البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة

 [كتاب الأيمان بالطلاق الثالث]
[شجر بينه وبين أختانه أمر فقالوا طلق أختنا فقال إن ارتحلت عني اليوم فهي طالق]
كتاب الأيمان بالطلاق الثالث

(6/197)


ومن كتاب أوله أسلم وله بنون صغار
وسئل عن رجل شجر بينه وبين أختانه أمر فقالوا: طلق أختنا، فقال: إن ارتحلت عني اليوم فهي طالق، فأتى إليها إخوتها فقالوا: إن زوجك قد طلقك، فأخذوا متاعها ورحلوها ومتاعها إلى أنفسهم وهي لا تعلم ما كان من أمر زوجها ولا ما قال، إلا ما قال لها إخوتها إن زوجك قد طلقك، فلما كان بعد يوم أو يومين أو ثلاث أخبرت بالذي كان من أمر زوجها، فقالت والله ما علمت ولا انتقلت من هواي إلا أنهم قالوا إن زوجك قد طلقك.
فقال: إن علم ذلك وشهد على ما قالت، أو ادعته بالشهود فلا طلاق عليه.

[مسألة: قال إن ارتحلت عني امرأتي فهي طالق]
مسألة لسحنون في كتاب ابنه أنها طالق وإن علم ذلك وشهد عليه لم ينفعه، ووقع قوله أيضا في بعض الروايات من الكتاب، وقول ابن القاسم أظهر على المشهور في المذهب من مراعاة المقاصد في الأيمان في أن الزوج إنما أراد فيما يظهر من مقصده أنها طالق

(6/199)


إن ارتحلت عاصية له في ارتحالها عنه راضية بفراقه، فإذا لم ترتحل إلا وهي تظن أنه طلقها على ما أخبرها به إخوتها لم يقع عليه طلاق، وقول سحنون يأتي على مراعاة ما يقضيه اللفظ دون الاعتبار بالمعنى، ونحوه ما وقع في رسم البز من سماع ابن القاسم، وقد قال ابن دحون: إن قول سحنون أحسن قال: لأنه يلزم علي قول ابن القاسم في رجل قال إن سألت امرأتي الطلاق طلقتها فأتي إليه فقيل له: قد سألت الطلاق وكذب له فطلق ألا يلزمه ذلك، ولا اختلاف أنه يلزمه وإن ثبت أنه كذب له، فإن قيل إنما يلزمه؛ لأنه كان عليه أن يتثبت، قيل له: وكذلك المرأة.
قال محمد بن رشد: ولا يلزم ابن القاسم ما ألزمه سحنون لأن المسألتين مفترقتان لأن هذا الذي كذب له، وقد أخطأ على نفسه في تطليق زوجته فلا عذر له في الخطأ على نفسه في ذلك الذي قال إن ارتحلت عني امرأتي فهي طالق قيل إن الطلاق يقع عليه بمجرد الارتحال دون مراعاة المعنى الذي يظهر من قصد الحالف، وإليه ذهب سحنون على معنى قول مالك في مسألة رسم البز من سماعه، وقيل إن الطلاق لا يقع عليها إذا لم ترتحل على الوجه الذي أراد وإلى هذا ذهب ابن القاسم وبالله التوفيق.

[مسألة: قال امرأته طالق إن كان شرب مسكرا]
مسألة قال ابن القاسم: لو أن رجلا أخذ وبه رائحة شرب فقال امرأته طالق إن كان شرب خمرا، فشهد عليه أنها رائحة مسكر فقال ما أردت إلا الخمر بعينها.
فقال: ينوي في ذلك ويكون القول قوله، ولو قال امرأته طالق إن كان شرب مسكرا فقد جمع كل شيء، فإن شهد عليها

(6/200)


أنها رائحة مسكر فقد لزمه.
قال محمد بن رشد: قوله إنه ينوي في ذلك ويكون القول قوله مع قيام البينة عليه هو مثل ما في رسم البز من سماع ابن القاسم من كتاب الحدود خلاف قول ابن القاسم في رسم يسلف من سماع عيسى من كتاب النذور لأنه قال هناك إنه لا ينوي إلا إذا أتى مستفتيا، وقد مضى القول على المسألة هنالك مستوفى فأغنى ذلك عن إعادته هنا.

[مسألة: حلف بطلاق امرأته البتة إن كان بغاه عند رجل]
مسألة وعن رجل حلف بطلاق امرأته البتة إن كان بغاه عند رجل فشهد عليه شاهد أنه قد بغاه عند ذلك الرجل وشهد ذلك الرجل أنه قد بغاه عندي، أما ترى أن يلزمه الطلاق؟ قال: نعم أرى أن يلزمه الطلاق لأنه لا يتهم الذي أقر عنده في شيء من أمره، وإنما هو بمنزلة الرجل يحلف ما بغيتك عند فلان وفلان، فشهد فلان وفلان بعد اليمين أنه بغاه عندهما فتطلق عليه امرأته بشهادتهما.
قال محمد بن رشد: المسألة صحيحة، والحجة فيها ما ذكر من أنه لا يتهم الشاهد في شهادته أنه بغاه عندي إذ ليس في ذلك وجه يظهر من وجوه التهمة التي تبطل به الشهادة، وأما قياسه إياها على المسألة التي ساقها عليها فليس بقياس صحيح؛ لأنها هي المسألة بعينها، ولا يقاس الشيء على نفسه، وإنما يقاس على غيره بمعنى يجمع بينهما في وجوب الحكم وانتفائه، وهو ظاهر لا يخفى وضوحه وبالله التوفيق.

[مسألة: حلف غريما له بطلاق امرأته أن يقضيه إلى أجل]
مسألة وسئل عن رجل حلف غريما له بطلاق امرأته أن يقضيه إلى أجل فلما حل الأجل قال الذي حلفه قد قضاني وليس على ذلك بينة إلا قوله.

(6/201)


فقال: إن كان من أهل الصدق وممن لا يتهم حلف مع شهادة صاحب الحق وحبس امرأته، وإن كان من أهل التهم لم يقبل ذلك منه حتى يأتي بشهيدين أنه قد قضاه، قال سحنون وروى ابن حبيب عن مالك أنه قال: إنما هذا إذا لم تكن على أصل يمينه بينة إلا إقرار منه بأنه حلف بطلاق امرأته أن يقضيه فقد قضاه ويقر له رب الحق، مثل ما يقول حلفت بالطلاق لأضربن فلانا فقد ضربته، أو لأعطين فلانا كذا وكذا فقد أعطيته، فالقول قوله في هذا كله بلا بينة إذا لم تكن على أصل بينة فيكون عليه الخروج بالبينة، وقاله أصبغ.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة قد مضى القول فيها مستوفى في أول رسم من سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادته هنا وبالله التوفيق.

[مسألة: حلف لامرأته بطلاقها إن خرجت من داره فأتاها سيل]
مسألة وقال ابن القاسم: قال مالك في رجل حلف لامرأته بطلاقها إن خرجت من داره فأتاها سيل أو أمر لم تستطع إلا الخروج أو الهرب عنه أو أخرجها صاحب الدار إن كانت بكراء فانقضى أمد الكراء، قال مالك لا حنث عليه إذا خرجت من أمر لم تستطع غير ذلك، فإذا رجعت رجع اليمين عليها، وإن ارتحل بها إلى دار غيرها فاليمين تلزمه حيث سكن.
قال محمد بن رشد: قوله ون تحول بها إلى دار غيرها معناه أن يتحول بها إلى دار غيرها حين أخرجها السيل عنها أو صاحب الدار بانقضاء أمد الكراء، وقد مضى هذا في رسم الطلاق الثاني من سماع أشهب، وأما لو تحول بها باختياره يحنث بذلك خلاف ما ذهب إليه ابن دحون، وقد

(6/202)


مضى القول على ذلك في رسم إن خرجت فلا معنى لإعادته وبالله التوفيق.

[مسألة: حلف بطلاقها ألا يغرم في خياطة ثيابها شيئا]
مسألة وسئل عن رجل كسى امرأته ثيابا قطعها لها ودفعها لها إلى الخياط، ثم هاج بينه وبين امرأته شيء فحلف بطلاقها ألا يغرم في خياطتها شيئا فأراد أن يفتكها فيبيعها أو يحبسها لنفسه أو أراد بعض من يحق عليه مثل أخيه أو غيره أن يفتك تلك الثياب من الخياط من عنده.
قال: لا بأس أن يفتكها أخوه أو غيره ولا يفتكها هو لنفسه ولا لبيع إلا أن تكون نيته أراد ألا يفتكها لها.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال لأن اليمين يجب أن تحمل على ما يقتضيه عموم اللفظ من ألا يفتكها لنفسه ولا لها ولا أحد سواهما ولا لوجه من الوجوه إلا أن تكون له نية أنه أراد ألا يفتكها لها فتكون له نيته يريد ويصدق فيها مع يمينه وإن كانت عليه بينة لأنها نية محتملة لا تبعد بل تشبه، وأما افتكاك غيره للثياب من ماله للزوجة أو له فلا إشكال في أنه لا حنث عليه في ذلك لأنه لم يحلف إلا على ألا يفتكها هو وبالله التوفيق.

[مسألة: له على رجل عشرة دنانير قائمة فتقاضاه فقال ليس لك عندي إلا دنانير]
مسألة وسئل عن رجل كان له على رجل عشرة دنانير قائمة فتقاضاه، فقال: ليس لك عندي إلا دنانير بخروبة خروبة، فحلف بطلاق امرأته ألا ينقصه من القائمة شيئا، ولم تكن عليه بينة، فخاصمه فلم يعد عليه إلا بدنانير بخروبة خروبة.
فقال: إن كان حلف ألا ينقصه فليأخذ ما قضى له به ولا

(6/203)


ينقص له من حقه شيئا ولا يضع عنه منه شيئا، والله بينه وبينه، وإن كان أراد أن لا يأخذ منه إلا عشرة قائمة فلا يأخذ منه إلا عشرة قائمة.
قال محمد بن رشد: قوله وإن كان حلف ألا ينقصه يريد إن كان نوى إلا ينقصه باختياره شيئا من القائمة فليأخذ ما قضى له به ولا ينقص له من ذلك شيئا ولا يضع عنه منه شيئا، وقوله وإن كان أراد ألا يأخذ منه إلا عشرة قائمة يريد أو لم تكن له نية فلا يأخذ منه إلا عشرة قائمة، فإن لم يقض له عليه إلا بدنانير خروبة خروبة حنث إن أخذها إلا أن يحكم عليه بأخذها بسؤال الغريم ذلك، فيجري ذلك على الاختلاف فمن حلف ألا يفعل فعلا فقضي عليه به، وقد مضى ذلك في رسم سلعة سماها ورسم حلف من سماع ابن القاسم، وفي آخر سماع أشهب وبالله التوفيق.

[مسألة: عليه حق لرجل فاتخذ عليه طلاق امرأته البتة أن يؤديه لأجل سماه]
مسألة وسئل عن رجل كان عليه حق لرجل فاتخذ عليه طلاق امرأته البتة أن يؤديه لأجل سماه، وللحالف وكيل يتقاضى له ويبيع له ويبتاع ويقوم بجميع حوائجه، فغاب الحالف عند الأجل فقضى عنه هذا الوكيل، هل ترى قضاه مخرجا ليمينه؟ .
قال: لا يخرجه قضاؤه من يمينه إلا أن يكون أمره بذلك، قال: [ولو كان لصاحب الحق مثل هذا الوكيل الذي وصفنا فغاب المحلوف له عند الأجل فقضى الحالف وكيله هذا] كاف مخرجا من يمينه.
قال محمد بن رشد: إنما قال إن الحالف لا يبرأ إذا قضى عنه

(6/204)


وكيله على البيع والابتياع والقيام بجميع حوائجه، من أجل أنه ليس بوكيل له على أن يقبض عنه، فهو في ذلك كالأجنبي، ولو كان وكيل له مفوض إليه أو على أن يقبض عنه ديونه فيبر إذا قضى عنه بغير علمه، وقد مضى هذا المعنى في رسم بع ولا نقصان عليك من سماع عيسى من كتاب النذور، وسيأتي في سماع سحنون إذا قضى عنه السلطان من ماله، وقوله ولو كان لصاحب الحق مثل هذا الوكيل الذي وصفنا فغاب المحلوف له عند الأجل فقضى الحالف وكيله هذا كان مخرجا من يمينه، يريد ويبر الحالف بذلك من الدين الذي عليه لأنه وكيل يتقاضى فيبرأ الحالف من الدين الذي عليه بدفعه إليه، فدليل هذه الرواية أنه لا يبر في اليمين إلا بدفعه إلى وكيل إليه القبض فيبرأ من الدين بالدفع إليه خلاف ما في العشرة لابن القاسم أنه إذا دفع إلى وكيل له في ضيعته بر في اليمين، ولم يبرأ من الحق، وهو معنى ما في المدونة، وظاهر ما فيها أن ذلك يكون مخرجا له من يمينه، وإن كان يصل إلى السلطان، وكان القياس إذا لم يبرأ بذلك من الحق إلا أن يكون مخرجا له من يمينه إلا أن لا يصل إلى السلطان الذي يبرأ بالدفع إليه من الدين الذي عليه، وإلى هذا ذهب ابن لبابة، وساق ذلك على معنى ما في المدونة وأن يكون إذا أحضر الذهب وأتى به وأشهد على إتيانه به مخرجا له من الحنث، وإن لم يدفعه إلى هذا الوكيل الذي لا يبرأ بالدفع إليه كما يكون ذلك مخرجا له من الحنث مع العدول إذا لم يكن له وكيل ولا وصل إلى السلطان وبالله التوفيق.

[مسألة: يكون تحته أربع نسوة فيحلف بالطلاق البتة إلا يحلف بالطلاق فيطلق واحدة]
مسألة وسئل عن الرجل يكون تحته أربع نسوة فيحلف بالطلاق البتة إلا يحلف بالطلاق فيطلق واحدة من نسائه، هل ترى عليه حنثا؟ .
قال لا حنث عليه لأنه لم يحلف.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن من طلق لم يحلف

(6/205)


بطلاق، ولو حلف بطلاق البتة إلا يطلق فحلف بالطلاق وحنث لحنث؛ لأن من حلف بالطلاق وحنث فقد طلق، وقد مضى بيان هذا في رسم يوصي قبل هذا وبالله التوفيق.

[قال لامرأته أنت علي كظهر أمي وهو يريد الطلاق]
ومن كتاب العشور قال ابن القاسم: من قال لامرأته: أنت علي كظهر أمي وهو يريد الطلاق فهي ثلاث ولا ينوى لا تنفعه نيته إن نواها واحدة أو اثنتين.
قال محمد بن رشد: في كتاب ابن سحنون عن أبيه أن له ما نوى من الطلاق، وقد مضى تحصيل القول في هذه المسألة في رسم سن من سماع ابن القاسم من كتاب الظهار فيستغنى بذلك عن إعادته هنا وبالله التوفيق.

[نازعت زوجها فقالت له والله لأسيلن الخرق على ساقيك فقال لها أنت طالق]
ومن كتاب شهد على شهادة ميت وسئل عن امرأة نازعت زوجها فقالت له: والله لأسيلن الخرق على ساقيك، فقال لها: أنت طالق لتعلمن من يفعل ذلك بي.
قال ابن القاسم أخاف أن يكون قد حنث حين قال لتعلمن من يفعل ذلك بي إنما هو من قال لتعلمن من ذا الذي يفعله بي من هو؟ حتى يسيل عن ساقي ما قلت. .
قال محمد بن رشد: المقصد المعلوم من إرادة المرأة، بهذا القول إنما هو ليفعلن به أشد ما يكون من النكال وأقبحه لا حقيقة ما ذكرت؛ إذ قد علم أنها لا تملك ذلك ولا هو داخل تحت استطاعتها، ويمين الزوج خرجت جوابا لها على ذلك بمعنى أنك لتعلمين أن الذي يقدر على أن

(6/206)


يبلغ ذلك مني معدوم غير موجود لمنزلتي ومكانتي ومهابتي وقدرتي على الدفاع عن نفسي، فلذلك خشي ابن القاسم عليه الحنث فيما بينه وبين الله، وأما الحكم عليه بالطلاق فلا يصح إلا أن يقر على نفسه أنه أراد بكلامه ما يوجب الحنث عليه والله أعلم.

[حلف بالطلاق ليقضين رجلا حقه إلى أجل فحبس الحالف في السجن]
ومن كتاب جاع وسئل عن رجل حلف بالطلاق ليقضين رجلا حقه إلى أجل فحبس الحالف في السجن، فأرسل إلى صاحبه أن يجيئه فأبى أن يجيئه، قال يقضي السلطان ويدع ذلك يرتكص ولا حنث عليه.
قال محمد بن رشد: قوله يقضي السلطان معناه يوكل من السجن من يقضي السلطان ويكون ذلك مخرجا له من يمينه، وإنما يصح ذلك إن كان المحلوف له قد غاب عن البلد، وأما إن كان حاضرا فالسلطان يحضره ويجبره على قبض حقه إلا أن يكون مما لا يجبر على قبضه كعارية غاب عليها فتلفت عنه وما أشبه ذلك فيبرأ من يمينه على دفع ذلك إليه بدفعه إلى السلطان وبالله التوفيق.

[مسألة: اشترى لامرأته ثوبا بدينار فسخطته فقال لها أنت طالق إن رددته]
مسألة وسئل عن رجل اشترى لامرأته ثوبا بدينار فسخطته فقال لها: أنت طالق إن رددته إن كسوتك ثوبا بدينار وهو ينوي بأكثر أو بأقل فذهب إليه ليرده فلم يقبله البائع أو بدا له في رده بعد اليمين.
قال هو سواء بدا له أو أبى أن يقيله ليس يلزمه من يمينه شيء حتى يقيله، ومثلها لي قال: أرأيت لو كان قال: امرأته طالق إن لم ترده فذهب به ولم يقبله البائع أليس قد حنث؟ فهذا يعلم أن الرد إنما هو القبض له من البائع، قلت فلو كان بائع الثوب

(6/207)


اتخذ عليه طلاق امرأته حين باعه ألا يرده عليه، فأتى به ليرده فلم يقبله منه؟ قال، هذا حانث قبله أو لم يقبله؛ لأنه إنما كره البائع شغبه ورده، فإذا رده فهو حانث، فهذه الوجوه تختلف، وإنما تحمل على ما كان قبلها على شبهها ومساقها.
قال محمد بن رشد: أما إذا كان البائع هو الذي استحلف المشتري ألا يرده عليه فلا اختلاف في أنه يحنث بقيامه إياه عليه في الرد قبله أو لم يقبله قضي له عليه برده أو لم يقض له بذلك، وأما إذا لم يسأل ذلك البائع وإنما حلف إلا يرده لشيء جرى له مع غيره فقال هاهنا: إنه لا يحنث إلا بقبول البائع له أورده إياه عليه بالحكم، ومثله حكى ابن حبيب في الواضحة عن أصبغ وروايته عن ابن القاسم وحكى عن أصبغ أيضا في موضع آخر أنه إذا رده فقد لزمته اليمين قبله البائع أو لم يقبله، قال عبد الملك: وهذا بين عندنا، وأما إذا حلف ليردنه فلا اختلاف في أنه لا يبر إلا بقبول البائع له أو الحكم بذلك عليه؛ لأن البر لا يكون إلا بأكمل الوجوه وبالله التوفيق.

[مسألة: يقول لامرأته إن لم أتزوج عليك فأنت طالق فتزوج أخته جاهلا بها]
مسألة وسئل عن الرجل يقول لامرأته إن لم أتزوج عليك فأنت طالق فتزوج أخته جاهلا بها، هل يخرجه ذلك من يمينه؟ قال: لا يخرجه ذلك من يمينه قلت: فلو قال امرأتي طالق إن لم نشتر عبدا مملوكا فاشترى أباه؟ قال: لا يخرجه ذلك من يمينه.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال؛ لأن نكاح أخته لا يحل له المقام عليه، فلا يبريه إذ لا يبر إلا بنكاح لو شاء أن يقيم عليه أقام من أجل أن البر لا يكون إلا بأكمل الوجوه، وكذلك لو تزوج تزويجا حراما يفسخ قبل الدخول وبعده، كالذي يحلف ليشترين سلعة فيشتريها شراء فاسدا فيعثر عليه قبل أن يفوت فيفسخ البيع في الذي اشترى أباه أحرى ألا

(6/208)


يبر بشرائه إذ لا يقع عليه ملك وبالله التوفيق.

[مسألة: أراد أن يتزوج امرأة فقالت له أمه إنها أختك من الرضاعة قد أرضعتها]
مسألة وسئل عن رجل أراد أن يتزوج امرأة فقالت له أمه: إنها أختك من الرضاعة قد أرضعتها، وتحت الرجل امرأة أخرى، فقال الزوج: امرأته التي تحته طالق إن كانت لي حلالا إن لم أتزوجها.
فقال: أرى أن تطلق امرأته التي تحته ولا يتزوجها، فإن اجترأ وتزوجها لم يقض عليه بطلاقها لأنه لا يكون في الرضاع إلا امرأتان.
قال محمد بن رشد: المسألتان مفترقتان بأن الأولى لها بساط فينوى بها مع قيام البينة، والثانية لا بساط لها فلا ينوى فيها إلا إذا جاء مستفتيا. وبالله التوفيق.

[حلف بالطلاق ألا يستعير من رجل سماه شيئا فاستعار من امرأته]
ومن كتاب النسمة
وقال في رجل حلف بالطلاق ألا يستعير من رجل سماه شيئا فاستعار من امرأته، هل تراه حانثا؟ .
قال: إن كان استعار من امرأته مالا من مالها فلا شيء عليه، وإن استعار منها مالا لزوجها فأعارته فهو حانث.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة أنه حمل يمينه على أنه إنما كره الانتفاع بشيء من ماله إما لخبث أصله وإما لأن لا يكون عليه بذلك منة، فلذلك قال إنه يحنث إن كان استعار منها، ما هو لزوجها فأعارته ولو كان لم يحلف إلا من أجل أنه كره أن يرده، لا لما سوى ذلك لما كان عليه حنث في استعارته من امرأته ما هو من مالها أو ماله، والله أعلم.

(6/209)


[مسألة: أتاه يستسلفه دراهم فقال امرأته طالق إن كان في تابوتي دنانير]
مسألة قال ابن القاسم في رجل أتاه يستسلفه دراهم، فقال امرأته طالق إن كان في تابوتي دنانير ومعي دينار، وفي تابوته دينار ومعه دينار، وإنما أراد أن يقول امرأته طالق البتة إن كان في تابوته دراهم أو معي دراهم، فأخطأ فقال ذلك.
فقال لا شيء عليه ولا يحنث. وكذلك لو أراد أن يقول امرأته طالق إن لم يكن كلم عبد الله بن عبد الرحمن أمس أو لقيه، فأخطأ فقال امرأته طالق إن لم يكن لقي عبد الرحمن بن عبد الله أمس وكلمه فهذا لا شيء عليه.
قال محمد بن رشد: المسألتان مفترقتان بأن الأولى لها بساط فينوى بها مع قيام البينة، والثانية لا بساط لها فلا ينوى فيها إلا إذا جاء مستفتيا. وبالله التوفيق.

[مسألة: قال إن صليت ركعتين فامرأتي طالق فصلى ركعة وانصرف]
مسألة قال ابن القاسم في رجل قال إن صليت ركعتين فامرأتي طالق، فصلى ركعة وانصرف. قال ابن القاسم: هو حانث تطلق عليه لأنه قد صلى ولا ينوى، وكذلك إن قال إن صمت غدا فامرأتي طالق فبيت الصيام فطلع الفجر وهو مجمع على الصيام ثم أفطر بعد طلوع الفجر فهو حانث أيضا. ولو أحرم ولم يركع كان حانثا.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن الحنث وقع عليه بالشروع في الصلاة والصيام، فتركه التمادي على ذلك لا يسقط عنه ما قد لزمه من الطلاق، وقوله ولا ينوى معناه مع قيام البينة، وأما لو أتى مستفتيا وقال إنما نويت أنها طالق إن أتممت ركعتين أو صوم النهار وعلى ذلك عقدت يميني

(6/210)


فكانت له نيته فيما بينه وبين ربه إن كان صادقا وبالله التوفيق.

[مسألة: حلف ألا يكلم رجلا فكاتبه ثم رد الكتاب قبل أن يصل إليه فخرقه]
مسألة قال ابن القاسم من حلف ألا يكلم رجلا فكاتبه ثم رد الكتاب قبل أن يصل إليه فخرقه ولم ينفذه فلا حنث عليه ولا شيء، وكذلك قال لي مالك وقال ابن وهب مثله.
قال محمد بن رشد: لا اختلاف في أنه إن رد الكتاب قبل أن يصل إليه لا يحنث إذ لا يحنث الحالف إلا بقراءة المحلوف عليه كتابه لا بوصوله إليه، ولو وصل إليه فأخذه وأمسكه ولم يقرأه لم يحنث الحالف إلا أن يكون معنونا فإنه يحنث بقراءة العنوان، وقوله في المدونة عقب هذه المسألة وهو آخر قوله لا يعود عليها، إذ لا اختلاف فيها، وإنما يعود على المسألة التي قبلها، سواء كتبه مجمعا على إرساله أو غير مجمع على ذلك، بخلاف المسألة التي تأتي بعدها في كتاب الرجل إلى امرأته بالطلاق وبالله التوفيق.

[مسألة: كتب بطلاق امرأته ثم بدا له فحبس الكتاب]
مسألة قال ابن القاسم قال مالك في رجل كتب بطلاق امرأته ثم بدا له فحبس الكتاب.
قال: إن كتبه مجمعا على الطلاق فقد حنث حبسه أو لم يحبسه وإن كان إنما كتبه ليتخير فيه وينظر ويستشير فإن رأى أن يمضيه أمضاه، وإن رأى أن يحبسه حبسه فلا شيء عليه إذا حبسه، قال ابن القاسم: وإن أخرجه من يده فهو حانث وإن رده وأدركه قبل أن ينتهي لم ينفعه، قال ابن وهب مثل ذلك كله، وقد قال: هو حانث إلا أن يكون حين أخرج الكتاب من يده إلى

(6/211)


الرسول غير عازم فله أن يرده إن أحب ما لم يبلغها.
قال محمد بن رشد: الرجل في كتابه إلى امرأته بالطلاق محمول على الإجماع إذا لم تكن له نية، فإذا كتب الرجل إلى امرأته بالطلاق فليس له أن يحبس الكتاب إلا أن يكون كتبه على أن يستشير وينظر فإذا أخرج الكتاب من يده وهو مجمع على الطلاق أو وهو لا نية له فليس له أن يرده، وأما إن كان أخرجه من يده على أن يرده إن أحب فقيل: له أن يرده، وقيل ليس له أن يرده على ما ذكر هاهنا من الاختلاف في ذلك، وقد مضى تحصيل القول في هذه المسألة في سماع أشهب من كتاب طلاق السنة وفي سماع أصبغ من كتاب التخيير والتمليك فلا معنى لإعادة ذلك هنا وبالله التوفيق.

[حلف بطلاق امرأته ألا يدخل بيت فلان فيدخل داره ولم يدخل البيت]
ومن كتاب الرهون وعن رجل حلف بطلاق امرأته ألا يدخل بيت فلان فيدخل داره ولم يدخل البيت أنه إن كانت الدار لا تدخل إلا بإذن ولو سرق منها شيء قطع سارقه فإني أرى إذا دخل فقد حنث، وإما إن كانت دارا جامعة لناس شتى تدخل بغير إذن ولو كان سرق منها شيء لم يقطع سارقه إنما هي كالطريق فلا أراه حنث، قال ابن القاسم: لا شيء عليه إلا أن يكون نوى الدار إلا أن يكون قال منزله، فإن الدار هي المنزل إلا أن تكون دارا مشتركة فيكون هذا التفسير فيها.
قال محمد بن رشد: مالك هو المسئول المجيب، وقوله أظهر من قول ابن القاسم؛ لأنه على المشهور في المذهب من اعتبار المعاني في الأيمان وترك الاقتصار على مجرد الألفاظ؛ لأن الحالف ألا يدخل بيت رجل إنما يريد ألا يدخل مسكنه، ومسكنه هي داره التي ينفرد بسكناها ولا يشاركه أحد فيها حتى يجب القطع على من سرق منها كما يجب على من

(6/212)


سرق من بيته الذي يبيت فيه، وعلى هذا يأتي قوله في مسألة التغيب من آخر سماع أشهب، وأما ابن القاسم فراعى لفظ البيت وحمل يمين الحالف عليه فلم ير عليه في دخوله داره حنثا ما لم يدخل بيتا مبيته، وإنما يحنث عنده بدخول الدار إذا حلف على ألا يدخل منزله إلا أن تكون دارا مشتركة فلا يحنث إلا بدخول ما لم يشاركه أحد فيه وهو شاذ في المذهب، وسيأتي من قوله في سماع أبي زيد خلاف قوله هنا مثل قول مالك والمشهور في المذهب والله أعلم.

[مسألة: حلف بطلاق امرأته ألا يستخدم خادم فلان فأعتقت الخادم]
مسألة وقال في رجل حلف بطلاق امرأته ألا يستخدم خادم فلان فأعتقت الخادم، فاستعانها بعد العتق قال: يدين أيضا، إن كان إنما أراد ألا يميز عليه بخدمتها فإنه يستخدمها إذا أعتقت، وإن كان إنما كانت يمينه على استخدامها أبدا لشيء كرهه من الخادم بعينها فلا يستخدمها، وإن كان إنما أراد ألا يستخدم لذلك الرجل خادما للمن ثم عتقت فليستخدمها ولا بأس، قيل له: أرأيت إن لم تكن له نية؟ قال ابن القاسم: وإن لم تكن له نية فهو حانث.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة والقول فيها في رسم لم يدر فلا معنى لإعادته وبالله التوفيق.

[مسألة: حلف على رجل ألا يأويه وإياه سقف بيت فجمعهم المسجد]
مسألة وسئل عن رجل حلف على رجل ألا يأويه وإياه سقف بيت فجمعهم المسجد.
قال: لا أرى في ذلك طلاقا وذلك ما لا يستطيع غيره، ولم يكن المسجد من البيوت التي نوى.

(6/213)


قال محمد بن رشد: اعتل لقوله في هذه المسألة بعلتين: إحداهما: قوله: وذلك ما لا يستطيع غيره، وذلك أنه لما كانت المساجد من البيوت التي لا يصح التحجير فيها، وكان الحالف من أجل ذلك قد علم أنه لا يمكنه التوقي من أن يجامعه فيه المحلوف عليه في المسجد، حمل يمينه على أنه إنما أراد ألا يأويه وإياه سقف بيت يمكنه التوقي في أن يجامعه فيه، والثانية: قوله: ولم يكن المسجد من البيوت التي نوى وذلك أن المساجد وإن كانت بيوتا في لسان العرب بدليل قول الله عز وجل: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} [النور: 36] فليست بيوتا في عرف كلام الناس؛ إنما البيوت عندهم في عرف كلامهم بيوت السكن فحمل يمينه على عرف الناس لا على ما يقع عليه اسم بيت في اللسان العربي، فعلى هذه العلة لا يحنث إذا اجتمع معه في الحمام، خلاف قوله في سماع أبي زيد وهذا أصل مختلف فيه في المذهب، والقولان قائمان من المدنية، قال فيها في الذي يحلف ألا يأكل لحما فأكل لحم الحوت إنه حانث إلا أن تكون له نية لأن الله سماه لحما، وإن كان اللحم في عرف كلام الناس إنما يوقعونه على لحم ذوات الأربع.
وأما ما في سماع أبي زيد من أنه لا يحنث إذا جامعه في سقيفة فيها طريق في مروره بها فلا يحنث باتفاق، إذ ليست السقيفة التي تحتها الطريق ببيت في اللسان ولا في عرف الكلام إلا أن يقصد إلى الاجتماع معه فيها فيحنث إن كان إنما قصد هذا اجتنابه وترك مجامعته بالجلوس وغيره، وإن لم يكن نوى ذلك فلا حنث عليه عند ابن القاسم، ولكن لا يحنث عنده إذا دخل معه تحت ظل شجرة أو جدار أو شيء، قاله في المدونة وقال ابن نافع فيها: إنه حانث إن دخل معه تحت ظل جدار أو شجرة أو شيء، وأما إن حلف ألا يجمعه وإياه سقف ولم يقل سقف بيت فقال ابن حبيب: إنه لا يجامعه في مقعد ولا موقف لا تحت سقف ولا في صحراء إلا أن يريد ترك مجامعته في البيوت المسكونة وبالله التوفيق.

(6/214)


[مسألة: حلف لامرأته بالطلاق ثلاثا ألا يكسوها وكانت لها ثياب مرهونة عند رجل]
مسألة وعن رجل حلف لامرأته بالطلاق ثلاثا ألا يكسوها وكانت لها ثياب مرهونة عند رجل فافتكها لها أو حلف إلا يطعمها وكان لها طعام مرهون فافتداه لها، قال ابن القاسم: بلغني عن مالك أنه قال: أرى الطلاق قد وقع عليه بأنها قد طعمت ولبست ولقد عرضتها على مالك فردها علي وأنا أراه أنه حانث إلا أن يكون نوى استحداث ثياب يشتريها أو طعاما يشتريه سوى ذلك فإن كانت تلك نيته وقال: لم أرد هذا وإنما أردت استحداثا لم ير عليه شيئا، وإن لم تكن له نية فهو حانث.
قال محمد بن رشد: هذا نص ما في المدونة في هذه المسألة وقول ابن القاسم فيها: إنه حانث إلا أن يكون أراد الشراء صحيح بين، إذ لم يحلف على الشراء فيحمل عليه حتى يريد ما سواه، وإنما حلف ألا يكسوها، وإذا افتك لها الثياب فكأنه قد كساها إذ لم تصل إلى لباس الثياب إلا بافتدائه لها، وأيضا فقد صار ممتنا عليها بلباسها الثياب، والظاهر من يمينه أنها من ناحية المن وبالله التوفيق.

[مسألة: خرجت امرأته تزور بعض أهلها فحلف زوجها بطلاقها واحدة ألا يرسل إليها بنفقتها]
مسألة قال ابن القاسم في رجل خرجت امرأته تزور بعض أهلها فحلف زوجها بطلاقها واحدة ألا يرسل إليها بنفقتها حتى تكون هي التي ترسل، فمكث زمانا فكرهت أن ترسل فاستدانت على نفسها بنفقة ثم طلبت النفقة من زوجها بكل ما غابت عنه، وقال الزوج: أنت الذي تركت ذلك حين لم ترجعي إلى بيتك ولم تطالبه مني.
إن لها النفقة لكل ما غابت، وذلك أنه لو شاء أن ينقلها إلى

(6/215)


نفسه نقلها ومنعها أن تستدين، ولو حلف بطلاقها البتة لرأيت أن لها النفقة أيضا.
قال محمد بن رشد: قوله: أرى لها النفقة لكل ما غابت وذلك أنه لو شاء أن ينقلها إلى نفسه نقلها، يدل على أنه لو أرسل إلى نقلها فأبت من الانتقال إليه وغلبته على ذلك لم يكن لها أن تتبعه بما أنفقت على نفسها واستدانته، فلا نفقة للناشز على زوجها بدليل هذه الرواية، وفي شرح الأبهري الكبير أن ذلك إجماع من أهل العلم؛ إذ الامتناع بالاستمتاع ومنها، وفي كتاب محمد بن المواز عن مالك أن لها النفقة، قال في امرأة غلبت زوجها فخرجت من منزله فأرسل إليها فلم ترجع فامتنع من النفقة عليها حتى ترجع فأنفقت على نفسها ثم طلبته بذلك، قال: ذلك لها عليه يغرمه لها، وإلى هذا ذهب سحنون في كتابه لأنه فرق بين أن تنشز عنه مدعية للطلاق أو بغضة فيه، فقال: إن نشزت عنه بغضة فيه فلها النفقة كالعبد الآبق نفقته على سيده، وذهب ابن الشقاق إلى أنها لا نفقة لها قياسا على مذهب ابن القاسم في المدونة في التي تغلب زوجها فتخرج من منزله في عدتها من الطلاق البائن وتسكن غيره أنها لا كراء لها على الزوج في البيت الذي سكنته، وليس ذلك بصحيح لأن ابن القاسم قد فرق بين المسألتين في كتاب ابن المواز، فأوجب للناشز النفقة بخلاف مسألة العدة، والفرق بينهما بيّن؛ لأن السكنى إنما يتعين لها في المسكن الذي طلقها فيه لا في ذمته فليس لها أن توجب في ذمته ما لم يجب لها فيها، وقالوا: إن الاختلاف في هذا جارٍ على اختلافهم في النفقة على الزوجات هل هو واجبة بحق العقد أو بحق الاستمتاع، ولا يستقيم ذلك لأنها لو وجبت بحق العقد لوجبت للصغيرة التي لا يوطأ مثلها على زوجها الصغير والكبير، ولو وجبت بحق الاستمتاع لسقطت النفقة عن الزوج في زوجته إذا حدث بها بعد الدخول داء لا يقدر معه على الوطء أو مرضت مرضا لا يمكن معه جماعها، فالمعنى في ذلك عندي إنما هو أن النفقة لما كانت مرة يعتبر فيها

(6/216)


الاستمتاع دون العقد ومرة يعتبر فيها العقد دون الاستمتاع اختلف فيها أيهما يغلب في الناشز، وعلى هذا اختلفوا في الكبير يتزوج التي لا يوطأ مثلها فمن غلب في النفقة حق الاستمتاع لم يوجب لها نفقة عليه حتى يدعى إلى الدخول وهو المشهور في المذهب، ومن غلب حق العقد رأى لها النفقة حتى يحال بينه وبين الدخول، وهو دليل ما في الزكاة الثاني من المدونة وتفرقة من فرق في ذلك بين اليتيمة وغير اليتيمة استحسان إذ لا يخرج موجب النفقة لها عن أخذ القولين والله أعلم.

[مسألة: حلف بطلاق امرأته ألا ينفع فلانا فأمر غلامه أن يسقيه فسقاه]
مسألة وعن رجل حلف بطلاق امرأته ألا ينفع فلانا فأمر غلامه أن يسقيه فسقاه، ولم يكن ذلك في نيته أن يسقيه وإنما أراد ألا ينفعه، إني أرى الطلاق قد وقع عليه. وذلك أن سقيه إياه منفعة، إلا أن تكون له نية من سلف أو غيره.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال لأنه قد عم جميع وجوه المنافع بقوله ألا ينفع فلانا فوجب أن يحنث إلا أن تكون له نية في وجه من وجوه المنافع، دون غيره فيصدق في ذلك مع يمينه، وإن قامت عليه بينة؛ لأنها نية محتملة غير مخالفة لظاهر قوله وبالله التوفيق.

[مسألة: قال إن لم أحج فامرأتي طالق البتة ولم يسم العام الذي يحج فيه]
مسألة وقال في رجل قال: إن لم أحج فامرأتي طالق البتة ولم يسم العام الذي يحج فيه: إنه لا يطأ امرأته ولا ينبغي له ذلك حتى يحج، فإن قال بيني وبين ذلك زمانا قيل أحرم واخرج، فإنها إن رفعت ذلك ضرب لها أجل المولي، قلت: فإن لم يحج من عامه وعليه من الزمان ما يحج مثله، قال ابن القاسم: إن رضيت امرأته أن تقيم معه بغير مسيس فليحج متى شاء، وإن رفعت أمره أو طلبت المسيس قيل له أحرم، وإن كان ذلك في المحرم، فإن أبى أن يحرم ضرب له أجل المولي فإن أحرم في ذلك الأجل لم

(6/217)


يفرق بينه وبين امرأته وإن مضت أربعة أشهر ولم يحرم طلقت عليه.
قال محمد بن رشد: ظاهر هذه الرواية مثل ظاهر قول ابن القاسم في المدونة إن الحالف بطلاق البتة إن لم يحج يمنع من الوطء من يوم حلف، وإن لم يأت بعد إبان خروج الناس إلى الحج، فإن رفعت امرأته أمرها إلى السلطان ضرب له أجل المولي، قال غيره في المدونة: إذا تبين ضرره بها، وقيل له: اخرج وأحرم وإن كان ذلك في المحرم، ومعنى ذلك على ما قاله عيسى بن دينار إذا وجد صحابة، وأما إذا لم يجد صحابة فلا يؤمر بالإحرام ولا يضرب له أجل المولي، وفي المسألة قول ثان وهو أنه لا يمنع من الوطء ولا يضرب له أجل المولي حتى يأتي وقت إبان خروج الناس إلى الحج، روى ذلك ابن نافع عن مالك، فإن ضرب له أجل الإيلاء وخرج فأدرك الحج قبل انقضاء أجل الإيلاء فحج بر وسقط عنه الإيلاء، وإن لم يحج طلق عليه بالإيلاء عند انقضاء أجله، وإن انقضى أجل الإيلاء قبل وقت الحج لم يطلق عليه حتى يأتي وقت الحج، فإن أتى وقت الحج فحج بر وسقط عنه الإيلاء، وإن لم يحج طلق عليه بالإيلاء، وإن لم يضرب له أجل الإيلاء ولا خرج حتى فاته الحج ضرب له أجل الإيلاء أيضا وقيل له: اخرج وأحرم على القول الأول، وأما على القول الثاني فقيل: إنه يطلق عليه وهو قول ابن القاسم، وقيل: إنه يرجع إلى الوطء حتى يأتي وقت إبان خروج الناس إلى الحج، وهو قول أشهب وقيل: إنه لا يرجع إلى الوطء أبدا ويضرب له أجل الإيلاء متى ما قامت به امرأته وفي المسألة أيضا قول ثالث وهو أنه لا يمنع من الوطء حتى يخشى أن يفوته الحج، فإذا خشي فواته وقامت به امرأته ضرب له أجل المولي وقيل له: اخرج فإن خرج فأدرك الحج بإسراع السير بر وسقط عنه الإيلاء، وإن لم يدرك الحج طلق عليه بالإيلاء إن كان قد انقضى أجله أو عند انقضائه إن كان لم ينقض بعد، وفي المسألة أيضا قول رابع وهو أنه لا يمنع من الوطء حتى يخشى أن يفوته الحج، فإذا فاته الحج وقامت به امرأته ضرب له أجل الإيلاء، فإن خرج لم تطلق عليه بانقضاء أجل الإيلاء حتى يأتي وقت الحج، فإن أتى

(6/218)


وقت الحج فحج بر وسقط عنه الإيلاء، وإن أتى وقت الحج فلم يحج طلق عليه بالإيلاء، وإن لم يخرج حتى انقضى أجل الإيلاء طلق عليه بالإيلاء، وهذان القولان الثالث والرابع من المدونة، وإن كان يوم حلف لم يبق بينه وبين وقت الحج ما يدرك فيه الحج فلا يمنع من الوطء ولا يدخل عليه الإيلاء في بقية ذلك العام، وهو دليل قوله في الرواية، فإن لم يحج من عامه وعليه من الزمان ما يحج في مثله فهذا تحصيل القول في هذه المسألة وبالله التوفيق.

[مسألة: حلف بطلاق امرأته ألا يدعها تخرج شهرا إلا لنقلة من منزل إلى منزل]
مسألة وعن رجل حلف بطلاق امرأته ألا يدعها تخرج شهرا، إلا لنقلة من منزل إلى منزل فأراد أن يخرج بها إلى قرية ثم يرجع قال: لا أرى أن يخرج بها إلا أن يريد الخروج بها من ذلك المنزل.
قال محمد بن رشد: قوله إلا أن يريد الخروج من ذلك المنزل معناه إلا أن يريد الانتقال من ذلك المنزل، وذلك لا يكون إلا بأن ينتقل عنه انتقالا صحيحا بجميع متاعه، فإذا فعل ذلك فلا حنث عليه، قال في سماع أبي زيد: وذلك إذا كان لخروجه مكث طويل شهرا أو نحوه، وذلك أنه حد من حلف لينتقلن من هذا المنزل استحسانا ولو رجع فيما دون الشهر لم يحنث على ما مضى القول فيه في آخر رسم من سماع أشهب وفي غيره وبالله التوفيق.

[مسألة: يأمر امرأته أن تعمل عملا ويقول أنت طالق إن لم تفرغي منه]
مسألة وقال في الرجل يأمر امرأته أن تعمل عملا ويقول أنت طالق إن لم تفرغي منه إلى أن أرجع إليك إن لم أهجرك أنه يهجرها ثلاثة أيام، يعني إذا لم تفرغ قبل رجوعه، فإن لم يهجرها فهو حانث.

(6/219)


قال محمد بن رشد: قد حكى ابن حبيب خلاف هذا عن ابن القاسم أنه لا يبر إلا بأن يهجرها شهرا، ولو قال إن لم أطل هجرانك لبر على القول الأول بالشهر، وهو قول ابن الماجشون، وعلى القول الثاني لا يبر إلا بأن يهجرها سنة، ولو قال أن أهجرك حينا أو زمانا لبر بالسنة واختلف في الدهر، فقيل فيه السنة، وقيل أكثر من السنة، روي ذلك عن مالك، وقال مطرف السنتان في الدهر قليل وبالله التوفيق.

[مسألة: يقول لامرأته أنت طالق إن لم أكن من أهل الجنة]
مسألة وقال عن مالك في الرجل يقول لامرأته أنت طالق إن لم أكن من أهل الجنة إنها طالق ساعتئذ، قال ابن القاسم: وإن لم أدخل الجنة عندي مثله.
قال محمد بن رشد: ساوى ابن القاسم بين أن يحلف الرجل بالطلاق أنه من أهل الجنة وبين أن يحلف ليدخلن الجنة في أن الطلاق قد وجب عليه، ومثله في المبسوطة لمالك إذا حلف على ذلك حتما، وقال الليث بن سعد: إنه لا شيء عليه، ونزع بقول الله عز وجل: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46] وإليه ذهب ابن وهب ولا يخلو الحالف على هذا من أن يريد بيمينه أنه من أهل الجنة الذين لا يدخلون النار أو أنه من أهل الجنة الذين لا يخلدون في النار أو لا تكون له نية في شيء من ذلك، فأما إن أراد بيمينه أنه من أهل الجنة الذين لا يدخلون النار فتعجيل الطلاق عليه بين ظاهر؛ لأن المسلم لا يسلم من مواقعة الذنوب، إذ لا يعصم منها الأنبياء فضلا عمن سواهم، قال الله عز وجل لنبيه - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2] وفي وصية الخضر لموسى: واستكثر من الحسنات فإنك مصيب السيئات، واعمل خيرا فإنك لا بد

(6/220)


عامل شرا، ولا يدري الحالف هل يغفر الله له ذنوبه أم لا؟ لأنه عز وجل يقول في كتابه: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] فالحالف على هذا إنما هو حالف على أن يغفر الله ذنوبه، فهو حالف على غيب لا يعلمه إلا الله، ولا اختلاف في إيجاب تعجيل الطلاق على من حلف، فلا ينبغي أن يختلف على هذا الوجه، وأما إن أراد بيمينه أنه من أهل الجنة الذين لا يخلدون في النار فالمعنى في يمينه إنما هو لا يكفر بعد إيمانه ولا ينتقل عن إسلامه وليثبتن عليه إلى الموت، الحالف على هذا حالف ليفعلن ما أمر به من الثبوت على الإسلام حتى يأتيه الموت وهو عليه، قال الله عز وجل: {وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102] أي اثبتوا على إسلامكم حتى يتوفاكم ملك الموت فهذا بين أنه لا شيء عليه؛ لأنه إنما هو حالف ألا يكفر وأن يثبت على إسلامه، فهو في التمثيل كمن حلف بالطلاق أن يقيم في هذه البلدة ولا يخرج منها حتى يأتيه الموت فلا شيء عليه، لا يجب عليه الطلاق إلا بالخروج من البلدة، فكذلك هذا لا يجب عليه الطلاق إلا بالكفر، فلا ينبغي أن يختلف في هذا أيضا، وأما إن لم تكن له نية فالظاهر من مذهب مالك وابن القاسم أن يمينه تحمل على الوجه الأول فيعجل عليه الطلاق، والأظهر أن يفرق بين اللفظين فيحمل قوله: إن لم أكن من أهل الجنة على الوجه الأول فيعجل عليه الطلاق، والأظهر فيه أنه لا يطلق القول على أحد أنه من أهل الجنة إلا إذا لم يدخل النار، ويحمل قوله إن لم أدخل الجنة على الوجه الثاني فلا يكون عليه شيء؛ لأن الظاهر من قوله إن لم أدخل الجنة إن لم أدخلها أصلا، فهو بمنزلة ما لو قال: إن خلدت في النار، وذلك يرجع إلى أنه إنما حلف ألا يكفر وأن يثبت على إيمانه، وأما قول الليث بن سعد وابن وهب فمعناه عندي أنهما حملا يمينه إذا لم تكن له نية على الوجه الثاني، ولهذا قال إنه لا شيء عليه، ولا يصح أن يتأول عليهما أنهما حملا يمينه على الوجه الأول ولم يوجبا عليه الطلاق؛ لأن ذلك يخرج إلى الإرجاء الصريح ومن

(6/221)


الحق أن ينزها عن أن يتأول عليهما ما يخرج إلى هذا فالاختلاف في هذا بين مالك والليث إنما يعود إلى ما يحمل عليه يمينه إذا لم تكن له نية وبالله التوفيق.

[مسألة: قال كل ثيب أنكحها فهي طالق ثم قال بعد ذلك كل بكر أنكحها فهي طالق]
مسألة وقال في رجل كل ثيب أنكحها فهي طالق، ثم قال بعد ذلك كل بكر أنكحها فهي طالق أنه يجوز له نكاح الصنف الذي حلف عليه آخرا ولا يجوز له نكاح الصنف الأول وهو رأي ابن القاسم، وأما مالك فليس قوله، سمعت مالكا يقول: لا ينكح واحدة منهما ولست أراه بارا أن ينكح الآخرة منهما.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم أظهر، وقد وقع له مثله في آخر رسم الصلاة من سماع يحيى؛ لأن اليمين لازمة له في الصنف الأول، فهو يجوز له نكاح شيء منه فكان بمنزلة من قال بعد ذلك كل امرأة أنكحها بأرض الإسلام فهي طالق وهو لا يقدر على الدخول إلى أرض الحراب، أو بمنزلة من قال كل امرأة أتزوجها إلا بالصين فهي طالق وبالله التوفيق.

[مسألة: قال امرأتي طالق لأن رؤي الليلة الهلال إن صمت غدا مع الناس فرئي الهلال تلك الليلة]
مسألة وعن قوم اجتمعوا في منزل فذكروا هلال رمضان فقال بعضهم: هو يرى الليلة، فقال رجل منهم: امرأتي طالق لأن رؤي الليلة الهلال إن صمت غدا مع الناس، فرئي الهلال تلك الليلة فخرج الرجل من جوف الليل إلى سفر فأفطر وخرج إلى سفر تقصر فيه الصلاة ويجوز في مثله الفطر.
قال: أرى عليه الطلاق إلا أن يكون نوى ذلك فيدينه وإن كانت عليه بينة فله نيته.
قال محمد بن رشد: إنما قال: إنه يحنث إلا أن ينوي ذلك لأن

(6/222)


الظاهر من مقصده أنه لم ينو ذلك، وأنه إنما أراد أن يخالف الناس فيما يجب عليه من الصيام ورؤيته إياه فيفطر وهو مقيم، فإن كان نوى ذلك فيدين في نيته يريد مع يمينه، وإن كانت عليه بينة لأنها نية محتملة لا تخالف ظاهر قوله وبالله التوفيق.

[مسألة: قال لامرأته أنت طالق إلى ألف سنة أو خمسمائة سنة]
مسألة قال ابن القاسم: إنا نقول فيما بلغنا ونظنه من قول مالك، من قال لامرأته أنت طالق إلى ألف سنة أو خمسمائة سنة لا طلاق عليه، وإنما الطلاق في الأجل الذي يطلق به عليه ساعتئذ كل أجل كان يبلغه أعمار الناس، فكل أجل لا تبلغه الأعمار فليس بطلاق.
قال محمد بن رشد: قوله: فأما كل أجل لا تبلغه الأعمار فليس بطلاق يريد الأعمار الذي يعمر إليها المفقود على الاختلاف الذي بينهم في ذلك وقد مضى هذا في رسم سلف وبالله التوفيق.

[مسألة: قال قد حلفت بالطلاق حتى إن امرأتي مني حرام]
مسألة قال ابن القاسم وسئل مالك عن رجل قال: قد حلفت بالطلاق حتى إن امرأتي مني حرام.
قال: يحلف بالله ما أراد الطلاق وما امرأته معه حرام ويخلى بينهما.
قال محمد بن رشد: قال ابن دحون في هذه المسألة إنها مسألة حائلة لا أصل لها في الفتيا إذ كان يجب أن يتبين منه بإقراره وإلى هذا ذهب ابن زرب فجعل أول مسألة من رسم يشتري الدور والمزارع من سماع يحيى مخالفة لها، وليس كما قاله؛ إذ ليس ذلك بإقرار صريح لأنه لم يقر أنه

(6/223)


حنث، فاحتمل عند مالك أن يكون أراد أنه خشي على نفسه الحنث لكثرة أيمانه بالطلاق فلذلك نواه مع يمينه والله أعلم.

[مسألة: يحلف لامرأته بطلاق كل امرأة ينكحها عليها فهي طالق البتة فيتزوج عليها سرا]
مسألة وسئل عن الرجل يحلف لامرأته بطلاق كل امرأة ينكحها عليها فهي طالق البتة، فيتزوج عليها سرا لا يعلم بذلك ثم يموت وقد علم الشهود بذلك أو لم يعلموا، فقام الشهود أترثه هذه المرأة التي تزوج عليها؟ .
قال: أما إذا علموا فلا شك أنها ترثه، وأما إذا لم يعلموا فقد اختلف فيه ورأيي أنها ترثه.
قال محمد بن رشد: قوله: وقد علم الشهود بذلك أو لم يعلموا، علموا بتزويجه ودخوله عليها أو لم يعلموا بذلك فورثها منه إذا علم الشهود بذلك فلم يقوموا عليه حتى مات؛ لأنه أسقط شهادتهم بترك قيامهم بها، وكذلك لو ماتت هي لورثها هو إذا كان منكرا لليمين؛ لأن الشهادة قد بطلت بترك قيامهم بها، وسحنون لا يرى ترك قيامهم بالشهادة لاختلاف الناس في لزوم اليمين بالطلاق قبل النكاح وهو قول مالك في رواية أبي ضمرة من سماع حسين بن عاصم من كتاب الشهادات قوله فيه: فأما الشهادة بالحنث فإن ذلك ماضي، وإنما ورثها منه إذا لم يعلم الشهود من أجل أن القيام عليه إنما كان بعد موته لا من أجل اختلاف الناس في اليمين إذ لم يقل بذلك ولا رعاه، ولو ماتت هي لم يرثها هو على هذا التعليل، وهو قول مالك في رسم حمل صبيا قبل هذا، ولو كان القيام عليه قبل موته لم يتوارثا إذ لم يراع في ذلك الاختلاف في اليمين، وهو مذهبه في المدونة؛ لأنه جعل عليها العدة ثلاث حيض فدل ذلك على أنه لا ميراث بينهما، ويأتي على ما في سماع أبي زيد من أنه لا يفرق بينهما إذا دخلا مراعاة الاختلاف أنهما يتوارثان أيضا مراعاة للاختلاف، وقد مضى في رسم إن خرجت ما فيه بيان لما ذكرناه وبالله التوفيق.

(6/224)


[مسألة: يقول لامرأته أنت طالق إلى سنة إلا أن يبدو لي ألا أطلقك]
مسألة وسئل مالك عن الذي يقول لامرأته أنت طالق إلى سنة إلا أن يبدو لي ألا أطلقك أو يقول لعبده أنت حر إلا أن يبدو لي ألا أعتقك، فهذا كله سواء الأجل وغير الأجل في هذا سواء أراها طالقا وأراه حرا.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال وهو بين لا اختلاف فيه لأن قوله في الطلاق والعتق بعد أن أوقع ذلك على نفسه معجلا أو إلى أجل: إلا أن يبدو لي بداء منه في الطلاق والعتق الذي أوجبه على نفسه وذلك لا يجوز له، ولو قال امرأتي طالق إن فعلت كذا وكذا إلا أن يبدو أو إلا أن أرى غير ذلك لكان ذلك له، وقد مضى في رسم أوصى القول بالاستثناء في مشيئة الله باليمين بالطلاق كله، وتدبر افتراق المعاني فيه تصب إن شاء الله.

[حلف بالطلاق في خصومة بينه وبين رجل ألا يفارقه حتى يبلغ أقصى حقه]
ومن كتاب البراءة
وسئل عن رجل حلف بالطلاق في خصومة بينه وبين رجل ألا يفارقه حتى يبلغ أقصى حقه في خصومته معه فوجد شاهدا واحدا قيل له احلف مع شاهدك وخذ حقك فنكل عن اليمين.
فقال إن كان حقا يعلمه فنكل فهو حانث وإن كان لا يعلم أحق هو أم باطل إلا بشهادة الشاهد من موروث وقع له أو لغيره فترك اليمين فهو أيضا حانث، وإن كان يعلم يقينا أنه لا حق له عليه وإنما أراد غيظه وأراد ألا يأخذ منه شيئا تلك نيته فترك اليمين فلا حنث عليه.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول على هذه المسألة مستوفى في رسم كتب عليه ذكر حق من سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادته وبالله التوفيق.

(6/225)


[مسألة: قول الرجل امرأته طالق ثلاثا إن لم أطلقها عند رأس الهلال واحدة]
مسألة وسألت ابن القاسم عن الرجل يحلف بالطلاق البتة ليطلقها رأس الهلال واحدة ثم أراد أن يتعجل تلك التطليقة فيطلقها قبل رأس الهلال هل ترى ذلك يخرجه من يمينه إن فعل؟ أو قال أنت طالق واحدة إن لم أطلقك عند رأس الهلال واحدة، هل الواحدة أو البتة في ذلك سواء؟ .
قال: إن طلقها قبل رأس الهلال التطليقة التي جعل عند رأس الهلال لم يكن عليه إلا تطليقة واحدة، ولو لم يطلقها أيضا كانت طالقا واحدة ساعة تكلم بذلك ولم يؤخر إلى رأس الهلال ولو أبى إذا حلف بالله وقف فقيل له إما أن تطلق الساعة واحدة أو طلقت عليك البتة.
قال محمد بن رشد: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في قول الرجل امرأته طالق ثلاثا إن لم أطلقها عند رأس الهلال واحدة، ثلاثة أقوال: أحدها قول ابن القاسم هذا إنه إن عجل عليه التطليقة التي جعل عند رأس الشهر [لم يكن عليه غيرها يأتي على مذهبه في المدونة في الذي يقول امرأتي طالق إن لم أطلقها أنه يعجل عليه الطلاق، والثاني أنه إن عجل الطلقة التي جعل عند الشهر لم يلزمه غيرها وإن أبى أن يعجلها ترك ولم يوقف على الطلاق، فإن لم يطلق حتى يحل الشهر بانت منه بالثلاث، وهو قول أصبغ وسحنون، وعليه يأتي ما في سماع أبي زيد من كتاب التخيير والتمليك؛ والثالث أنه لا يوقف حتى يأتي الشهر فيبر بالطلاق عنده أو يحنث، وإن عجل التطليقة قبل أن يأتي الشهر] لم يخرجه ذلك من يمينه ولم يكن له بد من أن يطلق عند رأس الهلال وإلا حنث، وهو قول المغيرة، وقد مضى تحصيل القول وبيانه في هذه المسألة في رسم حلف من سماع ابن القاسم من

(6/226)


كتاب التخيير والتمليك وفي رسم أوصى من سماع عيسى منه حاشى قول المغيرة هذا، وبالله التوفيق.

[مسألة: ضايقه أبوه في شيء فحلف بالطلاق ألا يدخل تلك القرية سنة إلا عابر سبيل]
مسألة وقال ابن القاسم في رجل ضايقه أبوه في شيء وكان ساكنا معه في قرية فحلف بالطلاق ألا يدخل تلك القرية سنة إلا عابر سبيل، فقدمها مجتازا فبات ليلة ثم أصبح غاديا أو قدمها في أول النهار فرحل عنها من يومه أو مع الليل أو بعد العصر.
قال: إن كان وجهه حين مر بها لغيرها لم يتعمد في الخروج إلى ذلك الموضع إرادة المرور بها إلا لحاجته إلى موضع غيرها ثم نزل بها مجتازا فلا بأس بما أقام إذا كان لا يقيم إلا كما يقيم المسافر لصلاح حاجته وما لا بد له كما يصنع الناس في المناهل، وليس في ذلك وقت إذا لم تكن إقامته للمنزل خاصة، وإن أراد الإقامة فلا بأس أن يتباعد عنها. وحد ما يتباعد الخمسة أميال والعشرة ونحوها.
قال محمد بن رشد: قوله إنه إذا حلف ألا يدخل القرية إلا مجتازا فلا بأس عليه في إقامته بها لصلاح حاجته إذا مر عليها مجتازا عليها إلى غيرها صحيح بيّن في المعنى لا اختلاف فيه، ولا حد على ما ذكر ولو حبسه بها كريه اليوم بعد اليوم لم يحنث ما لم ينو أن يقيم بها إقامة تلزمه إتمام الصلاة بها، وأما قوله: إذا أراد الإقامة بها فإنه يتباعد عنها الخمسة الأميال والعشرة أميال ونحوها فقد مضى في رسم الطلاق الأول من سماع أشهب ما في حد ذلك من الاختلاف فلا معنى لإعادته وبالله التوفيق.

[قال لختنه زوج ابنته إني أسألك حاجة فاحلف لي بالطلاق أن تقضيها]
وفي كتاب الجراب وسألته عن رجل قال لختنه زوج ابنته إني أسألك حاجة

(6/227)


فاحلف لي بالطلاق أن تقضيها، فحلف بطلاق امرأته البتة أن يقضيها، فقال له: طلق ابنتي فطلقها واحدة، فقال الأب: إنما أردت البتة كيف الأمر في هذا؟
قال ابن القاسم: القول قول الختن وهي البتة إذا كان كلامه ذلك كلاما واحدا كما ذكرت على المراجعة والنسق، وهي طالق على كل حال ثلاثا قد حلف له بالبتة ليفعلن وقد أراد الأب البتة حين راجعه في كلامه فقال إنما أردت البتة، وإنما سألتك البتة فهي البتة وإن افترقا وتداعيا بعد ذلك فقال الزوج: إنما سألتني واحدة وقد طلقتها، وقال الأب بل سألتك البتة فالقول قول الزوج والبينة على الأب؛ لأنه مدعى عليه بطلاق البتات، والزوج منكر فالقول قول الزوج ويحلف.
قيل لسحنون ما تقول في عبد قال لسيده إني أسألك حاجة أفتقضيها لي؟ قال: نعم، فقال له العبد: فاحلف لي أن تقضيها لي، فقال له السيد: امرأته طالق إن لم أقضها لك، فقال له العبد: فاعتقني.
قال: لا يلزمه عتقه وليس بحانث لأن هذه ليست من الحوائج التي يقضيها الناس، ولا يسألونها، قيل له: فلو قال له العبد لما أسعفه المولى بقضاء حاجته قال ما أقول لك؟ فقال المولى: امرأته طالق إن لم أقل ما تقول، قال العبد: قل أنت حر، قال أراه حانثا إن لم يقل كما قال العبد؛ إلا أن يستثني السيد بيمينه إلا أن تقول أنت حر.
قال محمد بن رشد: لم يتكلم ابن القاسم على مسألة سحنون في الذي استحلف سيده بالطلاق أن يقضي له حاجته، فلما حلف له قال اعتقني ويشبه ألا يخالفه ابن القاسم فيها لأن المسألتين مفترقتان بأن العبد

(6/228)


سأل العتق لنفسه ولم يسأله له غيره، وسأل الطلاق للمرأة غيرها ولم تسأله هي لنفسها؛ لأن من أعتق لا يقال له في عرف التخاطب إنه قضيت له حاجة بعتقه، وكذلك الطلاق لأنهما أعلى بأن يسميا حاجة في حق المعتق والمطلقة، وإنما يصح أن يسميا حاجة في حق من سأل ذلك لهما لغرض يكون له فيه، قال الله عز وجل: {وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا} [يوسف: 68] .
وأما سحنون فساوى بين المسألتين، وذلك أن له في كتاب ابنه في مسألة ابن القاسم أن الزوج لا يلزمه الطلاق وإن قال: لم أظن أنك تسألني مثل هذا؛ لأن هذا ليس من الحوائج التي يتعارف الناس سؤالها إلا أن يكون جرى من الكلام ما يظن أنه أراد بحاجته الطلاق.
وذهب ابن دحون إلى أن يرد قول ابن القاسم إلى قول سحنون فقال: إنما ألزمه ابن القاسم الطلاق لأنه أسعفه فيما سأله، ولو قال له ليست هذه من الحوائج التي تنقضي لما لزمه شيء على ما فسره سحنون في مسألة العبد.
والصواب أن ابن القاسم يوافق سحنون في مسألة العبد ويخالفه فيما له في كتاب ابنه في مسألة الطلاق للفرق الذي ذكرناه بين المسألتين والله تعالى الموفق.
والظاهر من قول سحنون أن السيد إذا استحلفه العبد بالطلاق أن يقول مثل قوله، فقال له العبد: قل أنت حر، فإنه إن قال ذلك لزمته حرية العبد، وان لم يقله لزمه طلاق امرأته، وهذا يأتي على القول بأن العتق يلزم باللفظ دون النية، وعليه يأتي قول أشهب في مسألة ناصح ومرزوق من كتاب العتق الأول من المدونة، وعلى قول القاسم لا يلزمه الحرية وإن قال ذلك إلا أن يقوله وهو يريد بذلك الحرية على طريقة الإسعاف وبالله التوفيق.

(6/229)


[مسألة: عبد قال كل امرأة أتزوجها ما دمت عبدا فهي طالق]
مسألة وسألته عن العبد يقول كل امرأة أتزوجها ما دمت عبدا فهي طالق، أو يقول كل امرأة أنكحها في أرض الإسلام فهي طالق، والحر يقول كل امرأة أتزوجها فهي طالق.
قال ابن القاسم: أما العبد الذي قال كل امرأة أتزوجها ما دمت عبدا فهي طالق، فإن ذلك يلزمه لأن ذلك أجل، بمنزلة الذي يقول كل امرأة أتزوجها ما دامت أمي حية فهي طالق فهو على مثل ما قال؛ لأن ذلك أجل فهو بمنزلة أو أشد، فإن قلت إن ذلك حرم النساء كلهن ما دام عبدا فليس له أن يحرم النساء جميعا، فإن هذا أيضا قد حرم النساء جمعا ما دامت أمه باقية، وإنما لزمهما ذلك من قبل أنه أجل حياة أمه والحرية كأنها أجل إلا أن يخاف العنت ولا يقدر على التسرر فلا بأس أن ينكحها، وأما الذي قال كل امرأة أتزوجها بأرض الإسلام فإن كان يقدر على الدخول في أرض الحرب فعل وإلا لم أر بأسا أن ينكح، وأما الذي قال كل حرة أتزوجها بأرض الإسلام فهي طالق فهو كما قال قد حرم عليه الحرائر لأنه قد أبقى لنفسه من النساء الإماء ونكاح الإماء له حلال.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة على ما بني عليه أصل المذهب من أن من حلف بطلاق ما يتزوج فحنث أو طلق ذلك من غير يمين يلزمه إذا خص ولا يلزمه إذا عم، والتخصيص يكون بالأعيان وبالأزمان وبالبلدان وبالانتساب فمن التخصيص بالأعيان أن يخص الحرائر دون الإماء أو الإماء دون الحرائر أو الأبكار، دون الثيب والثيب دون الأبكار، ومن التخصيص بالأزمان أن يقول كل امرأة أتزوجها إلى أجل كذا وكذا مما يبلغه عمره على ما مضى في رسم الرهون وغيره أو ما دمت عبدا

(6/230)


أو ما دام فلان حيا وما أشبهه ذلك، فهذا يلزمه إلا أنه يباح له التزويج إن خشي العنت على نفسه ولم يكن له من المال ما يتسرر به؛ لأنه قد حرم على نفسه جميع النساء في هذه الحال، ومن التخصيص بالبلدان أن يقول كل امرأة أتزوجها في مصر أو فيما عدا مصر وما أشبه ذلك، ومن ذلك أن يقول كل امرأة أتزوجها بأرض الإسلام فهي طالق وهو يقدر على الدخول في أرض الحرب، إلا أن هذا يختلف فيه، فقال ابن القاسم هو تخصيص يلزمه، وقال أصبغ ليس بتخصيص فلا يلزمه، كمن استثنى عددا يسيرا من النساء أو من قرية صغيرة، وأما إن كان لا يقدر على الدخول إلى أرض الحرب فلا يلزمه لأنه كالعموم، وقد اختلف فيمن استثنى نسوة سماها عشرا أو نحوها، فقال ابن القاسم: فهو كالعموم لا يلزمه ذلك، وقال مطرف: إن كان فيما استثنى أيضا لا زوج لها يحل له نكاحها في الحال لزمته اليمين، وقال ابن الماجشون: إن كان فيمن استثنى يحل له نكاحها يوما بعد زوج أو بعد طلاق زوج، وإن لم يكن فيهن من يحل له نكاحها في هذه الحال لزمته اليمين، قال ابن حبيب: وقول ابن القاسم رخصة وتوسعة، وقول مطرف استحسان، وقول ابن الماجشون هو القياس وبالله التوفيق. ومن التخصيص بالأنساب أن يقول كل امرأة أتزوجها من قريش أو إلا من قريش وما أشبه ذلك وبالله التوفيق.

[قال لامرأته إن أمكنتني من حلق رأسك فلم أحلقه فأنت طالق البتة]
ومن كتاب إن أمكنتني من حلق رأسك
قال ابن القاسم في رجل قال لامرأته إن أمكنتني من حلق رأسك فلم أحلقه فأنت طالق البتة، قلت فإن أراد أن يحلق بعد ذلك وأمكنته امرأته قال: لا ينفعه ذلك وقد حنث، وقاله ابن وهب.
قال محمد: هذا بين على ما قال لأنه علق الحلق، بالتمكين في يمينه وأوجب الطلاق على نفسه بتركه الحلق بعد

(6/231)


التمكين فوجب أن يحنث إذا أمكنته فلم يحلق، كما لو قال أنت طالق إن أمكنتني من حلتا رأسك لأحلقنه، فأمكنته فلم يحلق ثم أمكنته مرة أخرى فحلق لبر في يمينه، وإن لم تمكنه من الحلق لم يكن له أن يطأها حتى يحلق رأسها، فإن طلبته بحقها في الوطء ضرب له أجل الإيلاء فإن حل الأجل ولم يحلق طلق عليه بالإيلاء، وإن حلق في الأجل بر في يمينه وسقط عنه الإيلاء، وإن لم تطلبه بحقها في الوطء ولا حلق حتى مات أحدهما توارثا. لأن الحنث لا يقع عليه إلا بعد الموت إلا أن ينوي ليحلقن رأسها ساعة أمكنته من ذلك فيحنث بذلك، وقد قيل إنه محمول على التعجيل حتى يريد التأخير، والأول هو المشهور في المذهب، ولا فرق بين أن يقول الرجل امرأتي طالق إن لم أحلق رأسها وبين أن يقول امرأتي طالق لأحلقنه إن أمكنتني فأمكنته إذا لم يرد بذلك التعجيل، يبين هذا الذي ذكرناه قول مالك في أول سماع أشهب من كتاب النذور في الذي حلف إن أبق عبده ليضربنه فأبق فلم يضربه ثم أبق مرة ثانية فضربه أنه يبر بذلك وبالله التوفيق.

[مسألة: قال الرجل لامرأته أنت طالق يوم يجيء أبي]
مسألة وقال مالك إذا قال الرجل لامرأته أنت طالق يوم يجيء أبي فإنه يمس امرأته حتى يجيء أبوه فإن جاء أبوه طلقت عليه.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال، ومثله في المدونة وغيرها وهو مما لا اختلاف فيه لأنه طلاق إلى أجل قد يكون وقد لا يكون، ولو طلقها إلى أجل لا بد أن يكون مثل أن يقول امرأتي طالق إذا مات فلان أو يموت فلان لعجل عليه الطلاق، واختلف إذا طلقها إلى أجل الأغلب منه أن يكون مثل أن يقول امرأتي طالق إذا حاضت فلانة وهي في سن من تحيض، فقال ابن القاسم يعجل عليه الطلاق، وقال أشهب لا يعجل عليه،

(6/232)


واختلف في ذلك أيضا قول مالك وبالله التوفيق.

[مسألة: قال المدين قد قضيتك فإذا أنكرت فأنا آتيك بحقك غدا فحلف له بالطلاق]
مسألة وسئل عن رجل كان عليه خراج أرض فتعلق به فتحمل به رجل فغاب المتحمل به، فتعلق بالحميل فأتى بثلث دينار، فقيل له إن على صاحبك نصف دينار، فقال: لا والله لا أعرف إلا ثلث دينار، قيل له: اغرم السدس، فقال أنا آتيكم به غدا، قيل له احلف لنا بطلاق امرأتك أن تأتينا غدا بسدس دينار أو بصاحبنا، فحلف بالطلاق فخرج من عنده، فلما كان بالباب لقيه متقاضي الخراج الذي دونه، فشكى إليه وأخبره، فقال: لا والله ما على صاحبك إلا ثلث دينار، فارجع معي فرجع معه إلى الذي استحلفه، فقال له: لم ألزمت هذا بنصف دينار وليس على صاحبه إلا ثلث دينار؟ فقال له صاحبه الذي استحلفه: اذهب ليس عليك شيء، فخرج من عنده وذهب الأجل ولم يقضه.
قال: أراه قد حنث، قال: وكذلك لو أن رجلا تعلق برجل في حق له فقال له: قد قضيتك، وقال صاحب الحق: ما قضيتي، فقال المطلوب: أما أنا فقد قضيت، فإذا أنكرت فأنا آتيك بحقك غدا، فحلف له بالطلاق، ثم نظر صاحب الحق في كتاب تقاضيه أو ذكر أنه قد تقاضاه منه، فقال له: اذهب ليس لي عليك شيء قد وجدت ما ادعوت عليك باطلا أنه لا يخرجه من يمينه إلا أن يوفيه الحق وإلا حنث، ثم يرده عليه.
قلت فإن قامت للحالف بينة أنه قد قضاه ذلك الحق؟ قال: لو شهد له أبو شريح وسليمان بن القاسم لم يخرجه من يمينه حتى يوفيه الحق ثم يرده إليه.

(6/233)


قال ولقد بلغني عن مالك في رجل أسلف أخاه عشرة دنانير، واتخذ عليه طلاق امرأته أن يوفيه إلى شهر فمات أخوه المسلف قبل الشهر وليس له وارث إلا أخوه الحالف المستسلف، قال: أرى أن يأتي السلطان فيقضيها إياه ثم يردها عليه، قلت أفترى أنت ذلك؟ قال: نعم، إني لأستحسنه قلت: فلو لم يفعل أكنت تراه حانثا؟ قال: أحب أن يفعل، ولو وقع لم أره حانثا، وكذلك الذي يشتري الرأس ويكون ثمنه إلى أجل فيحلف بالطلاق أن يوفيه الثمن إلى أجل فيجد بالعبد عيبا يرد به أو يستحق بيديه قبل الأجل أنه لا يخرجه من يمينه حتى يوفيه الثمن إلى أجل فيعثر على البيع فيفسخ قبل الأجل لم يخرجه من يمينه حتى يوفيه ما حلف له عليه.
قال ولو كان أعطاه درهما في درهمين إلى أجل ثم حلف بالطلاق أن يوفيه إلى الأجل ففسخ البيع بينهما قبل الأجل لم يخرجه من يمينه حتى يوفيه ما حلف له عليه ثم رعه إليه.
قال محمد بن رشد: هذه المسائل كلها من شرح واحد فجرى فيها على أصل واحد وحملها على ما يقتضيه اللفظ ولم يراع في شيء منها المعنى الذي يظهر أن الحالف قصد إليه في يمينه وإن كان في بعضها أبين منه في بعض ما أذكر، أما الحميل الذي حلف ليعطين النصف الدينار الذي ادعى عليه من قبل المتحمل عنه، والغريم الذي حلف ليقضين الحق الذي ادعى عليه أنه لم يقضه فالمعنى فيهما جميعا سواء، وذلك أن كل واحد منهما حلف ليؤدين ما ادعى عليه به وهو يعلم أنه لا شيء عليه من ذلك، فالمعنى في يمين كل واحد منهما أنه إنما حلف ليؤدين إلى المحلوف له ما يدعي أن له قبله ليتخلص من دعواه ومطالبته إياه، فوجب على مراعاة المعنى إذا أقر أنه لا حق له قبله ولا مطالبة له عليه ألا يحنث إن لم يدفع إليه ما كان يدعيه قبله إذ قد برئ منه وتخلص من مطالبته إياه

(6/234)


بإقراره أنه لا حق له ووجب على ما يقتضيه لفظ يمينه من أنه حلف ليدفعن إليه ما يدعيه قبله إن حنث لا سيما وهو إنما حلف ألا يدفعن ذلك إليه وهو يعلم أنه لا شيء له قبله منه، وأما الذي اشترى العبد بثمن إلى أجل فيحلف أن يؤدي الثمن إلى ذلك الأجل فيجد به عيبا يجب به رده فالمعنى في يمينه أنه حلف ليؤدين حقا عليه فيما يظن فوجب على مراعاة المعنى إذا وجد عيبا وسقط عنه الثمن ألا يحنث إذا لم يدفع إليه الثمن إلى الأجل إذا لم يحلف أن يتطوع بدفع ما ليس عليه ووجب على ما يقتضيه لفظ يمينه من أنه حلف ليدفعن إليه الثمن إلي الأجل أن يحنث إن لم يدفعه إليه حتى حل الأجل، والحنث في هذه أبين منها في المسألتين اللتين قبلها لأن الثمن إنما سقط عنه باختياره إذ لو شاء أن يلتزم العيب لالتزمه ولعله قد كان مغتبطا وإنما ردة فرارا من القضاء الذي عليه، ومن أصولهم أن الحنث يدخل بأقل الوجوه وقد تقدمت هذه المسألة في رسم إن خرجت وأما المتسلف الذي حلف ليؤدين السلف إلى الذي أسلفه إياه إلى أجل فمات المسلف قبل الأجل والحالف المستسلف وارثه فلا اختلاف في أن اليمين قد سقطت عنه سقوط السلف الذي حلف ليقضيه إلى الأجل، واستحسان مالك أن يقضي السلطان ثم يرده عليه ضعيف؛ لأن دفعه إليه على أن يأخذه منه لغو لا فائدة فيه ولا معنى، ولا هو من الذي حلف عليه لا في لفظ ولا في معنى؛ إذ لم يدفع إلى من حلف ليدفعن إليه ولا حقا واجبا هو عليه، وأما الذي يشتري السلعة بثمن إلى أجل فيحلف ليؤدين الثمن إلى ذلك الأجل فيوجد البيع حراما أو تستحق السلعة فإن كان الحالف عالما بفساد البيع أو أن السلعة ليست للبائع، دخل في ذلك الاختلاف الذي ذكرناه في المسألتين الأولتين يحنث علي مراعاة اللفظ إلا أن يدفع الثمن ثم يرده إليه، وليس معنى ذلك أن يدفع إليه على أن يرده عليه لأن الدفع على هذا الوجه ليس بدفع، وإنما معناه أن يدفعه

(6/235)


إليه على ما حلف عليه ليبر في يمينه دون شرط، فإن رده إليه قبله منه، وإن أبى أن يرده عليه فقام عليه فيه حلف أنه لم يرده عليه إلا وهو ينوي أن يقوم عليه فيأخذه منه إذا خلص من يمينه ولا يحنث على مراعاة المعنى، وأما إن لم يكن عالما بفساد البيع ولا بأن السلعة ليست للبائع فالأظهر سقوط اليمين عنه بسقوط الثمن عنه بالاستحقاق أو بالفساد قياسا على مسألة السلف، وقد قيل إن اليمين لا تسقط عنه ويحنث إن لم يدفع ما حلف بدفعه إلي الذي حلف ليدفعنه إليه على مقتضى لفظه في اليمين وهو بعيد، والذي سلف دينارا في دينارين إلى أجل يحلف على قضائهما يجري على قياس هذا في التفرقة بين أن يعلم بحرام ذلك أو لم يعلم وبالله التوفيق.

[مسألة: اتخذ عليه طلاق امرأته أن يوفيه المائة إردب السلف إلى الأجل]
مسألة قال ولو أن رجلا سلف عشرة دنانير، في مائة إردب إلى أجل واتخذ عليه طلاق امرأته أن يوفيه المائة إردب إلى الأجل، فلما كان قبل الأجل قال: إني أخاف أن لا يكون عندي طعام فهل لك أن يقيلني أو تصالحني على أمر، فأقاله أو صالحه، ثم أخبر أنه قد لزمه الحنث ولا يخرجك ما صنعت من ذلك. فقال لصاحب الحق إنما أرد عليك ما صالحتك إن كان صالحه أو العشرة الدنانير التي أقلتك منها، ويكون الطعام لي عليك إلى أجله، فلا ينفعه ذلك وقد حنث؛ لأن هذا بيع حادث كل واحد منهما ملك أمره إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل؛ لأن الصلح وإلا قاله قد لزمتهما وليس لواحد منهما أن يرد ذلك وقد ثبت ذلك عليهما، وقد حنث صاحب اليمين ولا ينفعه أن يرد عليه ما أخذ منه، ويكون الطعام عليه إلى أجله، وكذلك قال مالك.
قال محمد بن رشد: قوله لأن الصلح والإقالة قد لزمتهما وأن الذي صالح ليس له أن يرد ما صالحه كلام وقع على غير تحصيل، إذ لا يجوز

(6/236)


قبل الأجل في الطعام المسلم فيه إلا الإقالة خاصة، فإذا صالح قبل الأجل على دنانير أقل أو أكثر من رأس المال أو على دراهم أو على عروض أو على طعام من صنف ما له عليه أقل أو أكثر أو من غير صنف ما له عليه فهو صلح حرام لا يحل ولا يجوز، ولا يحنث الحالف به لأن الطعام الذي حلف لنوفينه إلى الأجل ثابت عليه على حاله لا يسقط عنه بالصلح لأن الواجب فسخه وأن يرد عليه ما قبض منه من ذلك كله.
وأما إذا أقاله من الطعام قبل الأجل على رأس ماله فقال هاهنا إنه قد حنث ومعنى ذلك إذا كانت الدنانير التي أخذ في رأس ماله ليس فيه وفاء بالطعام الذي كان عليه على ما مضى في رسم إن خرجت قبل هذا، وعلى معنى ما في المدونة حسبما بيناه في الرسم المذكور وبالله التوفيق.

[مسألة: يقول لامرأتين له إنهما طالقتان إن دخلتما هذه الدار فدخلتها إحداهما]
مسألة وقال ابن القاسم في رجل يقول لامرأتين له إنهما طالقتان إن دخلتما هذه الدار فدخلتها إحداهما: أنها طالقتان جميعا لأن مالكا قال في رجل قال لامرأتيه أنتما طالقتان إن دخلتما دار فلان ودار فلان فدخلت إحداهما الدارين إن الطلاق لزمه فيهما جميعا، أو قال لامرأتيه أنتما طالقتان إن مسستكما فمس إحداهما: قد لزمه فيهما جميعا، أو حلف بالطلاق إن أكل هذين القرصين فأكل واحدا إنه حانث إن أكل منهما شيئا وهو الذي سمعنا ورأينا، وأما قول من قال تطلق عليه واحدة منهما حتى تفعل الأخرى وأما أن تطلق التي دخلت منهما [فهذا ما لم يقله أحد من مشرقي ولا من مدني وإنما الذي قال أهل المشرق إنه لا يطلق عليه] واحدة منهما حتى تفعل الأخرى، وأما أن تطلق التي دخلت فهذا لا يستقيم.
قال محمد بن رشد: لم يختلف قول مالك وهو قول أحد من

(6/237)


أصحابه فيما علمت أن من حلف إلا يفعل فعلين ففعل أحدهما أو لا يفعل فعلا ففعل بعضه أنه حانث من أجل أن ما فعله من ذلك قد حلف ألا يفعله إذ هو بعض المحلوف عليه، واختلف قول ابن القاسم في الذي يقول لامرأتيه إن دخلتما الدار فأنتما طالقتان أو يقول لهما إن مسستكما فأنتما طالقتان وما أشبه ذلك على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه لا شيء عليه حتى يدخلا جميعا أو حتى يمسهما جميعا، وهو قوله في العتق الأول من المدونة.
والثاني: أنهما يطلقان جميعا بدخول الواحدة منهما أو مسيس الواحدة منهما، وهو قوله ها هنا في هذه الرواية.
والثالث: أنه تطلق التي دخلت أو التي مس منهما، وهو قوله في رسم الثمرة من سماع عيسى من كتاب العتق في الذي يقول لعبديه إن شئتما الحرية فأنتما حران فشاء أحدهما ولم يشأ الآخر، قال: من شاء منهما الحرية فهو حر وقوله أيضا في سماع أبي زيد من كتاب الصدقات والهبات في الذي يتصدق على الرجلين بعبد ويقول: إن قبلتما، فقبل أحدهما ولم يقبل الآخر قال: من قبل منهما كان له ما قبل، وهو قول أشهب في كتاب العتق الأول من المدونة وأنكره ها هنا وقال: إنه لم يقله مشرقي ولا مدني ولكل قول منهما وجه: فوجه القول الأول: التعلق بما يقتضيه اللفظ وعزاه ها هنا إلى أهل المشرق لأنه على أصولهم في الاقتصار في الأيمان على ما تقتضيه الألفاظ دون الاعتبار بالمعاني، ووجه القول الثاني: القياس الذي ذكره في الرواية، ووجه القول الثالث: مراعاة المعنى وهو أنه إنما أراد معاقبتهما على الدخول بالطلاق، أو معاقبة نفسه على المسيس بالطلاق فوجب أن تلحق العقوبة لمن دخل منهما، وأن تلحقه العقوبة فيمن مس منهما وبالله التوفيق.

(6/238)


[مسألة: حلف لامرأته بالطلاق ألا يخرجها من منزلها إلا برضاها ورضا أخيها وأختها]
مسألة وقال في رجل حلف لامرأته بالطلاق ألا يخرجها من منزلها إلا برضاها ورضا أخيها وأختها فرضيت المرأة أن تخرج مع زوجها وأبى الأخ والأخت، وقالت المرأة: إنما أخذتما هذا لي.
قال: لا يخرج بها إلا بالاجتماع منهم على الرضى، قلت له: فإن أرادت أن تخرج زائرة وتقيم العشرة والعشرين؟ فقال: إن كان إنما كان أصل يمينه على النقلة فلا شيء عليه في الزيارة، وإن كان لم ينو شيئا فلا يخرجها.
قال محمد بن رشد: قوله: إنه لا يخرج بها إلا بالاجتماع منهم على الرضى صحيح على ما أجمعوا عليه من أن الحنث يدخل بأقل الوجوه حسب ما ذكرناه في المسألة التي قبل هذه، فإن خروجه بها دون أن يرضى أحدهم كخروجه بها دون أن يرضى واحد منهم في وجوب الحنث عليه، ألا ترى أنه لو حلف ألا يدخل الدار حتى يأكل الرغيف لحنث إن دخل الدار قبل أن يستوعب أكل الرغيف، كما يحنث إن دخلها قبل أن يأكل منه شيئا، وهذا بين، ولو جعل أمرها بأيديهم إن أخرجها بغير رضاها لكان له أن يخرج بها إذا رضيت وقد مضى من بيان هذا والقول فيه في رسم حلف من سماع ابن القاسم في كتاب النكاح ما فيه كفاية وشفاء فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
وقوله: إنه لا يحنث بالزيارة وإن قامت فيها العشرة والعشرين، هذا نحو قول أشهب وأحد قولي أصبغ في أن من حلف ألا يساكن رجلا فزاره لا يحنث بالزيارة وإن طالت خلاف ما مضى في أول رسم يوصي، وقد مضى تحصيل القول في هذا المعنى في أول سماع يحيى من كتاب النذور فلا معنى لإعادته والعلم لله.

(6/239)


[مسألة: يقول للمملوكة إن تزوجتك فأنت طالق فاشتراها]
مسألة وسئل ابن القاسم عن الذي يقول للمملوكة إن تزوجتك فأنت طالق فاشتراها، فقال: لا بأس أن يطأها وكذلك إن قال إن اشتريتك فوطئتك فأنت حرة وأنت علي كظهر أمي فتزوجها فإنه يطأها ولا شيء عليه.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأن الطلاق ليس من ألفاظ الحرية فالحرية ليست من ألفاظ الطلاق، فإذا قال الرجل: أنت حرة فلا تكون طالقا إلا أن يكون أراد بذلك الطلاق، وإذا قال لأمته: أنت طالق فلا تكون حرة إلا أن يكون أراد بذلك الحرية، واختلف إن قال لامرأته: أنت حرة مني ففي الثمانية أنها طالق البتة وإن لم ينو بذلك الطلاق وفي التخيير والتمليك من المدونة لابن شهاب أنه يحلف ما أراد بذلك الطلاق ولا يلزمه طلاق، وكذلك على قياس هذا لو قال لأمته: أنت طالق مني وكذلك التزويج ليس من ألفاظ التسري والشراء ليس من ألفاظ التزويج، فإذا قال الرجل للرجل: قد بعتك ابنتي أو أمتي بكذا وكذا لا يكون ذلك نكاحا إلا أن يكون أراد بذلك النكاح، وإذا قال في أمته قد زوجتك أمتي بكذا وكذا لا يكون ذلك بيعا إلا أن يكون أراد بذلك البيع، فصح بما ذكرناه أن من قال في مملوكة إن تزوجتها فهي طالق أنه لا شيء عليه إن اشتراها إلا أن يكون أراد بذلك إن اشتريتها فهي حرة، وأما من قال: إن اشتريتك فأنت حرة فلا شيء عليه إن تزوجها إلا أن يكون أراد بذلك إن تزوجتها فهي طالق وبالله التوفيق ولا رب غيره.

[قال لامرأته أنت طالق البتة إن صالحتك فصالحها]
ومن كتاب القطعان قال عيسى وسألت ابن القاسم عن الرجل يحلف بطلاق امرأته واحدة على أن يصالحها فصالحها هل يرد ما أخذ منها في الصلح؟ قال ابن القاسم: لا يرد ذلك عليها وهو بمنزلة من قال

(6/240)


لغلامه: إن قاطعتك إلى سنة فأنت حر فقاطعه قبل السنة أنه حر ولا يرد عليه شيئا، قال ابن القاسم: ولو قال لامرأته أنت طالق البتة إن صالحتك فصالحها فإنها تطلق عليه بالبتة، ويرد عليها ما أخذ منها في الصلح وهو بمنزلة من قال لغلامه إن قاطعتك فأنت حر ولم يقل إلى سنة فقاطعه فإنه حر ويرد عليه ما أخذ منه.
قال عيسى: وإنما فرق بينهما لأنه حين قال لها: أنت طالق واحدة إن صالحتك فصالحها حنث فيها بتطليقه اليمين ثم وقعت عليه طلقة الصلح وهي في عدة منه يملك رجعتها لو شاء، فأخرج من يده ما كان يملك من رجعتها بالذي أخذ منها بالصلح، فلذلك لم يرد ذلك عليها، وأنه إذا قال: أنت طالق البتة فصالحها فإنها تطلق بالبتة ثم يقع الصلح وليست منه بامرأة فأخذ منها ما أخذ بغير شيء يخرجه من يديه، فلذلك يرد ذلك عليها وكذلك حين قال لغلامه: إن قاطعتك إلى سنة فأنت حر فقاطعه قبل السنة فله ما أخذ للذي يعجل للعبد من العتق قبل السنة، وإذا قال: إن قاطعتك فأنت حر، فقاطعه فهو حر ويدفع إليه ما أعطاه لأنه لم يتعجل هاهنا العتق قبل أجل كان ضربه كما فعل في الأول، فهذا فرق ما بينهما.
قال محمد بن رشد: أما الذي يحلف بطلاق امرأته واحدة يريد وقد دخل بها ألا يصالحها فيصالحها فلا خلاف في أنه لا يرد عليها ما أخذ منها في الصلح كما قال، وتمثيله ذلك بالذي يقول لغلامه إن قاطعتك إلى سنة فأنت حر فقاطعه قبل السنة أنه حر ولا يرد عليه شيئا صحيح أيضا على المعنى دون اللفظ؛ لأنه قال فيه إن قاطعتك إلى سنة فأنت حر، والصواب إن قاطعتك فأنت حر إلى سنة وعلى هذا يصح التمثيل وهو الذي أراد، وأما على ما وقع من قوله إن قاطعتك إلى سنة فأنت حر فلا يصح التمثيل لأن الجواب على هذا في مذهبه إنما هو أن يكون حرا في الوقت إن قاطعه

(6/241)


قبل السنة، ويرد عليه ما أخذ منه، كقوله: إن قاطعتك فأنت حرة؛ لأنه لما قاطعه قبل السنة كان ما أخذ منه في القطاعة بعد وجوب الحرية له على مذهبه الذي ذهب إليه، وأما إذا قال لامرأته: أنت طالق البتة أو أنت طالق واحدة وهي غير مدخول بها إن صالحتك فصالحها فذهب ابن القاسم إلى أنه يجب عليه أن يرد عليها ما أخذ منها بالمصالحة بمنزلة من قال لعبده: أنت حر ولم يقل إلى سنة إن قاطعتك فقاطعه أنه يرد عليه ما أخذ منه في المقاطعة، وحكى البرقي عن أشهب أنه لا يرد في ذلك على الزوجة شيئا مما أخذ في الصلح ولا على العبد شيئا مما أخذ منه في المقاطعة.
قال: وكان يعجب بها ويقول: إنما رضي بالحنث لمكان ما أخذ منها، وكذلك أقول إنه الصحيح في النظر والقياس؛ لأنه إذا قال لامرأته أنت طالق البتة إن صالحتك فصالحها إنما يقع الطلاق عليه بالمصالحة التي جعلها شرطا لوقوعه فكانت المصالحة هي السابقة للطلاق إذ لا يكون المشروط إلا تابعا لشرطه، فإذا كانت المصالحة سابقة للطلاق مضت ولم يجب على الزوج رد ما أخذ منها، وبطل الطلاق واحدة كان أو ثلاثا لوقوعه بعد الصلح في غير زوجة، وكذلك القول في قول الرجل لعبده أنت حر إن قاطعتك تمضي المقاطعة إن قاطعه لتقدمها الحرية.
ووجه ما ذهب إليه ابن القاسم على ما فسره عيسى أنه جعل الطلاق سابقا للمصالحة، فإن كان الطلاق واحدة في المدخول بها مضت المصالحة لوقوعها في العدة وملكت المرأة بها نفسها، وإن كان الطلاق واحدة أو ثلاثا في التي لم يدخل بها بطلت ورد الزوج ما أخذ فيها لأنها وقعت فارغة في غير زوجة، وهذا منكسر من قوله إذ لو تقدم الطلاق المصالحة لوجب أن يقع عليه بالمصالحة طلقة بائنة إذا كان الطلاق واحدة في التي قد دخل بها وهذا ما لا يقوله هو ولا غيره.
وجعل ابن القاسم في هذه المسألة الشرط تابعا للمشروط إنما بناه والله أعلم على قول مالك فيمن قال لعبده إن بعتك فأنت حر فباعه أنه حر على البائع، وليس ذلك بصحيح؛ لأن قول مالك في هذه المسألة

(6/242)


استحسان على غير قياس، والقياس فيها قول من قال: إنه لا شيء على البائع لأن العتق إنما وقع من البائع بعد حصول العبد للمشتري بالشراء، وإنما ينبغي أن تقاس هذه المسألة على قولهم فيمن قال إن اشتريت فلانا فهو حر أو إن تزوجت فلانة فهي طالق أن الحرية تلزمه بالشراء والطلاق بالتزويج لوقوع الحرية بعد الشراء والطلاق بعد النكاح على الأصل الصحيح في وقوع المشروط عقيب الشرط وبالله التوفيق.

[مسألة: قال لامرأته إن أنت خرجت من عتبة الباب فأنت طالق ثلاثا]
مسألة قال عيسى: وحدثني ابن وهب عن ابن شعبان قال: بلغني أن ابن عمر وسعد بن أبي وقاص استفتاهما رجل قال لامرأته إن أنت خرجت من عتبة الباب فأنت طالق ثلاثا، قال فأخرجت إحدى رجليها وحبست الأخرى ثم أدخلت التي أخرجت فقالا له: قد حرمت عليك لا تحل لك حتى تنكح زوجا غيرك، قال عيسى: وقال ابن القاسم مثله.
قال محمد بن رشد: لم يفرق ابن القاسم في هذه الرواية ولا ابن عمر وسعد بن أبي وقاص فيما ذكر عنهما في هذه الحكاية بين أن يكون اعتمادها على الرجل الذي أخرجته من العتبة أو على الرجل الذي لم تخرجه فحمله أصبغ وغيره على عمومه في كل حال، ويحتمل أن يحمل قولهم على أنها اعتمدت عليهما معا أو على التي أخرجت لأن ابن حبيب حكى عن ابن الماجشون أنه إن كان اعتمادها على الرجل التي أخرجت فقد حنث، وإن كان اعتمادها إنما كان على الرجل التي لم تخرجه فلا حنث عليه، وهو جيد من قوله، إلا أنه قال: لا يحنث إن كان اعتمادها عليهما جميعا، وهو بعيد؛ لأنا إن حملنا قول ابن عمر وسعد بن أبي وقاص

(6/243)


وابن القاسم على أنهم رأوا الطلاق قد وقع على الحالف بإخراج رجلها من العتبة وإن كانت لم تعتمد عليه لزمنا عليه أن يوجب الحنث بإخراج يدها من العتبة وهو بعيد، وقد قال ابن الماجشون أنه لا يحنث وإن أخرجت [رأسها وصدرها إذا كان اعتمادها على رجليها في داخل العتبة بخلاف العتبة إذا كانت راقدة لأنها حينئذ يكون اعتمادها على يديها فيحنث إذا أخرجت صدرها ورأسها ولا يحنث إذا أخرجت رأسها ورجليها وهي] راقدة، وبالله التوفيق.

[مسألة: حلف الذي عليه القمح بالطلاق أن يوفيه صاحبه إلى الأجل ثم أقاله]
مسألة وسئل عن الرجل يكون له على الرجل قمح من تسليف كان سلفه إياه وقد حلف الذي عليه القمح بالطلاق أن يوفيه صاحبه إلى الأجل، ثم أقال صاحب القمح الذي عليه القمح قبل الأجل.
قال ابن القاسم: إن كان الذي أقاله به هو مثل ثمن القمح قبل الأجل حين يقيله فلا حنث عليه. وقال أشهب مثله.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة في الذي قبل هذا وفي رسم إن خرجت، فلا وجه لإعادته، وبالله التوفيق.

[مسألة: قال لعبده إن لم أبعك فامرأته طالق البتة فمات العبد أو أبق]
مسألة وقال ابن القاسم: في رجل قال لعبده إن لم أبعك فامرأته طالق البتة فمات العبد أو أبق.
قال: أما الموت فإنه إن لم يكن فرط في بيعه حتى مات العبد فلا شيء عليه، وإن كان فرط في بيعه حتى لو شاء أن يبيعه

(6/244)


قبل أن يموت باعه ففرط في ذلك حتى مات العبد فهو حانث. قال: وأما الإباق فإن رفعت المرأة أمرها إلى السلطان ضرب له أجل المولي أربعة أشهر من يوم ترفع ذلك إليه، فإن أخذ العبد فباعه قبل الأربعة أشهر فقد بر، وإن لم يقدر على العبد حتى مضت الأربعة الأشهر طلق عليه طلاق الإيلاء واحدة، فإن وجد العبد وباعه في العدة ارتجع، وإن لم يقدر على العبد حتى خرج من العدة فلا رجعة له عليها.
هذه مسألة صحيحة بينة على معنى ما في المدونة وغيرها وستأتي متكررة في سماع أبي زيد فلا وجه للقول فيها، وبالله التوفيق.

[مسألة: قال لامرأته إن لم أتزوج عليك فأنت طالق البتة]
مسألة وسئل ابن القاسم عن رجل قال لامرأته إن لم أتزوج عليك فأنت طالق البتة ثم قال لها: إن تزوجت عليك فتلك المرأة طالق البتة.
قال: أراها الساعة طلقت عليه بالبتة إلا أن يشاء أن تدع ذلك وتقيم معه لا يطأها ولا ينظر إلى شعرها فإن رفعت أمرها طلقت مكانها.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأنه على حنث ولا يقدر على البر فلا سبيل له إلى وطء امرأته أبدا، فإن رضيت أن تبقى معه بغير وطء بقيت وان رفعت أمرها وسألته الوطء طلقت مكانها ولم يضرب له أجل الإيلاء إذ لا يقدر على الفيء، وقال: إنه يضرب له أجل الإيلاء ولا يجوز له الوطء لعلها أن ترضى بالبقاء معه على غير وطء فإذا حل أجل الإيلاء ولم ترض بالمقام معه على غير وطء طلق عليه بانقضائه، والقولان قائمان

(6/245)


من المدونة من كتاب الإيلاء وهذه المسألة تمام مسألة رسم أوصى فيما تقدم وبالله التوفيق.

[مسألة: يحلف لامرأته بطلاقها البتة ليتزوجن عليها إلى شهر فيتزوج قبله]
مسألة وسئل عن الذي يحلف لامرأته بطلاقها البتة ليتزوجن عليها إلى شهر فيتزوج قبل الشهر ويدخل بها بعد الشهر.
قال: أراه حانثا وإنما التزويج المسيس.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة على أصولهم في أن البر لا يكون إلا بأكمل الوجوه، وقد مضت والقول فيها في رسم لم يدرك من سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادة ذلك وبالله التوفيق.

[مسألة: قال لرجل امرأتي طالق البتة إن ساكنتك وكان معه في بيت وحلف ليلا]
مسألة وسئل عن رجل قال لرجل: امرأتي طالق البتة إن ساكنتك وكان معه في بيت وحلف ليلا.
فقال: ينتقل مكانه وإن أخر ذلك إلى الصباح حنث، قال: ولو قال امرأته طالق البتة لأنتقلن عنك فإنه يطلب ويرتاد لنفسه منزلا ولكن لا يطأ حتى ينتقل.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في النذور من المدونة في الذي يحلف بالطلاق ألا يساكن رجلا أنه يخرج تلك الساعة وإن كان في جوف الليل فإن أقام حتى يصبح حنث ألا يكون نوى ذلك، وقد قيل له يوم وليلة، وهو قول أصبغ وأشهب، قال ابن لبابة: ولا يمنع في خلال ذلك من الوطء وقوله صحيح لأن اليوم والليلة عندهما كالأجل، فهو في ذلك على بر، وقد قيل: إن له ومن الفسحة في ذلك ما يرتاد فيه موضعا ينتقل إليه، وهو ظاهر ما في سماع ابن القاسم، وقد مضى القول على ذلك هنالك وأما

(6/246)


الحالف لينتقلن فإن لم ينو الاستعجال فليس له أن يطأ حتى ينتقل ويضرب له أجل الإيلاء إن رفعته امرأته في ذلك، وأن أخذ في الانتقال ساعة حلف لم يمنع من الوطء، وفي المدنية من رواية ابن القاسم عن مالك أنه محمول على التعجيل حتى ينوي التأخير، وإن لم ينتقل ساعة حلف وإن كان في جوف الليل حنث كالذي يحلف على ترك المساكنة، وقد مضى في أول سماع ابن القاسم بيان القول في الحلف على ترك المساكنة فلا معنى لإعادة ذلك هنا وبالله التوفيق.

[مسألة: بينه وبين رجل منازعة فقال امرأته طالق البتة إن لم يكن أبي ميتا خيرا من أبيك حيا]
مسألة وسئل عن رجل كان بينه وبين رجل منازعة فقال: امرأته طالق البتة إن لم يكن أبي ميتا خيرا من أبيك حيا، أو قال: إن لم أكن أنا ميتا خيرا منك حيا.
قال ابن القاسم: تطلق عليه امرأته بالبتة.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن الميت ليس جزءا من الحي في شيء من أمور الدنيا ولا بأكثر أعمالا منه وطاعات في هذا الوقت؛ لأن الميت ليس من أهل العمل، فوجب أن يكون حانثا إلا أن يكون له نية مثل أن يقول إنما أردت أن أبي خير لي ميتا من أبيك لك حيا إذ يكرمني الناس لما يعلمون من خير أبي، بخلاف ما لك أنت مع أبيك في حياته لما يعلمون من شره ويكون ذلك معروفا، فتكون له نيته، ومثل أن يقول إنما أردت أن الناس يتنادون بحياة أبيك لما هو عليه من الأحوال المذمومة، وأبي ينتفع الناس بعد موته بما عمله في حياته من طريق أصلحه أو مال حبسه أو علم أبقاه وخلده وما أشبه ذلك ويكون ما ذكره من ذلك معروفا فينوى فيه والله أعلم.

[حلف بالطلاق ألا يدخل على امرأته فلان فيأتي فلان ذلك إلى بيت ليدخله فيدخل رجله]
وفي كتاب باع شاة وسئل عن الرجل يحلف بالطلاق ألا يدخل على امرأته فلان

(6/247)


فيأتي فلان ذلك إلى بيت ليدخله فيدخل رجله الواحدة في البيت فيصاح به، لا تفعل، فإن فيه فلانة فيرجع.
قال مالك: هو حانث، وهو مثل الذي يحلف ألا يأكل هذين القرصتين فيأكل أحدهما أنه حانث.
قال محمد بن رشد: قول مالك هذا مثل ظاهر ما تقدم في الرسم الذي قبل هذا لابن عمر وسعد بن أبي وقاص وابن القاسم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وقد مضى القول على ذلك فلا معنى لإعادته وبالله التوفيق.

[مسألة: قال لامرأة من النساء كل امرأة أنكحها غيرك فهي طالق]
مسألة وقال مالك: من قال لامرأة من النساء كل امرأة أنكحها غيرك فهي طالق فهو مثل الذي يقول: كل امرأة أنكحها عليك فهي طالق.
قال محمد بن رشد: قول مالك إن قول الرجل لامرأة من النساء كل امرأة أنكحها غيرك فهي طالق فهو مثل قوله لها إن لم أنكحك فكل امرأة أنكحها فهي طالق، هو مثل قوله في كتاب الأيمان بالطلاق من المدونة سواء، وفي ذلك من قوله نظر في أن قوله لها كل امرأة أنكحها غيرك فهي طالق نص جلي لا يحتمل التأويل في أنه حرم على نفسه نكاح جميع النساء سواها فلا يلزمه شيء إذ لم يحض من النساء إلا امرأة واحدة على أصل مذهبه كانت متزوجة أو غير متزوجة خلاف قول ابن الماجشون في أن ذلك يلزمه وإن كانت متزوجة إذا كانت ممن تحل له يوما ما، وخلاف قول مطرف في أن ذلك إنما يلزمه إذا كانت غير متزوجة، وقوله لها إن لم أنكحها فكل امرأة أنكحها فهي طالق كلام محتمل لأن ظاهره يقتضي

(6/248)


أنه إنما أوجب على نفسه طلاق كل امرأة ينكحها قبلها، فعلى هذا يلزمه الطلاق إذ له أن يتزوج بعدها ما شاء من النساء وإلى هذا ذهب ابن عبدوس وسحنون إلا أنهما اختلفا فيما تزوج قبلها فقال ابن عبدوس: يلزمه فيها الطلاق ساعة تزوجها، وقال سحنون: لا يعجل عليه الطلاق ويوقف عنها حتى ينظر هل يتزوجها أو لا، فإن طلبت امرأته الوطء ضرب له أجل الإيلاء فإن لم يتزوجها حتى ينقضي الأجل طلق عليه بالإيلاء وإن تزوجها بر وانحل عنه أجل الإيلاء، وكذلك إن ماتت أيضا لأنه يصير بموتها قد امتنع من نكاح جميع النساء إلى غير أمد فلم يلزمه ذلك ولم يلتفت مالك إلى ما يقضيه ظاهر لفظه، وحمله على معنى ما ظهر إليه من أنه أراد بذلك طلاق كل امرأة يتزوجها سواها وقاس عليها المسألة الأخرى إلا أنه لم يقصد بذلك حقيقة القياس إذ لا يقاس ما لا احتمال فيه على ما فيه احتمال، وإنما قصد إلى التشبيه بين المسألتين ولعله ظهر إليه من المسائل أنه إنما شك في حكم المسألة الأولى.
وقوله: إن قول الرجل لامرأته كل امرأة أنكحها غيرك فهي طالق مثل قوله لها كل امرأة أنكحها عليك فهي طالق، يريد أن قول الرجل لامرأته كل امرأة أنكحها غيرك أو سواك فهي طالق يلزمه، وتكون بمنزلة أن لو قال لها كل امرأة أتزوجها عليك، بخلاف إذا قال ذلك لأجنبية.
قال محمد بن رشد: وأصبغ بن الفرج، لا شيء عليه، قال ذلك لزوجته أو لأجنبية، وذلك بمنزلة أن يقول كل امرأة أتزوجها ولا يزيد علي ذلك، وإنما قال لزوجته إذا قال عليك.

[مسألة: يقول إن لم يجيء أبي إلى شهر فامرأتي طالق]
مسألة وسألته عن الذي يقول إن لم يجيء أبي إلى شهر فامرأتي طالق أو إن لم يقضه غريمه فامرأته طالق والحق حال علي الغريم أو إلى أجل أو إن لم يعطني فلان دينارا إلى شهر هل يطأ في هذا

(6/249)


كله ضرب لذلك أجلا أو لم يضرب.
قال ابن القاسم أما الذي حلف بالطلاق إن لم يجيء أبوه فإنه إن كان ضرب لذلك أجلا فهو يطأ إلى ذلك الأجل وإن لم يضرب أجلا ضرب له أجل المولى فإن جاء وإلا طلق عليه طلاق الإيلاء، وأما الذي حلف على غريم له ليقضينه فإنه إن كان الحق حالا تلوم له ولم يضرب له أجل المولي لأن كل من حلف على فعل غيره ليفعلنه لم يكن فيه أجل المولي وتلوم له على قدر ما بدا مما أراد فإن فعل وإلا حنث، كذلك قال لي مالك: وإن كان حقه إلى أجل فحلف على ذلك فلا شيء عليه إلى الأجل.
قلت له فسواء قال إن لم يقضني إلى الأجل أو قال إن لم يقضني؟ قال: ذلك كله سواء لأنه قد علمنا أنه إنما حلف إلى الأجل إلا أن يقول حلفت على أن يعجل لي حقي فيتلوم له، قلت: ولم جعلت الذي حقه حال فحلف عليه ليقضينه مثل الذي حلف على رجل ليبين له وهذا السلطان يقضي عليه إن يقض وهذا لا يقضي عليه بأن يهب له؟ قال: لأنه حلف على فعل غيره، أرأيت لو أكرهه السلطان أكنت تراه بارا؟ قال: لا يكون بارا وإن قضي عليه السلطان فقضاه إلا أن يكون نوى إلا أن يغلبه السلطان [فإذا لم ينو ذلك فهو حانث إذا أكرهه السلطان؛ لأن مالكا قال: من رجل سأله رجل حقه فحلف بالطلاق ألا يقضيه شيئا: إنه حانث إن قضى عليه السلطان فقضاه إياه] ، وسواء إذا حلف على غريمة ليقضينه طائعا أو كارها في الأجل أنه يتلوم له ولا يضرب له أجل المولى لأنه إنما حلف على فعل غيره فليس

(6/250)


يختلف إن لم يمتي وإن لم يقضني، قال ابن القاسم: كل من كان يتلوم له في امرأته من هؤلاء وغيرهم فإنه إذا مضى من الأجل مثل الذي يتلوم له فإنه حانث ولا يسأل عن شيء، والتلوم في ذلك ليس بواحد، إنما ينظر في هذا إلى قدر ما يرى وما يرجى له، والذي يحلف إن لم يجئ أبي ولم يضرب أجلا إنما يضرب له من يوم ترفع امرأته ذلك.
قال القاضي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فرق في هذه الرواية في الحالف على غيره ليفعلن فعلا ولم يضرب لذلك أجلا بين أن يكون المحلوف عليه غائبا أو حاضرا وقد مضى تحصيل القول في هذه المسألة في رسم يوصي بمكاتبه من سماع عيسى من كتاب الإيلاء فغنيت بذلك عن إعادته هنا مرة أخرى وبالله التوفيق.

[مسألة: حلف بطلاق امرأته ألا يرزأها من مالها شيئا فقربت إليه طعاما فأكل منه]
مسألة وسئل عن رجل حلف بطلاق امرأته ألا يرزأها من مالها شيئا فقربت إليه طعاما فأكل منه.
قال: قد حنث.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال لأنه إذا أكل من طعامها فقد رزأها في مالها إلا أن تكون له نية في شيء بعينه ويأتي مستفتيا فتكون له نيته.

[مسألة: حلف بالطلاق البتة ألا يأذن لها إلى أهلها فأذن لها فلم تسر]
مسألة وسئل عن رجل حلف بالطلاق البتة ألا يأذن لها إلى أهلها فأذن لها فلم تسر.

(6/251)


قال: إذا أذن لها فقد حنث سارت أو لم تسر.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن الذي حلف ألا يفعله هو الإذن فلما أذن لها وجب أن يحنث وبالله التوفيق.

[مسألة: حلف بالطلاق ألا يدخل على أخته في بيتها فدخل عليها غير بيتها]
مسألة وسئل عن رجل حلف بالطلاق ألا يدخل على أخته في بيتها فدخل عليها غير بيتها.
قال: إن كان إنما حلف على قطيعتها فدخل عليها في بيتها أو غير بيتها فقد حنث، قال ابن القاسم: إن كان نوى البيت بعينه فلا بأس أن يدخل عليها في غير بيتها، وإن لم تكن له نية فقد حنث.
قال محمد بن رشد: حمل ابن القاسم يمينه على القطيعة حتى ينوي البيت بعينه؛ لأن ذلك هو المعنى المقصود بالأيمان في العرف والعادة وهو مصدق في دعوى أنه أراد البيت بعينه وإن كان على يمينه بينة؛ لأن البينة في ذلك موافقة للفظ ويحلف على ذلك لدعواه خلاف العرف والعادة، والحمد لله.

[مسألة: قال لرجل أطلقت امرأتك قال نعم كما طلقت أنت امرأتك]
مسألة وسئل عن رجل قال لرجل: أطلقت امرأتك؟ قال: نعم كما طلقت أنت امرأتك، فإذا هو قد طلق امرأته ولم يعلم بذلك، هل عليه طلاق؟ وإنما كان على وجه لعب.
قال: إذا لم يكن يعلم أن الآخر طلق ولم يكن يريد هو بذلك طلاقا [وحلف على ذلك] فلا طلاق عليه، قال ابن

(6/252)


القاسم: وذلك إذا استيقن أنه لم يعلم.
[قال القاضي: إذا شهد عليه بذلك القول وقيم عليه بالطلاق فلا يصدق فيما ادعاه من ذلك إذا لم يظهر ما يدل على صدق دعواه، مما يقع به اليقين أنه لم يعلم بطلاق الرجل امرأته من شاهد دال أو فحوى كلام أو ما أشبه ذلك، إذ لا يصح أن يقطع بمعرفة ذلك ببينة، فإذا استوقن أنه لم يعلم] ، بشيء من هذه الوجوه دون أن يتحقق العلم بذلك حلف كما قال إنه لم يعلم بذلك ولا أراد بذلك الطلاق، ولا يحلف أنه كان لاعبا لأن اللاعب يلزمه الطلاق [إذا نواه] كما يلزم المجد؛ لأن هزله جد على ما يأتي لأصبغ في نوازله بعد هذا، وعلى ما مضى في رسم الطلاق من سماع أشهب من كتاب التخيير والتمليك، ولو أمكن أن يتحقق أنه لم يعلم بطلاق الرجل امرأته لما لزمته يمين إذا كان قوله: كما طلقت أنت امرأتك نسقا بقوله: نعم، على اختلاف في هذا الأصل قد ذكرناه في رسم كتب عليه من سماع ابن القاسم، ولو أتى مستفتيا غير مطلوب بالطلاق لصدق فيما ادعاه كله دون يمين، وبالله التوفيق.

[سمى الرجل امرأة بعينها وقال إن تزوجت فلانة فهي طالق واحدة]
ومن كتاب حمل صبيا على [دابة]
قال ابن القاسم: إذا سمى الرجل امرأة بعينها وقال: إن تزوجت فلانة فهي طالق واحدة، فإنه إن تزوجها طلقت عليه بواحدة، فإن نكحها بعد ذلك لم تطلق عليه.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة والقول [فيها] مستوفى في هذا الرسم بعينه من صدر السماع فاكتفيت بذلك عن إعادته وبالله التوفيق.

(6/253)


من سماع يحيى بن يحيى من ابن القاسم
من كتاب الكبش
قال يحيى: وسألت ابن القاسم عن رجل أراد أن يُدخل على بنته وهي مريضة رجالا يشهدهم على وصيتها فحلف زوجها بطلاقها ألا يدخل عليها أولئك النفر الذين أراد أبوها أن يدخلهم عليها، فأخرجت المرأة من الدار إلى القوم فأشهدتم على وصيتها ثم صحت، أترى زوجها حانثا إذا أشهدت أولئك النفر بأعيانهم وإن كانوا لم يدخلوا عليها إذ أخرجت إليهم؟
فقال: بل أرى أن يُنَوَّى، فإن قال: إنما كرهت دخولهم لئلا يروا من حال بيتي ما أكره دُيِّن في ذلك واستحلف وإن أقر أنه إنما كان حلف لكيلا تشهدهم على ما كانت ترضى، فإذا خرجت إليهم فأشهدتهم فكأن قد دخلوا فهو حانث.
قلت أرأيت إن خاصمته امرأته في هذه اليمين زمانا وهو منكر أن يكون حلف بها فلما قامت عليه البينة ادعى أنه إنما كره حين حلف دخولهم بيته ولم يرد منعها من إشهادهم، وقد كان منكرا للحلف في أصل الخصومة؟ .
قال: نعم، لا أرى إنكاره لليمين يقطع عنه أن ينوى في يمينه ويدين فيها.
قلت: أرأيت إن كان حين حلف قد بين لمن حضر من العدول أنه قد كان مكابرا لها ولا سيما فيما كانت تريد أن توصي به يشتد ذلك عليه ويظهر منعها منه والسخط عليها فيه حتى يستدل أن يمينه إنما كانت كراهية لإشهادها على ما كانت تريد أن

(6/254)


توصي به ولعله ممن يسر بدخول الرجال عليه لحسن حال بيته وصلاح هيئته أتنويه أم لا؟ فقال: لا أرى أن تقطع عنه على ما ادعى من النية للذي وصفت من حالته وأرى أن يدين ما ادعى ويحلف عليه ثم لا حنث عليه إن حلف على ما ادعى من نيته.
قال محمد بن رشد: الظاهر من مقصد الحالف أنه إنما أراد ألا يشهد أولئك النفر على وصيتها فيحمل يمينه على ذلك ويحنث إذا أشهدتهم وإن لم يدخلوا عليها، إلا أن يدعي أنه إنما أراد ألا يدخلوا عليها فيصدق في نيته مع يمينه وإن كان مطلوبا بالطلاق، وقد شهد عليه باليمين؛ لأنها نية محتملة مطابقة لظاهر لفظه، ولو كان مستفتيا غير مطلوب بالطلاق لم يكن عليه يمين فيما ادعى من النية.
وأما قوله إنه يُنَوَّى في ذلك بعد أن أنكر اليمين فهو على ما في رسم كتب عليه ذكر حق من سماع ابن القاسم من كتاب التخيير والتمليك وفي رسم الكبش من سماع يحيى منه من أن الرجل إن ناكر زوجته فيما قضت به في التمليك بعد أن أنكر أن يكون ملكها، وقد مضى من القول على ذلك هنالك ما فيه كفاية لمن تأمله فيه ولم ير شهادة الشهود بما يظهر إليهم من قصد المشهود عليه وإرادته عاملة في إسقاط ثبوته، والوجه في ذلك أنه لا يمتنع أن يكون نازعهم في الوصية وكره أن توصي بها، ثم لم يحلف على ذلك ونوى في يمينه شيئا آخر مخافة أن يحنث فيما نازعهم به لو حلف عليه فهو أعلم بنيته التي لا يطلع عليها سواه إلا الله عز وجل، فوجب ألا تبطل لا سيما واللفظ يطابقها، وقد وقع في رسم الطلاق من سماع أشهب من كتاب التخيير والتمليك وفي رسم أصبغ من كتاب التدبير إعمال الشهادة بنحو هذا وبالله التوفيق:

[مسألة: تسلف من رجل مالا وحلف له بالطلاق ليقضينه ساعة يبلغ منزله]
مسألة قال يحيى وسألت ابن القاسم عن رجل تسلف من رجل مالا وحلف له بالطلاق ليقضينه ساعة يبلغ منزله أو ساعة ينزل

(6/255)


منزله فأقبل المستسلف راجعا إلى منزله ومعه المسلف فبلغا المنزل حيث غابت الشمس فدخل الحالف منزله فاشتغل ببعض شأنه ونسي يمينه، فلما كان ثلث الليل أو نحوه ذكر يمينه فخرج إلى صاحبه بالمال فقضاه إياه.
قال أراه حانثا إلا أن يكون نوى بيمينه ساعة أبلغ منزلي أو أنزل منزلي يريد بذلك إذا بلغ ليقضينه، ولم يرد ساعة نزوله ولا ساعة بلوغه فأرى أن يُنَوَّى في ذلك ويحلف عليه ولا حنث عليه إذا قضاه من ليلته أو الغد.
قلت: أرأيت إن كان لم ينو ساعة يبلغ إنما أراد ليقضينه إذا جاء منزله أتراه في سعة من تأخير القضاء اليوم واليومين أو الثلاثة أو كم تراهما في سعة من ذلك؟ فقال اليوم والليلة.
قال محمد بن رشد: قوله: إنه حانث إلا أن يكون نوى إذا بلغ ليقضينه ولم يرد ليقضينه ساعة بلوغه صحيح على أصولهم في أن يمين الحالف إذا عريت من النية والبساط محمولة على ما يقتضيه لفظا في اللسان أو على أظهر محتملاته إن كان محتملا لوجهين أو أكثر، وقوله ساعة يبلغ يقتضي أن يقتضيه في تلك الساعة بعينها فإن أخر قضاءه عنها وجب أن يحنث ونواه مع يمينه يريد إذا طولب بالطلاق ولم يأت مستفتيا لأن الساعة لما لم تكن مؤقتة ولا محدودة احتمل أن يريد بها الساعة التي يصل فيها بعينها وأن يريد بذلك التعجيل، فوجب أن يصدق في أنه إنما أراد بذلك أن يعجل له حقه إذا بلغ ولا يمطله به مع يمينه على ذلك إن كان مطلوبا ولم يأت مستفتيا فلا يحنث إذا قضاه فيما دون الليلة واليوم مما يكون إذا فعله فقد عجل له حقه ولم يمطله به، ولو حلف ليقضينه حقه إذا جاء منزله ولم يرد بذلك التعجيل لما حنث بتأخيره قضاءه إذا جاء منزله إلا أنه لا يجوز له أن يطأ حتى يقضيه؛ لأنه على حنث ويدخل عليه الإيلاء إن رافعته امرأته وطلبته بحقها في الوطء، فهذا وجه القول في هذه المسألة، وبالله التوفيق.

(6/256)


[يقول امرأته طالق أو غلامه حر إن فعل كذا وكذا فحنث]
ومن كتاب الصبرة قال يحيى: وسألت ابن القاسم في الرجل يقول امرأته طالق أو غلامه حر إن فعل كذا وكذا، فحنث أنه يخير فيقال له: أوجبت حنثا في أيّهما شئت إن شئت، فأعتق العبد، وإن شئت فطلق المرأة، أنت في ذلك بالخيار؛ لأنه قد استثنى حين حلف فقال: امرأته طالق، أو غلامه حر، فمن أجل ذلك خُيِّر.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن موضوع أو في اللسان في الماضي للشك، وفي المستقبل للتخيير؛ لاستحالة أن يخير أحد فيما قد فات ومضى، أو يشك في أي الأمرين كان، ولما لم يكن أحدهما، فوجب إذا قال الرجل: امرأته طالق، أو غلامه حر، إن فعل فلان كذا وكذا، أو فعلت كذا وكذا، ففعله أن يخير فيما شاء من ذلك إلا أن يقول: ولا خيار لي في ذلك، أو يريد ذلك فيلزمه عتق العبد، وطلاق المرأة، وقد مضى في رسم العرية، من سماع عيسى، إذا قال: امرأتي طالق، أو غلامي حر، إن لم يفعل كذا وكذا، والقول في ذلك، فهو تتميم هذه المسألة، وبالله التوفيق.

[مسألة: يسلف في الطعام إلى أجل ويحلف له البائع بالطلاق ليقضينه إلى الأجل]
مسألة وعن الرجل يسلف في الطعام إلى أجل، ويحلف له البائع بالطلاق ليقضينه إلى الأجل الذي يسلفه إليه، ثم يسلفه صفقة هو ورجل آخر، فيقضيه عند أجل الصفقة الأولى التي حلف له فيها، وشريكه غائب، فلما قدم أنكر، وقال: لا يجوز أن تقضي منه شيئا دوني، والذي اقتضيت منه بيننا، أيبر الحالف، ويجوز لهذا ما اقتضى أم لا؟
قال: أرى ما اقتضى يمضى، على كان وجب للمحلوف له

(6/257)


من تسليفه الذي اختص به، وعلى الصفقة الأخرى التي له ولشريكه على قدر ما كان على الغريم من ذلك الدين، ويكون للمحلوف له بقدر ما يصير لدينه الذي وجب له خاصة، ويكون لشريكه وله بقدر ما يصير للدين الذي كان لهما على الغريم يقتسمانه، ولا يكون له ما اقتضى خالصا دون أن يحاص فيه شريكه على ما فسرت لك، ولا يبرأ الحالف؛ لأنه لم يدفع إلى المحلوف جميع حقه عند الأجل.
قال محمد بن رشد: ذكر ابن زيد هذه المسألة في النوادر، وقال فيها: إن قوله عند أجل الصفقة الأولى غلط في النقل، قال: ورأيت في بعض النسخ من المجموعة، فأعطاه عند الأجل عدد الصفقة الأولى قال: وهذا أصح، ولم يفسر عم دفع؟ فقسم على الصفقتين، وقول ابن أبي زيد: وهذا أصح، معناه وهذا الصحيح؛ إذ لا يصح معنى المسألة إلا على ذلك، وقوله: ولم يفسر عم دفع صحيح، إذ لو تبين أنه إنما يدفع إليه ذلك العدد على الصفقة الأولى لما كان لشريكه عليه في ذلك دخول، وأبرأ الحالف في يمينه، وأما قوله فقسم على الصفقتين، فإنه اتبع به ظاهر ما في الرواية، وليس ذلك بصحيح على ما نذكره بعد، وقد رأيت لابن دحون في هذه المسألة أنه قال فيها: هي وهم، وإن كان الطعام كله إلى أجل واحد؛ لأنه لو كان لرجلين على رجل دين بينهما، ولأحدهما دين مفرد، والأجل سواء فقضى الذي له الدين المفرد لم يكن للآخر كلام إلا أن يكون مفسرا، فيكون له كلام على اختلاف في ذلك، وقول ابن دحون: فقضى الذي له الدين المفرد لم يكن للآخر كلام فهو الوهم، فليست المسألة بوهم في إيجاب الحنث، وإنما هي وهم في صفقة القبض لا في القبض؛ إذ الصواب أن يفض ما اقتضى على ما كان وجب للمحلوف له من تسليفه الذي اختص به، وعلى ما يجب من الصفقة الأخرى دخل معه فيه الشريك، وحنث الحالف؛ إذ لم يصح للقابض جميع حقه قبل الأجل، وهذا بيّن، والله سبحانه أعلم.

(6/258)


[يحلف للرجل بطلاق امرأته ليقضين رجلا حقه يوم الفطر]
ومن كتاب الصلاة وسئل عن الرجل يحلف للرجل بطلاق امرأته ليقضين رجلا حقه يوم الفطر، وهو من بعض أهل المياه، فأفطر واليوم السبت، وقضاه ذلك اليوم ثم جاء الثبت من أهل الحاضرة أن الفطر كان يوم الجمعة، قال: سمعت مالكا يقول: هو حانث.
قال محمد بن رشد: هذه المسألة صحيحة على أصل المذهب، في أن من حلف ألا يفعل فعلا ففعله مخطئا أو جاهلا أو ناسيا يحنث؛ لأن يمينه تحمل على عموم لفظه في جميع ذلك إلا أن يخص بنيته شيئا من ذلك، فتكون له نيته مثال ذلك في الخطأ والجهل أن يحلف الرجل ألا يكلم رجلا، فيكلمه جاهلا به، يظن أنه غيره، وقد مضى القول في ذلك، في رسم سلف، من سماع عيسى، وكذلك هذا لا ينتفع بجهله أن يوم الجمعة كان يوم الفطر إلا أن تكون له نية تخرجه من الحنث في ذلك، وإنما مثل ذلك أن يحلف الرجل ليقضين رجلا حقه يوم كذا، فيمر ذلك اليوم، وهو يظن أنه لم يأت بعد، وبالله التوفيق.

[مسألة: يستحلف غريمه بالطلاق فيقول إنما نويت واحدة وقد حنث في ظاهر أمره]
مسألة وقال في الذي يستحلف غريمه بالطلاق، فيقول: إنما نويت واحدة، أو قال: قد استثنيت سرا، وحركت به لساني، وقد حنث في ظاهر أمره: إن الطلاق يلزمه بما استحلف عليه، فقيل له: ففيم بينه وبين الله تعالى ماذا ترى عليه؟ قال: لا شيء عليه، قال: وإن حلف بالمشي، أو بالهدي، أو بالله، أو بيمين ليس طلبها إلى العباد، وإنما عليه الكفارة فيما بينه وبين الله، دين عليه ذلك ونواه، ونفعه استثناؤه، ولم يضره ما نوى المستحلف إن حلف بالمشي إلى بيت الله، فقال: نويت مسجدا من مساجده نوى ذلك، وإن حلف بالله فقال:

(6/259)


قد استثنيت سرا، وحركت به لساني، نوى ذلك، ولم يكن عليه شيء.
وهذا وما أشبهه مخالف للطلاق والعتق وما أشبههما.
قال ابن القاسم: وكل ما وصفت لك من تفسير صور هذه المسألة، فإنما ذلك إذا أحلفه غريمه، فأما إذا تطوع له باليمين من غير أن يسأله ذلك الغريم، ولا أن يلجأه إليه، فكل ما حلف به فهو يلزمه على ما أظهر، وهو لا ينفعه ما أسر من لغز ولا استثناء، لا في المشي إلى بيت الله، وفي نذر، ولا في شيء مما يحلف به متطوعا.
قال محمد بن رشد: قوله في الذي يستحلف غريمه بالطلاق فيقول: إنما نويت واحدة، أو استثنيت سرا، وحركت لساني: إن الطلاق يلزمه بما استحلف عليه، هو مثل ما مضى في قوله في رسم حمل صبيا، من سماع عيسى، ومثل قول ابن الماجشون وسحنون أن اليمين على نية المستحلف، لا على نية الحالف، خلاف قول مالك في رسم البز، من سماع ابن القاسم، وقول ابن وهب في سماع زونان عنه، الواقع عنه، وفي رسم حمل صبيا أيضا، من سماع عيسى.
وتفرقته في هذا بين ما يقضي عليه به، وما لا يقضى عليه به، هو مثل ما له في سماع أصبغ في كتاب النذور، وأما قوله: إنه إذا تطوع له باليمين من غير أن يسأله ذلك، فلا ينفعه ما أسر من لغز أو استثناء في شيء من الأشياء، بخلاف إذا سأله ذلك واستحلفه، فهو مثل قوله في رسم أوصى، من سماع عيسى، في كتاب النذور، وخلاف قوله، في سماع أصبغ منه، وهذه مسألة تتفرع إلى وجوه، والاختلاف فيها كثير قد مضى تحصيله في رسم شك في طوافه، من سماع ابن القاسم، من كتاب النذور، وبالله تعالى التوفيق.

(6/260)


[مسألة: قال الغريم امرأتي طالق البتة إن كنت لم أدفع إليه حقك]
مسألة وقال في الرجل يأمر غريما له أن يدفع ما له عليه إلى وكيل له، ثم سأله بعد أيام فقال: قد دفعت إلى وكيلك ما أمرتني، فقال: قد كتب إلي وكيلي أنه لم يقبض منك شيئا، فقال الغريم: امرأتي طالق البتة إن كنت لم أدفع إليه حقك، وقال الطالب: امرأتي طالق إن كنت دفعت إليه شيئا.
قال: أما المطلوب فينوى في يمينه، ولا يبرأ من الحق إلا ببينة على الدفع، وأما الطالب فحانث من عاجل أمره؛ لأنه حلف على غيب لا علم له به، ولا يجوز للإمام أن يقر امرأته عنده، وقد تبين أنه حلف على غير علم، ولا يقين من شأن الذي حلف عليه.
وقال القاضي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قوله: ولا يجوز للإمام أن يقر امرأته عنده؛ من أجل أنه حلف على ما لا يستيقنه، وإن كان لم يرم بذلك مرمى الغيب، وإنما غلب ذلك على ظنه؛ لصدق وكيله عنده هو على ما مضى تحصيل القول فيه في رسم يوصي، من سماع عيسى، فلا معنى لإعادته هنا مرة أخرى، وبالله التوفيق.

[مسألة: له امرأتان فيحلف بطلاق إحداهما لأنكحن عليها]
مسألة وسئل عن الرجل تكون له امرأتان، فيحلف بطلاق إحداهما: لأنكحن عليها، ويحلف للأخرى بطلاقها ألا ينكح عليها، فينكح عليها امرأة، ويمسها، فإذا هي أخته من الرضاعة.
قال: يفرق بينه وبين أخته من الرضاعة، ولا يعد نكاحها نكاحا فيما رجا من البر، فيما حلف لإحدى امرأتيه لينكحن عليها، وعليه أن ينكح عليها أخرى نكاحا حلالا ثابتا على غير تحليل، ولا

(6/261)


من ذوات المحارم من نسب ولا رضاعة، قال: وأما الذي حلف بطلاقها ألا ينكح عليها فقد حنث فيها، وهي طالق بما حلف واحدة فأكثر من ذلك؛ لأنه قد نكح عليها، وهو مجمع على حنثه فيما حلف به بطلاقها.
قلت له: أرأيت هذا الذي يحلف بطلاق امرأته لينكحن عليها إن نكح عليها امرأة في عدتها ومسها، أو في غير عدتها ومسها في الحيضة ثم طلقها؟ قال: لا يبر بنكاح واحدة منهما، ولا يعد مسيس ما لم يحله الله مسيسا، ولا يبر حتى ينكح نكاحا حلالا، ويمس مسيسا حلالا.
قال محمد بن رشد: هذا كله صحيح لا اختلاف فيه في المذهب على أصولهم في أن الحنث يدخل بأقل الوجوه، والبر لا يكون إلا بأكمل الوجوه، وقد مضى القول على هذا المعنى في مواضع، من ذلك رسم استأذن، وأول رسم لم يدرك، ورسم إن خرجت، من سماع عيسى، وبالله التوفيق.

[مسألة: يشترط عليه عند النكاح إن تزوج عليها فهي طالق ويتزوج عليها]
مسألة وقال في الرجل يشترط عليه عند النكاح إن تزوج عليها فهي طالق، ويتزوج عليها، ويقول: إنما أردت واحدة، ويقول: ما اشترطت إلا لأكون طالقا البتة: إنه لا يقبل قوله، وهي البتة.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول فيها مستوفى في رسم الرهون، من سماع عيسى، من كتاب النكاح، وفي رسم استأذن، من سماع عيسى، من كتاب التخيير والتمليك؛ فليتأمله من أحب الوقوف عليه هنالك، وبالله التوفيق.

(6/262)


[مسألة: يقول لامرأته أنت طالق البتة إن سألتني الطلاق إن لم أطلقك فسألته]
مسألة وقال في الرجل يقول لامرأته: أنت طالق البتة إن سألتني الطلاق، إن لم أطلقك، فسألته الطلاق فقال: أمرك بيدك، فقضت بالطلاق أو تركته: إن ذلك لا يخرجه من يمينه، وقد حنث بالذي حلف به من الطلاق واحدة، أو أكثر منها؛ لأنها حين سألته الطلاق لم يطلقها كما حلف، وليس يكون التمليك طلاقا أبدا، وربما ردت ذلك المرأة، ولم تقض شيئا فأراه حانثا.
قال: أرأيت إذا لم يقل: إن سألتني الطلاق فلم أطلقك ساعتئذ فأنت طالق، فأحب أن يؤخر ذلك أياما، فقال: أنا أطلقها يسوف نفسه يوما بيوم، أيكون ذلك له؟ قال: لا يجوز له تأخير ذلك عن مجلسها الذي سألته الطلاق فيه، فإن أخر ذلك حنث.
قال محمد بن رشد: سحنون يقول: إنها إن طلقت نفسها بر، وإن لم تطلق نفسها حنث، ولا كلام في أنها إذا لم تطلق نفسها ولا طلقها هو حتى انقضى المجلس الذي سألته فيه الطلاق فقد حنث، وإنما الكلام إذا طلقت نفسها بالتمليك، أو ردت فطلقها هو في الحين، فقول ابن القاسم: إنه حانث صحيح، إن كان ملكها، ونيته أنها إن ردت بقيت زوجة له، وقول سحنون: لا حنث عليه صحيح أيضا إن كان ملكها، ونيته أن يطلقها إن ردت ولم تطلق، فحصل من هذا أن الخلاف بينهما إنما هو على ما يحتمل أمره إن لم تكن له نية، والله أعلم.
وقوله: إنه لا يجوز له تأخير ذلك عن مجلسها الذي سألته الطلاق فيه، فإن أخر ذلك حنث صحيح، وقد مضى ما يبينه في أول مسألة من رسم إن أمكنني، من سماع عيسى، فلا معنى لإعادته، وفي سماع أبي زيد أنه لو قال: لأعطينها أو للألحفنها، لبر بتمليكه إياها، إلا أن يكون أراد بذلك لأطلقنها، وهو صحيح، ليس بخلاف؛ لقوله هاهنا، وبالله التوفيق.

(6/263)


[مسألة: يحلف بطلاق كل امرأة ينكحها بمصر ثم يحلف بطلاق كل امرأة ينكحها في غير مصر]
مسألة وقال في الذي يحلف بطلاق كل امرأة ينكحها بمصر، ثم يحلف بعد ذلك بطلاق كل امرأة ينكحها في غير مصر، أنه لا بأس أن ينكح في غير مصر لا ينكح بمصر، ألا ترى أن يمينه الأولى تلزمه، ولا يكون له أن يخرج نفسه مما قد كان وقع عليه من تحريم النكاح عليه بمصر الأولى، بأن يقول بعد تلك اليمين: كل امرأة أنكحها في غير مصر طالق، يريد حين عم البلدان أن يكون في سعة، كمن يقول: كل امرأة أنكحها في جميع البلدان فهي طالق، فليس ذلك له، ولكن يمينه الأولى تلزمه، والأخرى التي ضيق بها على نفسه، وعم بها تحريم النكاح كله على نفسه موضوعة عنه، ينكح في أي البلدان إن شاء ما عدا مصر.
قال: ولو قال: كل امرأة أنكحها في غير مصر طالق، فلما أراد أن يضع يمينه عن نفسه قال أيضا: كل امرأة أنكحها بمصر طالق، فإن ذلك غير نافع له فيما كان ألزمه نفسه من اليمين الأولى، ليس له أن ينكح في غير مصر، ويمينه الثانية موضوعة عند، ولا بأس أن ينكح بمصر ما بدا له من النساء.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول على هذه المسألة في رسم الرهون، من سماع عيسى، فلا وجه لإعادته، وبالله تعالى التوفيق.

[يقول إني حلفت بالطلاق أن لا أكلم فلانا فجاء قوم يشهدون أنهم حضروه يكلم ذلك الرجل]
وفي كتاب يشتري الدور والمزارع للتجارة وقال في الرجل: يقول: إني حلفت بالطلاق أن لا أكلم فلانا، فجاء قوم يشهدون أنهم حضروه يكلم ذلك الرجل بعدما كان أقر أنه حلف ألا يكلمه، فقال: امرأتي طالق إن كنت حلفت، وما كان الذي قلت إلا كذبة كذبتها، ولقد كلمت فلانا، وما علي يمين

(6/264)


بطلاق ولا غيره ألا أكلمه.
قال: يحنث ولا يدين؛ لأن الفعل الذي أقر ألا يفعله قد ثبت عليه أنه فعله بعد إقراره باليمين التي زعم أنه حلف بها ألا يفعل ذلك الفعل، قال: ومن قال: لقد كلمت اليوم فلانا، أو أتيت فلانا، أو أكلت طعاما كذا وكذا، ثم عوتب في بعض ذلك فقال: امرأته طالق إن فعل شيئا من ذلك، فإنه يدين ويحلف بالله ما فعل الذي حلف أنه لم يفعله مما كان زعم أنه قد كان فعله، وأنه إنما كان كذب أولا، ثم لا حنث عليه إلا أن تقوم عليه بينة بعد يمينه بالطلاق، أنه لم يفعل ذلك الشيء، فشهدت البينة أنه فعله قبل أن يحلف فيحنث، أو يقر بعد يمينه أنه كان فعله، فيلزمه أيضا الحنث بإقراره.
قال: ومن شهد عليه قوم بحق لرجل أو أنه فعل شيئا ينكره، فقال بعد شهادتهم عليه: امرأته طالق إن لم يكونوا شهدوا عليه بزور، وما كان لفلان قبلي شيء، وما فعلت الذي شهدوا به علي، وإلا فامرأته طالق، فإنه يدين ويحلف أنهم كذبة في شهادتهم، ويحبس عن امرأته، فإن أقر بتصديق الشهداء أو جاء آخرون فشهدوا على تصديق شهادة الأولين الذين حلف بتكذيبهم حنث في يمينه، قال: وكذلك لو حلف بالطلاق إن كان لفلان عليه كذا وكذا، وإن كان كلم اليوم فلانا، فشهد عليه عدول بإثبات الحق، أو أنه كلم ذلك الرجل، فإن الحنث يلزمه.
قال محمد بن رشد: هذه المسائل كلها صحاح، وأصلها في كتاب الأيمان بالطلاق من المدونة، وتكررت في أول سماع ابن القاسم، من كتاب الشهادات، ولا اختلاف أحفظه في شيء منها، وتلخيصها أن اليمين على الفعل بالطلاق كان ببينة أو بإقرار، إذا تقدم على الإقرار بالفعل أو الشهادة

(6/265)


عليه به طلقت عليه امرأته، وإن تقدم الإقرار منه بالفعل أو الشهادة به عليه على اليمين كان ببينة أو بإقرار لم يطلق عليه.
والفرق بين أن يتقدم اليمين على الفعل، أو الفعل على اليمين هو أن اليمين إذا تقدم ببينة أو إقرار، فقد لزم حكمه، ووجب ألا يصدق في إبطاله، وإذا تقدم الفعل ببينة أو بإقرار لم تثبت اليمين بتكذيب ذلك حكم إذا لم يقصد الحالف إلى إيجاب حكم الطلاق الذي حلف به على نفسه، وإنما قصد إلى تحقيق نفي ذلك الفعل، وبالله التوفيق.

[مسألة: يكون عليه الحق لرجل فيحلف له بالحرية أو بالطلاق ليقضينه إلى أجل كذا وكذا]
مسألة وسئل عن الذي يكون عليه الحق لرجل، فيحلف له بالحرية أو بالطلاق؛ ليقضينه إلى أجل كذا وكذا إلا أن ينظره صاحب الحق، فيريد المطلوب بالحق سفرا، فيسأل صاحبه أن يؤخره عن الأجل خوفا من أن يحل الأجل الذي حلف ليقضينه إليه، إلا أن ينظره وهو غائب في سفره، فيقول صاحب الحق له: قد أنظرتك قدر ما تقيم في سيرك ورجوعك إلى البلد الذي أخبرتني أنك تريده، وبعد رجوعك إلينا بعشرين يوما فتوجه الغريم، يريد سفره، فتتصعب عليه الطريق، ويخاف اللصوص، فيرجع إلى بلده تاركا لسفره لما حدث في الطريق من الخوف، فيحل الأجل أيلزمه أن يقضيه عند حلوله إن لم ينظره نظرة يبتدئها، أم يحنث بما كان أنظره حين أراد الخروج؟ قال: أرى تلك النظرة تسقط عنه؛ لتركه ذلك السفر الذي من أجله كانت النظرة فيه، وفيه كان وجه الطلبة، وعليه أن يستنظره نظرة يحددها له، وإلا حنث إن لم يقضيه عند الأجل.
قيل له: فالعشرين يوما التي وسع عليه فيها بعد رجوعه من سفره، أتكون له إذا لم يخرج؟ قال: لا، لو كانت تكون له لكان

(6/266)


له أن يقدر قدر مسيره ورجوعه فيوسع عليه فيه، بل أرى كل ما كان من النظرة بسبب ذلك السفر قد سقط بتركه الخروج.
قلت: أرأيت إن كان رجوعه لغير إقامة، وهو يسعى جاهدا في أن يمضي لسفره، وينتظر خروج جماعة وكتيف من الناس، ليقوى على ما خافوا من اللصوص، فهو في ذلك حتى حال الأجل، أيجوز له أن يتهيأ للخروج بعد حلول الأجل أن يمضي النظرة التي كانت سبقت، أم يلزمه الغريم إن أبى أن ينظره؟
قال محمد بن رشد: قوله: إن النظرة التي أنظره بسبب السفر تسقط بتركه السفر صحيح؛ لأنه إنما أنظره من أجل السفر الذي أخبره أنه يريد، فصار السفر شرطا للنظرة وعلة لها، فوجب أن تسقط بسقوطه بمنزلة أن لو قال له: قد أنظرتك إن سافرت هذا السفر الذي تذكره، وذلك نحو قول سحنون في جامع البيوع، في الذي يبتاع العبد، أو البعير فيابق العبد، ويشرد البعير، فيستوضع البائع، ثم يجده بعد ذلك: إن الوضيعة تسقط عن البائع، ولم يجب على الذي تأخر سفره بسبب ما حدث في الطريق حتى حل الأجل من غير أن يتركه أو يرجع بنيته عنه، والجواب في ذلك أن يكون له النظرة إن خرج في سفره، إلا قدر ما تأخر بسبب ما عرض من التعذر في الطريق، ومثال ما يعرف به ذلك أن ينظره، فإن كان بينه وبين حلول الأجل يوم، استنظره شهر أو مقدار ما يغيب في سفره الذي استنظره بسببه ثلاثة أشهر، فلم يخرج حتى حل الأجل بمضي شهر أن يكون له من النظرة ما بقي من الثلاثة الأشهر، وذلك شهران والعشرون يوما، فإن لم يقضه إلى شهرين والعشرين يوما حنث، فيوكل عند خروجه وكيلا يقضيه قبل انقضاء هذه المدة؛ لئلا يحنث، ومن حق صاحب الدين أن يأخذ منه حميلا بذلك، وبالله التوفيق.

[يقول كل امرأة أتزوجها إلا فلانة فهي طالق]
ومن كتاب المكاتب قال: وسألته عن الرجل يقول: كل امرأة أتزوجها إلا فلانة

(6/267)


فهي طالق، وتلك المرأة متزوجة أو غير متزوجة.
فقال: ينكح ما بدا له. من النساء، ولا حنث عليه، قال: وسمعت مالكا يقول: إنما هي عندي بمنزلة الرجل، يقول: إن لم أنكح فلانة، فكل امرأة أنكحها طالق، فلا أرى عليه بأسا أن ينكح ما بدا له، قلت: فإن كان قال: كل امرأة أنكحها طالق إلا فلانة وفلانة وفلانة يسمي عشرا، أو نحو ذلك ألا ترى أن ينكح إلا واحدة منهن، قال: أما التسمية اليسيرة التي ليس فيهن سعة في النكاح، فكأنه حرم على نفسه نكاح غيرهن، وهو لا يجد إلى غيرهن سبيلا، فلا أرى عليه بأسا، أن ينكح غيرهن إن أمكنه ذلك، وكان من نكاحهن في سعة، فلا ينبغي له أن ينكح إلا منهن، فإن تعداهن فينكح من غيرهن حنث بما سمى من الطلاق.
قال محمد بن رشد: إنما لم يلزمه على مذهبه شيء إذا عم أو لم يبق إلا عددا يسيرا يمكن إلا يزوجوه، ولا يرضوا به؛ لقول الله عز وجل: {لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 87] ، وقوله: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1] ، فإذا لم يترك لنفسه مدخلا في الحلال، لم يلزمه ما عقد على نفسه، وقد مضى من القول على هذه المسألة في رسم الجواب، ورسم باع شاة، من سماع عيسى، ما فيه كفاية، فلا وجه لإعادته، وبالله التوفيق.

[مسألة: يقول امرأته طالق إن لم يكن فلان يعرف هذا الحق يدعيه]
مسألة قال: وسألته عن الرجل يقول: امرأته طالق إن لم يكن فلان

(6/268)


يعرف هذا الحق يدعيه، فسئل الذي ادعى عليه الحق فيقول: امرأته طالق إن كان يعرف له فيه حقا قال: يدينان جميعا، ثم لا يحنث واحد منهما.
قال محمد بن رشد: مثل هذا في المدونة في كتاب الأيمان بالطلاق، وكتاب العتق الأول أنهما يدينان ولم يذكر يمينا، وروى محمد بن يحيى الشيباني عن مالك أنهما يدينان جميعا ولا يحلفان، وروى عيسى، عن ابن القاسم أنهما يدينان في ذلك ويحلفان، ومثله مضى في رسم الطلاق الأول، من سماع أشهب نحو هذه المسألة، وموضع هذا الاختلاف إنما هو إذا طولبا بحكم الطلاق، وهو جار على اختلافهم في لحوق أيمان التهمة في التداعي، وأما إذا أتيا مستفتيين غير مطلوبين، فلا وجه لليمين في ذلك، وبالله تعالى التوفيق.

[مسألة: من على أخيه بفاكهة جنانه فحلف أخوه بالطلاق ألا يدخل تلك الجنان وباعه الأخ]
مسألة وسألته عن الرجل من على أخيه بفاكهة جنانه، فحلف أخوه بالطلاق ألا يدخل تلك الجنان، وباعه الأخ، أيدخل الحالف الجنان إذا صارت لغير الأخ الذي من على الحالف بفاكهتها؟ فقال: إذا دخلها حنث كانت لأخيه أو لغيره، وذلك أنه أبهم يمينه فقال: هذه الجنان، فلا يجوز له دخولها أبدا، ولو كان قال: إن دخلت جنانك، لم يكن بدخوله بأس إذا صارت لغيره، قال: إلا أن يخرب حتى يصير طريقا للعامة ليس فيها جنان، ولا يحمى المرور فيها على أحد، فإن سلكها مارا، فلا حنث عليه، قال: وكذلك الذي يحلف ألا يركب دابة رجل، فيقول: إن ركبت هذه الدابة، ولا يقول: دابتك، فلا يجوز له ركوبها، وإن صارت لغيره، وكل ما أشبه هذه الوجوه فهو مثل ما فسرت لك.
قال محمد بن رشد: فرق ابن القاسم في هذه الرواية بين أن

(6/269)


يحلف ألا يدخل جنانه، أو ألا يدخل هذه الجنان، فرأى أن الجنان يتعين بالإشارة إليه، فيحنث إن دخله بعد أن خرج من ملك المحلوف عليه، إلا أن ينوي ما دام في يديه، ولا يتعين بإضافته إلى المحلوف عليه، فلا حنث إن دخله بعد أن خرج من ملكه، وذلك مثل ما في المدونة خلاف ما مضى في رسم لم يدرك، من سماع عيسى، وقد مضى القول على ذلك هنالك.
وحكى ابن دحون أنه وقع في هذه المسألة في بعض هذه الكتب مر على أخيه بفاكهة جنانه بالراء قال: فإذا كان بالراء، فسواء قال في يمينه هذه الجنان أو جنانك يحنث كلما دخلها، وإن خرجت من ملكه أنه لم يتقدم بساط مِن منّ، فيحمل عليه إذا خرجت عن ملكه، فكأنه ذهب إلى أنه إنما فرق في هذه الرواية بين أن يقول: جنانك، أو هذه الجنان من أجل أنه من عليه بفاكهة الجنان، ولو لم يمن عليه بها لساوى بين ذلك، كما فعل في رسم لم يدرك، من سماع عيسى، وليس ما ذهب إليه في ذلك بشيء؛ لأن الذي ثبت في الرواية إنما هو التفرقة بين أن يقول جنانك، أو هذه الجنان، كانت الرواية بالراء أو بالنون، فدل ذلك على أنه لم يعتبر المن من غير المن، وإنما اعتبر ما يتعين به الجنان من الألفاظ، مما لا يتعين به منها، فبان أن قوله فيها مثل ما في المدونة خلاف ما مضى في سماع عيسى.
وقوله أيضا: إنه إذا كان بالراء يحنث كلما دخلها غلط؛ لأن الحنث لا يتكرر عليه، وإنما يحنث بدخوله مرة، ثم لا حنث عليه إن دخله بعد ذلك ثانية على المشهور المعلوم في المذهب، وقد مضى القول في ذلك على المشهور المعلوم في المذهب، وقد مضى القول في ذلك في رسم حمل صبيا، من سماع عيسى وغيره، وبالله التوفيق.

[قال امرأته طالق إن كانت هذه الطريق فأقاموا حتى أصبحوا فإذا هم على غير الطريق]
ومن سماع سحنون وسؤاله ابن القاسم وأشهب وقال في رجل صاحب قوما، فجن عليهم الليل، فقال لهم الرجل: يا قوم، إنكم أخطأتم الطريق التي تريدون إلى البلدة التي خرجتم إليها، فقالوا: لا، فقال: امرأته طالق إن كانت هذه

(6/270)


الطريق، فأقاموا حتى أصبحوا، فإذا هم على غير الطريق التي خرجوا فيها، إلا أنها طريق إلى البلدة التي يريدون إليها.
فقال سحنون: لا حنث عليه.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأنه قد تبين أنهم أخطئوا الطريق التي كانوا عليها، وعلى ذلك حلف لا على أنهم على طريق إلى غير البلدة التي خرجوا إليها، وبالله التوفيق.

[مسألة: وقع بينه وبين امرأته كلام وكان يريد سفرا فقالت له لا تبرح فقال أنت طالق]
مسألة وسئل سحنون عن رجل حلف بطلاق امرأته، وذلك أنه وقع فيما بينه وبين امرأته كلام، وكان يريد سفرا، فقالت له: لا تبرح، فقال: أنت طالق، إن لم أسافر، ولا رجعت حتى أستغني.
فقال: أما إذا أفاد من المال قدر مائتي درهم، وكانت المائتا درهم غنى لمثله، ولم يكن عليه من الدين ما يفترقها، ووجبت عليه فيها الزكاة، فقد بر، وليرجع إن أحب.
قال محمد بن رشد: إنما حد في هذا مائتي درهم؛ لأن من ملك من المال ما تجب عليه فيه الزكاة فهو ممن يقع عليه اسم غني؛ بدليل أن الله تعالى أمر أن تؤخذ الصدقة من الأغنياء، فترد على الفقراء، وشرط أن تكون مايتا درهم غنى لمثله، يريد في حقه مؤنته، وقلة عياله؛ لأنه إذا كان كثير المؤنة، كثير العيال، يكون من الفقراء في أيسر مدة، ويذهب عنه الغنى ويرتفع عنه اسمه، ولم يقصد الحالف بقوله: حتى أستغني إلا غنى ينتفع بتماديه معه، واستطاعته به على زمانه، وقوله: قدر مائتي درهم، ولم يقل مائتي درهم يدل على أنه لو قدم بعروض للتجارة قيمتها مائتا درهم ولا دين عليه، هي غنى لمثله، لبر بذلك وكأن له أن يرجع؛ لأن العروض للتجارة تجب فيها الزكاة، فلا فرق بينها وبين العين في البر بها، قال سحنون في كتاب ابنه: وإن قدم بعرض يساوي عشرين دينارا، فليس ينجيه من الحنث ذلك إلا أن

(6/271)


يكون عرضا كثيرا، وقد يأخذ الزكاة من له العروض من خادم ودار، إلا يكون عرضا كثيرا جدا، وإن قدم بعشرين دينارا أو مائتي درهم حصل ممن تجب عليه الزكاة، وإن كان ذا عيال، ومعنى ذلك عندي إن كانت العروض التي قدم لغير التجارة أو للتجارة، وهو غير مدير؛ لأنه إذا لم يكن مديرا فليس ممن يجب عليه الزكاة في عروضه، فلا يسمى غنيا، وإن كانت الصدقة لا تحل له بسبب ما له من العروض، إلا أن تكثر عروضه، وأما إذا كان مديرا، فلا فرق بين أن تكون له مائتا درهم، أو يكون له قدرها من العروض في استحقاقه لاسم الغني، فعلى هذا التأويل يتفق قوله في سماعه هذا مع ما له في كتاب ابنه، ولا يكون متعارضا، وبالله التوفيق.

[مسألة: حلف ألا يبيعه منه ثم قال إنما حلفت وأنا ناسٍ لبيعي إياه منه]
مسألة وقال في رجل كان بينه وبين امرأته منزل، فأراد بيعه، فذهب إلى رجل فاشتراه منه، وأشهد البينة بالبيع، ثم إن المشتري قيل له: إن هذا المنزل الذي اشتريت من فلان ليس هو كله له، وإنما هو بينه وبين امرأته، فأنا أخاف عليك من ناحيتها إن أنت دفعت إلى هذا الثمن كله، ولكن يقول له: أدفع إليك وإلى امرأتك، فإنه قيل لي: إنه بينك وبينها ففعل، ولقيه في ذلك، وأعلمه بما قيل له، وقال له: اذهب بنا إلى امرأتك أعطيك المال عندها، فإني أخاف أن يستحق علي نصف المنزل، فحلف بطلاق امرأته إن باع منه شيئا، ثم إنه قام عليه المشتري عند السلطان، وسلمت له امرأته البيع هل ترى أن يحنث إن قضي عليه بذلك.
قال: لا حنث عليه، وذلك أن الحكم عليه فيه ثابت، فإنما يمضي شيئا قد كان ثبت عليه، فما أرى عليه حنثا، وقاله سحنون.
قال القاضي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وفي مسائل لأصبغ في نوازله بعد هذا أنه

(6/272)


حانث، وقد تأول ذلك على مالك في مسألة الأمة الواقعة في رسم أخذ يشرب خمرا، من سماع ابن القاسم، وليس ذلك بصحيح على ما قد مضى بيانه هناك.
ووجه قول سحنون أنه اعتبر اللفظ، ولم يراع المعنى، وذلك أنه إنما حلف ألا يبيعه بعد، والبيع قد مضى وفات، فلا يمكنه بيعه ثانية إلا أن يرجع ملكه إليه بوجه من وجوه الملك، فوجب ألا يقع عليه حنث.
ووجه قول أصبغ أنه لما حلف ألا يبيعه منه وقد باعه، كان المعنى في يمينه أنه إنما أراد ألا يمكنه منه بالبيع الذي باعه منه لا على ألا يبيعه منه؛ إذ لا يمكن أن يبيعه منه، إذ قد فات بيعه منه، وحلف الرجل على ألا يفعل ما يمكنه فعله لغو وسفه، لا وجه له ولا فائدة فيه، فوجب أن يحمل يمينه على ما له وجه وفائدة، وهو المنع من تسليم المبيع إليه بذلك البيع المتقدم، ولو حلف ألا يبيعه منه بعد أن باعه منه وكيله، ولم يعلم بذلك لما كان عليه شيء باتفاق، كما لو حلف على غيره ألا يبيع، أو ألا يهب، أو ألا يتصدق، أو لا يعتق، وهو لا يعلم أنه فعل شيئا من ذلك، فيوجد قد فعله، وقد مضى هذا المعنى في رسم العارية، من سماع عيسى، من كتاب النذور، وهو أيضا في رسم سلف، من سماع عيسى، من كتاب العتق، وأما إن قال الحالف: إنها حلفت وأنا أظن أن البيع لا يتم بينهما، ولا يلزم إلا بالافتراق، فسيأتي القول عليه في نوازل أصبغ إن شاء الله، ومثله في المعنى لو حلف ألا يبيعه منه، ثم قال: إنما حلفت وأنا ناسٍ لبيعي إياه منه، وبالله التوفيق.

[مسألة: يقول غزيل طالق إن لم أقضك حقك وامرأته غزيل وهو ينوي غيرها]
مسألة وسئل أشهب عن الرجل يحلف للرجل بالطلاق يقول: غزيل طالق إن لم أقضك حقك، وامرأته غزيل، وهو ينوي غيرها غزيلا أخرى لجاريته، ثم لا يقضيه.

(6/273)


قال: هو حانث، ولا تنفعه نيته.
قال محمد بن رشد: ظاهر قوله أنه حانث، ولا تنفعه نيته، وإن جاء مستفتيا، وهذا على القول بأن اليمين على نية المحلوف له، وأما على القول بأن اليمين على نية الحالف، فتكون له نيته إذا جاء مستفتيا، وكذلك لو قال: امرأتي طالق إن لم أقضك حقك، فلا يقضيه، ويأتي مستفتيا فيقول: إنما أردت امرأة أخرى كانت لي قبل ذلك، لكانت له نيته على القول بأن اليمين على نية الحالف، خلاف ظاهر ما في التخيير والتمليك من المدونة، من أنه لا يُنَوَّى في أنه أراد امرأة أخرى قد كانت له، إذا قال له: امرأتي طالق، كما ينوى إذا قال: فلانة طالق، وعلى هذا الظاهر كان يحمل المسألة جميع من رأيت من الشيوخ، أو سمعت عنه كلاما فيها، أو رأيته له، ومثله في الواضحة، وليس ذلك بصحيح، بل لا فرق بين المسألتين كما ذكرته، وإنما قال في المدونة: إنه لا ينوى إذا قال: امرأتي طالق، ولم تكن عليه بينة، وكان مستفتيا من أجل أنه حلف للسلطان وألغز له، فكانت اليمين على نيته، وقد مضى في أول سماع أشهب تفصيل القول في حكم الملغز باليمين على غيره، فلا معنى لإعادته، ولو كان الذي حلف لغريمه ليقضينه حقه بطلاق غزيل قد حضرته نيته، فادعى أنه أراد جارية له لم يصدق باتفاق، ولو قال: غزيل طالق من غير أن يحلف لأحد، وأتى مستفتيا لنوي باتفاق.
فوجه ينوي فيه باتفاق، ووجه لا ينوى فيه باتفاق، ووجه يختلف في تنويته، ولا فرق في شيء من ذلك كله بين أن يقول: امرأتي طالق، أو فلانة طالق على ما ذكرناه وبيناه، وبالله تعالى التوفيق.

[مسألة: حلف بالطلاق ليقضينه حقه إلى رمضان ثم سأله التأخير لرمضان آخر]
مسألة قلت له: فالرجل يحلف بالطلاق ليقضينه حقه إلى رمضان، وقد كان سأل الغريم صاحب الحق أن يؤخره إلى رمضان من عام آخر.

(6/274)


فقال: هو حانث، ولا تنفعه نيته، قال ابن القاسم: له نيته فيما بينه وبين الله تعالى.
قال القاضي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: المسئول في هذه المسألة هو أشهب، فقوله هو حانث ولا تنفعه نيته ظاهره، وإن أتى مستفتيا على أصله في المسألة التي قبلها من أن اليمين على نية المحلوف له، وقول ابن القاسم: له نيته فيما بينه وبين الله تعالى، هو على أحد قوليه في أن اليمين على نية الحالف، وقد مضى القول على ذلك في رسم البز، من سماع ابن القاسم وغيره.

[مسألة: يقول امرأتي طالق إن كان فيها وفاء من حقه فيجد وفاء من حقه]
مسألة قال سحنون: وسأل رجل أشهب فقال له: إني اتزنت من رجل عند صيرفي حقا لي، فقال الصيرفي: لم يوفك حقك، فقال: الذي قضاني: سر معي إلى غيره، فقلت: امرأتي طالق إن كان فيها وفاء من حقي، ثم سرت معه، فوجدنا وفاء من حقي.
فقال له أشهب: قد حنثت، قال الرجل: إني إنما حلفت على ما أخبرني به الصيرفي. قال: قد غرك ولا ينفعك.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن يمينه إنما وقعت على أن ما أخبره به الصيرفي حق، فلما تبين كذبه وجب عليه الحنث.

[مسألة: يقول امرأتي طالق إن دخلت دار فلان ثم يقول نويت في نفسي شهرا]
مسألة وسئل ابن القاسم في رجل يقول: امرأتي طالق إن دخلت دار فلان، ثم يقول ويأتي مستفتيا: نويت في نفسي شهرا.
قال: لا حنث عليه، قال ابن القاسم - في رجل يقول: امرأتي طالق إن كلمت بني فلان، ويقول: نويت في نفسي إلا فلانا -: إن ذلك

(6/275)


لا ينفعه؛ لأن الثينا لا تكون إلا بأن يتكلم به لسانه.
قال محمد بن رشد: أما المسألة الأولى فلا اختلاف فيها بين أحد من أصحاب مالك وغيرهم؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما الأعمال بالنيات، ولكل امرئ ما نوى» ، وأما قوله في المسألة الثانية: إن الاستثناء لا يكون إلا بتحريك اللسان فهو المشهور في المذهب، وقد مضى القول على ذلك في رسم الجنائز والذبائح والنذور، من سماع أشهب، فمن أحب الوقوف عليه، تأمله فيه.

[مسألة: حلف ليقضين فلانا حقه صلاة الظهر أي حين يقضينه]
مسألة وسئل ابن القاسم عن الذي يحلف ليقضين فلانا حقه صلاة الظهر، أي حين يقضينه، أي أوسط صلاة الناس أو أولها أو آخرها؟
قال: بل أولها أول ما يصلون وعند الزوال، قلت: فإن لم يقضه حتى صلى بعض الناس وبقي آخرون؟
قال محمد بن رشد: هذا هو الاختيار أن يقضيه في أول الوقت؛ لأنه أبرأ من الحنث، فإن لم يفعل حتى صلى بعض الناس، وبقى آخرون لم يحنث؛ إذ لا يحنث إلا بانقضاء جميع الوقت قاله سحنون في كتاب ابنه، يريد الوقت المستحب، القامة للظهر، والقامتان للعصر؛ لأنه هو الوقت الذي يتسع الناس في تأخير صلاتهم إليه، فتحمل يمين الحالف عليه، وقد مضى في رسم حمل صبيا، من سماع عيسى، القول فيمن حلف ليقضينه حقه غدوة أو بكرة مستوفى، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.

[مسألة: يحلف للرجل ليقضينه إلى أجل فيغيب الحالف]
مسألة قال: وسألت ابن القاسم عن الرجل يحلف للرجل ليقضينه إلى أجل، فيغيب الحالف، فتخاف امرأته أن يحنث، فتدفع ذلك إلى

(6/276)


السلطان، فيقضي السلطان الغريم من مال الحالف.
قال: لا ينفعه ذلك، وهو حانث، قلت: فإن رفع الغريم أمره إلى السلطان، فحكم السلطان بدينه وقضاه من مال الحالف؟ قال: هو حانث إلا أن يكون وكل السلطان أن يقضي عنه، أو وكل أحدا، ألا ترى أنه يقضي عنه الحق، فيسقط عنه الحق بغير وكالة، ولا يسقط عنه اليمين، والسلطان وغيره في هذا سواء، وهو خلاف مغيب المحلوف له، ودفع الحالف المال إلى السلطان أن ذلك يخرجه من يمينه.
قال محمد بن رشد: قوله: إنه لا يبرأ ويخرج من الحنث بقضاء السلطان عنه إلا أن يوكله على ذلك، هو عندي على خلاف أصله فيمن حلف ألا يقضي غريمه، أو ألا يفعل فعلا، فقضاه السلطان من ماله، أو قضى عليه بالقضاء، أو حكم عليه بذلك الفعل أنه حانث؛ لأنه إذا كان قضاء السلطان من ماله يحنث به، كما لو قضاه هو إذا حلف ألا يقضيه، وجب على قياس ذلك، ألا يكون قضاء السلطان عنه من ماله يبر به، كما لو قضاه هو إذا حلف ليقضينه.
وإذا كان قضاء السلطان عنه من ماله لا يحنث به، إذ ليس قضاء السلطان كقضائه هو إذا حلف ألا يقضينه، يجب على قياس ذلك أن يكون قضاء السلطان عنه من ماله لا يبر به، إذ ليس قضاء السلطان كقضائه هو إذا حلف أن يقضيه، لا فرق بين الموضعين؛ لأنا إما أن نجعل السلطان في ذلك كوكيله عن ذلك، فيحنث بفعله إذا حلف ألا يفعل، ويبر بفعله إذا حلف ليفعلن، وهو أصل ابن الماجشون، وقد مضى ذكر الاختلاف في ذلك، في آخر سماع أشهب، وغير ما رسم، من سماع ابن القاسم، فيبر بقضاء الوكيل الموكل على القضاء، ولا يبر بقضاء الوكيل الذي ليس بموكل على القضاء، ويأتي في قضاء السلطان عنه قولان على ما بيناه، وقد مضى في رسم أسلم، من سماع عيسى، القول في قضاء الوكيل عنه، وما يتعلق بذلك، وبالله التوفيق.

(6/277)


[مسألة: يقول لامرأته أنت طالق إن خرجت إلا برضاك فيفعل]
مسألة وسألت ابن القاسم عن الرجل يقول لامرأته: أنت طالق إن خرجت إلا برضاك، أو فعلت كذا وكذا إلا برضاك فيفعل، فقامت عليه البينة، فقال: قد أذنت لي، وقالت: ما أذنت لك.
قال: هي طالق، وهي مثل مسألة الدين، وكذلك كل ما كان مثل هذا الوجه، وهو قول المخزومي: وإن صدقته لم يكن لي بد من أن أحلفه بالله: لقد أذنت له.
قال محمد بن رشد: قوله: وهي مثل مسألة الدين؛ يريد مسألة الرجل يحلف بطلاق امرأته إن لم يقض رجلا حقه إلى أجل سماه، وقد مضى القول فيها في آخر أول رسم، من سماع ابن القاسم، فما ذكرناه من الاختلاف فيها إذا حل الأجل، وزعم أنه قد قضاه، وزعمت المرأة أنه لم يقضه، وأنه قد حنث فيها بالطلاق، يدخل في ذلك إذا وطء، وزعم أنها قد أذنت له قبل الوطء يصدق في قول؛ أنها قد أذنت له، وإن أنكرت أن تكون أذنت له، ولا يصدق في قول، وإن أقرت أنها قد أذنت له، ويكلف بإقامة البينة أنها أذنت له قبل أن يطأ، ومعنى ذلك إذا كان له طالب باليمين غيرها، وقال أصبغ في نوازله: وإن كانت زوجته أو أم ولد ومن أشبهها ممن لا يشهد على مثله صدق إذا ادعى الإذن وجاء مستفتيا، وإن كان مشهودا عليه ومخاصما، كلف البينة على الإذن؛ وإلا أمضى عليه السلطان بدليل قوله: إنه لا يصدقه في غيرهما ممن يشهد على مثله، وإن أتى مستفتيا، وهو بعيد والصواب أن يصدق فيمن يشهد عليه إن أتى مستفتيا، وفي الزوجة وأم الولد، وإن كان مشهودا عليه ومخاصما، وبالله التوفيق.

[مسألة: قال لامرأته أنت طالق لئن لم تقومي لأصبن الزيت في البلاعة]
مسألة وسئل عن الرجل يقول لامرأته: قومي في الليل وسهرت، فإن الزيت غالٍ، فقالت: لا، فقال: أنت طالق؛ لئن لم تقومي لأصبنه

(6/278)


في البلاعة، فلم تقم فصبه دون البلاعة.
فقال: هو حانث إذا صبه دون البلاعة، إلا أن يكون نوى لأهريقنه، أو لأتلفنه، وكانت تلك نيته إذا لم تقم؛ لأن مالكا قال في مسألة الرجل يحلف لامرأته لتبيتن في هذا البيت، فتبيت على دكان في باب البيت؛ لأنها استأذنته على بيت أهلها، فأبى وحلف بما حلف به، وذكر مسألة مالك في رجل يشتري ثوبا لامرأته فكرهته، فحلف ألا تلبسه فرده، فاشترته المرأة فلبسته، فقال مالك: هو حانث إلا أن يكون نوى وأراد ألا تلبسه من ماله، والآخر حانث إلا أن يكون نوى بقوله: لا تبيت في هذا البيت، يريد ألا تسيري إلى أهلك، ولم يرد البيت بعينه.
قال ابن القاسم: وأصل هذا أن ينظر إلى ما لفظ به، فيؤخذ به إلا أن تكون له نية، فيحتمل على نيته، وذلك أن مالكا سئل عن رجل قال لرجل: سرقت مني دينارا فقال: أنا سرقته، امرأتي طالق إن كان لك عندي دينار، فذهب ينظر فإذا جاريته سرقته وجعلته عنده، فقال مالك: هو حانث إلا أن يكون نوى عمله، وأراد ذلك، وقد سئل مالك أيضا عن رجل سئل سلفا، فقال: امرأتي طالق إن كان لي شيء أملكه، وليس ذلك له، ثم طلع له مال قد كان ورثه، ولم يكن علم به، قال مالك: هو حانث إلا أن يكون نوى أني لا أملك شيئا أعلمه، فإنما يؤخذ الناس بما لفظوا، فيحمل به على قولهم إلا أن تكون لهم نية، وذلك أن رجلا سأله عن رجل حمل لرجل جلودا، فلما بلغه غايته جعل الجلود على يدي رجل حتى يوفي الكري كراءه، فلما وفاه قال له الكري: احلف لي أنه ليس لغيرك فيه شيء، فنظر إلى علامة، فلم ينكر شيئا فحلف له، ثم نظر فإذا الذي كانت عنده قد أبدل منها شيئا،

(6/279)


قال: هو حانث، واحتج بالمسائل التي قبلها، وذكر قول مالك وما احتج به من الناس يؤخذون بألفاظهم، إلا أن تكون لهم نية فيحملون عليها، وذكر قول مالك في مسألة الذي حلف وسئل السلف فحلف ما لي شيء أملكه، فطلع له مال من قبل ميراث لم يكن علم به، قال: قرأتها على مالك، فقال: امحها فمحوتها، وقال: هو حانث، وذكر الذي سأله عن مسألة الجلود أن ابن كنانة وابن نافع قالا: ليس بحانث، فقال له ابن القاسم: إن مالكا قال أخبرتك، وإليه رجع إلى أن الناس يؤخذون بما لفظوا به، واحتج ابن القاسم بما قال له من المسألة التي قرأها على مالك، وأمره أن يمحوها.
قال محمد بن رشد: لم يراع مالك، وابن القاسم في هذه المسائل كلها بساطا، وحنث الحالف بمقتضى لفظه فيها، إلا أن تكون له نية، ومثله لمالك في رسم سلعة سماها، من سماع ابن القاسم، في رسم سلف، من سماع ابن القاسم، من كتاب التخيير والتمليك، وفي سماع أشهب من كتاب العتق، ولابن القاسم في سماع محمد بن خالد بعد هذا، والمشهور في المذهب مراعاة البساط بأن تحمل اليمين إذا لم تكن للحالف نية على بساطها، ولا تحمل على مقتضى اللفظ إلا عند عدم البساط، وهو قول مالك في رسم الطلاق الثاني، من سماع أشهب في هذا الكتاب، في مسألة النقيب، وقول ابن كنانة وابن نافع هاهنا، وقال ابن كنانة في المدنية في مسألته البالوعة، لم يسم البالوعة لشيء ينفعها به، وإنما أراد هرقه، فقد فعل، فلا حنث عليه، وهو قول أصبغ: إنه لا حنث عليه، قال: إلا أن يكون جمع من الزيت شيئا مما أهراق فتركه ولم يصبه في الحفرة، فهو حانث، وقال سحنون في نوازله من كتاب النذور في بعض الروايات: الأيمان على بساطها، فإذا وجدت اليمين ليس لها بساط فاهرب منها، وقد قيل: إن اليمين إذا لم يكن لها بساط تحمل على ما يعرف من عرف الناس في كلامهم ومقاصدهم في أيمانهم، والقولان قائمان من المدونة، وقد مضى القول في هذا المعنى

(6/280)


مجودا في رسم جاع وغيره، من سماع عيسى، من كتاب النذور، وبالله التوفيق.

[مسألة: حلف الرجل للرجل بالطلاق ليقضينه إلى أجل إلا أن يشاء أن يؤخره]
مسألة وسمعت أشهب يقول: إذا حلف الرجل للرجل بالطلاق ليقضينه إلى أجل إلا أن يشاء أن يؤخره أو يأتيه أمر غالب من سلطان أو غيره، فلما خاف الأجل وأن يحنث سأله أن يؤخره فأخره إلى أيام، أرأيت إن عرض له في تلك الأيام أمر سلطان، فلم يستطع قضاءه حتى مضت أيحنث؟ قال: لا.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأنه قد استثنى الأمرين جميعا، فله ما استثناه في كل واحد منهما على انفراده، إن أخره كان له التأخير، وإن لم يعرض له فيها أمر يغلبه من سلطان أو غيره، وإن عرض له أمر يغلبه من سلطان أو غيره كان به معذورا، ولم يحنث، وإن لم يؤخره.

[مسألة: يقول للرجل احلف لي بالطلاق فيقول له الحلال علي حرام ويحاشي امرأته]
مسألة قيل لأشهب: فالرجل يقول للرجل: احلف لي بالطلاق، فيقول له: الحلال علي حرام، ويحاشي امرأته؟
فقال: لا شيء عليه، وفي رواية أصبغ أنها البتة.
قال محمد بن رشد: محاشاة الرجل امرأته إذا قال: الحلال علي حرام، أو حلف بذلك على وجهين؛ أحدهما: أن يقول: الحلال علي حرام، حاشى امرأتي، أو إلا امرأتي، أو سوى امرأتي، أو ما أشبه هذا من حروف الاستثناء، فهذه المحاشاة لا بد فيها من تحريك اللسان، فإن نواها بقلبه ولم يحرك بها لسانه لم ينتفع بها على المشهور في المذهب، وقد مضى هذا قبل هذا السماع وغيره، والثاني: أن يقول: الحلال علي حرام، وينوي إيقاع لفظه بالحلال علي حرام على ما عدا امرأته، فهذه المحاشاة

(6/281)


هي التي تكون بالنية دون تحريك اللسان، فإذا حاشى امرأته بقلبه في الموضع التي تكون فيه المحاشاة بقلبه، أو بلسانه في الموضع الذي لا بد فيه من تحريك اللسان حسبما ذكرناه، فهو موضع الاختلاف الذي أشار إليه في الرواية، وقد مضى تحصيله والقول فيه مجودا في سماع أصبغ من كتاب النذور، فلا معنى لإعادة ذلك، ومضت المسألة أيضا في رسم الطلاق الثاني، من سماع أشهب، من هذا الكتاب، وبالله التوفيق.

[مسألة: قال امرأته طالق البتة إن كنت فعلت أو فعل بي فأقاموا البينة على قوله]
مسألة قال ابن القاسم: قال مالك في الرجل: يقول فعل بي فلان وأعطاني، أو فعلت كذا وكذا فيأتيه رجل فيقول: قد بلغني أنك فعلت كذا وكذا، أو فعل بك كذا وكذا، قال: امرأته طالق البتة إن كنت فعلت أو فعل بي، فأقاموا البينة على قوله أنه قد كان أقر بذلك.
قال: يحلف بالله ما كان إلا كاذبا، ولا شيء عليه، إلا أن تقوم بينة أن فعله عاينوه، أو فعل به ما قال عاينوه، فإنه يطلق عليه، فأما البينة على إقراره فلا؛ لأنه يقول: كذبت، قال ابن القاسم: ولو أنه أقر بعد، لم يلزمه الحنث أنه قد كان فعل، فشهد على إقراره طلق عليه.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة، والقول فيها في رسم يشتري الدور والمزارع من سماع يحيى، فلا معنى لإعادة ذلك، وبالله التوفيق.
تم الجزء الثالث من كتاب الأيمان بالطلاق بحمد لله وعونه، يتلوه الكتاب الرابع.

(6/282)