البيان
والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة [: كتاب
الأيمان بالطلاق الثاني] [: قال لامرأة
أنت طالق إن وطئتك الليلة وهو يرى أنها امرأته]
(6/109)
من سماع عيسى بن دينار [من ابن القاسم] من
كتاب نقدها نقدها قال عيسى: قلت لابن القاسم: أرأيت لو أن رجلا مرت به
امرأة في ظلمة الليل فوضع عليها يده فقال لها أنت طالق إن وطئتك الليلة وقد
يرى أنها امرأته فإذا هي غير امرأته ووطئها قبل أن يعلم، أيحنث في امرأته؟
فقال: ليس عليه شيء لأنه وطئ غير امرأته.
قال محمد بن رشد: هذه المسألة معارضة لما مضى في رسم أخذ يشرب خمرا من سماع
ابن القاسم، ومخالفة لما في أول مسألة من سماع عيسى من كتاب النكاح،
والقولان قائمان من كتاب العتق الأول من المدونة في الذي دعا عبدا يقال له
ناصح فأجابه مرزوق، فقال له: أنت حر، وقد مضى القول على ذلك في أول سماع
عيسى من كتاب النكاح، وبالله التوفيق.
[مسألة: قالت له امرأته مالي عليك حرام فقال
وأنت علي حرام]
مسألة وقال في رجل: قالت له امرأته: مالي عليك حرام، فقال: وأنت علي حرام.
(6/111)
فقال: إنما هو أحد وجهين، إن كان أراد
بقوله ذلك لها أجل، إن مالك علي حرام وأنت علي حرام، يقول: إني إذا أوذيك
وأستحل منك ما لا ينبغي، قال: إن كان هذا أراد فلا شيء عليه، وإن كان مثل
ما يقول الرجل لامرأته: أنت علي حرام، فقد بانت منه.
قال محمد بن رشد: قوله بأنه يرى في قوله وأنت علي حرام أنه أراد بذلك إني
أوذيك وأستحل منك ما لا ينبغي ولا يكون عليه شيء، معناه: إن كان جاء
مستفتيا ولم تكن عليه بينة، وأما إن كانت عليه بينة فلا يصح أن ينوى في ذلك
على أصولهم؛ لأن قوله: وأنت علي حرام، تصريح بتحريمها، والبساط الذي حرمت
هي عليه مالها عاقبها هو بأن حرم عليه نفسها، فلا يقبل منه مع حضور البينة
له أنه أراد بقوله معنى سوى ذلك، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال إن تزوجت فلانة فهي طالق ومتى
تزوجت فلانة فهي طالق]
مسألة وسمعته يقول: إن ومتى واحد، قال: ومن قال كل امرأة أتزوجها فضرب أجلا
أو قال كل أعرابية أو من بنات فلان أو من الموالي، فهذا أبدا ترجع عليه
اليمين وإن تزوجها عشرين مرة، ومن قال إذا جمع البلد أو الفخذ أو بنات
الرجل أو ضرب أجلا ترجع عليه اليمين أبدا؛ لأني سمعت مالكا يقول: ويؤمر إذا
جمع البلد أو الفخذ أو بنات الرجل أو ضرب أجلا.
قال محمد بن رشد: قوله إن ومتى واحد، يريد أنهما في قوله إن تزوجت فلانة
فهي طالق ومتى تزوجت فلانة فهي طالق سواء في أن اليمين لا ترجع عليه إن
تزوجها ثانية، يريد: إذا لم يرد بمتى معنى كلما؛ لأن متى في اللسان سواء
[مع كلما] في أنها شرط، قال الشاعر:
(6/112)
متى تأته تعشو إلى ضوء ناره ... تجد خير
نار عندها خير موقد
إلا أنهما يفترقان في المعنى، فـ "إن" بمنزلة "إذا" لا تقتضي إلا مرة
واحدة، و"متى" بمنزلة "متى ما"، يحتمل أن يراد بها مرة واحدة، ويحتمل أن
يراد بها معنى كلما، فهي عند مالك محمولة على مرة واحدة إلا أن يريد بها
معنى كلما، قاله في المدونة في متى ما، وهو معنى قوله هاهنا في متى ومهما
تقتضي التكرار بمنزلة كلما، فهذا حكم هذه الألفاظ الستة إذا سمى المرأة،
وأما إذا جمع البلد أو الفخذ أو بنات الرجل فإن اليمين ترجع عليه أبدا كما
قال، بمنزلة مهما وكلما، فسواء قال إن تزوجت من بلد كذا أو من بنات فلان أو
من فخذ كذا أو إلى أجل كذا، أو قال متى تزوجت من بلد كذا أو من نسب كذا أو
إلى أجل كذا، أو قال في ذلك كله متى ما أو إذا، ترجع عليه اليمين أبدا
بمنزلة مهما وكلما، ولا اختلاف في ذلك كله إذا كان بنات الرجل الذي سمى لا
يحصين مثل بنات زهرة وبنات تميم، واختلف إذا كن يحصين على ما يأتي تفسيره
في المسألة التي بعد هذه، وقوله ويؤمر إذا جمع البلد أو الفخذ أو بنات
الرجل أو ضرب أجلا، معناه: أنه يؤمر بالطلاق كلما تزوج منهن أحدا إذا أبهم
ولم يعين؛ لأنه كلما تزوجها تكرر وقوع الطلاق عليه فيها إذ لم يعينها،
وبالله التوفيق.
[مسألة: قال لامرأة إن تزوجتك أبدا فأنت طالق
البتة فيتزوجها مرة]
مسألة ومن قال لامرأة: إن تزوجتك أبدا فأنت طالق البتة فيتزوجها مرة فقد
حنث وإن تزوجها بعد شيء فلا شيء عليه، وكذلك إن قال إن تزوجت فلانة وفلانة
إذا سمى، فإن اليمين لا ترجع عليه إذا حنث فيها مرة واحدة، وإذا قال بنات
فلان أو أخواته أو فخذا إذا قال ذلك هكذا مبهما لم ينص أسماءهن، فاليمين
ترجع عليه أبدا، لو تزوجها بعد عشرين زوجا، وكذلك إذا قال إن تزوجتك أو
أخواتك، أما هي فإذا تزوجها مرة فطلقت منه فإنه يتزوجها بعد
(6/113)
زوج ولا ترجع عليه اليمين، وأما أخواتها
فإن اليمين ترجع عليه أبدا كلما تزوجهن.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة يُبَيِّنُهَا ما مضى من القول في المسألة التي
قبلها.
أما إذا قال إن تزوجت فلانة لامرأة سماها بعينها فهي طالق فلا اختلاف أنه
إذا تزوجها وحنث فيها لا تعود عليه اليمين فيها إن تزوجها مرة أخرى، وسواء
قال لامرأة بعينها إن تزوجتك فأنت طالق أو إن تزوجتك أبدا فأنت طالق، وإنما
يفترق التأبيد من غير التأبيد في الطلاق.
فإذا قال الرجل لامرأته فأنت طالق أبدا فهي ثلاثة، واختلف إذا قال إن تزوجت
فلانة فهي طالق أبدا، فقيل: إنها ثلاث بمنزلة قوله أنت طالق أبدا، قاله ابن
القاسم، ووقف في ذلك غيره، وقيل: إنها واحدة لاحتمال رجوع التأبيد إلى
التزويج، وهو دليل ما في كتاب إرخاء الستور من المدونة، ويقوم مثله،
بالمعنى من قول ابن القاسم في كتاب العتق منها في الذي يقول إن دخلت الدار
فكل مملوك أملكه أبدا فهو حر أنه لا يلزمه العتق إن دخل الدار إلا في كل
مملوك كان في ملكه يوم حلف؛ لأنه رد التأبيد إلى الدخول خلاف قول أشهب في
رده إياه إلى الملك.
وأما إن قال إن تزوجت من فخذ كذا أو من بلد كذا فهي طالق، أو قال: كل امرأة
أتزوجها في أمد كذا فهي طالق وما أشبه ذلك فلا اختلاف في أن اليمين ترجع
عليه فيمن تزوج منهن ولو تزوجها عشرين مرة؛ لأنه لما لم يسمها بعينها صارت
بعد طلاقه إياها من جملة من حلف بطلاقها إن تزوجها.
وأما إن قال إن تزوجت من بنات فلان لرجل سماه بعينه ولم يسمهن بأسمائهن إلا
أنه يمكن إحصاؤهن ومعرفتهن ففي ذلك اختلاف، قيل: إنهن لا يحملن محمل
التعين، إذ لم يسمهن بأسمائهن، وترجع اليمين عليه فيمن تزوج منهن أبدا،
وقيل: إنهن يحملن محمل التعيين وإن لم يسمهن لأنهن
(6/114)
يعرفن إذا طلب إحصاؤهن، فلا ترجع عليه
اليمين فيمن تزوج منهن ثانية، والقولان قائمان من المدونة في الذي يوصى
لأخواله وأولادهم في الوصايا للثاني منها، وبالله التوفيق.
[: يقول لامرأته كل امرأة أتزوجها عليك فهي
طالق واحدة]
ومن كتاب حمل صبيا على دابة وسألت ابن القاسم: عن الرجل يقول لامرأته: كل
امرأة أتزوجها عليك فهي طالق واحدة.
قال: فإن سمي فخذا أو قبيلة أو بلدا أو قال كل امرأة نصا مبهما فإنه إن
تزوج امرأة طلقت عليه حين يتزوجها؛ لأن التي لم يدخل بها الواحدة تبينها،
ثم تصير أيضا من كل امرأة، فإن تزوجها رجع أيضا عليه الطلاق كلما تزوجها،
فليس يجد إلى تزويج امرأة سبيلا؛ لأنه حين يملك عقدتها طلقت عليه بواحدة
فبانت منه.
فإن سمى امرأة بعينها، فقال: إن تزوجت عليك فلانة فهي طالق واحدة، فإنه إن
تزوجها طلقت عليه بواحدة فإن نكحها بعد ذلك لم تطلق عليه، وقد قال ابن
القاسم في سماع يحيى بن يحيى منه في كتاب الدور والمزارع في الذي يقول
لامرأته: إن تزوجت عليك فلانة فهي طالق واحدة فإنه إن تزوجها طلقت عليه
بتزوجها عليها وإنما نرى واحدة، أيجوز له أن ينكحها بعد أن تبين منه بتلك
الواحدة؟ فقال: لا يجوز له نكاحها أبدا ما كانت عنده امرأته التي حلف بطلاق
فلانة إن تزوجها عليها، وذلك أنه كلما تزوجها عليها لزمه الحنث ساعة
يتزوجها ولو كان نكاحه إياها
(6/115)
بعد طلاقه إياها البتة وبعد زوج نكحها، فهي
كلما عادت إليه ما كانت امرأته عنده فالطلاق يلزمه فيها؛ لأنه إنما ينكحها
أبدا على امرأته التي حلف ألا ينكحها عليها.
قال: ومثل ذلك عندي أن يقول الرجل إن تزوجت فلانة بمصر فهي طالق، فكلما
تزوجها بمصر فهي طالق ولو بعد أن يحنث فيها مرارا ويتزوج أزواجا فيمينه
تلزمه، وإن نكحت بغير مصر فلا شيء عليه.
قيل له: فالرجل يحلف بطلاق فلانة إن تزوجها ولا يقول على امرأته فلانة،
فيتزوج ويحنث فيها بالواحدة التي حلف بها أيتزوجها ثانية؟ قال: نعم، ولا
شيء عليه، قلت: فما فرق أن يقول: إن تزوجت عليك فلانة فهي طالق، فألزمه
الطلاق كلما عاد إلى تزويجها ما نكحها على امرأته تلك، ولم تلزم الذي قال
إن نكحت فلانة فنكحها لم يلزمه الحنث إلا في أول نكاحه إياها، ثم أجزت له
أن ينكحها ولا حنث عليه؟ فقال: إنما مثل الذي يقول إن نكحت عليك فلانة فهي
طالق كالذي يقول إن نكحت فلانة في هذه السنة فهو طالق وحنث فيها أنه إن
نكحت في بقية تلك السنة حنث أيضا حتى ينكحها بعد مضي السنة، قال: وكذلك هذا
لا يزال حانثا حتى ينكحها بعد فراقه امرأته التي حلف ألا ينكح عليها فلانة،
قال: ومثل الذي يقول إن نكحت فلانة ولا يقول على امرأته، فيضكحها ويحنث ثم
ينكحها فلا يكون عليه حنث كمثل الرجل يقول امرأته طالق إن نكح فلانة
فينكحها ويطلق امرأته بواحدة كما حلف، فإن طلق التي حنث من أجل نكاحه إياها
ثم تروجها أيضا لم يحنث في امرأته بيمينه الأول لأنها قد انقضت بحنثه فيها
بالنكاح الأول.
(6/116)
[: قال إن
تزوجت فلانة فهي طالق]
ومن كتاب (قال القاضي - رَحِمَهُ اللَّهُ -) :
لم يختلف قول ابن القاسم فيمن قال: إن تزوجت فلانة فهي طالق - أنه لا يلزمه
فيها الطلاق إلا مرة واحدة، واختلف قوله إن قال: إن تزوجت فلانة على فلانة
أو في بلد كذا، أو في سنة كذا، أو ما أشبه ذلك، فمرة قال: إنه لا يلزمه
فيها الطلاق إن تزوجها على فلانة أو في تلك البلدة أو في تلك السنة إلا مرة
واحدة أيضا، ولا يتكرر عليه الطلاق إن تزوجها ثانية على فلانة أو في تلك
البلدة أو في تلك السنة إلا مرة واحدة، وهي رواية عيسى هذه عنه على معنى ما
في المدونة في الذي يحلف ألا يكلم فلانا عشرة أيام فيكلمه فيها ويحنث فيكفر
أو لا يكفر، ثم يكلمه فيها مرة أخرى أنه لا شيء عليه.
ومرة قال إنه يلزمه فيها الطلاق كلما تزوجها على فلانة أو في تلك البلدة أو
في تلك السنة، وهي رواية يحيى هذه عنه، وقد قيل: إن الطلاق يتكرر عليه فيها
كلما تزوجها وإن لم يقل على فلانة، ولا في بلدة كذا، ولا في سنة كذا، وهو
الذي يأتي على قول مالك في رسم حلف من سماع ابن القاسم في كتاب النذور من
مسألة الوتر.
والقياس ألا فرق بين أن يقول على فلانة أو في بلدة كذا أو في سنة كذا أو لا
يقول شيئا من ذلك، على معنى ما في المدونة
(6/117)
ورواية عيسى؛ لأن قول الرجل إن تزوجت فلانة
فهي طالق إيجاب منه على نفسه طلاقها بشرط تزويجها، وقوله إن تزوجها على
فلانة أو في بلد كذا أو في سنة كذا ليس فيه أكثر من زيادة وصف في الشرط،
وزيادة الوصف في الشرط إنما تعود على تخصيص الشرط لا إلى تكثير المشروط
وبتكرره يتكرر الشرط، ألا ترى أنه إن جمع الأوصاف كلها فقال إن تزوجت فلانة
على فلانة وفي سنة كذا وفي بلدة كذا فهي طالق، لم يكن في زيادة الأوصاف
تأثير في تكثير المشروط وتكرره بتكرر الشرط.
فإما أن يقال إن الطلاق لا يتكرر بتكرر الشرط وإن كان مقيدا بوصف على رواية
عيسى هذه ومذهب مالك في المدونة، وإما أن يقال إن الطلاق يتكرر بتكرر الشرط
وإن لم يكن مقيدا بوصف على رواية ابن القاسم عن مالك في مسألة الوتر.
ووجه رواية يحيى في تفرقته بين الوجهين: أنه حمل يمين الحالف على أنه إنما
قصد بيمينه إلى ألا تكون زوجة له مع زوجته التي حلف ألا يتزوجها عليها،
وإلى ألا تكون زوجة له في تلك السنة أو في تلك البلدة، وهذا إنما يصح إذا
تبين القصد فيه ببساط يدل عليه أو سبب يعرف به، والله أعلم.
[مسألة: المكره على اليمين]
مسألة قال عيسى: قال ابن القاسم في يمين المستكره: إذا كان إن لم يحلف فعل
به شيء يخافه.
قال: إن كان عنده اليقين الذي لا يشك فيه من عذاب أو سجن أو قتل إن لم يحلف
ضربه وعذبه رأيت ذلك مخرجا له إن شاء الله.
(6/118)
قال محمد بن رشد: اتفق مالك وأصحابه فيما
علمت أن المكره على اليمين لا يلزمه اليمين إذا كان إكراهه بشي يلحقه في
بدنه من قتل أو ضرب أو سجن أو تعذيب إذا كانت يمينه فيما كان لله فيه معصية
أو فيما ليس له فيه طاعة ولا معصية، وسواء هدد فقيل له إن لم يحلف فعل بك
كذا وكذا، أو استحلف ولم يهدد فحلف فرقا من ذلك ما لم يحلف هو متطوعا
باليمين قبل أن يستحلف.
واختلف إذا أكره على اليمين بشيء من ذلك فيما لله فيه طاعة مثل أن يأخذ
الوالي الجائر الشارب أو السارق أو الزاني فيكرهه على أن يحلف ألا يشرب ولا
يزني ولا يسرق أو يكره الأب ابنه على نحو ذلك فيما يريد تأديبه به، فقال
ابن الماجشون وأصبغ: لا يلزمه اليمين، وقال مطرف: تلزمه اليمين وهو اختيار
ابن حبيب، والأصل في ذلك قول الله عز وجل: {إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ
مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل: 106] .
واختلف هل يكون الإكراه على الأيمان بالأموال إكراها أم لا على أربعة
أقوال: أحدها: أن ذلك ليس بإكراه، والثاني: أنه إكراه، وهو قول ابن
الماجشون، وقاله أصبغ، إلا أنه استحب إن كان يسيرا ألا يحلف، والثالث: أن
ذلك ليس بإكراه إلا أن يجتاح جميع ماله، والرابع: الفرق بين أن يأمن في
جسده العقوبة إن لم يحلف مثل أن يقال له إن لم تحلف على هذا الشيء أنه ليس
متاعك أخذناه، وبين ألا يأمن العقوبة في جسده مثل أن يهدده اللصوص بالضرب
أو القتل على أن يطلعهم على ماله ليأخذوه، فهو إن لم يحلف ضربوه أو قتلوه،
وإن أطلعهم على ماله ذهبوا فأخذوه وما أشبه ذلك، وهو قول مطرف.
وأما إذا دفع الرجل بيمينه عن غيره من يريد دمه أو ماله أو عقوبته،
(6/119)
فلم أجد في ذلك شيئا من قول قائل، ولا بد
من تفصيل على مذهب مالك.
فإن كان إن لم يحلف وصل إلى قتل الرجل أو أخذ ماله ولم يلحقه هو أذى في
نفسه وماله، وإن حلف تخلص ذلك منهم بيمينه، مثل أن يكون مستخفيا عنده في
داره أو يكون ماله عنده، فيقال له: إن لم تحلف لنا بالطلاق أنه ليس في دارك
أو أن ماله ليس عندك دخلنا فقتلناه إن وجدناه فيها أو أخذنا ماله إن وجدناه
عندك، فهذا إن حلف لزمه الطلاق، وآخر في الرواة عن الرجل أو عن ماله وإن لم
يحلف لم يكن عليه حرج.
وإن لم يكن له عنده مال ولا كان مستخفيا في داره إلا أنه يعلم مكانه ومكان
ماله، فقيل له: إن لم تحلف أنك لا تعلم مكانه ولا مكان ماله فعلنا بك كذا
وكذا من ضرب أو قتل أو سجن أو خشي ذلك على نفسه إن لم يحلف جاز له أن يحلف
أنه ما يعلم موضعه إن أرادوا قتله، ولم تلزمه اليمين باتفاق لأنه في حكم
المكره عليه إذ لا خروج له عنها إلا بإباحة نفسه أو بإباحة دم غيره، وذلك
ما لا يحل له ولا يجوز.
وإما إن أرادوا أخذ ماله ولم يريدوا قتله فيجري الأمر في يمينه على أنه ما
يعلم موضع ماله على الاختلاف المتقدم في الإكراه على الأيمان بالأموال؛ لأن
إخباره بموضع مال الرجل إن لم يحلف كإخباره بموضع ماله للصوص إذا أجبروه
على أن يحلف لهم، على أنه ليس له مال أو يخبرهم بموضعه ليأخذوه ضامن لمال
الرجل إن أعلمهم بموضعه ولم يحلف.
وأما الإكراه على الأفعال فاختلف فيها في المذهب على قولين: أحدهما: أن
الإكراه يكون في ذلك إكراها، وهو قول سحنون، ودليل ما
(6/120)
في كتاب النكاح الثالث من المدونة،
والثاني: أن الإكراه لا يكون في ذلك إكراها ينتفع المكره به، وإلى هذا ذهب
ابن حبيب، وذلك في مثل شرب الخمر، وأكل لحم الخنزير، والسجود لغير الله،
والزنا بالمرأة المختارة لذلك أو المكرهة له على أن يزني بها ولا زوج لها
وما أشبه ذلك مما لا يتعلق به حق لمخلوق، وأما ما يتعلق به حق لمخلوق
كالقتل والغصب وشبه ذلك فلا اختلاف في أن الإكراه غير نافع في ذلك، وبالله
التوفيق.
[مسألة: مات عن امرأته فجاء شهود عدول فشهدوا
أنه قد طلقها]
مسألة وقال: عن مالك في رجل مات عن امرأته فجاء شهود عدول لا يتهمون كانوا
غيبا فشهدوا أنه قد طلقها منذ سنين وكانوا غيبا: أنها ترثه، ولو ماتت هي لم
يرثها.
قيل له: فما الحجة أنها ترثه؟ قال: أرأيت لو كان قائما فشهدوا عليه أترجمه؟
قلت: لا، قال: أفما يدرينا ما كان يدرأ به عن نفسه، قال ابن القاسم: وهو
رأيي وتعتد أربعة أشهر وعشرا.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول فيها مستوفى في رسم طلق من سماع
ابن القاسم من كتاب طلاق السنة، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف ليقضين فلانا حقه غدوة أو قال بكرة
أو قال غدا عشية بطلاق امرأته]
مسألة وعن رجل حلف ليقضين فلانا حقه غدوة، أو قال بكرة أو قال غدا عشية
بطلاق امرأته:
قال: أما غدوة فإني أراه ما بينه وبين انتصاف النهار؛ لأن ذلك عند الناس
مما يسمونه غدوة، وأما بكرة فإلى أن ترتفع الضحى إلا على ما يسمع أنه يقال
جئناه بكرة وهو يكون قبل
(6/121)
نصف النهار، وأما العشي فإني أراه من وقت
الظهر إلى المغرب وليس وقت الظهر الأول، ولكن من وسط الوقت، وذلك أن مالكا
حدثني عن بعض من مضى، فقال: ما أدركت الناس يصلون الظهر إلا بالعشي، ولا شك
أنهم لم يكونوا يؤخرون إلى آخر الوقت.
قال محمد بن رشد: قوله في أول المسألة وعن رجل، عطفا على المسألة التي
فوقها لمالك، يدل على أن المسألة له، وله في أول الصلاة الأول من المدونة
في غدوة مثل قوله هاهنا: إنه ما دام الفيء في نقصان فهو غدوة بعد، وتفرقته
بين غدوة وبكرة بأن لا يكون بكرة إلا ارتفاع الضحى إلا على، صحيح، ومن
الدليل على صحة ذلك- سوى ما ذكره في الرواية- من الناس لا يوقعون بكرة إلا
على ما قبل نصف النهار قول الله تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ
بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ} [القمر: 38] ، وإنما جاءهم العذاب بعد
ارتفاع الشمس بدليل قَوْله تَعَالَى: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ
مُشْرِقِينَ} [الحجر: 73] ، وإشراق الشمس ضياؤها، يقال: شرقت الشمس، إذا
طلعت، وأشرقت إذا أضاءت، ولو حلف ليقضين حقه صباحا لكان له سعة إلى ارتفاع
الضحى إلا على قوله في بكرة؛ لأنهما سواء؛ لقول الله عز وجل: {وَلَقَدْ
صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ} [القمر: 38] ، وفي كتاب ابن
المواز في الحالف ليقضين حقه غدوة أو بكرة أنه يبرأ ما بينه وبين زوال
الشمس، والأول أصح لما ذكرناه مما دل عليه كتاب الله، وقوله في العشي إنه
من
(6/122)
وقت الظهر إلى المغرب، يريد: إلى قرب
المغرب وهو وقت صلاة العصر، بدليل قَوْله تَعَالَى: {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي
السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [الروم: 18] ،
فـ"عشيا" العصر، و"حين تظهرون" الظهر، وكذلك المساء فيمن حلف ليقضين الحق
فيه، بدليل قول الله عز وجل: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ
تُصْبِحُونَ} [الروم: 17] ، وانتهى قول مالك إلى قوله: فإني أراه من وقت
الظهر إلى المغرب، وقوله: وليس وقت الظهر الأول إلى آخر المسألة تفسير لابن
القاسم، بدليل قوله: وذلك أن مالكا حدثني، وسيأتي في سماع سحنون إذا حلف
ليقضين حقه صلاة الظهر، وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف لرجل امرأته طالق البتة إن لم يقضك
حقك الهلال]
مسألة وعن رجل حلف لرجل امرأته طالق البتة إن لم يقضك حقك الهلال.
قال: لا أدري ما الهلال؟ إن كان إنما أراد الإهلال فله يوم وليلة، وإن كان
إنما أراد إلى الإهلال فقد حنث إن لم يعطه قبل أن يهل.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال، إن الأمر يجب أن يحمل في ذلك على ما
زعم أنه نواه، وهو مصدق في ذلك دون يمين وإن كانت على يمينه بينة؛ لأنه إن
قال: أردت الإهلال فهو الظاهر من قوله الذي يحمل عليه إذا لم تكن نية، وإن
قال: أردت إلى الهلال فهو مقر على نفسه يحنث بالغروب فلا وجه لتحليفه، وقد
مضت هذه المسألة ونظائرها في رسم البراءة من سماع عيسى من كتاب النذور، فلا
معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
(6/123)
[مسألة: قال
لامرأته أنت طالق البتة إن دخلت بيت أبيك حتى يقدم أخوك]
مسألة وعن رجل قال لامرأته أنت طالق البتة إن دخلت بيت أبيك حتى يقدم أخوك
من سفره فمات أخوها قبل أن يقدم.
قال: إن كانت له نية في ذلك أن يكون أراد في ذلك مثل ما يقدم إليه الحاج
وشبه ذلك ولم يرد في ذلك الموت، وإنما أراد الأجل، فإذا أقامت إلى مثل ذلك
ثم دخلت فلا شيء عليه، وإن لم تكن له نية فهو حانث إن دخلت.
قال محمد بن رشد: هذا بيّن أنه إن نوى بيمينه ألا تدخل بيت أبيها إلا مقدار
ما يقدم إليه الحاج فله نيته فتلزمه اليمين إلى ذلك الأجل، مات قبله أو
بعده أو لم يمت، ولا خلاف في ذلك، إلا أنه يحلف على ذلك إن لم يكن مستفتيا،
وكذلك إن لم ينو ذلك إلا أن ليمينه بساطا يدل عليه، على المشهور في المذهب
من مراعاة البساط في الأيمان ولو كان إنما أراد استرضاء أخيها الغائب بذلك
لسقطت عنه اليمين بموته مات قبل قدوم الحاج أو بعده؛ إذ قد علم أنه لا
يسترضى بعد موته، وإنما الكلام عند عدم النية والبساط، فقال هاهنا: إن
اليمين باقية عليه أبدا إن مات أخوها قبل أن يقدم ويكون حانثا متى ما دخلت،
ومثله في سماع أصبغ من كتاب العتق في التي تحلف ألا تخرج إلى موضع سمته حتى
يقدم زوجها من الحج؛ لأنه حمل اليمين على مقتضى اللفظ ولم يراع المعنى
والمقصد، ويأتي على مراعاة ذلك ألا يحنث إذا مات إن دخلت بعد أن يمضي من
المدة ما كان يمكنه القدوم فيه لو كان حيا، إذ قد علم من قصد الحالف أنه لم
يرد بقوله: حتى يقدم إلا مع استمرار حياته، إذ لا
(6/124)
يمكن أن يقدم الميت، ولا أن يريد هو ذلك
بيمينه، وعلى هذا يأتي قول مالك في أول مسألة من رسم الطلاق الأول من سماع
أشهب، وقد مضى القول عليها هناك، وعلى هذا المعنى اختلفوا في الرجل يحلف
بطلاق امرأته ألا يكلم إنسانا حتى يرى الهلال فعمي وذهب بصره قبل الهلال،
فقيل: إنه لا يكلمه أبدا، وهو قول مالك في المبسوطة، وقيل: إنه يكلمه إذا
رئي الهلال ولا شيء عليه؛ لأنه أراد ألا يكلمه حتى يَرى الهلال من حيث
يُرى، وهو قول ابن الماجشون، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال امرأتك طالق لتدفعن إلي حقي غدا
فيقول نعم فيحنث]
مسألة وعن الرجل يكون له على الرجل الحق فيقول: امرأتك طالق أو عليك الطلاق
لتدفعن إلي حقي غدا، فيقول: نعم، فيحنث، فيقول: أردت واحدة، ويقول صاحب
الحق: أردت ثلاثا.
قال: القول قول صاحب الحق، وفي سماع عبد المالك بن الحسن أن القول قول
الغريم.
قال محمد بن رشد: هذان القولان على اختلافهم في اليمين هل هي على نية
الحالف أو على نية المحلوف له، وقد مضى القول على ذلك في رسم البز من سماع
ابن القاسم وغيره، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: الحالف بالطلاق أو بالمشي أو بالصدقة
وما أشبه ذلك أن يفعل فعلا]
مسألة وقال في رجل يحلف بطلاق امرأته واحدة ثم بالمشي إلى بيت الله
وبالصدقة ليتزوجن على امرأته، فأراد أن يطلق امرأته واحدة ولا يطأها ويكون
في سعة من المشي والصدقة حتى يتزوج فيقع ذلك عنه.
قال: ذلك له.
(6/125)
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن الحالف
بالطلاق أو بالمشي أو بالصدقة وما أشبه ذلك، أن يفعل فعلا، لا يقع عليه
الحنث إلا بعد الموت؛ لأنه في فسحة في فعل ما حلف ليفعلنه ما لم يمت، إلا
أنه على حنث، فلا يجوز له الوطء إن كان حلف بالطلاق وله أن يُحنِّث نفسه
فيما شاء من ذلك، فإن أراد إذا حلف بجميع ذلك أن يحنث نفسه في الطلاق وحده
فيطلق امرأته واحدة كما حلف ليرتجع ويطأ كان ذلك له، فإن بر بالتزويج قبل
الموت سقط عنه المشي والصدقة، وإن لم يبر حتى مات كانت الصدقة في ثلث ماله؛
لأن الحنث إنما وجب عليه بعد الموت، ولم يكن على ورثته في المشي شيء إلا أن
يوصي بذلك فينفذ عنه المشي من ثلث ماله، وقيل: إنه يُهدى عنه هديان، ولا
يُمشى عنه حسب ما مضى من القول في ذلك في رسم حلف الثاني من سماع ابن
القاسم من كتاب الحج، هذا هو المشهور.
وقد قيل في الحالف ليفعلن فعلا إنه على التعجيل إلا أن يريد التأخير ويحنث
إن أخر فعل ذلك الفعل الذي حلف ليفعلنه، وهو قول ابن كنانة ورواية عيسى عن
ابن القاسم عن مالك في المدونة في الحالف لينتقلن أنه إن لم ينتقل تلك
الساعة حنث، وهذا القول في الحالف على غيره ليفعلن أكثر، وهو لابن القاسم
في سماع أبي زيد من كتاب العتق.
[مسألة: حلف لرجل فقال امرأته طالق إن خرجت من
الفسطاط]
مسألة وقال في رجل حلف لرجل فقال: امرأته طالق إن خرجت من الفسطاط وأنت
تسلني شيئا فأحاله على رجل فرضي بالحوالة، قال: لا بأس عليه ولا شيء عليه
إن كان من أصل دين له على من أحاله، وإن لم يكن من أصل دين فهو حانث، وأما
الضمان فلا يخرجه عن يمينه، ولو حلف ليقضينه حقه لم تنفعه الحوالة أيضا وإن
كان من أصل دين.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأن الحوالة من أصل دين يبريه
(6/126)
من الدين، وتوجب ألا رجوع عليه لغريمه وإن
مات المحال عليه أو فلِّس إذا لم يقره من فلس عليه منه، فوجب أن يبر الحالف
بها في يمينه التي حلف بها؛ ولأنها إذا لم تكن على أصل دين لا يبر بها؛ إذ
للمحتال أن يرجع عليه إن مات المحال عليه أو فلس، وقد قيل: إنها كالضمان في
أنه المبدأ بالاتباع، فوجب ألا يبر الحالف بذلك في يمينه التي حلف بها.
وأما إذا حلف ليقضينه حقه فلا يبرأ بالحوالة وإن كانت من أصل دين، إذ لم
يقضه شيئا قبضه، وإنما تحول من ذمته إلى ذمة غيره إرادة معروف صنعه، ولا
يدخل في هذا الاختلاف الذي ذكرنا في رسم نذر سنة من سماع ابن القاسم في
الرهن؛ لأن الرهن شيء قد قبضه صاحب الحق وهو أحق به من الغرماء، والحوالة
لم يقبض صاحب الحق بها شيئا ولا هو أحق بذمة المحتال عليه من الغرماء إن
فلس، فلم تقو قوة الرهن، ولو حلف ألا يقضينه فأحاله حنث، قاله في رسم بع
هذا، وهو صحيح؛ لأن الحنث يقع بأقل الوجوه، وبالله التوفيق.
[: الحالف إنما يحنث بالمعنى الذي حلف عليه لا
بمجرد الألفاظ]
ومن كتاب أوله استأذن سيده [في تدبير جاريته] وسئل: عن رجل قال له: إن رمك
فلان ختنك أصابها العسكر فاخْرج في طلبها، فخرج في طلبها فأدركها، فقال
للذين هي معهم: إن هذه الرمك لختني بكير النفزي، فقيل له: كذبت ليست لختنك،
وإنما هي للجند، ولكن احلف إنها للبربر وليست للجند، فقال: امرأته طالق إن
كانت ليست لبكير النفزي، وإنما كان أصل استحلافهم إياه أنها للبربر وليست
للجند، ولم يسألوه
(6/127)
إن كانت لنفزي أو لغير نفزي، إلا أنه حلف
أنها لبكير النفزي، فسأل عن بكير فإذا هو من مصمودة، وليس من نفزة، وحلف
حين حلف وهو يظن أنه من نفزة والرمك له.
فقال: إنما استحلافهم إياه أنها ليست للجند ولم يستحلفوه أنها للنفزي، فليس
عليه في يمينه شيء، وذلك أني سمعت مالكا وسئل: عن رجل بعث إلى عبد له في
خرج كان عنده، فقال للرسول: أخذه أخوه، فأتى سيده مغضبا، فقال: أخفيت عني
الخرج، فقال العبد: امرأته طالق إن كان لم يأتني أخوك فأخذه مني، ثم فكر
فإذا أخوه لم يأته، وإنما جاء رسول، فقال: ليس عليه شيء؛ لأنه لم يحلف إلا
على أنه لم يخفه عنه، فمسألتك مثلها.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأن الحالف إنما يحنث بالمعنى الذي حلف
عليه، لا بمجرد الألفاظ إذا خالفت المعاني؛ لأن الحكم إنما هو للمقصود
بالقلب لا لمجرد اللفظ المنطوق به، ألا ترى أن المعنى الواحد المقصود إليه
بالقلب يعبر عنه بألفاظ كثيرة مختلفة، ولغات شتى مفترقة، فلا يتغير معناه
عند السامع له بهذه الألفاظ المختلفة واللغات المفترقة باختلاف العبارات
عنه، وقد يفهم من اللفظ خلاف موضوعه في اللغة، فيكون الحكم للمفهوم من
اللفظ، لا لموضوع اللفظ وحقيقته في اللغة، وهذا كثير موجود في القرآن
والسنن والآثار، قال الله تعالى: {فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ}
[الزمر: 15] . فهذا أمرٌ المفهوم منه النهي، وقال عز وجل: {إِنَّكَ لأَنْتَ
الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود: 87] ، فهذا مدح، والمراد به السبّ
والاستهزاء، وقال عز وجل: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ
وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45]
(6/128)
وقد علم أن الصلاة لا تأمر ولا تنهى، وكان
الحكم للمعنى، وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أما
أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه» . وهذا كذب في ظاهره إذ ليس أبدا بعصاه على
عاتقه، وليس بكذب ولكنه إخبار عن معنى عُلم المقصود به، فكان الحكم له،
وهذا كثير يعز إحصاؤه، ولا يمكن استقصاؤه، وقد مضت مسألة الخرج في رسم أخذ
يشرب خمرا من سماع ابن القاسم والقول فيها بما فيه كفاية فلا معنى لإعادته
وبالله التوفيق.
[مسألة: قال لامرأته إن خرجت إلى بيت فلان إلا
بإذني فأنت طالق]
مسألة وعن رجل قال لامرأته إن خرجت إلى بيت فلان إلا بإذني فأنت طالق،
فخرجت فلما علم قال لها: إني قد حلفت ألا تخرجي إلا بإذني فقد خرجت فاعتدي،
ثم ذكر أنه قد كان أذن لها.
ففكر فقال: أرى قوله لها اعتدي طلاقا، فإن تدارك الرجعة قبل أن تحيض ثلاث
حيض كان أملك بها، وإن حاضت ثلاث حيض قبل أن يراجعها كانت أملك لنفسها،
قلت: إنما قال لها اعتدي من الطلاق الذي ظن أنه حنث فيه ولم يحنث، قال:
أترى أن لو أتاني وقد حاضت ثلاث حيض وبانت منه وادعى نية أكنت أنويه فيها؟
لا أراه إلا وقد بانت منه إن لم يرتجعها قبل أن تنقضي عدتها، قال ابن
القاسم: وإنما هي عندي بمنزلة من قال: قد طلقتك فاعتدي، وقال ابن وهب مثله.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة فيها نظر، والذي يوجبه فيها القياس والنظر ألا
يلزمه فيما بينه وبين الله في قوله لها فاعتدي طلاق إذا تحقق أنه لم يلزمه
فيها طلاق وتؤمر له بالعدة، ويبين هذا ما صرفنا إليه
(6/129)
وجه الاختلاف الواقع في مسألة رسم النكاح
من سماع أصبغ من كتاب طلاق السنة في الذي أفتي في امرأته في يمين نزلت به
أنها قد بانت منه، فقال لها وللناس: قد بانت مني، ثم علم أنه لا شيء عليه،
فالمعنى في هذه المسألة عندي أنه إنما أوجب عليه الطلاق فيها بقوله لها
فاعتدي من أجل أنه حضرته البينة بقوله لها: إني قد حلفت ألا تخرجي إلا
بإذني فقد خرجت فاعتدي، ولم يصدق فيما زعم من أنه يذكر أنه قد كان أذن لها،
فألزم الطلاق بما شهد به عليه من قوله لها فاعتدي؛ لأن اعتدي من ألفاظ
الطلاق، فمن قال لامرأته: اعتدي ينوى ما أراد من عدد الطلاق بما شهد به
عليه من قوله لها اعتدي؛ لأن اعتدي من ألفاظ الطلاق، فإن لم تكن له نية فهي
واحدة، قال ذلك في المدونة، ولم يبين كم يلزم من عدد الطلاق، إلا أنه قد
قال في آخر المسألة: إن ذلك عنده بمنزلة من قال: قد طلقتك فاعتدي، ومن قال
في الذي يقول لامرأته: قد طلقتك فاعتدي أو قد طلقتك اعتدي أنهما اثنتان إلا
أن يريد بهما واحدة، يقول: إنما أردت أن أعلمها بالعدة فتكون واحدة، فيلزم
في هذه المسألة على قياس قوله أن تكون واحدة بعد أن يحلف أنه إنما قال لها:
فاعتدي أمرا لها بالعدة من الطلاق الذي ظن أنه قد كان لزمه وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف بالطلاق ألا يكسوه فاشترى له سلعة
وقال بعها ولك فضلها]
مسألة وسئل عن رجل عاتب أخا له كان معه في صنعة يتقلبان فيها، فعاتبه في
البطالة وقال: لم تتبطل ولا تتجر ولا تكسب شيئا؟ فحلف بالطلاق ألا يكسوه
فاشترى سلعة بخمسة دنانير، وقال: هاك هذه السلعة بعها ولك فضلها.
قال: أراه حانثا لأن هذا ليس من وجه التجارة ولا البيع، وإنما هذه عطية
منه، قال له: خذ فضل هذه السلعة.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأنه إذا أعطاه فضل السلعة
(6/130)
ليكتسي منها فقد كساه، ومثله في المدونة في
الذي يحلف ألا يكسو رجلا فأعطاه دنانير، أو حلف ألا يعطيه دنانير فكساه أنه
حانث ولا ينوي في ذلك يعني مع قيام البينة بخلاف المرأة فإنه ينوي في زوجته
إذا حلف ألا يعطيها دنانير فكساها، فإنه إنما حلف ألا يعطيها دنانير لئلا
تفسدها أو تخدع فيها وبالله التوفيق.
[مسألة: ذكر له غريمه فقال امرأته طالق إن
لقيته إن فارقته حتى يحكم الله بيننا]
مسألة وقال في رجل ذكر له غريمه فقال امرأته طالق البتة إن لقيته إن فارقته
حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين، فلقيه فقضاه حقه.
قال: لا شيء عليه.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن قضاءه حقه هو حكم الله الواجب بينهما،
وإن لم يقضه حقه لكان الوجه الذي يبر به ألا يفارقه حتى يرفعه إلى السلطان
فيفصل بينهما بما شرعه الله من الحكم بين عباده، كان له أو عليه؛ لأن حكم
الله بين عباده في الدنيا هو حكم الحاكم بينهم بما أمر الله به من القول،
قال الله عز وجل: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا
بِالْعَدْلِ} [النساء: 58] وبالله التوفيق.
[مسألة: ساومه رجل بسلعة فقال امرأته طالق إن
باعها منه ثم ساومه بها آخر]
مسألة وسئل عن رجل ساومه رجل بسلعة فقال: امرأته طالق إن باعها منه، ثم
ساومه بها رجل آخر فقال: امرأته طالق إن باعها منه، فباعها منهما جميعا.
(6/131)
قال: يلزمه تطليقتان، قلت: فلو كان حلف على
هذا النحو بالله أيضا أتلزمه كفارتان؟ قال: نعم، قلت له: ففي أي شيء إذا
حلف مرات لم يلزمه إلا كفارة واحدة؟ قال: لو أنه أتاه رجل فساومه فقال:
والله لا أبيعها، ثم أتاه آخر فقال: والله لا أبيعها، فهذا الذي لا يلزمه
إذا باع إلا كفارة واحدة، ولو كان هذا في طلاق كان عليه تطليقتان إلا أن
ينوي واحدة، ولو أتاه رجل فقال: امرأته طالق إن باعها، ثم أتاه آخر فقال:
امرأته طالق إن باعها لزمته تطليقتاه إن باعها إلا أن يكون نوى واحدة،
وسواء كان في رجل واحد أو في رجلين هما تطليقتان.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة كلها على معنى ما في المدونة وغيرها، لا
اختلاف في شيء من وجوهها، إذا حلف الرجل ألا يبيع سلعة ثم حلف ثانية ألا
يبيعها ثم باعها لزمته كفارة واحدة إن كان حلف بالله، وتطليقتان إن كان حلف
بالطلاق إلا أن ينوي واحدة، وإذا حلف ألا يبيع سلعته من فلان، ثم حلف ألا
يبيعها من فلان رجل آخر فباعها منهما جميعا لزمته كفارتان إن كان حلف
بالله، وتطليقتان إن كان حلف بالطلاق ولم ينو إن زعم أنه أراد واحدة وينوي
في الطلاق حيث يكون عليه في اليمين بالله كفارة واحدة، ولا ينوى فيه حيث
تكون عليه في اليمين بالله كفارتان، فهذا قياس هذه الباب، وقوله في آخر
المسألة: وسواء كان في رجل واحد أو في رجلين هما تطليقتان، معناه إذا لم
تكن له نية، وأما إذا نوى واحدة فيُنَوَّى في الرجل الواحد ولا يُنَوَّى في
الرجلين حسبما بيناه وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف في سلعة له ألا يبيعها فيبيعها على
أنه بالخيار فيها]
مسألة وسئل عن الرجل يحلف في سلعة له ألا يبيعها فيبيعها على أنه بالخيار
فيها.
(6/132)
قال: لا شيء عليه حتى يحب البيع.
قال محمد بن رشد: مثل هذا من سماع أصبغ في كتاب العتق، وهو صحيح لأنه
استثنى الخيار لنفسه، فلا يكون بيعا حتى يمضيه، ولو حلف ألا يبيعها إلى أجل
فباعها قبل الأجل على أنه بالخيار وأمضاه بعد الأجل لتخرج ذلك على قولين:
أحدهما وهو المشهور أنه لا يحنث؛ لأن البيع إنما وجب يوم أمضاه، والثاني
أنه يحنث لأنه أمضاه له على العقد الأول، فكأنه قد وجب له من حينئذ، وهذا
القول قائم من قوله في كتاب الشفعة من المدونة في الذي يشتري شقصا من دار
بخيار ثم يباع ذلك الشقص الآخر بيع بت أن الشفعة لمشتري الخيار إن اختار
البيع، وكذلك الحكم في الرجل يحلف ألا يشتري السلعة فيشتريها على أنه فيها
بالخيار سواء، ولو باعها الحالف ألا يبيعها على أن الخيار للمشتري، أو
اشتراها الحالف ألا يشتريها على أن الخيار للبائع لوقع الحنث في ذلك على
الحالف منهما، كان البائع أو المبتاع، مضى البيع أو رُد بالخيار إلا أن
يكون اليمين بحُرّية العبد الذي حلف البائع ألا يبيعه أو المشتري ألا
يشتريه، فيفترق في ذلك البائع من المبتاع، لحنث البائع بعقد البيع على أن
الخيار للمبتاع فيرد ويعتق عليه، ولا يحنث المبتاع بعقد البيع على أن
الخيار للبائع حتى يمضي له البيع، ولو حلف الرجل ليبيعن سلعة أو ليشترينها
لما بر ببيعها ولا بشرائها على الخيار، كان الخيار له أو لمن باعه حتى
يُمضي البيع مَن له الخيار فيه؛ لأن الحنث يقع بما لا يكون البر به؛ إذ لا
يكون البر إلا بأكمل الوجوه.
وكذلك الذي يحلف ألا يبيع سلعة يحنث ببيعها وإن ردها عليه بعيب أو فساد بيع
ولا يبر إذا حلف ليبيعنها إذا باعها فردت عليه بعيب أو فساد بيع؛ لأن البر
لا يكون إلا بأكمل الوجوه، وهو قول ابن القاسم في
(6/133)
الواضحة وفي رسم باع شاة من سماع عيسى من
كتاب العتق، وقيل: إنه لا يحنث إن رد عليه بعيب، وإلى هذا ذهب ابن حبيب،
وهذا على أن الرد بالعيب ابتداء بيع، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال امرأته طالق البتة أو غلامه حر إن
كان الذي في كمه دنانير]
مسألة وسئل عمن قال: امرأته طالق البتة أو غلامه حر إن كان الذي في كمه
دنانير أو وإن كان الذي في حانوته فسطاطيا، فنظر الذي في كمه فإذا فيه
دنانير ودراهم، ونظر الذي في حانوته فإذا فيه فسطاطي وشطري ومروي وخز.
قال هو حانث في كلا الوجهين، قال وسواء قال إن كان الذي في كمي أو قال في
حانوتي هما سواء، وهو حانث فيهما جميعا، وقاله أشهب.
قال محمد بن رشد: هذا صحيح على أصولهم فيمن حلف ألا يفعل فعلين ففعل أحدهما
أنه حانث؛ لأن الحنث يدخل بأقل الوجوه، ولا عذر له في أن حلف على يقينه
فانكشف له خلاف ما حلف عليه؛ لأن ذلك لغو، واللغو لا يكون إلا في اليمين أو
ما تكون كفارته كفارة يمين بالله. وبالله التوفيق.
[: قال امرأته طالق البتة أو غلامه حر إن لم
يفعل شيئا سماه فلم يفعله حتى مات]
ومن كتاب العرية وسئل عن رجل قال: امرأته طالق البتة، أو غلامه حر إن لم
يفعل شيئا سماه فلم يفعله حتى مات.
قال: ترثه امرأته، ويعتق الغلام في ثلثه.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن الحالف ليفعلن فعلا هو على حنث حتى
يفعل، فإذا لم يفعل حتى مات وقع عليه الحنث بعد
(6/134)
الموت بالطلاق أو بالعتاق، فوجب أن ترثه
المرأة؛ لأن الطلاق بعد الموت لا يصح، وأن يعتق الغلام في الثلث على حكم
العتق بعد الموت احتياطا للعتق لئلا يسترق بالشك، ولأنه أيضا لو وقع عليه
الحنث في حياته لخير بين العتق والطلاق، إذ قد استثنى ذلك لنفسه حين حلف
على ما قاله في رسم الصبرة من سماع يحيى بعد هذا، فلما أوقع على نفسه الحنث
بعد الموت حمل على أنه لم يرد إلا العتق، إذ لا يطلق أحد امرأته بعد موته،
ولو قال قائل إن ورثته ينزلون بعد موته في التخيير منزلته في حياته، فلا
يعتق العبد في الثلث إلا برضاهم لكان لذلك وجه من أجل أن الأصل براءة
الذمة، والعتق لا يكون إلا بيقين. وبالله التوفيق.
[مسألة: قال يزيد أو محمد حران إن لم أفعل كذا
وكذا فمات قبل أن يفعله]
مسألة قيل له: فلو كان قال: يزيد أو مبارك حران إن لم أفعل كذا وكذا، فمات
قبل أن يفعله؟ .
قال: يعتق واحد منهما بالسهم، قيل: كيف يعتق؟ أنصف قيمتهما أو من خرج سهمه؟
قال: بل من خرج سهمه، يسهم بينهما، فإن خرج سهم أحدهما وهو أكثر من الثلث
عتق منه ما حمل الثلث، وإن خرج سهم الأخر وهو أدنى من الثلث عتق، ولم يعتق
من الآخر فيما بقي من الثلث قليل ولا كثير.
قال محمد بن رشد: حكم هذه المسألة حكم الرجل يقول في صحته: أحد عبيدي حر،
أو أحد عبيدي حر إن فعلت كذا وكذا فيحنث فلا يختار أحدا منهم حتى يموت، إلا
أن العتق في هذه من الثلث، وفي تلك من رأس المال، وفيها ثلاثة أقوال:
أحدهما رواية ابن أبي زيد
(6/135)
عن ابن القاسم في كتاب العتق أنه يقرع
بينهم، ومثله ما وقع في رسم الصلاة من سماع يحيى منه في رواية عيسى عن ابن
القاسم أنه يقرع بينهم، وأراه أشار إلى هذه الرواية لاستواء المسألتين على
ما ذكرناه؛ لأن الذي في سماع عيسى عن ابن القاسم في الكتاب المذكور أن
العتق يجري فيهم، فإن كانوا ثلاثة عتق أثلاثهم، وإن كانوا أربعة عتق
أرباعهم، وهذا القول الثاني.
والقول الثالث أن الورثة ينزلون منزلته فيعتقون من شاؤوا منهم، وهو رواية
يحيى عن ابن القاسم وأحد قولي سحنون في رواية عيسى في القرعة إذا اختلف
الورثة، ورواية يحيى عنه في أنهم بمثابته إذا اتفقوا، وبالله التوفيق.
[مسألة: يقول آخر امرأة أتزوجها فهي طالق]
مسألة وسألت ابن القاسم عن الذي يقول: آخر امرأة أتزوجها فهي طالق قال:
يتزوج ما شاء ولا شيء عليه؛ لأنه مثل من حرم على نفسه جميع النساء؛ لأنه
كلما تزوج امرأة فرق بينه وبينها؛ لأنه لعل تلك المرأة آخر امرأة يتزوجها،
ولا تستقر معه أبدا امرأة، ولا شيء عليه، قال سحنون في الذي يقول: آخر
امرأة أتزوجها فهي طالق، قال: يوقف عن وطء امرأته خوفا ألا يتزوج غيرها حتى
يموت؛ لأنه إذا مات كانت آخر امرأة يتزوجها، فلزمه الحنث يوم تزوجها، فيكون
قد وطئها بعدما حنث فيها، فيوقف عن الوطء حتى يتزوج غيرها، فإذا تزوج غيرها
قيل له إن اليمين والحنث قد زال عنها، وإن لم يتزوج (حتى ينقضي الأجل)
وأرادت
(6/136)
الأولى الوطء وقالت: ها هو ذا يقدر على أن
يطأني بأن يتزوج أخرى فيجوز له وطئي فيترك ذلك ضررا، فيضرب له الحاكم أجل
الإيلاء، فمن تزوجها قبل تمام الأجل سقطت عنه اليمين، وإن لم يتزوج حتى
ينقضي الأجل طلق عليه السلطان إلا أن يتزوج قبل طلاق السلطان وحكمه، وكذلك
الحكم في الثانية حتى يتزوج ثالثة، وكذلك الحكم في الثالثة حتى يتزوج
رابعة، وكذلك الحكم في الرابعة، [ويضرب له فيها أجل الإيلاء إلا أن يموت من
عنده أو يطلق فيتزوج] فقس على هذا تصب إن شاء الله.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة والقول فيها مستوفى في نوازل سحنون من
كتاب الإيلاء فلا وجه لإعادته هنا مرة أخرى وبالله التوفيق.
[مسألة: يقول لامرأته إن كلمتني حتى تقولي إني
أحبك فأنت طالق]
مسألة قال عيسى: وسئل ابن القاسم عن الرجل يقول لامرأته إن كلمتني حتى
تقولي إني أحبك فأنت طالق، فقالت: غفر الله لك، نعم أنا أحبك.
فقال: هو حانث حين قالت غفر الله لك قبل أن تقول أنا أحبك، ولقد اختصمت أنا
وابن كنانة إلى مالك في رجل قال لامرأته إن كلمتك حتى تفعلي كذا وكذا فأنت
طالق، ثم قال لها في ذلك النسق بعد الطلاق: فاذهب الآن كالقائل: إن شئت
فافعلي وإن شئت فدعي، فقلت أنا: قد حنث حين قال لها
(6/137)
اذهبي، وقال ابن كنانة: لم يحنث، فدخلنا
على مالك فقضى لي عليه ورآه حانثا، فمسألتك أبين من هذا، وفي كتاب أصبغ
فكأنه قضى لي عليه، ولم يقض عليه بالحنث، قال أصبغ لا شيء عليه، وقول ابن
كنانة أصوب لأنه من اليمين ما هو لم تبرد اليمين ولم تبرد إلا به، وقول ابن
القاسم عن مالك فكأنه قضى لي عليه ليست برواية ولا جواب، وقد سمعت ابن
القاسم يقول في أخوين حلف أحدهما على صاحبه إن كلمتك أبدا حتى تبدأني، ثم
حلف الآخر إن كلمتك أبدا حتى تبدأني، إن الأيمان عليهما على ما حلفا عليه،
من بدأ منهما صاحبه فهو حانث، وإن حلف الثاني حين حلف ليست تبدئة تسقط بها
الأيمان، وليس هذا من وجه ما أراد، قال: وقال ابن كنانة مثله.
قال محمد بن رشد: في سماع محمد بن خالد عن ابن نافع في رجل قال لصاحبه
امرأته طالق إن كلمتك حتى تبدأني بالكلام فقال صاحبه: إذا والله لا أبالي.
هل هذه تبدئة؟ .
قال: لا، وهذا نحو قول ابن كنانة الذي صوبه أصبغ وأخذ به. وما لزم ابن
القاسم من الاضطراب في المسألة التي سمعها منه لازم له، إذ لا فرق بين
المسألتين، فهو اختلاف من قوله.
والأظهر أن الحنث لا يقع بشيء من هذا الكلام؛ لأنه من تمام ما كانا فيه،
فلم يقع عليه اليمين، وإنما وقعت على استئناف كلام بعد، فلا يقع الحنث بشيء
من هذا على أصل المذهب في مراعاة المعاني المقصود إليها في الأيمان دون
الاعتبار بمجرد الألفاظ دون المعاني، وإنما يوجب الحنث بهذا من اعتبر مجرد
الألفاظ في الأيمان ولم يلتفت إلى معانيها، ويوجد من ذلك مسائل في المذهب
ليست على أصوله تنحو إلى مذهب أهل العراق وبالله التوفيق.
(6/138)
[مسألة: قال إن
ماتت امرأتي إن تزوجت حتى أحج أو أغزو فالتي أتزوج طالق]
مسألة وسأله رجل فقال: إني كنت طلقت امرأتي البتة، ثم تزوجتها بعد زوج
فكانت تحتي، فقلت: إن ماتت امرأتي إن تزوجت حتى أحج أو أغزو فالتي أتزوج
طالق، ثم نظرت فإذا النكاح الذي أنكحتها به كان فاسدا تزوجها محلل أو نحو
ذلك، أو كان صحيحا فطلقها، هل علي شيء إن تزوجت قبل أن أحج أو أغزو.
قال: لا شيء عليه إلا أن تكون نويت إن خلوت بها بوجه من الوجوه، قال: لم
أنو شيئا غير أني إنما أردت خلوتي منها، ولم أذكر إلا الموت، قال: لا شيء
عليك إلا أن تكون خرجت يمينك على النية أنك إن خلوت منها بوجه من الوجوه
ألا تتزوج حتى تحج أو تغزو.
قال محمد بن رشد: قوله لم أنو شيئا غير أني إنما أردت خلوتي منها غير أنه
لم يخطر ببالي وجه أخلو به منها غير الموت الذي ذكرته فعادت نيته إلى أنه
إنما أراد خلوه منها بالموت، ولذلك قال: إنه لا شيء عليه بخلوه منها بما
سواه إلا أن يريد خلوه منها بأي وجه كان، وذلك صحيح بين في المعنى؛ لأن
اليمين إذا عريت من النية حملت على مقتضى اللفظ، فكيف إذا وافقت النية
اللفظ؟ وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف بعتق أو طلاق امرأته ليعتمرن في
شوال فلما دخل شوال اعتمر]
مسألة قال عيسى وسئل عن رجل حلف بعتق أو طلاق امرأته
(6/139)
ليعتمرن في شوال، فلما دخل شوال اعتمر، ثم
إنه مرض مرضا يمنعه من المسير حتى خرج شوال، ولم يطف بالبيت.
قال ابن القاسم: هو حانث إلا أن يكون جعل لنفسه مخرجا في عقد يمينه.
قال محمد بن رشد: لم يعذره في المسألة بالمرض إذ قال فيها إنه حانث إلا أن
يكون جعل لنفسه مخرجا في عقد يمينه، يريد أن ينوي إلا أن أمرض أو يمنعني
مانع، وكان القياس أن يكون في حكم المكره لا يحنث، كمن حلف ألا يفعل فعلا
فأكره على فعله، إذ لا سبب له في المرض، إلا أنهم فرقوا على غير قياس في
الأيمان بين الإكراه على الفعل وعلى ترك الفعل، فعذروه بالإكراه على الفعل،
ولم يروه حانثا به، ولم يعذروه بالإكراه على ترك الفعل إذ لا إكراه على ألا
يفعله، وقد كان حلف أن لا يفعله ورأوه حانثا إلا أن ينوي إلا أن أغلب أو
أمنع وقد مضى هذا المعنى في رسم الأقضية الثالث من سماع أشهب، ووجه استحسان
التفرقة بينهما أن الرجل أملك لترك الفعل منه لفعله، ولهذا المعنى افترق
البر من الحنث فحنث من حلف ألا يتزوج بالعقد، ولم يبر من حلف ليتزوجن إلا
بالدخول، ومنه كان النهي أقوى من الأمر، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذا نهيتكم عن شيء فانتهوا عنه، وإذا أمرتكم بشيء
فأتوا منه ما استطعتم» . فلم يعذر الحالف على الفعل بالإكراه على الترك إلا
أن ينوي ذلك، لقوة ملكه للترك، إذ يكون تاركا له بفعل ما يشاء من أضداده من
غير قصد إلى شيء منها بعينه دون ما سواه، وعذر الحالف على ترك الفعل
بالإكراه على الفعل وإن لم ينو ذلك لضعف ملكه للفعل، إذ لا يكون فاعلا له
إلا بترك جميع أضداده، وعلى هذا من حلف ليصومن غدا فمرض مرضا يمنعه من
الصيام أنه يحنث إلا أن ينوي إلا أن أمرض، بخلاف من حلف ليصومن
(6/140)
غدا فإذا هو يوم الفطر أو الأضحى أنه يفطر
ولا حنث عليه، إذ لا يحل صيام ذلك اليوم، وهو إنما حلف بصيام ما يؤجر في
صيامه لا ما يأثم فيه، وبالله التوفيق.
[مسألة: قيل لأحدهما صالح صاحبك فحلف بالطلاق
أنه لا يصالحه]
مسألة وقال في رجل كانت بينه وبين رجل خصومة في أرض فقيل لأحدهما: صالح
صاحبك، فحلف بالطلاق أنه لا يصالحه، فلما طالت خصومتهما قال الحالف لصاحبه:
انظر ما تدعي فخذه من الأرض، فقال: ندعي من هاهنا إلى هاهنا: خذه فأخذه، ما
ترى عليه؟ .
قال: إن كان أعطاه كل ما يخاصمه فيه ويدعيه قبله فلا حنث عليه، وإن كان
أعطاه بعض ما كان يدعيه فقد حنث، قال ابن القاسم: إلا أن يكون أراد ألا
يسلم إليه شيئا منه، فإن كان ذلك نيته حنث.
قال محمد بن رشد: لسحنون في كتاب ابنه أنه يحنث وإن أعطاه كل شيء، قال: إنه
يحنث بالبعض فكيف بالكل؟ فلم يراع لفظ المصالحة التي حلف عليها وحمل يمينه
على أنه إنما أراد ألا يسلم إليه شيئا مما ادعى، فإذا حنث باليسير كان أحرى
أن يحنث بالكثير، وقول ابن القاسم أحرى على أصولهم في أن الحالف إذا لم تكن
له نية يرجع في يمينه إلى ما يقتضيه اللفظ، والمصالحة إنما تكون بأن يعطيه
بعض ما يدعي، فإن أعطاه أقل مما يدعيه حنث وإن قال إنه جميع حقه وإن الذي
ادعاه أولا أكثر من حقه.
[مسألة: يقول لامرأته أنت طالق البتة إن لم
تدفعي إلي مائة دينار]
مسألة وسئل عن الرجل يقول لامرأته أنت طالق البتة، إن لم
(6/141)
تدفعي إلي مائة دينار أو تتركي مالك علي من
المهر، فتركته له ثم أرادت أن تأخذه منه بعد ذلك، فخاصمته أو توفي فأرادت
أن ترجع فيه أو أقام بعد ذلك شهرين أو سنة ثم طلقها فأرادت أن ترجع، هل ترى
ذلك لها [إن ادعت أنها ما تركت ذلك له إلا على أن لا يطلقها.
قال: ليس لها أن ترجع عليه في شيء مما أعطته.
قال القاضي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هذا بين على ما قاله؛ لأنها يمين قد
لزمته بطلاق البتة إن لم تعطه ذلك، فإذا أعطته ذلك فقد نالت بما أعطته
سلامتها من وقوع الحنث عليها ولو لم] يكن لها أن ترجع عليه بعد ذلك بشيء
منه طلقها أو لم يطلقها، زاد في سماع أصبغ من كتاب طلاق السنة: ولو شاءت
نظرت لنفسها، يريد بأن تقول له لا أعطيك ذلك إلا على ألا تطلقني بعد ذلك.
وقد مضى القول على ذلك هنالك وبالله التوفيق.
[مسألة: يطلق امرأته واحدة ثم قيل له ارتجع
امرأتك فقال إن ارتجعتها فهي طالق]
مسألة وعن الرجل يطلق امرأته واحدة ثم قيل له: ارتجع امرأتك، فقال إن
ارتجعتها فهي طالق البتة، ثم تزوجت زوجا غيره، ثم طلقها أو مات عنها فأراد
أن يتزوجها وقال إنما نويت حين حلفت ألا أرتجعها حين كانت لي عليها الرجعة،
أو أراد أن يتزوجها ولم يتزوج حين خرجت من الاستبراء، وذكر أنه لم تكن نيته
إلا ذلك، أو قال لم أنو شيئا.
قال ابن القاسم: سمعت مالكا يقول هو حانث، ولم يذكر مالك نيته، قال ابن
القاسم: وإنما أرى أن يحلف على ما نوى
(6/142)
ويكون القول قوله، وإن لم تكن له نية لزمه
ما حلف عليه.
قال القاضي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قال ابن القاسم في هذه المسألة: إنه ينوى
فيها مع يمينه، ولم يذكر إن كانت عليه بينة أم لا؟ والذي ينبغي في هذه
المسألة أن ينوي فيها وإن كانت عليه بينة؛ لأن نيته فيها ليست مخالفة لظاهر
لفظه، إذ إنما حلف ألا يرتجعها، بخلاف مسألة رسم سلف من سماع عيسى من كتاب
طلاق السنة إذ كانت يمينه ألا يراجعها، وقد مضى من القول على ذلك هناك ما
فيه كفاية، وظاهر قول مالك فيما حكى ابن القاسم من أنه لم يذكر نية أنه لا
ينوى يريد مع قيام البينة، إذ لا اختلاف في أنه ينوى إذا لم تكن عليه بينة
فهو ينحو إلى ما في سماع أصبغ من اطراح الاعتبار بالألفاظ في هذه المسألة،
وأن يمينه على ألا يرتجع أو على ألا يتزوج سرا.
[: قال لامرأته أنت طالق إن لم أضربك حتى أشتفي
عليك فضربها حتى اشتفى]
ومن كتاب أوله يوصي لمكاتبه بوضع نجم من نجومه وسئل عن رجل قال لامرأته أنت
طالق إن لم أضربك حتى أشتفي عليك فضربها حتى اشتفى فيما يرى، فلما رفع يده
عنها ضحكت وقالت له: والله ما اشتفيت.
قال ابن القاسم: إن كان إنما حلف ليضربها حتى يشتفي فضربها حتى اشتفى في
نفسه فقد بر، ولا حنث عليه، وإن قالت: لم تشتف لم يلتفت إلى قولها إذا كان
هو قد اشتفى في نفسه.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال إنما حلف أن يضربها حتى يشتفي فهو أعلم هل
اشتفى أم لا، ولا ينبغي أن يلتفت إلى قولها: لم تشتف، إذا كان يعلم من نفسه
أنه قد اشتفى، كما لا يصح أن يلتفت إلى قولها لو قالت قد اشتفيت وهو يعلم
من نفسه أنه لم يشتف، وبالله التوفيق.
(6/143)
[مسألة: حلف
بطلاقها ألا يأخذ شيئا من مالها إلا بإذنها فأذنت ثم رجعت في الإذن]
مسألة وسئل عن رجل حلف بالطلاق ألا يأخذ شيئا من مال امرأته إلا بإذنها
ورضاها، فأذنت له أن يأخذ من مالها ما شاء ويقضي فيه بما أراد، فقضى في ذلك
زمانا، ثم قالت له: لا تأخذ من مالي شيئا.
قال ابن القاسم: إن أخذ من مالها شيئا بغير رضاها بعد أن نهته عنه فهي
طالق.
قال محمد بن رشد: هذا صحيح على مراعاة المعاني في الأيمان وترك الاقتصار
على مقتضى اللفظ وهو المشهور في المذهب؛ لأن معنى يمين الحالف ألا يأخذ من
مال امرأته شيئا إلا بإذنها ورضاها ألا يأخذ من مالها شيئا إلا وهي راضية،
فإذا أخذ من مالها شيئا بعد أن نهته عن ذلك وجب أن يحنث لكونها غير راضية
بذلك، ويأتي على الاعتبار بمقتضى اللفظ دون مراعاة المعنى ألا يحنث بما أخذ
من مالها بعد أن أذنت له في ذلك وإن كانت قد رجعت عن الإذن ونهته أن يأخذ،
وهو على قياس من قول مالك في رسم الطلاق، ومن سماع أشهب من كتاب التخيير
والتمليك في الذي يحلف بالحلال عليه حرام أن تقوم امرأته عنه فلا ترجع إليه
حتى يشاء، فتقوم عنه ثم تستأذنه في الرجوع فيقول لها: تعالي إن شئت، ثم
يقول لها: لا تأتي، فتأتي على الإذن الأول: إنه ليأخذ بقلبي أنه أذن، يريد
أنه إذن لا يسقط رجوعه عنه، فلا يحنث إذا أتت عليه بعد أن نهاها عن
الإتيان، وهذا على قياس ما يأتي لأصبغ في أول نوازله من هذا الكتاب وقول
ابن دحون: إن ذلك يأتي أيضا على قول سحنون في الذي يشترط لامرأته ألا
يخرجها إلا برضاها فيخرجها برضاها ثم تطلب منه أن يردها، إن ذلك لا يلزمه،
خلاف قول ابن القاسم، وهو صحيح أيضا لأن
(6/144)
من رأى أنه لا يلزمه أن يردها وهو قول
سحنون في أول رسم يتخذ الخرقة لفرجه من سماع ابن القاسم من هذا الكتاب،
وروايته أيضا عن ابن القاسم في رسم سلف من سماع عيسى من كتاب النكاح، فوجه
قوله أنها لما أذنت له أن يخرجها فقد أباحت له السكنى بها حيث أخرجها،
فسؤالها إياه أن يردها رجوع منها عما أذنت له فيه، وقد قيل: إنه لا يكتفي
بهذا الإذن المجمل ويلزمه أن يستأذنها كلما أخذ من مالها شيئا وإلا حنث،
وذلك على القول بأن من حلف على امرأته ألا تخرج إلى موضع إلا بإذنه أنها قد
تجتزي بأن يقول لها: اخرجي إلى حيث شئت فقد أذنت لك حتى تستأذنه في كل ما
ينوبها من الخروج، وسيأتي القول على ذلك في رسم سلف إن شاء الله.
[مسألة: قال إن مات ابني وليست لك قبلي تباعة
من هذا الدين فأنت طالق]
مسألة وعن رجل كانت له امرأة له منها ولد ولها عليه دين فلزمته بدينها فقال
لها: إن مات ابني وليست لك قبلي تباعة من هذا الدين فأنت طالق.
قال ابن القاسم: لا أرى أن يقضيها ذلك الدين فإن شحت وطلبت حقها اقتضته
وطلقت عليه ساعتئذ، قلت: فإن قضاها بعضه وبقي بعض فلا شيء عليه؟ قال: نعم.
قال محمد بن رشد: وهذا بين على ما قال؛ لأنها إن اقتضت منه دينها صارت
بمنزلة من قال لامرأته: إنه مات ابني فأنت طالق يعجل عليه الطلاق، ولو قال:
وليست لك علي تباعة ولم يقل من هذا الدين لم يعجل عليه الطلاق باقتضاء
الدين وإن لم تكن لها عليه تباعة سواه، إذ قد يكون لها عليه تباعة يوم يموت
فلا يكون مطلقا إلى أجل هو آت على كل حال، وتؤمر أن تداينه بما أمكن لئلا
يموت الولد ولا تباعة لها عليه فيقع عليها الطلاق بموته وبالله التوفيق.
(6/145)
[مسألة: عبد
حلف لغريم له بطلاق امرأته أن يدفع إليه أول دينار يدخل عليه فباعه سيده]
مسألة
وسألته عن عبد حلف لغريم له بطلاق امرأته أن يدفع إليه أول دينار يدخل
عليه، فباعه سيده فقال المشتري للبائع: اكسه فإنه لا كسوة له، فأعطاه
البائع دينارا من ثمنه ليكتسي به. فلم يقضه للغريم.
قال: ليس عليه حنث لأن الدينار إنما هو للمشتري كأنه استوضعه دينارا أو
كأنه اشترى الكسوة بذلك الدينار قال القاضي أبو محمد: لما أعطى البائع
العبد الدينار ليكتسي به فطلب المبتاع ذلك إليه، صار حكمه حكم كسوة العبد،
فلم يكن عليه حنث إن لم يقبضه غريمه إذ لا تباع ثياب العبد في دين العبد
إلا برضى السيد لأنها في حكم رقبة العبد في ذلك، وهو معنى قوله: لأن الدين
إنما هو للمشتري، وفي رسم الأقضية الثاني من سماع أشهب من كتاب العيوب ما
يؤيد هذا المعنى من رواية ابن كنانة عن مالك وبالله التوفيق.
[مسألة: الرجل يكون تحته امرأتان فيقول لكل
واحدة منهما إذا طلقتك ففلانة طالق]
مسألة وسألته عن الرجل يكون تحته امرأتان فيقول لكل واحدة منهما: إذا طلقتك
ففلانة طالق، فيطلق إحداهما.
قال: يقع على التي ابتدأ الطلاق فيها طلقتان، وعلى الأخرى طلقة، من أجل أنه
حين ابتدأ بطلاق هذه طلقت الأخرى واحدة، فلما وقع على التي لم يطلق طلقة
بطلاق هذه التي ابتدأ فيها الطلاق طلقت هذه أيضا طلقة التي ابتدأ فيها
الطلاق بطلاق هذه الأخرى.
(6/146)
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال؛ لأن
من حلف ألا يطلق امرأته يحنث بطلاقها كيف ما كان؟ بيمين أو بغير يمين، وقد
مضت هذه المسألة متكررة في سماع أبي زيد من كتاب طلاق السنة، ولو قال في
المسألة كلما لهذه ولهذه فطلق إحداهما طلقت كل واحدة منهما ثلاثا ثلاثا؛
لأنه كلما وقع الطلاق على واحدة وقع مثله على الأخرى، ذكره ابن سحنون عن
أبيه، وهو صحيح.
[مسألة: قال لامرأته انتقلي معي فأبت فقال أنت
طالق إن لم تنتقلي معي ثم بدا له ألا ينتقل]
مسألة وسئل عن رجل قال لامرأته: انتقلي معي فأبت، فقال: أنت طالق إن لم
تنتقلي معي، ثم بدا له ألا ينتقل.
قال: إن بدا له ألا ينتقل فليس عليه شيء.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال؛ لأن معناه أنت طالق إن لم تنتقلي معي
إن انتقلت، فإذا لم ينتقل لم يكن عليه شيء إلا أن يريد أنت طالق إن لم
انتقل بك، وباله التوفيق.
[مسألة: قال للتي قد دخل بها شأنك بأهلك أو
شأنكم بها فهي البتة]
مسألة قال: وإذا قال للتي قد دخل بها: شأنك بأهلك، أو شأنكم بها، فهي البتة
ولا ينوى، وإن قال للتي لم يدخل بها فهي واحدة إلا أن يكون نوى أكثر من ذلك
فيكون ما نوى، وإن قال للتي قد دخل بها: قد فارقتك أو خليتك أو خليت سبيلك
فهي أيضا ثلاث إلا أن يكون نوى أقل من ذلك فيكون ما نوى ويحلف، وإن قال ذلك
للتي لم يدخل بها فهي واحدة ألا أن يكون نوى أكثر من
(6/147)
ذلك، وهو قول مالك في جميع هذا، وقد قال لي
في التي لم يدخل بها: إنها البتة إلا أن يكون نوى واحدة.
قال ابن القاسم: وإن قال قد سرحتك أو سرحت سبيلك فهي للتي لم يدخل بها
واحدة إلا أن يكون نوى أكثر من ذلك وهي للتي قد دخل بها ثلاث إلا أن يكون
نوى واحدة، قال ابن القاسم: قال مالك: إذا قال الرجل للتي دخل بها قد
فارقتك فهي ثلاث، إلا أن يكون نوى واحدة وحدثني به الثقة عن ربيعة.
قال محمد بن رشد: هذه المسائل كلها قد مضى القول فيها في رسم باع غلاما من
سماع ابن القاسم من كتاب التخيير والتمليك فلا معنى لإعادته وبالله
التوفيق.
[مسألة: يقول لامرأته أنت طالق إن شئت فقالت قد
شئت إن شاء فلان]
مسألة قال: وسألت ابن القاسم عن الرجل يقول لامرأته: أنت طالق إن شئت،
فقالت: قد شئت إن شاء فلان، أو يقول لعبده أنت حر إن شئت، فقال: قد شئت إن
شاء فلان، فيوجد أن قد ماتا، هل ترجع الشيئة إليهما؟ .
قال: إن وجدا قد ماتا فلا شيء لهما ولا ترجع الشيئة إليهما.
قلت: فلو قال لهما هذه المقالة فقالا: قد شئنا إن شاء فلان وفلان بأرض
بعيدة مثل إفريقية والأندلس.
قال: أما المرأة فيقال لها: إن شئت فاقض الآن وإن شئت فاتركي، ولا تؤخر إلى
قدوم فلان، وأما العبد فذلك له إلى أن يكتب إلى فلان ويستقصي شيئته لأنه
ليس في العبد من الضرر ما في المرأة فإن المرأة يمنع من وطئها، والعبد ليس
كذلك.
قلت: فإن كان الرجل الذي جعلت المرأة الشيئة إليه
(6/148)
بالإسكندرية ونحوها من القرب هل يؤخر إلى
ذلك.
قال ابن القاسم: إن كان في القرب على ما ذكرت اليومين والثلاثة وما أشبهه
الذي لا يكون على الزوج في ذلك ضرر فإني أرى أن توقف، وأما الأجل البعيد
الذي يكون على الزوج في ذلك الضرر فإني أرى أن ترد الشيئة إليها الساعة،
فإما قضت أو تركت.
فلو أن الزوج قال: أنا أترك الأمر حتى يشاء فلان ويقدم، فإني أخاف أن يجعل
ذلك بيدها فتطلق، وعسى فلان لا يطلق، قال: إن بعد الأمر فلا يقبل فيه رضى
الزوج؛ لأن الموت يأتي فتقع الموارثة، قال ابن القاسم: وليس التأخير بشيء
في القياس وإن قرب الأمر، وإنما القياس في أن توقف الساعة.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة بعينها والقول فيها في هذا الرسم
بعينه من هذا السماع من كتاب التخيير والتمليك فلا وجه لإعادة شيء من ذلك
ها هنا وبالله التوفيق.
[مسألة: يحلف على الشيء بطلاق امرأته ولا يدري
أعلى حق حلف أم على باطل]
مسألة وسألته عن الرجل يحلف على الشيء بطلاق امرأته ولا يدري أعلى حق حلف
أم على باطل، مثل أن يقول إن كان لم تمطر الليلة بالإسكندرية وهو بالفسطاط
فامرأته طالق أو نحو هذا.
قال: قال مالك: من قال: امرأتي طالق إن لم يمطر غدا أو إلى رأس الشهر فإن
امرأته تطلق عليه ساعتئذ.
قال ابن القاسم: وانظر إلى جميع هذه الأشياء التي يحلف عليها مثل هذه
اليمين قرب استخبارها أو بعد فإنه إذا رفع ذلك
(6/149)
إلى السلطان فينبغي له أن يطلق عليه ولا
يؤخره إلى الاستخبار عسى أن يكون ذلك حقا، وإن وجد ذلك الشيء الذي حلف عليه
حقا قبل أن يطلق السلطان عليه فليس عليه في يمينه شيء، وهذا وجه قول مالك.
قال محمد بن رشد: قال: فيمن قال امرأته طالق إن لم يمطر غدا أو إلى رأس
الشهر وما أشبه ذلك مما لا يدرى هل يكون أم لا يكون؟ إن الطلاق يعجل عليه
ولا ينتظر به استخبار ذلك، وإن وجد ذلك حقا قبل أن يطلق عليه لم يطلق عليه،
وذلك ينقسم على وجهين: أحدهما: أن يرمي بذلك مرمى الغيب ويحلف على أن ذلك
لا بد أن يكون ولا يكون قطعا على ذلك من ناحية الكهانة أو التنجيم أو تقحما
على الشك دون سبب من تجربة أو توسم شيء ظنه، فهذا لا اختلاف في أنه يعجل
عليه الطلاق ساعة يحلف ولا ينتظر، فإن غفل عن ذلك ولم يطلق عليه حتى جاء
الأمر على ما حلف عليه، فقيل: إنه يطلق عليه وهو قول المغيرة المخزومي
وعيسى ابن دينار، وقيل لا يطلق عليه، وهو قول ابن القاسم هذا، والثاني: لا
يرمي بذلك مرمى الغيب وإنما يحلف عليه؛ لأن ذلك غلب على ظنه عن تجربة أو
شيء توسمه، فهذا يعجل عليه الطلاق ولا يستأنى به لينظر هل يكون ذلك أم لا
يكون، فإن لم يطلق عليه حتى جاء الأمر على ما حلف عليه لم يطلق عليه، وهو
قول عيسى بن دينار، ودليل قول ابن القاسم في سماع أبي زيد، وقد مضى هذا
المعنى في نوازل أصبغ من كتاب النذور.
وأما إن ألزم نفسه الطلاق إن كان ذلك أو لم يكن على غير وجه اليمين فلا
يعجل عليه الطلاق إلا أن يكون مما الشك فيه قائم مثل أن يقول: امرأته طالق
إن كان في بطن فلانة جارية، أو إن وضعت جارية، أو يقول لامرأته: أنت طالق
إن كنت حاملا، أو إن لم تكوني حاملا وما أشبه ذلك، فهذا يختلف هل يعجل عليه
الطلاق أو يستأنى به حتى يعلم حقيقة ذلك،
(6/150)
فذهب مالك إلى أنه يعجل عليه الطلاق ولا
يستأنى به، وذهب ابن الماجشون وسحنون إلى أنه يستأنى به وبالله التوفيق.
[مسألة: الرجل يكون تحته امرأتان فيقول
لإحداهما إن لم أتزوج عليك فأنت طالق]
مسألة وسألت ابن القاسم عن الرجل يكون تحته امرأتان فيقول لإحداهما: إن لم
أتزوج عليك فأنت طالق، فطلق التي ليس فيها يمين أو صالحها، ثم أراد أن
يتزوجها هل برة في يمينه؟ .
قال: أما إذا طلقها البتة فهي برة لا شك، وفي الصلح أيضا تبره إلا أن يكون
صالحها لتحليل يمينه وليتزوجها فتبره، فإن كان صالحها على ذلك وعمل على ذلك
فلا أرى أن تبره، قلت: وكيف تبره وقد كانت يوم حلف تحته؟ ألا ترى أنه إنما
أراد غيرها؟ قال: أرأيت إن كان قال لامرأته إن تزوجت عليك فأنت طالق وتحته
امرأة أخرى فطلق الأخرى ثم تزوجها أيحنث؟ أم لا؟ قال: نعم يحنث، وهو القياس
بعينه.
قال محمد بن رشد: وهذا على ما قال: إنه يبر بذلك إلا أن تكون له نية أن
أراد غير من عنده. أو تكون ليمينه بساط تدل على ذلك؛ لأن يمين الحالف
محمولة على ما يقتضيه اللفظ إذا عريت من النية والبساط.
[مسألة: يحلف ألا يساكن رجلا هل يأتيه زائرا
فيقيم عنده الأيام والليالي]
مسألة وعن الرجل يحلف ألا يساكن رجلا هل يأتيه زائرا فيقيم عنده الأيام
والليالي؟ .
قال: هذا يختلف، أما إذا كانوا في حاضرة فلا بأس أن يزوره بالنهار ولا يكثر
من ذلك، وأما المبيت فلا أرى له أن يبيت إلا أن يكون مرض فيبيت الليلة،
وأما إذا كان في غير حاضرة
(6/151)
فركب إليه وشخص زائرا فلا بأس أن يقيم
اليوم واليومين والثلاثة ولياليهما وهو قول مالك وما أشبه.
قال محمد بن رشد: زاد أصبغ في الواضحة إذا أكثر الزيارة نهارا في الحضر،
وأكثر المبيت والمقام في شخوصه إليه يعني في غير الحضر حنث، وهو خلاف ما
يأتي في آخر رسم إن أمكنني، وقد مضى تحصيل القول في هذه المسألة وبيانها
مستوفي في أول سماع يحيى من كتاب النذور فلا معنى لإعادته.
[: قال لامرأته كل امرأة أتزوجها بعد موتك فهي
طالق]
ومن كتاب أوصى أن ينفق على أمهات أولاده قال فيمن قال لامرأته كل امرأة
أتزوجها بعد موتك فهي طالق أو سرية أتسرر بها بعد موتك فهي حرة.
قال: يتزوج بعد موتها ولا يتسرر إلا أن يشتري الجواري يملكهن ولا يطأهن؛
لأنه لو قال كل جارية أشتريها أطأها فهي حرة لزمه ذلك؛ لأنه قد أبقى من
الجواري ما يملك، وليس بمنزلة الذي يقول كل جارية أو كل أنثى أملكها فهي
حرة فهذا ليس عليه شيء ولا يلزمه شيء، ولو قال كل امرأة أتزوجها أطأها فهي
طالق قيل له: تزوج وطأ ولا شيء عليك؛ لأنه لا يتزوج ما لا يطأ، وهو يملك ما
لا يطأ، فهذا فرق ما بينهما.
قال محمد بن رشد: أما قول الرجل لامرأته كل سرية أتسررها بعد موتك فهي حرة
فلا إشكال في أن ذلك يلزمه، وله أن يشتري ما شاء من الجواري، فإن تسرر منهن
شيئا لزمه عتق ما تسرر.
وقد اختلف في التسرر ما هو؟ فقيل: إنه الوطء وإليه ذهب مالك
(6/152)
وعامة أصحابه، وقيل: إنه الاتخاد للوطء،
وقيل: إنه الإيلاد، فعلى القول بأنه الوطء لا يجوز له إلا ما دونه من القبل
والمباشرة وشبه ذلك، وقيل: إنه يجوز له الوطء ولا ينزل، وقيل: إنه يجوز له
وطئة كاملة ولا يجب عليه الحنث إلا بتمامها، وهذا على اختلافهم فيما يجوز
للحالف ألا يطأ امرأته بطلاقها البتة من وطئها، وأما قوله كل جارية أشتريها
أطأها فهي حرة، ففيه إشكال؛ لأنه يحتمل أن يريد بقوله أشتريها أطأها
اشتريتها فأطأها بالفاء، وعلى هذا حمله ابن القاسم، ولذلك قال: إن ذلك لازم
بمنزلة قوله كل سرية أتسررها فهي حرة، ويحتمل أن يريد بقوله أطأها صفة
للجارية المشتراة كأنه قال: كل جارية أشتريها حلال لي وطؤها، وعلى هذا حمله
سحنون قال: لا شيء عليه، يريد لأنه عموم إذ لم يبق إلا من لا يحل له وطؤها
من ذوات المحارم من الرضاعة وشبههن وهن قليل، كمن قال كل جارية اشتريتها
فهي حرة إلا من بنات فلان، أو كل امرأة أتزوجها فهي طالق إلا من بنات فلان،
فاستدلال ابن القاسم بهذه المسألة على المسألة الأولى بقوله: لأنه لو قال
كل جارية أشتريها فهي حرة لزمه ذلك ليس بجيد إذ لا يستدل بالأضعف على
الأقوى، ولا بما اختلف فيه على ما اتفق عليه، ولا بما فيه احتمال على ما
ليس فيه احتمال، وأما الذي قال كل جارية أو كل أنثى أملكها فهي حرة فلا شيء
عليه كما قال؛ لأنه عموم عنده، إذ قد عم الإناث، وكذلك هو عنده إذا عم
الذكور فلا يلزمه العتق فيهم، وقال ابن نافع: إن ذلك تخصيص يلزمه فيه
العتق، وهو ظاهر قول أصبغ في سماعه من كتاب العتق في بعض الروايات، وكذلك
لو قال كل جارية أشتريها فهي حرة لا شيء عليه، كمن قال كل جارية أملكها فهي
حرة وإن كان الشراء أخص من الملك فلم يفرقوا بين ذلك في هذا الموضع وبالله
التوفيق.
[مسألة: قال إن وطئت فلانة لجارية لغيره أبدا
فهي حرة فملكها فوطئها]
مسألة قلت: أرأيت إن قال: إن وطئت فلانة لجارية لغيره أبدا فهي حرة فملكها
فوطئها.
(6/153)
قال: لا شيء عليه إلا أن يكون أراد إن
ملكها.
قال محمد بن رشد: هذا كما لو قال لامرأة أجنبية إن وطئتها فهي طالق فتزوجها
ووطئها أنه لا شيء عليه إلا أن يكون أراد إن تزوجها، ومثله في المدونة، ولا
اختلاف فيه عندهم؛ لأنه حملوا قوله إن وطئها على حالها التي هي عليه حتى
يريد إن وطئها بعد الشراء في الأمة وبعد النكاح في الحرة مراعاة للاختلاف،
إذ من أهل العلم من يقول إنه لا شيء عليه وإن قال إن تزوجتها أو اشتريتها
وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف لامرأته بطلاق كل امرأة يتزوجها
عليه البتة]
مسألة وقال فيمن حلف لامرأته بطلاق كل امرأة يتزوجها عليه البتة ثم هاج
بينهما كلام فقال لها: إن لم أتزوج عليك إلى عشرة أشهر فأنت طالق البتة.
قال ابن القاسم: جاءتني ونزلت فأمرته أن يصالحها ويتركها حتى يمضي عليها
العشرة أشهر فيقع عليه الحنث حين يقع وليست في ملكه ولا هي له بامرأة، ثم
يتزوجها بعد ذلك إن شاء وقد مضت اليمين وسقطت، قال: ولو كانت يمينه مبهمة
ليس فيها أجل لكان أشد عليه وكانت اليمين ترجع عليه.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأنه لو ضرب ليمينه أجلا فإنما يحنث
بانقضاء الأجل، فإذا صالحها قبل أن ينقضي الأجل فحل الأجل وهي ليست في
عصمته سلم من وقوع الثلاث عليه فيها، وكان له أن يراجعها إن شاء، ولا يرجع
عليه اليمين فيها إذ قد مضى الأجل. ولو كانت اليمين مبهمة إلى غير أجل
لرجعت عليه كما قال، ولا يكره له الفرار من الحنث بهذا الفعل في هذه
المسألة، إذ لو كان فيه وجه من وجوه الكراهة لما أمره به ابن القاسم. وإنما
قال مالك في مسألة كتاب إرخاء الستور من المدونة: بئس ما فعل من فر من
الحنث، من أجل أنه غر بغريمه إذ حلف
(6/154)
له ثم فر من الحنث، إذ لو علم خلاف ذلك
لقام عليه بحقه ولم ينظره به، ولو لم يفعل ما أمره به ابن القاسم من
مصالحتها لوقع عليه الطلاق ثلاثا بانقضاء الأجل، وهو على انقضائه على بر،
فله أن يطأ، وقد قيل ليس له أن يطأ، وهو أحد قولي ابن القاسم: فعلى هذا
القول إن رفعت امرأته أمرها إلى السلطان وقد بقي من الأجل أكثر من أربعة
أشهر ضرب له أجل الإيلاء، وقد مضى هذا المعنى مبينا مستوفى في رسم يوصي من
سماع عيسى من كتاب الإيلاء وغيره، وسيأتي في رسم القطعان بعد هذا القول في
حكم هذه المسألة إذا كانت اليمين فيها إلى غير أجل إن شاء الله.
[مسألة: حلف بالطلاق إن فلانا يتعرض لجارية
فلان]
مسألة وقال فيمن حلف إن فلانا يتعرض لجارية فلان: إنه إن استيقن أنه تعرض
لها وسمع ذلك منه حتى لا يشك فيه فلا شيء عليه، وذلك إلى نيته، وإن كان
إنما رآه يكلمها لا يدري يعرض لها أم لا فليطلق امرأته.
قال محمد بن رشد: هذا إذا أتى مستفتيا، وأما إذا شهد عليه بذلك وطولب
بالطلاق، فإن كان فلان ذلك ممن يليق به ذلك استحلف لقد رآه يتعرضها، وبقي
مع امرأته، وإن كان ممن لا يليق به ذلك طلق عليه إلا أن يأتي بالبينة على
ما حلف عليه.
[مسألة: قال أنت طالق إن شاء الله]
مسألة وقال فيمن قال أنت طالق إن شاء الله، أو أنت طالق إلا أن يشاء الله:
إن ذلك سواء هي طالق.
قال محمد بن رشد: هذا أمر لا اختلاف فيه في مذهب مالك وجميع أصحابه أن
الاستثناء بمشيئة الله تعالى في الطلاق المجرد والعتق المجرد غير عامل ولا
نافع؛ لأن الرجل إذا قال: امرأتي طالق إن شاء الله أو
(6/155)
إلا أن يشاء الله فقد قيد وقوع الطلاق عليه
بذلك اللفظ وانحلال عصمة الزوجية بينهما به، بمشيئة الله، تعالى، ومشيئة
الله تعالى هي إرادته، وهي صفة قديمة من صفات ذاته فعلمنا وقوع الطلاق عليه
لحصول الصفة التي قيده بها وهي إرادة الله تعالى التي سبقت إرادته؛ لأن
معنى قول الرجل امرأتي طالق إن شاء الله أي امرأتي طالق قد شئت ذلك إن شاء
الله، أو قد أردت ذلك إن أراد الله أن أريده، ولا يريد هو ذلك ولا يشاؤه
إلا وقد شاء الله وأراد أن يريد ذلك ويشاءه، إذ لا يكون شيء في ملكوت الأرض
والسماء إلا بمشيئة الله تعالى، فهذا وجه قول مالك، وهو في التمثيل مثل أن
يقول امرأتي طالق إن كان كذا وكذا لما قد مضى مما علمنا كونه، ويحتمل أن
يكون معنى قوله امرأتي طالق إن شاء الله أي امرأتي طالق إن كان الله شرع
وجوبه علي، وقد علمنا من دين النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ضرورة أن الله
قد شرع وجوبه عليه إذا لفظ به ونواه، فوجب أن يلزمه، ولا يحتمل استثناؤه
سوى هذين الوجهين. وقد قال بعض الناس: إن الطلاق إنما يلزمه على مذهب مالك
لأن مشيئة الله تعالى مجهولة لا تعلم إذ لا يمكننا استعلامها فيطلق عليه من
ناحية الشك في الطلاق، وهو قول مرغوب عنه لما يقتضي من شبه مشيئة الله
تعالى بمشيئة المخلوق، إذ جعل حكم قول القائل امرأتي طالق إن شاء الله
كقوله امرأتي طالق إن شاء زيد، فغاب قبل أن يعلمنا بمشيئته حيث لا يمكننا
استعلامها منه، وهذا مضاه لقول القدرية القائلين بحدوث إرادة الله تعالى
الله عن قولهم علوا كبيرا.
ووجه قول من خالف مالكا - رَحِمَهُ اللَّهُ - في ذلك فلم ير عليه فيه طلاقا
هو أنه حمل قوله امرأتين طالق إن شاء الله على أنه أراد بذلك امرأتي طالق
إن شاء الله أن يلزمني الطلاق بقوله امرأتي طالق، وأنا لم أرد بذلك الطلاق،
فلم يلزمه الطلاق؛ لأن الطلاق يفتقر عنده إلى لفظ ونية، وفي ذلك اختلاف،
وقول مالك هو الصواب؛ لأن الكلام يتضمن إرادته الطلاق. ألا ترى أنه إذا قال
امرأتي طالق إن كان كذا وكذا لما قد كان أن
(6/156)
الطلاق يلزمه بإجماع، ولو تحققنا ما أراده
المطلق بمشيئة الله تعالى من هذه الوجوه التي ذكرناها لارتفع الخلاف وحصل
الإجماع فهذا وجه القول في هذه المسألة التي يتضح به أمرها، ويقع به الشفاء
منها ويرفع الإلباس من كلام من تقدم أو تأخر فيها وبالله التوفيق.
[مسألة: استسلف منها دينارا فقالت أدفعه لفلان
يدفعه لك ويستحلفك بالطلاق]
مسألة وقال في رجل استسلف من امرأة دينارا فقالت أنا أدفعه إلى فلان يدفعه
إليك ويستحلفك فيه بالطلاق، فدفعته المرأة إلى فلان الذي سمت فدفعه ذلك
الرجل إلى المستسلف واستحلفه بالطلاق ليدفعنه إليه من أجل تسميه له المرأة
إلا أن يشاء الرجل المستعان المحلوف له أن يفسح له في الأجل، فغاب المحلوف
له فجاء الحالف حين خاف الحنث إلى المرأة فقالت قد فسحت لك في يمينك إن كان
ينفعك، ثم إن المحلوف له قدم فقال إني قد كنت أشهدت قبل أن يحل أجل هذا
الدينار بيوم أن كل من كان لي قبله يمين في حق فهو في فسحة من يمينه حتى
ألقاه، وكانت له أيمان على غير ذلك الرجل.
قال ابن القاسم: إن أقام على ذلك شهيدي عدل أنه أشهدهم أنه قد فسح عن كل من
كان له قبله يمين حتى يلقاه قبل أجل هذا الدينار بيوم أو يومين فذلك له
مخرج حتى يلقاه، فإذا لقيه فإن فسح له أيضا فهو له مخرج، وإن افترقا بعد أن
يلقاه ولم يفسح له ولم يقضه فهو حانث. وأما تأخير المرأة فليس بتأخير لأن
الحق لغيرها وإن كان أصله لها؛ وإن لم يقم الرجل شاهدين على ما ذكر حنث
هذا.
قال محمد بن رشد: قوله في هذه المسألة إن الغريم الحالف لا
(6/157)
ينتفع بتأخير المرأة، والحق لغيرها، وإن
الحالف لا يبر إلا بتأخير المحلوف له معارض لما في المدونة في الرجل يحلف
ليقضين رجلا حقه إلا أن يشاء أن يؤخره فيموت المحلوف له أن للورثة أن
يؤخروه إن كانوا كبارا ولا دين عليه، وللوصي إن كانوا صغارا وللغرماء إن
كان دينهم لا تسعه ذمة الميت وأبرؤوا الميت لأنه أجاز تأخير الغريم الحالف
لكل من يستحق ما عليه بوراثة أو غيرها، فالمرأة في هذه المسألة أحق بتأخير
الحالف إذ لم يزل الحق لها، والتوثق باليمين إنما كان لها. وقد قال مالك في
رسم استأذن من سماع عيسى من كتاب النكاح في الرجل يجعل أمر امرأته في يد
أبيها إن غاب عنها إلى أجل كذا، فيغيب عنها فيريد الأب أن يفرق بينهما وتحب
هي الصبر على زوجها: إنه يجبر على اتباع قولها؛ لأن الحق لها، وإنما جعل
بيده توثقه لها. ووجه قوله إنها لما أمرته أن يستحلفه فكأنها قد فوضت إليه
ما كان لها من الحق في ذلك وأنزلته فيه منزلتها لو استحلفته هي والله أعلم.
وقد مضى في رسم حلف ورسم نذر سنة من القول في بقية معناها ما فيه بيان لها،
وفي سماع أبي زيد طرف منها وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف ألا يفعل فعلا فأكره عليه]
مسألة وقال في رجل حلف ألا يدخل دارا سماها، فبينما هو على دابته قريب منها
وواقف على بابها أقبل شيء نفرت منه دابته فاقتحمت به تلك الدار.
قال ابن القاسم، إن كان يستطيع أن يملك رأسها أو يمسكها أو يثني رجليه
فينزل أو يطرح نفسه من غير عنت يصيبه فلم يفعل فقد حنث، وإن كان لا يستطيع
شيئا من ذلك فلا حنث عليه.
(6/158)
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في المدونة في
الذي يحلف ألا يفعل فعلا فأكره عليه أنه لا حنث عليه لأنه مغلوب على الدخول
كما لو احتمل فأدخل أو أكره على الدخول بضرب أو عذاب أو ما أشبه ذلك مما
يكون به الإكراه إكراها، وهذا ما لا اختلاف فيه، وإن كان إكراها على فعل
فلا يدخله من الاختلاف ما ذكرناه في رسم حمل صبيا من الاختلاف في الإكراه
على الأفعال؛ لأن هذا إكراه على فعل يقصد إلى اليمين الذي هو قول، فيتفق
على أن الإكراه يكون فيه إكراها كما يكون في الأقوال، وقد مضى في رسم
العرية من هذا السماع ذكر الاختلاف في الإكراه على ترك الفعل في الأيمان
وفي رسم طلق من سماع ابن القاسم ورسم الأقضية الثالث من سماع أشهب ما يقوم
مقام الإكراه في ذلك من الغلبة عليه، فليتأمل ذلك كله من أحب الوقوف عليه
وفي مواضعه المذكورة وبالله التوفيق.
[مسألة: دخلت عليه امرأته فقال هي طالق البتة
إن لم أفترعها الليلة]
مسألة وقال أتيت بهذه المسألة ونزلت في رجل دخلت عليه امرأته فقال هي طالق
البتة إن لم أفترعها الليلة، فوطئها فإذا هي ثيب.
قال لا شيء عليه، إنما أراد وهو يظن أنها عذراء. قيل أفترى إن كان حين علم
أنها ثيب واستقر عنده ذلك ترك وطأها تلك الليلة فلم يطأها، أتطلق عليه؟
قال: نعم. قال أصبغ: ولو علم قبل الوطء بعد اليمين أنها ثيب فترك وطأها
ليلته رأيته حانثا.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأن يمينه إنما وقعت على الوطء لا على
افتراعها من غير وطء، ومعنى ما حلف عليه لأطأنها وطأ أفترعها به، فإذا
وطئها الليلة بر وجد لها عذرة أو لم يجد، وإذا لم يطأها الليلة حنث وإن لم
تكن لها عذرة. ولو حلف ليذهبن عذرتها من غير وطء لم يحنث إذا وجدها ثيبا
كمسألة الحمامات من كتاب النذور من المدونة وما كان في معناها، وبالله
التوفيق.
(6/159)
[مسألة: يقول
لامرأته وجهي من وجهك حرام]
مسألة وقال في رجل يقول لامرأته وجهي من وجهك حرام إنها البتة لا تحل له
حتى تنكح زوجا غيره.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة متكررة والقول فيها في هذا الرسم من
هذا السماع من كتاب التخيير والتمليك، ومضى في آخر سماع أشهب من هذا الكتاب
القول فيما هو في معناها فأغنى ذلك عن إعادته هنا وبالله التوفيق.
[: أتاه غريمه فسأله أن يقضيه فقال امرأته طالق
إن قضاه اليوم]
ومن كتاب بع ولا نقصان عليك وسئل عن رجل أتى إلى غريم له عليه عشرة دنانير
فسأله أن يقضيه، فقال امرأته طالق إن قضاه اليوم شيئا فلظ به صاحب الحق
فأتى به الحالف إلى رجل له عليه عشرة دنانير، فقال العشرة دنانير التي لي
عليك أقضها فلانا فأحاله عليه ولم يقضه شيئا الذي أحاله عليه ذلك اليوم.
قال هو حانث لأن الحول قضاء قلت: ولا يدين؟ ، قال: لا يدين. قلت فلو كان
أحاله عليه فقال له في موقفه إني نسيت أن علي يمينا ألا أقضيه اليوم فلا
تقضه؟ قال: هو حانث ولا يقال.
قال محمد بن رشد: هذا على ما قال لأن الحول من باب القضاء؛ لأن الغريم إذا
تحول إلى ذمة المحال عليه فقد باع ذمة غريمه بذمة الذي أحال عليه، فصار
بمنزلة من قبض في حقه قرضا ووجب أن يحنث الحالف بمنزلة من حلف ألا يقضي
رجلا حقه فأعطاه به عرضا، وسواء أحاله على دين حال أو مؤجل لا يحل إلا بعد
الأجل الذي حلف ألا يقضيه إليه فلا
(6/160)
دليل له. في قوله: ثم قال في موضعه بعد أن
أحاله لا تقضه اليوم، إنه لو قال له ذلك قبل أن يحيله لم يحنث لما ذكرناه
من أن الإحالة كيف ما كانت هي من باب القضاء فحنث الحالف ألا يقضي بها. ولو
حلف أن يقضيه لما بر بها. وقد مضى ذلك في آخر رسم حمل صبيا وبالله التوفيق.
[مسألة: يقول قد طلقت امرأتي أو يتكلم بالطلاق
وهو لا يريده]
مسألة وقال في رجل توسوسه نفسه فيقول قد طلقت امرأتي أو يتكلم بالطلاق وهو
لا يريده أو يشككه.
فقال يضرب عن ذلك ويقول للخبيث صدقت ولا شيء عليه.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في المدونة أن الموسوس لا يلزمه طلاق، وهو مما
لا اختلاف فيه؛ لأن ذلك إنما هو من الشيطان فينبغي أن يلهى عنه ولا يلتفت
إليه كالمستنكح في الوضوء والصلاة، فإنه إذا فعل ذلك أيأس الشيطان منه،
فكان ذلك سببا لانقطاعه عنه إن شاء الله.
[مسألة: افتقد بضاعة فاتهم امرأته فأنكرت فقال
أنت طالق إن كان أخذها غيرك]
مسألة وقال في رجل افتقد بضاعة من بيته فاتهم امرأته فقال أين البضاعة؟
فقالت ما أدري، فقال لها أنت طالق إن لم تأتني بها بعينها، ثم وجدها في
مكان جعلها فيه.
قال: هي طالق. ولقد سئل مالك عن رجل افتقد بضاعة من بيته فاتهم امرأته
فأنكرت فقال أنت طالق إن كان أخذها غيرك، ثم ذكر أنه نسي الموضع الذي جعلها
فيه فوجدها، قال: هو حانث لأنه حين قال أنت طالق إن كان أخذها غيرك إنما
(6/161)
أراد أنها عندك وأنت أخذتها، قال: ولقد كان
بيني وبين ابن دينار كلام، وكان يرى أنه لا حنث عليه لأنه إنما قال إن كان
أخذها غيرك فلم تأخذها هي ولا غيرها، قال فدخلنا على مالك فقال: قد حنث.
قال محمد بن رشد: يجب في مسألة البضاعة قياس المسألة التي ساق عليها أن لو
أتت بالبضاعة من الموضع الذي رفعها هو فيه أن يحنث؛ لأنه عقد يمينه على
أنها أخذتها، وكأنه حلف إنما أخذتها وكأنه حلف إن ما أخذها غيرها كما في
المسألة التي ساق عليها، فحمل ابن القاسم يمينه على المراد دون اللفظ كما
يفعل في أكثر المسائل، وحنثه إذ لم يراع المقصد خلاف قول ابن دينار. وقد
مضى من قول ابن القاسم في رسم طلق من سماع ابن القاسم في مسألة السوط مثل
قول ابن دينار هذا، وقد مضى القول على ذلك كله هناك مستوفى فمن أحب الوقوف
عليه تأمله فيه وبالله التوفيق.
[مسألة: غراب طائر فقال امرأته طالق البتة إن
لم يكن هذا الغراب ذكرا]
مسألة وقال في رجل قال في غراب طائر امرأته طالق البتة إن لم يكن هذا
الغراب ذكرا فذهب الغراب عنهم.
قال: إن زعم أنه قد عرف الذكر نوي ولا شيء عليه، وإن قال إنما قلته هكذا
ولا أدري، حنث.
قال محمد بن رشد: روي عن سحنون أنه قال: لا موضع للنية هاهنا، إنما هو رجل
حلف على ما أيقن فهو مصدق، ويريد سحنون أنه مصدق دون يمين، فكأنه تأول على
ابن القاسم أنه أراد بقوله نوي ولا شيء عليه أي نوي مع يمينه وإلا طلق
عليه، وهذا الاختلاف إنما يتجه إذا
(6/162)
طولب باليمين وهو مقر بها أو مشهود عليه
بها، وأما إن أتى مستفتيا غير مطلوب فلا يمين عليه بحال إذا زعم أنه علم
أنه ذكر، وإن قال حلفت ولم أتحقق ذلك حنث ووجب عليه الطلاق، ولا اختلاف في
هذا. وقد مضى في رسم يوصي ما يوضح هذا ويبينه وبالله التوفيق.
[مسألة: قال امرأته طالق إن لم يتزوج امرأة
يمسكها سنة]
ومن كتاب أوله لم يدرك من صلاة الإمام إلا الجلوس
مسألة قال: وقال مالك: إذا قال الرجل امرأته طالق إن لم يتزوج امرأة يمسكها
سنة فتزوج امرأة فأمسكها أحد عشر شهرا، ثم ماتت قال: يتزوج امرأة ويحبسها
سنة مبتدأة، وسئل عنها سحنون فقال: لا يلزمه أن يحبسها إلا ما بقي من تمام
السنة.
قال محمد بن رشد: حمل مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - يمين الحالف في هذه
المسألة على ما يقتضيها لفظه فيها فلم ير أن يبر إلا بأن يمسك على امرأته
سنة كاملة امرأة واحدة، وحمل سحنون يمينه على [المعنى] وهو أنه قصد التضييق
عليها بحبس امرأة معها سنة كاملة، فلا فرق في معنى التضييق عليها بذلك بين
أن تكون امرأة واحدة أو امرأتين، بل ربما كان [أشد] في التضييق على امرأته
بالمرأتين لما يكره النساء من ذلك، وما ذهب إليه مالك من الاعتبار في هذه
المسألة بمقتضى اللفظ وترك مراعاة المعنى أظهر لأنه أحوط وأبرأ من الحنث
وبالله التوفيق.
[مسألة: قال لامرأته أنت طالق إن لم أتزوج عليك
إلى سنة فتزوج قبل تمامها]
مسألة قال عيسى: وسئل عن رجل قال لامرأته أنت طالق إن لم
(6/163)
أتزوج عليك إلى سنة فتزوج قبل تمام السنة
فماتت قبل أن يدخل بها.
قال: إن ماتت قبل السنة ولم يدخل بها فليتزوج أخرى قبل السنة وليدخل بها،
وإن مضت السنة ولم يدخل بالمرأة كانت التي تزوج حية أو ميتة فهو حانث ولا
يبر إلا بالمسيس، ولو تزوج امرأة قبل السنة فمسها ثم ماتت قبل السنة كان قد
بر في يمينه.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة على أصولهم في أن البر لا يكون إلا بأكمل
الوجوه، وأن الحنث يقع بأقل الوجوه، فمن حلف ليتزوجن على امرأته أو ليتزوجن
عليها إلى أجل كذا لا يبر إلا بأكمل الوجوه وهو الدخول، ومن حلف ألا يتزوج
على امرأته أولا يتزوج عليها إلى أجل كذا يحنث بالعقد وإن لم يدخل، وقد مضى
في رسم العرية الفرق بين الموضعين وهو أن الرجل أملك لترك الفعل منه لفعله
فإذا حلف الرجل أن يفعل فعلا حنث بترك ما يترك منه، وإذا حلف ألا يفعل فعلا
حنث بفعل ما يفعل منه إذ لم يتركه فالحالف ألا يتزوج حالف ألا يتزوج ولا
يدخل، فإن تزوج ولم يدخل حنث إذ لم يترك ذلك، والحالف أن يتزوج حالف أن
يتزوج وأن يدخل فإن تزوج ولم يدخل لحنث، إذ ترك ذلك إلا أن يكون موضع البر
لم يفته بعد، فيبر بالدخول، وعلى هذا فقس ما ورد عليك من هذا الباب، ولهذا
المعنى كان ما حرمه الله بالنكاح كزوجة الأب على الابن وزوجة الابن على
الأب تحرم بالعقد، وما أحله به كالمطلقة ثلاثا لا تحل إلا بالدخول وبالله
التوفيق.
[مسألة: رجل كان له ربيب يأتي إلى بيته بخبز
فقال له رابه أمك طالق إن أنت جئت إلي بيتي بخبز]
مسألة وعن رجل كان له ربيب يأتي إلى بيته بخبز فقال له رابه: أمك طالق إن
أنت جئت إلي بيتي بخبز ووجدته لأطرحنه في الخربة، فدخل عليه الغلام وهو
جالس ومعه خبز فوضعه على
(6/164)
سريره وهو ينظر، فسخبت له أمه فخرج بالخبز.
قال إن كان يقدر أن يأخذ الخبز فتوانى فأراه حانثا، وإن كان فاته هربا ولو
أراد أخذه لم يقدر عليه فلا حنث عليه.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة على أصولهم لا اختلاف في أن من حلف ألا
يفعل فعلا فلم يمكنه فعله حتى فات فواتا لا يمكنه البر فيه بعدم الإمكان
فلا حنث عليه كمسألة الحمامات من نذور المدونة، ومن حلف ليضربن عبده فمات
قبل أن يمكنه أن يضربه، وما أشبه ذلك، وإنما اختلف إذا لم يمكنه الفعل لمنع
المشرع منه، وقد مضى هذا المعنى مشروحا مبينا في رسم طلق من سماع ابن
القاسم وفي غيره من المواضع، ومعنى سخبت به أمه صاحت؛ لأن السخب ارتفاع
الأصوات وهو يكتب بالصاد والسين، وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف سيد الجارية بطلاق امرأته البتة إن
لم يبعها إياه بمائة دينار قائمة]
مسألة وكتب إلى ابن القاسم وسئل عن رجل كان قاعدا هو ورجل آخر حتى أقبلت
جارية للرجل فقال له عبد الله وهو الجالس مع صاحب الجارية هذه جاريتك؟ قال:
نعم، قال أتبيعنيها بمائة دينار؟ فقال الرجل سيد الجارية: أتأخذها بمائة
دينار؟ قال عبد الله نعم أنا آخذها بمائة دينار، فقال الرجل سيد الجارية
يمينك في يميني أن تأخذها بمائة دينار، قال عبد الله: نعم، فحلف سيد
الجارية بطلاق امرأته البتة إن لم يبعها إياه بمائة دينار قائمة، فنهض عبد
الله وفارق سيد الجارية فغاب عنه قدر أربعة أيام، ثم قدم على صاحب الجارية
فأرسل إليه رجالا يسألونه أن يأخذها بمائة دينار ثم يقيله منها، فقال لهم
سيد الجارية إن كان هذا الأمر لا يدخل علي ولا على صاحبي أمرا أكرهه فأنا
فاعل، وكان من قول الرجلين اللذين أتيا سيد الجارية إن عبد الله يكسو
الجارية
(6/165)
بدينارين ويقيله منها، فقال لهم سيد
الجارية: نعم أنا فاعل إن كان هذا الأمر لا يدخل علي فيه مكروه، فدفعوا إلى
سيد الجارية الدينارين ثم ذهبوا فأتوا بعبد الله ومعه مائة دينار، فقال له
خذ ثمن جاريتك، فقال له سيد الجارية (دنانيرك قائمة قال له عبد الله: نعم
فعد له مائة دينار حتى صارت في يدي صاحب الجارية فطلب إلى سيد الجارية)
النفر الذين جاؤوا معه فرد الرجل المال إلى عبد الله مكانه ثم مر بذلك أيام
فأخذ سيد الجارية الدينارين اللذين دفعهما إليه فوزنهما فإذا هما ناقصان،
فأتى بهما إلى الرجلين اللذين طلبا لعبد الله، فقال: إن هذين الدينارين
ناقصان، فقالوا له: هما بوزن المائة التي دفعت إليك، فقال الرجل كيف يقول
عبد الله إنها قائمة كلها، وإنما خشي الرجل أن يكون دخل عليه بذلك في يمينه
شيء لأنه يرى أن قبضه تلك المائة هو حقه ومبايعته صحيحة، فأحببنا علم رأيك.
فقال ابن القاسم: قد فهمت كتابك. أما البائع فليس عليه من الحنث قليل ولا
كثير، باعها بالثمن أو بأقل إذا أمكن المشتري من الجارية بالمائة التي حلف
عليها ولم يحلف على ألا ينقصه إنما حلف على أن يعطيها إياه بمائة دينار،
ولو أعطاه إياها بتسعين دينارا ما كان حانثا، وإنما يحنث لو لم يبعها إياه
بالمائة ولم يمكنه منها حتى تزداد على المائة، ولم يحلف على ألا ينقصه من
المائة، إنما حلف أن يمكنه منها بمائة، وإنما الحنث على المشتري فيما دخل
فيه وأرى الحنث قد لزمه، والبائع فلا حنث عليه.
(6/166)
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة
واضحة لا إشكال فيها ولا احتمال في شيء من معانيها؛ لأن صاحب الجارية إنما
حلف ليبيعنها بمائة دينار قائمة، فمعنى يمينه إن شاء الله أن يأخذها، فإذا
أمكنه منها بالمائة فقد بر ذ لم يحلف عليه أن يشتريها منه بالمائة،
والمشتري حانث لأنه حلف أن يشتريها بالمائة إن أمكنه صاحبها منها بالمائة
ثم لم يشترها إذ لم يأخذها بالمائة إلا على شرط أن يقيله منها، وهذا بين
وبالله التوفيق.
[مسألة: قال لغريمه امرأته طالق إن لم يوفه حقه
في شعبان ورمضان]
مسألة وسئل عن رجل قال لغريمه امرأته طالق إن لم يوفه حقه في شعبان ورمضان.
قال إن قضاه في شعبان الحق كله أو بعضه وقضاه بقيته في رمضان فلا حنث عليه،
وإن لم يقضه في شعبان شيئا وقضاه جميع الحق في رمضان فهو حانث، وكان أحب
إلي أن لو قضاه نصف الحق في شعبان ونصفه في رمضان، ولكن لا حنث عليه إذا
قضاه ثلثا أو ربعا أو بعضه في شعبان وقضاه بقيته في رمضان، وأما إذا قضاه
جميع الحق في شعبان فلا حنث عليه.
قال محمد بن رشد: لا إشكال في أنه إذا قضاه جميع الحق في شعبان أو قضاه منه
في شعبان الثلث فما فوق وقضاه بقيته في رمضان فقد بر ولا حنث عليه؛ لأن
الثلث آخر حد اليسير وأول حد الكثير، وأما إذا لم يقضه منه في شعبان إلا
يسيرا لا قدر له ولا بال فهو حانث وقوله في الرواية ثلثا أو ربعا أو بعضه
يدل على أنه يبر إذا قضاه منه في شعبان أقل من الربع وهو الخمس ونحوه.
ومعنى ذلك عندي في المال الكثير الذي يكون الخمس منه ونحوه له قدر وبال
استحسانا أيضا على غير قياس، وأما إن
(6/167)
كان المال يسيرا فلا يبر إلا أن يقضيه في
شعبان الثلث فأكثر، والقياس أن يكون المال القليل والكثير في ذلك سواء لا
يبر إلا أن يقضيه منه في شعبان الثلث فأكثر؛ لأنه إذا ثبت الفرق في ذلك بين
القليل والكثير ووجب الفصل بينهما لم يوجد في ذلك حد يصار إليه إلا الثلث
الذي قام الدليل من كتاب الله وسنة نبيه على أنه آخر حد اليسير وأول حد
الكثير، وقد قالوا في الرجل يحلف ليرضين رجلا من حقه أنه يبر بأن يقضيه ثلث
حقه فأكثر حسب ما مضى القول فيه في رسم سلف من سماع عيسى من كتاب النذور،
وهذا من معناها؛ لأن الحالف لما علم أن صاحب الحق لا يرضى منه أن يقضيه حقه
حلف ليقضينه إياه في شعبان فوجب ألا يبر إلا بأن يقضيه منه في شعبان ثلثه
وبالله التوفيق.
[مسألة: قال لامرأته أنت طالق اليوم إن دخل
فلان غدا الحمام]
مسألة وسئل عن رجل قال لامرأته أنت طالق اليوم إن دخل فلان غدا الحمام.
قال: لا يطلق عليه حتى يدخل، قال ويمسها.
قال محمد بن رشد: هذا كلام فيه تجوز، وقد وقع مثله في كتاب الظهار من
المدونة في باب الظهار إلى أجل، فليس على ظاهره؛ لأن فيه تقديما وتأخيرا،
ومعناه على الحقيقة دون تقديم وتأخير: وسئل عن رجل قال اليوم لامرأته أنت
طالق إن دخل فلان غدا الحمام، فهذا صواب الكلام وعليه أتى الجواب لأنه قال
لا يطلق عليه حتى يدخل. وقوله قال ويمسها يريد فيما بينه وبين غد، وهو صحيح
لأنها يمين بالطلاق هو فيها على بر، فلا اختلاف في أن له أن يطأ إلى الأجل
وبالله التوفيق.
[مسألة: يقول إن أكلت من طعام أخي فامرأته طالق
فيصحبه في سفر فيشتريان طعاما]
مسألة وسئل عن الرجل يقول إن أكلت من طعام أخي فامرأته
(6/168)
طالق، فيصحبه في سفر فيتمازجان فيشتريان
طعاما فيكون طعامهما واحدا.
قال ابن القاسم أحب إلي ألا يفعل، قيل قد فعل، قال فإن كان لم يتفضله في
النفقة وكانت النفقة بينهما سواء فلا حنث عليه، وإن تفضله بالنفقة فقد حنث.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة والقول فيها مستوفى في رسم أوله يدير
ماله من سماع عيسى من كتاب النذور، فمن أحب الوقوف على ذلك تأمله وبالله
التوفيق.
[مسألة: حلف بطلاق امرأته ألا يستخدم عبد فلان
وعتق العبد فاستخدمه]
مسألة وسئل عن رجل حلف بطلاق امرأته ألا يستخدم عبد فلان وعتق العبد
فاستخدمه، قال إن كانت له نية ما دام في ملكه فلا حنث عليه وينوى وإن لم
تكن له نية فهو حانث.
قال محمد بن رشد: رأيي في هذه الرواية أن العبد يتعين بإضافته إلى سيده إذ
قال عبد فلان وإن لم يسم العبد باسمه ولا أشار إليه فقال إنه يحنث إن
استخدمه بعد العتق إلا أن ينوي ما دام في ملكه، ومثله يأتي في رسم الرهون
من هذا السماع خلاف ما في رسم يشتري الدور والمزارع من سماع يحيى في مسألة
الجنان، وخلاف ما في كتاب النذور من المدونة من أن ذلك لا يتعين إلا
بالتسمية له أو الإشارة إليه وكذلك إذا قال الرجل للكري أكتري منك دابتك
وليس له إلا دابة واحدة فتتعين على هذا القول، ولا تتعين على القول الأول
إلا أن يقول دابتك هذه أو دابتك الفلانية. وأما إذا كانت لرجل دواب كثيرة
أو عبيد كثيرة فلا اختلاف في أنه لا يتعين منهم شيء إلا بتسمية أو إشارة
إليه، وبالله التوفيق.
(6/169)
[مسألة: حلف أن
يطأ امرأته فوطئها وهي حائض]
مسألة قال ومن حلف أن يطأ امرأته فوطئها وهي حائض أو في يوم رمضان نهارا
فلا يبر، ومن حلف ألا يطأها فوطئها وهي حائض أو نهارا في رمضان فقد حنث.
قال محمد بن رشد: تفرقته في هذه المسألة بين البر والحنث ليس بجيد؛ لأن ذلك
إنما يفترق في معنى الخصوص والعموم حسب ما مضى القول فيه في أول هذا الرسم.
وقد ذكر ابن المواز عن ابن القاسم أنه تزول يمينه عنه بذلك الوطء ويأثم ولا
حنث عليه، وهذا هو الصواب أن يبر بهذا الوطء كما يحنث به، أو ألا يحنث به
كما لا يبر به، فمن حمل يمينه على مقتضى اللفظ رأى أنه يحنث به إذا حلف ألا
يفعل ويبر به إذا حلف ليفعلن؛ لأنه وطأ في كلا الحالتين على الحقيقة، وإن
كان الشرع قد حظر أحدهما. ومن حمل يمينه على الوطء الحلال لأنه رأى أن ذلك
هو مقصد الحالف بيمينه لم ير الحنث بالوطء في الحيض إذا حلف ألا يطأ، ولا
أن يبر به إذا حلف ليطأن وبالله التوفيق.
[حلف لرجل فقال امرأته طالق البتة إن لم أقضك حقك غدا يوم الجمعة وهو يظن
أنه الجمعة]
ومن كتاب أوله سلف دينارا في ثوب
وقال في رجل حلف لرجل فقال امرأته طالق البتة
إن لم أقضك حقك غدا يوم الجمعة وهو يظن أنه الجمعة فإذا هو الخميس،
قال إن لم يقضه ذلك يوم الخميس حنث لأن يمينه كانت على الخميس حين قال غدا،
فكانت يمينه على غد، قيل له فإن قال يوم الجمعة غدا فإذا هو الخميس فقال:
هذا ضلال أهل العراق يقولون إذا قدم أو أخر؟ ورأى ابن القاسم ذلك كله
واحدا؛ لأن يمينه على غد حين سمى غدا. وقاله أصبغ وقال هو أحب ما سمعت إلي،
وهو رأيي إلا أن يستثني إن كان غدا الجمعة استثنى تحرك به لسانه ويسمع نفسه
فأراه ينفعه.
(6/170)
قال محمد بن رشد: قوله ورأى ابن القاسم ذلك
كله واحدا يدل على أن الجواب المتقدم لمالك، يدل على ذلك أيضا قوله: هذا
ضلال أهل العراق، ولأنه يعرف من مذهبه الطعن عليهم، وأما ابن القاسم فكثير
ما يميل إلى مذاهبهم في مسائله ويراعي أقوالهم فيها، وقوله في هذه المسألة
صحيح على أصل مذهبه في ترك الاعتبار بمجرد الألفاظ في الأيمان إذا ثبتت
المعاني المقصودة بها وعدمت من النيات؛ لأن المعلوم من قصد الحالف ليقضين
أو ألا يقضي تعجيل القضاء أو تأخيره لا تسمية اليوم، فإذا قال الرجل امرأتي
طالق إن لم أقضك حقك غدا أو بعد غد يوم كذا أو يوم كذا غدا أو بعد غد فإنما
تحمل يمينه على غد إن كان ذكر غدا أو على بعد غد إن كان ذكر بعد غد، ولا
يلتفت لتسمية إياه بيوم كذا أصاب في ذلك أو أخطأ فيه، إلا أن يريد اليوم
الذي يسمى بذلك الاسم ويأتي مستفتيا فينوى في ذلك، وأما مع قيام البينة
عليه فلا تقبل منه النية ولا يصدق فيها، وهو قول أصبغ ألا أن يستثني إن كان
غدا الجمعة استثناء يحرك به لسانه ويسمع نفسه فأراه ينفعه، يريد فيما بينه
وبين الله، وأما في الحكم فلا إلا أن يشهد على ذلك من استثنائه، وقول أهل
العراق في تفرقتهم بين أن تقول غدا يوم الجمعة ويوم الجمعة غدا هو صحيح على
أصولهم في الاعتبار بما يقتضيه مجرد الألفاظ دون مراعاة المعاني والمقاصد؛
لأنه إذا حلف ليقضينه حقه غدا يوم الجمعة فاليمين إنما وقعت في مقتضى
اللسان على القضاء غدا، ووصفه لغو في يمينه بأنه يوم الجمعة غلط منه فلا
يلتفت إليه، وإذا حلف ليقضينه حقه يوم الجمعة غدا فاليمين إنما وقعت في
مقتضى اللسان على القضاء يوم الجمعة، ووصفة ليوم الجمعة في يمينه بأنه غذ
غلط، فلا يلتفت إليه، فهذا وجه القول في هذه المسألة والله أعلم.
[مسألة: حلف على قريب له ألا يعيره ثوبا أبدا
فوهبه له]
مسألة وسئل عن رجل حلف على قريب له ألا يعيره ثوبا أبدا فوهبه له.
(6/171)
قال إن كان رأى ألا ينفعه هو حانث، وإن لم
يكن أراد المنفعة فالهبة غير العارية فلا أرى عليه شيئا.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد تكررت في رسم يدير ماله من هذا السماع من
كتاب النذور، ومضى القول عليها هناك مستوفى فليتأهله من أحب الوقوف عليه
وبالله التوفيق.
[مسألة: قال لامرأته أنت طالق إن قبلتني
فتستغفله وتقبله]
مسألة وقال: من قال لامرأته أنت طالق إن قبلتني فتستغفله وتقبله أنه حانث
إلا أن يكون قال إن قبلتك فتستغفله فتقبله فلا حنث عليه، وكذلك إن قال إن
فارقتني أو فارقتك أو تركتني أو تركتك فتنتزع منه بشدة أو بسرعة أو بفك يده
فتهرب منه، المسألة الأولى سواء، وكذلك ضاجعتني وكذلك إن قال إن دخلت عنده
الدار فيوثق حتى يدخلها فلا شيء عليه، كأنه يقول يحنث في أحدهما ولا يحنث
في الأخرى، والحنث في الذي يقول إن فعلت، والبر في الذي يقول إن فعلت
فتستغفله حتى تفعل ذلك أو يكره عليه.
قال محمد بن رشد: ساوى في هذه الرواية بين أن يقول إن قبلتني أو قبلتك أو
تركتني أو تركتك أو فارقتني أو فارقتك أو ضاجعتني أو ضاجعتك وقال إنه إذا
قال إن قبلتك أو تركتك أو فارقتك أو ضاجعتك فقبلته هي أو تركته أو فارقته
أو ضاجعته ولم يفعل هو بها شيئا من ذاك بل غلبته عليه بقبلة أو قهرة أو ما
أشبه ذلك أنه لا حنث عليه، وهو صحيح وان كانت المفارقة والمضاجعة مفاعلة من
الحالف والمحلوف عليه، والتقبيل والترك فعل من الحالف وحده لأن المفاعلة من
غير المفاعلة إنما تفترق فيما يقتضيه اللفظ في حكم اللسان، لا فيما يقع به
الحنث مما لا
(6/172)
يقع في حكم الشرع، وذلك أن الذي يحلف ألا
يضاجع امرأته لا يحنث على ما يقتضيه اللسان إلا بتضاجعهما معا، ولا يحنث إن
ضاجع أحدهما صاحبه الآخر ولم يضاجعه الآخر وفي حكم الشرع يحنث إذا ضاجع
امرأته ولم تضاجعه كما يحنث إذا ضاجعها وضاجعته؛ لأن الحنث يدخل بأقل
الوجوه، ولا يحنث إذا ضاجعته ولم يضاجعها إذ لم يكن منه شيء يحنث به، فلما
كان يحنث بمضاجعته إياها ضاجعته هي أو لم تضاجعه ولا يحنث بمضاجعتها إياه
إذا لم يضاجعها هو صار حلفه ألا يضاجع امرأته بمنزلة حلفه ألا يضطجع إلى
جنبها وألا يقبلها وألا يتركها، وكذلك القول في المفارقة كالقول في
المضاجعة وفرق في المدونة بين الذي يحلف ألا يضاجع امرأته وألا يفارق غريمه
من جهة المعنى لا من جهة افتراق اللفظ؛ لأن المضاجعة مفاعلة كالمفارقة فقال
في الذي يحلف ألا يضاجع امرأته إنه لا يحنث إن ضاجعته ولم يضاجعها مثل قوله
هاهنا، وقال في الذي يحلف ألا يفارق غريمه فهرب وفر منه إنه حانث إلا أن
ينوي غلبته إياه؛ لأنه إذا فر عنه وهو قادر على منعه فقد فارقه، وكذلك أيضا
لو ضاجعته امرأته وهو قادر على منعها لكان قد ضاجعها ولزمه الحنث، فتفرقته
في المدونة بين المفارقة والمضاجعة إنما هو لافتراق المعنى عنده في قصد
الحالف فحمله في المفارقة على أنه إنما أراد أن يمنعه من مفارقته إياه فرآه
حانثا إذا فارقه إلا أن ينوي أنه إنما فارقه بغلبته إياه على ذلك، وحمله في
المضاجعة على ما يقتضيه اللفظ فلم يره حانثا إذا ضاجعته إلا أن يكون تراخى
لها في مضاجعتها إياه حتى أمكنها من ذلك والله أعلم.
[مسألة: حلف بالله أو بالطلاق أو غيره أن يصوم
غدا فيصبح صائما ثم يأكل شيئا]
مسألة وقال في الرجل يحلف بالله أو بالطلاق أو غيره أن يصوم غدا فيصبح
صائما ثم يأكل شيئا: إنه لا شيء عليه.
(6/173)
قال محمد بن رشد: إنه إنما قال إنه لا شيء
عليه لأن الأكل ناسيا لا يخرجه عن أن يكون صائما، بخلاف ما لو أصبح مفطرا
ناسيا، وقد قال ابن دحون: إنها مسألة حائلة، والحنث يلزمه على أصولهم فيمن
حلف ألا يفعل شيئا ففعله ناسيا، وليس ذلك بصحيح؛ لأن أكثر أهل العلم لا
يوجبون القضاء على من أفطر في رمضان ناسيا للحديث الوارد في ذلك، وقد مضت
هذه المسألة والقول فيها في سماع عيسى من كتاب الصيام ومن كتاب النذور
وتأتي في سماع أبي زيد من هذا الكتاب.
[مسألة: حلف بطلاق كل امرأة يتزوجها إلا كفؤا]
مسألة وقال في رجل حلف بطلاق كل امرأة يتزوجها إلا كفؤا، فاشترى جارية
فاعتقها ثم تزوجها وهو ناس ليمينه وهو في نيته من الموالي: إنه إن كان أراد
الكفؤ في الحسب ولم يرد الكفؤ في الدين فهو حانث لأن مولى الرجل الذي يعتق
ليس كفؤا.
قال محمد بن رشد: هذا بين أنه إن أراد الكفؤ في الحسب، ولم يرد الكفؤ في
الدين أنه حانث وإن أراد الكفؤ في الدين فلا حنث عليه إن كانت كفؤا له في
الدين، وإن لم تكن له نية ولا كان ليمينه بساط تحمل عليه لوجب أن تحمل
يمينه على الكفاءة في الدين لقول الله عز وجل: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ
اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] ، وهو قول عمر بن الخطاب: كرم المؤمن
تقواه ودينه حسبه، وقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إن الله قد أذهب
عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء، الإنسان مؤمن تقي أو فاجر شقي، أنتم
بنو آدم وآدم من تراب» ، وقال: «ليس لأحد على أحد فضل إلا بدين أو عمل
صالح» . وروي «أن أبا الدرداء توفي له أخ من أبيه وترك أخا له
(6/174)
من أمه. . فنكح امرأته فغضب حين سمع ذلك،
وأقبل إليها فوقف عليها وقال: أنكحت ابن الأمة؟ فردد ذلك عليها، فقالت:
أصلحك الله إنه كان أخ زوجي، وكان أحق بي وبمصابي وولده، فسمع بذلك رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأقبل إليه حتى وقف عليه، ثم
ضرب على منكبيه فقال: يا أبا الدرداء يا ابن ماء السماء، طف الصاع، طف
الصاع، طف الصاع» ، وطفاف الصاع هو نقصانه على أن يمتلئ، فأعلم - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بتساويه معه ومع الناس في النقصان بقوله طف
الصاع طف الصاع وأن يتباينوا بالنقصان بقدر أعمالهم المحمودة إذ لا يدرك
أحد بنفسه درجة الكمال.
[مسألة: يقول لامرأته إذا قدم أبي فأنت طالق]
مسألة قال ابن القاسم: بلغني عن مالك أنه قال للذي يقول لامرأته: إذا قدم
أبي فأنت طالق إنه لا شيء عليه حتى يقدم أبوه.
قال القاضي: هو صحيح. ومثله في المدونة وغيرها لا اختلاف في ذلك لأنه مطلق
إلى أجل قد يكون وقد لا يكون وليس الأغلب منه أن يكون ومثله في إلا أن
يكون، ولو كان الأغلب منه أن يكون لعجل عليه الطلاق عند ابن القاسم خلافا
لأشهب، ولو كان لا بد أن يكون قبل انقضاء ما يعمران إليه لعجل عليه الطلاق
بإجماع في المذهب، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال لامرأته إذا قدمت بلد كذا فأنت
طالق]
مسألة قال ابن القاسم ولو أن رجلا قال لامرأته إذا قدمت بلد كذا
(6/175)
فأنت طالق كانت بمنزلته لأنه ضرب أجلا لا
يدري أيبلغه أم لا، وليس هو بمنزلة من يقول أنت طالق يوم يموت أبي.
قال محمد بن رشد: في أول سماع زونان عن ابن القاسم في رجل قال لامرأته إذا
بلغت معي موضع كذا فأنت طالق. فال: هي طالق تلك الساعة، كالرجل يقول
لامرأته وهي حامل إذا وضعت فأنت طالق، فذهب ابن لبابة إلى أن ذلك ليس
باختلاف من قوله، وأن معنى رواية عيسى إذا لم يخرج ولا عزم على المسير.
ومعنى رواية زونان إذا كان قدا خرج وعزم على المسير. والصواب أن ذلك اختلاف
من قوله؛ لأن في المدونة عنه من رواية عيسى أنه لا يقع عليه الطلاق وإن خرج
متوجها حتى يقدم الموضع، وله في رسم يدير ما له من سماع عيسى من كتاب العتق
في الذي يقول لعبده: إذا بلغت الإسكندرية فأنت حر ثم بدا له في الخروج، أنه
حر إلى ذلك القدر الذي يبلغ خرج أم لم يخرج، فعلى هذا يعجل عليه الطلاق وإن
لم يخرج.
فيتحصل في المسألة ثلاثة أقوال: أحدها أنه لا يعجل عليه الطلاق وإن لم
يخرج، وهو ظاهر ابن القاسم في سماع زونان، والذي يأتي على ما في سماع عيسى
من كتاب العتق، والثاني أنه لا شيء عليه حتى يقدم البلد وإن خرج، وهو قول
ابن القاسم في المدونة وظاهر قوله في هذه الرواية، والثالث الفرق بين أن
يكون قال ذلك قبل أن يخرج أو بعد أن خرج وروى ذلك زياد بن جعفر عن مالك في
المدنية وهو الذي ذهب إليه ابن لبابه وبالله التوفيق.
[مسألة: طلق إلى أجل يعلم أنه لا يبلغه عمر أحد]
مسألة قال ابن القاسم: ومن طلق إلى أجل يعلم أنه لا يبلغه عمر أحد مثل أن
يقول مائة سنة أو مائتي سنة فهذا لا شيء فيه ولا طلاق عليه.
(6/176)
قال محمد بن رشد: هذا صحيح مثل ما في
المدونة وغيرها، ولا اختلاف في ذلك، والحد في ذلك بلوغ أجل التعمير على
الاختلاف فيه من السبعين إلى مائة وعشرين وبالله التوفيق.
[مسألة: يقول كل امرأة أتزوجها بالمدينة طالق]
مسألة وقال في الذي يقول كل امرأة أتزوجها بالمدينة طالق قال لا بأس أن
يواعدها إذا تزوجها بغير المدينة وعقد نكاحها بغيرها.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأن المواعدة ليست بعقد فإذا واعدها
بالمدينة وعقد نكاحها بغيرها لم يلزمه شيء، ولا يدخل في هذا الاختلاف فيمن
واعد في العدة وتزوج بعد العدة إذ لا يقوى قوته؛ لأن النكاح في العدة محرم
بالقرآن والإجماع، والمواعدة فيها مكروهة لنهي الله تعالى، وحلف الرجل
بطلاق ما يتزوج وإن خص مختلف في لزومه بين أهل العلم، وقد مضى في رسم
الطلاق الأول من سماع أشهب الاختلاف في حد ما يلزمه، أن يتباعد من المدينة
إذا أراد عقد نكاحها فلا معنى لإعادة ذكره، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال كل امرأة أتزوجها اثني عشر شهرا
فهي طالق]
مسألة وقال في رجل قال كل امرأة أتزوجها اثني عشر شهرا فهي طالق فتزوج
امرأة ثم قال لها إن طلقتك إلى كذا وكذا فكل مملوك لي حر، فشهد شاهدان على
أصل يمينه، قال: لا عتق عليه في رقيقه لأنها طالق من أول ما تزوجها ولم
[يبتدئ] لها طلاقا.
قال محمد بن رشد: هذا بين لا إشكال فيه أنه لا يلزمه في عبيده
(6/177)
شيء؛ لأنه إنما حلف بطلاقها فيما يستقبل،
وهي مطلقة من أول ما تزوجها بائنة منه؛ لأن الطلاق يقع عليها بالعقد، فهي
مطلقة قبل الدخول، ولو تزوجها ثانية للزمه فيها طلقة بائنة، وعتق عليه بذلك
عبيده وبالله التوفيق.
[مسألة: يقول لامرأته أنت طالق بعد أن أموت أو
تموت]
مسألة وقال ابن القاسم في الذي يقول لامرأته أنت طالق بعد أن أموت أو تموت:
فليس ذلك بشيء؛ لأن مالكا قال: لا حنث عليه بعد الموت، ولو كان قال لها أنت
طالق يوم أموت أو يوم تموتين فيه، فهي طالق الساعة وهي بمنزلة من طلق
امرأته إلى أجل.
قال محمد بن رشد: لأشهب في المجموعة أنه لا شيء عليه، وكذلك لو قال قبل
موتي بشهر، وهو على أصله في العتق إلى مثل هذا أنه من الثلث؛ لأنه لا يكشفه
إلا الموت، وبالله التوفيق.
[مسألة: يقول لامرأته علي نذر أن أطلقك]
مسألة قال ابن القاسم في الرجل يقول لامرأته علي نذر أن أطلقك: ليس عليه
كفارة يمينه ولا غيره لأن إنما كان في الطلاق، والطلاق ليس هو مما يوفى لله
به، وهو بمنزلة من قال لامرأته لله علي أن أطلقك ولم يؤمر بالوفاء به، وهو
بمنزلة الذي يقول لله علي نذر ألا أكلمك فكلمه فلا شيء عليه؛ لأن نذره إنما
كان في ترك كلامه.
قال محمد بن رشد: هذا كله كما قال وهو مما لا اختلاف فيه والأصل في ذلك قول
النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن
يعصيه فلا يعصه» .
(6/178)
فالنذور تنقسم على أربعة أقسام، نذر في
طاعة يلزم الوفاء به، ونذر في معصية يحرم الوفاء به، ونذر في مباح يباح
الوفاء به وترك الوفاء به ونذر في مكروه يكره الوفاء به. وإذا لم يسم للنذر
مخرجا فكفارته كفارة يمينه، وإذا سمى له مخرجا فلا كفارة له إلا الوفاء به
إن كان مما يجب الوفاء به على ما ذكرناه وقد روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن من نذر معصية فكفارته كفارة يمين» وذهب إلى هذا
جماعة من العلماء، وليس عليه في ذلك عند مالك إلا الاستغفار، وبالله
التوفيق.
[مسألة: قال لامرأته إن تغيبت عنك فأنت طالق]
مسألة وقال في رجل قال لامرأته: إن تغيبت عنك فأنت طالق، فعرضت له حاجة
فخرج ولم يكن وجه لغيبته عنها، فلاشيء عليه ولا حنث إلا أن يكون أراد بذلك
إن غبت عنك.
قال محمد بن رشد: هذا بين عله ما قال لا وجه للقول فيه، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال إذا وطئتك أو قال إن وطئتك كذا
وكذا وطئة فأنت طالق البتة]
مسألة وقال ابن القاسم: وإذا قال إذا وطئتك أو قال إن وطئتك كذا وكذا وطئة
فأنت طالق البتة، فذلك كله سواء، هو قول يطلق عليه إذا مضى أربعة أشهر من
يوم قال ذلك، قال: وأرى فيه إيلاء.
قال محمد بن رشد: أما إذا قال إذا وطئتك فأنت طالق البتة فهو
(6/179)
مول من يوم حلف، كالحالف على ترك الوطء
بغير الطلاق تطلق عليه إذا أبى الفيء بالوطء، عند انقضاء أربعة أشهر على ما
في أصل الأسدية، وظاهر قول ابن القاسم في المدونة وفي هذه الرواية، وقد مضى
الاختلاف في ذلك وتحصيل القول فيه في رسم باع شاة من سماع عيسى من كتاب
الإيلاء.
وأما إذا قال إن وطئتك كذا وكذا وطئة فلا يكون موليا من يوم حلف إلا على
القول بأن من قال إن وطئت امرأتي كل عبد يشتريه من الفسطاط فهو حر إنه مول،
وهو أحد قولي ابن القاسم في المدونة؛ لأنه يمتنع من الوطء وإن كان لا يلزمه
به شيء مخافة أن يلزمه به عتق ما يشتري من الفسطاط. وكذلك هذا إذا قال إن
وطئت امرأتي وطئتين يمنع من الوطأة الأولى وإن كان لا يلزمه بها شيء مخافة
أن يلزمه الطلاق إن وطئ ثانية، وكذلك لو قال إن وطئت امرأتي ثلاث مرات يمنع
من الوطأة الأولى مخافة إن وطئ ثانية أن يلزمه الطلاق إن وطئ ثالثة، فكذلك
ما زاد، على هذا القياس، إلا أنه كلما زاد ضعف لزوم الإيلاء ابتداء حتى إذا
لم تبق له إلا وطئة واحدة فحينئذ يكون بمنزلة من قال امرأتي طالق ثلاثا إن
وطأتها، فمساواته بين المسألتين إنما يأتي على قياس هذا القول، وعليه يأتي
قول أصبغ أن من حلف ألا يطأ امرأته في هذه السنة إلا مرتين أنه مولي؛ لأن
من حلف ألا يطأ امرأته كذا وكذا وطئة لا يحنث إلا بالوطئة الأخيرة ويدخل
عليه الإيلاء ابتداء على أحد القولين المذكورين، ويحتمل أن يريد بقوله:
فذلك كله سواء، أنه سواء في أنه مولي إذا قال إذا وطأتك فأنت طالق البتة،
ومولي إذا قال إن وطأتك كذا وكذا وطئة فأنت طالق البتة إذا وطئ حتى إذا لم
يبق له من عدد الوطئات إلا وطئة واحدة، وهذا أصح في المعنى، والأول أظهر من
اللفظ والله أعلم.
[مسألة: قال لامرأته أنت طالق البتة إن خرجت
إلى دار فلان إلا بإذني]
مسألة وقال: إذا قال لامرأته أنت طالق البتة إن خرجت إلى دار
(6/180)
فلان إلا بإذني ثم قال لها اخرجي إلى حيث
شئت أو اخرجي إلى دار فلان تلك متى شئت أو كلما شئت: أنه لا شيء عليه،
وإنما تفسير مسألة مالك إلى موضع إنما ذلك إلى موضع من المواضع فإن ذلك لا
ينفعه وإن أذن لها؛ لأنه إنما أراد إلى موضع من المواضع يعلمه إلا أن يأذن
لها عند كل ما ينوبها الخروج إلى موضع وتخبره بالمكان وإلا حنث، وقال في
سماع يحيى بن يحيى من كتاب الصلاة: وتخبره بالموضع التي تستأذن إليه وإلا
حنث.
قال محمد بن رشد: تحصيل القول في هذه المسألة أن الرجل إذا حلف على امرأته
ألا تخرج فليس لها أن تخرج إلى موضع من المواضع وإن أذن لها، وإذا حلف ألا
يأذن لامرأته أن تخرج فلها أن تخرج حيث ما شاءت إذا لم يأذن لها، وإذا حلف
ألا تخرج إلا بإذنه ولم يقل إلى موضع ولا إلى موضع من المواضع فيجزيه أن
يقول لها اخرجي حيث شئت أو كلما شئت، فيكون لها أن تخرج حيث شاءت وكلما
شاءت ولا يحنث، فإن أذن لها إلى موضع بعينه فذهبت إلى غيره حنث، فإن ذهبت
إليه ثم ذهبت منه إلى غيره فقيل لا يحنث وهو قول ابن القاسم في الواضحة
وقيل يحنث وهو قول ابن القاسم في سماع أبي زيد وقول أصبغ في نوازله، وقال
في الواضحة فإن رجعت تاركة للخروج ثم خرجت ثانية من غير إذنه حنث، وان رجعت
من الطريق لشيء نسيته وما أشبه ذلك من شيء تتجمل به ونحوه ثم خرجت ثانية
على الإذن الأول فقيل يحنث وقيل لا يحنث، اختلف في ذلك قول ابن القاسم، فله
في سماع أبي زيد أنه لا يحنث وهو قول مطرف وابن الماجشون وابن نافع، وله في
الواضحة أنه يحنث وهو قول أصبغ وأما إذا حلف ألا تخرج إلى موضع من المواضع
إلا بإذنه أو قال إلى موضع ولم يقل من المواضع فأذن لها إلى موضع بعينه
فخرجت إلى غيره أو إليه وإلى غيره حنث، وإن رجعت من الطريق لحاجة غير تاركة
الإذن ثم خرجت عليه ثانية فعلى ما تقدم من الاختلاف، وإن قال لها
(6/181)
اخرجي حيث شئت فقيل لا يجزيها [عن] الإذن
وليس لها أن تخرج حتى تستأذنه في كل مرة وتعلمه بالموضع الذي تخرج إليه،
وهو قول ابن القاسم وروايته عن مالك هاهنا وهو قول مطرف وأصبغ، وقيل يجزيها
عن الإذن لها أن تخرج بغير إذنه إلى حيث شاءت؛ لأنه قد عم في الإذن لها وهو
قول ابن الماجشون وأشهب فإن رجع عن الإذن بعد أن أذن لها فقال لها لا تخرجي
فخرجت على الإذن الأول حنث، وقد قيل إنه لا يحنث، وقد مضى ذكر الاختلاف في
هذا المعنى في رسم يوصي فلا معنى لإعادته وبالله التوفيق.
[مسألة: قال يميني في يمينك ولم يبين شيئا حين
قال ذلك له فحلف فأنكر ذلك]
مسألة قال عيسى قال ابن القاسم: في رجل قال يميني في يمينك ولم يبين شيئا
حين قال ذلك له، فحلف بطلاق امرأته أو عتاق فأنكر ذلك وقال: لم أرد أن أحلف
بهذه الأيمان.
قال: إذا كان حين أنكر إنما كان يظن أنه يحلف بالله ولم يكن إرادته طلاقا
ولا عتقا فأنكر لم يلزمه، ولو أنه حين قال يميني في يمينك رضي بما حلف
مسلما ذلك له ولم يحول شيئا من شيء ولم يرعه لزمه اليمين ولم أر إنكاره
ينفعه شيئا إذا كان حين قال له يميني في يمينك لم ينو شيئا ولم تحضره النية
في اليمين.
قال محمد بن رشد: قد مضى بيان القول في هذه المسألة وما يجب أن تحمل عليه
الروايات فيها فلا وجه لإعادته وبالله التوفيق.
(6/182)
[مسألة: قال
لامرأته إن ولدت غلاما فلك مائة دينار وإن ولدت جارية فأنت طالق]
مسألة وقال في رجل قال لامرأته إن ولدت غلاما فلك مائة دينار، وإن ولدت
جارية فأنت طالق، إن الطلاق قد وقع عليه وأما المائة فلست أرى أن يقضى بها
لأنها هنا ليست بصدقة ولا هبة ولا على وجه ذلك.
قال محمد بن رشد: قوله إن الطلاق قد وقع عليه، يريد أن الحكم يوجب أن يعجل
عليه لأنه قد وقع عليه بنفس اللفظ حتى لو مات أحدهما بعد ذلك لم يتوارثا
وهذا قول مالك في المدونة في نحو هذا أنه يعجل عليه بالطلاق ولا يستأنى به
حتى ينظر ما تلد وقال ابن الماجشون وسحنون إنه يستأنى به، وقد مضى القول في
ذلك في رسم يوصى وأما قوله في المائة إنه لا يقضى بها فحمله محمل العدة لما
لم يقل في مالي ولا ذكر أنها هبة ولا صدقة ولا عطية فلذلك قال إنه لا يقضى
بها إذ ليست على سبب هو من فعل الموعود، والأظهر من هذا اللفظ التبتيل وأن
يحمل على أنه أراد ذلك في مالي مائة دينار عطية، فيحكم لها عليه بها ما لم
يذهب أو يمت أو يفلس، كما قال غير ابن القاسم في كتاب الشركة في الذي يقول:
لك ما أربح في هذه السلعة وإنما العدة أن يقول الرجل أنا أفعل، وأما إذا
قال قد فعلت فهي عطية، وقوله لك كذا وكذا أشبه بقد فعلت منه بأنا أفعل
وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف ألا يكلم رجلا فمر به وهو نائم
فقال أيها النائم الصلاة فإذا هو المحلوف عليه]
مسألة وقال في الرجل يحلف ألا يكلم رجلا فمر به وهو نائم فقال: أيها النائم
الصلاة، فرفع رأسه فإذا هو المحلوف عليه.
قال أراه حانثا قال وإن كان نائما مستثقلا لا يسمع كلامه فأراه أيضا حانثا،
وهو بمنزلة الأصم يكلمه ولا يسمع فهو حانث إذا كلمه وإن لم يسمع الأصم
كلامه، أرأيت لو أن رجلا حلف
(6/183)
ألا يكلم رجلا فكلمه وهو مشغول يكلم إنسانا
آخر أما كان حانثا؟ . قال: هو حانث.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: لأن تكليم الرجل الرجل هو أن يعبر له عما
في نفسه بلسانه عبارة يفهمها السامع، فإذا فعل ذلك فقد حصل مكلما له، فوجب
أن يحنث عرفه أو لم يعرفه، ناسيا كان ليمينه أو ذاكرا لها، سمعه أو لم
يسمعه إذا كان منه بحيث يمكن أن يسمعه؛ لأن يمينه تحمل على عمومها في جميع
ذلك إلا أن يخص شيئا منه بنية أو استثناء فيكون ذلك له ويصدق فيه فيما يحكم
عليه به إن جاء مستفتيا وأما إن كان بموضع لا يمكن أن يسمع كلامه فلا يحنث
لأنه ناعق وحده غير مكلم له، وهذا ما لا خلاف فيه أحفظه من المذهب، وقد مضى
في رسم الطلاق الثاني من سماع أشهب القول إذا كلم غيره وهو يريد أن يسمعه
وما يتعلق بذلك من الكتاب والرسالة وفي ذلك بيان لهذه المسألة وتتميم لها،
فليقف عليها من شاء في موضعها.
[مسألة: يقول لامرأته أنت طالق البتة أنت طالق
البتة أنت طالق البتة إن أذنت لك إلى موضع كذا]
مسألة وقال في الرجل يقول لامرأته أنت طالق البتة، أنت طالق البتة، أنت
طالق البتة إن أذنت لك إلى موضع كذا وكذا.
قال مالك: هو حانث أذن لها أو لم يأذن لها، قال ابن القاسم: كنت أرى أن
يحلف بالله الذي لا إله إلا هو ما أراد إلا أن يسمعها اليمين يرددها عليها،
فإن حلف دينته وإلا رأيته حانثا، وقد سمعت مالكا يراه حانثا ولا يدينه
ويقول: وما هو عندي بالبين، قال ابن القاسم: وإنما عنى مالك خوفا أن يكون
نادما أن يكون طلقها أولا البتة ثم ندم فأردف شيئا في كلامه يريد أن يتدارك
ما ندم عليه.
قال محمد بن رشد: قد تقدم القول على هذه المسألة في رسم
(6/184)
كتب عليه ذكر حق من سماع ابن القاسم فيكتفى
بذكره هناك عن إعادته هنا مرة أخرى وبالله التوفيق.
[مسألة: قال لامرأته إن ولدت غلاما إن لم أحج
بك فأنت طالق فولدت غلاما فأبت الحج]
مسألة وقال في رجل قال لامرأته إن ولدت غلاما إن لم أحج بك فأنت طالق فولدت
غلاما فأبت الحج.
قال إن كان ذلك منه على وجه أن يوفي لها به، مثل أن تسأله إن ولدت غلاما أن
يفعل كذا وكذا فحلف ليفعلن فإذا عرض ذلك فأبته فلا شيء عليه، وأما أن يكون
أعلن يمينه لمن ولدت لأفعلن كذا وكذا وليس ذلك منه على وجه العطية لها رأيت
ذلك يلزمه وإن أبت أجبرها على الحج.
قال محمد بن رشد: زاد في كتاب ابن المواز وإن كان ذلك منه على وجه العطية
لله لا على وجه العطية لها لزمه أن يخرج بها ويكرهها ولم يتكلم إذا لم تكن
له نية ولا كان ليمينه بساط يحمل عليه، والذي يأتي على أصولهم أنه إن لم
تكن له نية فهو حانث إن لم يخرج بها وإن ادعى أنه أراد بذلك العطية لها صدق
في ذلك وإن كانت على يمينه بينة إذ لا يتهم في ذلك لإرادته الخروج بها
وإبايتها هي وستأتي المسألة متكررة في أول سماع أبي زيد وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف بطلاق امرأته البتة إن كلم فلانا
إلا ألا يعرفه، فكلمه وهو يعرفه ناسيا ليمينه]
مسألة قال: وسئل مالك عمن حلف بطلاق امرأته البتة إن كلم فلانا إلا ألا
يعرفه، فكلمه وهو يعرفه ناسيا ليمينه، قال: قد حنث، ومن حلف ألا يكلم رجلا
إلا ناسيا فكلمه وهو لا يعرفه غير ناس فقد حنث.
قال القاضي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وهذا كما قال لأن يمينه تحمل على
(6/185)
عمومها في المعرفة والجهل والنسيان والعهد
والإسماع وغير الإسماع إلا أن يخص من ذلك شيئا بنية أو استثناء فيكون ذلك
له، وقد مضى هذا فوق هذا وبالله التوفيق.
[مسألة: يقول لامرأته إن خرجت من هذه الدار إلى
رأس الحول لدار يسكنها فأنت طالق]
ومن كتاب أوله إن خرجت من هذه الدار
وسئل ابن القاسم عن الذي يقول لامرأته إن خرجت من هذه الدار إلى رأس الحول،
لدار يسكنها فأنت طالق فينقضي كراؤه فيريد أهل الدار أن يخرجوه قبل السنة
ويعزموا على ذلك.
قال: كل من حلف بمثل هذه اليمين فأخرجه أمر لم يكن له بد منه مثل سيل أو
خوف عليه أو هدم أو إخراج من صاحب الدار له، فلا حنث عليه واليمين يلزمه
حيث ما تحول، ليس لها أن تخرج من المسكن الذي يتحول إليه إلى رأس السنة،
فإن خرجت قبل ذلك فهو حانث.
قال محمد بن رشد: قوله: إنه لا يحنث بإخراج أهل الدار له ولا بكل ما كان في
معناه مما يغلب عليه صحيح لا اختلاف فيه، وقد مضى ذلك والقول فيه في رسم
أوصى وفي المواضع المذكورة فيه، وقد قال ابن دحون: إنه لو أخرجها هو نفسه
لم يحنث لأنه إنما أراد صيانتها فإذا أخرجها هو لم يحنث إلا أن تكون له نية
في إكراهه هو إياها على الخروج؛ لأن من قولهم أن من حلف إلا تخرج امرأته
ولم يقل إلا بإذني فهو حانث وإن خرجت بإذنه، وقد مضى ذلك في الرسم الذي قبل
هذا وسيأتي في رسم أسلم لفظ محتمل للتأويل سنبينه عليه إذا مررنا به إن شاء
الله.
وقوله أيضا: إن اليمين تلزمه حيث ما تحول إليه صحيح ولا يراعى
(6/186)
في ذلك تعيينه الدار بقوله هذا إن خرجت من
هذه الدار؛ لأن المعلوم أنه إنما أراد صيانتها عن الخروج من دار سكناها إلا
أن يكون إنما كره خروجها من تلك الدار بعينها لشيء يختص بها ويعلم ذلك
ويدعي أنه نواه ويأتي مستفتيا فيصدق فيه وبالله التوفيق.
[مسألة: قال امرأته طالق إن دفعت إليكم منهما
إلا حقكم]
مسألة وسئل عن رجل هلك وترك إخوة مفترقين فقسموا ميراثهم ورجل منهم غائب،
فلما قدم دفعوا إليه حقه وبقي له ديناران، فقال: هما لكم خذوهما، فقال الذي
يقسم بينهما: امرأته طالق إن دفعت إليكم منهما إلا حقكم، قال ابن القاسم:
أرى أن يقسم للذكور والإناث سواء، وكذلك سمعت.
قال محمد بن رشد: وهذا بين على ما قال لأن الواهب قد شرك بينهم فيها على
السواء بظاهر قوله: هما لكم، إلا أن يقول إنما أردت أنهما لهم على قدر
مواريثهم فيصدق في ذلك، فإن كان لم يفت سؤاله كشف عن إرادته في ذلك وبالله
التوفيق.
[مسألة: كان مع ختنته في سفر فشجر بينهما شيء
فحلف بطلاق امرأته ثلاثا ألا يصحبها]
مسألة وسئل عن رجل كان مع ختنته في سفر، فشجر بينهما شيء فحلف بطلاق امرأته
ثلاثا ألا يصحبها بعد سفرهما ذلك.
قال: إن كان نوى أن يردها إلى منزلها ولا يصحبها بعد ذلك فله ما نوى، وإن
كان لم ينو شيئا فلا يرجع معها ولا يرجع يصحبها في سفر.
قيل له: فإن عرض لها سفر بعد زمان إلى أرض لهما جميعا فيها حاجة واحدة فركب
البحر الختن وسارت الختنة في
(6/187)
البر وتواعدا أن يجتمعا حيث حاجتهما.
قال: إن كان نوى ألا يخرج معها في سفر يقوم لها فيه بحاجة أو ينفعها
بنافعة، وعلى ذلك وقعت يمينه فإني أخاف أن يحنث، وإن كانت يمينه إنما وقعت
على ألا يكون معها على طعام أو راحلة أو صحبة أو نحو هذا مما يحلف عليه فلا
أرى عليه شيئا إذا لم يصحبها.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال إنه إذا حلف ألا يصحبها بعد سفرها ذلك لشيء
شجر بينهما فيه فلا يصحبها من حين حلف إلا أن يكون نوى أن يردها إلى منزلها
ولا يصحبها في سفر آخر؛ لأن قوله بعد سفرها ذلك إلى انقضائه برجوعه إلى
منزله فإذا لم تكن له نية حمل على أنه إنما أراد بعد سفرها إلى حيث بلغا
منه لأن ما شجر بينهما فيما مضى من سفرهما غير مأمون عليهما فيما بقي منه،
وهو الذي من أجله كانت يمينه، وأما تواعدهما في سفرة أخرى على الاجتماع حيث
حاجتهما فذلك على ما نواه أو خرجت يمينه عليه على ما قال، فإن لم يعلم
ليمينه سبب ولا كانت نية فهو حانث وبالله التوفيق.
[مسألة: قال لامرأته إن فعلت كذا وكذا إلا أن
يقدر فأنت طالق]
مسألة وسئل عن رجل قال لامرأته إن فعلت كذا وكذا إلا أن يقدر فأنت طالق.
قال: إن فعله فهي طالق.
قال محمد بن رشد: لأشهب في المجموعة أنه لا شيء عليه وهو الذي يوجبه القياس
والنظر؛ لأن قضاء الله ومشيئته هي إرادته فلا فرق بين الاستثناء بقدر الله
وقضائه وبين الاستثناء بمشيئته، وابن القاسم يفرق بين ذلك فلا يرى استثناء
في اليمين بالله عاملا بقضاء الله ولا بإرادته، قال ذلك في رسم أوصى من
سماع عيسى من كتاب النذور، وقد ذكرنا هنالك وجه
(6/188)
ذلك، فعلى ذلك يأتي قوله في هذه المسألة إن
امرأته طالق إن فعل ولا ينتفع بقوله: إلا أن يقدر، ولو قال: إن فعلت كذا
وكذا إلا أن يشاء الله فأنت طالق لنفعه استثناؤه عند الجمع، إذ قد نص على
رد الاستثناء إلى الفعل بذكره عقيبه قبل الطلاق، وما روي عن ابن القاسم من
أن الاستثناء بمشيئة الله في اليمين بالطلاق، غير عامل، وإن رده إلى الفعل،
معناه إذا ادعى ذلك مع قيام البينة عليه فلا يصدق في ذلك خلافا لابن
الماجشون، وقد قال ابن دحون: إنه لو قال لامرأته: إن فعلت كذا وكذا إلا أن
يشاء الله فأنت طالق ففعلته لكان حانثا على قياس هذه الرواية لأنه معلوم
ألا يفعل فعلا إلا بقدر من الله ومشيئته فذكره لذلك لا ينفعه وكأنه لغو،
ووجه ما ذهب إليه أن هذا هو الأصل، فخصت السنة من ذلك الاستثناء بمشيئة
الله في اليمين بالله وبقي ما عداه على الأصل لا ينفع فيه الاستثناء،
وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف بطلاق امرأته ألا يسأل رجلا حاجة]
مسألة وسئل عن رجل حلف بطلاق امرأته ألا يسأل رجلا حاجة، فأتاه رجل فسأله
أن يطلب إلى ذلك الرجل حاجة له قبله، فقال له: إن علي يمينا ألا أسأله
حاجة، ولكن كلم ابني فإنه يقوم مقامي لك في ذلك، قال: ليس عليه في ذلك حنث
إلا أن يكون يأمر هو ابنه أن يقوم للرجل في ذلك.
قال محمد بن رشد: هذا بين أنه إذا لم يأمر هو ابنه أن يطلب الحاجة من ذلك
الرجل لذلك الرجل فلا حنث عليه، وقوله: إلا أن يكون يأمر هو ابنه أن يقوم
للرجل في ذلك معناه فيحنث، وهذا على القول بأن من حلف ألا يكلم رجلا فأرسل
إليه رسولا فهو حانث إلا أن يكون نوى مشافهته، وقد مضى ذكر الاختلاف في ذلك
في رسم الطلاق الثاني من سماع أشهب.
(6/189)
[مسألة: قال
امرأته طالق إن لم أهدم هذا البيت أو أكل هذا الطعام أو نحو هذا]
مسألة وسئل عن رجل باع سلعة من رجل فقال له: أبعت السلعة التي بعت منك؟ قال
له: لم أبع، قال: إن كنت لم تبعها فامرأته طالق البتة، فبحث عن ذلك فإذا
السلعة قد بيع منها أكثرها وبقي منها شيء لم يبع.
قال: إن كان بقي منها شيء ولو جزء من مائة جزء فامرأته طالق البتة وكذلك لو
أن رجلا قال امرأته طالق إن لم أهدم هذا البيت أو أكل هذا الطعام أو نحو
هذا فلم يستوعب ما حلف عليه طلقت عليه امرأته.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة لا اختلاف فيها مثل ما في، المدونة
وغيرها على أصولهم في البر لا يكون إلا بأكمل الوجوه بخلاف الحنث، وقد مضى
القول في الفرق بين الوجهين في رسم العرية وآخر رسم لم يدرك فلا معنى
لإعادة شيء من ذلك.
[مسألة: قال لامرأته إن تزوجت عليك فالتي أتزوج
عليك طالق البتة]
مسألة سئل عن رجل قال لامرأته إن تزوجت عليك فالتي أتزوج عليك طالق البتة،
ثم قال لها بعد ذلك: إن وطئت حراما فأنت طالق فتزوج عليها امرأة فوطئها هل
تراه حانثا فيهما جميعا؟ قال: ما أرى أن تطلق عليه إلا التي تزوج، وأما
التي كانت عنده فلا أرى الطلاق يقع عليه فيها؛ لأنه لم يحلف على مثل هذا
الحرام، وإنما أراد الزنا وهذه المرأة التي يقع عليه فيها الطلاق قد اختلف
في أمرها، قد قال ناس لا يمين لرجل فيما لم يتزوج فلا أراه حانثا في امرأته
الأولى وولدها يلحقه والصداق يلزمه فيها.
قال محمد بن رشد: هذا صحيح على أصولهم في مراعاة الخلاف
(6/190)
لأن الخلاف فيه قوي مشهور، والقائل به تعلق
بما يروى عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من قوله: «لا طلاق قبل نكاح ولا
عتق قبل ملك» وقد قال ابن القاسم في سماع أبي زيد عنه مراعاة لهذا الخلاف:
إنه لا يفرق بينهما إذا دخلا، والمشهور أنه يفرق بينهما وأنهما لا يتوارثان
إن مات أحدهما قبل أن يعثر على ذلك هو اختيار ابن القاسم في آخر رسم الرهون
بعد هذا ودليل ما في المدونة، وذهب ابن حبيب إلى أنه لا ميراث بينهما وإلى
أنه يحد ولا يلحقه الولد إن كان هذا بالشرط، فعلى قياس قوله يحنث الحالف في
هذه المسألة وهو بعيد وبالله التوفيق.
[مسألة: سأل امرأته سلفا فأبت فقال امرأته طالق
البتة إن أخذت منها درهما]
مسألة وسئل عن رجل سأل امرأته سلفا فأبت عليه وعندها مال ناض فقال: امرأته
طالق البتة إن أخذت منها درهما، ثم مكث زمانا ثم اشترت بالمال عروضا وبيعت
تلك العروض وصارت في عروض غيرها ثم أخذ من ثمن تلك العروض قدر نصف درهم أو
نحوه فقضى به دينه وانتفع به ولم يكن له حين حلف نية.
قال ابن القاسم: فلا أرى عليه حنثا إلا أن تكون كانت نيته ألا يقرب من
مالها شيئا.
قال محمد بن رشد: قال ابن دحون في هذه المسألة: معناها أنه
(6/191)
إذا أراد أن لا يأخذ من تلك الدراهم بعينها
شيئا فلذلك لم يحنثه إذ زالت عينها وتبدلت بسواها فلو أخذ أكثر من درهم لم
يحنث أيضا، ولو لم يرد الدراهم بعينها لحنث بأقل من نصف درهم، ولو كانت
نيته ألا يأخذ منها درهما فما فوقه لم يحنث إذا أخذ أقل من درهم، وقوله
صحيح في المعنى، إلا أنه ليس في المسألة ما يدل على أنه أراد أعيان الدراهم
فإنما معناها أنه راعى اللفظ ولم ينظر إلى البساط والمعنى، وهو أصل قد
اختلف فيه قول مالك وأصحابه إلا أن المشهور من مذهبه ومذاهبهم مراعاة
البساط والمعنى في اليمين، وقد ذكرنا هذا في غير ما موضع، وإلى هذا التأويل
ذهب ابن لبابة فقال: إنما لم يحنثه من أجل أنه لم يأخذ إلا أقل من درهم
وبالله التوفيق.
[مسألة: شجر بين الرجل وبين بائع الخادم أمر
فحلف بطلاق امرأته أن يخرجها من بيته]
مسألة وسئل عن رجل دعته ختنته أن يشتري هو وهي خادما لابنتها يخرجان الثمن
جميعا فاشترياها، فشجر بين الرجل وبين بائع الخادم أمر فحلف بطلاق امرأته
أن يخرجها من بيته ففعل، وإن الختنة استتمت الثمن فأرادت أن تردها إلى بيته
حين كملت الختنة الثمن كله.
فقال: لا يدخلها في بيته فإن فعل حنث.
قال محمد بن رشد: لم يحمل يمينه في هذه المسألة على ما يقتضيه اللفظ من
مجرد الإخراج فيبرئه ولا يحنث في ردها إلى بيته، كالحالف على غيره لينتقلن
عن داره، وحملها على أنه إنما أراد ألا تكون في بيته ولا يستخدم بها لأنها
تشبه مسألة الشاة في رسم الأقضية الثالث من سماع أشهب من كتاب النذور، وقد
مضى القول هناك على الفرق بين المسألتين، فهو بعينه فرق أيضا بين هذه
ومسألة الانتقال ولو كان إنما كره أن يخرج فيها من عنده شيئا من ثمنها لشيء
شجر بينه وبين ختنته فخرجت
(6/192)
يمينه على ذلك لم يحنث إذا اشترتها الختنة
من مالها وردتها إلى بيته والله أعلم.
[مسألة: يبيع العبد من الرجل إلى أجل ويتخذ
عليه يمينا أن يوفيه الثمن إلى أجل فيوجد بالعبد عيب]
مسألة وسئل عن الرجل يبيع العبد من الرجل إلى أجل ويتخذ عليه يمينا أن
يوفيه الثمن إلى أجل فيوجد بالعبد عيب قبل الأجل يرد من مثله فيرده.
قال: لا يخرجه من يمينه إلا أن يقضي الثمن ثم يخاصمه، وكذلك في جميع السلع.
قال محمد بن رشد: حنثه في هذه المسألة بما يقتضيه اللفظ، ولم يلتفت إلى
المعنى، ومثله في رسم إن أمكنني بعد هذا وقد قيل إنه لا يحنث لأنه إنما حلف
ليوفينه الثمن، وهو المشهور في المذهب، وبالله التوفيق.
[مسألة: سلف مائة دينار في قمح إلى أجل واتخذ
عليه بالطلاق أن يوفيه إلى أجل فاستقاله]
مسألة وسألته عن رجل سلف مائة دينار في قمح أو سلعة من السلع إلى أجل واتخذ
عليه بالطلاق أن يوفيه إلى أجل فاستقاله صاحب الدنانير مما اشترى منه قبل
الأجل فأقاله.
فقال: لا أحب أن يصنع هذا فإن وقع وكان في الدنانير يوم ردها وفاء لثمن
السلعة التي كانت عليه عند الناس فأرجو ألا يكون حانثا، وإن كانت السلعة
أكثر ثمنا من الدنانير فإنه حانث، قلت له: فإن رد عليه الدنانير وأقر البيع
على حاله؟ قال: لا ينفعه ذلك وهو حانث لأنه بيع مبتدأ لأنه لو أبى ذلك
أحدهما لم يجبر على ذلك، وإنما هو بيع مبتدأ، قال: ولو كان أعطاه تلك
السلعة بعد
(6/193)
الأجل بعد هذا الذي وصفت لك عطية أو صدقة
لم يخرجه ذلك من يمينه، وكان حانثا لأنه خرج من الوجه الذي حلف فيه، قال:
وكذلك يبلغني من قول مالك.
قال محمد بن رشد: هذا بين صحيح على معنى ما في المدونة في الذي يحلف ليقضين
رجلا حقه أو ليقضينه دنانيره فقضاه عرضا أنه لا حنث عليه إن كان فيه وفاء
لحقه إلا أن مالكا استثقله وخشي عليه الحنث وقال: إن كان فيه وفاء فلم لا
يعطيه دنانيره؟ فكذلك هي المسألة سواء لا حنث عليه إن كان رأس المال الذي
أخذه منه في الإقالة فيه وفاء بما كان له عليه من القمح أو السلعة فلا حنث
عليه، وسواء حلف ليقضينه حقه أو ليقضينه ما سلف فيه إلا أن ينوي أن يقضيه
الطعام والسلعة بعينها فيحنث إن أقاله وإذا لزمه الحنث فلا يسقط عنه رد
الدنانير إليه فيما كان له عليه ولا عطية ذلك له هبة أو صدقة كما قال؛ لأنه
أمر قد فات يلزم الطلاق منه وبالله التوفيق.
[مسألة: حلف بطلاق امرأته ألا يتزوج عليها
فيتزوج امرأة ثم يطلقها]
مسألة وسألته عن الرجل يحلف بطلاق امرأته ألا يتزوج عليها فيتزوج امرأة ثم
يطلقها أو تموت قبل أن يمسها هل تراه حانثا؟ .
قال: نعم هو حانث ساعة يملك عقدتها مس أو لم يمس، قال: ولو كان حلف بالطلاق
أن يتزوج عليها فتزوج امرأة فماتت أو طلقها قبل أن يمسها فإنه لا يخرج من
يمينه حتى يتزوج امرأة يمسها.
قال محمد بن رشد: هذا صحيح على أصولهم في أن الحنث يقع بأقل الوجوه، والبر
لا يكون إلا بأكمل الوجوه، وقد مضى القول على هذا في رسم لم يدرك وغيره فلا
معنى لإعادته، ولا يبر بالدخول أيضا إلا أن تكون المرأة التي تزوجها تشبه
مناكحه، وأما إن كانت المرأة التي تزوج لا
(6/194)
تشبه مناكحه مثل الأمة والمرأة الدنية فلا
يبر بنكاحها والدخول بها كذلك، رواه محمد بن يحيى الشيباني عن مال. وعيسى
عن ابن القاسم في المدنية وقاله ابن كنانة أيضا، واختلفوا هل يحلها هذا
النكاح لزوج كان طلقها أيضا ثلاثا؟ فقال ابن كنانة: لا يحلها كانت تشبه
مناكحه أو لا تشبه، وقال ابن القاسم: يحلها كانت تشبه مناكحه أو لا تشبه،
وقيل: إن ذلك على قياس البر والحنث أنها إن كانت تشبه مناكحه أحلها وإن
كانت لا تشبه مناكحه لا يحلها، وقد قيل: إنه لا يبر إذا تزوجها ليبر يمينه
ولا يمسكها وإنما يبر إذا تزوجها نكاح رغبة ثم طلقها بعد الدخول لأمر لم
تنعقد نيته عليه حين العقد وبالله التوفيق.
[مسألة: يتخذ على غريمه يمينا بطلاق امرأته
البتة ليقضينه حقه رأس الهلال أو يرهنه داره]
مسألة وسئل عن الرجل يتخذ على غريمه يمينا بطلاق امرأته البتة ليقضينه حقه
رأس الهلال أو يرهنه داره، فلما حل الأجل أراد أن يقضيه نصف الحق ويرهنه
نصف الدار ثم أرهنه الدار كلها، قال: يقضيه حقه كله وإلا حنث، قال: ولو قال
امرأته طالق إن لم أوفك إلى الهلال حقك أو رهنا بحقك، فأعطاه بعض الحق
وأعطاه ببقيته رهنا يكون في الرهن وفاء لما بقي لم يلحقه من يمينه شيء.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة متكررة والقول فيها في سماع أبي زيد
من كتاب النذور والمعنى فيها بين وبالله التوفيق.
(6/195)
|