البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة

 [كتاب السلم والآجال الأول] [رجل وكل على بيع طعام لغيره فجاءه رجل قد كان البائع يسأله طعاما سلفه فيه]

(7/67)


من سماع ابن القاسم من كتاب الرطب باليابس
قال سحنون: أخبرني ابن القاسم عن مالك أنه قال في رجل وكل على بيع طعام لغيره، فجاءه رجل قد كان البائع يسأله طعاما سلفه فيه، فقال له: بعني من هذا الطعام بنقد أو إلى أجل لأقضيك، أو أرسل رسولا، فاشترى له منه، ثم جاءه فقضاه، فقال: أما قوله بعني أقضيك فلا خير فيه، وأما إن بعث رسولا فاشترى له، والمقتضي لا يعلم فلا بأس به، ولكني أكرهه للذي يقضي، قال ابن القاسم: سمعته منه فيما أعلم.
قال محمد بن رشد: إنما قال لا خير في أن يبيع الوكيل الطعام الذي وكل على بيعه ممن له عليه طعام من سلم، على أن يقضيه إياه، يريد لا بمثل الثمن ولا بأقل ولا بأكثر، نقدا ولا إلى أجل؛ لأنه إذا باعه الطعام على أن يقضيه إياه فقضاه، فكان قضاؤه إياه بيعا له قبل استيفائه بما شرط

(7/69)


على نفسه من قضائه قبل أن يشتريه، إذ لا يجوز لمن عليه طعام من سلم أن يقضيه من طعام اشتراه قبل أن يستوفيه، هذا إذا أجاز صاحب الطعام للوكيل أن يبيعه ممن له عليه طعام على أن يقضيه إياه؛ لأن من حقه أن لا يجيز ذلك؛ لأنه يقول: سامحه في البيع ليقضيه إياه، فالحكم في ذلك إذا أجاز البيع أن يجوز البيع ويفسخ الشرط؛ لأنه شرط فاسد لا تأثير له في الثمن، فوجب أن يفسخ، ويجوز البيع كما قالوا فيمن باع ثمرة واشترط البراءة من الجائحة على حديث بريرة في قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فيه: «من اشترط شرطا ليس في كتاب الله، فهو باطل وإن كان مائة شرط ... » الحديث. فلا يحكم عليه أن يقضيه إياه بالشرط، ولا يجوز له هو أن يتعجل ذلك وإن اكتاله؛ لأن اكتياله لغو لا معنى له من أجل الشرط، وإن قضاه رد إليه واتبعه بطعامه على وجهه، ولو كان الطعام الذي للوكيل عليه من قرض، لجاز البيع والشرط لأنه جائز، فوجب أن يجوز على حديث جابر.
وأما إذا لم يجز صاحب الطعام البيع، فالحكم في ذلك أن يأخذ طعامه إن أدركه بعينه بيد المشتري أو يد الوكيل بعد إن رده إليه، ويفسخ البيع ويطلب الوكيل المبتاع بطعامه الذي له عليه؛ وإن لم يدرك طعامه بعينه وكان قد فات في يد الوكيل، رجع على الوكيل بمثله ونفذ البيع بين الوكيل والمشتري، يأخذ منه لنفسه الثمن الذي باعه به منه وفسخ القضاء في الطعام، فرد إليه مثله واتبعه بطعامه الذي كان له عليه؛ لأنه إن ترك الوكيل على ما كان قضاه إياه، دخل ذلك بيع الطعام قبل أن يستوفى؛ لأنا

(7/70)


إن ألغينا بيع الوكيل للطعام من أجل أنه قد رجع إليه طعامه بما اشترط، كان الوكيل قد باع الطعام الذي كان له على المشتري بالثمن الذي أخذ منه في الطعام، وإن لم يلغه كان المبتاع قد قضى الطعام الذي ابتاع في الطعام الذي كان عليه من السلم قبل أن يستوفيه بما شرط على نفسه من أن يقضيه إياه؛ وأما إذا باعه من رسول لم يعلم أنه اشترى للذي كان له عليه الطعام، فجائز له أن يقضيه منه كما قال، ولا حجة لصاحب الطعام في ذلك، وإنما كره ذلك للذي يقضي مخافة أن يكون المقتضي قد علم أن الرسول له، ولو تحقق أنه لم يعلم أن الشراء له لم يكن في ذلك وجه من الكراهة، ولو كان الطعام للبائع فباعه ممن له عليه طعام من قرض على أن يقضيه إياه جاز إن كان ينقد، ولم يجز إن كان إلى أجل؛ لأن الطعام قد رجع إليه فآل الأمر إلى أن أخذ منه في الطعام الذي كان له عليه من القرض الثمن الذي باع به منه الطعام، فإن كان نقدا جاز، وإن كان إلى أجل لم يجز؛ لأنه فسخ الطعام في ذلك الثمن إلى ذلك الأجل، على ما قال بعد هذا في رسم القبلة؛ ولو باعه منه بثمن إلى أجل على غير شرط أن يقضيه إياه ولا رأي ولا عادة ولا رجاء، فلما تم شراؤه قضاه إياه لم يجز أيضا، وفسخ من باب الحكم بالذرائع، لا من أجل أنه حرام عليه فيما بينه وبين خالقه إن صح عمله فيه على غير شرط ولا عادة ولا رجاء، ولو اشتراه له منه رسول بثمن إلى أجل ولم يعلم أنه رسول له، لجاز أن يقتضيه منه، ولكره ذلك للذي يقضي، للوجه الذي ذكرناه في المسألة التي قبل هذه؛ ولو كان الطعام للبائع لم يجز له أن يبيعه ممن له عليه طعام من بيع قبل أن يقضيه إياه إلا بمثل الثمن الذي أسلم إليه في الطعام نقدا؛ لأنه إن كان بأقل أو بأكثر نقدا صار بيع الطعام قبل أن

(7/71)


يستوفى؛ لأن طعامه رجع إليه، فكان لغوا وصار إلى أن أخذ منه فيما كان له عليه من الطعام الثمن الذي باع به منه الطعام وإن كان إلى أجل، دخله مع بيع الطعام قبل أن يستوفي فسخ الدين في الدين، وأما إن كان باعه منه بمثل الثمن الذي أسلم إليه فيه نقدا فهو جائز؛ لأن الأمر آل بينهما فيه إلى الإقالة، ولو باعه منه بثمن إلى أجل، أو بأقل، أو بأكثر من الثمن الذي أسلم له فيه على غير شرط أن يقضيه إياه ولا رأي ولا عادة ولا رجاء رجاه، فلما تم شراؤه قضاه إياه لم يجز أيضا، وفسخ من باب الحكم بالذرائع على ما ذكرناه في مسألة السلف؛ ولو اشتراه له منه رسول لم يعلم أنه له رسول، لجاز أن يقضيه منه؛ وإن كان اشتراه منه بثمن إلى أجل أو نقدا بأقل أو بأكثر من الثمن الذي كان أسلم إليه فيه على ما ذكرناه في مسألة السلف أيضا، وستأتي هذه المسألة في رسم إن أمكنتني من سماع عيسى، وإنما ذكرتها هاهنا لتعلقها بهذه المسألة ومشابهتها لها.

[مسألة: اشترى طعاما إلى أجل ونقد ثمنه]
مسألة وقال مالك في رجل اشترى طعاما إلى أجل ونقد ثمنه، ثم إنه تصدق به على رجل آخر أو وهبه له، أو قضاه إياه من طعام كان تسلفه منه أو أسلفه رجلا جاء يستسلفه طعاما وذلك قبل أن يستوفيه المشتري، فأراد بعض من صار إليه الطعام على بعض هذه الوجوه أن يبيعه قبل أن يقبضه. قال: ما أحب أن

(7/72)


يباع ذلك الطعام قبل أن يستوفى.
قال محمد بن رشد: من صار إليه الطعام المشترى بأي وجه كان من هبة أو صدقة أو قرض أو اقتضاء من قراض أو ميراث يحل محل المشتري الذي صار إليه الطعام من قبله في أنه لا يجوز (له) بيعه قبل استيفائه على معنى ما في المدونة وغيرها، وحكى ابن حبيب في الواضحة عن مالك أنه خفف ذلك في الهبة والصدقة، وقد وقع لأشهب في كتاب ابن المواز أن للرجل بيع ما وهب له أو تصدق به عليه أو ورثه من الطعام قبل قبضه، وقاله عمر بن عبد العزيز في الميراث، ومعنى ذلك عندي فيما وهب له أو تصدق به عليه أو ورثه من الطعام الذي كان للموروث أن يبيعه قبل قبضه؛ وأما من اشترى طعاما فمات عنه قبل أن يقبضه، فلا اختلاف في أن الوارث يحل محله في أنه لا يجوز له بيعه قبل قبضه، وكذلك من أقرضه أو اقتضاه من قرض كان له، ويحتمل أن يدخل ذلك من الاختلاف ما دخل فيمن وهب له أو تصدق به عليه على ما حكاه ابن حبيب عن مالك.

[مسألة: الشاة اللبون باللبن إلى أجل]
مسألة قال ابن القاسم: وسمعت مالكا قال: لا خير في الشاة اللبون باللبن إلى أجل أيهما عجل أو أخر صاحبه، وأما الطعام غير اللبن إلى أجل، فلا بأس به. قال سحنون: الذي عرفناه من قوله وقاله لي ابن القاسم غير مرة، أن اللبن بالشاة اللبون إلى أجل لا بأس به، وهو عندي أحسن. وأما قوله الشاة اللبون باللبن

(7/73)


إلى أجل فذلك الذي لم يشك فيه قط، ولم يختلف علينا فيه قوله إنه حرام لا يجوز، وقال أصبغ مثله.
قال محمد بن رشد: الأصل في هذه المسألة ما ثبت من «نهي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن المزابنة» ، والمزابنة مأخوذة من الزبن وهو الدفع، فمعنى المزابنة المغاررة، وهو أن يغار كل واحد من المتبايعين صاحبه في المعنى الذي غارره فيه؛ وهي تنقسم على قسمين: أحدهما: أن تكون في صنف واحد، والثاني: أن تكون في صنفين. فأما الصنف الواحد فالمزابنة تدخل فيه، كان بالنقد أو إلى أجل، وذلك مثل أن يبيع منه جزافا بجزاف أو جزافا بمكيل، فهذا لا يجوز نقدا ولا إلى أجل؛ وأما الصنفان فإن المزابنة لا تدخله إلا في النسيئة، وذلك على وجهين: أحدهما: أن يبيع منه شيئا بما يحول فيه عينه إلى أجل، والثاني: أن يبيع منه شيئا بما يتولد عنه مع بقاء عينه إلى أجل؛ فأما إذا باع منه شيئا بما تحول فيه عينه إلى أجل، فلا اختلاف في أن ذلك لا يجوز، وذلك مثل أن يبيع منه صوفا بثياب صوف إلى أجل أو كتانا بثياب كتان إلى أجل، أو شعيرا بقصيل إلى أجل يمكن أن يكون إلى ذلك الأجل من الصوف والكتان ثياب، ومن الشعير قصيل، وما أشبه ذلك.
وأما إذا باع منه شيئا بما يتولد منه مع بقاء عينه إلى أجل، فذلك على وجهين: أحدهما: أن يكون أصل التولد فيه موجودا حال العقد، والثاني: لا يكون فيه وإنما يحدث بعده، فأما إذا كان أصل التولد موجودا فيه مثل أن يبيع منه شاة لبونا بلبن إلى أجل، أو دجاجة بياضة ببيض إلى أجل، وما أشبه ذلك، فهو وجه يتحصل فيه أربعة

(7/74)


أقوال: أحدها: أن ذلك لا يجوز، كانت الشاة هي المؤجلة أو المعجلة، وهو قول مالك هاهنا وظاهر ما في المدونة.
والثاني: أن ذلك جائز، كانت الشاة هي المؤجلة أو المعجلة، وهو قول ابن القاسم في سماع أبي زيد من كتاب جامع البيوع، ووقع ذلك أيضا في رسم حبل حبلة من سماع عيسى من هذا الكتاب: لا بأس بالدجاجة البياضة بالبيض إلى أجل، وهو أظهر الأقوال، بدليل اتفاقهم على إجازة بيع الشاة اللبون باللبن نقدا، وبالطعام نقدا وإلى أجل.
والثالث: أن ذلك جائز إن كانت الشاة هي المؤجلة، وغير جائز إن كانت هي المعجلة؛ وهو قول ابن القاسم هاهنا، واختيار سحنون، وهو مذهب ابن حبيب، وهو ضعيف في الشاة باللبن إلى أجل؛ لأن المزابنة لا تدخله، إذ لا يبقى اللبن إلى أجل دون أن يتغير، فإنما يعطيه عند الأجل من لبن غير تلك الشاة، وإنما يكون لهذه التفرقة وجه في بيع الشاة اللبون بالجبن إلى أجل؛ لأنه يمكن أن يجمع لبن الشاة فيعمل منه جبنا يعطيه إياه عند الأجل.
والرابع: عكس هذه التفرقة أن ذلك جائز إن كان الشاة هي المعجلة، وغير جائز إن كانت هي المؤجلة، وهو قول أشهب؛ ووجهه: إن كانت هي المعجلة، كان اللبن الذي فيها ملغى في حكم التبع لها، لاحتمال أن يكونا لم يقصداه، وإذا كانت هي المؤجلة، علم أنهما قصداه، إذ قد اشترطاه.
وأما إذا لم يكن أصل ذلك الشيء موجودا فيه حين العقد، وإنما يحدث بعده مثل أن يبيع منه شاة لا لبن لها بلبن إلى أجل يكون فيه للشاة لبن، أو

(7/75)


دجاجة لا بيض فيها ببيض إلى أجل يكون فيه للدجاجة بيض، أو ذباب نحل بعسل إلى أجل يكون فيه للذباب عسل، أو نخلا لا تمر فيها بتمر إلى أجل يكون فيه للنخل تمر؛ ففي ذلك قولان:
أحدهما: أن ذلك جائز، وهو قول ابن حبيب في الواضحة في المسائل كلها، وقول ابن القاسم في رسم حبل حبلة من سماع عيسى في الدجاجة التي لا بيض فيها بالبيض إلى أجل، وفي كتاب كراء الدور من المدونة في النخل التي لا تمر فيها بتمر إلى أجل.
والثاني: أن ذلك لا يجوز وهو قول ابن القاسم وروايته عن مالك في رسم نقدها من سماع عيسى من هذا الكتاب، ومن كتاب جامع البيوع. وأما إذا لم يكن للشاة لبن أو للنخل تمر أو للذباب عسل، أو للدجاج بيض إلى ذلك الأجل، فلا اختلاف في أن ذلك جائز.

[مسألة: يشتري الرجل الطعام بثمن إلى أجل ثم يقره عند صاحبه]
مسألة قال مالك: أكره أن يشتري الرجل الطعام بثمن إلى أجل ثم يقره عند صاحبه وإن اكتاله، وإن اشتراه بالنقد لم أر بذلك بأسا، وذلك أني أخاف أن يؤخره حتى يحل الحق فيكون النقد والكيل جميعا. قال سحنون: قال ابن القاسم: يخاف أن يقول: أبيعكه إلى شهر وأضمنه لك إلى شهر، فيكون النقد والكيل جميعا.
قال محمد بن رشد: كره أن يبتاع الرجل الطعام بثمن إلى أجل ثم يقره عند البائع وإن اكتاله، لئلا يكون ذلك ذريعة إلى شرائه بشرط أن يبقى بيد البائع رهنا حتى يحل الأجل فيستوفي الثمن، فإن أقره عنده على غير شرط لم يفسخ البيع، قاله ابن المواز، ومثله في رواية عيسى. وأما إن

(7/76)


وقع البيع على ذلك بشرط فهو فاسد يجب فسخه وإن كان شرط أن يقره عنده بعد أن اكتاله، إذ لا يجوز أن يبيع أحد شيئا من الحيوان والعروض التي لا يجوز أن يتأخر قبضها بثمن إلى أجل على أن يبقى بيده رهنا إلى ذلك الأجل إلا أن يجعله بيد عدل، وقد ذكرنا هذا المعنى في رسم أخذ يشرب خمرا من سماع ابن القاسم من كتاب الأيمان بالطلاق. وأما إن اشترط أن يبقى عنده إلى محل الأجل دون كيل، فالمكروه في ذلك لائح؛ لأنه اشتراه على أن يكون في ضمانه إلى ذلك الأجل، وذلك حرام لا يحل، وبالله التوفيق.

[أقرض رجلا طعاما إلى أجل فلما حل الأجل قال له غريمه بعني طعاما أقضيك]
ومن كتاب القبلة قال ابن القاسم: سمعت مالكا قال في رجل أقرض رجلا طعاما إلى أجل، فلما حل الأجل قال له غريمه: بعني طعاما أقضيك. قال: إن ابتاع منه بنقد فلا بأس به، وإن ابتاع بدين فلا خير فيه. وتفسير ذلك: أنه إذا اشترى منه طعاما بذهب على أن يقضيه مكانه، كأنه إنما اشترى منه ما عليه من الطعام الذي أقرضه بذهب أو ورق نقدا، فليس بذلك بأس أن يبتاع رجل حنطة عليه من قرض بذهب أو ورق أو عرض أو غير ذلك معجل، وأنه إذا ابتاع منه بدين على أن يقضيه، رجع طعامه إليه فصار له عليه ما كان يسأله من الطعام ذهب أو ورق أو عرض أو غير ذلك مؤخرا، فذلك مضارع للربا.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال، ولو كان الطعام من بيع

(7/77)


لم يجز له أن يشتري منه طعاما على أن يقضيه إياه إلا بمثل الثمن الذي أسلم إليه فيه نقدا لا أقل ولا أكثر، قاله في رسم إن أمكنتني من سماع عيسى، وقد مضى بيان هذا كله في التكلم على أول مسألة من هذا السماع.

[مسألة: ذبح شاة ثم سلخها ثم دعا إليها الجزار فقال أسلفك لحم هذه الجزرة وزنا]
مسألة قال ابن القاسم: وسمعت مالكا، قال: من ذبح شاة ثم سلخها، ثم دعا إليها الجزار فقال: خذ مني هذه الجزرة، أسلفك لحمها وزنا على أن تعطيني في كل يوم رطلين أو أقل أو أكثر من ذلك، قال مالك: ما أحب ذلك؛ لأني أراه قد أخذ منه في سلفه زيادة لو أقام اللحم عنده صار يابسا، فأسلفه من ضمنه له غريضا مقطعا، ولو وقع هذا على غير صنعة، لم أر بذلك بأسا. فأما ما يصنعان لذلك وإن لم يشترطه أحدهما فلا أحبه.
قال محمد بن رشد: وقوله ولو وقع هذا على غير صنعة لم أر بذلك بأسا، معناه: ولو فعل ذلك رفقا بالجزار لا لمنفعة يبتغيها لنفسه، ولعله لو باع الجزرة جملة، لأخذ فيها من الثمن ما يشتري به من اللحم المقطع أكثر من زنتها، جاز ولم يكن به بأس. وقد روى ابن أبي جعفر عن أشهب أنه قال: إن كان الجزار هو الذي جاءه فاستسلفه فلا بأس به، ظاهره: وإن كانت له في ذلك منفعة، ومعناه: إذا علم الله من قلبه أنه أسلفه إياها لما رأى من حاجة الجزار إلى ذلك، وأنه كان يفعل ذلك لو سأله ذلك ولا منفعة له فيه، وهذا ما لا ينبغي أن يختلف فيه، إذ لا يقدر على أن يسلفه

(7/78)


إياها ويسقط المنفعة عن نفسه في ذلك، وذلك نحو ما روى زياد عن مالك في الرجل يكون عنده طعام يخشى عليه الفساد فيسالفه الرجل المحتاج إلى أن يسلفه إياه، فإنه أجاز ذلك إذا أسلفه إياه لحاجته من غير شرط ولا عادة، وإنما اختلف في الرجل المحتاج يسأل الرجل أن يسلفه الفدان يكون له من الزرع فيحصده ويدرسه ويعرف كيله فيعطيه إياه على ثلاثة أقوال:
أحدها: أن ذلك جائز إذا كان المتسلف هو الذي طلبه ليتقوت بذلك، ولم يكن صاحب الزرع هو يعرضه ليكتفي بمؤنته، وهو قول ابن حبيب في الواضحة عن مالك وغيره.
والثاني: أن ذلك لا يجوز إلا أن يكون الفدان من الزرع الكثير الذي لا يحط به عنه مئونة، وهو قول مالك في رسم الآجال من المدونة.
والثالث: أن ذلك يكره وإن كان الفدان من الزرع الكثير، إلا أن يكون هو الذي يحصده ويدرسه ويذريه وكذلك يسلفه إياه، روى ذلك زياد عن مالك.

[مسألة: ابتاع طعاما بثمن إلى أجل ثم ندم البائع قبل أن يفترقا]
مسألة وقال مالك: ومن ابتاع طعاما بثمن إلى أجل ثم ندم البائع قبل أن يفترقا، فاستقال بغرم يغرمه للمشتري عن العروض أو العين؛ ويدفع إليه طعامه. قال مالك: لا أرى بذلك بأسا إذا كان المبتاع قد اكتاله، قال ابن القاسم: وسمعت مالكا قال: وإن ندم المبتاع فرد طعامه وزاده عليه طعاما آخر أو عرضا من العروض ولم يكونا تفرقا. قال: إذا اكتال فلا بأس به، وإن تفرقا فلا أحبه إذا كان الثمن إلى أجل.
قال محمد بن رشد: لا يراعى تفرقتهما وغيبة المبتاع على الطعام إلا في زيادة المبتاع، لا في زيادة البائع. فقوله: لا أرى بذلك بأسا إذا

(7/79)


كان المبتاع قد اكتاله، يريد وإن كانا تفرقا على ما نبينه. وتحصيل القول في هذه المسألة أنهما إذا تقايلا قبل اكتيال الطعام، فلا تجوز الزيادة من واحد منهما لصاحبه على حال؛ لأن ذلك بيع الطعام قبل استيفائه، إلا أن يكون المبتاع هو المستقيل بزيادة مثل الثمن إلى ذلك الأجل فيجوز؛ لأنه يصير قد أدى الثمن ووهب الطعام، وإن تقايلا بعد اكتيال الطعام وقبل أن يقبضه المبتاع أو شيئا منه ويغيب عليه؛ وقبل أن يقبض البائع الثمن أيضا، أو شيئا منه ويغيب عليه؛ فالزيادة من كل واحد منهما لصاحبه جائزة، ما لم يكن في نفس الإقالة على الزيادة فساد، فيجوز على هذا أن يستقيل البائع من الطعام على أن يزيد المبتاع ما شاء من العروض والدنانير والدراهم نقدا وإلى أجل؛ لأنه يصير قد اشترى الطعام الذي استقال منه بالثمن الذي كان له على المبتاع، وبالزيادة التي زادها إياه، إلا أن تكون الزيادة من صنف الطعام الذي استقال منه، فلا يجوز على حال، أو من غير صنفه، فيجوز إذا كانت الزيادة نقدا والثمن حالا باتفاق؛ وإن كانت الزيادة نقدا والثمن مؤجلا فعلى قولين منصوص عليهما في الواضحة:
أحدهما: أن ذلك جائز على القول بأن انحلال الذمم بخلاف انعقادها، فلا يراعى في ذلك الأجل؛ لأنهما قد تباريا.
والثاني: أن ذلك لا يجوز على القول بأن انحلال الذمم كانعقادها، فيراعى في ذلك الأجل وإن كانا قد تباريا. ويجوز أن يستقيل المبتاع من الطعام قبل أن يحل أجل الثمن عليه على أن يزيده دنانير إن كان الثمن دنانير أو دراهم، إن كان الثمن دراهم إلى ذلك الأجل؛ لأنه أخذ منه طعامه ببعض الثمن ووفاه بقيته، ولا يجوز ذلك نقدا ولا إلى أبعد من الأجل؛ لأنه يدخله في النقد

(7/80)


ضع وتعجل، وبيع وسلف، وعرض وذهب بذهب إلى الأجل، وفي التأخير إلى أبعد من الأجل بيع وسلف، وذهب وعرض بذهب إلى أجل. ويجوز على أن يزيده ما شاء من العروض والطعام نقدا، ولا يجوز ذلك إلى الأجل ولا إلى أبعد منه؛ لأنه إذا نقده الزيادة فقد اشتراها منه والطعام الذي استقاله منه بالثمن الذي كان له عليه فجاز، وإذا لم ينقده الزيادة فقد فسخ الثمن الذي كان له عليه في الزيادة التي زاده إياها إلى أجل فلم يجز؛ ولا يجوز أن يزيده دنانير إن كان الثمن دراهم، ولا دراهم إن كان الثمن دنانير نقدا ولا إلى أجل، ولا إلى أبعد منه؛ ويجوز أن يستقيل منه إن كان الثمن حالا أو بعد أن يحل عليه على أن يزيده ما شاء من العروض والدنانير والدراهم والطعام من صنف طعامه ومن غير صنفه نقدا، إلا أن تكون الزيادة التي زاده ورقا فلا يجوز، إلا أن يكون أقل من صرف دينار على مذهب ابن القاسم؛ ولا يجوز على أن يزيده شيئا من الأشياء إلى أجل؛ لأنه يدخله فسخ الدين في الدين.
وأما إن كان المبتاع قد قبض الطعام أو بعضه وغاب عليه، فلا تجوز الإقالة في جميعه على أن يزيد المبتاع البائع شيئا من الأشياء؛ لأنه إذا رد الطعام بعد أن غاب عليه وزاده، كان سلفا بزيادة، فيتهمان على أنهما عملا على ذلك، وقصدا إلى استجازته بإظهار البيعة والاستقالة؛ وكذلك إذا كان البائع قد قبض الثمن أو بعضه، فلا تجوز الإقالة بينهما على أن يزيد البائع المبتاع شيئا من الأشياء؛ لأنه إذا رد الثمن الذي قبض بعد أن انتفع به وزاده، كان سلفا بزيادة، فيتهمان على القصد إلى ذلك فلا يجاز لهما ويفسخ عليهما حماية للذرائع على مذهب مالك، وهذا إذا كان البيع إلى أجل، وأما إذا كان البيع نقدا فذلك جائز، إذ لا يتهم في بيوع النقد إلا في أهل العينة على ما يأتي له في رسم كتب عليه ذكر حق من هذا السماع. وهو دليل قوله في هذه المسألة: وإن تفرقا فلا أحبه إذا كان الثمن إلى أجل، وحكم المكيل

(7/81)


والموزون من غير الطعام في هذا كله كحكم الطعام إلا في مراعاة الكيل، إذ يجوز بيعه قبل استيفائه؛ وحكم العروض والحيوان في ذلك كله حكم المكيل والموزون، إلا في مراعاة القيمة عليه إذ يعرف بعينه بعد أن يغاب عليه.

[مسألة: يبتاع أحد دينا على ميت]
مسألة قال ابن القاسم: وسمعت مالكا قال: لا أرى أن يبتاع أحد دينا على ميت، وذلك غرر لا يدري ما يلحق الميت من دين فينتزع منه ما اشترى، وليس اشتراء الدين الذي على الميت والحي سواء؛ لأن الحي قد ضمن ذلك في ماله وذمته، وأن الميت ليس كذلك.
قال محمد بن رشد: هذا قول مالك في موطئه، وهو مما لا اختلاف فيه أعلمه؛ لأن اشتراءه غرر وإن كان على الدين بينة وعرف ما ترك الميت من المال، إذ قد يلحقه من الديون ما يستغرق تركته، فلا يكون له مما اشترى إلا محاصة الغرماء ويبطل الباقي، إذ لا ذمة له يتبعها ببقية دينه؛ وإنما يجوز شراء الدين على الحاضر المقر؛ لأنه إن ثبت عليه دين حاص الغرماء، واتبع ذمته ببقية حق؛ واختلف في شراء الدين عليه إذا كان منكرا، فالمعلوم في المذهب المنصوص عليه في الموطأ وفي غيرما كتاب من المدونة، أن ذلك لا يجوز؛ لأنه ينقد الثمن، إذ لا يجوز إلا ذلك، ولا يدري هل يتم له ما اشترى أو يرجع إليه ماله، فمرة يكون بيعا، ومرة يكون سلفا، وذلك من أعظم الغرر، وتقوم إجازته من إجازة ابن

(7/82)


القاسم بيع الدار التي فيها خصومة على ما وقع في بعض روايات المدونة. وكذلك اختلف أيضا في شراء الدين على الغائب، فالمشهور أن ذلك لا يجوز، إذ لا يدرى أحي هو أم ميت؛ ومقر هو أم منكر؛ وأجاز ذلك ابن القاسم في سماع موسى بن معاوية من كتاب المدبر إذا كانت غيبته قريبة حيث يعرف حاله وملؤه، وقاله أصبغ في نوازله من كتاب جامع البيوع، ورواه ابن أبي زنبر عن مالك؛ (قال:) وذلك إذا كانت للبائع بينة على الحق، وعرفت حياة الذي عليه الدين.

[مسألة: اشترى الميراث الغائب فيه عين وعرض بعرض]
مسألة وقال مالك فيمن اشترى الميراث الغائب فيه عين وعرض بعرض، قال: لا يصلح اشتراء غائب بنقد وإن كان اشتراه على أنه له وجده أو لم يجده، انتقص أو زاد؛ فذلك غرر لا يصلح، وإن اشترط إن لم أجده على هيئته رجعت فأخذت عرضي أو قيمته، فإنه يدخله سلف وبيع ليس بمضمون، وأنه يغرر بأمر إن أدركه أدرك حاجته، وإن أخطأه ذهب عناؤه وأخذ منه عرضه بقيمته؛ ولعله لم يكن يرضى أن يبيعها بأضعاف ذلك، فذلك مكروه.

(7/83)


قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في المدونة من أن النقد في الغائب لا يجوز، كان الذي اشترى به عينا أو عرضا. وقوله إن ذلك لا يصلح، وإن كان اشتراه على كذا، وإن اشترط كذا - معناه: أن ذلك لا يصلح؛ لأنه إن اشتراه على كذا فهو غرر؛ وإن اشتراه على كذا فهو غرر. يقول: إن شراء الميراث الغائب فيه العين والعرض بعرض نقدا، لا يخلو من أحد هذين الوجهين، وكلاهما فاسد فلا يجوز؛ ولو اشتراه على أن يمسك العرض عنده ولا ينقده حتى يدري هل يجد الميراث على ما اشتراه عليه من الصفة لم يجز أيضا؛ لأنه إن مضى إلى موضع الميراث فوجده على ما اشتراه عليه لم يجز له أن يقبضه؛ لأنه يصير المشتري للميراث قد باع العرض الغائب الذي كان ثمنا للميراث بالميراث فانتقده فيصير نقدا في غائب.
والوجه الذي يجوز في ذلك: أن يتواضع العرض بيد أمين ويخرج إلى الميراث، فإن وجده على ما اشتراه، صح له قبضه على ما يأتي في رسم الجواب من سماع عيسى، وفي سماع أصبغ من جامع البيوع؛ وكذلك القول في كل غائب لا يجوز فيه النقد ويشترى بعرض. وأما إذا اشترى الغائب الذي لا يجوز فيه النقد بعين، فهو جائز إذا لم ينقده، ولو كان الميراث الغائب المشترى عينا موضوعا دون غيره، لجاز أن يشتريه بعرض على أن ينقده إذا اشترط أنه ضامن للعين الغائب؛ وقد قيل: إنه إذا اشتراه بعرض ونقده، كان البائع للعين الغائب ضامنا له وإن لم يشترط عليه الضمان؛ والقولان في الرواحل والدواب من المدونة، والقول بأنه ضامن وإن لم يشترط عليه الضمان على قياس القول بأن العين لا يتعين، والقول بجواز اشتراط ضمانه استحسان؛ لأن القياس فيه على القول بأن العين يتعين ألا يجوز اشتراط ضمانه كالعروض التي تتعين.

(7/84)


[حلف ألا يبيع سلعة سماها]
ومن كتاب أوله حلف ألا يبيع سلعة سماها وسئل مالك: عن رجل باع طعاما أو زيتا أو غير ذلك، وهو ممن يعين، فباعه متاعا بثمن إلى أجل، فباعه الذي اشتراه، ثم جاءه بعد ذلك، فقال: إني قد وضعت فيما بعت وضيعة كثيرة، فخفف عني من الثمن الذي بعتني به، فوضع له من ذلك؛ قال: هذا لا خير فيه. فقلت له: فما مكروه ذلك؟ قال: إنه يبيعه حين يبيعه كأنه يقول له كم تربح علي؟ قال: على العشرة اثني عشر، أو أقل أو أكثر، فهو يراوضه على ذلك، فيذهب فيبيع السلعة، فإن نقصت، رجع إليه فوضع عنه ورده إلى ما كان راوضه عليه من العشرة اثني عشر، فكأنه إنما يبيع له على المرواضة في ذلك، وقال: إنما يعمل على شيء قد قاضاه إياه على العشرة اثني عشر، فهذا لا خير فيه. قال: وأخبرني داود بن دينار أن ابن هرمز كرهه.
قال محمد بن رشد: تفسير المكروه الذي وصفه في هذه المسألة، هو أن الرجل يأتي إلى الرجل من أهل العينة، فيقول له: أسلفني عشرة مثاقيل في أحد عشر مثقالا إلى شهر، فيقول له: لا أسلفك إياها إلا في ثلاثة عشر مثقالا، فيتراوضان حتى يتفق معه على أن يسلفه العشرة ويرد عليه اثني عشرة، ثم يقول له: إن هذا لا يحل، ولكن عندي سلعة قيمتها عشرة دنانير، أبيعها منك باثني عشر دينارا إلى شهر، فتبيعها أنت بعشرة فيتم لك ما أردت، فيأخذ منه السلعة على هذا، فيبيعها بثمانية مثاقيل، ثم يأتي إليه فيقول له: لم تساو السلعة عشرة دنانير وقد وضعت فيها وضيعة

(7/85)


كبيرة من العشرة، فحط عني من الاثني عشر التي وضعتها وما يجب لها من الدينارين اللذين بنيت على أن تربح معي في العشرة، وذلك ديناران وخمسا دينار، فيحط ذلك عنه تتميما لما كان راوضه عليه من أن يربح معه في العشرة دينارين، فيأخذ منه في الثمانية التي باع السلعة بها تسعة وثلاثة أخماس، فيئول الأمر بينهما إلى أن أسلفه ثمانية مثاقيل في تسعة وثلاثة أخماس، فهذا مما يتهم فيه أهل العينة ويحملون عليه، لعلمهم بالربا واستحلالهم له.

[مسألة: رجال من أهل الفضل يتجرون في العينة ثم تركوها وهم يرون فضلها]
مسألة وقال مالك: كان رجال من أهل الفضل يتجرون في العينة ثم تركوها وهم يرون فضلها لما استرابوا منها.
قال محمد بن رشد: العينة على ثلاثة أوجه: جائزة، ومكروهة، ومحظورة؛ فالجائزة أن يأتي الرجل إلى الرجل منهم فيقول له: أعندك سلعة كذا وكذا تبيعها مني بدين؟ فيقول: لا، فيذهب عنه فيبتاع المسئول تلك السلعة، ثم يلقاه فيقول له: عندي ما سألت فيبيع ذلك منه. والمكروهة أن يقول له: عندك كذا وكذا تبيعه مني بدين؟ فيقول: لا، فيقول له: أتبيع ذلك وأنا أبتاعه منك بدين وأربحك فيه، فيشتري ذلك ثم يبيعه منه على ما تواعدا عليه، والمحظورة أن يقول الرجل للرجل: اشتر

(7/86)


سلعة كذا وكذا بكذا وكذا، وأنا أشتريها منك بكذا وكذا، وهذا الوجه فيه ست مسائل تفترق أحكامها بافتراق معانيها:
إحداها: أن يقول له: اشتر سلعة كذا بعشرة نقدا وأنا أشتريها منك باثني عشر نقدا، فهذا أجازه مالك مرة، إذا كانت البيعتان بالنقد وانتقد، وكرهه مرة للمراوضة التي وقعت بينهما في السلعة قبل أن تصير في ملك المأمور.
والثانية: أن يقول له: اشتر سلعة كذا بعشرة نقدا، وأنا أبتاعها منك باثني عشر إلى أجل، فهذا لا يجوز، إلا أنه اختلف فيه إذا وقع على قولين: أحدهما: أن السلعة لازمة للآمر باثني عشر إلى أجل؛ لأن المأمور كان ضامنا لها لو تلفت في يده قبل أن يبيعها من الآمر، ويستحب له أن يتورع فلا يأخذ منه إلا ما نقد فيها، وهو قول ابن القاسم في سماع سحنون من كتاب البضائع والوكالات وروايته عن مالك. والثاني: أن البيع يفسخ وترد السلعة إلى المأمور، إلا أن تفوت فتكون فيه القيمة معجلة كما يفعل في البيع الحرام؛ لأنه باعه إياها قبل أن يجب له فيدخله بيع ما ليس عندك.
والثالث: عكسها، وهو أن يقول له: اشتر سلعة كذا وكذا باثني عشر إلى أجل وأنا أبتاعها منك بعشرة نقدا، فهذا لا يجوز أيضا، إلا أنه يختلف فيه إذا وقع على القولين المذكورين، يلزم الآمر السلعة بالعشرة نقدا. ويستحب له أن يزيده الدينارين على القول الأول، ويفسخ البيع على القول الثاني، وترد السلعة إلى المأمور، إلا أن تفوت بيد الآمر فتكون عليه فيها القيمة، كما يفعل في البيع الحرام على القول الثاني، وهو قول ابن حبيب.
والرابع:

(7/87)


أن يقول له: اشتر سلعة كذا بعشرة نقدا، وأنا أبتاعها منك باثني عشر، فهذا مرجع الأمر فيه إلى أن الآمر استأجر المأمور على أن يبتاع له السلعة بدينارين أجرة، فإن كان النقد من عند الآمر، أو من عند المأمور بغير شرط فهو جائز، وإن كان من عند المأمور بشرط كانت إجارة وسلفا؛ لأنه استأجره بدينارين على أن يشتري له السلعة وينقد عنه، فتكون له إجارة مثله، إلا أن يكون أكثر من الدينارين، فلا يزاد عليهما على مذهب ابن القاسم في البيع والسلف إذا كان السلف من عند البائع وفاتت السلعة، أن للبائع الأقل من القيمة أو الثمن، وإن قبض السلف، وتكون له إجارة مثله بالغة ما بلغت على مذهب ابن حبيب في البيع والسلف إذا قبض السلف وفاتت السلعة، أن فيها القيمة بالغة ما بلغت؛ والأصح ألا تكون له أجرة؛ لأنا إن أعطيناه الأجرة كان الثمن ثمنا للسلف، فكان ذلك تتميما للربا الذي عقدا عليه، وهو قول سعيد بن المسيب، وهذه الثلاثة الأقوال إذا عثر على الآمر بعد أن نقد المأمور الثمن وقبل أن يحل الأجل؛ لأن السلف وإن كان حالا فلا بد من الحكم فيه بأجل، ولو عثر على الآمر بعد أن ابتاع المأمور السلعة وقبل أن ينقد الثمن، لكان النقد على الآمر ولم يكن فيما يجب للمأمور من الأجرة إلا قولان: أحدهما: أن له الأجرة بالغة ما بلغت. والثاني: أن له الأقل، ولو لم يعثر على ذلك إلا بعد حلول الأجل، لم يكن فيما يجب للمأمور من الأجرة إلا قولان: أحدهما: أن له الأجرة بالغة ما بلغت. والثاني: أنه لا شيء له.
والخامسة: أن يقول له: اشتر لي سلعة كذا وكذا بعشرة نقدا وأنا أبتاعها منك باثني عشر إلى أجل، فهذا حرام لا يحل ولا يجوز؛ لأنه رجل ازداد في سلفه، فإن وقع ذلك لزمت السلعة للآمر؛ لأن الشراء كان له، وإنما أسلفه المأمور ثمنها ليأخذ منه أكثر منه إلى أجل، فيعطيه العشرة معجلة ويطرح عنه ما أربى، ويكون

(7/88)


له أجرة مثله بالغة ما بلغت في قول، والأقل من أجرة مثله أو الدينارين في قول ولا يكون له شيء في قول؛ لئلا يكون ذلك تتميما للربا فيما بينهما على ما مضى من الاختلاف في المسألة التي قبلها.
وقال في سماع سحنون: إن لم تفت السلعة فسخ البيع وهو بعيد، فقيل: معنى ذلك إذا علم البائع الأول بعملهما.
والسادسة: أن يقول له: اشتر لي سلعة كذا باثني عشر إلى أجل، وأنا أشتريها منك بعشرة نقدا، فهذا حرام لا يجوز، ومكروهة إذا استأجر المأمور على أن يبتاع له السلعة بسلف عشرة دنانير يدفعها إليه ينتفع بها إلى أجل ثم يردها إليه، فإذا وقع ذلك لزمت الآمر السلعة باثني عشر إلى أجل؛ لأن الشراء كان له ولا يتعجل المأمور منه العشرة النقد، وإن كان قد دفعها إليه صرفها عليه ولم تترك عنده إلى الأجل، وكان له جعل مثله بالغا ما بلغ في هذا الوجه باتفاق، والله أعلم.

[مسألة: رجل ممن يعين يبيع السلعة من الرجل بثمن إلى أجل]
مسألة وسئل مالك: عن رجل ممن يعين يبيع السلعة من الرجل بثمن إلى أجل، فإذا قبضها منه ابتاعها منه رجل حاضر، كان قاعدا معهما، فباعها منه؛ ثم إن الذي باعها الأول اشتراها منه بعد، وذلك في موضع واحد، قال: لا خير في هذا، ورآه كأنه محلل فيما بينهما، وقال: إنما يريدون إجازة المكروه. قال سحنون: وأخبرني ابن القاسم عن ابن دينار أنه قال: هذا مما يضرب عليه عندنا، وهو مما لا يختلف فيه أنه مكروه، وأرى أن

(7/89)


يزجر عنه، وأن يؤدب من فعله؛ قال ابن القاسم: ورأيتها عند مالك من المكروه البين.
قال محمد بن رشد: هذا صحيح على طرد القياس في الحكم بالمنع من الذرائع؛ لأن المتبايعين إذا اتهما على أن يظهرا أن أحدهما باع سلعة من صاحبه بخمسة عشر إلى أجل ثم اشتراها منه بعشرة نقدا، ليتوصلا بها إلى استباحة دفع عشرة في خمسة عشر إلى أجل، وجب أن يتهما على ذلك، وإن اشتراها الذي باعها من غير الذي باعها منه إذا كان في مجلس واحد، لاحتمال أن يكونا إنما أدخلا هذا الرجل فيما بينهما لتبعد التهمة عن أنفسهما ولا تبعد عنهما به؛ لأن التحيل به ممكن بأن يقولا لرجل مثلهما في قلة الدعة: تعال تشتري من هذا الرجل هذه السلعة التي تبيعها منه بخمسة عشر إلى أجل بعشرة نقدا، وأنا أبتاعها منك بذلك، أو تربح دينارا فتدفع إليه العشرة التي تأخذ مني ولا تزد من عندك شيئا، فيكون إذا كان الأمر على هذا، قد رجعت إلى البائع الأول سلعته، ودفع إلى الذي باعها منه عشرة دنانير، يأخذ بها منه خمسة عشر إلى أجل؛ ويكون إذا كان قد ابتاعها من الثاني بربح دينار على الشرط المذكور، قد أعطاه ذلك الدينار ثمنا لمعونته إياه على الربا؛ ولو باع الرجل من الرجل سلعة بثمن إلى أجل ثم مات، لم يجز لورثته أن يشتروها منه بأقل من ذلك الثمن نقدا؛ لأنهم يتهمون على إتمام ما قصد إليه موروثهم من استباحة الربا، ولو مات المشتري لجاز للبائع أن يشتريها من

(7/90)


ورثته؛ لأن الثمن قد دخل عليه بموته، قاله ابن القاسم في الدمياطية.

[مسألة: باع من رجل طعاما إلى أجل فاكتال الطعام وانتقله]
مسألة وسئل مالك: عن رجل باع من رجل طعاما إلى أجل فاكتال الطعام وانتقله، ثم إنه لقيه بعد ذلك، فسأله أن يقيله منه كله أو بعضه. فقال: أما كله فلا بأس به، وأما بعضه فإنه مكروه. قال ابن القاسم: وقال لي مالك: وذلك أنه يصير بيعا وسلفا.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: إنه إذا استقاله من بعضه بعد أن انتقله وغاب عليه، يدخله بيع وسلف؛ لأن الطعام لا يعرف بعينه إذا غاب عليه فيكون ما أقاله منه كأنه قد أسلفه إياه، فرده إليه على أن باعه ما لم يقله منه؛ فيتهمان على أنهما أظهرا البيع في جميعه والإقالة من بعضه على أن يجيزا فيما بينهما البيع والسلف، فيمنعان من ذلك حماية للذرائع، ولو كان إنما باع منه الطعام بنقد، ثم استقاله من بعضه لجاز ولم يتهما في ذلك؛ إلا أن يكونا من أهل العينة، أو أحدهما؛ ولو باعه منه بنقد فانتقد، لجاز أن يقيله مما شاء منه وإن كان من أهل العينة، إذ قد انفصلا بالنقد ولم يبق بينهما سبب، وبالله التوفيق.

[سلف في طعام مضمون إلى أجل]
ومن كتاب أوله حلف ليرفعن أمرا وسئل: عمن سلف في طعام مضمون إلى أجل، واشترط المشتري على البائع أن عليه حملانه من الريف إلى

(7/91)


الفسطاط، وإنما كان اشتراه منه على أن يوفيه إياه بالريف، قال: ما أرى بذلك بأسا.
قال محمد بن رشد: وهذا بين على ما قال: إنه لا بأس به؛ لأنه بيع وإجارة؛ لأن السلم بيع من البيوع سلم إليه في الطعام على أن يوفيه إياه بالريف، واستأجره على أن يحمله له من الريف إلى الفسطاط في صفقة واحدة، والبيع والإجارة جائز أن يجتمعا في صفقة واحدة.

[مسألة: الصبرة بين الرجلين يشتريانها فيريد أحدهما أن يربح صاحبه فيها قبل أن ينتقلاها]
مسألة وسئل مالك: عن الصبرة بين الرجلين يشتريانها فيريد أحدهما أن يربح صاحبه فيها قبل أن ينتقلاها، قال: لا بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: إذا جاز ذلك قبل أن ينتقلاها، فأحرى أن يجوز ذلك بعد أن ينتقلاها؛ وكذلك لو اشترى نصف الصبرة وبقي فيها شريكا مع البائع، أو ثمر نصف حائط رجل بعد أن أزهى، لجاز له أن يبيع ذلك قبل أن يستوفيه على هذا القول، وقد وقع ذلك في رسم سن من سماع ابن القاسم بعد هذا، ووقع في رسم سن من سماع ابن القاسم من كتاب جامع البيوع أن مالكا كان يقول قديما: إذا اشترى جزءا من صبرة، فليس له أن يبيعها حتى يستوفيه. ووجه هذا القول: أنه لما كان لا يقدر على أن يبين بحظه من الصبرة أو من الثمرة إلا بالقسمة بالكيل فيما يكال من ذلك، أو بالوزن فيما يوزن منه، أو العدد فيما يعد منه - أشبه من اشترى شيئا من الطعام كيلا أو وزنا أو عددا في أنه لا يبيعه حتى يستوفيه، والقول الآخر هو مقتضى القياس؛ لأن حظه من الصبرة أو الثمرة

(7/92)


داخل في ضمانه بالعقد- وإن لم يستوفه كما تدخل جميع الصبرة والثمرة في ضمانه بعقد الشراء وإن لم يستوفهما.

[مسألة: اشترى ثوبا بثلثي دينار إلى أجل من رجل ثم اشترى منه ثوبا آخر إلى أجل أبعد]
مسألة وسئل مالك: عن رجل اشترى ثوبا بثلثي دينار إلى أجل من رجل، ثم اشترى منه ثوبا آخر إلى أجل أبعد من ذلك الأجل بثلثي دينار؛ فلما حل أجل الثوب الأول، قال البائع للمبتاع: أقر عندك الثلثي الدينار حتى يحل حق الثوب الآخر فتعطيني دينارا وثلثا، قال: لا خير فيه. قال ابن القاسم: وقد كرهته لمن سأل عنه، ثم أخبرني أنه سأل مالكا فقال مثله.
قال محمد بن رشد: الكراهة في ذلك بينة على مراعاة ما يوجبه الحكم في القضاء من أن يقضيه صرف الثلثي الدينار إذا حل أجل الثوب الأول بأخذه بما يجب له من صرف ثلثي الدينار من الدراهم، على أن يأخذ منه في ذلك ذهبا، ويتخرج إجازة ذلك على مراعاة ما ثبت له في الذمة؛ لأنه إنما له في ذمته ثلثا مثقال ذهب، فلا بأس أن يؤخره به ما شاء، ولا يدخله شيء من جهة الصرف، وقد مضى بيان هذا المعنى في رسم حلف ورسم سلف من سماع ابن القاسم من كتاب الصرف؛ والأظهر في هذه المسألة أن ذلك لا يجوز؛ لأنه وإن لم يدخله شيء من جهة الصرف على هذا القول، فيدخله سلف جر نفعا بما نواه مما يفسد نيته في السلف.

[مسألة: يبيع الزيت أرطالا كذا وكذا بكذا]
مسألة وسئل مالك: عن الرجل يبيع الزيت أرطالا كذا وكذا، بكذا

(7/93)


وكذا دينارا إلى أجل، فيزن له فيفضل له عنده الرطلان ينقصان من وزنه، فيقول المشتري للبائع: هما لك. قال: ما أرى فيه من بأس، ولكن أخاف أن يكثر، فإن كثر فلا يعجبني؛ فأما الشيء اليسير مثل هذا فلا أرى به بأسا، قال سحنون: لا بأس به قليلا كان أو كثيرا.
قال محمد بن رشد: اتقى مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذا كثر ما نقص من الوزن فتركه له أن يكون إنما فعل ذلك رجاء أن يوسع له في الثمن إذا حل الأجل، فيدخله ما نهي عنه من هدية المديان؛ واستخف ذلك سحنون وإن كان كثيرا؛ لأنه من ناحية ما يندب إليه المتبايعان من السماحة في البيع، فقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رحم الله عبدا سمحا إن باع سمحا، إن قضى سمحا، إن اقتضى» ، فلا يقام من هذا أن سحنون يجيز هدية المديان إذا كانت مبتدأة على غير هذا الوجه، بل لا يحل عنده ولا عند أحد من أهل العلم لمن عليه دين أن يهدي لمن له الدين رجاء أن يؤخره بما له عليه من الدين، ولا يحل لمن له الدين أن يقبل منه الهدية إذا علم أن ذلك غرضه فيها، ولا حرج على من أهدى لصاحب دينه إذا صحت نيته في ذلك، وقد كان ابن شهاب تكون عليه الديون، فإذا جاءه غرماؤه، أجازهم ولم يقضهم بصحة نيته في ذلك، ويكره لمن يقتدي به أن يقبل ذلك منه، فقد رد عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هديته على أبي بن كعب من أجل ماله عنده، لئلا يقتدي به في ذلك، فيكون ذريعة إلى استجازة ذلك والعمل به حتى يكثر فيوقع في المحظور منه، هذا وجه رد عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عليه هديته، إذ ليس من أهل التهم، والله أعلم.

(7/94)


[مسألة: باع سلعة بثمن إلى أجل ثم ابتاعها بنقد بأقل مما باعها به قبل محل الأجل]
مسألة قال ابن القاسم: قال مالك في رجل باع سلعة بثمن إلى أجل، ثم ابتاعها بنقد بأقل مما باعها به قبل محل الأجل، فلم يعلم بذلك حتى فاتت السلعة وحل الأجل، قال: يفسخ البيع بينهما ولا يكون له إلا ما نقده في ثمنها.
قال محمد بن رشد: ظاهر هذه الرواية أن السلعة إذا فاتت فسخت البيعتان جميعا، ولم يكن في ذلك قيمة، كانت القيمة أقل من الثمن الذي باعها به أولا أو أكثر، إذ لم يفرق بين ذلك، وقال: إنه لا يكون للبائع الأول إلا الثمن الذي نقده؛ وإلى هذا ذهب أبو إسحاق التونسي تأويلا على ابن القاسم، وذلك بين من قوله في رسم القطعان من سماع عيسى بعد هذا. وقد قيل: إنه لا تفسخ البيعة الأولى وتصحح البيعة الثانية بالقيمة، فإن كانت أقل من الثمن الذي نقد رد إليه الزائد، وإن كانت أكثر منه أدى تمامها؛ ثم ينظر إلى هذه القيمة، فإن كانت أكثر من الثمن الذي باعها به أولا، أخذ الثمن إذا حل الأجل؛ إذ لا تهمة في ذلك؛ وإن كانت القيمة أقل من الثمن الذي باعها به أولا، لم يكن له على المشتري الأول أكثر من ذلك؛ لئلا يكون قد دفع دنانير في أكثر منها، فيتم الربا بينهما؛ وهذا يأتي على ما في سماع يحيى وسحنون من هذا الكتاب.
وقيل: إنه إن كانت القيمة أقل من الثمن الذي باعها به أولا، فسخت البيعتان، ولم يكن للبائع على المبتاع إلا الثمن الذي دفع إليه، ولم يكن في ذلك قيمة، وإن كانت أكثر من الثمن، لم تفسخ البيعة الأولى وصححت الثانية بالقيمة على حسبما ذكرناه؛ فإذا حل الأجل، أخذ الثمن؛ وإلى هذا ذهب عبد الحق تأويلا على ابن القاسم، وهو قول سحنون أيضا، واختلف بما تفوت به السلعة، فقيل: إنها تفوت بحوالة الأسواق، وهو مذهب سحنون، والصحيح أنها لا تفوت إلا بالعيوب المفسدة، إذ ليس ببيع فاسد لثمن ولا

(7/95)


مثمون، وإنما فسخ من أجل أنهما تطرقا به إلى استباحة الربا؛ وإلى هذا ذهب أبو إسحاق التونسي وغيره من المتأخرين. وأما إذا كانت السلعة لم تفت فلا تفسخ على مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك إلا البيعة الأخيرة. وذهب ابن الماجشون إلى أن البيعتين جميعا يفسخان، وهو الصحيح في النظر؛ ودليله من جهة الأثر قول عائشة لزيد بن أرقم: "بئس ما شريت وبئس ما اشتريت"؛ لأنها عابت البيعتين جميعا على ما وقع في بيوع الآجال من المدونة. وقد رُوِيَ: "بئس ما شريت أو بئس ما اشتريت" على الشك من المحدث، فعلى هذا لا يكون لابن القاسم في الحديث حجة. وقد قيل: إن قوله في كتاب العيوب من المدونة، وإنما اختلف الناس في السلعة الأولى راجع إلى هذا الاختلاف.

[مسألة: الفول والعدس والحمص وحكم الفضل بينهما]
مسألة قال مالك، في الفول والعدس والحمص مثل ما قال لي عام الأول: لا يصلح الفضل بينهما، وسألت ابن القاسم عن هذا، فقال: لا بأس به، وبه قال أصحاب مالك كلهم.
قال محمد بن رشد: القطاني كلها عند ابن القاسم وسائر أصحاب مالك في البيوع أصناف مختلفة، واختلف قول مالك في ذلك على ثلاثة أقوال: أحدها: أنها أصناف مختلفة، والثاني: أنها صنف واحد، والقولان له في السلم الثالث من المدونة، والثالث: أن ما كان منها يشبه بعضه

(7/96)


بعضا، يريد في المنفعة كالحمص والعدس فهو صنف واحد لا يجوز فيه التفاضل؛ وما كان منها لا يشبه بعضه بعضا في ذلك فهو صنفان، يجوز التفاضل فيهما، وهو قول مالك في سماع أشهب من جامع البيوع، وروى ابن عبد الحكم عنه أن اللوبيا والحمص صنف واحد، وأن العدس والبسيلة صنف واحد. وفي كتاب الوقار: أن الجلبان والبسيلة صنف واحد، وليس ما في كتاب ابن عبد الحكم، وكتاب الوقار بخلاف لرواية أشهب؛ لأن الحمص واللوبيا والعدس والجلبان والبسيلة يقرب بعضه من بعض في المنفعة، والذي يتباعد بعضه من بعض، هو مثل الفول والحمص والترمس والكرسنة وما أشبه ذلك، ولا اختلاف بينهم في القطاني ألها صنف واحد في الزكاة، وبالله التوفيق.

[ابتاع طعاما إلى أجل من رجل فمات الذي عليه الحق]
ومن كتاب أوله تأخير صلاة العشاء وسئل مالك: عن رجل ابتاع طعاما إلى أجل من رجل، فمات الذي عليه الحق، فقيل للذي له الحق: خذ حقك، فقال: ذلك له الورثة، قال: لا، حتى يحل حقي. قال: أرى أن يجبر على أخذه، وذلك أن مال الميت يباع، فلعله أن لا يكون فيه وفاء، فأرى أن يجبر على ذلك، قال ابن القاسم: في العروض يجبر على أخذها في الموت والفلس.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه؛ لأن الميت إذا مات فقد وجب لورثته اقتسام ماله بعد تأدية الديون منه؛ لقوله عز وجل: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11] فلا يلزم الورثة أن

(7/97)


يؤخروا ترك القسمة حتى يحل ما عليه من الدين إذا دعا إلى ذلك صاحب الدين، وإن كان الدين عرضا أو طعاما لم يكن للميت أن يعجله، كما لا يلزم صاحب الدين أن يؤخر دينه إلى حلول أجله إذا دعا إلى ذلك الورثة، وقالوا: نحن نؤخر قسمة التركة إلى أن يحل أجل حقه؛ لأن كل واحد منهم يحتج بما يخشى من تلف التركة فلا يؤخر الدين إلى حلول أجله، إلا بتراضي جميعهم على ذلك، وكذلك التفليس سواء، إلا أن يشاء صاحب الدين في التفليس أن يخلي بين الغرماء وبين اقتسام ماله ويؤخر بدينه فيتبعه به في ذمته إذا حل الأجل، فيكون ذلك له، ولا فرق في هذا بين العين والعرض، وإنما خص ابن القاسم العروض بالذكر على سؤال السائل، ولا إشكال في أن العين بذلك الحكم أحرى، وبالله التوفيق.

[يكون أجيره يسأله عشرة دراهم فيسأله الأجير أن يعطيه بها ثوبا فيقول ما عندي]
ومن كتاب أوله سن رسول الله وسئل مالك: عن رجل يكون أجيره يسأله عشرة دراهم فيسأله الأجير أن يعطيه بها ثوبا، فيقول: ما عندي، ولكن إن شئت اشتريت لك بها ثوبا. فكرهه مالك، وقال: أنا أخبرك في هذا بالصواب، يشتري الثوب لنفسه ثم يبيعه إياه بعد، يعني: الأجير.
قال محمد بن رشد: إنما كره ذلك مالك مخافة أن يعطيه الثوب من عنده ولا يشتريه له، فيدخله فسخ الدين في الدين، ولو اشتراه له بحضرته لجاز، وهذا ظاهر ما في المدونة، وروي ذلك عن سحنون، وقد قيل: إن ذلك جائز -وإن لم يشتره بحضرته- إذا كان معه حاضرا في البلد، وهو قول مالك وسحنون في رسم صلى نهارا ثلاث ركعات من سماع ابن القاسم من كتاب البضائع والوكالات، وفي إجازة ذلك وإن اشتراه بحضرته

(7/98)


مغمز؛ لأنه كأنه أخره بحقه على أن يشتري له، فيدخله سلف جر منفعة؛ وأما إن لم يكن معه حاضرا في البلد فلا يجوز باتفاق. واختلف إن ادعى أنه اشتراه فتلف، هل يصدق أم لا - على قولين قائمين من المدونة من مسألة الغرائر واللؤلؤ، وروى ابن أبي جعفر الدمياطي عن ابن القاسم أنه إنما يصدق في الشراء والتلف فيما يجوز الشراء فيه - إذا كان حاضر البلد هو أو وكيله.
وأما إذا كان غائبا عن البلد حيث لا يجوز الشراء، فلا يصدق على التلف إلا أن يقيم البينة على الشراء، وفي رسم باع شاة من سماع عيسى من كتاب البضائع والوكالات، ومن كتاب جامع البيوع، أنه يصدق في دعواه الشراء والتلف، وإن كان غائبا عن البلد حيث لا يجوز الشراء. فيتحصل في المسألة ثلاثة أقوال: يصدق في الوجهين جميعا، ولا يصدق في واحد منهما، والفرق بينهما، وبالله التوفيق.

[مسألة: يقول اشتر هذا الثوب بعشرة دنانير وهو لي بأحد عشر دينارا]
مسألة وقال مالك في الذي يقول اشتر هذا الثوب بعشرة دنانير، وهو لي بأحد عشر دينارا، قال: ليس هذا من بيوع الناس، وقد سمعت من يكرهه، ولكن أرى إما أن يقول اشتره لي ولك دينار فلا بأس به؛ لأن ضمانه من الذي يشتريه له.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول في هذه المسألة مستوفى في رسم حلف ألا يبيع رجلا، فلا معنى لإعادته.

[مسألة: اشترى خمسين صاعا بخمسين درهما على أن يعطيه عشرة آصع في كل شهر]
مسألة وسئل: عن رجل اشترى خمسين صاعا بخمسين درهما على

(7/99)


أن يعطيه عشرة آصع في كل شهر، وعلى أن ينقده عند البيع عشرة دراهم، فكلما جاءه بعشرة آصع أعطاه عشرة دراهم، فكره ذلك، وقال: لا خير فيه؛ قال ابن القاسم: وذلك يدخله الدين بالدين.
قال محمد بن رشد: وهذا بيّن على ما قال: إن الدين يدخله، فلا وجه للقول فيه.

[مسألة: اشترى نصف ثمرة بعدما أزهت وبدا صلاحها]
مسألة وقال مالك: من اشترى نصف ثمرة بعدما أزهت وبدا صلاحها، فلا أرى بأسا ببيعها قبل أن يجدها. وقال مالك، في الذي يشتري صبرة أو نصفها فلا أرى ببيعها بأسا قبل أن تنقل، وأحب إليّ لو نقلت قبل أن تباع.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول في هذه المسألة في رسم حلف ليرفعن أمرا، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.

[أسلف رجلا إردب قمح إلى أجل من الآجال]
ومن كتاب أوله أخذ يشرب خمرا
وسئل مالك: عن رجل أسلف رجلا إردب قمح إلى أجل من الآجال، فاحتاج صاحب الطعام إلى أن يبيعه، فباعه من الذي هو عليه قبل محل الأجل بدينار إلا درهما، يتعجل الدينار والدرهم ويبرأ كل واحد منهما من صاحبه. قال: إن كان الأجل قد حل فلا بأس به. قال: وإن كان لم يحل فلا خير فيه. قال ابن القاسم: وأرجو أن يكون خفيفا، قال سحنون: قول مالك فيها أفضل، وهي صحيحة جدا.
قال محمد بن رشد: الاختلاف في هذا إذا كان الأجل لم يحل -

(7/100)


جار على اختلافهم في انحلال الذمم، هل هي بمنزلة انعقادها في اعتبار الأجل في ذلك، أو ليست بمنزلتها في ذلك إذ قد تباريا؛ وقد ذكرنا هذا المعنى في رسم القبلة قبل هذا، والأظهر في هذه المسألة الإجازة؛ لأن أشهب يجيز أن يبيع الرجل سلعة بدينار إلا درهما، يتعجل الدينار والدرهم وتتأخر السلعة.

[مسألة: قلة الصير بالقلة الصير]
مسألة قال: وسألت ابن القاسم: عن قلة الصير بالقلة الصير؟ قال: لا يصلح ذلك إلا بالتحري، يريد: الصير بالصير.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن الصير بمنزلة الجبن واللبن، لا يجوز إلا مثلا بمثل، فلا يجوز جزافا بجزاف، ولا جزافا بمكيل؛ ولا يجوز إلا مثلا بمثل: إما بالوزن، وإما بالتحري؛ (لأن التحري) فيما يوزن جائز، قيل: فيما قل وكثر ما لم يكثر جدا حتى لا يستطاع تحريه، وهو ظاهر هذه الرواية. وقيل: لا يجوز ذلك إلا فيما قل، وإلى هذا ذهب ابن حبيب وعزاه إلى مالك. قيل: وإن لم تدع إلى ذلك ضرورة، وهو ظاهر ما في المدونة؛ لأنه أجاز فيها أن يباع اللحم باللحم تحريا، وأن يسلف فيه تحريا.
وقيل: إنه لا يجوز إلا عند عدم الميزان، وقيل: لا يجوز وإن عدم الميزان إلا في الطعام الذي يخشى فساده، إن ترك إلى أن يوجد ميزان، وهذا في المبايعة والمبادلة ابتداء. وأما من وجب له على رجل وزن من طعام لا يجوز فيه التفاضل، فلا يجوز له أن يأخذه منه تحريا إلا عند الضرورة لعدم الميزان على ما قاله في نوازل سحنون من كتاب جامع البيوع، وبالله التوفيق.

(7/101)


[رجل عين رجلا فباعه طعاما بثمن إلى أجل على أن ينتقد من ثمنه دينارا]
ومن كتاب أوله يسلف في المتاع والحيوان وسئل مالك: عن رجل عين رجلا فباعه طعاما بثمن إلى أجل، على أن ينتقد من ثمنه دينارا، فكره ذلك؛ قال: وقال مالك: لست أول من كرهه، قد كرهه ربيعة وغيره.
قال محمد بن رشد: هذه بيعة واحدة صحيحة في ظاهرها، إذ يجوز للرجل أن يبيع سلعة بدينار نقدا ودينار إلى أجل؛ فلا يتهم بالفساد فيها إلا من علم ذلك من سيرته- وهم أهل العينة، والذي يخشى في ذلك أن يكون الذي تراوضا عليه وقصدا إليه أن يبيع منه الطعام على أن يبيع له منه بدينار، فيدفعه إليه ويكون الباقي له بكذا وكذا دينارا إلى أجل، وذلك غرر؛ إذ لا يدري ما يبقى له من الطعام إذا باع منه بدينار، فقد قال بعض أهل العلم: إنه لو دفع إليه الدينار من ماله، لم يكن به بأس؛ وفي سماع سحنون أن ذلك لا يجوز - وإن دفع إليه الدينار من عنده؛ لأنه يخلفه من الطعام - يريد: أن التهمة لا ترتفع عنه بذلك؛ لأنه إن كان البيع وقع على أن ينقده الدينار من الطعام، فلا يصلح أن يدفعه من عنده، كما أنه إذا وقع على الصحة لا يفسده أن ينقد الدينار من الطعام.

[مسألة: الرجل يبيع كرمه على أن ينتقد عشرين دينارا ثم يعطيه ثلث الثمن إذا قطف ثلثه]
مسألة وسئل: عن الرجل يبيع كرمه على أن ينتقد عشرين دينارا، ثم يعطيه ثلث الثمن إذا قطف ثلثه، ثم يعطيه البقية إذا قطف

(7/102)


الثلثين، قال: لا خير في هذا، وهذا ما لا يعرف متى يقطف الثلث أو الثلثين، ولكن إن اشترط عليه إذا اقتطفه، لم أر بذلك بأسا، وكأنه جعله مثل الحصاد والجداد فيما رأيت.
قال محمد بن رشد: وجه ما ذهب إليه مالك في تفرقته بين أن يبيع كرمه على أن يأخذ ثلث الثمن إذا قطف المشتري ثلثه، والباقية إذا قطف الثلثين الباقيين؛ وبين أن يبيعه على أن يأخذ جميع ثمنه إذا قطفه؛ هو أنه إذا سمى الثلث أو الثلثين، فقد صرح أنه أراد ثلث ذلك الكرم بعينه وثلثيه، وذلك غرر، إذ لا يعرف متى يقطف الثلث أو الثلثين؛ لأنه قد يعجل قطافه وقد يؤخره، وإذا لم يسم ثلثه ولا جزءا منه، وإنما باعه على أن يعطيه ثمنه إذا قطفه.
كأن المعنى في ذلك عنده: أنهم لم يقصدوا إلى قطاف ذلك الكرم بعينه، وإنما أراد أن يعطيه الثمن إذا قطفه حين يقطف الناس، فجاز البيع عنده؛ كمن باع إلى الحصاد أو إلى الجداد، ولو بين أنه إنما يبيعه منه على أن يعطيه ثمنه؛ إذا قطفه بعينه عجله أو أخره، لما جاز البيع؛ وقد ذكر أصبغ أن أشهب أجازه فيمن شرط إذا جد ثلثه دفع إليه ثلث الثمن، وإذا جد بقيته دفع إليه البقية، وقال مالك: النصف غير معروف، قيل: إنه يعرف بعدة الفدادين، قال: لا أحب ذلك، وليبعه إلى فراغه؛ فحمل أشهب أمرهما على أن البيع إنما وقع بينهما فيما ظهر إليه من قصدهما، على أن يعطيه ثلث

(7/103)


الثمن إذا جد ثلثه، والباقية إذا جد البقية - على تأن لا يتعجل عما جرت عادة الناس عليه في الجداد، ولا يتأخر عنه؛ وإلى هذا نحا مالك في هذا القول، إلا أنه رأى النصف والثلث غير معروف، إذ لا يعرف إلا بالخرص، والتحري إن تنازعا في ذلك، فلم يجزه، وأجازه في الكل؛ لأنه معروف لا يخفى.
وقال أبو إسحاق التونسي: إذا جاز أن يبيعه إلى فراغ جداده، جاز أن يبيعه إلى جداد نصفه؛ لأن النصف مقدر معروف لا يمكن أن يخفى. وقول مالك عندي أصح وأولى، فلم يختلف قول مالك: إنه إذا باعه إلى قطافه، إن ذلك جائز؛ لأنه حمله في القول الواحد، على أنهما إنما أرادا إلى قطاف الناس، لا إلى قطاف ذلك الكرم بعينه؛ وفي القول الثاني: على أنهما إنما أرادا إلى قطاف ذلك الكرم بعينه، على أن لا يتعجل عن قطاف الناس، ولا يتأخر عنه؛ ولا اختلف قوله أيضا في أنه إذا باعه إلى قطاف نصفه أو ثلثه أن ذلك لا يجوز؛ لأنهما إن كانا أرادا إلى قطاف نصفه أو ثلثه، على أن لا يتعجل عن قطاف الناس ولا يتأخر عنه، فالنصف والثلث غير مقدر ولا معروف، فربما تنازعا في ذلك وهو لا يعرف إلا بالخرص والتحري الذي لا يجب له حكم؛ وأجاز أشهب البيع في الوجهين جميعا، فهذا تحصيل القول في هذه المسألة.

[مسألة: يقول له رجل: اكتب إلى شريكك يبتاع متاعا كذا وكذا وأبتاعه منك بدين]
مسألة وسئل مالك: عن رجل من أهل الفسطاط يكون له شريك بالإسكندرية، فيقول له رجل: اكتب إلى شريكك يبتاع متاعا كذا وكذا، وأبتاعه منك بدين؟ قال مالك: لا خير فيه، والحاضر مثله سواء، كتب فيه أو اشتراه حاضرا، ثم خففه بالنقد؛ فقال: لا أرى به

(7/104)


بأسا. قال سحنون: وهذا خطأ، ولا خير فيه بالنقد ولا إلى أجل؛ إلا أن يكون إنما أوجبها الأمر وله اشتراها، فيكون ذلك جائزا، ويكون هذا أجيرا يعطى أجرته.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول فيها مستوفى في رسم حلف أن لا يبيع سلعة سماها، فلا معنى لإعادته.

[يأخذ الرجل النوى والقصب والتبن من ثمن طعام باعه إياه إلى أجل]
ومن كتاب أوله كتب عليه ذكر حق
قال مالك: ولا بأس أن يأخذ الرجل النوى والقصب والتبن من ثمن طعام باعه إياه إلى أجل، وذلك أنه ثمن العلف وليس من الطعام.
قال محمد بن رشد: هذا بين؛ لأنه إذا لم يكن من الطعام، فجائز أن يباع بالطعام إلى أجل، فكيف باقتضائه من ثمن الطعام.

[مسألة: باع سلعة بخمسة عشر دينارا نقدا فانتقد عشرة ثم تقاضاه الخمسة فمطله]
مسألة وسئل مالك: عمن باع سلعة بخمسة عشر دينارا نقدا فانتقد عشرة، ثم تقاضاه الخمسة فمطله؛ فقال له بَيِّعُهُ: هل لك أن أربحك ثلاثة دنانير وتؤخرني شهرين؟ قال مالك: إن كان رجلا يعرف بالعينة فلا أحبه، وإن كان رجلا ممن لا يعمل بالعينة وإنما هو رجل باع بيعا صحيحا، فلا أرى به بأسا.

(7/105)


قال محمد بن رشد: المكروه في هذه المسألة حاصل باجتماع الصفقتين؛ لأنه لما باع منه السلعة بخمسة عشر فانتقد منها عشرة ثم اشتراها منه بثمانية عشر إلى أجل، رجعت إليه سلعته فكانت لغوا، ويأخذ منه الخمسة التي بقيت له عليه، ويؤدي له ثمانية عشر إذا حل الأجل، فكان قد أخذ خمسة عشر في ثمانية عشر إلى أجل؛ وإن تقاضى من الثمانية عشر بالخمسة التي بقيت له عليه، كان قد أخذ عشرة في ثلاثة عشر إلى أجل، إلا أنه لما لم يبايعه أولا إلا بالنقد، لم يتهما، إلا أن يكونا من أهل العينة؛ لأن أهل العينة يتهمون فيما لا يتهم فيها أهل الصحة، لعملهم بالربا واستجازتهم له؛ وكذلك لو اشتراها منه بعد أيام ما لم يستوف منه الخمسة الباقية له عليه، وكذلك لو انتقد الخمسة عشر كلها منه، ثم ابتاعها منه إلى أجل بربح لم يجز في المجلس، ولا بقرب ذلك إن كانا من أهل العينة أو أحدهما حتى يطول الأمر ويبرءا من التهمة، والله الموفق.

[مسألة: أهل البيت يحتاجون العجين فيتسلفون من بعض جيرانهم]
مسألة وسئل مالك: عن أهل البيت يحتاجون العجين فيتسلفون من بعض جيرانهم، ثم يدفعون مكانه دقيقا يتحرون قدر ذلك؟ قال: لا بأس به.
قال محمد بن رشد: العجين ليس بصنعة، فلا يجوز بالدقيق متفاضلا باتفاق، ولا يمكن المماثلة فيه بالكيل ولا بالوزن؛ وقد اختلف: هل يجوز بالتحري؟ على ثلاثة أقوال: أحدها: أن ذلك جائز، وهو قول ابن حبيب

(7/106)


في الواضحة، وأحد قولي ابن القاسم في رسم حبل الحبلة من سماع عيسى بعد هذا.
والثاني: أن ذلك لا يجوز، وهو أحد قولي ابن القاسم في رسم حبل الحبلة المذكور؛ قيل: لأنه لا يستطاع تحري ذلك، وقيل: لأن الدقيق أصله الكيل، والعجين أصله الوزن؛ ولا يباع ما أصله الوزن بالكيل، ولا ما أصله الكيل بالوزن؛ ولا يتحرى ما أصله الكيل، إنما يتحرى ما أصله الوزن؛ قال ذلك سحنون، وليس قوله ببين؛ لأنه إنما لم يجز مبادلة ما لا يجوز فيه التفاضل مما يكال بالتحري، إذ لا يعدم المتبادلان ما يكملان ذلك له بقدح أو صحفة وإن لم يكن مكيالا معلوما فتحصل المماثلة (به) ، وقد يعدمان الميزان في تبادل ما لا يجوز فيه التفاضل مما يوزن؛ والعجين لا يمكن كيل ما فيه من الدقيق بحال، فينبغي أن يكون التحري فيه أجوز من تحري ما يوزن لعدم الميزان؛ ولهذه الضرورة التي هي أمس من ضرورة عدم الميزان، أجاز ابن القاسم في سماع أبي زيد من جامع البيوع خبز القمح بخبز الشعير، بأن يتحرى كيل ما في كل واحد منهما من الدقيق؛ وقد أجاز في رسم سلف من سماع عيسى من كتاب جامع البيوع - التمر المنثور بالمكتل على التحري، إذ لا يتأتي كيل التمر المكتل، فكيف هذا؟
والقول الثالث: أن ذلك يجوز في الشيء اليسير مثل الخميرة يتسلفها الجيران بعضهم من بعض فيردون فيها دقيقا، أو يتبادلون فيها بالدقيق؛ وهو ظاهر قول مالك في هذه الرواية، ونص قوله في كتاب ابن المواز، وقول أشهب، وبالله التوفيق.

[يكون له على الرجل عشرة دنانير من سلف أو بيع إلى أجل فحل الأجل]
ومن كتاب أوله الشريكين وسألت مالكا: عن الرجل يكون له على الرجل عشرة دنانير

(7/107)


من سلف أو بيع إلى أجل، فحل الأجل، فيلزمه بحقه فيعسر به، فيعرض له رجل آخر على الذي له الحق أن ينظره على أن يسلفه عشرة دنانير؛ قال مالك: إن كان الذي يعطى يكون له على الذي له الحق فلا خير فيه، وإن كان قضى عن الذي عليه الحق سلفا منه ليس له فلا بأس به.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال: إن ذلك لا يجوز إذا لم يكن ذلك قضاء عن الذي عليه الحق سلفا منه له؛ لأنه تسلف الذي له الحق لغرض له في منفعة الذي عليه الحق، فهو سلف جر نفعا، إذ لا يحل السلف إلا أن يريد به المسلف منفعة الذي أسلفه خالصا لوجه الله خاصة، ولا لنفسه ولا لمنفعة من سواه.

[مسألة: قال أعطني جملك ببكرين هذين فقال صاحب الجمل لا حتى تزيدني]
مسألة وقال مالك، في رجلين حضرا السوق ومع أحدهما بكران، ومع الآخر بعير مسن. فقال صاحب البكرين: أعطني جملك ببكرين هذين، فقال صاحب الجمل: لا حتى تزيدني؛ وقال الآخر: لا أزيدك شيئا، فقال رجل من الناس لصاحب البكرين: زده وهو لي بخمسة عشر دينارا؟ قال مالك: إن كان نقدا فإني أراه خفيفا، وإن كان إلى أجل فلا خير فيه؛ كأنه قال له: اشتره بعشرة، وهو لي بخمسة عشر إلى أجل، فلا خير فيه. قال ابن القاسم: وهو رأيي.

(7/108)


قال محمد بن رشد: هذه المسألة قد مضت في رسم سلف، ومضى القول عليها مستوفى في رسم حلف ألا يبيع، فلا معنى لإعادة ذلك.

[أعطى رجلا حناطا دينارا في أربعة آصع على أن يعطيه في كل يوم مدا من حنطة]
ومن كتاب أوله اغتسل على غير نية
وسئل مالك: عن رجل أعطى رجلا حناطا دينارا في أربعة آصع على أن يعطيه في كل يوم مدا من حنطة؟ قال: لا بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: إجازة مالك لهذا ينحو إلى أحد قوليه في إجازة السلم إلى اليومين والثلاثة؛ لأنه إذا قبض كل يوم مدا من ثاني يوم سلمه، فقد قبض جل ما سلم الدينار فيه قبل أن يمضي من الأمد ما تختلف فيه الأسواق.

[مسألة: بيع مصحف فيه فضة وإن كانت يسيرة بدنانير إلى أجل]
مسألة قال مالك: لا يباع مصحف فيه فضة، وإن كانت يسيرة بدنانير إلى أجل.
قال محمد بن رشد: هذا صحيح على معنى قول ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة وغيرها، وربيعة يجيز بيعه بالفضة إلى أجل إذا كانت الفضة التي فيها أقل من الثلث، قياسا على جواز بيعه بالفضة نقدا، وهو مذهب ابن الماجشون. وقول سحنون: يبيعه بالدنانير إلى أجل - أجوز عندهم.

(7/109)


[مسألة: السلم في الخرفان]
مسألة قال مالك: لا بأس بالسلم في الخرفان إذا كانت على صفة معلومة.
قال محمد بن رشد: هذا ما لا اختلاف في المذهب أن السلم جائز في الحيوان والعروض، خلافا لأبي حنيفة في قوله: إن السلم والقرض في الحيوان لا يجوز؛ ولأهل الظاهر في قولهم: إن السلم لا يجوز فيما عدا المكيل والموزون.

[مسألة: يباع القمح في أندره بعدما يحصد في تبنه]
مسألة وسئل مالك: هل يباع القمح في أندره بعدما يحصد في تبنه؟ قال: لا أرى أن يباع، وهذا من الغرر، وما يدريه ما فيه. قال محمد بن رشد: يريد: وهو في تبنه بعدما يحصد ويدرس، وأما بيعه في أندره وهو زرع قبل أن يدرس فذلك جائز؛ لأنه من بيع الجزاف الجائز؛ لأنه يحزره ويرى سنبله، ويعرف قدره، فيجوز كما يجوز بيعه وهو في فدانه قبل أن يحصد، بل هو أجوز؛ لأن إحاطته به إذا رآه مجتمعا محصودا، أكثر من إحاطته به إذا رآه قائما في فدانه قبل أن يحصد.
وقد قيل: إن ذلك لا يجوز، وإلى هذا ذهب أبو إسحاق التونسي؛ وقد تُئُوِّلَتْ هذه الرواية على ذلك، والصحيح ما تأولناها عليه؛ فبجواز ذلك قال مالك في رواية ابن نافع وأشهب عنه، وقد نص في كتاب ابن الجلاب على ما قلناه، قال: ويجوز أن يباع الزرع قائما إذا يبس وبعد أن يحصد حزما، ولا يجوز بيعه بعد أن يدرس في تبنه، وبالله التوفيق.

(7/110)


[التجار يشترون من الزارعين وينقدونهم ذهبهم قبل أن يفرغوا من الحصاد]
ومن كتاب أوله صلى نهارا ثلاث ركعات وسئل مالك: عن التجار يخرجون في إبان الحصاد فيشترون من الزارعين والحصادين وهم على حصادهم، وينقدونهم ذهبهم وهم يقيمون في الحصاد خمسة عشر يوما ونحوها قبل أن يفرغوا وقد نقدوهم ذهبهم؟ قال: أرجو أن يكون إذا كان قريبا خفيفا. فقلت له: يا أبا عبد الله خمسة عشر يوما ونحوها؟ قال: إذا كان قريبا فأرجو أن يكون خفيفا، وكره أن يحد فيه حد، وكأني رأيته يخففه.
قال محمد بن رشد: يريد إذا اشترى منه كيلا مسمى أو اشتراه كله، كل قفيز بكذا، على ما في الجعل والإجارة من المدونة؛ وإنما جاز أن يتأخر ذلك إلى هذا المقدار، لحاجة البائع إلى المهلة في عمله؛ ولو كان الشراء بعد درس الطعام وتصفيته، لم يجز أن يتأخر الكيل والقبض فيه إلا اليوم واليومين ونحوهما، ولم يجز أكثر من ذلك، إذ لا يجوز شراء سلعة بعينها على أن يتأخر قبضها إلا اليوم واليومين والثلاثة ونحو ذلك.

[مسألة: سلف رجلا في مائة صاع مضمونة إلى أجل مسمى]
مسألة وسئل مالك: عن رجل سلف رجلا في مائة صاع مضمونة إلى أجل مسمى، فلما حل الأجل جاءه يتقاضاه فقضاه خمسة

(7/111)


آصع، ثم أعسر بما بقي؛ فلما ألح عليه يتقضاه، قال له: أقلني وأرد عليك طعامك؛ قال: لا بأس به، فقيل له: يا أبا عبد الله، فإنه قد كان قضاه خمسين صاعا ثم سأله الإقالة على أن يرد عليه طعامه، قال: لا خير فيه؛ فقيل له: يا أبا عبد الله، لِمَ، أليس هو مثله؟ قال: لا، ذلك يسير، وأرجو -إن شاء الله- ألا بأس.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة يدخلها بمجموع البيع والإقالة، أسلفني وأسلفك؛ لأن ما رد المسلم من الطعام إلى البائع فكأنه أسلفه إياه؛ والثمن الذي رد البائع إلى المسلم، كأنه أسلفه إياه أيضا؛ فاستخف ذلك في اليسير، إذ بعد عنه أن يكونا قصدا إلى ذلك؛ ومنع منه في الكثير لقوة التهمة عنده فيه، ولو أقاله مما بقي، لما جاز في القليل ولا في الكثير؛ لأنه يدخله البيع والسلف، فالمكروه فيه أشد، لنهي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع وسلف.

[باع قمحا بدينار فأتى بَيِّعُهُ فوجد عنده تمرا فاشترى منه بدينار تمرا]
ومن كتاب أوله مرض وله أم ولد فحاضت
وسئل: عن رجل باع قمحا بدينار فأتى بَيِّعُهُ فوجد عنده تمرا فاشترى منه بدينار تمرا، ثم إنه لقيه بعد ذلك، فقال: إن لي عليك دينارا ولك عَلَيَّ دينار، فقاضني، قال مالك: لا أحبه، ولكني أرى أن يرد التمر الذي أخذ منه؛ قال ابن القاسم: لأنه إذا قاضاه كان قد قبض من ثمن الطعام طعاما.

(7/112)


قال محمد بن رشد: قوله إنه يرد التمر الذي أخذ منه صحيح على أصله فيمن باع سلعه بثمن إلى أجل، ثم اشتراها منه بأقل من ذلك الثمن نقدا، أنه يفسخ البيع الثاني ويثبت البيع الأول؛ إلا أن تفوت السلعة فيفسخ البيعان جميعا على الظاهر من مذهب الذي قد تكلمنا عليه في رسم حلف ليرفعن أمرا أو في هذه المسألة، يقدر على رد التمر أو مثله، فلا يفسخ إلا البيع الثاني، ويأتي على مذهب ابن الماجشون في فسخ البيعتين جميعا أن يفسخ بيع الحنطة جميعا أيضا.
وقال ابن المواز: تفسخ المقاصة فقط، يأخذ منه الدينار ثم يرده إليه، وهذا لا معنى له؛ لأنه إذا أخذه منه ثم رده إليه في مقامه ذلك، فكأنه لم يأخذه منه، وقد حصلت المقاصة بينهما. وقد قيل: إنما قال ذلك محمد؛ لأنه لم يتهمهما على أنهما عملا ذلك؛ ولو اتهمهما لفسخ بيع الحنطة أيضا، وهو تعليل فاسد؛ لأنه لو لم يتهمهما على ذلك، لأجاز المقاصة بينهما؛ لأن الاقتضاء من ثمن الطعام طعاما إنما يحرم إذا عملا على بيع طعام بطعام إلى أجل، فلا يفسخ إذا عثر عليه إلا من باب التهمة، والحكم بالمنع من الذرائع؛ وإذا اتهما فلا يصح، إلا أن يفسخ بيع التمر كما قال مالك، أو تفسخ البيعتان جميعا على قول ابن الماجشون.

[مسألة: اشترى من رجل تمرا جزافا ولم ينتقد ثمنه]
مسألة وسئل مالك: عمن اشترى من رجل تمرا جزافا ولم ينتقد ثمنه، ثم يشتري البائع منه كيلا أكثر من الثلث؟ قال مالك:

(7/113)


لا يجوز له أن يشتري منه أكثر من الثلث كيلا نقدا ولم ينتقد، وإن اشترى إلى أجل، فلا يجوز له أن يشتري منه دون الثلث بنقد، قال سحنون: ولا شيئا منه بنقد؛ قال ابن القاسم: قال مالك: وإن تفرقا فلا يجوز له أن يشتري منه أقل من الثلث بنقد ولا بغير نقد، وإنما يجوز له أن يشتري منه أقل من الثلث إذا لم يتفرقا بغير نقد.
قال محمد بن رشد: الأصل في هذه المسألة إجماعهم على أن من باع جزافا فلا يجوز له أن يستثني منه كيلا إلا الثلث فأقل، فإذا باع الرجل تمرا جزافا ولم يستثن منه شيئا، فلا يجوز له أن يشتري منه إلا ما كان يجوز له أن يستثنيه منه، وذلك الثلث فأقل، فإن اشترى منه أكثر من الثلث لم يجز نقدا وقاصه ولم ينقد؛ وإن اشترى منه الثلث فأقل مقاصة من الثمن جاز، وإن اشترى ذلك منه بنقد ولم يقاصه، جاز إن كان البيع بالنقد ولم يكن إلى أجل، وهو دليل قوله إنه لا يجوز له أن يشتري منه أكثر من الثلث كيلا نقد أو لم ينتقد؛ لأن مساواته بين أن ينقد أو لا ينقد إذا اشترى أكثر من الثلث، يدل على أن ذلك يفترق إذا اشترى أقل من الثلث؛ ومعنى ذلك إذا لم يكونا من أهل العينة؛ لأن أهل الصحة لا يتهمون إلا في بيوع الآجال؛ وكذلك لو غاب المبتاع على الطعام، لجاز أن يشتري منه أقل من الثلث نقدا ومقاصة إذا لم يكونا من أهل العينة، ولو كانا من أهل العينة، لم يجز أن يشتري منه شيئا بعد الغيبة عليه لا نقدا ولا مقاصة؛ وأما إن كان باع منه التمر أولا بثمن إلى أجل، فلا يجوز له أن يشتري منه أكثر من الثلث على حال، ويجوز له أن يشتري منه أقل من

(7/114)


الثلث مقاصة من الثمن، ولا يجوز ذلك نقدا؛ لأنه إن اشترى ذلك بالنقد، دخله البيع والسلف؛ لأنه إذا حل الأجل يأخذ منه جميع الثمن، فيكون ما قابل منه الثمن الذي نقده في الطعام الذي اشتراه منه قضاء منه، كأنه أسلفه إياه وبقيته ثمنا للطعام الذي صار إليه؛ ويدخله أيضا طعام وذهب بذهب إلى أجل، وهذا ما لم يغب المبتاع على الطعام؛ وأما إن غاب على الطعام، فلا يجوز له أن يشتري منه شيئا قليلا ولا كثيرا نقدا ولا مقاصة؛ لأنه إن كان نقدا كان بيعا وسلفا دنانير وطعام، وإن كان مقاصة، كان بيعا وسلف طعام.

[مسألة: باع خمسة عشر جلدا كل جلد بدينار إلا درهما إلى أجل]
مسألة وقال مالك، في رجل باع خمسة عشر جلدا، كل جلد بدينار إلا درهما إلى أجل، فلما وجب البيع بينهما، قال له الرجل: تعال احسب هذا؛ قال: هذه أربعة عشر دينارا، قال: فاكتب بيني وبينك كتابا بأربعة عشر دينارا؟ فكره هذا البيع، وقال: لا خير فيه.
وفيه وجه آخر من مكروه البيع؛ قال ابن القاسم: وذلك لو أنه جاز، أخذ منه عند الأجل خمسة عشر درهما، وأعطاه خمسة عشر دينارا، فصار صرفا متأخرا، وإنما يجوز من هذا إلى أجل الدرهم والدرهمين الذي لا يقع فيه غرر في خفض صرف ولا في ارتفاعه.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول فيها مستوفى في رسم البيوع الأول من سماع أشهب من كتاب الصرف.

(7/115)


[يبتاع من الرجل طعاما إلى أجل فيأتيه عند الأجل فيقتضي منه نصفه ويبقى نصفه]
ومن كتاب أوله الشجرة تطعم بطنين في السنة وسئل مالك: عن الرجل يبتاع من الرجل طعاما إلى أجل، فيأتيه عند الأجل فيقتضي منه نصفه ويبقى نصفه، ثم يأتي بعد ذلك فيطلبه ببقية حقه، فيقول ما عندي قضاؤك، ولكن إن أحببت أن ترد علي ما أعطيتك وأرد ذهبك كلها فعلت. فقال: لا خير فيه، وقال: أكرهه، وسمعته قبل ذلك يقول: إن كان الذي اقتضى منه يسيرا مما له عليه، لم أر بذلك بأسا أن يرده ويأخذ رأس ماله.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة فوق هذا في رسم صلى نهارا ثلاث ركعات والقول فيها، فلا وجه لإعادته.

[يبيع الرجل نصف أندره جزافا]
من سماع أشهب وابن نافع من كتاب البيوع الأول قال أشهب، وسألته: أيصلح أن يبيع الرجل نصف أندره جزافا؟ قال: نعم في رأي.
قال محمد بن رشد: وقعت هذه المسألة هاهنا في بعض الروايات، والمعنى فيها: أن يبيعه نصفه جزافا وهو في سنبله قبل أن يدرس؛ لأنه إذا جاز بيع جميعه قبل أن يدرس، جاز بيع نصفه، وأما بعد أن يدرس فلا

(7/116)


يجوز على حال، وقد مضى بيان هذا، والقول فيه قبل هذا في رسم اغتسل على غير نية من سماع ابن القاسم.

[مسألة: يمنعون أن يباع الطعام حتى ينقل من مكانه]
مسألة
قال: وسألته عن قول عبد الله بن عمر كان يبعث إلينا رجال يمنعونا أن نبيع طعاما ابتعناه حتى ننقله من ذلك المكان، أعليه العمل؟ فقال: قد جاء هذا الحديث. قلت له: فأحب إليك أن يؤخذ به على وجه الاحتياط؟ قال: أحب إلي أن يؤخذ به فيما اشترى جزافا، لا يباع حتى ينقل من مكانه، فأما ما اشتري بكيل، فلم يأت هذا الحديث فيه.
قال محمد بن رشد: «نهى النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عن بيع الطعام قبل أن يستوفى» ، محمول عند مالك وعامة أصحابه على ما اشتري كيلا أو وزنا؛ لأنه لا يدخل في ضمانه حتى يستوفيه بالكيل أو الوزن، فإذا باعه قبل أن يستوفيه، كان قد ربح فيما لم يضمن؛ وهذا هو المعنى عند مالك في «نهي النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عن بيع الطعام قبل أن يستوفى» بدليل «نهيه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عن ربح ما لم يضمن» وإنما لم يحمل «نهي النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عن ربح ما لم يضمن» على عمومه في الطعام وغير الطعام، وقصره على الطعام؛ لأنه عموم عارضه عموم القرآن، قول الله عز وجل: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] ، وقوله عز وجل: {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] ،

(7/117)


وقوله {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] ، يريد: التجارة في مواسم الحج على ما جاء في تفسير ذلك، فوجب ألا يخرج من هذا العموم شيء إلا بيقين، وهو الطعام الذي قد نص عليه النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - دون ما سواه من المكيل أو الموزون، لاحتمال أن يكون مراد النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بنهيه عن ربح ما لم يضمن، ما نهي عنه من بيع الطعام قبل أن يستوفى، فالطعام المصبر خارج عن هذا عند مالك؛ لأنه يدخل بالعقد في ضمان المشترى؛ إلا أنه استحب في هذه الرواية ألا تباع الصبرة المشتراة حتى تنقل من موضعها، لحديث عبد الله بن عمر المذكور، ولم يوجب ذلك، لاحتمال أن يكون معناه الندب حماية للذريعة.
وفي المدنية لمالك أن معناه فيما بيع بالدين. ووجه ذلك: أن الصبرة وإن دخلت بالعقد في ضمان المشتري، فلم يدخل ثمنها في ضمان البائع إذا كان مؤجلا لم يقبض، ففيه شيء من معنى الضمان، وفيه نظر؛ وابن حبيب يحمل «نهي النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عن ربح ما لم يضمن» على عمومه في كل ما يوزن من الطعام وغيره، وهو مذهب عبد العزيز بن أبي سلمة وجماعة سواه؛ وقول مالك أصح على ما بيناه.

[مسألة: باع من رجل سلعة ودفعها إليه وقبضها بمائة دينار إلى أجل سنة]
مسألة قال: وسئل مالك: عمن باع من رجل سلعة ودفعها إليه وقبضها بمائة دينار إلى أجل سنة، فأقامت عنده بعد أن قبضها

(7/118)


حتى حدث بها عيب عور أو عرج أو قطع أو أمر، حتى علم أنهما لم يعملا القبيح؛ أيجوز لبائعها أن يشتريها بأقل مما باعها به وينقده ثمنها بعدما حدث فيها هذه الأشياء؟
فقال: يبيعها بالدين ويشتريها بالنقد أقل منه، لا يصلح هذا ولا يؤمن الناس على مثله؛ ولو جاز هذا لهذا، لقال آخر في مثل هذا: فقد نقصت، فقد مرضت؛ لا يجوز هذا ولا يمكن الناس منه؛ وقال سحنون مثله، وهو خير من رواية ابن القاسم.
قال محمد بن رشد: رواية ابن القاسم التي أشار إليها سحنون وقعت في كتاب ابن المواز: قال ابن القاسم: عن مالك في الدابة أو البعير يبتاعها بثمن إلى أجل فيسافر عليها المبتاع إلى مثل الحج وبعيد السفر، فيأتي وقد أنقصها، ثم يبتاعها منه بأقل من الثمن نقدا، فلا يتهم في مثل هذه أحد ولا بأس به، وكذلك الثوب يلبس فيبلى؛ وذهب كل واحد من ابن القاسم وأشهب في هذه المسألة إلى ما روي عن مالك فيها، وذلك من قوليهما في كتاب الرواحل والدواب من المدونة: أجاز ابن القاسم فيها أن يستقيل الكرى المتكارى فيقيله بزيادة بعد أن قبض الكراء وغاب عليه إذا كانا قد سارا من الطريق ما يسقط التهمة عنهما؛ ولم يجز ذلك أشهب قبل الركوب ولا بعده، ورأى التهمة بينهما باقية على حالها، وقول ابن القاسم وروايته عن مالك أظهر، والله أعلم؛ لأن ذلك ليس بحرام بين، وإنما يفسخ حماية للذرائع، ومن ناحية التهمة؛ وأكثر أهل العلم لا يقولون بذلك، فإذا ظهر ما يضعف التهمة انبغى ألا تحقق، وبالله التوفيق.

(7/119)


[مسألة: باع من رجل طعاما بذهب إلى أجل]
مسألة وسئل: عمن باع من رجل طعاما بذهب إلى أجل، ثم باع تلك الذهب من رجل غيره بطعام مثل طعامه أو طعام غيره، ويحيله بالذهب على غريمه، فقال بعد إطراق: لا بأس بذلك إذا صح كان مثل طعامه، أو أقل منه، أو أكثر، أو غير طعامه طعام ليس من صنف طعامه الذي باع منه.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: إنه لا بأس بذلك، إذ ليس فيه وجه من وجوه المكروه؛ لأنه باع طعاما من رجل، وأخذ بالثمن طعاما من غيره نقدا؛ فجاز ذلك ولم يدخله اقتضاء من ثمن الطعام طعاما، إذ لم يأخذ الطعام من الذي باعه الطعام، وإذا بين.

[مسألة: باع تمر حائطه بمائة دينار وعشرين دينارا]
مسألة قال: وسئل: عمن باع تمر حائطه بمائة دينار وعشرين دينارا، فقضاه الغريم منها بخمسة عشر دينارا رطبا وتمرا من حائطه؛ فلما استجدت التمرة في رؤوس النخل، اشتروا ذلك كله منه في رؤوس النخل بسبعين دينارا مما لهم عليه، ويتبعونه ببقية المائة والعشرين التي كانت لهم عليه؛ فقال مالك له -وهو المبتاع-: اشتريت منهم جزافا وهو في رؤوس النخل، وبعتهم كذلك في رؤوس النخل؛ قال: نعم؛ فأطرق فيها مالك طويلا، ثم قال: لا أرى بذلك بأسا إذا كان التمر الذي تأخذون بالسبعين الدينار

(7/120)


الآن، قد استجد ويبس؛ فأما لو لم يكن استجد فلا خير فيه، وذلك أنه دين بدين.
قال: وسألته عن الذي يبيع تمر حائطه رطبا بمائة وعشرين دينارا فيبس في رءوس النخل، ثم يشتريه منه بسبعين دينارا مما له عليه؛ قال: أنا أكرهه، ومما كرهته له أنه باعه رطبا وأخذه تمرا، والرطب بالتمر لا يصلح؛ قلت له: إنه لم يأخذ تمرا من غير حائطه الذي باعه، إنما أخذ حائطه بعينه تمرا، فسكت وكأنه كرهه، قال: وسئل: عن الذي يبيع تمر حائطه بمائة دينار إلى الجداد، فإذا كان الجداد اشتراه بعشرة دنانير ومائه دينار، وهو في رءوس النخل؛ فقال: لا خير فيه. فقيل له: فلو باعه إياه بذلك، ثم لم يقم إلا يومين أو ثلاثة حتى اشتراه بعشرين ومائة؛ قال: ولا خير فيه أيضا.
قال: وسألته: عن الذي يبيع تمر حائطه رطبا، فيبس في رءوس النخل ويصير تمرا، فيقول البائع: أنا آخذ نخلي بحقي؛ فقال: لا خير فيه؛ لأنه أعطاه رطبا وأخذ تمرا، والرطب بالتمر لا يصلح يدا بيد، فكيف إلى أجل؛ فقلت له: إنه رطبه بعينه صار تمرا في رءوس النخل، فقال: لا يصلح وإن كان بعينه؛ فقيل له: أرأيت لو أفلس الغريم وقد صار الرطب تمرا في رءوس النخل، أيكون له أن يأخذه بدينه؟ فقال: ذلك له، إلا أن يشاء الغرماء أن يأخذوه ويعطوه دينه، وإن أحب هو أن لا يأخذه ويحاصهم بدينه، فذلك له؛ وليس هذا مثل الذي يشتري منه هو متعمدا، إنما هو على غير وجه

(7/121)


التبايع إنما أعطاه إياه القضاء؛ أرأيت العبد الآبق، أيجوز لأحد أن يشتريه؟ فقد يجوز لصاحبه الذي باعه أن يقول لا أحب أن أحاصص الغرماء وأنا أطلب عبدي، فذلك له؛ فإن وجده، كان أحق به، وإن لم يجده، رجع فحاص الغرماء؛ لأنه إن تلف أو مات، فهو من الذي عليه الحق.
قال محمد بن رشد: أجاز مالك أولا لمن باع تمر حائطه رطبا بدين إلى أجل، أن يأخذه إذا استجد وصار تمرا ببعض الثمن؛ وكذلك لو أخذه بجميع الثمن، أو بأكثر منه، ومنع من ذلك كله آخرا إلا في التفليس، فإنه يجوز له أن يأخذه ويترك محاصة الغرماء؛ وقد روى أشهب أيضا عن مالك أنه لا يجوز له أن يأخذه في التفليس؛ فيتحصل له في ذلك ثلاثة أقوال: أحدها: جواز ذلك في التفليس وغير التفليس، وهو قوله أولا؛ لأنه إذا جاز ذلك في غير التفليس، فأحرى أن يجيزه في التفليس. والثاني: أن ذلك لا يجوز في التفليس ولا في غير التفليس، وهو الذي حكاه عنه ابن حبيب؛ لأنه إذا لم يجز ذلك في التفليس، فأحرى أن لا يجيزه في غير التفليس. والثالث: الفرق بين التفليس وغير التفليس، والقول بإجازة ذلك في التفليس وغير التفليس أظهر الأقوال؛ لأن الاقتضاء من ثمن الطعام طعاما ليس بحرام لذاته، وإنما يمنع منه مخافة أن يكون قد عمل معه على أن يبيع منه طعاما بطعام إلى أجل، وحماية للذرائع، فإذا أخذ الثمر الذي باع منه بعينه بعد أن صار تمرا واستجد، وجب أن يجوز، إذ قد صح بيعه بالسلامة من فسخ الدين في الدين، ومن أن يعطي طعاما في طعام غيره إلى أجل. ووجه المنع من ذلك: أنا نمنعه منه حماية للذرائع؛ لأنا نتهمه أن يكون قد عمل معه على أن يأخذ منه في الرطب الذي أعطاه تمرا إلى

(7/122)


أجل، فأعطاه لما حل الأجل بالتمر الذي شرط عليه تمر حائطه، ووجه الفرق بين التفليس وغير التفليس: أن التفليس يرفع التهمة؛ لأنه أمر طارئ لم يعلماه؛ وأما الذي باع عبدا بثمن إلى أجل ففلس المشتري وقد أبق العبد، فقال هاهنا: إنه مخير بين أن يحاصص الغرماء، وبين أن يطلب العبد؛ فإن وجده كان أحق به، وإن لم يجده رجع فحاص الغرماء؛ وفي ذلك من قوله نظر، إذ لا حد لوقت طلبه يجب له بالبلوغ إليه الرجوع إلى محاصة الغرماء، أو الرجوع على كل واحد منهم بما كان يجب له في المحاصة لو حاصهم أن يحاصوا قبل أن يجده؛ وقال في رسم أوصى من سماع عيسى من كتاب المديان: إنه إن رضي بطلب العبد وترك المحاصة، فليس له أن يرجع إليها؛ إن لم يجد العبد، كما أنه إذا اختار محاصة الغرماء، فليس له إن وجد العبد أن يأخذه ويرد ما صار له في المحاصة، وقال أصبغ: ليس إلا المحاصة، ولا يجوز له أن يتركها ويتبع العبد؛ لأنه دين بدين وخطار، وهو أظهر الأقوال، وبالله التوفيق.

[سلف رجلا خمسة وعشرين دينارا فقضاه منها عشرين وبقيت له عليه خمسة]
ومن كتاب أوله مسائل كراء وبيوع
وسئل مالك: عمن سلف رجلا خمسة وعشرين دينارا، فقضاه منها عشرين، وبقيت له عليه خمسة؛ فطلب عينه فلم يجدها، فباعه الذي له عليه الخمسة دنانير بيعا إلى سنة، ثم وقع في نفسه أنه يعطيه الخمسة من ثمن ما باع منه، أيأخذها؟ قال: لا يأخذها، وأصل بيعها لا خير فيه، يبيعه وله عليه دين؛ فقيل له: إنه إنما كانت سلفا حالة، فقال: سواء كان سلفا أو ثمن

(7/123)


متاع، ولكن إن ترك الخمسة إلى السنة، فأرجو أن لا يكون بذلك بأس.
قال محمد بن رشد: الذي يدخل هذه المسألة من المكروه نصا هي الربا المحرم بالقرآن - وهو التأخير بالدين على أن يزيده فيه، وذلك أنه إذا كان له عليه في التمثيل عشرة مثاقيل حالة من قرض أو بيع، فباعه سلعة قيمتها عشرة مثاقيل باثني عشر مثقالا إلى أجل، فقضاه حقه من ثمنها، كانا الذي يقضيه إنما هو ثمن سلعة، كأنه باعها له وأسلم إليه الثمن وصار إن أخره بالعشرة التي كانت قد حلت له عليه، على أن يأخذ منه بها عند الأجل اثني عشر؛ وقد كره ابن القاسم وابن دينار في المدنية إذا كان لرجل دين حال على عبد رجل أن يأخذ من سيده شيئا بعينه إلى أجل، يستعين به في قضاء العبد؛ لأن العبد وماله لسيده، وقوله ولكن إن ترك الخمسة إلى السنة، فأرجو أن لا يكون به بأس، معناه: أنه تركها إلى السنة بغير شرط، ولو كان شرط لم يجز، ودخله البيع والسلف، قاله ابن المواز، هو صحيح.

[مسألة: أسلف مائة إردب قمحا فأخذ تسعين إردبا وعشرة أرادب شعيرا قبل محل الأجل]
مسألة وسئل ابن القاسم: عمن أسلف مائة إردب قمحا، فأخذ تسعين إردبا وعشرة أرادب شعيرا أو دقيقا قبل محل الأجل؟ قال: فلا بأس به.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة؛ لأن الطعام من القرض

(7/124)


جائز أن يباع قبل أن يقبض؛ فإذا كانت التسعون الأرادب التي قبض مثل المائة التي له لا أفضل ولا أدنى، جاز أن يأخذ في المجلس بالعشرة الباقية - عشرة أرادب شعيرا أو عشرة أرادب دقيقا؛ لأنها مبادلة في الوجهين؛ وجاز له أن يأخذ بها تمرا أو ما شاء؛ لأن البيع فيها جائز، ولو كانت التسعون الأرادب أدنى من حقه أو أفضل، لم يجز له أن يأخذ في المجلس بالعشرة الباقية شعيرا ولا دقيقا ولا شيئا من الأشياء على مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك؛ ويأتي في ذلك على قول أشهب في كتاب الصرف من المدونة تفصيل، سنذكره في رسم أوصى من سماع عيسى - إن شاء الله.
ولو انصرف عنه ثم لقيه في مجلس آخر، لجاز له أن يأخذ منه بها شعيرا أو دقيقا بمثل كيلها أو تمرا أو ما شاء من العروض والعين. وحمل أبو إسحاق التونسي هذه المسألة على أن المائة الأردب من سلم، فقال: هذا جواز اقتضاء الدقيق من القمح في السلم، وليس ذلك بصحيح؛ لأنه إنما قال: وسئل: عمن أسلف مائة إردب ولم يقل أسلف في مائة إردب، والله أعلم.

[سلف عشرة دنانير وعروضا في رأس إلى أجل فلما حل الأجل لم يأته بالرأس]
من سماع عيسى بن دينار
من ابن القاسم من كتاب أوله نقدها نقدها
قال عيسى: وسألت ابن القاسم: عن رجل سلف عشرة دنانير وعروضا في رأس إلى أجل، فلما حل الأجل لم يأته بالرأس؛ فأقاله منه وأخذ منه عشرين دينارا عشرة منها للعشرة التي أعطاه، وعشرة أخرى قيمة عرضه؛ قال: لا خير في هذا، هذا بيع وسلف حين أخذ بالعرض ذهبا؛ ولا ينبغي أن يأخذ في ذلك ذهبا ولا

(7/125)


ورقا، قال: ولو أخذ عشرة دنانير وعروضا مثل عرضه أو أدنى من عرضه، لم يكن به بأس؛ ولو أخذ عشرة دنانير وعرضا مخالفا لعرضه، لم يكن فيه خير؛ لأنه يصير مثل الذي كرهنا من الدنانير كلها حين صارت بيعا وسلفا، وكذلك العرض صار ثمنا للعرض المخالف له، وصارت العشرة سلفا.
قلت: أرأيت إذا كان العرض مخالفا لعروضه - وهو أدنى منه أضعافا، أيكون به بأس؟ قال: إذا كان مخالفا للعرض الذي دفع إليه، وكان من غير صنفه، فلا يحل - وإن كان أدنى منه أضعافا؛ لأن يصير بيعا وسلفا.
قال محمد بن رشد: أما إذا أقاله على أن أخذ منه في العروض ذهبا أو ورقا أو عرضا مخالفة لها من غير صنفها، أرفع منها أو أدنى، أو عروضا من صنفها أفضل منها، فلا إشكال في أن ذلك لا يجوز؛ لأنه بيع وسلف، باع منه العروض بما أخذ منه فيها على أن أسلفه العشرة الدنانير التي صرف إليه؛ وأما إذا أخذ منه في العروض عروضا مثل عروضه، أو أدنى منها، إلا أنها من صنفها، فأجاز ذلك ابن القاسم في هذه الرواية.
واعترضها محمد بن المواز، فقال: ما هذه بجيدة، ولم يجزها أصبغ ورأى أن العروض بالعروض بيعا والمال سلفا. ووجه ما ذهب إليه ابن المواز وحكاه عن أصبغ: هو أنه يتهم على أنه إنما أسلفه العشرة دنانير على أن يحرز العروض في ذمته، وهي علة صحيحة، إلا أنها عند ابن القاسم ضعيفة من أجل أن الناس في أغلب أحوالهم لا يقصدون إلى ذلك؛ وهذا معنى قوله في كتاب بيوع الآجال من المدونة في الذي أسلم برذونا في عشرة أثواب إلى أجل، فأخذ منه قبل محل الأجل خمسة أثواب والبرذون، أنه يدخله: خذ في حقك قبل محل الأجل وأزيدك دخولا

(7/126)


ضعيفا؛ وحكى ابن المواز عن أصبغ أنه قال: ولو كانت ثيابا كلها، فأخذ بعضها من صنفها، وبالبعض شيئا آخر لم يجز، ورأى ذلك تناقضا من قوله؛ فقال: وإذ جعل ما رد من صنفها سلفا، فلم أنكر على ابن القاسم إذ جعل كل شيء سلفا في المسألة؛ ولا يلزم عند أصبغ ما ألزمه ابن المواز من التناقض؛ لأنه لم يتناقض في قوله، بل جرى على أصله؛ وذلك أنه إنما منع من مسألة ابن القاسم؛ لأنه اتهمه على أنه أسلفه العشرة دنانير على أن يحرز العرض في ذمته، وكذلك إذا كانت عروضا كلها، فأخذ بعضها من صنفها وبالبعض شيئا آخر؛ اتهمه على أنه باع منه بعض العروض بما أخذ منه فيها، على أن يحرز بعضها في ضمانه؛ وابن القاسم يجيز هذا على أصله في تضعيف هذه العلة، فكلاهما لا يخرج عن أصله.

[مسألة: اشترى من رجل طعاما بعينه إلى أجل]
مسألة وسئل ابن القاسم: عن رجل اشترى من رجل طعاما بعينه إلى أجل، ثم غاب أحدهما من عذر أو غيره حتى مضى الأجل، فأحب أحدهما إتمام البيع وكرهه الآخر؛ قال: أرى البيع لازما لهما، وليس لأحدهما أن يتأخر عن صاحبه، ولا يتغيب عنه ليفسخ البيع فيما بينهما يكون ذلك ندما منه.
قال محمد بن رشد: قوله اشترى من رجل طعاما بعينه إلى أجل، معناه طعاما بعينه بثمن إلى أجل. وقوله: إن البيع لا يفسخ بينهما بتغييب أحدهما صحيح؛ لأن العقد إذا لم يشترط ذلك فيه فقد سلم من الفساد؛ وقد مضى هذا المعنى في أول رسم من سماع ابن القاسم، وهذا بخلاف الصرف إذا غاب أحد المتصارفين عن صاحبه قبل التناجز، وقد مضى تفصيل القول في ذلك في رسم القبلة من سماع ابن القاسم من كتاب الصرف.

(7/127)


[مسألة: باع كبشا بصوف إلى أجل]
مسألة وسئل: عن رجل باع كبشا بصوف إلى أجل، قال: إن كان أجلا قريبا لا يكون للكبش صوف تجز في مثله، فلا بأس به؛ وإن كان أجلا بعيدا يكون للكبش صوف فلا خير فيه. قال مالك: ولا يصلح للرجل أن يبيع نخلا بثمر إلى أجل يكون للنخل ثمرة إلى ذلك الأجل.
قال محمد بن رشد: قد مضى تحصيل القول في هذه المسألة في أول رسم من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته.

[مسألة: باع أرضا فيها زرع لم يطب بثمن إلى أجل واستثناه المشتري]
مسألة وسئل: عن رجل باع أرضا فيها زرع لم يطب بثمن إلى أجل واستثناه المشتري، فاستقال البائع على أن يمحو عنه الثمن ويترك له الزرع؛ قال ابن القاسم: وليس بذلك بأس.
قال محمد بن رشد: وهذا بيّن على ما قال: إن ذلك جائز، إذ لا تهمة فيه؛ لأن الأمر آل بينهما إلى أن رجعت للبائع أرضه، وبقي الزرع للمبتاع موهوبا بغير ثمن فجاز، وكذلك لو استقال على أن يزيده ويترك له الزرع لجاز أيضا، ولو كان المبتاع هو المستقيل بزيادة لم يجز على حال؛ لأنهما يتهمان على أنهما قصدا إلى بيع الزرع قبل أن يبدو صلاحه بالزيادة التي زادها المبتاع، ولو كان البيع بالنقد لجاز ذلك، إلا أن يكونوا من أهل العينة على أصولهم في أن أهل الصحة لا يتهمون في بيع النقد.

(7/128)


[باع طعاما غائبا أو غنما غائبة بموضع لا يجوز فيه النقد بثمن إلى أجل سنة]
ومن كتاب أوله أوصى
أن ينفق على أمهات أولاده
قال ابن القاسم: فيمن باع طعاما غائبا أو غنما غائبة بموضع لا يجوز فيه النقد بثمن إلى أجل سنة، على أن السنة من يوم يقبض الغنم؛ قال: لا يجوز هذا ولا يصلح، إلا أن يكون الأجل من يوم وقع البيع بمنزلة النكاح؛ يريد: بمنزلة الذي يتزوج بمائة دينار نقدا ومائة إلى سنة، فلا يصلح إلا أن تكون السنة من يوم عقد النكاح، وليس من يوم يدخل بها، وقاله أصبغ كله، ورواه في سماعه من ابن القاسم.
قال أصبغ: وإن كان الأجل من يوم وقع البيع وكانت بموضع لا يمكن قبضها إلا بعد مضي الأجل، مثل الأندلس وشبهها؛ أو كانت بغير ذلك وكان الأجل دون ذلك مما يمضي قبل قبض السلعة ويحل وينعقد فلا يحل ولا يجوز؛ لأنه يصير كبيع النقد في الغائب.
قال أصبغ: قال لي ابن القاسم: ولو كان أحدهما بعينه والآخر مضمونا، لم يكن بذلك بأس إذا كانت غيبته قريبة ولم تكن بعيدة جدا، فيكون الكالئ بالكالئ؛ لأن ضمانه على البائع، فهو غير مقبوض، والتسليف لا يصلح إلا بتعجيل القبض؛ فإذا كان المضمون هو المقبوض أولا فلا يصلح، وإن كان الذي بعينه هو المقبوض أولا، فذلك جائز وإن بعد؛ ما لم يبعد جدا، فلا يصلح اشتراؤه؛ لأنه حيوان.
قال محمد بن رشد: لم يجز ابن القاسم في رواية عيسى هذه لمن اشترى سلعة غائبة بثمن إلى أجل أن يكون الأجل من يوم تقبض السلعة، وقاس ذلك على أن النكاح لا يجوز أن يكون أجل الكالئ فيه من يوم الدخول، وقياسه عليه صحيح؛ لأنه إذا لم يجز في النكاح، فأحرى ألا

(7/129)


يجوز في البيع؛ لأنه أضيق من النكاح، إذ قد يجوز من الغرر في الصداق ما لا يجوز في ثمن البيع؛ وهو الذي يأتي على مذهبه في المدونة؛ لأن الظاهر من قوله فيها إنه لا يجوز - أن يسلم في طعام على أن يقتضي في بلد أخرى، إلا أن يضرب لذلك أجلا؛ خلاف قول أصبغ، وابن حبيب: أن ذلك جائز؛ لأن تسمية البلد كضرب الأجل؛ فعلى قولهما يجوز أن يشتري الرجل سلعة غائبة بدين إلى أجل على أن يكون الأجل من يوم تقبض السلعة.
وقد روى يحيى عنه في رسم يشتري الدور والمزارع من سماعه من كتاب النكاح - إجازة النكاح على ذلك، وهو على ما حكى عن مالك في المدونة في الذي تزوج امرأة بخمسين نقدا وخمسين تكون على ظهره، ولا يقاس البيع على النكاح في هذا، لما ذكرناه من أنه أضيق منه.
وأما قول أصبغ: إن السلعة إن كانت بموضع لا يمكن قبضها إلا بعد حلول أجل الثمن، فلا يحل ولا يجوز، فإنه خلاف ظاهر ما في كتاب الغرر من المدونة لابن القاسم؛ لأن الظاهر من قوله فيها أن البيع جائز وإن كان حلول الدين قبل قبض السلعة، ما لم يشترط عليه أن ينقده عند حلوله؛ فإن اشترط ذلك عليه لم يجز باتفاق؛ لأنه النقد في الغالب، ولو اشترط عليه أن لا ينقده إلا بعد القبض، لوجب ألا يجوز أيضا على أصولهم؛ لأنه بيع وسلف.
وأما قول ابن القاسم في رواية أصبغ عنه: ولو كان أحدهما بعينه والآخر مضمونا، لم يكن بذلك بأس إذا كانت غيبة قريبة، ولم تكن بعيدة جدا، فيكون الكالئ بالكالئ؛ لأن ضمانه على البائع وهو غير مقبوض، فإنه خلاف لقوله في المدونة في موضعين:
أحدهما: أن شراء الغائب بالدين دين في دين لا يجوز إذا كان في الموضع البعيد الذي يكون فيه الضمان من البائع؛ لأنه قد نص في المدونة على أن الدين

(7/130)


بالدين إنما يكون في المضمونين جميعا، فعلى قوله فيها يجوز شراء الغائب البعيد الغيبة بالدين.
والثاني: قوله إن الضمان في الغائب القريب الغيبة من المبتاع؛ لأنه لما قال: إن ذلك لا يجوز في البعيد الغيبة؛ لأن الضمان على البائع، دل ذلك على أنه إنما يجوز في القريب الغيبة حيث يكون الضمان على المشتري؛ فلا يكون ابتياعه بدين دينا في دين، وذلك خلاف قوله في المدونة؛ لأنه قد نص فيها أنه أخذ بقول مالك الذي رجع إليه: أن الضمان في الغائب المشترى على الصفة من البائع وإن قربت غيبته جدا بحيث يجوز اشتراط النقد فيه؛ وقد حكى ابن حبيب: أنه لا اختلاف في أن الضمان من المبتاع فيما يجوز فيه النقد، وليس ذلك بصحيح لما قد نص عليه في المدونة.

[مسألة: باع من رجل طعاما بثمن إلى أجل]
مسألة وقال في رجل باع من رجل طعاما بثمن إلى أجل، ثم إن الذي عليه الحق احتاج إلى أخذ دنانير في طعام، فأراد الذي يسأله الدنانير من ثمن الطعام أن يسلفه ولم يقرب أجل الحق الذي له وبينه وبين ذلك أشهر: إنه لا بأس بذلك، قيل: فأراد أن يرتهن مع ذلك رهنا بالأول والآخر، قال: هذا حرام لا يحل.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: إنه لا بأس أن يبيع الرجل من الرجل طعاما بثمن إلى أجل ثم يسلف إليه أيضا دنانير في طعام إلى أجل؛ لأنهما مبايعتان صحيحتان لا تقدح إحداهما في الأخرى، وإنما شرط أن تكون المبايعة الثانية قبل أن تحل الأولى أو بقرب حلولها، لئلا يقضيه الدنانير التي أسلفه في الطعام في ثمن الطعام الذي له عليه، فيكون

(7/131)


قد رجعت إليه دنانيره وآل أمرهما إلى فسخ الثمن الذي كان له عليه في طعام إلى أجل، وقد مضى هذا المعنى في آخر رسم من سماع أشهب، وإنما لم يجز إذا أسلم إليه الدنانير في طعام قبل محل الأجل أن يرتهن منه رهنا بالأول والآخر؛ لأن ذلك غرر؛ إذ لا منفعة له في الرهن إلا أن يقوم الغرماء على الراهن وهو لا يدري هل يقومون عليه أم لا؛ ولا ما يكون قدر انتفاعه به إن قام عليه الغرماء؛ لأن كلما كثرت الديون عليه، كثر انتفاعه بالرهن، فهو يضع عنه من ثمن ما سلفه فيه، لا من غرر لا يدري قدره؛ فإن وقع ذلك فسخت معاملتهما ورد إليه دنانيره، وكان جميع الرهن رهنا بالأقل منها أو من الطعام الذي ارتهنه به، ولم يكن شيء منه في الدين الأول على مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة.
وقد قيل: إن الرهن يبطل ولا يكون رهنا بشيء من الدين الثاني ولا الأول، وقيل: يقسم على الدينين، فيكون لكل واحد منهما ما ينوبه منه، فيبطل ما ناب منه الدين الأول، ويكون رهنا بالدين الثاني ما نابه منه، حكى ذلك ابن المواز عن بعض أصحاب مالك، ويأتي على ما في سماع أصبغ من كتاب الكفالة والحوالة أنه يجوز أن يعطي الرجل الرجل عشرة دنانير، على أن يعطيه حميلا أو رهنا بحق له عليه لم يحل أجله؛ لأنه لا بأس أن يبيع الرجل الرجل بيعا على أن يرهنه به رهنا وبدين له آخر لم يحل أجله، خلاف قوله هاهنا، وخلاف قوله في رسم أخذ يشرب خمرا من سماع ابن القاسم من كتاب الرهون.

[مسألة: أسلف ويبة قمح أيأخذ نصف ويبة قمح ونصف ويبة دقيق]
مسألة وقال، فيمن أسلف ويبة قمح: فلا بأس به أن يأخذ

(7/132)


نصف ويبة قمح، ونصف ويبة دقيق أو شعير أو تمر؛ وإنما مثل ذلك مثل الرجل يكون له على الرجل ديناران فيأخذ منه دينارا عينا، ويأخذ منه بالدينار الآخر ما شاء قمحا ودراهم؛ فإن قال قائل: فالدينار لا يصلح أن يأخذ نصفه عينا ونصفه شيئا آخر، فالويبة بمنزلته فليس كذلك؛ لأن الدينار لا يتبعض، والويبة تتبعض في الكيل بمنزلة الدينارين.
قال: ولا بأس أن يأخذ أيضا من ويبة القمح نصف ويبة قمح، وبالنصف الآخر ما شاء من الكيل من التمر والزبيب، وكل ما كان يجوز أن يباع بالقمح متفاضلا؛ فأما ما لا يجوز أن يؤخذ إلا مثلا بمثل، فلا يأخذ إلا مثل ما بقي له من الكيل سواء؛ ولا يحل له أن يأخذ غير ماله عليه إن كان الذي له عليه ويبة محمولة، فلا خير في أن يأخذ نصف ويبة سمراء، ونصف ويبة شعير، أو شيئا من الأشياء في صفقة واحدة؛ ولو اقتضى منه في بعضها شعيرا أو دقيقا أو سمراء، ثم انصرف عنه؛ ثم جاءه بعد ذلك يتقاضاه بعين حقه فأعطاه به زبيبا أو غير ذلك من الطعام كله أو عرضا، لم يكن بذلك بأس، وإنما يكره من ذلك اجتماعهما.

(7/133)


قال محمد بن رشد: قد بين ابن القاسم وجه قوله فيما أجازه من أن يأخذ الدين من ويبة قمح نصفها قمحا ونصفها دقيقا أو شعيرا أو تمرا، وجعل أشهب في رواية ابن أبي جعفر عنه الويبة الواحدة كالدينار الواحد، فلم يجز ذلك فيها؛ وقول ابن القاسم أصح؛ لأن الويبة الواحدة كالدنانير والدراهم المجموعة، ولا اختلاف عندهم في أنه يجوز أن يأخذ من ويبتي قمح ويبة قمح وويبة دقيق أو شعير أو تمر؛ وإنما لم يجز إذا كان له عليه ويبة محمولة أن يأخذ منه فيها نصف ويبة سمراء ونصف ويبة شعير؛ لأن السمراء أفضل من المحمولة، والشعير أدنى منها، فإذا فعل ذلك، آل الأمر بينهما إلى التفاضل بين السمراء والمحمولة، وبين المحمولة والشعير؛ لأن الذي عليه الويبة المحمولة، لم يكن ليعطيه في نصفها نصف ويبة من سمراء، لولا ما أخذ منه في النصف الآخر نصف ويبة من شعير.
وكذلك الذي له الويبة المحمولة، لم يكن ليأخذ منه في نصفها نصف ويبة من شعير، لولا ما أعطاه في نصف الآخر نصف ويبة من سمراء، فلا اختلاف في هذا، وكذلك لو أخذ منه نصف ويبة سمراء، وفي النصف الآخر صنفا آخر تمرا أو ما أشبهه، لم يجز باتفاق؛ ولو كان له عليه ويبة سمراء، فأراد أن يأخذ منه بها نصف ويبة محمولة، ونصف ويبة شعيرا، أو كان له عليه ويبة شعير، فأراد أن يأخذ منه نصف ويبة سمراء، ونصف ويبة محمولة، لجاز ذلك على أحد قولي ابن القاسم في المدونة؛ وقول أشهب فيها خلاف ظاهر قول ابن القاسم في هذه الرواية؛ وفي رسم إن خرجت بعد هذا، دليل على القولين؛ فهي

(7/134)


ثلاثة وجوه: وجه جائز باتفاق، ووجه لا يجوز باتفاق، ووجه يختلف في جوازه؛ فالاقتضاء يفترق من المبادلة والمراطلة في وجهين: أحدهما: أن من كان له على رجل ذهب أو طعام، فجائز له أن يأخذ منه بعضه على صفته التي وجبت له عليه، والباقية على صفة هي أرفع أو أدنى مما كان له باتفاق؛ ولا يجوز أن يبدل رجل لرجل قفيزي قمح بقفيزي قمح أحدهما مثله، والثاني أرفع منه أو أدنى، ولا أن يراطل رجل رجلا ذهبا بذهبين إحداهما مثله، والثانية أرفع منه أو أدنى، إلا على اختلاف؛ لأن ابن حبيب يجوزهما جميعا، وسحنون لا يجيز واحدة منهما؛ وابن القاسم يجيز المراطلة، ولا يجيز المبادلة.
والثاني: أن من كان له على رجل دين من ذهب أو طعام، فلا يجوز له أن يأخذ منه ذهبا أو طعاما أدنى مما كان له عليه في وجه، وأفضل في وجه آخر؛ وذلك جائز في المبادلة والمراطلة، وقد مضى في رسم البيع والصرف من سماع أصبغ من كتاب الصرف القول على حكم المراطلة والمبادلة في هذا المعنى مستوعبا، فلا معنى لإعادته، والله الموفق.

[قال الرجل للرجل بعني بغلك على أن أعطيك فرسي]
ومن كتاب أوله بع ولا نقصان عليك قال ابن القاسم: إذا قال الرجل للرجل: بعني بغلك على أن أعطيك فرسي، قال: إن كان الثمنان حالين فلا بأس به؛ اتفق الثمنان أو اختلفا؛ وذلك أنه إذا اتفق الثمنان، فإنما هو بغل بفرس وألغيا الثمنين، فإن كان أحدهما أكثر ثمنا من صاحبه، الفرس

(7/135)


بعشرين، والبغل بعشرة، فإنما هو بغل بفرس وزيادة عشرة دنانير؛ وكذلك قال مالك، وكان أجلهما واحدا، فهو بمنزلة واحدة في التفسير لا بأس به؛ وإن كان أحدهما نقدا، والآخر إلى أجل، أو كانا جميعا إلى أجل، واختلف الأجلان فلا خير فيه؛ لأنه بيع وسلف؛ لأنه أعطاه عشرة دنانير انتفع بها فردها عليه وأعطاه بغلا بفرس.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بيّنة المعنى، مثل ما في المدونة وغيرها؛ وإنما جازت البيعتان إذا كان الثمنان حالّين، أو كانا إلى أجل واحد؛ لأن الحكم يوجب المقاصة بينهما، فيئول أمرهما إذا تقاصا إلى بيع فرس ببغل دون زيادة، أو فرس ببغل بزيادة؛ وإن تقاصا جاز البيع، وإن لم يتقاصا فسد البيع، إلا أن يشترطا ترك المقاصة، فيكون البيع فاسدا يجب فسخه- وإن تقاصا؛ ولو تبايعا على أن يتقاصا فلم يتقاصا وتناقدا الدنانير، لوجب على أصولهم أن يرد إلى كل واحد منهما دنانيره ولا يفسخ البيع بينهما، لوقوعه على صحة لا تخلو المسألة من أحد هذه الثلاثة الأحوال.

[مسألة: يحل له على الرجل طعام فيستسلفه إنسان طعاما فيحيله عليه فيتقاضاه]
مسألة وسألته: عن الرجل يحل له على الرجل طعام له عليه من سلم فيستسلفه إنسان طعاما، فيحيله عليه فيتقاضاه؛ هل ينبغي له أن يبيعه من المسلف؟ قال: لا يبيعه منه. قلت: لِِمَ؟ أليس هو بمنزلة الوكيل؟ قال: لا، ليس هو بمنزلة الوكيل؛ لأن الوكيل لو هلك عنده الطعام لم يكن عليه ضمان، وأن المتسلف لو هلك

(7/136)


عنده الطعام كان ضامنا، فالطعام لم يقع في ضمان صاحب السلم بعد، فلا خير فيه؛ ولقد قال مالك إذا كان يسيرا فلا بأس به، ولكني لا أرى أن يجوز ذلك في القليل ولا في الكثير.
قال محمد بن رشد: إنما لم يجز لمن سلم في طعام فأسلفه رجلا أن يبيعه من الذي أسلفه إياه بعد أن تقاضاه؛ لأنه لا يدخل في ضمانه بقبض المستسلف إياه؛ فإذا باعه منه أو من غيره، فقد ربح فيه قبل أن يضمنه؛ وهذا هو المعنى في النهي عن بيع الطعام المشترى قبل الاستيفاء، وقد مضى المعنى في أول سماع أشهب؛ والقياس ألا يجوز ذلك في القليل ولا في الكثير؛ كما قال ابن القاسم، وما كان قال مالك من إجازته في اليسير، إنما هو استحسان؛ لأنه عدل عن اتباع مقتضى القياس وطرد العلة في القليل والكثير، إذ قد انتقل الطعام من البيع إلى القرض وبيع القرض من الطعام قبل أن يستوفى جائز، وأما بيعه من الوكيل بعد أن يقبضه فلا إشكال في جوازه؛ لأنه قد حصل في ضمانه بقبض الوكيل إياه؛ وهذا إذا تحقق أن الوكيل قد قبضه، وأما إن أتاه فقال له قد قبضته فبعه مني، فقد قال مالك في رسم أشهب من كتاب البضائع والوكالات لا أحب ذلك ولا يعجبني؛ ولو كان الوكيل هو الذي اشتراه له بدنانير أعطاه إياه، لما جاز له أن يبيعه منه، وإن كان قد قبضه بأكثر من الدنانير التي أعطاه، ولا بدراهم إن كان أعطاه دنانير.

[باع رجل طعاما بثمن نقدا أو إلى أجل]
ومن كتاب أوله أسلم دينارا في ثوب إلى أجل قال: وقال مالك إذا باع رجل طعاما بثمن نقدا أو إلى أجل،

(7/137)


فلا بأس أن يأخذ به زيتا قبل أن يفترقا، كان الثمن نقدا أو إلى أجل؛ فإن كان تفرقا، فلا خير فيه، كان الثمن نقدا أو إلى أجل؛ قال عيسى: يصير كأنه باعه طعاما بطعام نقدا وكان ذكر الثمن لغوا.
قال محمد بن رشد: هذا بيّن على ما قال؛ لأن اقتضاء الطعام من ثمن الطعام، إنما كره من أجل أن أمرهما لما آل إلى أن أعطاه طعاما وأخذ منه طعاما بعد أن غاب عليه، اتهما على أنهما قصدا إلى بيع طعام بطعام إلى أجل؛ فإذا كان ذلك في المجلس قبل أن يتفرقا، لم يكن في ذلك وجه للتهمة.

[مسألة: سلف في سلعة مضمونة إلى أجل أو طعام فباع السلعة أو ولاها]
مسألة قال: وقال مالك فيمن سلف في سلعة مضمونة إلى أجل أو طعام، فباع السلعة أو ولاها، أو أشرك فيها؛ أو ولى الطعام، أو أشرك فيه؛ فإنما تباعة المبتاع الآخر أو المشرك على البائع الأول، وليس على الذي أشركه أو ولاه أو باعه من تباعتها شيء، وقد قال يحيى بن يحيى في كتاب كراء الدور والأرضين: وسواء عليه ولى ما اشترى من السلع، أو باعه من رجل بربح وانتقد، التباعة في جميع هذا على البائع الأول للمشتري الآخر؛ قال ولو اشترط المشتري الآخر أن البائع الثاني ضامن لحقه حتى يستوفيه من الذي سلف فيه أولا، كان ذلك مكروها لا يجوز.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: إن من اشترى من رجل سلعة مضمونة له على رجل، أو ولاه رجل طعاما أسلم فيه أو أشركه فيه؛

(7/138)


فالتباعة في ذلك للمبتاع أو المولي أو المشرك على البائع الأول؛ لأنه إنما اشترى ما في الذمة، فوجب ألا يكون له إلا اتباعها كالحوالة؛ والأصل في هذا قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «ومن أتبع على مليء فليتبع» . ولو اشترط أن تباعته على الذي باعه أو ولاه أو أشركه، لم يجز؛ لأنه غرر باع منه على أن يضمن له ما لا يلزمه ضمانه؛ وهو معنى قوله ولو اشترط المشتري الآخر أن البائع الثاني ضامن لحقه حتى يستوفيه من الذي سلف فيه أولا، كان ذلك مكروها لا يجوز؛ وكذلك لو اشترط عليه أنه ضامن للثمن الذي دفع إليه إن مات أو فلس لم يجز أيضا؛ لأنه قد أخذ للضمان ثمنا ولم يشترط في هذه المسألة أن يكون الذي عليه الطعام أو السلعة حاضرا مقرا؛ وقد اختلف في ذلك، فقيل: إنه لا يجوز إلا أن يكون حاضرا مقرا؛ وقيل: إنه يجوز إذا كان قريب الغيبة حتى يعلم ملؤه من عدمه، وحياته من موته؛ وقد مضى القول في هذا المعنى في رسم القبلة من سماع ابن القاسم، وفرق ابن حبيب في هذا بين الطعام والبيع، فقال إنه في الطعام إذا لم يكن حاضرا ذريعة لبيعه قبل استيفائه، وليس ذلك ببين.

[مسألة: ابتاع سلعة بعينها أو طعاما فأشرك فيه عند مواجبة البيع أو ولاه]
مسألة قال عيسى قال ابن القاسم: ومن ابتاع سلعة بعينها أو طعاما، فأشرك فيه عند مواجبة البيع أو ولاه، فتباعته على البائع الأول؛ وإن باعه إياه فتباعته على المشترى الأول، إلا أن يشترط أن تباعته على البائع الأول بحضرة البيع الأول، فذلك جائز؛ ومن ابتاع سلعة فبان بها، يعني انقلب بها أو فارق بائعها، ثم أشرك فيها أو ولاها أو باعها، فتباعته على الذي ولاه أو أشركه أو باع منه.
قال محمد بن رشد: فرق في هذه الرواية بين التولية والشركة، وبين

(7/139)


البيع في السلعة المعينات؛ فقال فيها: إن العهدة في التولية والشركة إذا كانت بحضرة البيع على البائع الأول، وإنها في البيع على البائع الثاني، إلا أن يشترط أنها على البائع الأول؛ وقد قيل: إن الشركة والتولية كالبيع، تكون العهدة فيهما على المولى والمشرك، إلا أن يشترط أنها على البائع الأول؛ وهو قول مالك في الموطأ، وقول أصبغ في نوازله من جامع البيوع، وظاهر ما في سماع عيسى من كتاب العيوب، وقول ابن حبيب في الواضحة؛ لأنه لم ير العهدة في التولية والشركة على البائع الأول، إلا أن يكون أشركه أو ولاه نسقا بالبيع قبل أن يثبت بينهما، ولا اختلاف في هذا الموضع؛ وتحصيل القول في هذه المسألة، أنه إذا باع بحضرة البيع، فلا خلاف في أن العهدة للمشتري على البائع الثاني الذي باع منه؛ واختلف إن اشترط البائع على المشتري أن عهدته على البائع الأول على قولين، أحدهما: أن ذلك جائز وهو للبائع لازم، وهو ظاهر قول ابن القاسم في هذه الرواية؛ ومعنى ذلك عندي إذا كان قد باعها بمثل الثمن الذي اشتراها به أو أقل؛ فأما إن كان باعها بأكثر من الثمن الذي باعها به، فلا يلزم البائع الأول ذلك إلا برضاه؛ لأن من حجته أن يقول: إنما كانت العهدة لك علي بعشرة، فلا أرضى أن تكون علي باثني عشر؛ فإن رضي بذلك، كان حميلا عن البائع الثاني بالزائد- إن جاء استحقاق. والثاني أن ذلك لا يجوز، وهو قول ابن حبيب في الواضحة؛ قال لأنها ذمة بذمة، إلا أن يشترطها عليه برضاه على وجه الحمالة فيجوز؛ فإن اشترطها عليه على وجه الحمالة، فجاء استحقاق، رجع المشترى الثاني بقدر الثمن الأول على من شاء منهما باتفاق؛ لأنه غريم غريمه إن رجع على الذي باعه، كان للذي باعه أن يرجع على البائع الأول؛ وأما الزائد على الثمن الأول، فلا يرجع به على الأول إلا في عدم الذي باعه على حكم الحمالة؛ وأما إذا

(7/140)


ولاه أو أشركه بحضرة البيع، فقيل العهدة للمشرك أو المولي على الذي أشركه أو ولاه، إلا أن يشترط أنها على البائع الأول؛ وقيل إنها له على البائع الأول- وإن لم يشترط ذلك عليه؛ وأما إذا طال الأمر أو افترقا، فالمشهور أن العهدة على البائع الثاني للمبتاع وللمشرك وللمولي، ولا يجوز أن يشترط على البائع الأول إلا برضاه على وجه الحمالة، فيكون المبتاع الثاني أو المشرك أو المولى مخيرا في الرجوع على من شاء منهما بما للثاني أن يرجع به على الأول؛ ولا يرجع على الأول بما ليس للثاني أن يرجع به عليه إلا في عدمه على سبيل الحمالة حسبما تقدم ذكره، وقد كان روي عن مالك: أن اشتراط العهدة عليه جائز- وإن كان غائبا إذا كان معروفا.
يريد فلا يرجع عليه إن طرأ استحقاق إلا بما زاد على الثمن الأول، قال: وإن لم يكن معروفا فسخ البيع، ثم رجع فقال الشرط باطل إذا لم يكن بحضرة البيع؛ فيتحصل في اشتراط العهدة في البيع على البائع الأول ثلاثة أقوال، أحدها: أن ذلك جائز وهو للبائع لازم- وإن افترقا وطال الأمر. والثاني أن ذلك لا يجوز إن كان بحضرة البيع إلا برضاه على وجه الحمالة. والثالث الفرق بين أن يشترطها عليه بحضرة البيع، أو بعد الافتراق والطول؛ وفي الشركة والتولية قولان على من يكون بالحضرة، وقولان في جواز اشتراطها على البائع الأول بعد الافتراق والطول؛ وقيل أيضا إذا لم يطل فلا يراعى الافتراق، ويجوز أن يشترط العهدة على البائع الأول، وهو ظاهر قول أصبغ في نوازله من جامع البيوع؛ وسيأتي في أول كتاب الكفالة القول في اشتراط العهدة على رجل أجنبي.

[مسألة: سلف مائة دينار في مائة ثوب مضمونة موصوفة إلى أجل]
مسألة وسئل عن رجل سلف مائة دينار في مائة ثوب مضمونة موصوفة إلى أجل، فقبض المائة دينار، فلما حل الأجل دفع إليه

(7/141)


خمسين كساء، فقبضها وقال إذا دفع إلي الخمسين الثوب الفسطاطي، وقال إنما أسلفتني في مائة كساء وأنا أدفع إليك تمامها؛ قال بل أسلفتك في خمسين كساء وخمسين ثوبا فسطاطيا، قال ابن القاسم إن كان لم يقبض شيئا رأسا، تحالفا وتفاسخا البيع بينهما، وإن كان قد قبض الأكسية الموصوفة، تحالفا ويقسم الثمن بينهما، فيرد بقدر ذلك يريد أن يقسم الثمن الذي اشترى به على قيمة الأكسية الموصوفة التي ادعاها، وقيمة الفسطاطي الموصوف الذي ادعى؛ فيقع على كل صنف ما وقع، فيرد في الفسطاطي بقدر ما وقع عليه من الثمن الذي اشترى به؛ لأنه حين قبض الأكسية صار مدعيا فيما بقي.
قال محمد بن رشد: قوله: إن كان لم يقبض شيئا رأسا، تحالفا وتفاسخا، صحيح لا اختلاف فيه؛ لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أيما بيعين تداعيا فالقول ما قال البائع أو يترادان» . وأما تفسير ابن القاسم لقول مالك إن الأكسية إن قبضت يتحالفان ويقسم الثمن عليهما بقوله. يريد أن يقسم الثمن الذي اشترى به على قيمة الأكسية الموصوفة التي ادعاها، وقيمة الفسطاطي الموصوف إلى آخر قوله؛ فليس بصحيح على ما تداعيا فيه؛ لأن المسلم مدع في الفسطاطي؛ والمسلم إليه ينكره إياها ولا يقر له إلا بخمسين كساء؛ فالقول قوله مع يمينه فيما ناب الأكسية المقبوضة من المائة التي انتقد على ما يقر به، لا على ما يدعي المسلم؛ فيقال للمسلم إليه احلف أنك إنما انتقدت المائة في مائة كساء، فإن حلف على ذلك، قيل للمسلم: إن أردت أن تأخذ الخمسين كساء الباقية، وإلا فاحلف أنك

(7/142)


ما دفعت إليه المائة الدينار، إلا في خمسين كساء وخمسين ثوبا فسطاطيا، (- فإن حلف على ذلك، فسخ السلم في الخمسين الباقية، وقبضت المائة دينار على ما يقر به المسلم إليه من أنه إنما قبضها على مائة كساء، فرد إليه منها خمسين دينارا، وإنما كان يصح تفسير ابن القاسم لو كان المسلم إليه هو الذي ادعى أنه أسلم إليه مائة دينار في خمسين كساء وخمسين ثوبا فسطاطيا) ، وقال المسلم: بل إنما أسلمت إليك المائة في مائة كساء، قال هكذا جرى وهم ابن القاسم، وعليه أتى تفسيره، وهذا بين.

[مسألة: الزنبق وما أشبه ذلك يباع بعضه ببعض إلى أجل متفاضلا]
مسألة وسئل عن الزنبق والدارني والخيري وما أشبه ذلك يباع بعضه ببعض إلى أجل متفاضلا، قال: ما يعجبني ذلك؛ لأن المنافع فيه واحدة، مثل البربني والشطري وما أشبهه.
قال محمد بن رشد: هذه أدهان يقرب بعضها من بعض في المنفعة، فحكم لها بحكم الصنف الواحد وإن اختلفت أسماؤها، وذلك صحيح على أصل مذهبه في مراعاة اختلاف المنافع دون الاعتبار بالأسماء، وبالله التوفيق.

[كان له على رجل قمح من سلف فقضاه نصفه شعيرا ونصفه دقيقا]
ومن كتاب أوله إن خرجت من هذه الدار وسئل عن رجل كان له على رجل قمح من سلف فقضاه نصفه شعيرا ونصفه دقيقا، قال: إن كان الدقيق أوضع ثمنا عند

(7/143)


الناس من القمح، فلا بأس به؛ وإن كان الدقيق أرفع ثمنا عند الناس من القمح، فلا خير فيه؛ لأنه حينئذ يكون قمحا بشعير وزيادة دقيق؛ وإن كان أخذ منه الدقيق على أن يأخذ منه الشعير، فلا خير فيه؛ وقال: لا خير في أن تتقاضى ممن لك عليه قمح بنصف ذلك القمح تمرا، على أن يأخذ نصفه شعيرا أو نصفه سلتا أو نصفه عدسا؛ لأن الربى يدخله لأجل الشعير والسلت؛ لأنه لا يحل القمح بالشعير والسلت إلا مثلا بمثل؛ وكل ما لا يصلح إلا مثلا بمثل، مثل القمح والشعير والسلت؛ فلا ينبغي لك أن تأخذ ممن لك عليه ذلك نصف مالك عليه من صنف لا يصلح إلا مثلا بمثل، ونصفا من غير ذلك مما يجوز واحدا باثنين إذا كان تقاضيك ذلك معا، إلا أن يفترق تقاضيك ذلك، مثل أن تأتيه اليوم فتسأله قمحك ولك عليه ويبتان من قمح؛ فيقول: هل لك أن تأخذ مني ويبة تمر بويبة قمح؟ فتفعل ذلك ثم تتقاضاه بعد ذلك فيوفيك الويبة الباقية شعيرا، فلا بأس بهذا إذا صح ذلك.
قال محمد بن رشد: أجاز في أول المسألة أن تأخذ من القمح السلف نصفه دقيقا ونصفه شعيرا إذا كان الدقيق أوضع ثمنا عند الناس من القمح، ثم قال: إنه إن كان أخذ منه الدقيق على أن يأخذ منه الشعير فلا خير فيه؛ وذلك تناقض من قوله؛ لأن الدقيق إذا كان أوضع (ثمنا)

(7/144)


عند الناس وأخذه مع الشعير في صفقة واحدة عن القمح، فإما أن يقال إن ذلك جائز؛ لأنهما جميعا أدنى من القمح- وإن كان إنما رضي أن يأخذ أحدهما لحاجته إلى الآخر، وإما أن يقال إن ذلك لا يجوز بحال؛ لأن الدقيق والشعير وإن كان كل واحد منهما أدنى من القمح، فقد يقل الشعير ويتعذر الطحين، فيكون كل واحد منهما أكثر ثمنا من القمح، فيتهمان على أنه إنما رضي أن يأخذهما وإن كانا جميعا أقل قيمة من القمح، لما رجاه من نفاق أحدهما وزيادة قيمته على القمح؛ وقد مضت هذه المسألة والقول فيها مستوفى في رسم أوصى، فلا معنى لإعادته.

[سلف ثوبا ودينارا في ثوب مثله إلى أجل]
ومن كتاب أوله أسلم وله بنون صغار وسئل ابن القاسم عن رجل سلف ثوبا ودينارا في ثوب مثله إلى أجل، فقال: إذا تأخر أحد الثوبين فلا خير فيه، تأخر الدينار أو انتقد.
قال محمد بن رشد: لم يجز أن يسلم الرجل الدينار وثوبا في ثوب مثله إلى أجل؛ لأنهما لما فعلا ذلك ابتداء، علم أنه إنما قصدا إلى أن يحرز الثوب. في ضمانه بدينار يدفعه إليه ثمنا لضمان الثوب، وذلك مما لا يحل ولا يجوز؛ ولو باع رجل من رجل دابة بثوب موصوف إلى أجل، ثم اشتراها منه بثوب مثله نقدا ودينارا نقدا لجاز ذلك؛ إذ لا يتهم أحد أن يدفع دينارا وثوبا في ثوب مثله إلى أجل، وإن كان لا يجوز أن يسلم الرجل إلى الرجل ثوبا ودينارا في ثوب مثله إلى أجل، للعلة التي ذكرناها فقف على ذلك ودبره، والله تعالى ولي التوفيق.

(7/145)


[الصغير بالكبير إلى أجل من صنفه من البهائم كلها]
ومن كتاب أوله حمل صبيا على دابة قال ابن القاسم: لا خير في صغير بكبير إلى أجل من صنفه من البهائم كلها، ولا كبير بصغير؛ لأنك لا تجد أحدا يعطي كبيرا بصغير من صنفه إلى أجل إلا للضمان، ولا صغيرا بكبير من صنفه إلى أجل إلا للزيادة في السلف؛ ولا بأس به على وجه البيع أن يكون صغيران بكبير أو كبير بصغيرين، أو كبيران بصغير، فلا بأس به؛ لأنهم قد خرجوا من تهمة الضمان والزيادة في السلف وصار بيعا من البيوع.
قال محمد بن رشد: لم يجز ابن القاسم في هذه الرواية أن يسلم صغير في كبير، ولا كبير في صغير من جنس واحد من البهائم؛ وأجاز أن يسلم كبير في صغيرين، وسكت عن سلم صغير في كبيرين، وأراد به أن ذلك جائز، فهو منصوص من قوله بعد هذا في رسم باع شاة، ومثله في كتاب محمد؛ فعلى هذا إنما منع من سلم واحد في واحد، وأجاز ما سوى ذلك؛ ولمحمد بن المواز في مواضع أخر من كتابه أنه لا يجوز سلم صغير في كبيرين، ويجوز سلم كبير في صغيرين، فعلى هذا منع من سلم واحد في واحد كيفما كان قدم الصغير أو أخره، ومن سلم صغير في كبيرين، وأجاز ما سوى ذلك؛ وقال ابن لبابة تأويلا على

(7/146)


ما روى أصبغ عن ابن القاسم من أنه لا يجوز سلم صغير في كبير، أنه لا يجوز سلم الواحد في الواحد، ولا الجماعة في الواحد، ولا الواحد في الجماعة كيفما كان، ويجوز ما سوى ذلك؛ وهذه الثلاثة الأقوال لا يحمل القياس شيئا منها؛ لأنه إذا جاز أن يسلم منها العدد في العدد، جاز أن يسلم منها الواحد في الواحد؛ لأن المكروه لو دخل في الواحد بالواحد لكان أكثر دخولا في العدد بالعدد؛ وما في رسم باع شاة من إجازته صغيرا من بني آدم في المهد بكبير تاجر، فصحيح معارض لها، فهو أصح، وعليه ينبغي أن يحمل ما في المدونة؛ لأنه أجاز فيها أن يسلم كبار الخيل في صغارها، وكبار الإبل في صغارها، وكبار البقر في صغارها، فجعل الكبار من ذلك كله صنفا، والصغار منه صنفا آخر؛ ولم يفرق في شيء من ذلك بين الواحد بالواحد، والعدد بالعدد؛ والتفرقة بين ذلك لا يحملها القياس على ما ذكرناه أيضا؛ فإنه أجاز فيها أن يسلم ثوبا من غليظ الكتان مثل الريقة وما أشبهه في ثوب قصبي إلى أجل، وثوب فرقبي معجل؛ فهذا إجازة سلم واحد في واحد من الصنفين من جنس واحد، إذ لا فرق بين سلم ثوب من غليظ الكتان في ثوب من رقيقه، وبين سلم صغير في كبير. وقوله فيها إنه لا يجوز أن يسلم الرأس في رأس دونه؛ إلى أجل، ولا الثوب في ثوب دونه، إلى أجل؛ إنما معناه فيما كان من صنفه لا يتفاوت تفاوتا بعيدا يخرج به الثوب، أو الرأس، إلا أن يكون صنفا آخر يجوز فيه التفاضل إلى أجل؛ ولا اختلاف في جواز سلم واحد في واحد من جنسين مثل بغل في فرس؛ وقد ذهب ابن أبي زيد إلى أن تفسير ما في المدونة برواية عيسى هذه، فقال: لا يجوز على مذهبه في المدونة سلم كبير في صغير، ولا صغير في كبير ولا في كبيرين؛ واستدل على ذلك بقوله فيها: لا يسلم ثوب في ثوب دونه، ولا رأس في رأس دونه، وقال في قوله فيها: إنه لا بأس أن يسلم ثوب من غليظ الكتان مثل الريقة وما أشبهه في ثوب قصبي إلى أجل، وثوب فرقبي معجل، أن ذلك شاذ، إنما يأتي

(7/147)


على أحد قولي مالك في إجازة جمل في جمل مثله نقدا، وجمل مثله إلى أجل، والمشهور من قوله أن ذلك لا يجوز وهو الصحيح، وبالله التوفيق.

[مسألة: كبار الحمير في صغار البغال على حال من الأحوال إلى أجل كذلك]
مسألة ولا خير في كبار الحمير في صغار البغال على حال من الأحوال إلى أجل كذلك، قال لي مالك: ولا بأس بكبار البغال بصغار الحمير على ما وصفت لك اثنان بواحد إلى أجل؛ قلت: ولم كرهت كبار الحمير بصغار البغال؛ قال: لا أجد فيه إلا الإتباع؛ لأن مالكا قاله؛ قلت: فمن أي وجه أخذ؟ قال: كأنه من وجه أن الحمير تنتج البغال؛ قلت: فلو كان إلى أجل قريب ليس فيه تهمة؟ قال: لو كان مثل الخمسة الأيام وما أشبهها، لم أر به بأسا.
قال محمد بن رشد: الظاهر من هذه المسألة أن مالكا لم يجز أن يسلم كبار الحمير في صغار البغال، وأن ابن القاسم كره ذلك اتباعا لمالك، وتأول عليه أنه إنما لم يجز ذلك من أجل أن الحمير تنتج البغال، فأجاز ذلك إلى الأجل القريب الذي لا تهمة فيه الخمسة الأيام وشبهها، وأجاز أن يسلم كبار البغال في صغار الحمير، إذ لا ينتج البغال الحمير؛ وعلى هذا كان الشيوخ يحملون المسألة ويعترضونها، واعتراضهم لها على ما كانوا يحملونها عليه صحيح؛ لأن الكراهة لتسليم كبار الحمير في صغار البغال ضعيفة، وحجة ابن القاسم باتباع مالك عليها غير صحيحة؛ إذ لا يصح للعالم اتباع العالم في قول يرى أنه لا وجه له في الصحة، وتأويله عليه أنه قال ذلك من وجه أن الحمير تنتج البغال بعيد، لبعد المزابنة في ذلك؛ وإذ تأول هذا عليه واتبعه على قوله، فكان يلزمه أن يقول إن ذلك جائز إلى الأجل البعيد الذي لا يمكن أن يكون فيه من الحمير بغال،

(7/148)


ولا يقول إن ذلك لا يجوز إلا إلى الخمسة الأيام ونحوها، وفي قوله إلا إلى الخمسة الأيام ونحوها إجازة السلم إلى الخمسة الأيام وهو خلاف المشهور من قوله في أن السلم لا يجوز إلا إلى الأجل الذي ترتفع فيه الأسواق وتنخفض، العشرة الأيام والخمسة عشر، ونحو ذلك؛ وكيف يصح أن يكون مراد مالك ما تأوله عليه وهو يجيز في المدونة وغيرها سلم كبار الخيل في صغارها، وكبار الإبل في صغارها، فلما كان يجيز كبار الخيل في صغارها، وكبار الإبل في صغارها؛ وكبار الحمير في صغارها على هذا القياس، وإن كانت الخيل تنتج الخيل، والإبل تنتج الإبل، والحمير تنتج الحمير، علم أنه لم يكره كبار الحمير في صغار البغال، من أجل أن الحمير تنتج البغال؛ كما تأول عليه، فلعل معنى قول مالك في هذه الرواية على هذا التأويل، أنه رأى الصغار والكبار من كل جنس من الحيوان صنفا واحدا كالصغار والكبار من بني آدم، ومن الضأن والمعز وهو قول ابن دينار في المدنية؛ فكره على طرد قوله هذا كبار الحمير بصغار البغال؛ لأن البغال والحمير عنده صنف واحد، ولو سئل على هذا القول عن كبار البغال بصغار الحمير، لكرهها أيضا، ولم يفرق بين ذلك كما فعل ابن القاسم؛ والذي أقول به في هذه المسألة، أن معنى قوله: ولا خير في كبار الحمير بصغار البغال على حال، أي لا خير في ذلك واحد بواحد، قدم الصغير في الكبير، أو الكبير في الصغير، كما قال في المسألة التي فوقها؛ وذلك صحيح على أصله في أن البغال والحمير صنف واحد. وقوله بعد ذلك ولا بأس بكبار البغال بصغار الحمير على ما وصفت لك: اثنان بواحد، يدل على هذا التأويل؛ لأنه أراد أنه لا بأس بذلك: اثنان بواحد على ما وصفت لك من أنه يجوز من الصغار بالكبار من

(7/149)


جنس واحد: اثنان بواحد، ولا يجوز من ذلك واحد من واحد؛ فقال عيسى لابن القاسم: ولم كرهت كبار الحمير بصغار البغال؟ أي ولم كرهت كبار الحمير بصغار البغال واحد بواحد إلى أجل مع ما بينهما من البعد، لاختلافهما في الصغر والكبر، وفي الأجناس؟ فقال: ما أجد في ذلك إلا الاتباع؛ لأن مالكا قاله، يريد لأن مالكا قال: إن البغال والحمير جنس واحد؛ وقال: إن الجنس الواحد من البهائم لا يجوز الصغير منه بالكبير واحد بواحد إلى أجل، فقال له: فمن أي وجه أخذه؟ أي من أي وجه أخذ أن الحمير والبغال جنس واحد؟ فقال له: من وجه أن الحمير تنتج البغال، فقال له: فلو كان إلي أجل قريب، أي فلو سلم حمارا كبيرا في بغل صغير، وبغلا كبيرا في حمار صغير إلى أجل قريب ليس فيه تهمة، أي ليس يتهم فيه على الضمان أنه أراد أن يضمن له الكبير على أن يأخذ منه الصغير؛ فقال: لو كان إلى أجل قريب الخمسة الأيام ونحوها لم أر به بأسا. فعلى هذا التأويل تستقيم المسألة كلها، ويرتفع الالتباس منها؛ وقد تكلم ابن لبابة عليها في المنتخب فأطال القول فيها وخلطه، ومن جملة ما قال: إن ابن القاسم لم يفهم معنى ما قال مالك؛ لأنه قال قولا دقيقا، فتأول عليه ما لا يصح أن يكون أراده، وساق قوله على معنى ما تأوله عليه فزاد في لفظه ونقص، وقدم وأخر، ليفهم السامع معنى قول مالك الذي ظن أنه أراده فلبس المسألة. قال: والذي ذهب إليه مالك في قوله إنه إذا سلم كبار البغال في صغار الحمير، جاز من ذلك العدد في العدد، والواحد في الواحد، كالخيل في الحمير، إذ لا تخرج الحمير من البغال، كما لا تخرج من الخيل، وإذا سلم كبار الحمير في صغار البغال، جاز في ذلك العدد في العدد، ولم يجز فيه الواحد في الواحد، ككبار الحمير في صغار الحمير، إذ تخرج صغار البغال من الحمير، كما تخرج صغار الحمير من

(7/150)


الحمير؛ هذا معنى قوله، وهو تعسف في التأويل، بعيد من اللفظ، غير بين في المعنى.

[مسألة: العصفر بالثوب المعصفر إلى أجل]
مسألة قال ابن القاسم: ولا خير في العصفر بالثوب المعصفر إلى أجل، إذا كان العصفر نقدا والثوب إلى أجل؛ لأنه غرر؛ ولا بأس بالثوب المعصفر بالعصفر إلى أجل؛ لأنه لا يخرج من الثوب المعصفر عصفر، ولا خير في البطيخ بزريعة البطيخ إلى أجل؛ يكون في مثل ذلك الأجل من الزريعة بطيخ، ولا زريعة البطيخ بالبطيخ إلى أجل، ولا تبالي أيهما أخرت أو قدمت.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة في المعنى، وقد مضى القول في المزابنة مستوفى في أول رسم من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادة شيء من ذلك، وبالله التوفيق.
تم الجزء الأول من كتاب السلم والآجال

(7/151)