البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة

 [كتاب الأيمان بالطلاق الرابع]
[حلف لهم بطلاق امرأته على ذلك أنه لا يعلمه في موضع من المواضع]
كتاب الأيمان بالطلاق الرابع

(6/283)


من مسائل نوازل سئل عنها سحنون قال سحنون في الرجل يكون له على الرجل ذكر حق بشهود، فتلف ذكر الحق، فسأل الشهود عن شهادتهم، فذكروا شهادتهم في الكتاب، فقال لهم صاحب ذكر الحق: إنه قد تلف مني، فاكتبوا لي غيره، وحلف لهم بطلاق امرأته على ذلك أنه لا يعلمه في موضع من المواضع، ولا هو في بيته، ثم وجده في بيته.
قال: لا حنث عليه؛ لأنه إنما أراد علمه.
قال محمد بن رشد: لم يحنثه سحنون في هذه المسألة بما يقتضيه مجرد اللفظ وحملها على البساط والمعنى المراد، وهو المشهور في المذهب خلاف قول مالك وابن القاسم في المسائل التي تقدمت، في سماع سحنون مثل قول ابن نافع وابن كنانة فيها، وقد مضى القول على ذلك، فلا وجه لإعادته، وبالله التوفيق.

[مسألة: قال لامرأته أنت طالق أربعا إلا ثلاثا]
مسألة ولو أن رجلا قال لامرأته: أنت طالق أربعا إلا ثلاثا، فهي ثلاث؛ لأنه بمنزلة لو قال: أنت طالق ثلاثا فهي ثلاث من قبل أنه يعد نادما، قال سحنون: وكذلك أيضا لو قال: أنت طالق مائة طلقة إلا تسعا وتسعين، فهي أيضا البتة؛ لأن الثلاث دخلت في العدة

(6/285)


التي استثنى، قال: ولقد سألني عن هذه المسألة رجل، وأنا سائر إلى الشرق، وذكرها عن بعض أهل العراق، فتفكرت فيها، فلم أر لها مخرجا، ولا الصواب فيها غير هذا.
قال محمد بن رشد: قول الرجل لامرأته: أنت طالق أربعا إلا ثلاثا، استثنى أكثر الجملة، وقد اختلف في استثناء أكثر الجملة، فقيل: إن ذلك في اللسان غير جائز، وقيل: إنه جائز، وهو الصحيح، والدليل على جوازه قول الله عز وجل: {فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 82] {إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص: 83] ، وقوله عز وجل: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر: 42] لأنه استثنى في الآية الأولى المخلصين من الغاوين، وفي الثانية الغاوين من المخلصين، فلا بد أن يكون أحد الاستثناء من أكثر الجملة، فعلى هذا يكون قول الرجل لامرأته: أنت طالق أربعا إلا ثلاثا واحدة، ويحتمل أن يكون على هذا القول أيضا ثلاثا؛ لأن استثناء أكثر الجملة وإن كان جائزا في اللسان، فليس بمستعمل عند الناس في عرف كلامهم، فلما لم يكن ذلك معروفا من عادتهم في كلامهم حمل من قائله في الطلاق على أنه لم يقصد إلى ذلك، وإنما كان ندما منه استدركه، ليخرج به عما كان ألزمه نفسه من الثلاث، وأما على القول بأن استثناء أكثر الجملة غير جائز، فلا كلام في أن قول الرجل لامرأته: أنت طالق أربعا إلا ثلاثا ثلاث، هذا وجه القول في هذه المسألة على الأصول، ولم يذهب سحنون إلى شيء من هذا المعنى، والذي نحا إليه على ما يوجبه تعليله أن ما لفظ به من عدد الطلاق فيما فوق الثلاث لما كان الحكم فيه أن يكون ثلاثا كان كأنه إنما لفظ بالثلاث، فجعل قوله أربعا إلا ثلاثا، وقوله: مائة إلا تسعة وتسعين، كقوله ثلاث إلا ثلاثا، وذلك بين من قوله فهي البتة؛ لأن الثلاث دخلت في العدة التي استثنى، فعلى قوله لو قال الرجل: امرأتي طالق مائة إلا طلقة، كانت اثنتين؛ لأن الطلقة المستثناة على مذهبه إنما تقع مستثناة من الثلاث؛ إذ

(6/286)


قوله عنده: مائة كقوله ثلاث، والأظهر على مذهب ابن القاسم وغيره أن تكون ثلاثا، ويجعل الطلقة التي استثنى مستثناة من المائة التي سمى، فتبقى تسعة وتسعون، يلزمه منها ثلاث، ويسقط الباقي.
ولو قال: أنت طالق ثلاثا، إلا اثنين، إلا واحدة؛ لكانت مطلقة تطليقتين؛ لأن الواحدة مستثناة من الاثنتين، وما بقي من الاثنتين وهي واحدة، فهي المستثناة من الثلاث؛ بدليل قول الله تعالى: {إِلا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 59] {إِلا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ} [الحجر: 60] ، فكانت المرأة مستثناة من الاستثناء، وبالله التوفيق.

[مسألة: حلف بالطلاق أن يقضي رجلا حقه رأس الهلال]
مسألة وسئل أصبغ عن رجل حلف بالطلاق أن يقضي رجلا حقه رأس الهلال، فلما كان قبل حلول الأجل بأيام جاءه يتقاضاه، فقال: والله ما أجد شيئا، وإني لأخاف الحنث، فانطلق الطالب إلى رجل فقال: إن فلانا حلف لي في حق لي عليه أن يوفيني إلى الهلال، وهو معسر، وأنا أخاف عليه الحنث، فهاك عشرة دنانير، فأسلفها إياه على أنها من مالك، ولا تخبره بشيء، فانطلق إليه الرجل فقال: قد بلغني أنك حلفت لفلان في قضاء عشرة دنانير، وأنك أعسرت بها، فقال: نعم، فقال له: فهاكها سلفا مني، فاقضها إياه، فقبضها منه سلفا، وقضاها غريمه.
فقال أصبغ: إن كان الحالف لم يعلم بعملهما، ولم يكن قد سبب صاحب الحق، فلا حنث عليه في رأيي، قلت: فعلى من تباعة العشرة دنانير على الذي أخذها فأسلفها إياه؟ فقال: لا تباعة

(6/287)


على الذي دخل في ذلك، وهي للطالب على الغريم، كما هي بغير يمين، وقد تقاضى منه العشرة التي كانت فيها اليمين.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال: إن الحالف إذا لم يعلم بعملهما، ولم يكن الرجل من سبب صاحب الحق حتى يكون على اليقين من صحة القضاء، فقد بر؛ لأنه قد قضى العشرة التي كانت عليه، وسقطت عن ذمته، فخلص من الحنث، وترتب في ذمته عشرة أخرى للمحلوف عليه من سلف يطلبه بها، لا يمين له عليه فيها؛ لأنها غيرها، ألا ترى أنه يجوز له أن يأخذ منه فيها طعاما، وقد كان لا يجوز له أن يأخذ منه في الأولى طعاما، إن كان باعه بها طعاما، وهذا بين، وبالله التوفيق.

[مسألة: يقول إن لم تأكلي هذه البيضة فأنت طالق فتأكل منها شيئا]
مسألة قال: وكان مما قال المغيرة لأبي يوسف، حين كلمه بالعراق أن قال له أبو يوسف: لم قلتم في الرجل يقول لامرأته: إن أكلت هذه البيضة فأنت طالق، فتأكل بعضها، فزعمتم أنها طالق، وقلتم في الذي يقول: إن لم تأكلي هذه البيضة، فأنت طالق، فتأكل منها شيئا أنها طالق إن لم تستوعبها، فخالفتم بين بره وحنثه، والمسألة واحدة؟ فلم كان هذا هكذا؟ فقال له المغيرة: إنما تطلق على بساط الكلام ومعاني الإرادة، ونحن نقول: لو أن رجلا كانت له أخت، وكانت به غير بارة، ولا حافظة، فقيل له: إن أختك تصنع لك طعاما، فقال: امرأته طالق إن أكل لها بيضة، فبعثت إليه ببيضة، فإنه إن أكل منها شيئا حنث؛ لأنا علمنا أنه إنما سخط أمرها لقلة برها به، وعقوقها له، ولو قال له أهله القائمون عليه، والمعرضون له: إنك بحالة الضعف، ونحن نتخوف عليك الموت في تركك الأكل، وألحوا عليه في الأكل، ثم قربوا له بيضة، فقالوا: تصبر لنا على أكلها، فإن لك فيها الراحة والقوة، ولا بد منها، فقال: امرأته طالق إن أكلها، ثم أكل بعضها، فقد دلنا بعض المعنى أنه إنما كره

(6/288)


استيعابها لمشقتها عليه في أكلها كلها، ولم يدلنا أمره أنه أراد هاهنا ما أراد في الأخت، واليمين واحدة، غير أن البساط مختلف، ذلك حلف على الاجتناب لطعام أخته، وهذا لمشقة استيعابها.
قال محمد بن رشد: وجه احتجاج المغيرة على أبي يوسف، هو أنه لما سأله عن الفرق بين البر والحنث في قول الرجل: امرأتي طالق إن أكلت هذه البيضة، أو إن لم آكلها، ورأى أنه قد خفي عليه الفرق بينهما مع وضوح المعنى فيه، أراه أن الوجه الواحد منهما قد يفترق المعنى فيه بافتراق البساط تنبيها على قصور فهمه وضعف نظره؛ لأن الأيمان إذا كانت تفترق في الوجه الواحد افتراقا لا يخفى، فافتراقها في الوجهين اللذين أحدهما نقيض الآخر بين وأجلى، هذا ما لا ريب فيه ولا امتراء.
ولا اختلاف أحفظه في المذهب في أن البر يفترق من الحنث، فيحنث الرجل بما لا يبر فيه، وقد مضى بيان ذلك في رسم العرية، ورسم لم يدرك، من سماع عيسى، وفي غير ذلك من المواضع، وأما البساط فمراعاته في الأيمان على ما بينه المغيرة، هو المشهور في المذهب، وقد مضى الاختلاف فيه في سماع سحنون قبل هذا وغيره، فلا معنى لإعادة ذكره، وبالله التوفيق.

[قال لها أنت طالق إن أنفقت علي يومي هذا فكانت نفقتهم تأتيهم من قبل أبويه]
من سماع موسى بن معاوية عن ابن القاسم وسئل ابن القاسم عن رجل كانت بينه وبين امرأته منازعة، فقال لها: أنت طالق إن أنفقت علي يومي هذا، فكانت نفقتهم تأتيهم من قبل أبويه، فخرج الرجل، فأتى من بيت أبويه لها بطعام فأكلته.
قال ابن القاسم: إن كان ذلك الطعام طعاما لو شاء أن يمنعه منعه، فأراه حانثا، وإن كان طعاما لو شاء أن يمنعه لم يمنعه، رأيت أن يدين لأنه قد علم أن أباه كان يجري عليها نفقة، ولا

(6/289)


يستطيع منعها، فإن قال: إنما أردت من عندي، ولم أرد ما أجرى عليها أبي، فلا شيء عليه، وإن كان إنما أراد تلك النفقة لا يجري عليها بها أبوه، فقد حنث؛ لأنه قد حلف وهو يعلم أن أباه يجري عليها، وهو لا يستطيع أن يمنعه، فإن كان حلف على منعه فهو حانث، وإن لم تكن له نية حين حلف، ولم يكن طعاما يستطيع أن يمنعه، ولو علم به، فلا شيء عليه.
قال محمد بن رشد: في كلام ابن القاسم هذا في هذه المسألة التباس لطوله، والمعنى فيه إذا اعتبرته أن الطعام إن كان يقدر على منعه، فهو حانث، ولا ينوى معناه مع قيام البينة عليه، وإن كان طعاما لا يقدر على منعه فهو حانث، إلا أن يقول: إنما نويت ألا أنفق عليها أنا من مالي؛ إذ فقد علمت أن نفقة أبي لا أقدر على منعها، فينوى في ذلك يريد مع يمينه، والله أعلم، من أجل قيام البينة عليه، وهو قول صحيح على أصولهم في الأيمان؛ لأن الطعام إذا كان يقدر على منعه فهو كما لو قال من عنده، فوجب أن يحنث بأكلها إياه، ولا يصدق في نية إن ادعاها مع قيام البينة عليه، كما لو أنفق عليها من ماله، ثم قال: إنما نويت طعاما كذا، أو على وجه كذا، وما أشبه ذلك، وإذا كان لا يقدر على منعه كانت النية محتملة إذا لم ينفق هو عليها عن ماله، فصدق فيها، وبالله التوفيق.

[سألته امرأته الإذن إلى أهلها فقال أنت طالق إن بت الليلة إلا في بيتك أو في البيت]
من سماع محمد بن خالد وسؤاله ابن القاسم قال محمد بن خالد: قال ابن القاسم في رجل سألته امرأته الإذن إلى أهلها، فقال: أنت طالق إن بت الليلة إلا في بيتك، أو في البيت، فأقامت وباتت خارجا من البيت في حجرتها.
قال: إن كانت نيته بأنه إنما أراد منعها من إتيان أهلها، فلا حنث عليه، وإن لم تكن له نية فهو حانث.
قال محمد بن رشد: قد تقدمت هذه المسألة لمالك في سماع سحنون، وهي على خلاف المشهور؛ لأنه اعتبر فيها مقتضى اللفظ دون ما

(6/290)


يدل عليه البساط من المعنى، وقد مضى القول على ذلك هنالك، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.

[مسألة: تزوج امرأة وحلف لها بطلاقها ألا يدخل بها حتى يوفيها صداقها]
مسألة وسألته عن رجل تزوج امرأة، وحلف لها بطلاقها ألا يدخل بها حتى يوفيها صداقها، فطلقها واحدة من قبل أن يدخل بها، فبانت منه، فأخذت نصف الصداق، ثم إنه تزوجها بعد ذلك بأدنى من الصداق الأول الذي حلف عليه ألا يدخل عليها حتى يدفعه إليها ودخل بها.
قال ابن القاسم: أما ما كان يرجع في تزويجه إياها على بقية الصداق الذي كان حلف فيه، فالحنث واقع عليه، ولو كان بتها، ثم تزوجها بعد زوج بأدنى من ذلك، لم يقع عليه حنث، وذلك أن الطلاق الذي حلف فيه لم يبق منه شيء، وهو على طلاق مبتدأ.
قال محمد بن رشد: قوله: إن اليمين ترجع عليه ما بقي من طلاق ذلك الملك شيء صحيح، على معنى ما في المدونة، ومثله في رسم النذور، من سماع أصبغ، وفي نوازله بعد هذا من هذا الكتاب، وقال: إن الحنث واقع عليه إن تزوجها بعد ذلك بأدنى من الصداق الأول الذي حلف عليه، ألا يدخل بها حتى يدفعه إليها، ودخل بها، ولم يبين لماذا رأى أن الحنث واقع عليها، أن كان بأن دخل بها قبل أن يدفع إليها ما سمى لها، أو أن كان بأن سمى لها أقل من الصداق الأول الذي حلف عليه، والذي ينبغي أن يتأول عليه أنه إنما رأى الحنث واقعا من أجل أنه دخل بها قبل أن يدفع إليها ما سمى لها، ولو كان إنما دخل بها بعد أن دفع إليها ما سمى لها، لم يقع عليه حنث، وان كان ذلك أقل من الصداق الأول الذي حلف ألا يدخل عليها حتى يدفعه إليها؛ لأنه لم يحلف ألا يدخل بها حتى

(6/291)


يدفع إليها كذا وكذا، وإنما حلف حتى يدفع إليها صداقها، فمعنى يمينه إنما هو ألا يدخل بها حتى يوفيها جميع حقها، وهذا بين، والله أعلم.

[مسألة: اللصوص إذا استحلفوا الرجل بالحرية والطلاق ألا يخبر بهم فأخبر عنهم]
مسألة قلت لابن القاسم: أسمعت من مالك في اللصوص إذا استحلفوا الرجل بالحرية والطلاق ألا يخبر بهم، فأخبر عنهم أنه ليس عليه في يمينه شيء؟ قال: نعم، ذلك قول مالك.
قال محمد بن رشد: معنى قول مالك فيما ذهب إليه من أنه ليس عليه من يمينه شيء، إنما هو إذا خشي على نفسه منهم مكروها في نفسه باتفاق، أو في ماله على اختلاف إن لم يحلف لهم، وأما إذا لم يخش منهم مكروها على نفسه إن لم يحلف لهم، للزمته اليمين، وحنث إن أخبر عنهم، وإن كان لا يجوز له أن يستر عنهم، ويجب عليه أن يخبر عنهم حتى يقام الحد عليهم، وانظر لو كان في إخباره عنهم مع إقامة الحد عليهم جبر أموال الناس عليهم من عندهم، هل يكون ذلك عذرا له يسقط اليمين عنه أم لا، وقد مضى في رسم حمل صبيا، من سماع عيسى، ما يبين هذا، ويوضح ما هو إكراه مما ليس بإكراه، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.

[مسألة: قال لصاحب له امرأته طالق إن كلمتك حتى تبدأني بالكلام]
مسألة قال ابن خالد: وسئل ابن نافع عن رجل قال لصاحب له امرأته طالق إن كلمتك حتى تبدأني بالكلام، فقال له صاحبه: أنا والله لا أبالي، هل ترى هذا منه تبدية؟
فقال: لا.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول في هذه المسألة، في رسم العرية، من سماع عيسى، فلا معنى لإعادته، وبالله عز وجل التوفيق.

(6/292)


[يقول لامرأته وهي حامل إذا وضعت فأنت طالق]
من سماع ابن الحسن من ابن القاسم قال عبد الملك بن الحسن: سئل ابن القاسم وأنا أسمع، عن رجل قال لامرأته: إذا بلغت هي موضع كذا وكذا، فهي طالق.
قال: هي طالق تلك الساعة، ومثلها أيضا الرجل يقول لامرأته وهي حامل: إذا وضعت فأنت طالق، قال: هي طالق تلك الساعة، ومثلها الرجل يقول لامرأته: إذا كفلت ابني ثلاث سنين فأنت طالق. قال: هي طالق تلك الساعة.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول في قول الرجل لامرأته إذا بلغت معي موضع كذا وكذا فأنت طالق في رسم سلف، من سماع يحيى، ومضى القول على قول الرجل لامرأته إذا كفلت ابني ثلاث سنين فأنت طالق، في رسم الشجرة، من سماع ابن القاسم: فأغنى ذلك عن إعادته هنا مرة أخرى، وبالله تعالى التوفيق.

[مسألة: قال لامرأته أنت طالق البتة إن لم يكن عمر بن الخطاب من أهل الجنة]
مسألة قال عبد الملك: وأخبرني غير واحد من المصريين أن ابن القاسم سئل عن رجل قال لامرأته: أنت طالق البتة إن لم يكن عمر بن الخطاب من أهل الجنة.
قال ابن القاسم: لا حنث عليه، قال: وأخبرني من أثق به في أبي بكر وعمر مثل ذلك، قال ابن الصلت: وسمعت ابن القاسم يقول في عمر بن عبد العزيز: مثل ذلك.
قال محمد بن رشد: أما من حلف بالطلاق أن أبا بكر وعمر من أهل الجنة، فلا ارتياب في أنه لا حنث عليه، وكذلك القول في سائر العشرة أصحاب حراء الذين شهد لهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالجنة، وكذلك من جاء فيه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من طريق صحيح أنه من أهل الجنة، كعبد الله بن سلام، فيجوز

(6/293)


أن يشهد له بالجنة، وأما عمر بن عبد العزيز، فوقف مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في تحنيث من حلف عليه أنه من أهل الجنة، وقال: هو إمام هدى، وقال: هو رجل صالح، ولم يزد على ذلك؛ إذ لم يأت فيه نص يقطع العذر، ووجه ما ذهب إليه ابن القاسم التعلق بظاهر ما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من قوله: «إذا أردتم أن تعلموا ماذا للعبد عند ربه، فانظروا ماذا يتبعه من حسن الثناء» ، وقوله: «أنتم شهداء الله في الأرض، فمن أثنيتم عليه بخير وجبت له الجنة، ومن أثنيتم عليه بشر وجبت له النار» ، وقد حصل الإجماع عن الأمة على حسن الثناء عليه، والإجماع معصوم؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لن تجتمع أمتي على ضلالة» ، وقد مضى في رسم الرهون، من سماع عيسى القول فيمن حلف أنه من أهل الجنة، أو أنه يدخل وهو مما يتعلق بهذا المعنى، وبالله التوفيق.

[مسألة: قال امرأته طالق البتة إن قمت معك حتى أفرع من وضوئي فتوضأ]
مسألة وسألته عن رجل مر به رجل وهو يتوضأ على شاطئ نهر، فقال له: قم معي في حاجة، فقال: امرأته طالق البتة إن قمت معك حتى أفرع من وضوئي، فتوضأ ثم ذهب معه، فذكر أنه نسي المضمضة أو مسح الأذنين أو الرأس، هل ترى عليه شيئا أم لا؟
قال: هو حانث؛ لأنه إنما أراد بقوله حتى أفرغ من وضوئي الوضوء الذي يتوضأ الناس، ولم يدر المفروض من المسنون.
قال محمد بن رشد: وهو كما قال؛ لأن الوضوء إذا أطلق في الشرع إنما يقع على جملة الوضوء وهو يشتمل على ما فيه من الفرائض والسنن، فتحمل يمينه على جميعها لدخولها تحت لفظ الوضوء، إلا أن يخص شيئا منها بنية أو استثناء، كما يحمل على العمد والنسيان؛ لدخولها تحت عموم لفظه، إلا أن يخص النسيان من ذلك بنية أو استثناء، فتكون له نيته إن جاء مستفتيا، وبالله التوفيق.

(6/294)


[مسألة: حلف بالطلاق لغريمه ليوفينه حقه إذا أخذ عطاءه فأخذ من عطائه ما ليس فيه]
مسألة وسألت ابن أشهب عن من حلف بالطلاق لغريمه ليوفينه حقه إذا أخذ عطاءه، فأخذ من عطائه ما ليس فيه وفاء لدينه فقضاه، أتراه حانثا؟
قال: لا.
قال محمد بن رشد: هذا بين لا إشكال فيه، أنه لا حنث إذا قضى غريمه ما أخذ من عطائه، وإنما الكلام إذا أخذ من عطائه بعضه وفيه وفاء أو لا وفاء فيه؛ لأنه يتخرج ذلك على ثلاثة أقوال: أأحدها: أنه حانث إن لم يقضه حقه، أو ما قبض من عطائه على ما يوجبه معنى يمينه. والثاني: أنه لا حنث عليه إن لم يقضه شيئا حتى يقبض جميع عطائه على ما يقضيه لفظ يمينه. والثالث: أنه يحنث إن لم يقضه من حقه بحساب ما قبض من عطائه، وقد مضى في سماع أبي زيد، من كتاب النذور مسألة من هذا المعنى تشبه هذه المسألة في بعض معانيها، وقد مضى من القول عليها ما فيه زيادة بيان لهذه، وبالله التوفيق.

[مسألة: وجده يذبح جديا فقال امرأته طالق إن كان يقبض روحه إلا ملك الموت]
مسألة وسئل أشهب عن رجل كان يذبح جديا، فقال له رجل: من يقبض روح هذا الجدي؟ فقال: امرأته طالق إن كان يقبض روحه إلا ملك الموت، هل عليه حنث؟
قال: لا حنث عليه، هذا والجن والإنس وكل من يموت من البهائم وغيرهم، فملك الموت يقبض أرواحهم، وإنما سماه الله ملك الموت؛ لأنه يقبض روح كل ميت من الإنس وغيرهم.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن الله تعالى قد نص على أن ملك الموت يقبض أرواح بني آدم بقوله عز وجل: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} [السجدة: 11]

(6/295)


وقام الدليل من قَوْله تَعَالَى: {مَلَكُ الْمَوْتِ} [السجدة: 11] على أنه يقبض روح كل حي من الجن أو الإنس وغيرهم؛ لأن الموت اسم عام مستغرق للجنس، فلا يصح أن يخصص في بعض الحيوان دون بعض إلا بدليل، وقول أهل الاعتزال: إن ملك الموت يقبض أرواح بني آدم، وإن أعوانه يقبضون أرواح البهائم، تحكم بغير دليل ولا برهان، فلا يصح أن يقال: ما ذهبوا إليه إلا بتوقيف ممن يصح له التسليم، وهو في مسألتنا معدوم، والقول بما سوى هذين القولين تعطيل، والله الموفق.

[مسألة: حلف بطلاق امرأته ليقضين حقه إلى الليل]
مسألة وسئل عمن حلف بطلاق امرأته ليقضين حقه إلى الليل.
فقال: له الليل كله.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة شاذة، والصواب فيها أن تحمل " إلى " على بابها أنها غاية، فيكون حانثا إذا لم يقضه حتى غابت الشمس، وهذا هو الذي يأتي على مذهبه في المدونة وغيرها، وعلى ما نص عليه أيضا في رسم البراءة، من سماع من كتاب النذور، ووجه هذا القول أنه جعل " إلى " بمعنى " عند " يقال: هو أشهى إلى من كذا أي عندي، وقال الشاعر:
إذ لا سبيل إلى الشباب وذكره ... أشهى إلي من الرحيق السلسل
أي عندي. وعلى هذا يأتي قوله في كتاب الظهار من المدونة، فيمن قال: أنت علي كظهر أمي إلى قدوم فلان.

[مسألة: يقول لامرأته أنت طالق البتة إلا واحدة]
مسألة وسئل عن الذي يقول لامرأته: أنت طالق البتة إلا واحدة.

(6/296)


فقال: هي اثنتان، وقاله سحنون.
قال محمد بن رشد: المسئول في هذه المسألة هو أشهب، والله أعلم؛ بدليل أنها معطوفة على ما قبلها من المسائل له، وهو أيضا معلوم من مذهبه أن البتة تتبعض، وأما ابن القاسم فقد حكى عنه ابن حبيب: أنها لا تتبعض، وهو قول أصبغ في نوازله بعد هذا، وروى ذلك أيضا عن مالك، ووقع ذلك له في المبسوطة، ومثله في كتاب ابن المواز.
والصحيح قول أشهب وسحنون هذا أن البتة تتبعض، وعلى هذا يأتي ما في كتاب الأيمان بالطلاق من المدونة، من تلفيق شهادة الشهود إذا شهد أحدهما بالثلاث، والآخر بالبتة؛ لأن نهاية الطلاق الثلاث، فإذا قال الرجل لامرأته: أنت طالق البتة، فإنما معنى قوله وإرادته: أنت طالق نهاية عدة الطلاق، كما قال عمر بن عبد العزيز: لو كان الطلاق ألفا ما أبقت البتة منه شيئا، من قال: البتة فقد رمى الغاية القصوى، فلا فرق في المعنى بين أن يقول: أنت طالق ثلاثا، أو أنت طالق البتة؛ لأنه واصف للطلاق في المسألتين جميعا بأقصى ما تبين به المرأة عنه من عدد الطلاق، فوجب أن يستويا في جميع الأحكام من التلفيق في الشهادة، والتبعيض بالاستثناء، وغير ذلك، وقد زدت هذا المعنى بيانا بالحجج النظرية في مسألة أفردنا التكلم عليه فيها، والله الموفق للصواب برحمته.

[مسألة: قال إن كلمت فلانا فكل امرأة أتزوجها بمصر طالق فتزوج ثم كلمه]
مسألة وسئل عن رجل قال: إن كلمت فلانا فكل امرأة أتزوجها بمصر طالق، فتزوج ثم كلمه.
فقال: لا شيء عليه في التي تزوج قبل يمينه، وإنما يلزمه الحنث فيما يتزوج بعد كلامه.
قال محمد بن رشد: هذا خلاف ما في المدونة؛ لأنه قال في العتق الأول منها في الذي يقول: إن كلمت فلانا فكل عبد أملكه من الصقالبة، فهو حر: إن كل عبد يملكه بعد يمينه من الصقالبة فهو حر إن كلمه،

(6/297)


إلا أن يريد إن كلمت فلانا، فكل عبد أملكه بعد حنثي من الصقالبة فهو حر، فتكون له نيته، وليس أحد القولين من جهة اللفظ بأظهر من صاحبه؛ لأن قوله فكل عبد أملكه من الصقالبة، أو فكل امرأة أتزوجها بمصر يحتمل أن يريد بعد يميني، وأن يريد بعد حنثي احتمالا واحدا لا يترجح أحد الاحتمالين على صاحبه، فإن كانت له نية، فله نيته، وهو مصدق فيها، وإن كانت على يمينه بينة، وإن لم تكن له نية، فوجه قوله في هذه الرواية أنه لا يلزمه طلاق فيما تزوج قبل حنثه مراعاة الاختلاف؛ إذ من أهل العلم من لا يرى عليه شيئا أصلا، فيما تزوج قبل حنثه، ولا بعد حنثه، ووجه قوله في المدونة الاحتياط للعتق مخافة أن يملكه وهو حر، فأعتقه عليه بالشك ولم يراع الخلاف، ولفظة أملكه تصلح للحال وللاستقبال، وإنما تشبه المسألتان إذا لم يكن في ملكه يوم حلف عبد من الصقالبة، فيستدل بذلك على أنه أراد بذلك الملك فيما يستقبل به، وبالله التوفيق.

[مسألة: يقول لامرأته أنت طالق البتة إن بت في منزلك الليلة فبات في حجرتها]
مسألة وسألت ابن وهب عن الذي يقول لامرأته: أنت طالق البتة إن بت في منزلك الليلة، فبات في حجرتها.
فقال: الحجرة عندنا مثل الأسطوان، وهو حانث إلا أن تكون له نية.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة، لا يدخل فيها من الاختلاف ما دخل في مسألة البيت التي مضت في سماع سحنون، ومحمد بن خالد؛ لأن المنزل يجمع البيت والحجرة عند الجميع على ما مضى لابن القاسم في رسم الرهون، من سماع عيسى، وبالله التوفيق.

[مسألة: حلف بالطلاق ألا ينفق هذا الدينار إلا في حلي ابنته فماتت]
مسألة وسئل عن رجل حلف بالطلاق ألا ينفق هذا الدينار في وجه من الوجوه إلا في حلي ابنته، فماتت ابنته قبل أن يعمل لها ذلك

(6/298)


الحلي، وقبل أن يدفع ذلك إلى صانع أو بعدما دفع، كيف ترى في الدينار؟
قال: يحبسه ولا ينفقه.
قال محمد بن رشد: في كتاب ابن المواز: أنه لا شيء عليه، والاختلاف في هذا جار على اختلافهم في مراعاة المعنى الذي يظهر أن الحالف قصد إليه بيمينه، فلم يراعه في الرواية، وحمل يمين الحالف على ما يقتضيه مجرد لفظه من إلا ينفق ذلك الدينار، إلا في حلي ابنته، فقال: إنه إن ماتت ابنته حبسه فلم ينفقه، فإن لم يفعل حنث وراعاه في كتاب ابن المواز، فقال: إنه إن ماتت ابنته أنفقه فيما شاء، ولم يكن عليه حنث؛ لأنه لما حلف وابنته حية محتاجة إلى الحلي، تبين أنه إنما قصر بيمينه إلا يفوته عليها بنفقته إياه في غير حليها التي تحتاج إليه، فإذا ماتت وأنفق الدينار فيما شاء من حواجه، وجب ألا يحنث؛ إذ لم يفوت الدينار عليها بذلك، ولا حرمها الانتفاع به، وهذا القول أظهر، وهو المشهور في المذهب، وقد مضى المعنى في غير ما موضع من هذا الكتاب، وفي رسم جاع، ورسم الثمرة، من سماع عيسى، من كتاب النذور، وبالله التوفيق.

[مسألة: قال لامرأته إني قد كنت حلفت بطلاقك ألا أفعل كذا وكذا وقد فعلته]
مسألة وسئل وأنا أسمع عن رجل، قال لامرأته: إني قد كنت حلفت بطلاقك ألا أفعل كذا وكذا، وقد فعلته ورجلان يشهدان عليه بإقراره لم ينفعه ما نوى.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأنه قد أقر على نفسه بالحنث بالطلاق الذي قد لزمه بإقراره على نفسه به، وذلك مثل أن يقول: إنما كنت نويت ألا أفعل ذلك في يوم كذا وكذا، وإنما فعلت في غير ذلك اليوم وما أشبهه مما لو جاء عليه بينة سقط عنه الطلاق، وبالله التوفيق.

(6/299)


[مسألة: قال إن مت قبل فلان فامرأتي طالق البتة]
مسألة وسئل عمن قال: إن مت قبل فلان فامرأتي طالق البتة، قال: هي طالق حين تكلم، وإن قال: امرأتي طالق إن مت إلى سنة أنها طالق ساعتئذ.
قال محمد بن رشد: إن كان إنما أراد أنه لا يموت قبل فلان، وأنه لا يموت قبل السنة، وأوجب على نفسه الطلاق إن كان شيء من ذلك بمعنى أنه لا يكون، فلا اختلاف في أن الطلاق قد لزمه معجلا؛ لأنه حالف على غيبه لا يعلمه إلا الله، وأما إن كان لم يرد ذلك، وإنما قال: امرأتي طالق إن كان ذلك، يريد إن كان بما سبق في علم الله الذي لا يعلمه إلا هو، فلا شيء عليه باتفاق، وإن لم تكن له نية، فيخرج ذلك على قولين؛ أحدهما: أن يمينه تحمل على الوجه الأول، فيلزمه الطلاق. والثاني: أنها تحمل على الوجه الثاني، فلا يلزمه شيء، وكذلك إن حضرته بينة بها؛ إذ القول بادعاء أنه لم يرد الحلف أن ذلك يكون، وأنه إنما أوجب على نفسه الطلاق، وإن كان ذلك على غير وجه اليمين يتخرج ذلك على قولين؛ أحدهما: أنه يصدق فيما ادعاه ولا يلزمه شيء، وهو الذي يأتي على قول أصبغ، فيما روي عنه من أنه قال: من قال: امرأتي طالق إن مت، فلا شيء عليه إلا أن يريد بذلك العناد، بمعنى أنه لا يموت، والثاني: أنه لا يصدق في ذلك، ويعجل عليه الطلاق، وهو ظاهر ما في هذه الرواية، ورآه ابن وهب؛ لأن المسألة معطوفة على مسائل تقدمت من قوله، وكان ابن القاسم يقف في مسألة أصبغ، وهذا يشبهها، والله أعلم، ولو قال: امرأتي طالق إذا مت لم يكن عليه شيء، وبالله التوفيق.

[مسألة: حلف لغريمه بطلاق امرأته ليوفينه حقه إلى أجل سماه ولم يسم واحدة]
مسألة وسئل - وأنا أسمع - عن رجل حلف لغريمه بطلاق امرأته

(6/300)


ليوفينه حقه إلى أجل سماه، ولم يسم واحدة، ولا ثلاثا، فحنث في يمينه، فزعم صاحب الحق أنه إنما حلفه بالبتة، ولم يكن ليرضى منه بما لا منفعة له فيه، وقال الغريم: لم أحلف إلا بواحدة، قال ابن وهب: القول قول الغريم ويحلف، وفي رواية عيسى، عن ابن القاسم، في كتاب أوله حمل صبيا أن القول قول صاحب الحق.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة متكررة في رسم حمل صبيا، من سماع عيسى، ومضى القول عليها هناك، وفيما كان في معناها في رسم البز، من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته، وبالله تعالى التوفيق.

[طلق امرأته واحدة ثم يقول إن راجعتها فهي طالق البتة ثم يرتجعها]
من سماع أصبغ بن الفرج، من ابن القاسم، من كتاب النكاح
قال أصبغ: وسمعت ابن القاسم يقول في الرجل يطلق امرأته واحدة، ثم يقول: إن راجعتها فهي طالق البتة، ثم يرتجعها قبل أن تنقضي عدتها، فيقال له: أليس قد حلفت؟ فيقول: إنما أردت ألا أراجعها بنكاح جديد إن بانت، وأما الارتجاع فإني لم أحلف عليه، وهي في ملكي، وأراجعها عندي، مخالف لأرتجعها، يحتج بذلك.
قال: لا يقبل قوله، وقد طلقت بالبتة إن هو ارتجعها، إلا أن يكون استثنى ذلك استثناء، وتكلم به وإلا لم ينفعه، وقاله أصبغ، وكذلك قوله إن قال: لو تزوجتها، فمخرج التزويج هاهنا ارتجاع، إلا أن يرتجعها حتى يظهر غيره بإفصاح وبيان، ومن ذلك أن يذكر له ارتجاعها، ويقبح في طلاقها، وسئل ارتجاعها، فيقول: هي

(6/301)


طالق البتة إن راجعتها أو إن تزوجتها، فهذا الذي لا شك فيه إن ارتجعها طلقت بالبتة، وهو جواب والآخر مثله، وبجملة حتى يعرف خلاله بسبب أو بساط له مخرج أو استثناء به، يتكلم كلاما إن شاء الله.
قال محمد بن رشد: لفظ الارتجاع في العدة حقيقة، وبعد انقضائها مجاز، ولفظ المراجعة والتزويج في العدة مجاز، وهو في العدة حقيقة؛ لأن المراجعة مفاعلة من الاثنين، فلا تستعمل حقيقة إلا حيث يحتاج إلى رضا المرأة، ولم يراع في هذه الرواية شيئا من ذلك؛ لجواز استعمال المجاز، يقال في ارتجاع المرأة في العدة: راجعتها، وفي مراجعتها بعد العدة ارتجعتها، فلم ينوه مع قيام البينة عليه، وإن كانت نيته التي ادعى موافقة لحقيقة لفظه، إلا أن تكون ليمينه بساط يدل على نيته التي ادعى خلاف ما مضى من قول ابن القاسم في رسم العرية، من سماع عيسى، ونحو قول مالك فيه.
وأما إن كانت نيته التي ادعى مخالفة لحقيقة لفظه، مثل أن يحلف ألا يراجعها، ثم يراجعها بعد العدة، ويقول: إنما نويت بذلك ألا أرتجعها في العدة، أو يحلف ألا يرتجعها ثم يرتجعها في العدة، ويقول: إنما نويت بذلك ألا أراجعها بعد العدة، فإنه لا ينوي في ذلك مع قيام البينة، قاله في رسم سلف، عن سماع عيسى، من كتاب السنة، ولا خلاف عندي في هذا الوجه، قال محمد بن المواز، وكذلك إن كان مطلوبا فأقر باليمين، وادعى النية، وليس قوله بخلاف، وأما إذا جاء مستفتيا غير مطلوب، فلا اختلاف في أنه ينوي في كل حال دون يمين، وبالله تعالى التوفيق.

[مسألة: قال كل امرأة أتزوجها حتى يتزوج فلان فهي طالق]
مسألة وسئل عمن قال: كل امرأة أتزوجها حتى يتزوج، فلان فهي طالق.
قال: هو كمن قال: كل امرأة يتزوجها قبل أن يتزوج فلان إلا

(6/302)


أن يموت فلان، فهي طالق.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال: إن قول الرجل: كل امرأة أتزوجها حتى يتزوج فلان فهي طالق، مثل قوله كل امرأة أتزوجها قبل أن يتزوج فلان فهي طالق؛ لأن حتى غاية، فيمينه يقتضي طلاق كل امرأة يتزوجها قبل هذه الغاية، فاستوت المسألتان، والحكم في ذلك أن يلزمه طلاق كل ما يتزوجه قبل أن يتزوج فلان ما لم يمت، وإن لم يستثن إلا أن يموت؛ لأنه بموته قبل أن يتزوج يكون قد حرم على نفسه جميع النساء، فلا يلزمه ذلك كما لو استثنى فقال: إلا أن يموت، فقوله في هذه المسألة: إلا أن يموت؛ لا تأثير له فيما يوجبه الحكم على مذهب مالك الذي يرى أن من حرم على نفسه جميع النساء لم يلزمه من ذلك شيء، ولو قال: كل امرأة أتزوجها من بنات فلان قبل أن يتزوج فلان؛ لكان لاستثنائه بقوله: إلا أن يموت فلان تأثير، وهذا كله بين، والحمد لله.

[مسألة: يقول لامرأته قد شاء الله أن أطلقك]
مسألة وقال أصبغ: سمعت أشهب، وسئل عن الذي يقول لامرأته: قد شاء الله أن أطلقك، أو لعبده قد شاء الله أن أعتقك، قال: ليس عليه شيء إلا أن يريد بذلك عتقا أو طلاقا، هذا من الكاذبين على الله تعالى، فسئل عن قوله: قد شاء الله أنك طالق، قال: هذه طالق، إنما أخبر أنها طالق، وقاله أصبغ.
قال محمد بن رشد: قوله في الذي يقول: قد شاء الله أن أطلق امرأتي، أو أعتق عبدي: إنه لا شيء عليه صحيح؛ لأن معناه إنما هو الإخبار بالعزم على أن يطلق، وعلى أن يعتق؛ لأنه لما عزم على أن يطلق أو على أن يعتق قال: إن الله قد شاء ذلك، سيطلق ويعتق، فقد شاء ذلك، وإن كان سبق في علمه ألا يطلق ولا يعتق فلم يشأ ذلك، هذا هو تحقيق معنى قوله:

(6/303)


قد شاء الله أن أطلقك أو أعتقك، لا أنه من الكاذبين عليه في الحقيقة كما قال، وإنما كان يكون كاذبا عليه لو أخبر أنه قد شاء ما يعلم أنه لو شاءه، مثل أن يقول: قد شاء الله أن أعيش من الهوا، أو أمشي على الماء، أو أطلع إلى السماء، أو ألا يعذب الكافرين، أو ألا أثيب المطيعين، وما أشبه ذلك مما يعلم كذبه فيه على الله عز وجل، ووجب إلا يلزمه الطلاق ولا العتق بإخباره أنه قد عزم على ذلك إلا أن يريد بقوله ذلك العتق والطلاق فيلزمه، كمن لفظ بما ليس من حروف الطلاق وأراد به الطلاق، ويدخل في ذلك من الخلاف ما دخله.
وقوله في الذي يقول: قد شاء الله أنك طالق. هذه طالق إنما أخبرها أنها طالق، صحيح أيضا، والمعنى أنه يلزم الطلاق بإقراره على نفسه بهذا الكلام؛ لأنه أخبر أن الله تعالى فد شاء أنها طالق، ولا يكون الله قد شاء أنها طالق إلا أن يكون هو قد طلقها، كما أنه لا يمكن أن يطلقها إلا والله تعالى قد شاء ذلك؛ لأنها تكون طالقا بنفس قوله: قد شاء الله أنك طالق؛ لأنه إن كان لم يطلقها، وقال: إن الله قد شاء أنها طالق، فهو كاذب على الله تعالى فيما قال لها: لا يلزمه فيما بينه وبين الله تعالى إلا الاستغفار من كذبه عليه، وبالله تعالى التوفيق.

[حلف بطلاق امرأته على زوج أخته ألا يتم له ذلك الأمر]
ومن كتاب النذور قال أصبغ: سمعت ابن القاسم، وسئل عمن حلف بطلاق امرأته على زوج أخته ألا يتم له ذلك الأمر، يريد دخولها عليه.
قال: يصالح امرأته حتى يدخل بأخته زوجها، ثم يراجع امرأته، ولا شيء عليه، قيل له: أرأيت إن بارأ أخته زوجها قبل أن يدخل بها، ثم تزوجها بعد ذلك ودخل بها، وامرأة الحالف تحته كما هي؟ قال: لا أرى ذلك يبرئه، وأراه حانثا، إلا أن تكون له نية فله نيته، قال أصبغ: ولا أرى النية تصح في هذا ولا تجوز، ولا تجزى حتى

(6/304)


تنفع، إلا أن يكون سبب تعمده لصداق استثقله، أو شرط لم يكن يوافقه، أو أفتيت عليه في النكاح حتى يوافق وينكح بشروط وصداق غيره، تعمد ذلك بالنية واليمين والإرادة له على سببه تعمدا أو رهبا، وإلا فلا أرى ذلك ينفعه، ولا إن كانت يمينه مهملة.
قال محمد بن رشد: قوله: إنه يصالح امرأته حتى يدخل بأخته زوجها، ثم يراجع امرأته، ولا شيء عليه صحيح، قد تقدم له مثله في رسم أوصى، من سماع عيسى، ومضى من القول عليه هناك ما لا وجه لإعادته.
وقوله: إنه إن بارأ أخته زوجها قبل أن يدخل بها، ثم تزوجها بعد ذلك ودخل بها، وامرأة الحالف تحته كما هي أنه يحنث ويقع عليه الطلاق إلا أن تكون له نية صحيح أيضا على معنى ما في المدونة، من أن اليمين ترجع على الحالف ما بقي من الملك شيء، وقد مضى مثله في سماع محمد بن خالد، ويأتي أيضا في نوازل أصبغ، وقول أصبغ: إن النية في هذا لا تصح ولا تجوز ولا تجزى حتى تنفع، إلا أن يكون لها سبب تعمده إلى آخر قوله، معناه أنه لا يصدق فيما ادعاه من أنه نوى ذلك إذا حضرته نيته باليمين بالطلاق إلا أن يعلم من سبب يمينه ما يدل على تصديقه.
وقوله: ولا إن كانت يمينه مهملة معناه أنه لا ينتفع بالسبب، فتحمل يمينه عليه إذا كانت يمينه مهملة دون نية، فلم ينوه أصبغ دون سبب، ولا حمل يمينه على السبب، إذا لم تكن له نية، وظاهر قول ابن القاسم أنه نواه دون سبب، وأنه حمل يمينه على السبب إذا لم تكن له نية، فقول أصبغ على القول بأن الحالف إذا لم تكن له نية تحمل يمينه على ما يقتضيه مجرد اللفظ لا على السبب الذي خرجت عليه يمينه، وقول ابن القاسم على القول بأنه إذا لم تكن له نية تحمل يمينه على السبب الذي خرجت عليه لا على ما يقتضيه مجرد اللفظ، وقد مضى ذكر اختلاف في هذا المعنى، والقول فيه في سماع سحنون وغيره، وأما إذا أتى مستفتيا غير

(6/305)


مخاصم، ولا مطلوب باليمين، فله نيته وهو مصدق فيها دون يمين، وفي بعض الروايات مكان تعمد ذلك بالنية واليمين بعد ذلك باليمين والنية، والمعنى في ذلك كله سواء، وبالله التوفيق.

[مسألة: يحلف بطلاق كل امرأة يتزوجها ما دام خليطا لأبيه فترك مخالطته]
مسألة وقال ابن القاسم، عن مالك في الرجل يحلف بطلاق كل امرأة يتزوجها ما دام خليطا لأبيه، فترك مخالطته، ثم تزوج، ثم أراد الرجوع إلى مخالطته، فكره مالك ذلك أيضا، وقال: لا يفعل واستثقله.
قال محمد بن رشد: كره مالك أن يفعل ونهاه عنه واستثقله، ولم يقل: إنه يحنث إن فعل، وينبغي أن يحنث إن فعل على مذهبه في المدونة في الذي يحلف بطلاق كل امرأة يتزوجها على امرأته فيطلقها، ثم يتزوج، ثم يراجعها أنها تطلق عليه؛ لأن المعنى في يمينه إنما أراد ألا يجمع بينهما، وكذلك المعنى في يمين هذا، إنما أراد ألا تكون له زوجة، وهو مخالط لأبيه في ماله؛ لئلا يعتقد عليه أنه يرتفق بماله في الإنفاق على زوجته، ويأتي على قول أصبغ في المسألة التي فوقها.
وعلى ما مضى في سماع سحنون، ومحمد بن خالد من أن اليمين تحمل على اللفظ، ولا يعتبر بالبساط ألا يكون عليه شيء إن رجع إلى مخالطة أبيه بعد التزويج؛ لأن اليمين إذا حملت على مقتضى اللفظ، وإن كان لها بساط يخالفه، فأحرى أن يحمل على اللفظ، ولا يحمل على المعنى، إذا لم يكن لها بساط يدل عليه، وبالله التوفيق.

[مسألة: يقول: قد وهبت لك طلاقك]
مسألة قال: وسمعته وسئل عن الذي يقول: قد وهبت لك طلاقك. قال: هي البتة، وقال أصبغ مثله، وإن قال: أردت واحدة أو

(6/306)


اثنتين لم ينفعه ذلك، ولا يقبل قوله؛ لأن اسم الطلاق يجمع الطلاق كله، فيكون بمنزلة قوله: قد وهبت لك نفسك، وكذلك قد وهبت لك فراقك، ولا يحتاج في هذا إلى أن تقبل وتقول: قد قبلت أو لا أقبل، هو طلاق بمرة إلا أن يكون بدأ باستثناء إن أعطيتني كذا وكذا، أو وضعت عنى كذا وكذا، فقد وهبت لك طلاقك أو فراقك، فلا يكون عليه شيء حتى تقبل ويحنث بالقبول أو بالفعل، فأرى له فيه النية تنفعه بإرادة الواحدة أو شبيه بصلح أو خلع عند ذلك، وإلا فالطلاق واقع عليه، قال أصبغ.
وسئل ابن القاسم، قيل له: فإن قالت له: قد بلغني أنك تريد طلاقي فلا تفعل، هب لي ذلك ولا تفعل، فقال: قد وهبت لك طلاقك، فقال: إذا كان هذا هكذا، فلا أرى عليه شيئا، إذا لم يرد الطلاق، وكذلك لو قالت له: هب لي نفسي هذه المرة ولا تطلقني، أو قال ذلك له أهلها، فقال: قد وهبت نفسك لك، أو قال لأهلها: قد وهبتها لكم، هل هذا الوجه والبساط لم يكن عليه شيء؛ لأن ذلك منه على ترك الطلاق، وقاله أصبغ كله، ولو قال لها: قد تركتك وطلاقك لم يكن بشيء، كما لو قال لها: لو تركك لم يكن بشيء كان له بساط أو لم يكن، ما لم يرد بذلك طلاقا يضمره، فيحمل به محمل كلام أريد به الطلاق فهو طالق.
قال محمد بن رشد: قال في الذي يقول لامرأته ابتداء: قد وهبت لك طلاقك: إنها البتة، ولا ينوي إن قال: أردت واحدة أو اثنتين؛ لأن اسم الطلاق يجمع الطلاق، وتعليله لأن اسم الطلاق يجمع الطلاق كله يدل على أن حكم المدخول بها والتي لم يدخل بها في ذلك سواء، وهو صحيح في المعنى لا ينبغي أن يختلف فيه.
وأما قوله: قد وهبت لك نفسك، أي قد وهبت لك نفسك، أو قد وهبت

(6/307)


لك فراقك، فهو بمنزلة قوله: قد وهبتك لأهلك، وقوله في هذه الرواية: إن ذلك بمنزلة قوله: قد وهبت لك طلاقك، يقتضي أنه البتة في ذلك كله قبل الدخول وبعده، ولا ينوي في شيء من ذلك، وهو ظاهر قول غير ابن القاسم في العتق الأول من المدونة، وقد مضى ما يتحصل في ذلك من الاختلاف في رسم باع غلاما، من سماع ابن القاسم، من كتاب التخيير والتمليك.
وأما قوله في الذي يقول لامرأته: إن أعطيتني كذا وكذا فقد وهبت لك طلاقك أو فراقك، فأجابته إلى ذلك: إنه ينوى، فإن لم تكن له نية فهي ثلاث. فظاهره أن المدخول بها والتي لم يدخل بها في ذلك سواء، ولابن القاسم في رسم نقدها، من سماع عيسى، من كتاب التخيير والتمليك، أنها ثلاث ولا ينوى، ظاهره أيضا قبل الدخول أو بعده، وقال عيسى بن دينار هناك: إنها واحدة في المدخول بها، والتي لم يدخل بها، وأما إذا قال لها: قد وهبت لك طلاقك جوابا؛ لقولها له: هب لي طلاقي ولا تطلقني، فلا إشكال في أنه لا يلزمه بذلك طلاق، وقوله: ولو قال لها: قد تركتك وطلاقك لم يكن بشيء، يريد وإن قال ذلك لها ابتداء من غير جواب، وهو بين؛ لأنه كلام يدل على أنه أراد بذلك ترك طلاقها، وأما قوله: إن ذلك كما لو قال قد تركتك لم يكن بشيء كان له بساط، أو لم يكن ما لم يرد بذلك طلاقا يضمره، فيحمل محمل كلام أريد به الطلاق، ففيه نظر؛ لأن تركتك وودعتك من ألفاظ الطلاق، فالقياس إذا قال لها ذلك ابتداء ولا نية له أن يلزمه بذلك الطلاق، ولا يصدق أنه لم يرد بذلك الطلاق إذا حضرته نيته، وقد دل على ذلك ما وقع لمالك في رسم الطلاق، من سماع أشهب، من كتاب التخيير والتمليك، ولا فرق في المعنى بين تركتك وخليتك، وقد قال في رسم يوصي، من سماع عيسى، من هذا الكتاب، أن خليتك وخليت سبيلك وفارقتك ثلاث، إلا أن ينوي واحدة دخل بها أو لم يدخل بها، وقد قال في التي لم يدخل بها: إنها واحدة، إلا أن يريد ثلاثا، وبالله تعالى التوفيق.

[مسألة: قال لامرأته يا مطلقة]
مسألة قال أصبغ: سمعت ابن القاسم يقول في رجل قال لامرأته: يا

(6/308)


مطلقة، قال: إن كان لم يرد طلاقا، وإنما قال ذلك لها، أي أنت في كثرة الكلام كالمطلقة، وما كلامك إلا كلام مطلقة، فلا شيء عليه، إن لم يرد الطلاق، وإن كان أراد شيئا فهو ما أراد، وقاله أصبغ، أو يقول ذلك على وجه الكسرة لها، وإن لم يعن بذلك وجها أنه لم يعن بذلك طلاقا، وعزل الطلاق، أو على أنها قد طلقت مرة، ولو كان فيك خير ما طلقت ونحو ذلك.
قال محمد بن رشد: أما إذا أراد بقوله لامرأته: يا مطلقة ذمها بأنها ممن قد طلق، أو أن حالك كحال المطلقة في كثرة الكلام، وقلة الانطباع، وما أشبه ذلك فلا إشكال في أنه لا شيء عليه، وأما إذا قال لها ذلك ابتداء على غير سبب ولا نية، ففي لفظه في هذا الوجه في الكتاب احتمال، والأظهر منه أن الطلاق له لازم، ولو قال: أردت بذلك الكذب، ولم أرد به الطلاق لصدق في ذلك، ولم يلزمه طلاق، وإن كانت عليه بينة، والله سبحانه أعلم.

[مسألة: أسلف رجلا وأشهد عليه شهيدين ثم أنكر]
مسألة قال وسئل عن رجل أسلف رجلا، وأشهد عليه شهيدين، ثم أنكر، فلقيه الشاهدان فقالا: نحن نشهد عليك، فحلف بالطلاق إن كان لفلان علي شيء، فرفع الشهود شهادتهم، فقضى عليه بالحق، فلما حال الطلاق فقال: لا طلاق عليه إذا كانت يمينه بعد إخبارهما إياه بشهادتهما عليه، وذلك بمنزلة يمينه بعد رفعهما شهادتهما إلى الحكم؛ لأنه بعد الخبر إنما يحلف على شهادتهما، قال أصبغ: لأنه يمكن أن يكون كاذبا في الأول فيدين.

(6/309)


قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة والقول فيها في رسم الدور والمزارع، من سماع يحيى، ومضت أيضا في آخر سماع سحنون، فلا معنى لإعادة القول فيها، وقول أصبغ: لأنه يمكن أن يكون كاذبا في الأول فيدين؛ معناه لأنه يمكن أن يكون المدعي كاذبا في دعواه السلف، فيدين الحالف في يمينه، وبالله التوفيق.

[مسألة: يقول للمرأة إن تزوجتك فأنت طالق ولا يدري ما أراد]
مسألة قال وسمعت ابن القاسم يقول في الرجل يقول للمرأة: إن تزوجتك فأنت طالق، ولا يدري ما أراد؟
قال: أرى إن تزوجها بانت منه خوفا من أن يكون طلق البتة، ويكون له النصف من الصداق، ولم يكن ينبغي له أن ينكحها حتى تنكح زوجا غيره، ثم مجراها إن تزوجها بعد زوج مجرى المدخول بها، إن طلقها حرمت عليه حتى تنكح زوجا غيره، هكذا أبدا حتى تبين منه بالثلاث تطليقات لكل نكاح طلقة محسوبة إن طلقها إياها، حتى تنكح زوجا غيره، قال: وقد اختلف الناس فيه إذا رجعت إليه بعد هذا الذي فسرت لك أن تبتدئ الطلاق، أو تكون على تطليقة، وأحب إلي أن تكون على تطليقة أبدا، يعمل باليقين ويطرح الشك، قاله أصبغ، وهو قول أشهب أيضا في المدخول بها، وهما سواء.
قال محمد بن رشد: حمل ابن القاسم قوله: ولا يدري ما أراد؛ على أنه لا يدري كم أراد من عدد الطلاق، وأنه أراد شيئا فنسيه، خلاف قول سعيد بن المسيب، ويحيى بن سعيد في التخيير والتمليك من المدونة، فقول ابن القاسم هذا مثل ما في الأيمان بالطلاق من المدونة: أن الشك لا يرتفع بعد ثلاثة أزواج، وأنه باق أبدا لا ترجع إليه متى تزوجها إلا على طلقة، وهو قول سحنون، قال: ولو نكحت بعد عشرة أزواج رجعت إليه أبدا تطليقة

(6/310)


بقيت إلا أن يبت طلاقها، وحكى ابن أبي زيد في المختصر عن أشهب، أن الشك يرتفع بعد ثلاثة أزواج، وترجع إليه إن تزوجها على جميع الطلاق، وهو قول ابن وهب، وبه أخذ ابن حبيب، قال يحيى بن عمر: قد تدبرته فوجدته خطأ، وقال ذلك الفضل أيضا، وهو كما قالا: إنه خطأ بين واضح لا يخفى بالاعتبار؛ لأن الزوج لا يهدم الطلقة ولا الطلقتين، فإذا طلق الرجل المرأة التي طلقها، فلم يدر كم طلقها أربع مرات بعد أربعة أزواج، لم يجز له أن يتزوجها إلا بعد زوج؛ لأنا نخشى أن يكون طلاقه أو لا اثنتين، فتكون قد بانت منه بالطلقة الأولى من الأربع، فبقيت من الأربع ثلاث، بانت بها منه، فلا يتزوجها إلا بعد زوج، وكذلك إن طلقها خمس مرات بعد خمسة أزواج، لم يجز أيضا أن يتزوجها إلا بعد زوج؛ لأنا نخشى أن يكون طلاقه أولا طلقة واحدة، فتكون قد بانت منه بالطلقتين الأولتين من الخمس تطليقات، ثلاث تطليقات بانت بها منه، فلا يتزوجها إلا بعد زوج إن طلقها خمس مرات بعد خمسة أزواج، لم يجز له أن يتزوجها، وكذلك ما زاد أبدا على هذا الترتيب، لا يرفع الشك على ما بيناه، وبالله التوفيق.
وقوله في المدخول بها وغير المدخول بها: إنهما سواء؛ يريد أنهما سواء طلق امرأته التي قد دخل بها، ولم يدر كم طلقها؟ أو قال: إن تزوجت فلانة فهي طالق، ولا يدري كم أراد؟ في أن الشك باق أبدا، لا يرتفع إلا بأن يبت طلاقها، ثم يتزوجها بعد زوج، والله الموفق.

[مسألة: حلف بالطلاق أن يخرج إلى أخيه بالعراق فخرج فلقيه بالطريق]
مسألة قال: وسمعت ابن القاسم وسئل عمن حلف بالطلاق أن يخرج إلى أخيه بالعراق، فخرج فلقيه بالطريق، أو قدم قبل أن يخرج، أو بلغه موته إن كان إنما أراد لقيه، فلا شيء عليه، وليقم ولا يخرج، وإن كان إنما أراد العراق فليأتها.
قال محمد بن رشد: قوله: إن كان أراد لقيه، فلا شيء عليه، معناه إن كان أراد بيمينه أن يخرج حتى يلقاه، حيث ما لقيه ولو بالعراق، فلا شيء

(6/311)


عليه إن كان خرج، فلقيه في الطريق؛ لأنه قد فعل ما حلف عليه، وقوله: وليقم ولا يخرج؛ يريد إن كان قدم أو مات قبل أن يخرج، ولم يفرط في الخروج؛ لأنه إن كان فرط في الخروج حتى قدم أو مات فهو حانث، كمن حلف ليفعلن فعلا، ففرط في فعله حتى فاته فعل ذلك الفعل، وهو مصدق في هذه النية، وإن كانت على يمينه بالطلاق ببينة؛ لأنها نية محتملة غير مخالفة لظاهر يمينه.
وأما قوله: وإن كان إنما أراد إتيان العراق فليأتها؛ ففيه تفصيل، أما إن كان لم يفرط في الخروج حتى قدم أو مات، فلا يبرأ إلا بإتيان العراق على ما أقر به على نفسه أنه نواه وأراده، وأما إن كان فرط في الخروج، فلم يخرج حتى قدم أو مات، فقد حنث في ظاهر أمره، فلا يصدق فيما زعم من أنه أراد إتيان العراق، إلا أن يأتي مستفتيا فيقال له: إن كنت صادقا فلك أن تبر بإتيان العراق كما نويت، وإن لم تكن له نية، فيمينه محمولة على ما يقتضيه لفظ يمينه من الخروج إلى أخيه بالعراق، فإن خرج أخوه من العراق، أو مات لم يلزمه الخروج إن كان لم يخرج، ولا التمادي إلى لقيه إن كان قد خرج، وكان أخوه قد خرج من العراق، ولا يحنث إلا بأن يكون قد فرط في الخروج، فلم يخرج حتى خرج أخوه من العراق أو مات، وهو لو خرج أدركه بالعراق قبل أن يخرج منه أو يموت، وبالله التوفيق.

[مسألة: حلف ألا تدخل امرأته موضعا سماه حتى يقدم من سفره ثم يبدو له ألا يخرج]
مسألة قال أصبغ: سمعت ابن القاسم يقول عن مالك في الذي يحلف ألا تدخل امرأته موضعا، سماه حتى يقدم من سفره: الحج كان أو غيره، ثم يبدو له ألا يخرج هو أن اليمين عليه إلى مقدار سفره إلى رجعته، قال ابن القاسم: هذا الذي ليس فيه نية، يقول: ليس ينوي في هذا شيئا، إنما تحمل مخرج يمينه فيه إلى مقدار سفره إليه إن كانت نيته ذلك.
قال محمد بن رشد: قوله: إن هذا ليس فيه نية، ولا ينوى أنه يحمل

(6/312)


مخرج يمينه إلى مقدار سفره إليه، إن كانت نيته ذلك هو كلام ليس على ظاهره، وفيه إضمار لا يستقيم الكلام إلا به، وتقديره أنه يحمل مخرج يمينه إلى مقدار سفره، ولا يحمل على أنه إنما أراد ألا يخرج إلى ذلك الموضع في مغيبه، وإن كانت نيته ذلك فيما زعم، يريد إلا أن يكون ليمينه بساط يدل على ذلك، أو يأتي مستفتيا؛ لأنه إذا أتى مستفتيا فهو بمنزلة إذا كانت يمينه بما لا يقضى به عليه، وقد مضى بيان هذا في رسم الجنائز والذبائح، من سماع أشهب، من كتاب النذور، وقال ابن القاسم في كتاب ابن المواز في هذه المسألة: وهذا إذا لم تكن له نية خلاف قوله هاهنا، إلا أن يكون معنى ما تكلم به عليه إذا أتى مستفتيا، وبالله التوفيق.

[مسألة: حلف بطلاق أو عتاق وهو لا يعقل شيئا]
مسألة وقال: وسمعته يقول في الذي يسقي السيكران، فحلف بطلاق أو عتاق، وهو لا يعقل شيئا: لا شيء عليه، وهو بمنزلة البرسام وهو شيء يجعل له، ولم يدخله هو على نفسه إذا كان إنما يسقاه ولا يعلمه، وقال أصبغ: ولو أدخله على نفسه وشربه على علم به على وجه الدواء والعلاج، فأصابه ما بلغ به ذلك، لم يكن عليه شيء أيضا، ولم يكن بمنزلة السكران من الخمر ولا شاربها.
قال محمد بن رشد: قوله في الذي يسقي السيكران، فيحلف بطلاق أو عتاق، وهو لا يعقل شيئا: إنه لا شيء عليه صحيح لا اختلاف فيه؛ لأنه في حكم المجنون الذي رفع القلم عنه، بحكم الشرع مرفوع.
وقوله إذا كان يسقاه، ولا يعلمه كلام فيه نظر؛ لأنه يدل على أنه لو شربه وهو يعلم أنه يفقد به عقله، للزمه ما أعتق وطلق، وإن كان لا يعقل، وهذا لا يصح أن يقال، وإنما يلزم السكران العتق والطلاق من ألزمه ذلك من أهل العلم، من أجل أن معه بقية من عقله، لا من أجل أنه أدخل السكر على نفسه، وقد قيل: إنما ألزم الطلاق والحدود من أجل أنه أدخل السكر على نفسه، وليس ذلك بصحيح، وإن كان الذي يسقي السيكران يسكر به

(6/313)


كالسكر من الخمر، ويختلط به عقله كالسكران من الخمر فله حكمه، ويمكن أن يفرق فيه بين أن يدخله على نفسه ليسكر به، أو يسقاه، وهو لا يعلم، وقد قال ذلك ابن الماجشون في المبسوطة، وهو على قول من يذهب إلى أن السكران إنما ألزم الطلاق من أجل أنه أدخل السكر على نفسه، وعصى الله تعالى في شرب الخمر، وهو تعليل غير صحيح على ما ذكرناه، وقد مضى في أول سماع ابن القاسم، من كتاب النكاح، القول في أحكام السكران مجودا مستوفى مشروحا لعلله، فلا معنى لإعادة ذلك هنا، وبالله تعالى التوفيق.

[مسألة: حلف إن جمعت بين امرأتين فإحداهما طالق]
مسألة وسمعت ابن القاسم يقول في الذي يحلف إن جمعت بين امرأتين، فإحداهما طالق.
قال: ينوى، فإن كان أراد الأولى منهما أو الآخرة فذلك له، وإلا طلقتا جميعا، وقاله أصبغ.
قال محمد بن رشد: هذا هو المشهور في المذهب المعلوم في قول مالك وأصحابه أن من قال: إحدى امرأتي طالق، ولا نية له أنهما طالقتان جميعا، ولا خيار له في أن يختار إيقاع الطلاق في هذا كالعتق، فيجيزون له أن يوقعه على من شاء منهما، وقد روي ذلك عن مالك، وهو شذوذ في المذهب والقياس، إلا فرق في العتق والطلاق في هذا، فتفرقة مالك بينهما استحسان؛ إذ لا يجوز في العتق ما لا يجوز في الطلاق من التبعيض والوصية به وغير ذلك، وبالله التوفيق.

[مسألة: اشترى سلعة واستوضع البائع فحلف بالطلاق ألا يضع له فأقاله]
مسألة وسمعته يقول في رجل اشترى سلعة، واستوضع البائع، فحلف بالطلاق ألا يضع له فأقاله: إنه حانث، وذلك إن كانت

(6/314)


قيمتها أقل من الثمن، قال: وهو وجه ما سمعت من مالك؛ لأنه حين أقاله بمنزلة عرض أخذه في ثمنها، فإن كان فيه فضل أو وفاء لم يكن عليه حنث، وإن كان دون ذلك فهو حانث، وقاله أصبغ وهو بمنزلة ما لو سلفه دينارا في طعام أو سلعة، فيحلف له على الوفاء، ثم استقاله فأقاله ورد الدنانير إليه أنه إن لم يكن فيها وفاء بالطعام أو السلفة بسوق يومها يوم استقالة إن اشتريت بها أخرجتها، وإلا فهو حانث.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة المعنى على معنى ما في المدونة، وقد مضت والقول فيها في رسم إن خرجت، ورسم إن أمكنني، من سماع عيسى، فلا وجه لإعادة ذلك، وبالله التوفيق.

[مسألة: حلف بطلاق امرأته إن افتك لها ثوبا فمر بالخياط فقال له هذا ثوبكم]
مسألة وسئل عن امرأة استخاطت ثوبا لها، فأنكر ذلك عليها زوجها حين فعلت بغير أمره، وحلف بطلاقها إن افتكه لها، فمر الزوج بالخياط فقال له الخياط: هذا ثوبكم، وقد فرغت منه ألا تأخذه، فقال له: أمسك هذا الدرهم عندك رهنا بحقك وهاته، فأخذه فأتى به امرأته فدفعه إليها، وذهب الخياط فلم يوجد.
قال: يأخذه من المرأة، ولا شيء عليه، قيل له: ما الذي يأخذه من المرأة الدرهم أو ما استخاطت به الثوب إن كان نصف درهم؟ قال: بل النصف درهم الذي استخاطت به، ولم يسمع هذا الآخر منه.
قال محمد بن رشد: لم يحنثه في هذه المسألة بما يقتضيه لفظه، وحمل يمينه على ما ظهر إليه من معنى إرادته، وهو ألا يغرم عنها الأجرة، فكأنه قال: إن غرمت عنك الأجرة فأنت طالق، ولو حملها على ظاهر لفظه

(6/315)


لحنثه؛ لأنه قد افتكه لها من عند الخياط وأتاها به، وهو كان الأظهر في المسألة، وإن كان المشهور في المذهب مراعاة المعاني في الأيمان دون الاعتبار بمخرج ألفاظها من جهة الاحتياط في الطلاق، وبالله تعالى التوفيق.

[مسألة: حلف على امرأة بطلاقها إن دخلت الحمام سنة فاستأذنته إلى بيت أخيها]
مسألة قال: وسمعته سئل عن رجل حلف على امرأة بطلاقها إن دخلت الحمام سنة، فاستأذنته إلى بيت أخيها، فأذن لها، فأتيت بماء من الحمام فاغتسلت به في بيت أخيها.
قال: لا شيء عليه، قال له السائل: فإنها ذهبت مع امرأة أخيها إلى الحمام، فحرست ثيابها عند الباب، ولم تدخل هي، فقال: كيف كانت يمينك على ألا تخرج إلى الحمام، أو على ألا تدخل الحمام؟ فقال: بل على ألا تدخل الحمام، فقال: إن استيقنت أنها لم تدخل الحمام، فلا حنث عليك، قلت: فموضع الثياب من الحمام؟ قال: لا، قلت له: إن موضع الثياب بستر، وربما أخرجت المرأة عريانة ليس يراها أحد، قال: لا وإن كان مستورا، قال أصبغ: وكأنني رأيته يحنثه لو كانت يمينه على ألا تخرج، أو على ألا تسير إلى الحمام لعورته.
قال محمد بن رشد: إنما لم يحنثه إذا ذهبت مع امرأة أخيها إلى الحمام، فحرست ثيابها بالموضع الذي توضع فيه منه عند التجرد لدخوله؛ لأن معنى يمين الحالف على امرأته ألا تدخل الحمام إنما هو ألا تتحمم فيه على ما جرت عليه العادة من التحميم فيه، فراعى المعنى عنده في اليمين، ولم يلتفت إلى ما يقتضيه لفظ الدخول؛ إذ قد دخلت من الحمام الموضع الذي يتجرد النساء فيه مستترات عن الناس، ولم يحنثه بذلك كما يحنث من حلف ألا يدخل مسكن رجل بدخوله بعض داره، وإن لم يصل إلى موضع سكناه منه إلا كان يلزم على هذا ألا يحنثه أيضا، وإن كان حلف

(6/316)


ألا تخرج إلى الحمام، أو ألا تسير إلى الحمام؛ لأن المعنى في ذلك كله إنما هو ألا تتحمم في الحمام، ووجه تفرقته بين أن يحلف ألا تدخل أو على ألا تخرج إلى الحمام، هو أنه لم يوقع الحمام إلا على موضع التحمم منه، فلم ير موضع الثياب من الحمام، ولا أوجب عليه بدخولها إياه حنثا، وأما إذا اغتسلت في منزل أخيها بماء الحمام، فلا إشكال في أنه لا يقع عليه بذلك حنث، وبالله تعالى التوفيق.

[مسألة: قال لامرأته أنت طالق إن حضرت جنازة فلان فمات فلان في موضع بعيد]
مسألة وسئل عن رجل قال لامرأته: أنت طالق إن حضرت جنازة فلان، فمات فلان في موضع بعيد، فبلغ ذلك امرأة الميت فبكته، واجتمع إليها النساء يبكين معها، فخرجت امرأة الحالف عليها إلى زوجة الميت، فبكت معها حينا، ثم رجعت إلى زوجها.
فقال: هي طالق، وهو حانث فيها.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن هذا هو المعنى عند النساء في حضورهن الجنائز، وهو الذي كره الحالف، فعليه يقع يمينه، وبالله التوفيق.

[مسألة: يقول لجاريته إن لم ألتمس منك الولد فأنت حرة]
مسألة وسئل عن الذي يقول لجاريته إن لم ألتمس منك الولد فأنت حرة، أو يقول ذلك لامرأته، فأنت طالق البتة.
قال أشهب: إذا لم يعزلها فليس عليه شيء، قيل له: فإن أراد أن يبيع بعدما وطئ، ولم يعزل قال: إن شاء فعل.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن التماس الولد من المرأة إنما هو بالإفضاء إليها، إذ ذاك هو سببها الذي لا يقدر في التماس الولد

(6/317)


منها على أكثر منه، فإذا وطئ وأفضى إليها، فقد التمس الولد منها، وإن كان لم يرد أن يكون له منها ولد، كما لو حلف ألا يلتمس الولد منها فوطئها، وأفضى إليها، لكان قد حنث، وإن كان من إرادته ألا تحمل منه؛ إذ لا تأثير لإرادته في شيء من ذلك، وبالله التوفيق.

[مسألة: حلف بطلاقها ألا يلبس لها ثوبا فأدخل طوقه في عنقه فإذا هو ثوب امرأته]
مسألة وسئل عن رجل حلف بطلاق امرأته، ألا يلبس لها ثوبا، وأنه أخذ لها ثوبا، فحين أدخل طوقه في عنقه، فإذا هو ثوب امرأته، فنزعه أتراه حانثا أم لا؟ والذي يحلف ألا يركب دابة فلان، فأدخل رجله في الركاب، فحين استقل من الأرض وهم أن يقعد على السرج، ذكر يمينه أتراه حانثا؟
قال ابن وهب عن مالك: إنه حانث، قيل له: فالذي يدخل رجله في الركاب فحين استقل من الأرض، ولم يستو عليها ذكر يمينه؟ قال: لا شيء عليه إلا أن يكون استوى عليها.
قال محمد بن رشد: قال في الذي يحلف ألا يركب دابة رجل فأدخل رجله في الركاب، واستقل من الأرض، وهم أن يقعد على السرج أنه حانث، ومعنى ذلك إن كان قد استوى عليها، بدليل قوله في آخر المسألة التي بعدها أنه لا شيء عليه إلا أن يكون استوى عليها، ولا اختلاف في أنه إذا استوى بجسده على الدابة أنه حانث، وإن لم يقعد بعد على السرج، ولا في أنه لو أدخل رجله في الركاب، واستقل من الأرض، وهو متعلق بالدابة، لم يستو عليها، ولا وضع ساقه الأخرى عليها أنه لا حنث عليه، ولو كان لما وضع رجله في الركاب، واستقل من الأرض، وضع ساقه الأخرى على الدابة، فذكر قبل أن يستوي بجسده عليها لتخرج ذلك على قولين؛ أحدهما: أنه يحنث. والثاني: أنه لا حنث عليه يقوم الاختلاف في ذلك من اختلافهم، فيمين حلف ألا يدخل دار رجل، فأدخل رجله الواحدة فيها، ولم يعتمد بعد

(6/318)


إلا على الخارجة، وقد مضى القول في ذلك في رسم القطعان، ورسم باع شاة، من سماع عيسى، فهي ثلاث منازل؛ منزلة لا يحنث فيها باتفاق، ومنزلة يختلف في وجوب الحنث عليه بها، ومنزلة يحنث فيها باتفاق، فهذا تحصيل القول في هذه المسألة، وأما الذي يحلف ألا يلبس ثوب رجل، فأدخل عنقه في طوق ثوب من ثيابه فهو حانث كما قال، ولا اختلاف في ذلك؛ لأنه لباس، وكذلك لو كانت عمامة فلواها على رأسه، أو إزارا فأداره على نفسه؛ لأن هذا هو اللباس في هذه الأشياء، ولو كان وضع شيئا من ذلك على فرجه واستتر به، لم يكن ذلك لباسا، ولم يحنث على ما قاله في المدونة.
واختلف إذا لم يلبس القميص، ولا أدخل عنقه في طوقه، ولا اتزر بالإزار، وإنما ألقاه على ظهره، أو لفه على رأسه، أو كانت عمامة فاتزر بها، ولا يتزر بمثلها على قولين؛ أحدهما: أنه يحنث وهو مذهب ابن القاسم في المدونة. والثاني: أنه لا يحنث، وهو قول سحنون، فهي ثلاث منازل في اللباس أيضا كالركوب، وبالله التوفيق.

[قال لامرأته إن ولدت غلاما إن لم أحج بك فأنت طالق فولدت غلاما فأبت أن تحج]
من سماع أبي زيد من ابن القاسم قال ابن زيد: سئل ابن القاسم، عن رجل قال لامرأته: إن ولدت غلاما إن لم أحج بك فأنت طالق، فولدت غلاما فأبت أن تحج.
قال: إن كان ذلك منه على وجه أن يوفي لها به مثل أن تسأله إن ولدت غلاما أن يفعل كذا وكذا فيحلف ليفعلنه، فإذا عرض ذلك عليها فأبته، فلا شيء عليه، وأما أن يكون أغلق عليها يمينا، لئن ولدت غلاما لأفعلن كذا وكذا على وجه العطية لها، أو الهبة رأيت ذلك يلزمه، وإن كرهت يجبرها على ذلك.
قال محمد بن رشد: كذا وقع: وأما أن يكون أغلق عليها يمينا

(6/319)


لأفعلن كذا وكذا على وجه العطية، وهو غير صحيح في الرواية، وإنما صوابه على غير وجه العطية، وكذلك يستقيم الجواب، وكذلك قال في هذه المسألة بعينها في رسم سلف، من سماع عيسى، وقد مضى من القول عليها هناك ما يكتفي عن القول فيها هنا، وبالله التوفيق.

[مسألة: يقول لامرأته إن خرجت إلي موضع من المواضع إلا بإذني فأنت طالق البتة]
مسألة وسئل عن الذي يقول لامرأته: إن خرجت إلي موضع من المواضع إلا بإذني فأنت طالق البتة، فأذن لها أن تخرج إلى بيت أمها، والمسجد فخرجت، فلما كانت في الطريق رجعت لحاجة لها فأخذتها، ثم رجعت كما هي إلى الموضع الذي كان أذن لها فيه.
قال: إن كان رجوعها لحاجة ذكرتها تصلحها لتأخذها، ثم ترجع مثل الثوب تتجمل به والخمار وما أشبه ذلك، فلا حنث، وإن كان رجوعها تركا للموضع الذي أذن لها فيه وقطعا له، ثم فكرت بعد ذلك، فقامت فخرجت على الإذن الأول قبل أن تستأذنه فهو حانث.
قال محمد بن رشد: قد مضى تحصيل القول في هذه المسألة، في رسم سلف، من سماع عيسى، فيكتفى بالوقوف على ذلك هناك عن إعادته هنا، وبالله التوفيق.

[مسألة: حلف بطلاق امرأته البتة إن دخلت بيتا من الدار بغير إذنه]
مسألة وسئل عن رجل حلف بطلاق امرأته البتة إن دخلت بيتا من الدار بغير إذنه، فدخلت حجرة من حجر البيت.
قال: الحجرة عندنا من البيت؛ لقول الله تعالى: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور: 27]

(6/320)


فلا ينبغي لأحد أن يدخل بيتا من تلك الحجر حتى يستأذن.
قال محمد بن رشد: هذا من قول ابن القاسم، خلاف قوله في رسم الرهون، من سماع عيسى، وقد مضى من القول على ذلك هنالك ما فيه كفاية، وبالله التوفيق.

[مسألة: حلف بطلاق امرأته أن لا يدعها تخرج شهرا إلا لنقلة منزل إلى منزل آخر]
مسألة وسئل عن رجل حلف بطلاق امرأته، أن لا يدعها تخرج شهرا إلا لنقلة منزل إلى منزل آخر، فأراد أن يخرج بها إلى قرية ثم يرجع.
قال: إن كان لخروجه مكث طويل شهرا أو نحوه، فلا أراه حانثا.
قال محمد بن رشد: وهذه المسألة أيضا قد مضى القول عليها في رسم الرهون، من سماع عيسى، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.

[مسألة: حلف ألا يبيعني ثوبا أبدا فأراد أن يبيع مقارضا]
مسألة قال ابن القاسم في رجل حلف ألا يبيعني ثوبا أبدا، فأراد أن يبيع مقارضا فكرهه، وقال: ما يعجبني.
قال محمد بن رشد: وهذه المسألة قد مضت متكررة في أول سماع أبي زيد، من كتاب النذور، ومضى القول عليها هنالك، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.

(6/321)


[مسألة: قال امرأته طالق البتة إن لم أوافك غدا في منزلك فجاءه إلى منزله فلم يجده]
مسألة وسئل عن رجل كان له حق على رجل، فتعلق به فقال: خلني وأنا آتيك غدا فقال: أخشى ألا تفعل، فقال: امرأته طالق البتة إن لم أوافك غدا في منزلك، فجاء من الغد إلى منزله، فلم يجده ووجده قد سار.
قال: لا حنث عليه.
قال محمد بن رشد: وقعت هذه أيضا متكررة في سماع أصبغ من كتاب النذور، وذيلها أصبغ من قوله بأن قال: وذلك إذا ظل يومه به، ولم يأته، ولم يكن بينهما وقت لحين من النهار من ذلك اليوم، فيأتي له ويقضي ولم يأته، فأما أن يأتي مثل ما أحب ويمسح ذلك مسحا، ويذهب حين لا يجده عند مجيئه فهو حانث، وليس هذا مجيء ولا موافاة، وتكلمنا هناك على وجه قول ابن القاسم وأصبغ، وذكرنا ما يجب أن يحمل قولهما عليه، فلا معنى لإعادته هنا، وبالله التوفيق.

[مسألة: قال لامرأته أنت طالق إن دخلت جاريتك على أختك إن لم أضربها مائة فدخلت]
مسألة وسئل عن رجل قال لامرأته: أنت طالق إن دخلت جاريتك على أختك إن لم أضربها مائة، فدخلت ثم ضربها مائة، ثم دخلت مرة أخرى.
قال: لا شيء عليه، إلا أن يكون نوى أن يضربها كلما دخلت.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضت، والقول فيها في رسم شك في طوافه، من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته.

[مسألة: قال امرأته طالق إن حرثت بها إلا في الأرض التي بيني وبينك]
مسألة وسئل عن رجلين كانت لهما أرض، وكان لكل واحد منهما

(6/322)


بقرة يحرثان بها، وكان أحد الشريكين حاضرا والآخر غائبا بالريف، فبلغ الحاضر أن شريكه يحرث بلدا له بالبقرة، وكان أحد الشريكين يحرث في غير الأرض التي بينهما، فأتاه فقال له: قد بلغني كذا وكذا، فقال الآخر: امرأته طالق إن حرثت بها إلا في الأرض التي بيني وبينك، ثم بدا للذي حلف أن ولى نصيبه من تلك الأرض رجلا آخر ثم حرثها بتينك البقرتين.
قال: هو حانث إلا أن يكون كانت له نية.
قال محمد بن رشد: حنثه في هذه المسألة على ما يقتضيه مجرد اللفظ، ولم يلتفت إلى المعنى المقصود إليه باليمين على ما دل عليه البساط من أنه إنما حلف ألا يخونه، فيحرث بالزوج الذي بينهما في أرض لا حق له فيها، وقد مضى هذا المعنى والاختلاف فيه في سماع سحنون وغيره، فلا معنى لإعادته، وبالله تعالى التوفيق.

[مسألة: قال لرجل أنا والله أتقى لله منك وأشد حبا لله ورسوله وإلا فامرأته طالق البتة]
مسألة وسئل عن رجل قال لرجل: أنا والله أتقى لله منك، وأشد حبا لله ولرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإلا فامرأته طالق البتة.
قال: أراه حانثا، قيل له: فلو قال: امرأته طالق إن لم يكن فلان أتقى لله منك، وأشد حبا لله ولرسول الله منك، قال: إن كان قال ذلك في رجل من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ومن قد عرف فضله على صاحبه، أي من عرف فضله من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على صاحبه الذي قال له: أنا أتقى لله منك، وأشد حبا لله، وقوله مثل أبي بكر وعمر يريد أو غيرهما من فضلاء الصحابة، كعبد الله بن عمر، ومعاذ بن جبل، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن مسعود، ومن سواهم ممن شهدت فضائلهم، وعلمت مناقبهم، ولو حلف بالطلاق

(6/323)


إن فلانا لرجل غير مشهور أتقى وأشد حبا لله ولرسوله لفلان، لرجل من أهل هذا الزمان معلوم بالخير لحنث؛ بدليل قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أعجب الناس إيمانا إلي، قوم يخرجون بعدي، يؤمنون بي ولم يروني، ويصدقوني ولم يروني، أولئك إخواني» ولو حلف بذلك في بعض الصحابة على بعض لحنث إلا في أبي بكر وعمر في الإجماع الحاصل بين أهل السنة أنهما أفضل من غيرهما، وأن أبا بكر هو الأفضل منهما، وبالله التوفيق.

[مسألة: حلف ألا يبيع هذه السلعة إلا بمائة دينار فباعها وسلعة معها بمائتي دينار]
مسألة وسئل عن رجل حلف ألا يبيع هذه السلعة إلا بمائة دينار فباعها، وسلعة معها بمائتي دينار.
قال: إن كانت السلعة التي باعها معها ثمنها لو باعها وحدها مائة دينار، لم يكن عليه حنث، وإن كان ثمنها أكثر من مائة دينار فهو حانث.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة فيها نظر، وقعت على غير تدبر؛ لأنه يمكن أن يكون قيمة السلعة التي حلف عليها أقل من مائة، وقيمة التي أضاف إليها مائة، فازداد فيهما تمام المائتين، فالزيادة مقسومة على قيمتهما، فلا يقع للتي حلف عليها إلا أقل من مائة فيحنث، ألا ترى أن التي حلف عليها، لو استحقت، وقد بيعت مع الأخرى بمائتين لم يرجع إلا إلى القيمة فيهما، وإنما كان يجب أن يقول: إن كانت التي أضاف إليها قيمتها مثل قيمة التي حلف عليها فأقل، وباعهما بمائتين لم يحنث، وكذلك لو باعها مع غيرها، وسمى لها من الثمن في أصل الصفقة ما حلف عليه؛ لأن التسمية في ذلك غير معتبرة، ولا يحتاج في ذلك إلى الفض إن استحقت أحد السلعتين، أو وجد بها عيب، لا يجوز البيع إلا أن يكون سمى لكل سلعة من

(6/324)


الثمن ما يقع لها منه على قدر قيمتها من قيمة صاحبتها، وقد مضى ذكر هذا في نوازل أصبغ، من كتاب النذور، وبالله التوفيق.

[مسألة: حلف لرجل بالطلاق إذا اقتضى عطاءه ليقضينه حقه فوضع العطاء فلم يأخذه]
مسألة وسئل عن رجل أرهن امرأته جارية بدين لها عليه، فقالت امرأته: أخشى إذا افتككتها مني أن تطأها، قال: إن افتككتها فأنت طالق البتة، إن لم أتصدق بها على أمي، فأيسر الرجل فلم يفتكها، وأراد أن يتركها على حالها.
قال: أخشى أن يحنث؛ لأن مالكا قال لرجل حلف لرجل بالطلاق إذا اقتضى عطاءه ليقضينه حقه، فوضع العطاء فأبى أن يأخذ عطاءه، قال: هو حانث إن تركه ولم يقبضه؛ لأنه لو أراد أن يقبضه قبضه.
قال محمد بن رشد: أما الذي حلف لغريمه ليقضينه حقه إذا اقتضى عطاءه، فأبى أن يأخذه، فإيجاب الحنث عليه ظاهر على مراعاة المعنى؛ لأن الحالف إنما قصد بيمينه إلى أن يعجل له حقه، ولا يماطله به، فإذا وضع العطاء فأبى أن يأخذه، فقد حنث فيما حلف عليه، وقد مضى هذا المعنى، في رسم كتب عليه ذكر حق، من سماع ابن القاسم.
وأما الذي حلف ليتصدقن بالجارية على أمه إذا افتكها، فليس قصده إلى تعجيل افتكاكها ليتصدق بها على أمه، وألا يترك ذلك إذا وجد إليه سبيلا، فبين محمل يمينه عليه، ولذلك قال: أخشى أن يحنث، ولم يقل يحنث كما قال في مسألة العطاء، فالأظهر في هذه المسألة أن تحمل على ما يقتضيه اللفظ ولا يحنث بخلاف مسألة العطاء، وبالله التوفيق.

[مسألة: قال كل امرأة أتزوجها إلى ثلاثين سنة فهي طالق البتة إن لم أقضه هذا الحق عند الأجل]
مسألة وسئل عن رجل قال: كل امرأة أتزوجها إلى ثلاثين سنة

(6/325)


فهي طالق البتة، إن لم أقضه هذا الحق عند الأجل.
قال: يحنث إن كان يقدر على مال يبتاع به الجارية، فلا ينكح إلا أن يخشى العنت، فإن خشي العنت فهو في سعة من التزويج، وتدخل امرأته التي حنث فيها في النساء، ينكح إن بدا له هي وغيرها إن خشي العنت.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة مثل ما في المدونة وغيرها، وقد مضى القول على هذا المعنى في رسم الجواب، من سماع عيسى، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.

[مسألة: حلف بالطلاق ليصومن غدا فصام ثم أكل فيه ساهيا]
مسألة وسئل عن رجل حلف بالطلاق ليصومن غدا، فصام ثم أكل فيه ساهيا.
قال: لا شيء عليه.
قال محمد بن رشد: وقد مضت هذه المسألة، والقول فيها في رسم سلف، من سماع عيسى، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.

[مسألة: قال امرأته طالق إن كساها شيئا أبدا فماتت أخت امرأته فكفنها بأثواب]
مسألة وسئل عن رجل كان يصل أخت امرأته ويكسوها، فبلغه أنها تشتمه وتكسره، فقال: وقد فعلت، امرأته طالق إن كساها شيئا أبدا، فماتت أخت امرأته، فكفنها بأثواب.
قال: إن كان حين حلف كانت له نية ألا يكسوها ما عاشت فقد بر، وإن لم تكن له نية، فقد حنث.
قال محمد بن رشد: مسألة صحيحة بينة المعنى، لا اختلاف فيها؛

(6/326)


لأنه لما قال أبدا اقتضى قوله الحياة والموت بخلاف أن لو قال: ما عاشت، وقد مضى هذا والقول فيه مستوفى في رسم الأقضية، من سماع أشهب، من كتاب النذور، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.

[مسألة: قال لزوجته أنت طالق إن لم تأكلي هذه القطعة من اللحم فجاءت هرة فأكلتها]
مسألة وقال في رجل تغدى مع امرأته لحما، فجعلت المرأة لحما بين يديه ليأكله، فأخذ الزوج منها بضعة، فقال لها: كلي هذه، فردتها بين يديه، فقال لها: أنت طالق إن لم تأكليها، فجاءت هرة فذهبت بها فأكلتها، فأخذت المرأة الهرة فذبحتها، فأخذت البضعة فأكلتها المرأة، هل يخرج من يمينه؟
قال: ليس ذبح الهرة ولا أكلها ولا إخراج ما في بطنها ولا أكله من ذلك بشيء، ولا يخرجه ذلك من يمينه في شيء لحنث في مثله، فإن كان ساعة حلف لم يكن بين يمينه وبين أخذ الهرة البضعة قدر ما تتناولها المرأة وتحوزها دونها، فلا شيء عليه، وإن توانت قدر ما لو أرادت أن تأخذها وتحوزها دونها فعلت، فهو حانث.
قال محمد بن رشد: مثل هذا حكى ابن حبيب في الواضحة عن مطرف، وابن الماجشون، وهو صحيح على المشهور في المذهب من حمل الأيمان على المقاصد التي تظهر من الحالفين بها، وإن خالف ذلك مقتضى ألفاظهم فيها؛ لأن الحالف على امرأته أن تأكل البضعة من اللحم لم يرد وقت يمينه أن تأكلها، إلا وهي على حالها مستبدأة مستساغة، لا على أنها مأكولة تعاف وتستكره، وقد روى أبو زيد عن ابن الماجشون أنها استخرجت من بطن الهرة صحيحة كما هي حينما بلعته من قبل أن ينحل في جوفها شيء منها، فأكلتها فلا حنث عليه، وقوله: يأتي على مراعاة ما يقتضيه مجرد الألفاظ في الأيمان دون اعتبار المقاصد فيها، وهو أصل

(6/327)


اختلف فيه قول مالك وابن القاسم، وقد مضى بيان هذا في غير ما موضع من هذا الكتاب وغيره، ولا فرق بين هذه المسألة في المعنى وبين الذي يحلف ليأكلن الطعام، فلا يأكله حتى يفسد، وقد اختلف قول ابن القاسم في ذلك في رسم إن أمكنتني، من سماع عيسى، من كتاب النذور، وقد مضى من القول عليها هناك ما يبين المعنى في هذه، وبالله التوفيق.

[مسألة: قال امرأته طالق إن لم أقضك إلى سنة إلا أن تشاء أن تؤخرني]
مسألة وقال في رجل قال لغريمه: امرأته طالق إن قضيت أحدا قبلك، وإن لم أقضك إلى سنة إلا أن تؤخرني، فحل الأجل فأخره، ثم أراد أن يقضي غريما له قبل أن يقضي القديم الذي حلف ألا يقضي أحدا قبله.
قال: إذا يحنث.
قيل له: فإن قال امرأته طالق إن لم أقضك إلى سنة، وإن قضيت أحدا قبلك إلا أن تشاء أن تؤخرني، فحل الأجل فأخره، ثم أراد أن يقضي غريما غير الذي حلف له.
قال: أرجو ألا يكون عليه شيء.
قال محمد بن رشد: وجه تفرقته بين من يقول: إن قضيت أحدا قبلك، وإن لم أقضك إلى سنة، إلا أن تشاء أن تؤخرني، وبين أن يقول: إن لم أقضك إلى سنة، وإن قضيت أحدا قبلك إلا أن تشاء أن تؤخرني، هو أن رد الاستثناء، الوارد عقب جملة معطوف بعضها على بعض بالواو إلى أقرب مذكور منها أظهر من رده إلى جميعها، وإن كان رده إلى جميعها محتملا جائزا، ورد الاستثناء في قوله: إلا أن تشاء أن تؤخرني إلى قوله: إن لم أقضك إلى سنة أظهر من رده إلى قوله: إن قضيت أحدا قبلك، إذ هو أشبه بمعناه، فإذا كان الاستثناء متصلا لقوله: إن لم أقضك إلى سنة، وجب أن يرد

(6/328)


إليه خاصة؛ لأنه أظهر من وجهة اتصاله به، ومن جهة مشابهته له في المعنى، فيحنث إن قضى أحدا وخره أو لم يؤخره، وإذا كان الاستثناء متصلا بقوله: إن قضيت أحدا قبلك كان أظهر أن يرد إلى قوله: إن قضيت أحدا قبلك لاتصاله به، وأظهر أن يرد إلى قوله إن لم أقضك إلى سنة من جهة أنه أشبه به في المعنى، فلما كان رده إلى كل واحد منهما أظهر من وجه ما استحسن أن يرده إليهما جميعا، فقال: أرجو ألا يكون عليه شيء إن حل الأجل، فأخره ثم قضى غريما له، وبالله التوفيق.

[مسألة: قال يميني في يمينك فحلف بالطلاق وليس للحالف امرأة ثم حنث]
مسألة وقال في رجل قال لرجل: تجعل يمينك في يميني على ألا تفعل كذا وكذا، فقال له الرجل: يميني في يمينك، فحلف بالطلاق، وليس للحالف امرأة، ثم حنث، كيف يقول في الرجل الذي جعل يمينه في يمين الحالف إن ظن أن له امرأة، أو علم حين جعل يمينه في يمينه أنه لا امرأة له؟
قال: لا شيء عليه علم أو لم يعلم.
قال محمد بن رشد: قد مضى هذا القول في هذه المسألة في رسم سن، من سماع ابن القاسم، والمعنى فيها بين، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.

[مسألة: قال امرأته طالق إن وطئ فرجا حراما فأخذ جارية لامرأته فضمها إلى صدره]
مسألة وسألت ابن القاسم عن رجل قال: امرأته طالق إن وطئ فرجا حراما أبدا، فأخذ جارية لامرأته، فضم صدرها إلى صدره، ووضع يده على محاسنها وقبلها حتى أنزل الماء الدافق.
فقال: قد حنث، قلت له: ولا ترى أن تنويه أنه إنما أراد

(6/329)


الوطء بعينه؟ قال: لا أنويه، ولا كرامة.
قال محمد بن رشد: إنما رآه حانثا؛ لأنه حمل يمينه على المعنى؛ لأن الحالف ألا يطأ فرجا حراما إنما معنى يمينه مجانبة الحرام، فوجب أن يحنث بمباشرته والاستمتاع به، وإن لم يصل في ذلك إلى الوطء بعينيه، ولو حمله على ما يقتضيه اللفظ لم يحنثه؛ لأنه لم يطأ فرجا، وقد قال في كتاب ابن المواز: من حلف ألا يتسرر على امرأته فجرد جارية له، ووضع يده على محاسنها وملاذها، فليس ذلك بتسرر، وأما قوله لا ينوى في أنه إنما أراد الوطء بعينه، فمعنى ذلك مع قيام البينة عليه، ولو جاء مستفتيا لكانت له نيته، وبالله التوفيق.

[مسألة: حلف بالطلاق ليغسلن رأس رجل فغسله وهو ميت]
مسألة وقال في رجل حلف بالطلاق ليغسلن رأس رجل فغسله وهو ميت أنه يحنث.
قال محمد بن رشد: إنما قال: إنه يحنث؛ لأن المعنى في يمين الحالف أن يغسل رأسه وهو حي؛ إذ المقصد في هذا إنما هو نفعه بإزالة الشعث عن رأسه وإراحته بذلك وكفايته المؤنة في تولي ذلك بنفسه لنفسه، وذلك كله مرتفع بالموت، فوجب ألا يبر بفعل ذلك به بعد الموت، وأن يحنث إن مات قبل أن يغسله إن كان قد حيي بعد اليمين، قدر ما لو أراد أن يغسله أمكنه، ولو حلف ألا يغسله فغسله، وهو ميت لحنث بما يقتضيه اللفظ على عمومه في الحياة والموت، ولم ينظر في ذلك إلى المعنى من أجل أن الحنث بخلاف للبر، ولو حلف ألا يغسل حياته فغسله بعد أن مات حنث أيضا، وقد قيل: إنه لا يحنث حسبما أشرنا إليه ونبهنا على موضع القول فيه قبل هذا في هذا السماع، وبالله التوفيق.

[مسألة: حلف بالطلاق ألا يجتمع هو وفلان في بيت فاجتمعا في الحمام]
مسألة وقال في رجل حلف بالطلاق ألا يجتمع هو وفلان في

(6/330)


بيت، فاجتمعا في الحمام، قال: يحنث؛ لأنه لو أراد ألا يدخله فعل.
قال محمد بن رشد: قد مضى تعليله في رسم الرهون من سماع عيسى ما يدل على أنه لا يحنث إذا اجتمع معه في الحمام وشرحنا هناك وجه ذلك، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.

[مسألة: له على رجل حق فحلف بالطلاق ليستقضين منه حقه فهلك الغريم]
مسألة وقال في رجل كان له على رجل حق فحلف بالطلاق ليستقضين منه حقه، ولا يرخص له، فهو فيما يخاصم الغريم حتى هلك الغريم.
فقال: يستقضي من ورثة الغريم، ولا يرخص لهم، ولا شيء عليه.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن الحالف على مثل هذا إنما مقصده استعجال قبض حقه لينتفع به، فتحمل يمينه على ذلك، ولا تنحل عنه اليمين بموت المحلوف عليه، إلا أن تكون له نية أنه أراد التضييق عليه بعينه، فتكون له نية إن جاء مستفتيا غير مطلوب بحكم اليمين بالطلاق، وبالله التوفيق.

[مسألة: حلف بالطلاق أنه لا يقضي غريما له اليوم شيئا فلظ به الغريم]
مسألة وقال في رجل حلف بالطلاق أنه لا يقضي غريما له اليوم شيئا، فلظ به الغريم، وقال لرجل له عليه دين: ادفع إليه فضمنه له إلى غد.
قال: هو حانث ولا ينوى.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن هذا حوالة على أصل دين، والحوالة قضاء بنفس لزومها، وإن كانت إلى أجل، وقد مضى بيان

(6/331)


هذا، والقول فيه في رسم بع ولا نقصان عليك، من سماع عيسى، وقوله: ولا ينوي معناه مع قيام البينة، ولو أتى مستفتيا كانت له نيته فيما يدعي، وبالله التوفيق.

[مسألة: قال امرأته طالق إن لم أكن أدخلت غنمي السوق يوم الجمعة يريد قبل الأحد]
مسألة وقال في رجل قال لجلاب: أدخلت غنمك في السوق يوم الأحد حين فاتك السوق؟ قال: امرأته طالق إن لم أكن أدخلتها يوم الجمعة، يريد أي أدخلتها قبل الأحد، وإنما هو قد أدخلها يوم السبت.
قال: لا شيء عليه.
قال محمد بن رشد: أما الذي عوقب على إدخال سلعته السوق بعد فوات السوق، فحلف بالطلاق لقد أدخلتها السوق يوم الجمعة، وإنما أدخلها السبت، فقوله: لا شيء عليه صحيح على مراعاة المعنى؛ لأنه إنما أراد أنه لم تتأخر سلعته عن سوقها، وهذا إن كانت سوق تلك السلعة يوم السبت، وأما إن كانت سوق تلك السلعة إنما هو يوم الجمعة فهو حانث، إذ تأخر بها عن سوقها، وعن اليوم الذي حلف عليه، وقد قيل: إنه حانث وإن كان سوق تلك السلعة يوم السبت، وهذا على الاعتبار بلفظه دون معنى يمينه؛ إذ هو أصل قد اختلف فيه، وإلى هذا نحا في كتاب ابن المواز، فقال في موضع: أخشى عليه، وأما الذي سئل سلف خمسة دنانير فحلف أنه ليس معه إلا خمسة دنانير، فإذا هو ليس معه إلا أربعة دنانير، فبين أنه لا حنث عليه؛ لأنه إنما أراد أنه ليس معه أكثر من خمسة دنانير، وبالله التوفيق.

[مسألة: قال امرأته طالق إن لم أربح غدا درهمين]
مسألة وقال في رجل قال: امرأته طالق إن لم أربح غدا درهمين، قال: إن علم أنه من شيء يرتجى ربحه، يقول: أنا أربح غدا

(6/332)


درهمين في هذا الثوب، أو في هذه الدابة، أو أقتضي من غلامي غدا درهمين، أو يهب لي فلان درهمين، فأصاب من الغد درهمين بشيء من هذه الوجوه، فلا شيء عليه.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: إنه إذا أصاب من الغد درهمين بشيء من هذه الوجوه، فلا شيء عليه؛ لأنه لم يحلف إلا على شيء رجاه، فلا اختلاف في أنه لا شيء عليه إذا سلم مما غرر فيه اليمين عليه، ولو عثر على ذلك قبل غد لما عجل عليه الطلاق حتى ينظر، هل يربح الدرهمين غدا من وجه تلك الوجوه التي ذكر أم لا؟ لأنه إنما هو بمنزلة من قال: امرأتي طالق إن لم يوهب لي غدا درهمان، فلا يعجل عليه الطلاق؛ لأنه يقول: لا أعدم من يهب لي غدا درهمين، وأنا قادر على أن يسلفها ممن لا يبخل علي بهما، بخلاف لو قال: امرأتي طالق إن لم تضع فلانة حملها غدا لما يرى بها من إمارة قرب وضعها، وإن لم يمت فلان غدا لما يرى به من أسباب الموت، هذا يعجل عليه الطلاق إن عثر عليه قبل الأجل؛ إذ لا حيلة له، ولا عمل لتعجيل الوضع ولا الموت وما أشبه ذلك، وقد مضى بيان هذا كله في رسم يوصي، من سماع عيسى، فلا معنى لإعادة ذلك، وبالله التوفيق.

[مسألة: حلف بطلاق امرأته البتة ليبيعن عبده إلى غير أجل فمات العبد أو أبق]
مسألة وسئل عن رجل حلف بطلاق امرأته البتة ليبيعن عبده إلى غير أجل، فمات العبد أو أبق.
قال: إن كان عمل في بيعه، فعجله فوات نفسه، فمات قبل أن يبيعه، فلا شيء عليه، وإن كان فرط حتى مات حنث، فإن كان أبق فإن يضرب له أجل أربعة أشهر، ويوقف عن امرأته من يوم ترفعه، فإنه وجد العبد وباعه قبل انقضاء أربعة الأشهر، لم يكن عليه شيء، ولا طلاق عليه، فإن انقضت الأربعة أشهر، ولم يجده لم تكن عليه إلا طلقة واحدة، فإن وجده وهي في العدة وباع راجع

(6/333)


امرأته، وإن لم يجده إلا بعد انقضاء العدة من يوم طلق عليه، لم يكن له عليها رجعة.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة على معنى ما في المدونة وغيرها، فلا وجه للقول فيها، وقد مضت في رسم القطعان، من سماع عيسى، وبالله التوفيق.

[مسألة: حلف ألا يكلم فلانا فكتب فلان إلى ذلك الرجل كتابا فقرأه الحالف]
مسألة وسئل عن رجل حلف ألا يكلم عبد الله، فكتب عبد الله إلى ذلك الرجل يريد الحالف الذي حلف ألا يكلمه كتابا، فقرأه ذلك الرجل الحالف ألا يكلمه على نفسه، ولم يجب فيه بشيء.
قال: هو حانث، قيل له: فإنه حين أتى بالكتاب فدفعه إلى رجل، فقال أقرأه علي؟ فقال: إن قري عليه ما فيه بأمره؛ حنث، وإن قرأه الرسول عليه من غير أن يقول: اقرأه علي؛ فأرجو أن يكون خفيفا، وما ذلك بالبين، قيل له: فإن عبد الله كتب إلى رجل غير الذي حلف عليه كتابا، فجاء ذلك الرجل بذلك الكتاب إلى الذي حلف ألا يكلم عبد الله، فقال له: اقرأ علي كتاب عبد الله، فإنه كتب إلي هذا الكتاب، فقرأه عليه وأخبره بما فيه؟ قال: لا شيء عليه.
قال محمد بن رشد: قد قيل: إنه لا يحنث الحالف بقراءة كتاب المحلوف عليه، روى ذلك أيضا أبو زيد، عن ابن القاسم، وهو قول أشهب، حكى ذلك ابن المواز واختاره، وهو الصواب؛ لأن حقيقة التكليم هو أن يعبر الرجل للرجل عما في نفسه بلسانه عبارة يفهمها عنه إذا سمعه، فإنما يحنث الحالف ألا يكلم رجلا بالكتاب إليه إذا قرأه المحلوف عليه، وإن لم يكن مكلما له بذلك على الحقيقة، من أجل أنه قد وجد منه التفهيم، وهو

(6/334)


معنى الكلام، والحالف إذا قرأ كتاب المحلوف عليه، فلم يوجد حقيقة التكليم ولا معناه؛ إذ لم يفهمه هو شيئا بقراءة كتابه، وإنما المحلوف عليه هو الذي أفهم الحالف، فوجب ألا يحنث، وبالله التوفيق.

[مسألة: حلف إن تزوج فلانة فهي طالق البتة]
مسألة قال: وكتب إلى ابن القاسم صاحب الشرط في رجل حلف: إن تزوج فلانة فهي طالق البتة، فتزوجها فدخل بها، فرفع ذلك إلي، فأردت أن أفرق بينهما، فكتب إليه ابن القاسم: لا تفرق بينهما.
قال: وبلغني عن ابن المسيب أن رجلا قال: حلفت بطلاق فلانة إن تزوجتها، قال: تزوجها وإثمك في رقبتي، وزعم أن المخزومي ممن حلف على أمة بمثل هذا.
قال محمد بن رشد: راعى ابن القاسم في هذه الرواية قول من ذهب من أهل العلم إلى أنه لا يلزم الرجل طلاق ما لم ينكح، بدليل ما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من قوله: «لا طلاق قبل نكاح، ولا عتق قبل ملك» ، وهو مذهب الشافعي وكثير من العلماء، فلم ير أن يفرق بينها إذا دخلا، والمشهور في المذهب أنه يفرق بينهما على كل حال وإن دخلا، ولا يراعى الاختلاف في هذا، ومراعاته فيه شذوذ في المذهب، وإنما الاختلاف المشهور في مراعاته في الميراث والطلاق والعدة، فقيل لهما: لا يتوارثان إن مات أحدهما قبل أن يعثر على ذلك، وإن كان هو الميت لم يلزمها عدة إلا أن يكون موته بعد الدخول، فتعتد بثلاث حيض، وهو قول مالك في كتاب ابن المواز، واختيار ابن القاسم في رسم الرهون، من سماع عيسى قبل هذا، ودليل ما في المدونة، وعلى هذا لا يكون الفسخ فيه طلاقا، ولا يلزمه فيه ما طلق قبل أن يعثر عليه؛ لأنه قد طلق من قد بانت منه بالعقد، ولا يكون لها

(6/335)


من الصداق نصفه إن طلق قبل الدخول، أو فرق بينهما قبله، وقيل: إنهما يتوارثان إن مات أحدهما قبل الفسخ، ويلزمه ما طلق قبل أن يعثر عليه، وإن كان هو الميت اعتدت أربعة أشهر وعشرا، ويكون الفسخ فيه طلاقا، ويكون لها نصف الصداق إن فرق بينهما قبل الدخول، وإنما يراعى الاختلاف في وجوب الحد، ويلحق فيه النسب في المشهور في المذهب، وقد شذ ابن حبيب، فلم يراع الاختلاف في ذلك، وأوجب الحد، وأسقط النسب في ذلك إذا كان الذي فعل ذلك عالما غير جاهل، فمراعاة الاختلاف في ألا يفرق بينهما شذوذ، وترك مراعاته في درء الحد وإلحاق النسب شذوذ وغلو، والاختلاف في مراعاته في الميراث والطلاق والعدة متكافئ في المذهب، والاختلاف فيه - أعني في المذهب - في وقوع الحرمة به، وبالله التوفيق، ووقع في كتاب ابن زرب زيادة في قول ابن المسيب إثمها وإثمك في رقبتي، والمعنى في ذلك واحد؛ لأن الإثم اللاحق لا يختص بالواحد منهما دون الآخر.

[مسألة: حلف بطلاق امرأته ليخرجن بها في مرته هذه وكان يريد سفرا]
مسألة وقال في رجل حلف بطلاق امرأته: ليخرجن بها في مرته هذه، وكان يريد سفرا فخرج، فلما سار ذكر يمينه، فانصرف فحملها.
قال: أراه حانثا.
قال محمد بن رشد: وهذا بين على ما قال؛ لأن الحنث قد وقع عليه لأول خروجه دونها في تلك المرة التي حلف ليخرجن بها فيها، على أصولهم في أن الحنث يدخل بأقل الأشياء، ولا يسقط عنه الطلاق الذي قد لزمه رجوعه عنها، وإخراجه وإن كان من قرب، وبالله التوفيق.

[مسألة: حلف بطلاق امرأته في أرض إنك لا تحرثها فحرثها ليلا]
مسألة وقال ابن كنانة في رجل حلف بطلاق امرأته في أرض كانت بينه

(6/336)


وبين رجل فيها منازعة: إنك لا تحرثها أبدا إلا أن تغلبني عليها، ثم إن الأرض طرقها، فحرثها ليلا، فهل تراه حانثا؟
قال: لا، ولكن يدين ويحلف بالله أنه ما أراد بيمينه إلا أن يمنعه إذا أراد الحرث، فإنه لا يدعه إلا أن يغلبه عليها، فإن حلف لم يكن عليه شيء، قال ابن القاسم: هو حانث، ولا ينوى في ذلك إلا أن يؤخذ فيربط، ويحرث ويحبس، فلا يكون عليه شيء.
قال محمد بن رشد: طروقه بالأرض وحرثه إياها ليلا بغير علمه مقافصة له فيها، مغالبة له عليها، وهو لم يستثن في يمينه إلا المغالبة، فوجب أن يكون حنث بظاهر يمينه، إلا أن يكون نوى أنك لا تحرثها بعلمي إلا أن تغلبني عليها، فالاختلاف بين ابن كنانة وابن القاسم إنما هو هل يصدق في نيته مع قيام البينة عليه باليمين أم لا؟
فقال ابن كنانة: إنه يصدق في قوله مع يمينه، وقال ابن القاسم: هو حانث، ولا ينوى في ذلك؛ يريد مع قيام البينة عليه باليمين، وذلك صحيح على أصولهم في أن من ادعى نية مخالفة ليمينه لا تقبل منه، ولا يصدق فيها إلا أن يأتي مستفتيا مثل أن يقول: امرأتي طالق إن كلمت فلانا، أو اشتريت ثوبا، فيكلمه ويقول: نويت شهرا، أو يشتري ثوبا ويقول: نويت شيئا، وقول ابن القاسم: هو حانث، ولا ينوى في ذلك، إلا أن يؤخذ فيربط، ويحرث ويحبس، فلا يكون عليه شيء ليس على ظاهره؛ لأن فيه تقديما وتأخيرا وتقديره، قال: لا ينوى في ذلك، وهو حانث، إلا أن يؤخذ فيربط، ويحبس وتحرث، فلا يكون عليه شيء.

[مسألة: حلف لامرأته أنت طالق إن لم أتسرر عليك فاشترى جارية فوطئها وعزل عنها]
مسألة وقال فيمن حلف لامرأته: أنت طالق إن لم أتسرر عليك، فاشترى جارية فوطئها وعزل عنها، هل تخرجه ذلك من يمينه؟
قال: إذا تسررها فوطئها فلا شيء عليه، يريد بالوطء مرارا،

(6/337)


بمنزلة الرجل يريد حبس الجارية، قال ابن القاسم مرة أو مرتين، سواء أراد حبسها أو لم يرده.
قال محمد بن رشد: قد اختلف في التسرر ما هو؟ فقيل: إنه الوطء، وإليه ذهب مالك وعامة أصحابه، وعلى هذا يأتي قول ابن القاسم هذا: إنه إذا وطئها مرة أو مرتين فقد بر، وإن عزل عنها، ولم يرد حبسها ولا اتخاذها، وقيل: إنه الاتخاذ للوطء، وهو قول ابن كنانة، يقوم ذلك من قوله في رسم إن خرجت، من سماع عيسى، من كتاب العتق، في الذي يقول: كل أمة أتسررها فهي حرة، فيشتري خادما تخدمه فيطأها؛ أنها لا تكون حرة في مثل هذا إلا أن تحمل، يريد أنه لا يلزمه حريتها بتلك الوطأة، إلا أن تحمل منها إذا لم يطأها متخذا لذلك، فعلى هذا القول يأتي قوله في هذه الرواية: يريد بالوطء مرارا، بمنزلة الرجل يريد حبس الجارية، يريد حبسها للاتخاذ، فأرى قائل ذلك ابن كنانة، والله أعلم؛ لأنه مذكور في المسألة التي قبلها، وهذه معطوفة عليها.
وقيل: إنه الحمل، فعلى هذا القول لا يبر الذي يحلف بطلاق امرأته إن لم يتسرر عليها جارية فيطأها، وإن نوى حبسها لذلك ولم يعزل عنها، وهو على حنث في امرأته؛ لا يجوز له وطؤها حتى تلد منه جارية، فإن طلبت امرأته الوطء ورافعته في ذلك طلق عليه، وقيل: يضرب له أجل المولي، ويطلق عليه عند انقضائه بالإيلاء، إلا أن ترضى أن تقيم معه دون وطء، هذا هو الحكم في هذه اليمين على هذا القول، على قياس ما وقع في الإيلاء من المدونة في نظير هذه المسألة، وبالله التوفيق.

[مسألة: حلف ألا يئويه وفلانا سقف بيت أبدا فمر بسقيفة فيها طريق]
مسألة وقال مالك في رجل حلف ألا يئويه، وفلانا سقف بيت أبدا، فمر بسقيفة فيها طريق، وهو يعلم أن الذي حلف عليه فيها، قال: إنما حلفت ألا أجلس معه تحت سقف بيت أبدا، وإنما مررت بالطريق.

(6/338)


قال: إن كان طريق يمر فيه بغير إذن، وهي نافذة، فإنه بريء، ولا أرى عليه حنثا، وإن كان إنما هو بيت يستأذن فيه، ولا يدخل فيه إلا بإذن، فلا أراه ألا حانثا.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول فيها موعبا مجودا في الرهون، من سماع عيسى، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.

[مسألة: حلف بالطلاق ألا يكلم رجلا فشتمه الذي حلف عليه ألا يكلمه]
مسألة وقال في رجل حلف بالطلاق ألا يكلم رجلا فشتمه الذي حلف عليه ألا يكلمه، فلم يرد عليه شيئا، وإلى جانبه رجل، فقال للرجل الذي إلى جانبه: ما أنا كما قال.
قال: أراه حانثا، إنما أراد أن يسمعه، فإن كان أراد أن يسمعه فسمعه، فهو حانث.
قال محمد بن رشد: في قوله في هذه المسألة: إن كان أراد أن يسمعه فسمعه فهو حانث، دليل على أنه إن لم يسمعه فلا حنث عليه، وهو مثل ما مضى في رسم الطلاق الثاني، من سماع أشهب، بخلاف إذا كلم المحلوف عليه فلم يسمعه، وقد مضى التكلم على الوجهين، وما يتعلق بهما موعبا في رسم الطلاق الثاني، من سماع أشهب، وفي رسم سلف، من سماع عيسى، فلا معنى لإعادة شيء من ذلك، وبالله التوفيق.

[مسألة: رمى امرأته بعصا فحلف بطلاقها البتة إن كان ضربها بيده]
مسألة وقال فيمن رمى امرأته بعصا كانت معه، فشكت ذلك، وقالت: ضربني فعوتب في ذلك، فحلف بطلاقها البتة إن كان ضربها بيده. فقال: هو حانث إلا أن يكون نوى إن كان ضربها بيده بلطمة، أو مثل ما يضرب الناس ينوي ذلك، وإلا فهو حانث، ورأيته ضربا، ونزلت بالمدينة فأفتى بذلك، وقال لو كانت عليه بينة ما دينته وحنثته، سواء قال بيده أو لم يقل هو سواء.

(6/339)


قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة والله أعلم، أنها قالت: ضربني؛ فأبهمت الضرب، ولم تبين كيف ضربها؟ فعوتب في ذلك، وقيل له: ضربت امرأتك؟ فحلف بطلاقها أنه ما ضربها، ثم أقر لما ادعى عليه أنه قد كان ضربها قبل أن يحلف بالطلاق أنه ما ضربها أنه، قد كان رماها بعصا أو قامت عليه بذلك بينة، فلذلك قال: إنه لا ينوى، قال بيده أو لم يقل بيده؛ لأن من رمى امرأته بعصا فقد ضربها بيده، ولو قالت: كان رماني بعصا فعوتب في ذلك، وقيل له: رميت امرأتك بعصا؟ فحلف أنه ما ضربها بيده، فوجب أن ينوى؛ لأن بساط المسألة يدل على صدقه فيما ادعى من نيته، وبالله التوفيق.

[مسألة: حلفت امرأته لئن قدم فلان لتسألنه الطلاق فبلغه فحلف لئن سألته ليجيبنها]
مسألة وقال فيمن غاب عن امرأته، فتزوج بالريف، فحلفت امرأته لئن قدم فلان لتسألنه الطلاق، فبلغه ذلك فحلف لئن سألته الطلاق ليعطينها أو ليجيبنها، فلما قدم قالت له: طلقني، فقال: أمرك بيدك، فلم تختر شيئا.
قال: لا شيء عليه إلا أن يكون أراد بقوله: لأجيبنها أو لأعطينها، أي لأطلقنها، وإلا فلا شيء عليه.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال: إنه لا شيء عليه، إلا أن يريد بذلك لأطلقها؛ لأنه إذا ملكها أمرها في الطلاق فقد أجابها إلى ما سألته منه، وقد مضى في رسم الصلاة، من سماع يحيى القول، إذا حلف، لئن سألته الطلاق ليطلقها، فلما سألته ملكها أمرها، فذلك يغني عن القول فيما يكون الحكم إذا أراد بقوله: لأجيبنها أو لأعطينها؛ إذ لا فرق بين أن يلفظ بذلك أو يريده فيما يوجب الحكم عليه، وبالله التوفيق.

(6/340)


[مسألة: حلف بالطلاق ألا يكسو امرأته ثوبا فكست نفسها ثوبا وكسا هو نفسه ثوبا]
مسألة وقال في رجل حلف بالطلاق ألا يكسو امرأته ثوبا، فكست نفسها ثوبا، وكسا هو نفسه ثوبا، فقالت له امرأته: ثوبك خير من ثوبي، فقال: أنا أبعث بثوبي، فإن كان هو خير فخذيه وأعطني ثوبك، فلم يأتها بالثوب، أتراه حانثا؟
قال: إن كان ثوبه خيرا من ثوبها فهو حانث، وإن كان ثوبه شرا من ثوبها، فلا حنث عليه، وإن كان أتاها بثوبه.
قال محمد بن رشد: قوله: إن كان ثوبه خيرا من ثوبها فهو حانث؛ يريد وإن لم يأتها بالثوب، ولا أسلمه إليها، فجعل قوله لها: فخذيه، إيجابا منه لها ذلك على نفسه كالعطية لا رجوع له فيها، ولذلك أوجب عليه الحنث بذلك، وقد قيل: إن العطية لا تجب عليه بهذا اللفظ، إلا أن يقول: فقد أعطيتك إياه، أو فقد وهبت لك، وهو الذي يأتي على قول مالك، في رسم البيوع الأول، من سماع أشهب، من كتاب جامع البيوع، في الذي يكون عنده العبدان فيقول للرجل الذي يسومه بهما: هذا العبد بأربعين إلى سنة، وهذا العبد الآخر بخمسين إلى سنة، فخذ أيهما شئت؛ فإنه لا بأس بذلك؛ لأنه لم ير ذلك لازما له، ولو رآه لازما له لقال: إن ذلك لا يجوز، كما قال في كتاب ابن المواز، من رواية أشهب عنه أيضا، فجوابه في هذه المسألة أن الحنث عليه يأتي على قول مالك في كتاب ابن المواز، ويأتي على قوله في العتبية أنه لا حنث عليه، إذ لم يجب عليه العطية بهذا القول، كما أنه لا يحنث من حلف ألا يبيع سلعة، فباعها على أنه فيها بالخيار حتى يجب البيع، وقد مضى ذلك في آخر رسم استأذن، من سماع عيسى، وبالله التوفيق.

[مسألة: استحلفه بطلاق امرأته ليقضينه إلى أجل كذا وكذا إلا أن يشاء البائع]
مسألة وسئل عن رجل باع من رجل سلعة، واستحلفه بطلاق امرأته ليقضينه إلى أجل كذا وكذا إلا أن يشاء البائع أن يؤخره، فحل

(6/341)


الأجل، والذي عليه الحق غائب، فأراد أن يؤخره وكره أن يحنثه، قال ابن القاسم: إذا أحضر لذلك شهودا من أجل أنه لو أخره ولم يحضر لذلك شهودا، فحل الأجل ولم يقضه لطلق عليه بما ظهر من حنثه، ولم يصدق البائع في قوله: إنه قد كان أخره، ولا ينبغي له أيضا هو في خاصة نفسه أن يصدقه مخافة أن يكون قد كذبه، إلا أن يستيقن صدقه بشهادة رجلين عدلين، فإن لم يستيقن ذلك استحب له مفارقتها، ولو أخبره مخبر عدل قبل أن يحل الأجل أنه قد أخره لجاز له أن يؤخر قضاءه، ولا يحنث من طريق قبول خبر الواحد، لا من طريق الشهادة، وقد مضى نحو هذا المعنى في رسم الأقضية، من سماع أشهب، من كتاب النذور، وقوله: إنه نوى في نفسه حين لم يجده أن يؤخره؛ إن ذلك لا يخرجه من الحنث، صحيح لا اختلاف فيه؛ إذ لا يكون بنيته مؤخرا، كما لا يكون مؤخرا لو أشهد على نفسه أنه يؤخره حتى يشهد على نفسه أنه قد أخره، فلو نوى في نفسه أنه قد أخره؛ لكان مؤخرا في الباطن، كما أنه إذا نوى في نفسه أنه طلق امرأته أنها طالق فيما بينه وبين الله تعالى، على ما مضى في رسم الطلاق الأول، من سماع أشهب، إلا أنه لا ينبغي له أن يصدقه في أنه نوى ذلك مخافة أن يكون كذبا، وبالله التوفيق.

[مسألة: اتخذ عليه الطلاق إن لم يوفه إلى أجل كذا فاستقالة صاحب الدنانير]
مسألة وسألته عن رجل سلف مائة دينار في قمح أو سلعة من السلع إلى أجل، واتخذ عليه الطلاق إن لم يوفه إلى أجل كذا، فاستقالة صاحب الدنانير مما اشترى منه قبل الأجل فأقاله.
قال: لا أحب له أن يسمع هذا، فإن وقع وكانت المائة

(6/342)


دينار يوم ردها وفاء من السلعة التي عليه عند الناس، فأرجو ألا يكون حانثا، قلت له: فإن لم يكن فيها وفاء، ورد عليه الدنانير ثانية، وأقر البيع على حاله إلى أجله؟ قال: لا ينفعه ذلك، وهو حانث؛ لأنه بيع فاسد، أو لأنه لو أبى ذلك أحدهما لم يجبر على ذلك، وهو بيع مبتدأ، ولو أعطاه بذلك السلعة عند الأجل بعد الذي وصفت لا عطية أو صدقة، لم يخرجه ذلك من يمينه، ولم ينفعه ذلك، وإن أعطاه إياها، وهي تسوي الثمن لم أره حانثا؛ لأنه قد خرج من الوجه الذي قد حلف عليه فيه، وكذلك قال مالك.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة المعنى على ما في المدونة، وقد مضت في رسم النذور، من سماع أصبغ، ومضت أيضا والقول فيها في رسم إن خرجت، ورسم إن أمكنتني، من سماع عيسى، فلا وجه لإعادة ذلك.

[مسألة: قال لامرأته أنت طالق إن أعطيتني الوديعة التي عندك فأعطته مائة دينار]
مسألة وقال في رجل قال لامرأته: أنت طالق إن أعطيتني الوديعة التي عندك، فأعطته مائة دينار، قال: قد استودعتك مائتي دينار: إنها تطلق عليه، ولا ينظر إلى قوله؛ لأنه مدع.
ولو قال: أنت طالق البتة إن أعطيتني المائة التي استودعتك، فقالت له: أنا أعطيك، فأخرجت خمسين، ثم قالت له: لا أعطيك شيئا.
قال: تقدم الخمسين الأخرى التي أقرت بها وتطلق، فإن جحدت لم يكن عليها غير ما أخرجت؛ لأنه أنزل أمره على أنه إنما حلف على الوديعة، وقد أخرجتها، وتطلق.
قال محمد بن رشد: قوله في الذي قال لامرأته: أنت طالق إن

(6/343)


أعطيتني الوديعة التي عندك، فأعطته مائة دينار، وادعى أنه كان استودعها مائتي دينار، أنها تطلق عليه، يريد بالحكم، وأما فيما بينه وبين الله تعالى، فلا يلزمه طلاق؛ لأن غرضه الذي طلق عليه لم يتم له، كمن قال لامرأته: أنت طالق إن أعطيتني مائة دينار، فأعطته خمسين، وأما الذي قال لها: أنت طالق إن أعطيتني المائة التي استودعتك، فقالت له: أنا أعطيك، فأخرجت خمسين، ثم قالت له: لا أعطيك شيئا، فإنما قال: إنها تقدم الخمسين الأخرى التي أقرت بها وتطلق؛ لأن معنى المسألة أنه خشي أن تجحده المائة، فقال لها بمحضر بينة: إن أعطيتني المائة فأنت طالق، فكان معنى يمينه إن أقررت لي بالمائة، وأعطيتنيها فأنت طالق؛ فلزمه الطلاق بإقرارها له بالمائة، وإن لم تعطه منها إلا خمسين؛ لأنه قادر على أن يأخذ منها الخمسين الأخرى، وقد تم له غرضه الذي طلق عليه بإقرارها له بجميع المائة، ولو كانت مقرة له بالمائة فقال لها: إن أعطيتني المائة فأنت طالق، لما لزمه طلاقها إلا بأن تعطيه جميع المائة، وقد مضى هذا المعنى مبينا في أول سماع ابن القاسم.
وقوله في آخر المسألة: فإن جحدت لم يكن عليها غير ما أخرجت إلى آخر قوله: ويطلق؛ إنما يعود على المسألة الأولى التي قال فيها: أنت طالق إن أعطيتني الوديعة، لا على التي قال: إن أعطيتني المائة؛ لأنه إذا قال لها: إن أعطيتني المائة التي لي عندك فأعطته خمسين، وجحدت أن يكون له عندها سواها؛ فلا يلزمه الطلاق؛ لأنه كمن قال لامرأته: أنت طالق إن أعطيتني مائة دينار، فلا تعطه إلا خمسين، وبالله تعالى التوفيق.

[مسألة: يحلف بطلاق امرأته ألا تخرج إلا بإذنه فيأذن لها إلى موضع فتذهب إليه وإلى غيره]
مسألة وسمعته وسئل عن الرجل يحلف بطلاق امرأته ألا تخرج إلا بإذنه، فيأذن لها إلى موضع، فتذهب إليه وإلى غيره.
قال: هو حانث.
قال محمد بن رشد: هذا من قول ابن القاسم خلاف قوله في

(6/344)


الواضحة أيضا، وقد مضى تحصيل القول في هذه المسألة وما يتعلق بمعناها في رسم سلف، من سماع عيسى، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.

[قال امرأته طالق البتة إلا أن يمنعني أبي من ذلك فمنعه أبوه]
من نوازل سئل عنها سحنون وسئل عن رجل قال: امرأته طالق البتة إلا أن يمنعني أبي من ذلك، فمنعه أبوه، قال أصبغ: لا أرى عليه شيئا إن كرهه أبوه، ورد عليه، ومنعه منه بجد وصحة، وأراه بمنزلة قوله: إلا أن يشاء أبي، فلم يشأ أبوه، وأصل ذلك عندي في قوله: هي طالق إن شاء أبي، فلم يشأ.
قال محمد بن رشد: تشبيه أصبغ قول الرجل: امرأتي طالق إلا أن يمنعني أبي ذلك، بقوله: امرأتي طالق إلا أن يشاء أبي؛ صحيح، وأما قياسه ذلك على قول الرجل: امرأتي طالق إلا أن يشاء أبي؛ فليس بصحيح؛ لأن قول الرجل: امرأتي طالق إن شاء أبي طلاق مقيد بشرط، وهو مشيئة أبيه، فلا يقع عليه إلا أن يشاء أبوه؛ إذ لم يوجبه إلا بذلك، كمن قال: امرأتي طالق إن ضرب أبي غلامه، أو دخل الدار، وما أشبه ذلك، وقول الرجل: امرأتي طالق إلا أن يشاء أبي، إنما هو طلاق قيد حلف عنه بمشيئة أبيه؛ لأن تقدير قوله: امرأتي طالق إلا أن يشاء أبي، ألا تكون طالقا، ولا مشيئة لأبيه في ألا تكون طالقا؛ إذ كان هو قد طلقها بقوله لها: أنت طالق، فلا يسقط عنه الطلاق بما استثنى من مشيئة أبيه، كما لا يسقط عنه لو قال: امرأتي طالق إلا أن يضرب أبي غلامه أو يدخل الدار، وإنما يسقط عنه إذا قيده بضرب أبيه غلامه أو دخوله الدار، وهذا ما لا خفاء فيه، ولا إشكال فيه، فلا يصح أن يحمل قول الرجل: امرأتي طالق البتة إلا أن يمنعني من ذلك أبي، أو إلا أن يشاء أبي ذلك على أن مراده بذلك إنما هو امرأتي طالق البتة إن شاء أبي؛ إذ لا يحتمل ذلك اللفظ لكونه ضد مقتضاه على ما بيناه، إلا أن يقول الرجل: أردت ذلك، فينوى إذا جاء مستفتيا، ولا يصح على أصولهم أن ينوي في

(6/345)


ذلك مع قيام البينة عليه، فضلا عن أن تحمل يمينه على ذلك، إذا لم تكن له نية، ووجه ما ذهب إليه أصبغ، والله أعلم، أنه لما كان قول الرجل في الطلاق إلا أن يشاء أبي، أو إلا أن يمنعني من ذلك أبي على ما يقتضيه الكلام لغوا لا فائدة لقائله فيه، ولا تأثير له حمل عليه أنه أراد إن شاء أبي؛ إذ لا يفرق العوام والجهال بين شيء من هذه الألفاظ، فهو يشبه أن يفتي به في الجاهل على أن من قوله في نوازله: إن الجهالة ليست بأحسن حالا من العلم في الطلاق، فقوله على كل حال ضعيف، وهذا الذي ذكرناه إنما يكون إذا حملنا قوله: امرأتي طالق، إلا أن يشاء أبي، على أنه أراد بذلك امرأتي طالق، قد ألزمت نفسي ذلك إلا أن يشاء أبي أن يحله علي، وهو الأظهر من محتملات كلامه، ويريد بقوله: امرأتي طالق إلا أن يشاء أبي، امرأتي طالق ألا ألزم نفسي ذلك إلا أن يشاء أبي، فيكون على هذا التأويل قوله: امرأتي طالق إلا أن يشاء أبي بمنزلة قوله: امرأتي طالق إن شاء أبي، فلا يلزمه طلاق امرأته إلا أن يشاء أبوه ذلك، وإلى هذا نحا أصبغ، والله أعلم.
ويحتمل قوله: امرأتي طالق إلا أن يشاء أبي وجها ثالثا، وهو أن يريد بذلك امرأتي طالق، إلا أن يفعل فلان كذا وكذا، أو إن لم يفعل فلان كذا وكذا، فيكون على هذا التأويل كمن حلف بالطلاق على غيره أن يفعل فعلا يحال بينه وبين امرأته، ويدخل عليه الإيلاء، أو يتلوم له على الاختلاف في ذلك، فهي ثلاثة أوجه تحتملها المسألة، فإن أراد الحالف أحدها حملت يمينه عليه، وإن لم تكن له نية فيختلف على أي وجه يحمل منها، وبالله التوفيق.

[مسألة: قال امرأتي طالق إن خرج من المسجد إلى الليل إلا أن يأذن له فلان]
مسألة وعن رجل قال: امرأتي طالق إن خرج من المسجد إلى

(6/346)


الليل، إلا أن يأذن له فلان، فقال فلان ذلك: فأشهدوا أني لا آذن له إلى الليل، ثم أذن له بعد ذلك.
قال أصبغ: لا أرى ذلك ينفعه، وأرى قوله الأول: لا آذن له عزما يلزمه؛ لأنه قد أشهد على نفسه بذلك، فهو بمنزلة التوقيف، أن لو وقف فأبى، ثم أراد بعد ذلك أو أشد، فأرى الحالف حانثا إن كان قد فعل.
قال محمد بن رشد: ليست هذه المسألة على ما بني عليه أصل المذهب من مراعاة المعاني في الأيمان، دون الاقتصار فيها على ما يقتضيه مجرد الألفاظ، والذي يجب في هذه المسألة على الأصل المذكور ألا يكون عليه شيء إن خرج إذا أذن له، وإن كان قد منعه أولا، وقال: لا آذن له، ألا ترى أنه لو قال لامرأته: أنت طالق إن خرجت إلا بإذني، فسألته أن تخرج فأبى أن يأذن لها، ثم سألته فأذن لها أن تخرج ولا تحنث ولا يضره منعه لها أولا من الخروج، ولا خلاف في هذا، ووجه قول أصبغ أنه حمل يمينه على اللفظ، ولم يراع المعنى، وجعل يمينه ألا يخرج من المسجد إلا أن يأذن له فلان، كحلفه ألا يخرج من المسجد إن نهاه فلان، فإذا خرج بعد أن نهاه وجب أن يحنث، وإن أذن له بعد ذلك على قياس قول أصبغ هذا لو أذن له أولا، ثم نهاه ألا يكون عليه شيء إن خرج على الإذن الأول بعد أن نهاه، وقد وقع نحو هذا لمالك في رسم الطلاق، من سماع أشهب، من كتاب التخيير والتمليك، ومضى في رسم يوصي، من سماع عيسى، من هذا الكتاب، من قولها في مسألة من هذا المعنى ما يزيد هذه المسألة بيانا، وبالله التوفيق.

[مسألة: له ثلاث نسوة فقال لإحداهن أنت طالق البتة ثم قال للأخرى أنت شريكتها]
مسألة وسئل عن رجل كان له ثلاث نسوة، فقال لإحداهن: أنت طالق البتة، ثم قال للأخرى: أنت شريكتها، ثم قال للثالثة: أنت شريكتهما.
قال أصبغ: إذا قال البتة، فهن كلهن طوالق البتة، ولا ينفعه

(6/347)


أنه قال ثلاثا البتة، والثلاث لا تغني مع البتة قدم الثلاث أو أخرها، والبتة حرف واحد لا يتبعض ولا يفترق.
فإن كان قال لها: أنت طالق ثلاثا، ثم قال للثانية: أنت شريكتها، ثم قال للثالثة: أنت شريكتهما، كانت الأولى منه بائنة بثلاث، وكانت الثانية تبين منه باثنتين، وتكون عنده على طلقة تبقى له، وكانت الثالثة تبين منه بثلاث أيضا؛ لأنها شريكة الأولى بواحدة ونصف، فصارت اثنتين، وشركت الثانية بواحدة فصارت ثلاثا.
قال محمد بن رشد: بنى أصبغ جوابه في هذه المسألة على اعتبار ما يحصل لكل واحدة منهن بالقيمة من عدد الطلاق الذي شرك بينهن فيه، على ما قال في المدونة: إذا قال لأربع نسوة له: بينكن أربع تطليقات بدون أن يقع على كل واحد منهن طلقة طلقة، وإذا قال لهن: بينكن خمس تطليقات فأكثر إلى الثمان، وقع على كل واحدة منهن تطليقتان، وإن قال: بينكن تسع تطليقات أو أكثر، وقع على كل واحدة منهن ثَلاث ثلاث، وقد قيل: إنه يقع على كل واحدة منهن في هذه المسألة ثلاث ثلَاث، وكذلك لو قال لأربع نسوة له: قد شركت بينكن في تطليقتين؛ لوقع على كل واحدة منهن طلقتان طلقتان، ولو قال: قد شركت بينكن في ثلاث تطليقات فأكثر؛ لوقع على كل واحدة منهن ثلاث ثلَاث؛ لأن كل واحدة منهن يحصل لها بحكم الشركة من كل طلقة، فيجبر عليها، بخلاف مسألة المدونة؛ لأنه لما قال بينكن كذا وكذا من عدد الطلاق، ولم يقل: إنهن في ذلك أشراك، حمل على أنه إنما أراد أن يكون ذلك بينهن على ما يحصل لكل واحدة منهن من عدد الطلاق إذا قسم بينهن، وهذا الاختلاف على اختلافهم، فيمن صرف دنانير بدراهم، فوجد في الدراهم درهما زائفا، هل ينتقض صرف الدنانير كلها، أو صرف واحد، وقد مضى في سماع عبد الملك ذكر الاختلاف في تبعيض البتة، فلا وجه لإعادة ذلك، وبالله التوفيق.

[مسألة: خرجت امرأته فحلف بالطلاق ألا يبعث في ردها فبعث إلى ولده فأخذه]
مسألة وسئل عن رجل خرجت امرأته إلى منزل أهلها، فحلف

(6/348)


بالطلاق ألا يبعث في ردها، وكان له معها ولد صغير، فبعث إلى ولده فأخذه منها، فرجعت تأخذ الولد منه.
قال أصبغ: هو حانث؛ لأن أخذه الولد وإرساله فيه، ونزعه منها سبب للإرسال إليها ولردها.
وقد قال مالك في الرجل يحلف لامرأته ألا يخرجها عن المدينة إلا برضاها، فأقام بمصر لا يبعث إليها بنفقة دهرا، فلما أرادت ذلك خرجت إليه، قال مالك: أراه حانثا؛ لأنه هو ألجأها إلى الخروج، فهذا عندي مثله.
قال محمد بن رشد: مثل قول مالك في هذا في رسم الطلاق الأول، من سماع أشهب، من كتاب النكاح، وحكى ابن سحنون، عن أبيه، أنه لا حنث عليه في المسألتين جميعا، وقول مالك أظهر؛ لأن اضطراره إليها إلى الخروج بما فعل مما ليس له أن يفعله إخراج، والحنث يدخل بأقل الوجوه، وبالله التوفيق.

[مسألة: يقول لغريمه احلف لي بالطلاق لتقضيني حقي إلى أجل كذا وكذا فيأبى]
مسألة وسألته عن الرجل يقول لغريمه: احلف لي بالطلاق لتقضيني حقي إلى أجل كذا وكذا، فيأبى أن يحلف بالطلاق، فيقول له: احلف لي بالحلال عليك حرام، وهو جاهل أن الحلال عليه حرام يدخله الطلاق، فحلف وحنث في يمينه، هل ترى عليه في يمينه حنثا، أو ترى هذا القول: لست أحلف بالطلاق استثناء، ولا يكون عليه حنث؟
قال أصبغ: بل أراه حانثا، وأراه يمينا كالمجردة بغير ما وصفت، وأحمله أيضا على أنه تارك للأول، وراجع إلى الثاني، وكمن أبى الطلاق ثم رجع إليه، ولا أصدقه ولا تنفعه الجهالة، وإن رأى أنه صادق؛ لأنها يمين بالطلاق لفظا؛ لأن لفظ الحلال

(6/349)


علي حرام طلاق، فهو كمن لفظ بالطلاق لفظا، وليست الجهالة بأحسن حالا من العلم في هذا؛ لأن الطلاق جهالته علم، وجهالته طلاق، وكما أن جده طلاق، وهزله طلاق، ألا ترى أن الأعجمي يلفظ بالطلاق، ويطلق ولا يعرف الطلاق ولا ما هو؟ ولا حدوده، ولا أنه يلزم أو لا يلزم، فيلزمه ويحنث؟ فافهم.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن التحريم من كنايات الطلاق، وقد قيل: إنه من صريحه، وإلى هذا ذهب أصبغ، وقال: إن الجاهل لا يعذر في ذلك بالجهل؛ لأن صريح الطلاق لا يعذر الجاهل فيه، ولا يسأل أحد هل أراد بذلك الطلاق أو لم يرده، ولا يصدق إن قال: إنه لم يرد به الطلاق، وإن أتى مستفتيا، فزعم أنه لم يرد بذلك جرى ذلك على الاختلاف في مجرد اللفظ دون النية، هل يلزم به الطلاق أم لا، والأظهر أنه لا يلزم به، وكذلك الحكم في كنايات الطلاق البينة.
وقد اختلف في صريح الطلاق ما هو على ثلاثة أقوال؛ أحدهما: أن صريحه لفظ الطلاق خاصة، وأن كناياته ما عدا ذلك مثل الخلية، والبرية، وحبلك على غاربك، وفارقتك، وسرحتك، وما أشبه ذلك، والى هذا ذهب عبد الوهاب. الثاني: أن تكون الألفاظ كلها صريح في الطلاق، وبعضها أبين من بعض، وإلى هذا ذهب ابن القصار. والثالث: أن صريح الطلاق ما ذكر الله في كتابه، وهو الطلاق، والسراح، والفراق، وهو مذهب الشافعي.
وقوله: إن هزله جد، صحيح لا اختلاف في لزومه الطلاق له، وإن كان هازلا إذا أراد بذلك الطلاق؛ إذ قد يتصور إرادة الطلاق مع الهزل، وكذلك قال مالك في رسم الطلاق، من سماع أشهب، من كتاب التخيير والتمليك: إن الطلاق للاعب لازم إذا أراد به الطلاق، فمعنى قولهم في الطلاق: إن هزله جد، هو أن الطلاق يحكم به عليه، وإن ثبت أنه كان لاعبا لم ينتفع بذلك، وأما إذا أتى مستفتيا فقال: كنت لاعبا، أو لم أرد بذلك طلاقا، وإنما قلت ذلك على وجه ذلك مما يذكره، فيصدق في ذلك، ولا يلزمه الطلاق على القول بأن الطلاق لا يلزم بمجرد القول دون النية، وبالله التوفيق.

(6/350)


[مسألة: حلف ألا يضع لزوج ابنته من مائة دينار وكان أصدقها شيئا ثم تبارءا]
مسألة وسئل عن رجل يقول له ختنه وكان زوجه ابنته، وهي بكر في حجره، بنقد مائة دينار؛ انقص من المائة، فقال: امرأته طالق إن نقصتك منها، ثم تداعيا بعد ذلك إلى المبارأة، فتبارءا على ألا يتبع الختن ختنه بشيء من النقد ولا الكالئ، هل تراه حانثا في يمينه؟ فإن رأيته حانثا في يمينه وادعى أنه إنما أراد بيمينه ألا يبتني بها إلا بتمام المائة، فهل ترى ذلك له مخرجا من الحنث؟ فإن رأيت ذلك مخرجا، هل ترى له أن يزوجها إياه بعد ذلك بأقل من نقد مائة، أو لا ترى ذلك له؟
قال أصبغ: أرى أن يدين ويجعل القول قوله إن كانت يمينه خرجت على ما يزعم، وعلى إرادته ونيته، فذلك له، وهو يشبه ما يقول في ظاهر الأمر؛ لأن هذا في عقول الناس يرى ويشك أن يكون قد عرف تنازعهما فيه للدخول والنقصان عليه، والبساط والطلب له بالرغبة والرهبة، وإرادة التخفيف مع ذلك لتمامه، فإن شهد له بنحو ذلك، فهو الذي لا شك فيه، وهو له براءة، ولا أوجب عليه يمينا، وأدينه فيه بغير يمين إلا أن يستحسن مستحسن استظهار اليمين عليه، فلا أرى عليه بأسا، وإن لم يشهد له به، ولم يحضره من يشهد دينته وأحلفته، ورأيت ذلك له، ولم أر عليه حنثا، فأما ردها إليه بأقل، فلا أرى ذلك، وأرى إن تم ذلك ووقع أن يحنث، وأراه بمنزلة الذي يبيع السلعة ثم يسأله النقصان، فيحلف ألا ينقصه أو يحلف ألا يبيعه إياها، فمعنى ألا يبيعه إياها، ألا يتم له البيع فيفاسخه فيما يجوز له، ولا يتم له البيع، ثم يريد أن يبيعه بعد ذلك إياها بنقصان، فلا يجوز له وهو حانث، أو يريد أن يبيعه إياها بعد ذلك على حال بشيء من الأشياء، فإن باعه حنث.

(6/351)


قال محمد بن رشد: قوله في الذي حلف ألا يضع لزوج ابنته من مائة دينار، وكان أصدقها شيئا، ثم تبارءا على ألا يتبعه بشيء من النقد ولا الكالئ، أنه لا حنث عليه في ذلك، إن كان إنما أراد ألا يبني بها إلا بتمام المائة، وأنه يصدق فيما زعم أنه نواه من ذلك مع يمينه، إلا أن يشهد له بساط يدل على صدقه فيما ادعاه من النية، فتسقط عنه اليمين إلا أن يستحسن ذلك مستحسن، صحيح على أصولهم؛ لأن النية التي ادعى نية محتملة، فوجب أن يصدق فيها مع يمينه من أجل قيام البينة عليه باليمين، فإن شهد له من البساط فيما يصدق دعواه، سقطت عنه اليمين، وكذلك لو أتى مستفتيا لم يكن عليه في ذلك يمين، وقوله: إن اليمين ترجع عليه ما بقي من ذلك الملك شيء؛ صحيح أيضا على معنى ما في المدونة، ومثل ما مضى في سماع محمد بن خالد، ورسم النذور، من سماع أصبغ، وإنما قال: إنه لا يزوجها منه ثانية بأقل من مائة؛ لأنه حلف ألا ينقصه من المائة شيئا، ولو كان حلف ألا ينقصه من صداقها الذي زوجها به شيئا على ما بينه في سماع محمد بن خالد، وقد مضى في سماع سحنون القول على الذي يحلف ألا يبيع السلعة بعد أن باعها، فلا معنى لإعادة ذلك، وبالله التوفيق.

[مسألة: قال لامرأته إن وطئت فلانة إلا برضاك فهي حرة أو أنت طالق فوطئها]
مسألة وسألته عن رجل قال لامرأته: إن وطئت فلانة إلا برضاك فهي حرة، أو أنت طالق فوطئها وهي تنظر، فزعمت أنها لم ترض هل يحنث أو ترى سكوتها رضا؟ وهل له أن يطأها حتى يشهد على رضاها، أم لا ترى ذلك عليه؟
قال أصبغ: هو حانث فيما سألت عنه، وإن ادعى رضاها قبل الوطء، فأرى عليه تثبيت ذلك، والتسليم بالإذن من المحلوف له، إلا أن يكون المحلوف له زوجة، أو أم ولد، ومن لا يشهد على مثل

(6/352)


هذا، فأرجو ألا يكون عليه شيء إذا وطئ وادعى الإذن بصحته والرضا، وجاء مستفتيا رأيت أن يدين ذلك، فإن كان مشهودا عليه ومخاصما، فأحب إلي أن يكلف البينة على الإذن، وإلا أمضى عليه الطلاق.
قال محمد بن رشد: أما سكوتها فلا يعد رضا؛ إذ قد تسكت غير راضية، وإنما يختلف في السكوت هل يكون إذنا أم لا على قولين إذا كان إنما حلف ألا يطأها إلا بإذنها، وقد مضى القول على ذلك في رسم أسلم، من سماع عيسى، من كتاب النكاح، ومضى في سماع سحنون، من هذا الكتاب، تحصيل الاختلاف في تصديقه في دعوى الإذن، إذا ادعاه بعد الوطء، فلا معنى لإعادة ذكر ذلك، ولم يصدقه أصبغ هاهنا في الزوجة وأم الولد إلا مستفتيا، فظاهر قوله أنه لا يصدقه في غيرهما، ممن يشهد عليه، وإن أتى مستفتيا، وهو عندي بعيد، والصواب أن يصدق فيمن يشهد عليه إن أتى مستفتيا، وفي الزوجة وأم الولد وإن كانت على اليمين بينة، وبالله التوفيق.

[مسألة: يحلف بالطلاق ألا يبيعه سلعة إياها وقد فرغ من البيع]
مسألة وسئل عن الرجل يبيع السلعة فينقده الثمن، فيقول للمشتري: أبدل لي بعض الدراهم فيأبى، فيحلف بالطلاق ألا يبيعه إياها، وقد فرغ من البيع، ويحلف المشتري بمثل ذلك ألا يشتريها منه، فيسأل كل واحد منهما عن نيته، فيقول البائع: أردت ألا يأخذها، ويقول المشتري مثل ذلك، أو يقول كل واحد منهما: إنما حلفت وأنا أظن أن البيع لا يتم حتى يفترق، وإن لكل واحد منهما أن يفسخ البيع، أو لا يدعي واحد منهما شيئا إلا يمينا خرجت كذا، هل تشبه هذه المسألة مسألة الذي تزوج الأمة، فكان يبعث إلى سيدتها فيخلو معها، فقال: هي طالق إن تزوجتها؟

(6/353)


قال أصبغ: أرى الأيمان في مسألة البيوع لازمة على تلك الوجوه كلها، أي ذلك كان منها، وأرى مخرجها على ألا يأخذ ولا يعطي، وعلى المنع من البائع، والترك من المشتري، فإن سالم بعضهم بعضا حنثوا جميعا إن كانوا حالفين جميعا، وإن كان أحدهما الحالف وسالمه الآخر بر، وإن لم يسالمه وقام على حقه أخذه، وحنث صاحبه، وليس في هذا عندي شك ولا ضعف إلا في الجاهل الذي يظن أن البيع لم يتم، وحلف على ذلك، زعم بأن فيه بعض الضعف، وهو عندي لا حق في رأيي، حانث كأصحابه على ما فسرته لك، لا شك فيه عندي، ومسألة الأمة ما قد علمت من قول مالك، وهو عندنا حانث، والطلاق واقع عليه؛ لأنه جواب ومخاطبة فيها، وفي أمرها وحبسها وإرسالها وعشرتها وغيره، فهو مخرج طالق كالذي تذكر له المرأة ليتزوجها أو يخطبها، أو يدعى إليها فيقول: هي طالق، ولا يقول: إن تزوجتها، فهي طالق إذا تزوجها؛ لأنه جواب يمين، فهو يمين وهو كلام، وكذلك القول في المشتري إن كان هو الحالف سمعت أشهب يقول في هذا ويفتي به، وكذلك ما رواه من مسألتك.
قال محمد بن رشد: أما إذا حلف البائع، وقال: أردت أن أمنعه ما بعت منه، أو حلف المشتري، وقال: أردت ألا آخذ ما اشتريت منه، فلا اختلاف أن الأمر على ما قال أصبغ؛ لأن كل واحد منهما مقر على نفسه بما يوجب عليه الحنث، فلزمه ما أقر به على نفسه، وكان الحكم في ذلك أنه إن مكن البائع المبتاع من السلعة باختياره حنث باتفاق، وإن حكم عليه بذلك بها للمشتري جرى ذلك على اختلاف فيما حلف، ألا يفعل فعلا، فقضى به عليه السلطان، وكذلك القول في المشتري، إن كان هو الحالف.
وأما إن قال الحالف منهما: لم تكن لي نية، فقال سحنون في سماعه، ورواه عن ابن القاسم: أنه لا حنث عليه؛ لأنه إنما حلف على ما قد فات

(6/354)


الأمر فيه، وقال أصبغ هاهنا: إن يمين البائع محمولة على المنع، فيحنث إن أسلم له البيع، ويمين المبتاع محمولة على الترك، فيحنث إن أخذ السلعة، وقد مضى القول في سماع سحنون على وجه كل قول منهما.
وأما إن قال الحالف منهما: إنما حلفت وأنا أظن البيع لا يتم حتى يفترق، فقال أصبغ: إن ذلك بمنزلة إذا قال: لم تكن لي نية يحنث الحالف منهما إن لم يسأله صاحبه، وقام بحقه فأخذه، والمعنى فيما ذهب إليه أنه لم يصدقه فيما ادعاه من النية، مع قيام البينة عليه باليمين بالطلاق، ولو أتى مستفتيا؛ لكانت له نيته، ولم يكن عليه شيء.
وأما مسألة الأمة التي ذكرها عن مالك، فوقعت في رسم أخذ يشرب خمرا، من سماع ابن القاسم، بزيادة لفظة تخرجها عن مالك معنى هذه المسائل، وقد مضى القول عليها في موضعها، فلا وجه لإعادته، وبالله التوفيق.

[مسألة: حلف على وطء امرأته لوقت فدخل يوما فرأها مزينة وأرادها]
مسألة قال: وأخبرني عن ابن وهب وأشهب في مسألة رجل حلف على وطء امرأته لوقت، فدخل يوما فرأها مزينة في غلالة ممصرة، فانبسط لها وأرادها، فقالت: اتق الله، فإنك قد حلفت بطلاقي إن وطئني، فغلب فقال ما منه بد، فعالجها وقد أنعظ، فتلقت ذكره بيدها، فلم يزل يعمل في يدها حتى أدفق، فقال أشهب هو حانث، وقال ابن وهب: لا شيء عليه، وليس هذا وطئا، قال أصبغ: وأنا أقول: إن كانت اليد منها على فرجها بقدر ما يمس ذكر الزوج الفرج أو يلمحه، فينسل وتردف اليد، فأراه حانثا، وقول أشهب في هذا أسلم، وإن كانت المرأة قائمة ممدودة اليد، فعمل فيها بلا ضم ولا كشف، فقول ابن وهب في هذا أحب إلي إن شاء الله.

(6/355)


قال محمد بن رشد: حمل أشهب يمينه على اجتناب، ورأى ذلك هو معنى ما حلف عليه، فأوجب عليه الحنث، وهو الذي يأتي على ما في الإيلاء من المدونة في نحو هذه المسألة، أنه حانث، إلا أن يكون نوى الفرج بعينيه وعلى ما مضى من قول ابن القاسم، في سماع أبي زيد، وحمل ابن وهب يمينه على مقتضى اللفظ، فلم يوجب عليه حنثا، وتفصيل أصبغ ضعيف، وهذا استحسان منه، لا يخرج عن القولين.

[مسألة: حلف بطلاق امرأته أن يبني بها إلى أجل سماه فدفع جميع حقها إلى وليها]
مسألة وعن رجل حلف بطلاق امرأته أن يبني بها إلى أجل سماه، فدفع جميع حقها إلى وليها، وأخروا في جهازها، فلما أشرف على البناء بها وتقارب الأجل أتى الولي برجلين يشهدان على الزوج أنه حنث فيها، هل ترى للحاكم أن يمنعه من البناء بها حتى يعدل الشهود، وفي منعه تعجيل الطلاق عليه باليمين؟ قال: نعم، يمنعه وإن كان ذلك يحنثه، وينبغي للإمام أن يتفرغ له، ولا يتوانى ولا يشتغل بغيره، فلمثل هذا وضعوا واحتيج إليهم من الحيطة على المسلمين بتعجيل ما رهن من نوازلهم.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن إجراء الأحكام على وجوهما واجب، فليس يمين الزوج الفارطة بالذي تمنع من أن تمر الأحكام على وجوهها، ونهاية ما يقدر في ذلك من الحيطة للزوج أن يتفرغ الإمام لأمره، ويقدمه على ما سواه كما قال، وبالله التوفيق.

[مسألة: حلف بطلاق امرأته ألا تخرج إلا بإذنه فيأذن لها إلى موضع فتذهب إليه وإلى غيره]
مسألة وسمعته وسئل عن رجل حلف بطلاق امرأته ألا تخرج إلا بإذنه، فيأذن لها إلى موضع فتذهب إليه وإلى غيره.
قال أصبغ: هو حانث، ثم سئل عنها من الغد، فقال: هو

(6/356)


حانث، وسئل فقيل له: إن هو حلف فقال إلى موضع من المواضع، فأذن لها إلى موضع فذهبت إليه وإلى غيره، قال: هو حانث.
قال محمد بن رشد: أما الذي يحلف على امرأته ألا تخرج إلا بإذنه، فيأذن لها إلى موضع، فتذهب إليه والى غيره، فقول أصبغ هذا فيه: إنه حانث، هو مثل ما لابن القاسم في آخر سماع أبي زيد، خلاف قوله في الواضحة.
وأما الذي يحلف عليها ألا تخرج إلى موضع من المواضع إلا بإذنه، فيأذن لها إلى موضوع فتذهب إليه وإلى غيره، فلا اختلاف أعلمه في أنه حانث، وقد مضى في رسم تسلف، من سماع عيسى تحصيل القول في هذا المعنى، فلا وجه لإعادته.

[مسألة: حلف بطلاق امرأته لتدخلن عليه امرأته ليلة الجمعة فحملت من عند أهلها ليلة الجمعة]
مسألة وسمعته وسئل عن الرجل يحلف بطلاق امرأته لتدخلن عليه امرأته ليلة الجمعة، فحملت من عند أهلها ليلة الجمعة ليلا قبل طلوع الفجر، ثم لم يبلغ بها إليه، وإلى مسكنه حتى طلع الفجر، هل تراه حانثا، وقد حلف بطلاقها، لتدخلن عليه ليلة الجمعة، والليلة قد انقضت قبل دخولها عليه؟
قال: إذا كان شأن أهل ذلك الموضع إدخالهم النساء على أزواجهن قبل طلوع الفجر الغالب على عامة الناس بذلك الموضع والمعمول به، والمعروف من فعلهم، فلا حنث عليه، إذا خرج بها من مسكنها قبل طلوع الفجر أو بعده، وإذا كانت سنة البلد إدخالهم النساء على أزواجهن في الليل، فأخرجوها ليلا ثم طلع عليهم الفجر قبل بلاغها، ودخولها لبعد مسكنها لمسكنه ولرفق

(6/357)


مسيرهم بها، وتطوفهم على ما يصنع بالعروس فهو حانث.
قال محمد بن رشد: آخر الليل على ما أحكمه الشرع طلوع الفجر، بدليل قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إن بلالا يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم» فلذلك قال: إنه يحنث إن أدخلت عليه بعد طلوع الفجر، إلا أن تكون عادة الناس في ذلك البلد إدخال النساء على أزواجهن بعد طلوع الفجر، فيحمل يمينه على ذلك، ولا يحنث إذا أدخلت عليه فيما بينه وبين طلوع الشمس من تلك الليلة، ولولا ما أحكمته السنة من أن منتهى الليل طلوع الفجر؛ لكان القياس أن يكون منتهاه طلوع الشمس كما مبتداه غروبها؛ لأن السرقة والغبش التي بعد طلوع الفجر إلى طلوع الشمس بمنزلة السرق والغبش الذي بعد مغيب الشمس إلى مغيب الشفق؛ لأنهما ظلامان يليان الليل من طرفيه، فإما أن يحكم لهما جميعا بحكم الليل من أجل ما فيهما من السواد، أو يحكم لهما بحكم النهار من أجل ما فيهما من البياض، والأظهر أن يحكم لهما جميعا بحكم الليل؛ لأن الشمس هي المفرقة بين الليل والنهار، فوجب أن يكون الليل مدة مغيبها، والنهار مدة طلوعها؛ لأن الشرع قد يأتي مخالفا للقياس، فيجب الوقوف عنده، والانتهاء إليه، والبناء عليه، وإطراح ما هو القياس معه.
وليس وجه في النظر أيضا، وهو أن يحكم بالضياء المتصل بالليل من أول الفجر بحكم ما بعده؛ لأنه في ازدياد، وأن يحكم بالظلام المتصل بالنهار من أول الغروب بحكم ما بعده؛ لأنه في ازدياد أيضا، وبالله التوفيق.

[مسألة: حلف بالطلاق ألا يطأ امرأته حتى إلى العيد فوطئها ليلة العيد]
مسألة وسئل أصبغ عمن حلف بالطلاق ألا يطأ امرأته حتى إلى العيد، فوطئها ليلة العيد قبل الفجر أو بعد الفجر.

(6/358)


قال: لا يطأها حتى إلى العيد، وبعدما ينصرف الإمام، وإن وطئها قبل ذلك حنث، والعيد عندي انصراف الإمام.
قيل له: فرجل وقع له بينه وبين أهله كلام، فحلف بالطلاق ألا يدخل بيته يوم العيد؟
قال: لا يدخل يوم العيد، ولا يومان بعده، وذلك في الفطر.
قال محمد بن رشد: جوابه في هاتين المسألتين على مراعاة المقصد الذي يرى أن الحالف أراده، وترك الاعتبار بما يقتضيه مجرد الألفاظ، فقال في الذي يحلف ألا يطأ امرأته حتى إلى العيد، أنه لا يطأها حتى ينصرف الناس منه بعيدهم، ويستريحون فيه من نصبهم، فحمل يمين الحالف على ذلك، وعلى ما يقتضيه لفظ يمينه لا حنث عليه إن وطئها بعد طلوع الفجر من يوم العيد، والأول هو المشهور في المذهب.
وقال في الذي يحلف ألا يدخل بيته يوم العيد: إنه لا يدخله يوم العيد ولا يومان بعده في الفطر على هذا المعنى أيضا؛ لأن هذه المدة هي التي جرت عادة الناس بالسكون إلى أزواجهم من أجل عيدهم، وترك التصرف في وجوه معايشهم، فحملت يمينه على أنه إذا أراد معاقبة أهله في أن يحرمها من نفسه ما جرت العادة فيه من الناس بمثله، وهو بين.
وعلى ما يقتضيه لفظ يمينه، ليس عليه أن يمتنع من دخول بيته إلى يوم الفطر وحده، وقد حكى ذلك ابن سحنون عن أبيه، وهو المشهور في المذهب، وبالله التوفيق، لا شريك له، وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد، وآله وصحبه.

(6/359)