيما ادعى أنه نواه، ولو أتى مستفتيا غير
مخاصم لصدق فيما ادعى أنه نوى دون يمين، وهو معنى ما في المدونة، وذلك أن
طلاق الرجل امرأته وحلفه بالطلاق في مجالس شتى وأيام مفترقة لا يخلو من
أربعة أحوال: أحدها: أن يأتي مستفتيا في ذلك غير مخاصم فيه ولا مطلوب به،
والثاني: أن يطلب بذلك وهو مقر به على نفسه، والثالث: أن تقوم عليه البينة
بذلك فيقر ولا ينكر، والرابع: أن ينكر فتقوم عليه البينة.
فأما إذا أتى مستفتيا في ذلك غير مخاصم فيه فذكر أنه قال امرأتي طلاق أو
طالق إن فعلت كذا وكذا في يوم كذا وكذا، وأنه كرر ذلك ثانية وثالثة في أيام
مفترقة فهذا يلزمه ثلاث تطليقات إلا أن تكون له نية أنه أراد بذلك تطليقة
واحدة فرددها عليها إعلاما لها وتوبيخا وتقريرا وما أشبه ذلك، فتكون له
نيته دون يمين.
وأما إذا طولب بذلك وخوصم وهو مقر به على نفسه وادعى أنه أراد بذلك تطليقة
واحدة فينوى في ذلك مع يمينه على ما تأولناه في هذه المسألة.
وأما إذا قامت عليه البينة بذلك فأقر ولم ينكر وادعى أنه أراد واحدة فقيل:
إنه لا ينوى لأن البينة قد حضرته، وهو قول ابن القاسم في رسم حمل صبيا من
سماع عيسى من كتاب الشهادات، وظاهر قول ربيعة في الأيمان بالطلاق من
المدونة أن الشهادة في الطلاق لا تلفق إذا اختلفت المجالس، وقيل: إنه ينوى
وتكون واحدة لاحتمال أن يكون أراد طلقة واحدة
(6/82)
فأشهد بها في أوقات شتى، والى هذا ذهب
إسماعيل القاضي، وهو الذي يأتي على معنى ما في المدونة من أن الشهادات على
الطلاق تلفق إن اختلفت المجالس، ومثله في رسم القطعان من سماع عيسى من كتاب
الشهادات.
وهذا الاختلاف عندي إنما هو إذا شهدت كل واحد من البينة أنه قال: أشهدكم
أنها طالق، فأما إن شهدت أنه قال أشهدكم أني قد طلقتها فإنه يُنَوَّى قولا
واحدا، يقوم ذلك من قول أصبغ في رسم حمل صبيا من سماع عيسى من كتاب
الشهادات.
وأما إن أنكر الطلاق جملة فلما شهدت عليه البينة ادعى أنه أراد واحدة فلا
يُنَوَّى ويلزمه ثلاث تطليقات، هذا هو المشهور، وقد تخرج أنه ينوى بعد
الإنكار على ما في رسم الكبش من سماع يحيى بعد هذا من هذا الكتاب، وعلى ما
مضى في كتاب التخيير والتمليك، وفي رسم كتب عليه من سماع ابن القاسم، ورسم
الطلاق من سماع أشهب، ورسم الكبش من سماع يحيى، وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف بطلاق امرأته ألا يكلم ابنته أبدا
ولا يشهد لها محيا ولا مماتا]
مسألة وعن رجل حلف بطلاق امرأته ألا يكلم ابنته أبدا ولا يشهد لها محيا ولا
مماتا أبدا ولا يدخل لها بيتا، فخرج مع امرأته يبلغها بيت ابنتها حتى إذا
كان ببعض الطريق قعد وذهبت امرأته إليها فأخبرتها أن أباها خارج، فخرجت
إليه فقبلته واعتنقته وأرسلت إليه طعاما وشرابا، فأتي به فأبى أن يطعمه،
فقال له بعض
(6/83)
من معه: ليس عليك شيء وأنت لم تحلف إلا
تطعم لها طعاما فكل ولقمته بكفها وسقته بيدها.
فقال: لا أرى عليه حنثا، هو لم يكلمها ولا دخل منزلها، قيل له: إن منزلها
في حائط ومن دونه حائط، فلما انتهى إلى الحائط الأدنى جلس هنالك حتى خرجت
إليه، فقال: لم تقولوا لي هذا ولست أدري ما هو؟ فأما قولك الأول فلا أرى
عليه حنثا، قيل له: فإن في يمينه ألا يشهد لها محيا ولا مماتا أبدا، ثم قد
أكل من طعامها وشرب من شرابها ولقمته بكفها وسقته بيدها، فقال: ما فهمت هذا
منه، وهذا مشكل ولست أدري ما هو؟
قال محمد بن رشد: القياس في هذه المسألة ما أجاب به أولا من أنه لا حنث
عليه لأنه حلف ألا يكلمها ولا يدخل لها بيتا ولا يشهد لها محيا ولا مماتا
أني مشهد ولا جنازة ولم يفعل شيئا من ذلك ثم توقف لما قيل له إن منزلها في
حائط داخل حائط، وأنه لما انتهى إلى الحائط الأدنى إلى منزلها جلس هنالك
حتى خرجت إليه، وخشي أن يكون الحائطان جميعا في حكم منزلها لما كان داخلهما
على أصله من أن من حلف ألا يدخل بيت رجل يحنث بدخول منزله، وهو إغراق لمؤنه
إنما يحنث بدخول المنزل من حلف ألا يدخل البيت؛ لأن المنزل وهو الدار مسكن
كما أن البيت مسكن، وليست الحوائط بمساكن، وابن القاسم لا يرى أن يحنث
بدخول الدار من حلف ألا يدخل البيت، على ما يأتي في رسم الرهون من سماع
عيسى، فكيف بهذا؟ وخشي أيضا أن يكون معنى يمينه اجتناب أمرها كله، فيحنث
بأكل طعامها وإطعامها إياه بيدها، والأمحص أنه لا حنث بذلك؛ لأنه قد سمى
جميع ما حلف عليه وليس هذا من معناه، والله أعلم.
(6/84)
[: حلف ليضربن
عبده فمات العبد قبل أن يضربه]
ومن كتاب الطلاق الأول وسئل: عمن قال لامرأته: أنت طالق إن دخلت على أختك
بيتها أبدا حتى تأتيك هي وبناتها، فماتت أختها قبل أن تأتيها فأرادت شهودها
والذهاب إلى بيتها.
فقال: قد ماتت، فلا أرى بأسا أن تذهب إليها، ولا أرى عليه طلاقا إذا كان
بناتها قد جئنها، هي الآن من أهل القبور.
قال محمد بن رشد: كان القياس في هذه المسألة أن يحنث بدخولها عليها وهي
ميتة قبل أن تأتيها وهي ميتة وإن كان بناتها قد جئنها إذا كانت قد أقامت
قبل أن تموت لمكنها فيه الإتيان، كمن قال: امرأتي طالق إن فعلت كذا وكذا
حتى يفعله فلان فمات قبل أن يفعله، وقد أقام ما لو شاء أن يفعله فعله أن
اليمين عليه باقية، ولما قال في رسم حمل صبيا من سماع عيسى في الذي يقول
لامرأته: أنت طالق إن دخلت بيت أبيك حتى يقدم الحاج وشبه ذلك، وفي سماع
أصبغ من كتاب العتق في نحو ذلك، وكمن حلف ليضربن عبده فمات العبد قبل أن
يضربه، وقد أقام ما لو شاء أن يضربه أنه حانث، إذ لا اختلاف فيمن حلف ألا
يدخل على فلان بيتا أبدا أنه حانث إن دخل عليه بيتا، وإنما اختلف إذا حلف
ألا يدخل عليه بيتا ما عاش فدخل عليه بعد أن مات، وقد مضى وجه الاختلاف في
ذلك في سماع أشهب من كتاب النذور.
ووجه ما ذهب إليه مالك في هذه المسألة: أنه حمل يمينه على معنى ما ظهر إليه
من إرادته، وهو أنه أراد ألا تبتدي أختها بالدخول عليها مع قدرتها هي على
الإتيان إليها، ومعنى قوله: هي الآن من أهل القبور، أي:
(6/85)
ليست ممن يقدر على الإتيان، وقد ذهب ابن
دحون إلى أن ما في سماع أشهب من كتاب النذور من أن من حلف ألا يدخل على
فلان بيتا حياته فدخل عليه ميتا أنه حانث معارض لهذه المسألة، وذلك غلط
ظاهر على ما بيناه، وإنما هي معارضة لما في رسم حمل صبيا من سماع عيسى على
ما ذكرناه، وبالله التوفيق.
[مسألة: قالت لابنها انكح أم ولدك التي أعتقت
عليك فقال هذه طالق البتة إن تزوجتها]
مسألة وسئل: عن امرأة قالت لابنها: انكح أم ولدك التي أعتقت عليك، فقال:
هذه طالق البتة إن تزوجتها إلا أن تعطيني عشرين دينارا، أفيصلح لأمه أن
تعطيه إياها فإذا تزوجها نزعتها منه، فقال: ما أرى بأسا أن تنزعها منه بعد
أن يتزوجها، فلتفعل.
قال محمد بن رشد: قال ابن نافع: هذا غلط، ولا أرى أن يعمل به، قال أبو
محمد: إنما أراد مالك أنها لم تواطئه على ذلك، ثم إنه طاع لها بالرد بعد
النكاح، وقوله صحيح لا وجه للمسألة سواء.
[مسألة: قلت لامرأتي أنت طالق البتة إن لم أخرج
من المدينة]
مسألة قلت له: قلت لامرأتي: أنت طالق البتة إن لم أخرج من المدينة.
فقال: يخرج مخرج سفر ولا يخرج مخرجا هكذا، فقال: والله ما أردت نكاحها ولا
أردت ضررها، فقال: إنا لنقول في مثل هذا: سافر ما تقصر فيه الصلاة، ثم قال
له الروحا، قال أشهب: إذا ذهبت إليها.
(6/86)
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال إذا لم تكن
له نية في مكان بعينه يسير إليه، ولا في مقدار ما يتباعد من المدينة، ولا
كان ليمينه بساط يحمل عليه أنه يبر بالخروج من المدينة، وقد اختلف في حد
ذلك، فقال في هذه الرواية: إنه يخرج إلى مثل ما تقصر فيه الصلاة، يريد:
ويقيم هناك الشهر ونحوه على حكم الحالف لينتقلن أنه ينتقل فيقيم الشهر
ونحوه، فإن رجع بعد خمسة عشر يوما لم يحنث.
قال مالك في كتاب ابن المواز: وهذا استحسان، والقياس أنه يخرج إلى موضع لا
يلزمه فيه أن يأتي منه إلى الجمعة، فيقيم ما قل أو كثر ثم يرجع إن شاء،
والأول أبرأ من الشك، ومثله لابن القاسم في المبسوطة، وعلى هذا يأتي قوله
في مسألة رسم البراءة من سماع عيسى بعد هذا.
وقال أصبغ في أحد الكتب الخمسة في هذا: إنه استحسان أيضا، والقياس أنه لا
يلزمه أن يخرج من المدينة إلا إلى منتهى أطرافها وهو حد ما يقصر فيه الخارج
ويتم عند الوصول إليه الداخل، وقد قيل: إنه لا يبرأ إلا بالخروج عن جميع
عملها وأن يجاوز ذلك حد ما تقصر فيه الصلاة، روى هذا القول عن ابن كنانة في
المدنية.
وعلى هذه الأربعة أقوال يختلف فيمن حلف ألا يتزوج من بلد كذا، وتحصيل القول
في ذلك: أن فيه قولين: أحدهما: أن يمينه تحمل على البلد، وجميع عمله حتى
يريد الحاضرة نفسها، والثاني: أنه يحمل على الحاضرة نفسها حتى يريدها
وعملها، فإن أرادها وعملها أو لم تكن له نية على القول الآخر، فقيل له: إنه
لا يتزوج فيما تقصر فيه الصلاة، وهو أربعة برد، وقيل: إنه لا يتزوج في جميع
عملها وإن تجاوز أربعة برد، وإن أراد الحاضرة نفسها أو لم تكن له نية على
القول الآخر، فعلى الأربعة الأقوال المذكورة التي بينا وسمينا قائليها،
وبالله التوفيق.
[مسألة: يقول لرجل امرأته طالق إن لم أخاصمك
إلى فلان فيعزل ذلك الوالي]
مسألة وسئل: عن الذي يقول لرجل: امرأته طالق إن لم أخاصمك
(6/87)
إلى فلان، فيعزل ذلك الوالي أو يموت.
قال: لا أرى عليه شيئا، وأرى أن يخاصمه إلى الإمام الذي خلف بعده، وأرى أن
ينوى، فإن قال نويت هذا المعزول نفسه أو الميت لم ير أن يخاصمه إلى الذي
خلف، وإن قال لم أنو شيئا رأيت أن يخاصمه إلى الذي خلف بعده؛ لأنه إنما
أراد مخاصمته وغيظه وضده وإدخال المشقة عليه، وإن قال لا أخاصمه إلى هذا
الذي خلف بعده، قد مات صاحبي الذي حلفت عليه، قيل لا والله ما ذلك لك إن
كان ذلك منه على وجه أن يخاصمه وأن يغيظه وأن يضر به، إلا أن يقول نويت هذا
الذي عزل نفسه أو مات، فأرى ذلك له ولا أرى عليه شيئا إن لم ينو شيئا إذا
خاصمه إلى الذي خلف بعده، وإنما أراد بالسلطان أن يبلغ مقاطع الحدود
ومغيظته.
قيل له: أرأيت لو أقام شهرين بعد يمينه لا يخاصمه حتى مات ذلك الوالي أو
عزل؟
قال: كنت أرى ذلك له إلا أن يتطاول ذلك جدا أو تدخله أناة شديدة.
قال محمد بن رشد: لم يراع مالك في هذه المسألة التسمية وحمل يمينه على ما
يظهر من قصد الحالف خلاف قوله في رسم الشجرة تطعم بطنين في السنة من سماع
ابن القاسم.
(6/88)
وقوله: إلا أن يقول نويت هذا الذي عزل نفسه
أو مات فأرى ذلك له، معناه: فأرى ذلك عليه ويؤخذ بما زعم أنه نواه، ويحنث
إذا لم يرفعه إليه حتى مات أو عزل إلا أن يموت أو يعزل بحدثان ذلك؛ لأن
نيته هذه عليه وليست له.
وقوله: أنه لو أقام شهرين بعد يمينه لا يخاصمه حتى مات أو عزل أن ذلك له ما
لم يتطاول أو يدخله أناة شديدة، قال ابن دحون: إنه إن لم تأت له الخصومة في
الشهرين، فأما إن تأتت له الخصومة في الشهرين ولم يخاصمه حتى عزل الحاكم أو
مات فهو حانث إذا طال تأنيه جدا، وليس قول ابن دحون عندي بصحيح؛ لأنه ما لم
تتأت له الخصومة وإن طال أمر ما عسى أن يطول فلا يحنث وإن كانت الخصومة
متأتية له فهو حانث فيما دون الشهرين، فالمعنى في المسألة إنما هو أنه يصدق
في الشهرين إن ادعى أن الخصومة لم تتأت له فيهما ولا يصدق في ذلك إذا طال
جدا، والله أعلم.
[مسألة: الرجل يجمع في نفسه على طلاق امرأته
حتى يكون قد طلق نفسه]
مسألة وسئل: عن الرجل يجمع في نفسه على طلاق امرأته حتى يكون قد طلق نفسه
ولم ينطق به لسانه، أترى عليه طلاقا؟
فقال: إي والله في رأيي، وما هذا بوجه الطلاق.
قال محمد بن رشد: قوله: وما هذا بوجه الطلاق - معناه: ليس هذا من شأن الناس
وعاداتهم أن يفعلوه، وهذا مثل قوله في هذا السماع من كتاب التخيير
والتمليك: ليس يطلق الرجل بقلبه ولا ينكح بقلبه، أي: ليس بشأن الناس أن
يفعلوه، إذ لا تأثير له في الحكم الظاهر، وقد كان الشيوخ
(6/89)
يحملون ذلك على أنه اختلاف من قول مالك،
وأن ما في كتاب التخير والتمليك أصح مما في هذا الكتاب، وكذلك قال ابن دحون
في هذه المسألة: إنها مسألة حائلة؛ لأن كل الروايات عن مالك: أنه لا يلزمه
إلا ما حرك به لسانه أو كتبه بيده، فإن لم يحرك به لسانه، وليس ذلك على ما
قال، بل هي مسألة صحيحة على الأصول؛ لأن الكلام باللسان والكتب باليد إنما
هو عبارة عما في القلب يفيد الحكم الظاهر خاصة، وما أجمع عليه في قلبه من
طلاق امرأته لازم له فيما بينه وبين الله وإن لم ينطق به لسانه ولا خط به
بنانه، هذا هو الصحيح، وإن كان قد روى عبد الرحمن الأعلى عن ابن وهب عن
مالك في الرجل يطلق بقلبه، قال: ليس عليه شيء حتى يكون الإفصاح، على أنه
يحتمل أن يريد ليس عليه شيء في الحكم الظاهر، والله أعلم.
[مسألة: فحلف البائع بطلاق امرأته البتة إن وضع
من ثمن الجارية شيئا]
مسألة وسئل: عمن باع جارية من رجل فسأله أن يضع له ثلاثة دنانير فحلف
البائع بطلاق امرأته البتة إن وضع عنه دينارين ونصفا إلا أقل، فجاء أخو
الحالف فقال: أغرم ما بقي ولا يختصمان.
فقال له مالك: أما شيء يكون عليك فلا، وأما شيء يكون من مال أخيك فنعم،
يصالحه به عليك من مال نفسه.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال: إنه إن كان أخو الحالف يقدم ذلك
للحالف من مال نفسه على أن يتبعه بذلك، أو من مال أخيه الحالف فلا يبر
الحالف بذلك؛ لأنه لم يصل إليه ما حلف عليه، فكأنه قد
(6/90)
وضع عليك عن المشتري، وإن كان يقدم ذلك من
ماله عن المشتري للحالف فقد بر الحالف؛ لأنه قد وصل إليه ما حلف عليه ولم
يضع منه شيئا للمشتري، وسواء اتبع الغارم المشتري بما غرم عنه أو وهبه له
ولم يتبعه به، وبالله التوفيق.
[مسألة: ادعى في الطلاق نية تشبه غير مخالفة
لظاهر قوله]
مسألة وسئل: عن عبدين كانت بينهما منازعة، فأخذ قيم سيدهما القيد ليجعله في
رجل الظالم منهما، فقال له: لم تقيدني؟ أتخاف أن أبق منك؟ امرأتي طالق
البتة إن أبقت منك إلا إلى أهلي، فأبى القيم أن يصدقه بيمينه وقيده، فكسر
العبد القيد وفر إلى أهله كما قال، فأقام عندهم سنتين أو أكثر ثم أبق منهم
إباقا بينا هو الإباق، فقال له أهله: أتخاف أن تكون قد حنثت؟ حلفت بالطلاق
ألا تأبق، فقال العبد: لم أرد الإباق أبدا إنما أردت يومئذ ألا أبق إليكم،
ففعلت.
فقال له مالك: ما أراه أراد إلا اليمين الأولى ألا يأبق من القيم نفسه إلا
إلى أهله، إرادة أن يؤمنه مما يخاف، قال: أرى ألا عليه شيئا، وأرى عليه
اليمين ما أراد إلا ذلك.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة على أصولهم في أن من ادعى في الطلاق نية
تشبه، غير مخالفة لظاهر قوله صدق فيها مع يمينه ونيته غير مخالفة لقوله، بل
هي موافقة له؛ لأنه قال: امرأتي طالق إن أبقت منك، وهو لم يأبق منه، وإنما
أبق من عند أهله بعد أن بر في يمينه إذ لم يأبق يومئذ، وهذا بين، وبالله
التوفيق.
(6/91)
[مسألة: قال
امرأتي طالق البتة إن كان أكل عندي فلان وفلان واستثنى سرا]
مسألة وسئل مالك: عمن قال: امرأتي طالق البتة إن كان أكل عندي فلان وفلان،
واستثنى سرا إلا تمرا.
فقال مالك: إني أخاف ألا يكون لسانك تكلم بذلك، إنما هو شيء وجدته في نفسك،
فقال: بلى، قد تكلمت به كلاما في نفسي، فقال له: إنه أنطق لسانك، قال: نعم،
ولكن قد كان شربا عندي مذقا، فقال له مالك: كم طلقتها؟ فقال: لم أقل شيئا،
إنما قلت هي طالق، قال: أكنت طلقتها قبل اليوم شيئا؟ قال: نعم واحدة، فقال
له: قد طلقتها واحدة وهذه اليمين ثانية، فقد طلقتها اثنين ولك عليها
الرجعة، فتكون عندك على واحدة، ثم قال له: منذ كم حلفت؟ قال: منذ ستة أشهر،
قال: قد حلت فاخطبها مع الخطاب ثم أنكحها نكاحا جديدا بعد أن تستبرئها
بالعدة من مائك الذي مسستها فيه وهي مطلقة؛ لأنك لم تكن ارتجعت حتى حلت،
قال: من ينكحنيها؟ قال: أبوك إن شئت بشهود وبينة وصداق جديد ثوب أو غير
ذلك؛ لأنك قد أنكحتها مرة فينكحكها أبوك، وليس في ذلك بأس.
قال محمد بن رشد: المذق هو اللبن المضروب بالماء، فإنما أوجب عليه الحنث
لشربهما إياه عنده إذا حلف أنهما ما أكلا عنده شيئا ولم يستثن إلا التمر؛
لأن يمينه ما أكلا عنده شيئا معناه ما طعما عنده طعاما، واللبن طعام، يجب
به الحنث عليه إذا كانا قد شرباه، كما يجب به عليه لو أكلاه؛ لأن المعنى في
الأكل والشرب سواء، إذ يجمعه اسم الطعم، إلا أن تكون له نية في أحدهما دون
الآخر، قال الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ
شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي}
[البقرة: 249] ،
(6/92)
ولو لم يشربا عنده المذق لم يجب عليه شيء
إذ قد استثنى التمر إذا كان قد حرك به لسانه، وإن لم يعلم المحلوف عليه،
وهذا على القول بأن اليمين على نية الحالف وأن الاستثناء لا ينفع إلا
بتحريك اللسان، وقد مضى القول على الوجهين في رسم البز من سماع ابن القاسم،
ولما رأى الطلاق واقعا عليه وأخبره أن له منذ حلف بالطلاق ستة أشهر، قال
له: قد حلت فاخطبها مع الخطاب، معناه: على الغالب في أن العدة تنقضي في مثل
هذه المدة. وقوله: إنه يزوجها منه أبوه، ظاهره: وإن رضي به الولي لا يردها
عليه، وإن لم يكن لها بولي، إذ قد زوجها منه أولا وليها، وهذا خلاف قوله في
النكاح الأول من المدونة: إن النكاح الأول والآخر في ذلك سواء.
والأصل في هذا الاختلاف اختلافهم في المرأة يزوجها أجنبي، فعلى القول بأن
النكاح يفسخ، وإن رضي به الولي، لا يردها عليه الأجنبي. وعلى القول بأن
النكاح يجوز ولا يفسخ إذا رضي به الولي يردها عليه، وعلى القول بأن النكاح
يفسخ وإن رضي به الولي لا يردها عليه الأجنبي، إذ قد علم رضا الولي به
أولاً. وقد روى أبو قرة، قال: سألت مالكا عن المرأة تختلع من زوجها ثم
يراجعها في عدتها بغير إذن وليها، قال: [فقال: إن أحب] أحب إلي ألا يراجعها
إلا بإذن وليها، فإن راجعها بغير ولي لم أفرق بينهما، وهي رواية شاذة، إذ
لا اختلاف في المذهب في أن المرأة إذا زوجت نفسها يفسخ النكاح على كل حال،
ولا يلتفت فيه إلى رضا الولي.
ووجهها على شذوذها: مراعاة العلة في إيجاب المولى في النكاح، وهي أنه لما
كان النساء في نقصان فطرتهن لا يؤمن عليهن أن تميل نفوسهن إلى غير أكفائهن،
فيلحق من ذلك الأولياء غضاضة، جعل من الحق لهم ألا يكون لهن أن يزوجن
أنفسهن، فكان إرجاعهن أنفسهن إذا وقع على أزواجهن جائزا، إذ لا غضاضة على
أوليائهن في ذلك، إذ قد زوجوهم أولا،
(6/93)
وقد تأول في هذه المسألة أن أبا الزوج كان
من عصبة المرأة، فلذلك قال: يزوجكها أبوك. وقوله: لأنك أنكحتها؛ مرة - يرد
هذا التأويل، إذا لو كان من عصبتها لزوجها وإن لم ينكحها الزوج قبل ذلك إلا
أن يكون ثَمَّ من الأولياء من هو أقصد منه، فيكون هو أولى بإرجاعها، وبالله
التوفيق.
[مسألة: أعار إنسانا زوج حمام فقال امرأته طالق
البتة إن لم يكن فرخي]
مسألة وسئل: عمن أعار إنسانا زوج حمام ذكرا وأنثى فأفرخا عنده، ثم جاء فأخذ
منه حمامه، الذكر والأنثى الذي أعاره، ثم وجد عنده فرخا، فقال: هذا فرخي،
فقال: امرأته طالق البتة إن لم يكن فرخي، فقال الآخر: والله ما هو فرخك.
فقال: أرى أن يحلف بالله الذي لا إله إلا هو إنه لفرخه بعينه يعرفه.
قال محمد بن رشد: يريد أنه يدين في اليمين فلا يحنث، ولا يأخذ الفرخ إذا
حلف المستعير بالله إنه له، إذ هو المدعي عليه في الفرخ، وقد أحكمت السنة
أن البينة على من ادعى واليمين على من أنكر، وقد مضى ما يبين هذا المعنى في
رسم تسلف من سماع ابن القاسم، وإنما يحلف إذا طولب بحكم الطلاق، وقد قيل في
مثل هذا النحو: إنه لا يمين عليه؛ لأنها يمين تهمة، وسنذكر الاختلاف في ذلك
في رسم المكاتب من سماع يحيى، وبالله التوفيق.
[: حلف بطلاق امرأته إن كلم ابنته أبدا ولا
يدخل عليها أبدا]
ومن كتاب الطلاق الثاني قال: وسئل مالك: عن رجل حلف بطلاق امرأته إن كلم
ابنته أبدا ولا يدخل عليها أبدا. قال: وأنا أريد تسليما في صحة أو عيادة في
مرض، فمرض زوجها ونقله إليه وفتح بينه وبينها بابا، فكان يدخل عليه إذا
خرجت، فإذا خرج دخلت ابنته حتى مات
(6/94)
الزوج، فجعل على الباب الذي بينه وبينها
سترا، فسقط فدخل يصلحه وهي في الدار فقيل له في ذلك، فقال: إني لم أرد هذا،
ثم لما أرادوا غسله دخل في بيت من الدار معها قريب منها، وقال: لم أرد هذا
إنما أردت زيارة في صحة أو عيادة في مرض، فلما دفن ختنه، قال لامرأته،
وابنته من وراء ذلك الباب الذي فتح قبل أن يستره: قولي لها: أعظم الله أجرك
وأحسن عقباك، فقالت لها.
فقال مالك: أما تعزيته إياها فإن كان قال ذلك لامرأته وابنته تسمع، فأراه
قد حنث ووجب عليه الطلاق، وهو يكلمها، وإنما هو وهي كهيئتي [وهيئتك] الآن
وهذا الآخر، قلت لك أعظم الله أجرك وهو يسمع فما الكلام إلا هذا، قد كلمها،
ولو أرسل إليها رسولا ولم تسمعه لم أر عليه الطلاق، وإذا قال لها ذلك وهي
تسمعه فقد كلمها، وأما دخوله عليها فلا أرى عليه حنثا لأنه إنما حلف وهو
ينوي زيارتها وعيادتها، فهو إنما دخل يصلح شيئا يسد سترا أو يضع شيئا، لم
يدخل زائرا ولا عائدا، فلا أرى عليه حنثا في ذلك.
قال محمد بن رشد: قوله في هذه الرواية: فإن كان قال ذلك لامرأته وهي تسمع،
فأراه قد حنث ووجب عليه الطلاق، معناه: إن كان قال ذلك لها وهو يريد أن
يسمع ابنته المحلوف عليها، وهو صحيح لا اختلاف فيه؛ لأن تكليم الرجل الرجل
هو أن يعبر له عما في نفسه بلسانه عبرة يفهمها السامع، فإذا خاطب غيره وهو
يريد كلامه فقد حصل مكلما له وإن لم يقبل عليه بكلامه، فوجب أن يحنث إلا أن
ينوي في حلفه ألا يكلمه، يريد بكلام يقبل عليه به، فتكون له نيته في
الفتوى، واختلف إن كلم غير المحلوف عليه وهو يريد أن يسمع المحلوف عليه فلم
يسمعه، بدليل قوله في هذه الرواية
(6/95)
وهي تسمع أنه لا حنث عليه إذا لم تسمع،
ومثله في سماع أبي زيد، ووجه ذلك: أنه لم يقبل بكلامه علية ولا أسمعه،
فكأنه لم يكلمه، إذ لم يوجد منه معنى التكليم.
وقال عيسى بن دينار من رأيه في المدنية: إنه إن أراد أن يسمعه فهو حانث،
سمعه أو لم يسمعه، وهو الأظهر؛ لأنه قد كلمه إذا أراد إسماعه لكلامه، وإن
لم يقبل عليه بكلامه ولا سمعه، فوجب أن يحنث إلا أن يكون نوى في يمينه ألا
يكلمه، يريد بكلام يقبل عليه به ويسمعه منه، كما أن من حلف ألا يكلم رجلا
فكلمه من حيث يمكن أن يسمع كلامه فلم يسمعه أنه حانث إلا أن يكون نوى ألا
يكلمه بكلام يسمعه منه، وسيأتي هذا المعنى في رسم سلف من سماع عيسى.
وأما إذا كلم غيره وهو لا يريد إسماعه فلا حنث عليه سمعه أو لم يسمعه قولا
واحدا، وأما إذا كتب إليه كتابا أو أرسل إليه رسولا فقرأ كتابه أو سمع
رسالته، فقيل: إنه لا حنث عليه في الوجهين جميعا إذ لم يكلمه، وهو مذهب
أشهب وابن شهاب وابن عبد الحكم؛ لأن التكليم إنما هو أن يعبر له عما في
نفسه بلسانه عبارة يفهمها المكلم إذا أصغى إلى كلامه. وقيل: إنه حانث في
الوجهين جميعا؛ لأنه وإن لم يكلمه فقد وجد منه معنى الكلام وهو التفهيم،
والأحكام إنما هي للمعاني لا للأسماء، فوجب أن يحنث إلا أن تكون له نية أنه
أراد المشافهة فيهما فيكون له نيته.
وهو مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة، وظاهر قول ابن القاسم في
رسم إن خرجت من سماع عيسى بعد هذا من هذا الكتاب، وقد روى عن مالك: أنه لا
يُنَوَّى فيهما جميعا، وتلا قول الله عز وجل: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ
يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ
رَسُولا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ} [الشورى: 51] . وهو بعيد؛ لأن الصحيح في هذا
الاستثناء إنما استثناء منفصل مقدر بـ "لكن".
وله في المدونة قول ثالث: أنه لا ينوى في الكتاب وينوى في الرسول، ومعناه:
مع قيام البينة عليه؛ إذ لا اختلاف في أن من أتى مستفتيا تقبل منه نيته
ويصدق فيها دون يمين وإن بعدت. وقيل: إنه يحنث بالكتاب إلا أن تكون له نية
في
(6/96)
المشافهة، ولا يحنث في الرسول، وهو ظاهر
رواية أشهب هذه، وقول ابن الماجشون في الواضحة.
وقوله: وأما دخوله عليها فلا أرى عليه حنثا؛ لأنه إنما حلف وهو ينوي
زيارتها أو عيادتها، فمعناه: إذا أتي مستفتيا، وأما مع قيام البينة عليه،
فلا ينوى؛ لأنها نية مخالفة لظاهر لفظه، كالذي يحلف ألا يدخل بيتا، ويقول:
نويت شهرا وما أشبه، وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف بطلاق امرأته البتة إن خرجت من
بيته إلا أن يقضي عليه السلطان]
مسألة وسئل: عمن حلف بطلاق امرأته البتة إن خرجت من بيته إلا أن يقضي عليه
السلطان بذلك أو تخرج بغير إذنه، فيضربها خمسين ضربة، وكانت تسكن مع أمه،
فاستعدت عليه، وقالت: لا أسكن مع أمك، فقضى لها السلطان بأن تخرج عنها،
فنقلها.
فقال له: ليس عليه في ذلك شيء، ولكن اليمين عليه كما هي عليه في المنزل
الذي انتقل إليه.
قال محمد بن رشد: في ظاهر هذه اليمين اضطراب من لفظ الحالف؛ لأن يمينه
بطلاق امرأته البتة إن خرجت إلا أن يقضي عليه سلطان، يوجب أنها إن خرجت دون
أن يقضي عليه بخروجها، تَبِينُ منه بالبتات، وزيادته في اليمين أو تخرج
بغير إذنه فيضربها خمسين ضربة يقتضي حلفه ليضربنها إن خرجت بغير إذنه،
ويوجب ألا يلزمه بخروجها بغير إذنه طلاقا، إلا ألا يضربها خمسين ضربة،
وإنما إن خرجت بإذنه لم يلزمه طلاق، وهذا اضطراب شديد، فمعنى يمينه الذي
يحمل عليه أنه أراد ألا يأذن لها أن تخرج إلا أن يقضي عليه بذلك سلطان، وأن
يضربها خمسين
(6/97)
ضربة إن خرجت بغير إذنه، وعلى هذا يصح
جوابه في المسألة: أنه إن قضى عليه السلطان بإخراجها من المنزل لم يحنث،
ويكون اليمين عليه في المنزل الذي ينتقل إليه إذ لم يحنث بخروجها من ذلك
المنزل بالقضاء، وهذا نحو ما في رسم إن خرجت ورسم أسلم من سماع عيسى في
الذي يحلف لامرأته بطلاقها إن خرجت من داره، وكانت الدار بكراء، فأخرجها
أهل الدار منها بانقضاء أمد الكراء أو أخرجها منها بأمر لم يستطع إلا
الخروج والهرب منه - أن اليمين تلزمه في الدار التي انتقل إليها إلى انقضاء
مدتها.
[مسألة: حلف بالطلاق أو بالعتق ألا يدعها تخرج
أبدا]
مسألة قيل: إن من حلف بالطلاق أو بالعتق ألا يدعها تخرج أبدا، أترى أن يقضى
عليه به في أبيها وأمها ويحنث؟
قال: لا أرى عليه ذلك إذا حلف.
قال محمد بن رشد: دليل قوله في هذه المسألة لا أرى ذلك عليه إذا حلف أنه لو
لم يحلف لقضي عليه، وهو منصوص له بعد هذا في هذا الرسم، يريد: إلا أن تكون
امرأة تؤمن في نفسها، على ما قال في رسم طلق من سماع ابن القاسم من كتاب
السلطان، وقد قيل: إنه يقضي عليه حتى يمنع من الطرفين، كما لا يحنث حتى
يحلف على الطرفين، وإلى هذا ذهب ابن حبيب في الواضحة، وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف بالطلاق أو العتق إن خرجت امرأته
ألا يقضي عليه بذلك سلطان]
مسألة وسئل: عن الذي يحلف بالطلاق أو العتق إن خرجت امرأته
(6/98)
ألا يقضي عليه بذلك سلطان يجب أن يقضي عليه
بذلك، فقال: إني لأقول لمن حلف هكذا ألا يخبر السلطان أنه يجب ذلك، ولكن
يخبره بخبره، فإذا قضى عليه السلطان فأرجو ألا يكون عليه شيء ولا حنث، ولا
أرى بأسا أن يقضي عليه بذلك السلطان إذا علم أنه يجب ذلك.
قال محمد بن رشد: في كتاب ابن المواز، قيل لابن عبد الحكم: فإن جهل فأخبر
الإمام بذلك؟ فقال: ما أشبهه أن يحنث، والقياس: أنه لا يحنث، أخبره هو بذلك
أو غيره إذا امتنع من إخراجها حتى يقضي السلطان للمرأة عليه بإخراجها؛ لأن
إرادته للقضاء عليه لا يخرج القضاء عليه من أن يكون قضى عليه لا في الحكم
ولا في المعنى؛ لأن المرأة لا منفعة لها في إرادته لإخراجها إذا امتنع من
إخراجها ولا يتوصل إلى الخروج مع امتناعه من ذلك إلا بالحكم أحب ذلك أو
كرهه، وإنما خشي إذا أخبر السلطان أنه يجب أن يقضي عليه ألا يتقضى بحجج
المرأة التي يوجب لها الإخراج، وهذا إن سامح فيه الإمام، فالإثم فيه عليه،
ولا شيء على المقضي عليه، وإنما يحنث إن سامح في حجة داحضة تقوم بها
المرأة، وهو قادر على إبطالها، وبالله التوفيق.
[مسألة: يقول الحلال عَلَيَّ حرام ثم يحنث ويشهد عليه]
مسألة وسئل: عن الذي يقول: الحلال عَلَيَّ حرام، ثم يحنث ويشهد عليه،
فيقول: إنما أردت من الطعام والشراب.
فقال: أرى أن يحلف، فقيل له: أرأيت إن قال واحدة؟ فقال: ليس ذلك له.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة والاختلاف فيها
(6/99)
والقول عليها في سماع أصبغ من كتاب النذور،
فلا معنى لإعادة ذلك، ويأتي فيها في آخر سماع سحنون من هذا الكتاب معنى
زائد، سنتكلم عليه إذا مررنا به إن شاء الله.
[مسألة: قال امرأته طالق إن خرج الخاتم من يدي
حتى آخذ درهما]
مسألة وسئل: عمن استرفي ثوبا ورهن عنده بجعله خاتم، فجاءت صاحبة الثوب بعد
أخذها الثوب، فقالت: أعطني الخاتم، فقال: امرأته طالق إن خرج الخاتم من يدي
حتى آخذ درهما، وقالت هي: جاريتي حرة إن أعطيتك درهما، فما المخرج لهما من
ذلك؟
فقال: إن كان الرفا إنما حلف على أن يأخذ درهمه لا يبالي ممن أخذه، فلو أن
إنسانا من الناس أعطاه درهما لكان ذلك لهما مخرجا.
قال محمد بن رشد: في قوله في هذه المسألة: إن كان الرفا حلف على أن يأخذ
درهما لا يبالي ممن أخذه، فلو أن إنسانا من الناس أعطاه درهما لكان ذلك
لهما مخرجا، نظر يدل على أنه إن لم تكن له نية هكذا فهو حانث إن أخذ الدرهم
من غير صاحب الثوب، والصواب: أنه لا حنث عليه إن أخذ الدرهم من غير صاحبة
الثوب إلا أن يكون نوى في يمينه ألا يأخذه إلا من صاحبة الثوب؛ لأن الحالف
إذا لم تكن له في يمينه نية فهي محمولة على ما يقتضيه اللفظ، وهو حلف ألا
يخرج الخاتم من يده حتى يأخذ درهما، ولم يخص صاحبة الثوب من غيرها، ولو كان
إنما حلف ألا يخرج الخاتم من يده حتى يأخذ درهما من صاحبة الثوب فدفع إليه
إنسان
(6/100)
درهما عنها من ماله ليبر قسمها للزمه أخذه
وحنث في يمينه، إلا أن يقول: لم أرد صاحبة الثوب بعينها، وإنما قصدت أن يصل
إلى درهمي وسميت صاحبة الثوب على العادة أن صاحب العمل هو الذي يؤدي أجره،
فينوي في ذلك وإن كانت عليه بينة لأنها نية محتملة، ولو لم يؤد أحد عن
المرأة الدرهم لكانت اليمين باقية على كل واحد منهما، يحنث هو إن أخذ أقل
من درهم إلا ألا يحكم له عليها [إلا بأقل من درهم، فيقول: إنما نويت إلا
ألا يحكم لي عليها] بدرهم، فينوى في ذلك، والذي يبر به إذا لم تكن له نية
ألا يأخذ منها شيئا إذا لم يحكم له عليها إلا بأقل من درهم، وتحنث هي إن
أعطته درهما بغير حكم باتفاق.
ويحكم على الاختلاف فيمن حلف ألا يفعل فعلا فقضى به عليه السلطان، وقد مضى
ذلك في رسم سلعة سماها، ورسم حلف من سماع ابن القاسم، وسيأتي في آخر هذا
الرسم وغيره أيضا، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال امرأته طالق إن لم تكن الآن في
البيت]
مسألة وسئل: عن رجل قال له النقيب في القسم: امرأتك حاضرة، فقال: امرأته
طالق إن لم تكن الآن في البيت، وذلك أنه خرج وتركها في البيت، فخرجت في
الحجرة، فحلف أنها في البيت وهي في الحجرة.
فقال: ما أرى عليه طلاقا، الحجرة من البيت، أرأيت إن كانت في المغتسل أو
الخزانة؟ ما أرى عليه طلاقا، الحجرة من البيت هي التي يكون فيها الإذن، وهي
التي إذا سرق منها قطعت يد السارق، وإذا سرق من البيت فخرج به إلى الحجرة
ثم
(6/101)
أخذ لم تقطع يده، فلا أرى عليه حنثا.
قال محمد بن رشد: حمل مالك هذه المسألة على البساط فلم يحنثه بمقتضى اللفظ
وهو المشهور في المذهب، خلاف قوله في رسم سلعة سماها من سماع ابن القاسم من
هذا الكتاب، وخلاف قوله أيضا في رسم سلف من سماع ابن القاسم من كتاب
التخيير والتمليك، وخلاف ما في سماع سحنون من هذا الكتاب، وهو أصل مختلف
فيه قد مضى عليه في أصل سلعة سماها، فلا معنى لإعادته.
[مسألة: قوله لا أخاصمك قد وكلتك إلى الله بعد
يمينه بالطلاق ألا يتركه]
مسألة وسئل مالك: عمن كانت بينه وبين رجل مخاصمة فحلف بطلاق امرأته ألا
يتركه وليجهدن عليه، ثم قال له بعد: لا أخاصمك، قد وكلتك إلى الله، ثم ذكر
يمينه بعد، فجاءه، فقال: ذكرت أن علي يمينا فيك، فهل تراه حانثا؟
قال: ما أراه إلا وقد حنث ووجب عليه الطلاق، فقال له المخاصم: إنه حين رجع
إلي جعلت بيني وبينه رجلا وحلفت له بعتق ما أملك لأرضين بقضائه، وقضى عليه
بالدينارين فسلفتهما ودفعتهما. فقال له: فأرى أن يذهب إلى السلطان فتنهي
إليه شهادتك ولا تطلب الدينارين، فإن أعطاكهما فلا تأخذهما منه.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة أنه تكلم في أولها على ما يجب عليه
إذا أقر بقوله لا أخاصمك قد وكلتك إلى الله، فأوجب عليه الطلاق بقوله لا
أخاصمك قد وكلتك إلى الله بعد يمينه بالطلاق ألا يتركه، وتكلم في أخرها إذا
أنكر الحالف بالطلاق أن يكون قال لا أخاصمك قد وكلتك إلى الله والمخاصم
المقول له ذلك شاهد عليه به وهو يقول إنه قد
(6/102)
رجع إلى مخاصمته بعد أن قال له ذلك، فصالحه
بدينارين ودفعهما إليه، فقال مالك: ينهي شهادته إلى السلطان ولا تطلب
الدينارين ولا يأخذهما إن أعطاه إياهما، فتجوز شهادته عليه في الطلاق،
وتطلق عليه امرأته إن كان معه شاهد غيره على قوله: لا أخاصمك وقد وكلتك إلى
الله، أو يحلف إن لم يكن معه شاهد غيره وتكذيبه؛ لأنه إن طلب الدينارين
وأراد الرجوع بهما عليه لسقوط دعواه عليه على المصالحة بقوله لا أخاصمك قد
وكلتك إلى الله لم تجز شهادته عليه في الطلاق لجره بها إلى نفسه مالاً؛
لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يجوز شهادة خصم
ولا ظنين ولا جار إلى نفسه»
ونظير هذا آخر مسألة سحنون في نوازله من كتاب الأقضية، فقف على ذلك،
وإجازته شهادته عليه في الطلاق إن لم يطلب الدينارين وقد كانت بينهما
خصومة، يحتمل أن يكون إنما شهد بعد أن وقع الصلح وارتفعت العداوة وأن
أمرهما إلى سلامة، على ما روى أشهب عنه في سماعه من كتاب الشهادات، وتحتمل
أن تكون الخصومة إنما كانت في الشيء اليسير الذي لا يورث العداوة على ما
ذهب إليه ابن كنانة، ولو كان المخاصم إنما شهد عليه بقوله لا أخاصمك قد
وكلتك إلى الله قبل أن يصالحه مما كان يخاصمه فيه ويدعيه عليه لم تجز
شهادته عليه في الطلاق؛ لأنه يدفع عن نفسه بهذه الشهادة مخاصمة له، ويسقط
عنه دعواه قبله، والدفع عنه جر إليه، ولا تجوز شهادة جار إلى نفسه إلا أن
يحضر جميع ما كان يخاصمه فيه ويدعيه قلبه ويطوع بدفعه إليه وهو من اليسير
الذي لا يورث الحقد والعداوة، على ما ذهب إليه ابن كنانة، فتجوز شهادته،
والله أعلم.
(6/103)
[مسألة: حلف
بطلاق امرأته ألا يضطجع على هذا الفراش ففتق الفراش والتحفه]
مسألة وسألته: عمن حلف بطلاق امرأته ألا يضطجع على هذا الفراش، ففتق الفراش
والتحفه هو وامرأته.
قال: أراه قد حنث في رأيي، ونزلت بالمدينة فأفتاهم بذلك.
قال محمد بن رشد: إنما قال إنه يحنث؛ لأن الاضطجاع على الفراش انتفاع به،
فإذا حلف ألا يضطجع عليه فهو في المعنى حلف ألا ينتفع به، والالتحاف به
انتفاع به، فوجب أن يحنث بذلك، وهذا إذا لم تكن له نية، وأما إن كانت له
نية أنه أراد الانتفاع بالاضطجاع خاصة دون الانتفاع بما سواه أو مجرد
الاضطجاع دون الانتفاع بما سواه فيصدق في نيته مع يمينه، ولا يحنث
بالالتحاف، وقد قيل: إنه إذا لم تكن له نية لا يحنث إلا بالاضطجاع الذي حلف
عليه، وهذا على الاختلاف في حمل اليمين على المعنى دون اللفظ، وقد مضى
القول على هذا المعنى في غير ما موضع، ومضى قبل هذه المسألة الاختلاف في
مراعاة البساط إذا عدمت النية، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: بينه وبين جار له مقاولة فحلف بالطلاق
لينتقلن عنه]
مسألة وسئل: عن رجل كانت بينه وبين جار له مقاولة فحلف بالطلاق لينتقلن
عنه.
فقال: ما وجه الشأن إلا أنه كره مجاورته، فإن كان كذلك فأرى أن ينتقل ولا
يساكنه أبدا، وإن كان إنما أراد النقلة ترهيبا ثم يعود ولم يرد الفراق أبدا
فإني أرى أن ينتقل ثم يقيم شهرا ثم يرجع إن بدا له هو وجه النقلة، وليس
منزل يوم بنقلة.
قال محمد بن رشد: قوله ما وجه الشأن إلا أنه كره مجاورته يدل
(6/104)
على أنه محمول عنده إذا لم تكن له نية إلا
أنه حلف ألا يجاوره فينتقل عنه ولا يجاوره أبدا، فيلزم على هذا إن قال إنما
أردت الرحلة ترهيبا ثم يعود ألا يصدق في ذلك إن حضرته بينة إلا مع يمينه،
وقد قيل: إن يمينه محمولة على الانتقال الذي حلف عليه حتى يريد ترك
مجاورته،، فإذا أراد الانتقال على القول الأول أو لم تكن له نية على القول
الثاني فالاستحسان إذا انتقل عنه أن يقيم شهرا، وكذلك يرجع، فإن رجع بعد
خمسة عشر يوما لم يحنث، قاله ابن القاسم في رسم تأخير صلاة العشاء من سماع
ابن القاسم من كتاب النذور، وقد مضى القول على ذلك هنالك، ولو رجع أيضا بعد
أن أقام أكثر من يوم وليلة لم يحكم عليه بالحنث على قياس ما قاله في كتاب
محمد في الحالف ليخرجن من المدينة، وقد مضى القول على ذلك في رسم الطلاق
الأول من هذا السماع.
[مسألة: يمنع امرأته الخروج]
مسألة وسئل: عن الذي يمنع امرأته الخروج.
فقال: إني أرى أن يُقْضَى على الرجل في امرأته تشهد جنازة أبيها وأمها
وتزورهم والأمر الذي تكون فيه الصلة والمصلحة، فأما شهود الجنائز واللعب
والعبث فلا أرى ذلك عليه.
قال محمد بن رشد: قوله إنه يقضى على الرجل في امرأته أن يدعها تخرج في
جنازة أبيها وأمها وتزورهم هو مثل ما مضى من قوله قبل هذا في هذا الرسم
بدليل خلاف ما ذهب إليه ابن حبيب من أنه لا يقضى عليه أن يأذن لها بالخروج
إلى زيارة أبيها إلا أن يمنعها من زيارتها أيضا فيقضى عليه بأحد الأمرين،
وأما خروجها في جنازة أبويها ومن أشبههما من قرابتها القريبة كالأخ والجد
والعم فلا خلاف في أنه يقضى عليه بأن يأذن لها بالخروج إلى ذلك وإن كانت
شابة، وهو معنى ما في كتاب الجنائز من المدونة، بخلاف خروجها إلى المسجد
وإلى العيدين وإلى الاستسقاء، وقد
(6/105)
مضى تحصيل القول في هذا المعنى قرب آخر
الرسم الأول من سماع أشهب من كتاب الصلاة، فأغنى ذلك من إعادته هنا، وبالله
التوفيق.
[مسألة: حلف بالطلاق ألا يدعها تخرج أترى أن
يقضى عليه في أبيها وأمها]
مسألة قيل له: أرأيت إن حلف بالطلاق أو العتاق ألا يدعها تخرج أبدا، أترى
أن يقضى عليه في أبيها وأمها فيحنث؟
قال: لا أرى ذلك عليه، إذا حلف.
قال محمد بن رشد: قد تكررت هذه المسألة بعينها قبل هذا في هذا الرسم، ومضى
القول فيها فلا معنى لإعادته.
[مسألة: كانت امرأة صرورة فأرادت الحج أترى أن
يقضى عليه في ذلك ويحنث]
مسألة قيل له: أرأيت إن كانت امرأة صرورة فأرادت الحج أترى أن يقضى عليه في
ذلك ويحنث؟
قال: نعم، إني أرى أن يقضى عليه بذلك، ولكن ما أدري ما تعجيل الحنث هاهنا؟
حلف أمس وتقول أنا أحج اليوم ولعله يؤخر ذلك سنة سنة.
قال محمد بن رشد: في كتاب ابن عبد الحكم أنه يؤخر سنة، وكذلك يقضى عليه،
وهذا يدل أن الحج عنده على التراخي خلاف ما حكى ابن القصار عنه من أنه على
الفور، إذ لو كان عنده على الفور لما شك في تعجيل تحنيث الزوج في أول عام،
بل القياس يوجب أن يحنث الزوج في أول عام، وإن كان الحج على التراخي؛ لأن
لها أن تعجله وإن لم يجب عليها تعجيله، ولما أخر رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الحج عاما واحدا للعذر المذكور في الحديث رأى
على ما في كتاب ابن عبد الحكم أن يقضي عليها بالتأخير عاما واحدا؛ لأن يمين
الزوج عذر، ولعلها إنما قصدت إلى
(6/106)
تحنيثه لا إلى تعجيل القربة بتعجيل الحج،
فهذا وجه الرواية والله أعلم.
ولابن نافع عن مالك في المجموعة: أنه يستأذن أبويه في حج الفريضة العام
وعام قابل، فإن أبيا فليخرج، وهذا بين في أن الحج عنده على التراخي خلاف ما
له في كتاب ابن المواز أنه يحج الفريضة بغير إذنهما، وإن قدر أن يتراضاهما
فعل، وإلى هذا ذهب سحنون في نوازله من كتاب الشهادات إذ لم ير أن يسقط
شهادة من ترك الحج، وهو قوي عليه، حتى يتطاول ذلك السنين الكثيرة من
العشرين إلى الستين، وإذا قلنا: إنه على التراخي، فله حال يتعين فيها، وهو
الوقت الذي يغلب على الظن فواته بتأخيره عنه وهو يتعين عندي على من بلغ
الستين؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «معترك
أمتي من الستين إلى السبعين» ، وإلى هذا الحديث نحا سحنون، والله أعلم. وقد
رددت هذا المعنى بيانا ووضوحا في غير هذا الديوان، وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف بالطلاق على أمر ألا يفعله ولم
يستثن إلا أن يقضى عليه السلطان]
مسألة قلت: أريت إن حلف بالطلاق على أمر ألا يفعله، ولم يستثن إلا أن يقضى
عليه السلطان، فقضى عليه، أترى أن يلزمه الحنث؟
قال: إي والله إني أرى ذلك لم يستثن لنفسه، وإنك لتجد من يحلف هكذا مغالبة
للسلطان، فأرى عليه الحنث إلا أن يقول لم أرد هذا ولم أرد مغالبة السلطان،
فأرى أن يحلف ويكون ذلك له.
قال محمد بن رشد: هذا نحو ما تقدم من كتاب التخيير والتمليك من المدونة،
ومثل ما مضى في رسم سلعة سماها، ورسم حلف من سماع
(6/107)
ابن القاسم، خلاف قول ابن الماجشون في
الواضحة، وقد مضى القول على ذلك في الرسمين المذكورين، في رسم تسلف من سماع
ابن القاسم من كتاب النذور، فلا معنى لإعادة ذلك.
[مسألة: قال لامرأته رأسي من رأسك حرام إن
أخرجتك من عند أمك]
مسألة وسئل: عمن قال لامرأته: رأسي من رأسك حرام إن أخرجتك من عند أمك إلا
أن تخرجني أمك، فأخرجتني أمها.
فقال مالك: ومن يعلم أن أمها أخرجتك؟ فقال: الجيران، فقال له: ثبت ذلك
عليها وأشهد على ذلك؟ قيل له: وترى قوله رأسي من رأسك حرام طلاقا؟ قال: إي
والله، إني لأرى ذلك، قال مالك: وإن أخرجته أمها فليس عليه طلاق.
قال محمد بن رشد: هذا كله بين على ما قال؛ لأن التحريم طلاق فهو يقع بالبعض
كما يقع بالكل، لا فرق بين أن يقول الرجل لامرأته: أنا منك طالق وأنت مني
طالق، وبين أن يقول لها: رأسي منك طالق ورأسك مني طالق، ورأسي من رأسك
طالق، فكذلك لا فرق بين أن يقول الرجل لامرأته أنت علي حرام أو أنا عليك
حرام، أو رأسي عليك حرام أو رأسك علي حرام. وقوله رأسي من رأسك حرام مثل
قوله رأسي على رأسك حرام؛ لأن حروف الجر قد تبدل بعضها ببعض، وكذلك القول
في قوله وجهي من وجهك حرام. وقد مضى ذلك والقول فيه في رسم أوصى من سماع
عيسى من كتاب التخيير والتمليك. ويأتي للمسألة ذكر في سماعه أيضا من هذا
الكتاب في رسم أوصى.
فإذا ثبت أن قول الرجل لامرأته: رأسي من رأسك حرام، طلاق - وجب إذا حلف
بذلك ألا تخرج امرأته من عند أمها إلا أن تخرجه أمها، فأخرجها من عند أمها،
وادعى أنه إنما أخرجها من عند أمها؛ لأن أمها أخرجته، وجب عليه أن يقيم
البينة على ذلك كما قال مالك؛ لأن الطلاق ثلاث، قد وجب عليه بالحنث
بإخراجها، إلا أن يقيم البينة على ما يسقط الحنث عنه، وبالله التوفيق.
(6/108)
|