البيان
والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة [كتاب الإيلاء]
[المولى منها إذا ارتجعها زوجها من عذر فانقضت
العدة وهي عنده ثم لم يفئ]
كتاب الإيلاء
(6/361)
من سماع ابن القاسم من مالك بن أنس من
كتاب أوله تأخير صلاة العشاء قال ابن القاسم: قال مالك في المولى منها إذا
ارتجعها زوجها من عذر، فانقضت العدة، وهي عنده، ثم لم يفئ بعد أن ذهب العذر
ففرق بينهما، أترى عليه عدة أخرى، أم العدة الأولى تجزئها؟
قال مالك: أرى أن العدة الأولى تجزيها، قال ابن القاسم: وذلك إذا لم يخل
بها.
قال محمد بن رشد: قوله: إذا ارتجعها زوجها من عذر، معناه إذا ارتجعها
زوجها، فلم يفئ من عذر، وإنما قال: إنه إذا لم يفئ في العدة، ولا بعد أن
انقضت حين ذهب العذر يفرق بينهما: إنها لا عدة عليها، وإن العدة الأولى
تجزئها؛ لأن رجعة المولي الحالف على ترك الوطء إنما تصح بالفيء في العدة،
فإذا كان له عذر يمنعه من الفيء في العدة من مرض أو سجن باتفاق، أو سفر على
اختلاف، عذرا لم يفرق بينهما حتى يزول العذر، فيترك الفيء فإذا فرق بينهما
وجب ألا يكون عليها عدة أخرى بهذه
(6/363)
التفرقة؛ إذ ليست بطلاق، وإنما فرق بينهما
إذ بطلت رجعته إياها بترك الوطء في العدة وبعدها حين ذهب العذر، فوجب أن
تجزيها العدة الأولى، إذ لم يصح له فيها الرجعة.
وقول ابن القاسم، وذلك إذا لم يخل بها، يريد أنه إن خلا بها كان عليها
العدة للأزواج في الحكم الظاهر من أجل أنها يتهمان على إسقاط العدة مع
الخلوة، وأما فيما بينها وبين الله، فلا عدة عليها، ولا رجعة للزوج عليها
ولا ميراث بينهما، ومثل هذا في المدونة، وقد ضعف في رواية أشهب بعد هذا
وجوب العدة عليها للأزواج بسبب الخلوة، ورأى التهمة في ذلك بعيدة، وهو كما
قال؛ لأن الزوجة وإن اتهمت على إرادة تعجيل النكاح بدعواها أنه لم يطأ، لا
يتهم الزوج بتصديقها على ذلك؛ لما فيه من قطع نسبه، وهذا معنى قوله في هذه
الرواية: وهذا أمر قد أعفي منه المسلمون، يريد أن مثل هذا لا يتهم فيه
المسلم.
وإنما لم يصح للذي يطلق عليه بالإيلاء رجعة، إلا بالفيء في العدة؛ لأنه
إنما طلق عليه؛ إذ لم يفئ، فلو كان له أن يرتجع ولا يفيء؛ لكان ذلك إبطالا
للحكم عليه بالطلاق، وزيادة فيما حده الله تعالى من أجل الإيلاء.
وما يكون به المولي، فلا يطلق عليه إذا فعله، وتصح له به الرجعة إن فعله في
العدة، مختلف باختلاف أيمانه.
فما كان منها لا يقدر أن يحله عن نفسه، مثل أن يكون حلف ألا يطأ بمشي أو
صدقة أو عتق غير معين، وما أشبه ذلك، فهذا لا فيئة له فيه، إلا بالوطء؛
لأنه إن مشى أو تصدق أو أعتق قبل أن يطأ، لم ينتفع بذلك ولا يبر به، ووجب
عليه إن وطئ أن يمشي ويتصدق أو يعتق.
وما كان منه يقدر أن يحله عن نفسه ظاهرا وباطنا، مثل أن يكون حلف ألا يطأ
بعتق عبد بعينه، أو صدقة شيء بعينه، أو طلاق امرأة له، وما أشبه ذلك، فهذا
يكون فيه مخيرا بين أن يفيء بالوطء، أو يفعل ما حلف به من العتق، أو
(6/364)
الصدقة، أو الطلاق؛ لأنه إذا فعل ذلك انحلت
عنه اليمين، وسقط عنه الإيلاء.
وما كان من ذلك يقدر على حله عن نفسه في الباطن، إلا أنه لا يعلم حقيقة ذلك
في الظاهر، وذلك أن يكون حلف بالله أو بنذر لا يسمي له مخرجا، فهذا اختلف
فيه، هل تقبل منه الفيئة قبل الكفارة أم لا على قولين؛ أحدهما: أنها تقبل
منه؛ لأن الكفارة تحل اليمين. والثانية: أنها لا تقبل منه؛ إذ لا يحلها إلا
أن يكون نوى الكفارة عنها، ونحن لا ندري هل نوى بها الكفارة عنها أو عن
يمين أخرى، أو لم ينو بها كفارة بشيء من الأيمان جملة.
والقولان قائمان من المدونة.
وابن الماجشون لا يرى الفيئة في شيء من ذلك كله إلا بالجماع، وبالله
التوفيق.
[الأمة يولي منها زوجها فتتركه ويريد سيدها أن
يوقفه حتى يفيء أو يطلق]
ومن كتاب اغتسل وسئل مالك عن الأمة يولي منها زوجها فتتركه، ويريد سيدها أن
يوقفه حتى يفيء أو يطلق.
قال: ذلك إلى سيدها إن أراد.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن للسيد حقا في الوطء، من أجل أنه يقول:
إنما أنكحتها لما رغبت من ولدها، ولهذا قال مالك في موطاه: إنه من كانت
تحته أمة قوم، فلا يعزل عنها إلا بإذنهم، ولو كانت حاملا أو في سن من لا
تحيض من صغر أو كبر، لم يكن للسيد في ذلك حجة، وبالله التوفيق.
[العبد يعترض عن امرأته]
ومن كتاب الشريكين قال مالك في العبد يعترض عن
امرأته، قال مالك: يضرب
(6/365)
له نصف أجل الحر، وأرى عليه العدة بعد
الطلاق، ولها نصف الصداق.
قال محمد بن رشد: إنما قال: يضرب له نصف أجل الحر؛ لأنه يجر إلى الطلاق،
والطلاق حد من الحدود، يكون العبد فيه على النصف من الحر؛ لقول الله عز
وجل: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ
مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] ، وهذا يرد قول من
قال: إنه إنما يضرب للمعترض أجل سنة لتمر عليه الفصول الأربعة؛ إذ لو كانت
العلة في ذلك هذا، لاستوى فيه الحر والعبد، فإنما السنة في ذلك سنة متبعة
غير معللة.
وقوله: وأرى عليه العدة بعد الطلاق، يريد للأزواج من أجل الخلوة، ولا رجعة
للزوج عليها فيها؛ لأنها طلقة باينة إذ لم يمس.
وقوله: لها نصف الصداق صحيح؛ لقول الله عز وجل: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ
مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً
فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] ، وأما الحرة إذا اعترض عنها
زوجها، فيفرق بينهما بعد السنة، فلها صداقها كاملا، قال ذلك في المدونة من
أجل أن السنة طول إقامة، ولم يرها في سماع أشهب من طلاق السنة طول إقامة،
قال: إن لها نصف الصداق إلا أن تطول إقامتها معه قبل ضرب الأجل، وقد مضى
القول على ذلك هناك، وبالله التوفيق.
[الرجل يولي من امرأته فيوقف بعد انقضاء
الأربعة الأشهر ليفيء أو يطلق فيقول أنا أفيء]
من سماع أشهب وابن نافع عن مالك بن أنس قال أشهب: وسئل مالك عن الرجل يولي
من امرأته، فيوقف
(6/366)
بعد انقضاء الأربعة الأشهر ليفيء أو يطلق،
فيقول: أنا أفيء، فيخلى بينه وبينهما، ولا يطلق عليه، ويقال له: اذهب ففئ،
فيقيم معها ما شاء الله، ثم تأتي فتقول: لم يفئ، ويقول: أجل، ولكن سأفعل،
أترى ذلك حدا ينتهي إليه، أم إذا حانث الثانية فرق السلطان بينهما، أو كلفه
أن يفرق هو بنفسه؛ لأنه قد ترك الفيئة وهو يقدر عليها.
قال: أرى أنه إن لم يفئ حتى تنقضي عدتها يوم وقف على أن يفيء أو يطلق عليه.
قيل له: إنه لم يكن حين وقف طلق، أنه لما انقضت الأربعة أشهر دعي إلى
الفيئة أو الطلاق، فقال: أنا أفيء، فخلي بينه وبينها ليفيء، ولم يطلق عليه
حتى رجعت بعد أيام، فقالت: لم يفئ، وقال: أجل، ولكن سأفعل، قال: نعم، قال:
فأرى له إن لم يوف ما بينها وبين أن تنقضي عدتها من يوم وقف ليفيء، أو يطلق
أن يطلق عليه، ولا يوقف، وأرى للإمام وقفه بعد انقضاء الأربعة أشهر، فقال
له: فئ أو طلق، فقال: أنا أفيء أن يقول له دونكها، فإن لم يفئ حتى تنقضي
عدتها من ذلك اليوم طلقت عليه طلقة باينة، فهذا الذي أرى إذا انقضت عدتها
من أول يوم وقف ليفيء أو يطلق، فقال: أنا أفيء ولم يفئ، أن يكون ذلك طلاقا.
قال محمد بن رشد: رواية أشهب هذه خلاف للمعلوم من مذهب
(6/367)
مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في المدونة
وغيرها، أن المولي إذا وقف فقال: أنا أفيء، ولم يفئ، يختبر المرتين
والثلاث، ونحو ذلك من غير أن يعتبر في ذلك بالعدة، انقضت في أيام التلوم،
أو لم تنقض؛ إذ ليست في عدة، فإن فاء، وإلا طلق عليه طلاقا يكون له فيه
الرجعة، وقد نص في رواية ابن وهب عنه، من كتاب ابن المواز عنه على أنه إن
أقام في الاختيار ثلاث حيض، فإنه يوقف أيضا إن قال: أنا أفيء، ويخلى بينه
وبينها ما لم يكثر ذلك، فيطلق عليه، وهذا هو الذي يأتي على أصل مذهبه في أن
المولي لا يقع عليه طلاق بحلول الأجل حتى يوقف، فأما أن يفيء وأما أن يطلق.
فقوله في هذه الرواية: إن لم يف حتى تنقضي عدتها من يوم وقف عليه طلقت عليه
طلقة باينة راجع إلى القول بأن المولي مطالب بالفيئة في الأجل، وأنه لا
يزاد عليه، ويلزمه الطلاق بانقضائه، وقد روى ذلك ابن الماجشون، عن مالك في
كتابه، وهو قول سعيد بن المسيب، وأبي بكر بن عبد الرحمن، وابن شهاب، ومذهب
أبي حنيفة؛ لأنه لم يزد في أجل الإيلاء شيئا؛ إذ لم ير أن يتلوم له إلا في
طول المدة من أجل أن له فيها الرجعة، وهو قول فيه نظر؛ لأنه قال فيه: إنه
إن فاء في العدة بقي على العصمة، وإن لم يف فيها كانت مطلقة عليه بانقضاء
الأجل، فبانت منه بتمامها، فحصل أمره هي وقوع الطلاق عليه بانقضاء الأجل
مترقبا بما يفعله بعد ذلك في العدة من الفيء أو تركه، ولم يوجب عليها أيضا
عدة للأزواج بخلوته معها طول العدة على ما قاله في المسألة التي بعدها، وقد
مضى القول على ذلك في أول مسألة من سماع ابن القاسم، وقد استحسن ابن عبد
الحكم هذه الرواية على ما فيها من الاعتراض، وبالله التوفيق.
وروى المدنيون عن مالك أنه إذا وقف بعد انقضاء الأجل لا يؤخر، ولا يتلوم له
مرة بعد مرة، وإنما يقال له: إما أن تفيء، وإما أن تطلق، والحمد لله.
(6/368)
[مسألة: يوقف
بعد انقضاء الأربعة أشهر على أن يفيء أو يطلق فيطلق]
مسألة قيل له: أرأيت الذي يوقف بعد انقضاء الأربعة أشهر على أن يفيء، أو
يطلق فيطلق، ثم يرتجع فيخلى بينه وبينها ليصيبها فتنقضي عدتها من يوم طلق
عليه بالإيلاء، ولم يفئ، ثم يأتيان جميعا فتقول: لم يمسني، ويقول: لم
أمسها، فتبين منه، ثم تريد نكاح غيره، أترى عليها عدة فيما بينها وبين
الأزواج؛ لأنه قد كان معها في بيت ولا يدري لعله قد أصابها.
فقال: لعله أن يكون ذلك عليها بخلوته بها وكينونته معها، وهذا أمر قد أعفي
منه المسلمون إلى يوم الناس، هذا لم يكن، وما في السؤال عن مثل هذا خير
فيه، وهين في الدين، وإدخال للشك.
قال محمد بن رشد: قد مضى الكلام على معنى هذه المسألة في أول مسألة، من
سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته.
[مسألة: تقول امرأته بعد انقضاء أربعة أشهر أنا
أتركه ولا حاجة لي بوقفه]
مسألة وسئل عن الذي تقول امرأته بعد انقضاء أربعة أشهر: أنا أتركه، ولا
حاجة لي بوقفه.
قال: ذلك لها؛ لأنه حق لها تركته، فإن جاءت بعد أيام وقفته من ساعته إن
شاءت، ولم يضرب له أجل أربعة أشهر أخرى.
قال محمد بن رشد: وذلك أن تحلف على ما كان تركها على الأبد،
(6/369)
ولا برضاها، بإسقاط ذلك، والمقام معه إلا
على أن ينظر ويعاد، ثم يوقف مكانها بغير أجل، فيفيء أو يطلق، قاله أصبغ في
كتاب ابن المواز، ولو قالت: أنا أوخره أو أتركه إلى أجل كذا؛ لكان لها أن
توقفه عند انقضاء الأجل الذي أنظرته إليه دون يمين، على ما مضى القول فيه،
في النكاح الثاني من هذا المجموع، في سماع أبي زيد، من كتاب طلاق السنة.
[مسألة: تركت المرأة المولي زوجها حتى تنقضي
الأربعة أشهر ثم رفعت أمرها]
مسألة قال مالك: إذا تركت المرأة المولي زوجها، حتى تنقضي الأربعة أشهر، ثم
رفعت أمرها، وقف من ساعته، ولم ينظر أربعة أشهر أخرى.
قال محمد بن رشد: هذا في الحالف على ترك الوطء، بأي يمين كانت يكون موليا
من يوم حلف كما قال.
وأما الحالف بالطلاق أن يفعل فعلا، فلا يكون موليا حتى يضرب له الأجل من
يوم ترفعه امرأته إلى السلطان.
واختلف في الإيلاء الذي دخل على الظهار، فقيل: هو مولٍ من يوم ظاهر، وقيل:
إنه لا يوقف حتى يضرب له الأجل من يوم ترفعه امرأته إلى السلطان، وبالله
التوفيق.
[مسألة: المولي يوقف ألذلك أجل معلوم تتركه
إليه إذا وقف ينظر]
مسألة وسئل عن المولي يوقف، ألذلك أجل معلوم تتركه إليه إذا وقف ينظر، قال:
ليس.
(6/370)
قال محمد بن رشد هذا مثل قوله في سماع أشهب
من سماع الشفعة في الشفيع: إنه لا يؤجل ليرى رأيه وينظر، وفي مختصر ابن عبد
الحكم أنه يؤجل في ذلك ثلاثة أيام ليرى رأيه، ومن هذا المعنى المملكة
يوقفها السلطان، هل لها أن تؤخر لتستشير وتنظر وتختار لنفسها، وقد مضى
القول في ذلك في رسم سلف، من كتاب التخيير والتمليك، فانظر في ذلك، وبالله
التوفيق.
[يقول لامرأته أنت علي كأمي]
ومن كتاب الطلاق وسئل عن الذي يقول لامرأته: أنت علي كأمي، أترى أن تسأله
أي شيء يريد؟
قال: نعم.
قال محمد بن رشد: فإن لم تكن له نية، فهو ظاهر، وقد مضى تحصيل القول في هذا
في رسم سن رسول إليه من كتاب الظهار، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال والله لا أمسك أبدا أيسأل كما يسأل
في الظهار]
مسألة قيل له: أرأيت إن قال: والله لا أمسك أبدا أيسأل كما يسأل في الظهار؟
قال: لا، هذا إيلاء.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ إذ لا اختلاف بين أهل العلم جميعا في أن من
حلف ألا يطأ امرأته أبدا أو أطلق يمينه، فحلف ألا يطأها، ولم يقل أبدا أو
حلف ألا يطأها أكثر من أربعة أشهر أنه مولٍ، إلا ما يروى عن ابن عباس أنه
لا يكون موليا من عقد يمينه على مدة مخصوصة.
(6/371)
كما لا اختلاف بينهم أنه إذا حلف ألا يطأها
أقل من أربعة أشهر أنه ليس بمول؛ إلا ما روي عن ابن أبي ليلى، وطائفة من
أهل الكوفة أن من حلف ألا يجامع امرأته أقل من أربعة أشهر، فتركها أربعة
أشهر من غير جماع، أنه مولٍ، وإنما اختلفا فيمن حلف ألا يطأ امرأته أربعة
أشهر، فرآه أبو حنيفة وجماعة من السلف موليا، وقالوا: إن الطلاق يقع عليه
بمضي الأجل، ولم يره مالك في المشهور عنه موليا، إذا زاد على الأربعة أشهر
الشيء القريب، وهو قول عبد الوهاب؛ لأنه قال: إذا زاد في يمينه على الأربعة
أشهر كان موليا، يريد أنه إذا زاد على الأربعة أشهر شيئا يسيرا، فله أن
يقول: اتركوني حتى ينقضي الأجل، فأصبت ولا حنث، والصواب كما في كتاب ابن
المواز أنه يوقف، وإن لم يبق من مدة يمينه إلا الشيء اليسير؛ لأن ذلك حق قد
وجب في التوقيف؛ إذ لعله إذا أوقف سيقول: لا أفيء فيعجل عليه الطلاق، وقد
تأول بعض الساخرين على المذهب أنه لا يكون موليا حتى يزيد على الأربعة أشهر
أكثر مما يتلوم به عليه، إذا قال: أنا أفي، وهو بعيد إذ قد يبلغ ما تلوم به
عليه المدة بعد المدة الثلاثين يوما، ونحو ذلك على ما روى ابن وهب، عن مالك
في كتاب ابن المواز، وقد ذكرنا ذلك في أول السماع، وبالله التوفيق.
[مسألة: يحلف ألا يطأ امرأته أتراه في حل من
ترك مسيسها وهي لا ترافعه إلى السلطان]
مسألة وسئل عن الذي يحلف ألا يطأ امرأته، أتراه في حل من ترك مسيسها، وهي
لا ترافعه إلى السلطان؟ قال: لا.
قيل له: أتراه في حل إذا لم ترفعه إلى السلطان، وأذنت له في ذلك؟
(6/372)
قال: أرجو أن يكون في ذلك سعة إذا كان هذا
هكذا.
قال محمد بن رشد: وهذا بين على ما قاله؛ لأنه ظالم لها في حلفه لها ألا
يطأها، وممتنع مما يلزمه لها من الحق في ذلك، ولا يحل لمن عليه حق لغيره أن
يمتنع منه حتى يرافع فيه إلى السلطان، فإن أذنت له في ذلك سقط عنه الحرج
فيه؛ لأنه حق لها تركته، وبالله التوفيق.
[مسألة: يقول علي عتق رقبة إن مسست امرأتي]
مسألة وسألته عن الذي يقول: علي عتق رقبة إن مسست امرأتي؟
فقال: هو مولٍ، فإن كان سمى عبدا له بعينه، فمات ذلك العبد أو أعتقه، فإن
الإيلاء قد سقط عنه، وكذلك لو كان حلف في مسيسها بطلاق امرأة له أخرى
فطلقها، فأرى الإيلاء قد سقط بطلاق التي حلف بطلاقها.
فإن كان إنما قال: علي عتق رقبة إن مسستك، فلا يخرجه من الإيلاء أن يبتاع
رقبة فيعتقها، وكذلك الذي يحلف بالله ألا يصيب امرأته، ثم يبتاع عبدا
فيعتقه عن يمينه ثم يصيبها، فلا أرى ذلك يجزئه إذا حلف بالله، أو قال: علي
عتق رقبة حتى يصيب قبل ويحنث، ثم يكفر بعد ويترك، فلا أرى أن يجزئ عنه أن
يكفر قبل الحنث حتى يحنث، ثم يكفر بعد، إلا أن يحلف بعتق عبد بعينه فيعتقه،
فأرى الإيلاء قد سقط عنه إذا أعتقه أو مات.
قال محمد بن رشد: أما من حلف ألا يطأ امرأته بعتق عبد له بعينه، أو بطلاق
امرأة له أخرى، فلا اختلاف في أنه إذا أعتق العبد أو طلق المرأة التي حلف
بطلاقها، فقد انحلت عنه اليمين، وارتفع عنه الإيلاء، وأما من حلف على ذلك
بصيام أو مشي أو صدقة بشيء بعينه، فلا اختلاف في أنه لا ينحل عنه اليمين،
ولا يرتفع عنه الإيلاء بالصيام ولا بالصدقة ولا
(6/373)
بالمشي، إن فعل ذلك قبل الحنث، وإن نوى
بذلك حل اليمين عنه، وأن عليه أن يفعل ذلك مرة أخرى إن حنث، وكذلك القياس
إذا حلف على ذلك بعتق عبد نفر عنه.
وقول هاهنا من يعلم أنه أعتقها من أجل ذلك، يدل على أنه لو علم لأجزأه،
وانحل به عنه الإيلاء، وأن اليمين تنحل عنه بذلك فيما بينه وبين الله إذا
أعتقه عن يمينه قبل أن يحنث بها، وهو نص ما في كتاب الظهار من المدونة، إلا
أنه بعيد في القياس والنظر، ووجهه أنه لما كان العتق مما يكفر به اليمين
بالله، حمله محمل كفارة اليمين في أنها تجزي قبل الحنث، وليس ذلك ببين،
وأما من حلف على ذلك بالله، فالكفارة قبل الحنث تحل عنه اليمين عند ابن
القاسم فيما بينه وبين الله.
واختلف قوله: هل يرفع عنه حكم الإيلاء على قولين قائمين من المدونة؛
أحدهما: أن ذلك لا يرفع عنه حكم الإيلاء؛ لأن حق المرأة قد وجب في التوقيف
فلا يرتفع؛ إذ لا يدرى هل نوى بذلك الكفارة عن يمين الإيلاء أو لم ينو بها
ذلك. والثاني: أن ذلك يرفع عنه حكم الإيلاء؛ لأن الكفارة عن اليمين بالله
قبل الحنث جائزة، لم يختلف قول مالك في ذلك، فقوله هاهنا: وكذلك الذي يحلف
بالله ألا يصيب امرأته، ثم يبتاع عبدا فيعتقه عن يمينه ثم يصيبها، فلا أراه
يجزئه إذا حلف بالله كلام وقع على غير تحصيل؛ لأنه إذا حلف بالله ألا يطأ
امرأته فكفر ثم وطئ، فقد فاء بالوطء، وارتفع عنه الإيلاء، وأجزأته الكفارة؛
لأنه مصدق أنه نوى بها كفارة يمينه التي قد حنث فيها؛ لأنه أمر فيما بينه
وبين الله، لا ينازعه فيه أحد؛ إذ قد سقط حق المرأة في التوقيف بالوطء،
وإنما يقول: إن الكفارة بالله لا تجري قبل الحنث ابن الماجشون، وقد مضى ذلك
في رسم لم يدرك، من سماع عيسى، من كتاب الظهار، مستوفى والحمد لله.
[يولي من امرأته فيرفع أمرها بعد أربعة أشهر
فيريد الإمام أن يوقفه]
ومن سماع عيسى بن دينار من ابن القاسم من كتاب العرية قال عيسى: قلت لابن
القاسم: أرأيت الرجل الذي يولي
(6/374)
من امرأته، فيرفع أمرها بعد أربعة أشهر،
فيريد الإمام أن يوقفه، فتقول: أما إن أراد الطلاق، فأنا أقيم ولا ألتمس
المسيس، أيكون لها ذلك بعد أن ترفع امرأته أمرها؟
قال: نعم، ذلك لها، وإن رفعت أمرها ما لم يطلق السلطان عليه، قلت: وكذلك
الذي يحلف على الشيء أن يفعله، فترفع امرأته أمرها، فيضرب له أجل أربعة
أشهر، فتذهب فتريد أن تضرب عن ذلك، وتصبر بغير مسيس، أيكون ذلك لها، وقد
أجل لها السلطان؟
قال: نعم، ذلك لها، وهو رأيي.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأنه حق لها في المسألتين جميعا، لا يتعلق
لله به حق، فلها أن تتركه بعد الرفع إلى السلطان كما لها أن تتركه قبل أن
ترفعه إليه، ولو أرادت بعد أن تركته عند السلطان أن ترجع في حقها؛ لكان ذلك
لها بعد يمينها أنها لم ترد إسقاط حقها جملة، وأنها إنما أرادت تأخيره
والصبر عليه، على ما مضى في الرسم الأول، من سماع أشهب، وبالله التوفيق.
[يقول إن لم يقدم أبي إلي رأس الهلال فامرأته
طالق]
ومن كتاب يوصي لمكاتبه قال ابن القاسم: إن ضرب الرجل لقدوم أبيه أجلا، مثل
أن يقول: إن لم يقدم أبي إلي رأس الهلال فامرأته طالق، فإنه لا يمس امرأته
حتى الأجل، وإن ضرب أجلا أكثر من أربعة أشهر، فرفعت امرأته أمرها، فإنه
يضرب له أجل المولي من حين ترفع أمرها، وإنما الذي يمس فيه حتى يقدم أبوه،
أو لا يقدم أبوه إذا لم يضرب أجلا، إذا قال: امرأتي طالق إذا قدم أبي، وقد
قال ابن القاسم: يطأ امرأته إذا ضرب أجلا، وإن لم يضرب أجلا ضرب له أجل
المولي.
(6/375)
قال محمد بن رشد: الحالف على نفسه بالطلاق
ألا يفعل فعلا، مثل أن يقول: امرأتي طالق إن ضربت عبدي، كالحالف على غيره
بالطلاق ألا يفعل فعلا سواء، وهو على بر في الوجهين جميعا، لا يمنع من وطء
امرأته، ولا يحنث إلا بالفعل، وله إن كانت يمينه على ذلك بعتق عبد يبيع
العبد إن شاء، ولا خلاف في هذا الوجه، وكذلك الحالف بطلاق على نفسه أن يفعل
فعلا إلى أجل، مثل أن يقول: امرأتي طالق إن لم أضرب عبدي إلى شهر، كالحالف
على غيره بالطلاق أن يفعل فعلا إلى أجل سواء، وفيها جميعها لابن القاسم
قولان؛ أحدهما: أنه ليس له أن يطأ امرأته إلى ذلك الأجل، وهو قوله هاهنا في
الذي يقول: إن لم يقدم أبي في رأس الهلال فامرأته طالق، أنه لا يمس امرأته
حتى الأجل، وهو قول غير ابن القاسم في العتق الأول من المدونة، ويدخل عليه
الإيلاء إن كان الأجل أكثر من أربعة أشهر.
والثاني: أن له أن يطأ إلى ذلك الأجل، وهو قوله في آخر المسألة، وقد قال
ابن القاسم: يطأ امرأته إذا ضرب أجلا، وقول ابن القاسم في المدونة أيضا،
وهذا القول أصح على مذهبه ومذهب مالك؛ إذ لم يختلف قولهما في أنه على بر،
وفي المدنية لابن أبي حازم أنه على حنث، سئل عن رجل قال: إن لم أضرب عبدي
قبل الهلال، فامرأتي طالق، فمات العبد قبل الهلال، وقبل أن يضربه، قال:
أمره أبين من كل شيء عندي، هي طالق.
قال ابن القاسم: هذا باطل، وقول مالك: لا طلاق عليه.
أما الحالف بالطلاق على نفسه أن يفعل فعلا من غير أن يضرب لذلك أجلا، مثل
أن يقول: امرأتي طالق إن لم أضرب عبدي وما أشبه ذلك، فإنه يفترق من الحالف
بذلك على غيره، فأما إذا حلف بذلك على نفسه، فلا اختلاف في أنه على حنث،
ويحال بينه وبين امرأته، فإن طلبته الوطء ضرب له أجل المولي، وأما إذا حلف
بذلك على غيره، فاختلف قول ابن القاسم في ذلك على ثلاثة أقوال؛ أأحدها: أنه
كالحالف على نفسه سواء، وهو قول ابن القاسم، في رسم حمل صبيا بعد هذا: إنه
إن قال: إن لم يحج فلان فامرأتي طالق، فهو بمنزلة من قال: إن لم أحج
فامرأتي طالق، ألا يطأ
(6/376)
حتى يحج، أو حتى يحج فلان، فإن طلبت امرأته
المسيس ضرب لها أجل المولي.
والثاني: أنه يتلوم له على قدر ما يرى أنه أراد بيمينه، واختلف قوله: هل
يطأ في التلوم أو لا على قولين جاريين على الاختلاف إذا ضرب أجلا؛ لأن
التلوم كضرب الأجل، فإذا بلغ التلوم على القول بأنه يمنع من الوطء أكثر من
أربعة أشهر دخل عليه الإيلاء، وقال أشهب: إن كان ليمينه سبب وقت أراده مما
إذا جاء ذلك الوقت حنثه إليه، فلا أمنعه الوطء، ويصير كمن حلف ليفعلن فلان
إلى أجل، وتفرقة أشهب هذه قولة ثالثة في منعه الوطء. والثالث: الفرق بين أن
يحلف على غائب أو حاضر، فإن حلف على النائب مثل أن يقول: امرأتي طالق إن لم
يقدم فلان، أو إن لم يحج كان كالحالف على فعل نفسه، يمنع من الوطء، ويضرب
له أجل المولي إن رفعته امرأته وطلبت الوطء، وإن حلف على حاضر مثل أن يقول:
امرأتي طالق إن لم يهب لي دينارا، وإن لم يقضني حقي، وما أشبه ذلك تلوم له
على قدر ما يرى أنه أراد بيمينه، وهو قول ابن القاسم في رسم باع شاة من
كتاب الأيمان بالطلاق، فهذا تحصيل القول وتلخيصه في هذه المسألة، وبالله
التوفيق.
[قال في بلح نخل إن لم أكن من البلح رطبا
فامرأته طالق]
ومن كتاب بع ولا نقصان عليك وعن رجل قال في بلح نخل: إن لم أكن من البلح
رطبا فامرأته طالق.
قال: أرى أن يضرب له أجل المولي، ثم يطلق عليه.
قال محمد بن رشد: يدخل في هذه المسألة من الاختلاف ما دخل في الرسم الذي
فوقه؛ لأن إرطاب البلح كالأجل، فعلى القول الذي لا يطأ إلى أجل، إذا قال:
امرأتي طالق إن لم يقدم فلان إلى سنة، أو إن لم يضرب عبدي إلى سنة، ويدخل
عليه الإيلاء إن طلبت امرأته الوطء، لا يطأ هاهنا
(6/377)
إلى طيب البلح، ويضرب له أجل المولي إن
طلبت امرأته الوطء، وعلى القول الذي يطأ إلى الأجل يطأها هنا إلى طيب
البلح، ولا يدخل عليه الإيلاء حتى يطيب البلح، فإذا طاب البلح لم يكن له أن
يطأ، ودخل عليه الإيلاء باتفاق، وبالله التوفيق.
[قال لامرأته لله علي ألا أمسك حتى أحج أو أغزو]
ومن كتاب إن خرجت من هذه الدار وسئل عن رجل قال لامرأته: لله علي ألا أمسك
حتى أحج أو أغزو.
قال: يمسها ثم يحج أو يغزو، ولا شيء عليه.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: إنه ليمس عليه أن يمسك عن امرأته حتى يحج
أو يغزو؛ لأنه قد نذر ذلك بقوله؛ لأن معناه لله علي أن أحج أو أغزو قبل أن
أمس امرأتي، فقصده إنما كان إلى تعجيل الحج أو الغزو، وقد قال رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن
نذر أن يعصيه فلا يعصه» فلا يجب أن يوفى لله من النذر إلا بما لله فيه
طاعة، وبالله التوفيق.
[قال إن عافاني الله من مرضي صمت ستة أشهر لا
أقرب فيها امرأتي]
ومن كتاب سلف دينارا قال ابن القاسم في رجل قال: إن عافاني الله من مرضي
صمت ستة أشهر لا أقرب فيها امرأتي.
قال: ليس هو مولٍ، ويصوم ويأتي، ليس في ترك وطء امرأته طاعة لله، وليس عليه
إلا الصيام، ولو قال: إن شفاني الله من مرضي هذا لله علي ألا أقرب امرأتي
حتى أحج أو أغزو، قال: يطأ امرأته أيضا، ويحج ويغزو، وليس في ترك وطء
امرأته طاعة لله.
(6/378)
قال محمد بن رشد: هذه مسألة بينة، المعنى
فيها كالمعنى في التي فوقها، فلا وجه لإعادة القول فيها، وبالله التوفيق.
[قال إن حج فلان فامرأته طالق]
ومن كتاب حمل صبيا قال ابن القاسم: من قال: إن حج فلان فامرأته طالق، فإنه
لا يلزمه طلاق حتى يحج، ومن قال: إن لم يحج فلان فامرأتي طالق، فإنه لا يطأ
حتى يحج، فإن طلبت امرأته المسيس ضرب لها أجل المولي، قال عيسى: من قال: إن
حج فلان فامرأته طالق، إنما هو بمنزلة من قال: إن حجت فامرأتي طالق، أنه لا
يلزمه شيء حتى يحج، ومن قال: إن لم يحج فلان فهو بمنزلة إن لم أحج.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى الكلام عليها، وتحصيل القول فيها في رسم
يوصي، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[يحلف بالطلاق البتة ألا يطأ امرأته سنة فطلبت
امرأته الوطء]
ومن كتاب باع شاة وسألته عن الرجل يحلف بالطلاق البتة، ألا يطأ امرأته سنة،
فطلبت امرأته الوطء.
قال: يضرب له أجل المولي أربعة أشهر، فإن وطئ طلقت عليه بالبتة، وإن لم
يطأها طلقت عليه بالإيلاء، فجرت في عدتها.
قلت: فإن أراد أن يراجعها في العدة، فيكون ذلك له؟ قال: لا يكون ذلك له؛
لأنه لا يرجع إلى فيئة، وإنما يرجع إلى طلاق البتة.
(6/379)
قلت: هل يتوارثان ما كانت في العدة؟ قال:
نعم.
قلت له: وليس له إلى رجعتها سبيل؟ ولأي شيء لا يكون بمنزلة المصالحة لا
يتوارثان؟ قال: أرأيت المصالحة لو أنه وطئها أكنت ترجمه؟ قال: نعم، قال:
صدقت، قال: أرأيت لو أن هذا المولي وطئها أكنت ترجمه؟ قال: لا، قال: صدقت،
قال: فهذا الفرق بينهما.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة فيها اختلاف كثير، وتحصيله أن فيها قولين؛
أحدهما: أنه مولٍ، والثاني: ليس بمول، والقولان في المدونة، فإذا قلت: إنه
مولٍ، فلا يطلق عليه حتى يحل أجل الإيلاء من يوم حلف.
وقوله في هذه الرواية يضرب له أجل المولي إن طلبت امرأته الوطء، معناه من
يوم حلف، واختلف على هذا القول في حكمه إذا حل أجل الإيلاء على أربعة
أقوال:
أحدها: أنه يطلق عليه، ولا يمكن من الفيء؛ لأنها تبين منه في التقاء
الختانين، فيصير النزع حراما، وهذا القول في المدونة، وهو مذهب ابن
الماجشون على أصله فيمن طلع عليه الفجر في رمضان، وهو يطأ امرأته أنه يقضي
ذلك اليوم؛ لأن إخراج الفرج من الفرج وطء.
والثاني: أنها لا تطلق عليه إلا أن يأبى الفيء، فإن لم يأباه وأراعه أمكن
من التقاء الختانين لا أكثر، روي هذا القول عن مالك، ويكون النزع على هذا
القول واجبا، كما لو طلق امرأته ثلاثا في تلك الحال.
والثالث: أنه يمكن من جميع لذته حتى يفتر وينزل، ولا ينزل فيها مخافة أن
يكون الولد ولد زنا، وهو قول أصبغ.
(6/380)
والرابع: أنه يمكن من الفيء بوطء كامل؛ ولا
يقع عليه الحنث إلا بتمامه، وهو قول ابن القاسم في أصل أسرته، وظاهر قوله
في المدونة، وما يوجد له فيها من خلاف، فقد قيل: إنه إصلاح سحنون، وهو قوله
في هذه الرواية، فإن وطئ طلقت عليه بالبتة، وإن لم يطأ طلقت عليه بالإيلاء،
وكان القياس على قوله إذا مكنه من الفيء بالوطء أن يوجب له الرجعة، فقوله:
إنه لا يمكن من الرجعة، لا يستقيم إلا على القول بأنه لا يمكن من الفيء،
ويطلق عليه بالإيلاء إذا انقضى أجله، وإذا قلت: إنه ليس بمُولٍ، ففي ذلك
قولان؛ أحدهما: أنه يعجل عليه الطلاق، وإن لم ترفعه؛ لأن الطلاق وقع عليه
من يوم حلف، وهو قول مطرف، وقد أقام بعض الناس هذا القول من المدونة، وليس
ذلك ببيِّن. والثاني: أنه لا يعجل عليه الطلاق حتى ترفعه إلى السلطان
ويوقعه، وهذا القول قائم من المدونة.
[مسألة: يعترض له عن امرأته فيضرب له أجل سنة
فيخصى]
مسألة قلت له: فالذي يعترض له عن امرأته، فيضرب له أجل سنة، فقبل أن تنقضي
سنة يخصى أو تصيبه بَلِيّة في ذَكَره فيذهب؟
قال ابن القاسم: يفرق بينهما، قلت: أيفرق بينهما حين أصابه ذلك ويئس منه،
أم تنتظر به سنة، وهو لا يرجى له وطء؛ لأنه قد ذهب ذكره؟ قال: لا تنتظر به
السنة، ويفرق بينهما حين يئس من أن يطأ، قلت له: فالمولي يضرب له أجل أربعة
أشهر، فقبل أن يأتي الأجل يخصى أو تصيبه بلية في ذكره.
قال ابن القاسم: ليس هذا مثل الأول، وهذا لا يفرق بينه
(6/381)
وبين امرأته أبدا؛ لأنه قد كان وطئ، وإن
الآخر لم يطأ قط، فلذلك فرق بينهما، وكذلك لو تزوج رجل امرأة، فلم يدخل بها
حتى ذهب ذكره بخصي أو غير ذلك من بلية السماء، فرق بينه وبين امرأته، ولم
تقر تحته؛ لأنه لم يمس قط.
قال محمد بن رشد: اختلف في الذي يعترض عن امرأته، فيضرب له الأجل فيخصى، أو
يذهب ذكره في خلال الأجل على ثلاثة أقوال؛ أحدها: قول ابن القاسم هذا،
ومثله حكى ابن المواز عنه من رواية أصبغ أنه يفرق بينهما، ولا ينتظر تمام
السنة، ومعناه إذا طلبت ذلك المرأة. والثاني: أنه لا يفرق بينهما، وهي
مصيبة نزلت بالمرأة، حكى ذلك ابن المواز، عن أشهب، وعبد الملك، وأصبغ،
وغيره من رجال ابن القاسم. والثالث: أنه لا يعجل بالفراق حتى تنقضي السنة؛
إذ لعلها سترضى بالإقامة، روي هذا عن مالك، ومثله الذي يولي من امرأته قبل
الدخول، فيضرب له أجل الإيلاء فيخصى أو يذهب ذكره في خلال الأجل، أن الأجل
يبطل عند ابن القاسم، ويفرق بينهما، كالذي يقطع ذكره قبل البناء، أو يولي
بعده، فيقطع ذكره في خلال الأجل.
قال ابن المواز: وقد أجمعوا في المولي يقطع ذكره قبل الأجل أن الأجل يبطل
ولا حجة لها، فكأنه رأى تفرقة ابن القاسم في المولي يقطع ذكره في الأجل بين
أن يكون ذلك قبل البناء أو بعده تناقضا من قوله، وليس ما قال ابن المواز
بإجماع؛ إذ قد لزمه حكم الإيلاء قبل أن يقطع ذكره، قد قال مالك في الحالف،
ألا يطأ في أجل الإيلاء، فقطع ذكره: إنه يفرق بينهما، لا أنه يعجل لا عليه
إلى تمامه، إذ قد ترضى بالمقام معه.
وهذا حجة على ابن القاسم في تعجيله الطلاق على العنين يقطع ذكره في الأجل،
ولا اختلاف بينهم فيمن قطع ذكره بعد البناء، ولم يكن موليا أنه لا يفرق
بينه وبين زوجته.
(6/382)
وأصبغ يرى الإيلاء والظهار على الحصور،
وعلى المقطوع ذكره قبل البناء وبعده، قبل الإيلاء وبعده، ويوقف على ما يقدر
عليه من الفيئة بالمباشرة، والاستمتاع الذي لها حق فيه عليه، وبالله
التوفيق.
[يقول لامرأته إن وطئتك فوالله لا أطأك]
ومن كتاب العتق قال: وسئل مالك عن الرجل يقول لامرأته: إن وطئتك، فوالله لا
أطأك.
قال: لا يكون هذا موليا حتى يطأ.
قال محمد بن رشد: هذا على القول في الحالف بالطلاق ثلاثا ألا يطأ امرأته،
أنه يمكن من وطء كامل، وأما على القول بأنه لا يمكن من الوطء أصلا، فإذا
وطئ يلزمه اليمين بأول الوطء، ويحنث بآخره، فتلزمه الكفارة ويسقط عنه
الإيلاء، وقد مضى في الرسم الذي قبل هذا بيانه، وبالله التوفيق.
[مسألة: يحلف بطلاق امرأته إن لم يتزوج عليها
فلانة فيخطبها فتكرهه]
مسألة من سماع يحيى بن يحيى من ابن القاسم من كتاب المكاتب قال يحيى: وسألت
عن الرجل يحلف بطلاق امرأته، إن لم يتزوج عليها فلانة، فيخطبها فتكرهه.
قال: أرى أن يؤجل له أجل المولي إن شكت امرأته ترك مسيسها، وذلك لأنه لا
ينبغي له أن يمسها حتى ينكح المرأة التي
(6/383)
حلف عليها لينكحنها، فإن مضى أجل الإيلاء
ولم ينكحها طلق عليه بالإيلاء، وإن صبرت عليه امرأته، لم يؤجل ولم يدخل
عليه حنث، وإن ماتت التي حلف لينكحنها، طلقت عليه امرأته.
قال محمد بن رشد: قوله: إنه يؤجل له أجل المولي إن شكت امرأته ترك مسيسها؛
إذ لا ينبغي له أن يمسها، وهو لا يقدر على نكاح المرأة التي حلف لينكحنها،
أو خطبها فكرهته، إنما يأتي على القول بأن من حلف بالطلاق ليفعلن فعلا لا
يمكنه فعله في الحال، ويمكنه في حال آخر مولٍ من يوم حلف، وهو ظاهر قول ابن
القاسم في المدونة، ونص رواية عيسى عن ابن القاسم في الحالف بالطلاق: ليحجن
وهو في غير وقت الحج أنه يقال له: أحرم واخرج، وإن كان ذلك في المحرم، وعلى
قول غير ابن القاسم في المدونة أنه إذا لم يمكنه فعل ما حلف عليه ليفعلنه،
فلا يحال بينه وبين امرأته، ولا يضرب له أجل المولي حتى يمكنه فعل ما حلف
عليه، ولا يحال بينه وبين امرأته في هذه المسألة، ولا يضرب له أجل المولي
حتى يمكنه نكاح المرأة بأن تجيبه إلى ذلك، فإن أجابته إلى ذلك وأمسك عن
نكاحها كان سبيل الحنث، ولم يجز له وطء امرأته، وضرب له أجل المولي إن شكت
امرأته ترك مسيسها، فإن بر بنكاحها وإلا طلق عليه بالإيلاء، فإن طلق عليه
به، وارتجع لم تصح رجعة إلا أن يفيء بزواجها قبل انقضاء العدة، بخلاف أن
يظن هو قبل أن يطلق عليه الإمام بالإيلاء؛ لأنه إذا طلق هو فقد حنث نفسه،
وانحلت اليمين عليه، وإذا طلق الإمام عليه، فاليمين باقية عليه، فإن تزوجها
بعد انقضاء العدة رجع عليه الإيلاء، فإن اجترأ لما ضرب له أجل الإيلاء
ووطئ، سقط ما مضى من أجل الإيلاء، واستؤنف ضربه مرة أخرى إن قامت بذلك
المرأة وطلبته، وبالله التوفيق.
[مسألة: يحلف بطلاق امرأته ليبيعن غلامه إلا
ألا يجد عشرين دينارا]
مسألة وسئل عن الرجل يحلف بطلاق امرأته ليبيعن غلامه، إلا ألا
(6/384)
يجد عشرين دينارا فيعرضه ويجتهد فلا يجد به
عشرين دينارا أيمسك عن مسيس زوجته حتى يبيعه أم يسقط عنه اليمين بعد
اجتهاده في البيع بالمبالغة في العرض؟ .
قال: يكف عن مسيس زوجته حتى يعرض مجتهدا في البيع أياما ويستأنى حتى يعلم
اجتهاده ومبالغته في البيع، فإن باع في ذلك وإلا حبس عبده ووطئ امرأته ولا
شيء عليه حتى تحول الأسواق بزيادة يرتجى بها بيعه بعشرين دينارا فيعود إلى
العرض والاجتهاد في البيع [وليس عليه أن يمسك عن الوطء لامرأته الأولى إلا
أن يجد عشرين دينارا فيكره البيع] فإن وجد ذلك لزمه الكف عن المسيس حتى
يبيع فإن شكت امرأته وهو قادر على بيعه بعشرين دينارا إمساكه عنها ضرب له
أجل المولي فإن باع وإلا طلق عليه، وإن قال: أنا أفئ فلا تنفعه فيئته إلا
ببيع العبد.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة لم يجر فيها على أصل؛ لأنه إما أن تحمل يمينه
على أنه أراد أن يبيعه بعشرين إلا ألا يجد به العشرين في ذلك الوقت وفي تلك
السوق، فلا يجب عليه أن يعرضه إلا في ذلك الوقت وفي تلك السوق، فإذا عرضه
في ذلك الوقت ولم يجد فيه العشرين انحلت عنه اليمين، ولم يكن عليه أن يعود
إلى عرضه في وقت آخر وسوق آخر، وإما أن تحمل يمينه على أنه أراد أن يبيعه
بعشرين دينارا متى وجد العشرين دينارا فيه، كان ذلك في ذلك الوقت وفي تلك
السوق أو في وقت آخر وسوق آخر، فيجب عليه متى ما حالت الأسواق بزيادة ورجا
وجود العشرين دينارا فيه أن يعود إلى العرض وإلى الإمساك عن امرأته.
فقوله: إن الأسواق إذا حالت بزيادة عاد إلى العرض ولم يجب عليه أن يعود إلى
الإمساك عن امرأته حتى يجد به عشرين ليس يلتئم على أصل واحد.
(6/385)
وجوابه في هذه المسألة أيضا كجوابه في
المسألة التي قبلها، على القول بأن من حلف ليفعلن فعلا لا يمكنه في الحال
ويمكنه في حال آخر يحال بينه وبين امرأته من يوم حلف، ويدخل عليه الإيلاء
إن طلبت المرأة المسيس، وعلى القول بأنه لا يحال بينه وبينها ولا يمنع من
مسيسها ولا يدخل عليه الإيلاء حتى يمكنه فعل ما حلف عليه ليفعلنه يكون له
أن يطأ امرأته في حال العرض حتى يجد من يعطيه به عشرين دينارا، فإذا وجد
ذلك لزمه الكف عن امرأته حتى يبيعه وضرب له أجل المولي وكذلك حكى ابن حبيب
في آخر كتاب الأيمان والنذور من الواضحة أنه ليس عليه أن يمسك عن الوطء ما
دام يعرض ذلك للبيع، ألا أنه قال: فإذا وجد ذلك به حنث إن لم يبعه، فحمل
يمينه على التعجيل، وهو أصل قد اختلف فيه حسبما بيناه من سماع يحيى في كتاب
النذور في رسم المكاتب منه وبالله التوفيق.
[المعترض عن امرأته ترفع أمرها إلى الإمام وهو مريض]
ومن كتاب الصلاة وسألته عن المعترض عن امرأته
ترفع أمرها إلى الإمام وهو مريض.
فقال: لا يضرب له أجل المعترض عن امرأته حتى يصح [فقيل له] : فإن كان صحيحا
رفعت أمرها إلى السلطان، [فلما أجله السلطان مرض] ، قال: قد مضى حكم
السلطان فيه ولا يزاد في الأجل بعد من أجل مرضه.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة متكررة في هذا الرسم، وهذا السماع من
كتاب طلاق السنة والقول فيها، فلا معنى لإعادته وبالله التوفيق.
(6/386)
[مسألة: المولي
يقفه السلطان وهو مريض فيقول أنا أفيء]
مسألة وسألته عن المولي يقفه السلطان وهو مريض، فيقول: أنا أفيء، فقال:
يعذر بالمرض ولا يعجل عليه قلت: فإن كان حلف أن ينكح عليها أو نحو ذلك
فأمسك عن النكاح عنها زمانا حتى رئي أنه مضار فشكته امرأته وهو مريض أيؤجل
أجل المولي أم حتى يصح؟ .
قال: أما المريض فإني أقول: يضرب له الأجل وإن كان مريضا فإن انقضى الأجل
[ولم يصح عذر؛ لأنه لا يطيق النكاح وهو مريض، وانقضى الأجل] وقد صح، قيل
له: تزوج ومس امرأتك وإلا طلقها عليك، فإن تزوج من عاجل ومس امرأته فلا شيء
عليه، وإن لم يفعل طلق عليه بالإيلاء.
قيل له: فإن كان حلف له ليقضين رجلا حقه إلى غير أجل فترك القضا ورؤي أنه
مضار وشكت امرأته وهو مريض.
فقال: لا يمنعه المرض من القضاء وأرى أن يضرب له الأجل فإن لم يقض وصح طلق
عليه كما يصنع بالصحيح.
[مسألة: المولي إذا وقفه السلطان وهو مريض]
مسألة قوله: إن المولي إذا وقفه السلطان وهو مريض فعذر بالمرض إلى أن يصح؛
صحيح لا اختلاف فيه، وكذلك إن كان مسجونا يعذر بالسجن إلى أن يخرج منه،
واختلف إن كان غائبا، فقال ابن القاسم: يعذر بالسفر ولا يطلق عليه حتى يقدم
فيوقف
(6/387)
على أن يفيء أو يطلق، وقال ابن الماجشون:
لا يعذر به فيطلق عليه ولا ينتظر، وإذا عذر قبلت منه فيئته بالقول عند ابن
الماجشون، ولم يؤمر بالكفارة كانت يمينه مما يقدر على حلها عن نفسه
بالكفارة أو لا يقدر.
وقال ابن القاسم: إن كانت يمينه مما لا يقدر على حلها عن نفسه قبل الحنث
مثل أن تكون يمينه بصيام أو صدقة أو مشي، أو ما أشبه ذلك مما إذا فعله قبل
الحنث لم يجزئه ولزمه ذلك مرة أخرى بالحنث قبلت منه فيئته بالقول، ولم يكلف
فعل ما لا يجزئه من ذلك كله، وإن كانت يمينه مما لا يقدر على حلها عن نفسه
بفعل ما حلف به ظاهرا أو باطنا مثل أن يكون يمينه بعتق عبد بعينيه أو بطلاق
امرأة له أخرى، وما أشبه ذلك لم تقبل منه فيئته دون أن يعتق العبد الذي حلف
بعتقه أو يطلق المرأة التي حلف بطلاقها دون التي يطلب بها يوجب ذلك عليه،
وإذا فعله قبل الحنث أجزأه وسقطت عنه اليمين.
وإن كانت اليمين التي حلف بها بالله فذلك له قولان، أحدهما: أن الفيئة تقبل
منه بالقول ولا يكلف أن يكفر؛ إذ لا يدري هل ينوي بالكفارة ذلك اليمين
فتكون قد انحلت عنه، أم
(6/388)
لا ينوي بها ذلك فتكون باقية عليه،
والثاني: أن الفيئة لا تقبل منه حتى يكفر؛ لأن الكفارة في اليمين بالله
تجزئ قبل الحنث.
واختلف إن كانت يمينه بعتق عبد بعينه، فحمله في كتاب الظهار من المدونة
محمل كفارة اليمين تجزئه عتق رقبة قبل الحنث، والصحيح أنه لا يجزئه ذلك،
وقد مضى القول في ذلك في رسم الطلاق من سماع أشهب.
وقوله: فإن كان حلف أن ينكح عليها معناه حلف على ذلك بالطلاق؛ لأنه إنما
يدخل عليه الإيلاء إذا كان حلف على ذلك بالطلاق، وإنما قال: إنه يضرب أجل
الإيلاء وإن كان مريضا [لأنه إنما ينظر إلى حاله يوم يوقف على أن يفيء أو
يطلق بخلاف المعترض على العلة؛ لأن الأجل إنما يضرب ليعالج في طوله الإلمام
بأهله، ومن كان مريضا لا يمكنه معالجة ذلك. وقوله حتى رئي أنه مضار بها
ظاهره أنه لا يضرب عليه أجل الإيلاء حتى يتبين أنه قصد بترك وطئها الإضرار
بها، ومثله لغير ابن القاسم في كتاب الإيلاء من المدونة، ولابن القاسم في
كتاب الظهار منها، وظاهر الروايات في غيرها من المواضع خلاف ذلك.
وقوله: فإن انقضى الأجل وهو مريض عذر؛ لأنه لا يقدر على النكاح وهو مريض
صحيح؛ لأن فيئته إذا حلف بالطلاق ليفعلن فعلا إنما هو لفعل ما حلف ليفعلنه،
فإذا كان مما لا يقدر على فعله وهو مريض أخر حتى يصح ويقدر عليه وبالله
التوفيق.
[السلطان يطلق على الرجل في الإيلاء ثلاثا خطأ
وجهلا بالأمر]
من سماع محمد بن خالد
قال محمد بن خالد: سألت ابن القاسم عن السلطان يطلق
(6/389)
على الرجل في الإيلاء ثلاثا خطأ وجهلا
بالأمر، أيلزم ذلك المولي؟
قال: لا يلزمه ذلك.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال، إذ لم يقل أحد من أهل العلم إن الطلاق على
المولي ثلاث، وإذا أخطأ الحاكم خطأ لم يختلف فيه، وجب نقضه ويلزم من
الثلاثة التي طلق عليه واحدة، وتبطل اثنتان، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال لامرأته أنت طالق قبل قدوم فلان
بشهر]
مسألة من نوازل سئل عنها سحنون بن سعيد
سئل سحنون عمن قال لامرأته: أنت طالق قبل قدوم فلان بشهر.
قال: يوقف عنها ويضرب له أجل الإيلاء إن شاءت المرأة وطالبته بذلك.
قال محمد بن رشد: قد روى عيسى عن ابن القاسم أنها طالق مكانها، وهو أظهر من
قول سحنون؛ لأن الطلاق قد لزمه فيما يتيقن إلا أنا لا ندري هل وقع بعد أو
لم يقع. واختلف في الذي يشك في طلاق امرأته هل يقضى عليه بذلك أم لا؟ وهذا
أشد منه، ووجه قول سحنون أنه لما لم يدر هل وقع عليه الطلاق بعد أو لم يقع
لم يجز له أن يطأ حتى يعلم ذلك، ولما لم يجز له الوطء ليمين عقدها على نفسه
كان لامرأته أن تطالبه بحقها في الوطء، فيضرب له أجل الإيلاء، كمن حلف
بالطلاق ليفعلن فعلا. فإن ضرب له أجل الإيلاء وانقضي الأجل قبل أن يأتي
فلان طلق عليه بالإيلاء، فإن أتى فلان بعد انقضاء عدتها بأكثر من شهر لم
يقع عليه غير الطلقة التي
(6/390)
طلقت بالإيلاء أو بعد أن طلق عليه به. وإن
قدم قبل شهر من يوم طلق عليه بالإيلاء أو من يوم انقضت عدتها لزمته طلقة
ثانية بما انكشف من أنه قد كانت وقعت عليها طلقة قبل أن يطلق عليه بالإيلاء
أو بعد أن طلق عليه به قبل انقضاء عدتها. فإن طلق عليه بالإيلاء فارتجع ولم
يأت لم يصح له الوطء، فإن لم يأت حتى انقضت عدتها بطلت رجعته إذا لم يطأ في
العدة، وإن قدم فلان قبل أن ينقضي أجل الإيلاء لزمته طلقة ثانية وبطل
الإيلاء، وكانت عدتها من هذه الطلقة من يوم وقعت عليها قبل قدوم فلان بشهر،
إلا أن يكون وطئها قبل ذلك، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال آخر امرأة أتزوجها فهي طالق فتزوج
امرأة]
مسألة وعمن قال: آخر امرأة أتزوجها فهي طالق فتزوج امرأة، قال: يوقف عن
وطئها خوفا ألا يتزوج غيرها حتى يموت؛ لأنه إذا مات كانت آخر امرأة تزوجها
فلزمه الحنث يوم تزوجها، فيكون قد وطأها بعدما حنث فيها فيوقف عن الوطء حتى
يتزوج غيرها. فإذا تزوج غيرها قيل له: طأ الأولى لأن يمينك والحنث قد زال
عنك. فإن لم يتزوج وأرادت الأولى الوطء وقالت: هو هذا يقدر على أن يطأ بأن
يتزوج أخرى فيجوز له الوطء، فترك ذلك ضررا فإنه يضرب له الحاكم أجل
الإيلاء، فإن تزوج قبل تمام الأجل سقطت اليمين عنه، وإن لم يتزوج حتى يمضي
الأجل طلق عليه إلا أن يتزوج قبل طلاق السلطان وحكمه. وكذلك الحكم في
الثانية حتى يتزوج رابعة، وكذلك الحكم في الرابعة يضرب له فيها أجل الإيلاء
إلا أن يموت بعض من عنده أو يطلق فيتزوج، فقس على هذا تصب إن شاء الله.
قال محمد بن رشد: في المجموعة نحوه، وقال: فإن تزوج امرأة فماتت أوقف
ميراثه منها حتى يتزوج ثانية فيأخذه أو يموت قبل أن يتزوج
(6/391)
فيرد إلى ورثتها. وإذا طلق عليه بالإيلاء
فلا رجعة له لأنه لم يبن بها. قال ابن أبي زيد: ولو وقف عن الأولى فمات قبل
أن يبني بها لم يجب له إلا نصف الصداق ولا ميراث له منها ولا عدة عليها
للوفاة. ولابن القاسم في رسم العرية من سماع عيسى من كتاب الأيمان بالطلاق
من المدونة في الذي يقول لامرأته إنه يتزوج ما شاء ولا شيء عليه؛ لأنه مثل
من حرم على نفسه جميع النساء؛ لأنه كلما تزوج امرأة فرق بينه وبينها لأنه
لعله تلك امرأة آخر امرأة يتزوجها ولا تستقر معه أبدا امرأة ولا شيء عليه.
وقوله: على قياس روايته عن مالك في المدونة في الذي يقول لامرأته إن لم
تكوني حاملا أو إن كنت حاملا فأنت طالق إنها طالق ساعة تكلم بذلك، إذ لا
يدرى إن كانت حاملا أم لا، ولا يستأنى بها حتى يعلم ذلك، فكذلك هذه المسألة
لما كانت يمين الحالف فيها توجب تعجيل طلاق امرأة ليزوجها، إذ لا يدرى
أكانت آخر امرأة يتزوجها أم لا، ويستأنى بها حتى يعلم ذلك، وجب ألا يلزمه
شيء من أجل العموم. وقول سحنون فيها على قياس قوله في مسألة مالك إنه
يستأنى حتى يعلم أنه حمل أم لا، فإن ماتت قبل أن يتبين إن كان بها حمل أم
لا لم يرثها من أجل شكه في طلاقه، وإن مات هو استؤني بها حتى يعلم إن كانت
حاملا أم لا فترثه أو لا ترثه. وكذلك يأتي في هذه المسألة على قياس قوله
فيها وفي مسألة مالك إن تزوج امرأة فماتت أن يوقف ميراثه منها حتى يتزوج
ثانية فيأخذه أو يموت قبل أن يتزوج فيرد إلى ورثتها، وقد قاله ابن الماجشون
في المجموعة.
فإن مات هو قبل أن يبني بها فليس لها إلا نصف الصداق ولا ميراث لها منه ولا
عدة عليها للوفاة، قاله ابن أبي زيد على قياس قول ابن الماجشون وسحنون. وقد
اعترض ابن دحون قول سحنون هذا بأنه قال: إذا وقف عن وطء الأولى ثم تزوج لم
يكن له أن يطأ الأولى حتى يطأ الثانية؛ لأنه بمنزلة من قال: أنت طالق إن لم
أتزوج عليك، فبالوطء بعد النكاح يبر، وليس له وطء الثانية لأنا لا ندري
لعلها آخر امرأة يتزوجها فهو ممنوع من وطء الأولى حتى يطأ الثانية وممنوع
من وطء الثانية حتى يطأ الثالثة، وكذلك الحكم في الرابعة والثالثة فلا يتم
له وطء البتة، وهو اعتراض غير صحيح وهن فيه الشيخ - رَحِمَهُ اللَّهُ - على
رسوخ علمه وثاقب فهمه، وليس أحد بمعصوم من
(6/392)
الخطأ إلا من عصمه الله؛ لأن المسألة ليست
بمنزلة من قال: أنت طالق إن لم أتزوج عليك كما قال، فلا يبر إلا بالدخول،
وإنما هو بمنزلة من قال: إن تزوجت عليك فهي طالق إن لم أتزوج عليك؛ لأنه لم
يطلق إلا الثانية لا الأولى، فوجب أن يطلق بأقل ما يقع عليه اسم زواج، وهو
العقد على ما قالوا بأن الحنث يدخل بأقل الوجوه، والبر، لا يكون إلا بأكمل
الوجوه وبالله التوفيق.
[مسألة: جعل أمر امرأته بيد رجل غائب]
مسألة وسئل عن رجل جعل أمر امرأته بيد رجل غائب.
قال: يعزل عن امرأته ولا يطأ فإن رفعت امرأته أمرها إلى السلطان ضرب له أجل
المولى، فإن حل الأجل ولم يختبر ما عند الرجل الذي جعل أمر امرأته بيده طلق
عليه السلطان، فإن ارتجع فذلك له، فإن علم أن الرجل أبى أن يطلق امرأته
كانت رجعة ثابتة، وإن طلق عليه كانت طلقة أخرى وقعت عليه؛ لأنه كأنه أردف
طلاقا على طلاق أيضا في ذلك الرجعة إن أحب ذلك ولم يجتزئ برجعة الأولى الذي
طلق عليه الذي ملكه أمرها، وإن انقضت عدتها من طلاق الإيلاء قبل أن يعلم ما
صنع الرجل المملك في أمرها فقد بانت منه وتكون أملك بنفسها.
قال محمد بن رشد: قد روي عن مالك مثل قول سحنون هذا، وحكاه ابن المواز عن
ابن القاسم، والمعنى فيه بين، وإنما قال: إنه يعزل عن امرأته ولا يطأ من
أجل أنه لا يجوز له أن يطأ امرأة قد جعل طلاقها بيد غيره حتى يعلم ما عنده،
فيطلق أو يرد، ولما كان الامتناع من الوطء بسببه دخل عليه الإيلاء إن طلبت
المرأة المسيس، وفيئته في هذا الإيلاء هي أن يعلم ما عند الرجل فيطلق أو
يرد، لا يسقط عنه الإيلاء ولا تصح له الرجعة إذا طلق عليه به إلا بذلك، فإن
طلق عليه بالإيلاء فارتجع ولم يعلم ما صنع الرجل المملك في أمرها حتى انقضت
العدة بانت منه، كما لو لم يرتجع، وإن أبى أن يطلق
(6/393)
عليه وهو في العدة صحت رجعته وكانت كرجعة
غير المولى، وإن طلق عليه كانت طلقة ثانية وارتجع إن شاء كما يرتجع غير
المولي، رجعة تصح له بالقول دون اعتبار وطء أو فيئة، إذ قد سقط حكم
الإيلاء.
وقد حكى ابن المواز عن ابن القاسم أيضا أن الأمر يرجع إليها في البعيد
الغيبة، ولم يأخذ به لأنه بعيد أن يرجع بيدها ما جعل الزوج بيد غيرها
[وإنما يرجع بيدها لا بيد غيرها] إذا كانت هي مملكة على ما مضى في رسم يوصي
من كتاب التخيير والتمليك والله الموفق.
[المولي إذا ضرب له أجل المولي ففقد عند الأجل
أو جن جنونا مطبقا]
من نوازل سئل عنها أصبغ
وسئل أصبغ عن المولي إذا ضرب له أجل المولي ففقد عند الأجل، أو جن جنونا
مطبقا، أو أراد أن يسافر قبل الأجل سفرا بعيدا لا يرجع منه للأجل.
فقال: أما المفقود الذي قد استخبر عن خبره وطلب حتى بلغ ما يبلغ من المفقود
الذي يجوز أن يضرب لامرأته أجل فإن الإيلاء عندي منفسخ، ويرجع إلى أجل
المفقود، ولا يطلق عليه إلا بالإيلاء فإنا نخشى أن يكون في حين الطلاق عليه
ميتا، فلا يطلق على ميت، والإيلاء لا يجب الطلاق فيه إلا بالتوقيف، فقد
انقطع التوقيف في هذه الغيبة.
وأما المجنون المطبق فإن السلطان يوكل عليه من يكون ناظرا له في أمره، فإن
رأى له ألا يفيء وأن يطلق عليه فعل، ولزمه ذلك، وإن رأى أن يفيء عنه أن
يكفر عنه إن كانت
(6/394)
يمينه تمنعه من الوطء أو يعتق عنه إن كانت
يمينه بعتق رقبة فعل ذلك، وأقره مع امرأته، وجاز عليه جميع ما فعل.
قلت: إن كانت يمينه والله لا أطأك فوطأها في جنونه هذا، أترى ذلك وطأ فيه؟
قال: نعم يفيء بذلك، ويكفر وليه يمينه إن كان حلفه في صحته ويخلي بينه وبين
وطئها في جنونه إلا أن يكون مؤذيا فيمنع منها.
قلت: فلو كانت يمينه أن قال: أنت طالق إن وطئتك إلا في بلد كذا وكذا أو حتى
أغزو فقال وليه: أنا ألزمه هذه الطلقة ويطأ امرأته ويترك معها، أو قال: أنا
أسافر به إلى البلدة أو أغزو به ثم أرده فيطأ ولا يطلق عليه؟
قال: إن رأى ذلك خيرا له فعل، وجاز عليه.
قلت: ويحنث المجنون في يمين حلفها في الصحة بوطء يطأه في جنونه؟
قال: نعم لأني أعد وطئه وطأ.
قلت: ولم لا يسقط عنه الإيلاء لما حل به من جنونه ويعذر به؟
فقال: بل ألزمه الحنث في يمينه فيكفر عنه ولا أعذره في تركه المسيس لأن
الوطء فيه قائم، وإنما العذر بغيره ليس به ولا بذهابه، ألا ترى أن المسجون
إذا حلف ألا يطأ لا يعذر بأن يقول:
(6/395)
أطأ إذا خرجت من السجن حتى يحنث نفسه
الساعة بأن يكفر فيخرج من الإيلاء ويعذر في ترك الوطء بالسجن، فهذا مثله
وهو يبينه إن شاء الله.
وأما المسافر الذي يريد سفرا بعيدا فيقال له أقم مكانك أو وكل وكيلا إذا حل
الأجل يفيء لك أو يطلق عليه، فإذا حل الأجل فقال الوكيل: أنا أفي عنه، قيل
له: إن فيئتك أن تكفر عنه الساعة، ويكون معذورا في ترك المسيس، بمنزلة
المسجون إذا قال: أنا أفئ لم يكن ذلك له إلا أن يصدق فيئته بالكفارة.
وسئل (ابن القاسم) عن المولي يريد سفرا قبل الأربعة الأشهر بيومين أو
ثلاثة، هل يمنع من الخروج حتى يوقف؟
قال: أرى أن طلبت امرأته ذلك ورفعته إلى السلطان رأيت للسلطان أن يتقدم
إليه لئلا يبرح حتى يبلغ الكتاب أجله فيوقف فيفيء أو يطلق، فإن أبى أعلمه
أنه مطلق عليه إن خرج، فإن خرج رأيت إن رفعت امرأته أمرها أن يطلق عليه ولا
يستأنى، وإن لم ترفع أمرها حتى خرج لم أر أن يطلق عليه حتى يكتب إلى الموضع
الذي هو به، فأما وفى وإما طلق عليه، وقال ابن كنانة: إذا كان مقرا
بالإيلاء غير منكر له ولا متكلم فيه، فليس عليه أن يحبس عن سفره، فإذا حل
عليه أجل طلق الإمام، وإن كان منكرا له والمرأة تدعى ذلك رأيت أن يحبس حتى
ينافذها.
قال محمد بن رشد: قول أصبغ إن المولى إذا فقد عند أجل الإيلاء أن الإيلاء
ينفسخ ولا يطلق عليه به، ويرجع إلى أجل المفقود صحيح على أصل ابن القاسم
ومذهبه في أن المولى إذا حل عليه أجل الإيلاء وهو غائب يعذر بمغيبة ولا
يطلق عليه حتى يكتب إليه في موضعه الذي هو فيه فتوقف على الفيئة أو الطلاق،
فإذا اتصل مغيبة حتى لم يعلم
(6/396)
مغيبه وغاب أثره وجب أن يرجع في أمره إلى
حكم المفقود، وأما على مذهب ابن الماجشون الذي لا يعذره بالمغيب فإنه يطلق
عليه إذا انقضى الأجل علم موضعه أو لم يعلم، قربت غيبته أو بعدت كان مفقودا
أو غير مفقود؛ لأن حكم الإيلاء قد لزمه عنده، فلا يزاد فيه أكثر مما فرضه
الله تعالى.
وأما قوله في الذي جن جنونا مطبقا عند الأجل إن السلطان يوكل عليه من يكون
ناظرا له في أمره، فإن رأى له ألا يفيء وأن يطلق عليه فعل ولزمه ذلك، وإن
رأى أن يفيء عنه فيكفر عنه إن كانت يمينه بعتق رقبة فعل، وأقر مع امرأته،
وجاز عليه جميع ما فعل، ففي ذلك من قوله نظر إذ إنما يصح للوكيل أن يفيء
عنه فيكفر عنه إذا كانت يمينه بعتق عبد بعينه أو صدقة شيء بعينه أو طلاق
امرأة له أخرى وما أشبه ذلك؛ لأن الوكيل إذا أعتق ذلك العبد أو تصدق بذلك
الشيء أو طلق تلك المرأة سقطت اليمين عنه وارتفع الإيلاء كما لو مات ذلك
العبد أو ماتت تلك المرأة أو ملك ذلك الشيء الذي حلف بصدقته.
وأما إن كانت يمينه بمشي أو صيام أو صدقة شيء في ذمته ليس بعينه وما أشبه
ذلك فلا يصح له أن يفيء عنه بشيء من ذلك؛ لأنه هو لو مشى عن نفسه أو صام أو
تصدق عن يمينه قبل أن يحنث لم ينتفع بذلك، ولا انحلت به عنه اليمين، وكان
عليه إن حنث أن يمشي مرة أخرى أو يصوم أو يتصدق، فالوكيل بمنزلة، بل هو
أضعف مرتبة وحالا، إذ لا يصوم أحد عن أحد، ولا يمشي أحد عن أحد، ولو تصدق
الوكيل عنه ليحل اليمين عنه لوجب عليه الضمان إذ أتلف عليه ماله فيما لا
منفعة فيه، وكذلك إن كانت يمينه بالله فكفر عنه لا ينتفع بذلك ولا تنحل به
عن اليمين؛ لأن الكفارة لا تكون إلا بنية، فلا يصح أن يكفر عنه بغير إذنه
إلا على قياس أحد قولي ابن القاسم فيمن أعتق عبدا من عبيده عن رجل عن ظهاره
بغير إذنه فرضي لما بلغه أن ذلك يجزيه، وهو قول ضعيف خارج عن الأصول،
(6/397)
والقول الآخر هو الصواب أن ذلك لا يجزيه،
وهذا كله على مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك، وهو المشهور في المذهب،
وأما على مذهب ابن الماجشون فلا يوكل عليه من يفيء عنه إذ لا يؤمر وليه أن
يكفر عنه على حال، كما لا يؤمر هو أن يكفر عن نفسه إذا كان مريضا؛ لأن
فيئته عنده إنما هي الجماع لا غير.
وأما قوله: إذا كانت يمينه بالله فوطأها في جنونه أنه إن وطأها فيه لحنث
به، ويكفر عنه وليه يمينه إن كان حلفه في حال صحته، فهو قول ضعيف؛ لأن فعله
في حال الجنون كلا فعل، فإذا وطأ في حال جنونه وجب ألا يحنث بذلك ولا يجب
عليه به عليه الكفارة، لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «رفع القلم عن
ثلاث فذكر فيهم المجنون حتى يفيق» ، ويكون ذلك مسقطا لحق زوجته في توقيفه
حتى يمر به أربعة أشهر من يوم وطئها؛ لأنها قد نالت بوطئه إياها في جنونه
ما ينال بوطئه إياها في صحته، وما تمادى به الجنون فلا توقيف فيه بحال.
ووجه قوله أنه رأى أنه لا يطأ إلا ومعه بقية من عقله فأشبه السكران عنده
على مذهب من يرى أنه يلزمه الأفعال ولا يلزمه الأقوال.
وأما قوله: قلت: فلو كانت يمينه أن قال: أنت طالق إلا إن وطئتك إلا في بلد
كذا وكذا أو حتى أغزو فقال وليه: أنا ألزمه هذه الطلقة ويطأ امرأته ويترك
معها أو قال: أنا أسافر به إلى البلدة أو أغزو به ثم أرده فيطأ ولا يطلق
عليه فقال: إن رأى ذلك خيرا له فعل، وجاز عليه، فلا يستقيم إذ لا منفعة له
في إلزامه الطلقة في هذا؛ لأنها يمين هو فيها على بر، ولا اختلاف في أن من
قال: امرأتي طالق إن فعلت كذا لا منفعة له في أن يقدم الطلاق قبل الحنث؛
لأن الطلاق يلزمه ثانية إن فعل ذلك الفعل وامرأته تحته على شيء من بقية
طلاق ذلك المملك، وكذلك غزوه وسفره به لا منفعة له فيه إذ لم يسافر هو ولا
غزا باختياره إلا أنه على أصله في تحنيثه بوطئه، وقد ذكرنا وجه قوله في
ذلك.
وأما قوله بعد ذلك: إن الإيلاء لا يسقط عنه لما حل به من جنونه ولا
(6/398)
يعذر في تركه المسيس لأن الوطء فيه قائم
فمعناه أنه لا يسقط حق المرأة في ذلك ويكون لها القيام عليه في ذلك، فينزل
وليه منزلته فيما يؤمر به من الكفارة.
وأما قوله: لأن الوطء فيه قائم، معناه لأن الوطء منه ممكن إن صح من جنونه،
ويدل على هذا التأويل تنظيره إياه بالمولى يحل أجل إيلائه وهو مسجون أنه لا
يعذر بأن يقول: أطأ إذا خرجت حتى يحنث نفسه الساعة بأن يكفر، وفي هذا في
المدونة قولان إذا كانت يمينه بالله، وقد مضى هذا المعنى في أول سماع ابن
القاسم وفي رسم الصلاة من سماع يحيى وغير ذلك من المواضع.
وأما قوله في الذي يريد سفرا بعيدا إنه يقول له: أقم مكانك أو وكل وكيلا
إذا حل الأجل يفيء لك أو يطلق عليك ففيه نظر إذ لا يصح للوكيل أن يفيء عنه
إلا بالعتق بعينيه والصدقة بشيء بعينيه وما أشبه ذلك حسبما تقدم في أول
المسألة، وهو خلاف قول ابن القاسم لأنه لا يرى في ذلك وكيلا يؤمر له، وإنما
يقال له: إما أن تقيم وإما أن تخرج فيطلق عليه إن لم يقدم للأجل، وإن خرج
ولم يتقدم إليه لم يطلق عليه حتى يكتب إليه هذا مذهب ابن القاسم، وابن
كنانة يرى أن يطلق عليه إذا حل الإيلاء وهو غائب وإن لم يتقدم إليه، ولا
يلزمه عنده أن يتقدم إليه ولا يحبس عن سفره، وهو مذهب ابن الماجشون.
وأما إذا كان منكرا للإيلاء والمرأة تدعيه فلا اختلاف في أنه يحبس عن سفره
حتى ينابذها في ذلك كما قال ابن كنانة والله أعلم.
[مسألة: يحلف لامرأته ألا يطأها إلا أن تطلب
إليه ذلك فتأبى المرأة أن تطلب ذلك إليه]
مسألة وسئل سحنون عن الرجل يحلف لامرأته ألا يطأها إلا أن
(6/399)
تطلب إليه ذلك فتأبى المرأة أن تطلب ذلك
إليه، فيكون موليا.
قال سحنون: الحق لها فليس عليه الإيلاء ما لم تطلبه وإن أقام أكثر من أربعة
أشهر.
قال محمد بن رشد: في كتاب ابن سحنون، قلت له: قد قيل: إنه مولى ولا يكون
قيامها به سؤالا حتى تسأله، فعابه وقال: منع الوطء بسببها، وهو قول له وجه؛
لأنه متعدي في حلفه ألا يطأها حتى تسأله ذلك؛ لأن المرأة تستحي أن تفصح
بطلب ذلك، وقد تزوجته على ذلك فلا ينبغي أن تلزم المشقة بالإفصاح بطلبه وقد
قال الله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ
أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [البقرة: 226] فعم ولم يخص.
وأما من قال: إن وطئتك فأنت طالق إلا أن تأتيني فهو مولى إذ ليس عليها أن
تأتيه روي ذلك عن مالك، وهو صحيح، والحجة في ذلك أن رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يأتي أزواجه في بيوتهن وبالله التوفيق.
[يقول لامرأته إن وطئتك أبدا فكل عبد اشتريته
بمصر أنه حر]
من سماع أبي زيد من ابن القاسم قال ابن أبي زيد: وسئل عن الرجل يقول
لامرأته: إن وطئتك أبدا فكل عبد اشتريته بمصر أنه حر أنه ليس بمولي.
قال محمد بن رشد: قد قال ابن القاسم: إنه مولي، والقولان في المدونة في هذه
المسألة وفي ما كان من معناها لا يلزم الحالف بالحنث فيه شيء، وإنما ينعقد
عليه فيه حكمه مثل أن يحلف ألا يطأ امرأته في السنة إلا مرة أو ألا يطأ
إحدى امرأتيه ولا نية له، أو يقول: إن وطئت امرأتي فهي علي كظهر أمي، أو إن
وطئتها فوالله لا أطؤها على مذهب من يقول
(6/400)
في الحالف بالطلاق ثلاثا ألا يطأ، أنه يمكن
من الوطء وما أشبه ذلك من المسائل، وبالله التوفيق.
[مسألة: تحته أمتان فتآلا منهما ثم اشترى
إحداهما]
مسألة قال ابن القاسم في رجل تحته أمتان فتآلا منهما ثم اشترى إحداهما،
فقال: يقع عليه إيلاء التي اشترى.
قال محمد بن رشد: قوله يقع عليه إيلاء التي اشترى، معناه يقع عنه أي يسقط
عنه إذ لا حق للأمة من ملك اليمين في الوطء على سيدها فيلزمه الإيلاء فيها،
ويدل على أن الإيلاء لا يكون إلا في الزوجات أيضا قول الله عز وجل: {وَإِنْ
عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 227] .
تم كتاب الإيلاء بحمد الله وعونه، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه.
(6/401)
|