البيان
والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة [كتاب جامع
البيوع الأول] [القصيل الذي يشتريه
الرجل فيصير بعضه حبا]
(7/239)
من سماع ابن القاسم
من مالك من كتاب الرطب باليابس قال سحنون: قال عبد الرحمن بن القاسم في
القصيل الذي يشتريه الرجل فيصير بعضه حبا؟ قال: يعدل بقدر الفدادين ويقاس،
فإن كان الذي حبب منه الثلث أو الثلثان رجع على حساب ذلك، وليس في ذلك
قيمة، وإنما يقدر بالقياس والتحري، وليست فيه قيمة. قلت إن بعضه يكون أجود
من بعض؟ قال: يقدر على ذلك، يقال كم هذا الذي يجب من الذي أكل إن كان الثلث
أو الثلثان على قدر جودته ورداءته؟ قال والبلح أيضا كذلك على التقدير إذا
أزهى بعضه.
قال محمد بن رشد: هذا صحيح على معنى ما في المدونة وغيرها من أن الرجل إذا
اشترى القصيل على أن يقصله فلم يقصله حتى حبب، أن البيع ينتقض فيه، كما لو
اشتراه على أن يتركه حتى يحبب؛ لأن البيع إذا كان ينتقض في جميعه إذا حبب،
أن ينتقض فيما حبب منه إذا حبب بعضه، وسواء غلبه الحب فيه دون توان، أو
توانى في قطعه حتى
(7/241)
حبب قصدا منه لنقض البيع لاستغلائه إياه،
وما أشبه ذلك؛ ولو توانى في قطعه فرافعه البائع إلى السلطان، فقضى عليه
بتعجيل قطعه قبل أن يحبب فلم يفعل حتى حبب، أو حبب في خلال الخصام؛ لوجب أن
ينتقض البيع فيه أيضا. قال ذلك أصبغ، ورواه عن ابن القاسم؛ وقوله: إذا حبب
بعضه أنه يعدل بقدر الفدادين ويقاس، وليس فيه قيمة؛ يريد ليس فيه قيمة
تختلف باختلاف الأوقات، كالرأس مع الخلفة إذا اشتراه وشرط خلفته، فحصد
الأصل وترك الخلفة حتى حبب؛ أن البيع ينتقض فيها بقيمتها من قيمة الأصل،
يقال كم قيمة القصيل يوم وقع البيع فيه دون خلفة، وكم قيمة حينئذ باشتراط
خلفته؛ فإن كانت قيمة القصيل دون خلفته عشرة، وقيمته باشتراط خلفته خمسة
عشر، علم أن الخلفة وقعت في الثلث، فيرجع المبتاع على البائع بثلث الثمن،
وتكون الخلفة التي حببت له؛ لأنتقاض البيع فيها دون الأصل؛ وأما الأصل إذا
حبب بعضه، فما حبب منه، فينتقض البيع فيه بمقداره من الثمن نصفه بنصف
الثمن، وثلثه بثلث الثمن، وما كان من الأجزاء على هذا، ويعرف قدر ما حبب
منه مما لم يحبب بالقياس والكيل، يكال الفدان ويقاس، فيعلم ما بيع ما حبب
منه مما لم يحبب، فيرجع المبتاع بقدر ذلك من الثمن؛ وهذا إذا كان القصيل
معتدلا مستويا في الطيب واللفة. وأما إن كان بعضه أطيب وألف من بعض، فلا بد
فيه من القيمة على قدر جودته ورداءته على ما قال؛ لأن ذلك يكون كالأصناف،
لو اشترى قصيل قمح وشعير وقرط صفقة واحدة، فحبب بعض تلك الأصناف، انتقض
البيع فيه بما ينوبه من الثمن على القيمة، والقيمة في ذلك يوم وقعت الصفقة،
لا يوم جز منه ما جز، ولا يوم حبب منه ما حبب؛ وكذلك قال في الجوائح من
المدونة إن القصيل إذا اشترى جزة واحدة
(7/242)
فنصفه بنصف الثمن، ولا قيمة في ذلك؛ بخلاف
ما يكون من المقاثئ وشبهها بطونا، وما يجني من الفواكه شيئا بعد شيء، ولا
يمكن حبس الأول منه على الآخر. وقوله والبلح أيضا كذلك على التقديم إذا
أزهى بعضه، يريد أن البلح إذا اشتراه على أن يقطعه فلم يقطعه حتى أزهى
بعضه، أن البيع ينتقض فيما أزهى منه نصفه بنصف الثمن، أو ثلثه بثلث دون
قيمة، وذلك إذا كان صنفا واحدا مستويا في الطيب، فإن اختلفت أصنافه، أو
اختلف الصنف الواحد منه في الطيب؛ لم يكن في ذلك بد من القيمة كالقصيل
سواء، ولا يجوز شراء البلح قبل أن يزهى إلا بشرط القطع؛ فإن وقع البيع
مسكوتا عنه فسخ، إلا أن يقطعه المشتري قبل أن يعثر عليه فلا يفسخ؛ لأنه
يتبين بقطعه أنه إنما اشتراه ليقطعه؛ على هذا يحمل ما وقع في البيوع
الفاسدة، وبيع العرايا من المدونة، لا على أنه اختلاف من القول على ما ذهب
إليه بعض أهل النظر، وذلك بخلاف القصيل؛ لأنه يجوز بيعه وإن وقع مسكوتا عنه
لم يشترط قطعه قبل أن يحبب، فرق بين ذلك العرف في شراء القصيل، على أن يقطع
والثمرة على أن يبقى، فيحمل كل واحد منهما في السكوت على ما جرى عليه عرف
الناس فيه.
[مسألة: الرجل يبيع الحائط فيه صنف واحد من
الثمار حين يبدو صلاحه ولم يعم]
مسألة (قال ابن القاسم) وسمعت مالكا يقول في الرجل يبيع الحائط فيه صنف
واحد من الثمار حين يبدو صلاحه ولم يعم
(7/243)
الحائط كله. قال إن كان طيبه ذلك متتابعا
فبيعه جائز، فأما الشيء المبكر، فلا يجوز بيع الحائط حتى يطيب طيبا
متتابعا. قال وسمعت مالكا يقول في الرجل يبتاع الحائط فيه أصناف من التمر
مختلفة، قد طاب بعضها وبقي بعض، قال لا أرى أن يباع منها إلا ما قد طاب،
ويترك ما لم يطب. قال ابن القاسم: وسمعت مالكا يقول في الرجل يشتري الدالية
وقد بدأت الحبة في العنقود أو العنقودين قد طابت وسائرها لم يطب، والتينة
كذلك، وما أشبه ذلك من الثمار؛ قال لا بأس به.
قال محمد بن رشد: قوله في الذي يبيع الحائط فيه صنف واحد من الثمار حين
يبدو صلاحه ولم يعم الصلاح الحائط كله، أنه بيع جائز إذا كان طيبه متتابعا.
يريد بالصنف الواحد أن يكون نخلا كله، أو تينا كله، أو رمانا كله؛ وإن
اختلفت أجناس التمر، أو أجناس التين، أو أجناس الرمان، فيجوز بيع الحائط
كله بطيب جنس واحد منه إذا كان طيب جميعه متتابعا يقرب بعضه من بعض. وقال
ابن كنانة وإن لم يقرب بعضه من بعض إذا كان طيبه متصلا لا يفرغ آخر الأول
حتى يطيب أول الآخر، ويقوم ذلك من قول مالك في رسم طلق في مسألة الجنسين؛
لأن البطنين في الثمرة الواحدة كالجنسين من صنف واحد؛ وأما إذا كان الحائط
أصنافا من الثمر مثل عنب وتين ورمان، فلا اختلاف في أنه لا يجوز أن يباع ما
لم يطلب من الأصناف بما طاب منها وإن قرب وتتابع، إلا أن يكون الذي لم يطب
منها تبعا لما طلب على اختلاف في ذلك
(7/244)
سنذكره في آخر سماع أشهب إن شاء الله
تعالى. وقوله في الرجل يبتاع الحائط فيه أصناف من الثمر مختلفة، قد طاب
بعضها، وبقي بعض؛ إنه لا يباع منها إلا ما قد طاب، ويترك ما لم يطب؛ معناه
في الأصناف المختلفة من الثمر، مثل تمر وتين وعنب ورمان؛ وكذلك الرواية فيه
الثمر بالثاء المعجمة بثلاث لا بالتاء المعجمة باثنين؛ لأن الأصناف من
الثمر يجوز أن تباع جميعا بإزهار بعضها؛ قيل إذا كان ذلك متتابعا، وهو قول
مالك. وقيل وإن لم يتتابع إذا لم ينقطع الأول حتى بدأ طيب الآخر، وهو قول
ابن كنانة حسبما وصفناه. وقد كان مالك يقول أولا إنه لا يجوز بيع الحائط
حتى يعمه الزهو، ولا يباع بإزهار النخلة والنخلتين ثم قال: لا بأس أن يباع
بازهاء النخلة والنخلتين؛ وقال إزهاء نخلة في خمسين مثل نخلة في ألف، وما
أدركت الناس إلا على إجازته؛ قال ابن القاسم يريد فيما رأيت النخلة التي
ليست بباكورة، وبعضه قريب من بعض؛ وقع ذلك في أصل السماع، وقيل إنه يجوز أن
يباع الحائط وإن لم يزه فيه شيء إذا قرب من الزهو وإزهاء ما حواليه، وكان
الرمان قد أمنت فيه العاهات؛ وهو قول مالك في رسم أخذ يشرب خمرا بعد هذا،
وإليه ذهب ابن حبيب وقال إنه القياس؛ فيتحصل في هذه المسألة أربعة أقوال،
أحدها، أنه لا يجوز بيع الحائط حتى يعمه الزهو، والثاني أنه يجوز بيعه وإن
لم يعمه الزهو إذا أزهى بعضه، وكان زهو سائره قريبا متتابعا. والثالث أنه
يجوز بيعه إذا أزهى بعضه وإن لم يقرب زهو سائره إذا اتصل طيبه ولم ينقطع
الأول قبل أن يبدأ الثاني. والرابع أنه يجوز بيعه وإن لم يظهر فيه الزهو
إذا ظهر فيما
(7/245)
حواليه وكان الرمان قد أمنت فيه العاهات،
وما استعجل زهوه من الثمار بعارض وسبب من مرض في الثمرة وما أشبه ذلك، فلا
اختلاف في أنه لا يستباح به بيع ذلك الحائط وستأتي هذه المسألة أول رسم من
سماع أشهب، وفي آخر رسم منه- إن شاء الله.
[مسألة: يبيع الطعام على شرط إن أدركته الصفقة]
مسألة قال ابن القاسم وسمعت مالكا يقول لا ينبغي بيع الطعام على شرط إن
أدركته الصفقة، مثل الزرع القائم إذا يبس واستحصد؛ قال سحنون وسئل ابن
القاسم عن هذا، فقال ذلك رأيي ما كان في البيوت من الطعام المخزون؛ لأنه
أمر لا يدرى ما فيها وليست بمنزلة السلع؛ قال سحنون وهذا عندي في الجزاف.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم وسحنون يبين قول مالك ويفسره، فمعنى قوله
لا ينبغي بيع الطعام على شرط إن أدركته الصفقة على ما فسراه به، أي لا يجوز
بيع الطعام الغائب جزافا على الصفقة، ولا يقام من قوله إن ذلك لا يجوز على
شرط إن أدركته الصفقة، دليل على أن ذلك يجوز إن لم يشترط الصفقة، بل لا
يجوز على حال: شرط الصفقة أو لم يشترطها؛ إذ لا يجوز أن يشتري على الصفقة
إلا ما يجوز أن يسلم فيه على الصفة؛ فكما لا يجوز أن يسلم في الطعام على
الصفة جزافا،
(7/246)
فكذلك لا يجوز أن يبتاع طعام غائب على
الصفة جزافا. وقوله مثل الزرع القائم إذا يبس واستحصد، يحتمل أن يريد بذلك
أن ذلك لا ينبغي، كما لا ينبغي في الزرع القائم أن يبس واستحصد، وأن يريد
بذلك أن ذلك ينبغي. والتأويل الأول هو الصحيح؛ لأن المعلوم من قول ابن
القاسم وروايته عن مالك في المدونة وغيرها، أنه لا يجوز أن يسلم في فدادين
من زرع على صفة، فكذلك لا يجوز أن يبتاعها على صفة؛ وأما التأويل الثاني،
فلا يصح إلا على مذهب أشهب الذي يجيز أن يسلم في القصيل على فدادين موصوفة؛
ولو كان المبتاع قدر المصبر والزرع، ثم اشترى ذلك من صاحبها على رؤيته
المتقدمة وهو غائب عنها؛ لجاز ذلك، اشترط الصفقة أو لم يشترطها؛ وقد نص على
جوازه ابن حبيب في الواضحة، وقد فرق في هذا في المدنية من رواية ابن القاسم
عن مالك من الطعام المصبر والزرع القائم، فمنع أن يشتري الطعام المصبر وهو
غائب عنه على روايته المتقدمة، وأجاز ذلك في الزرع القائم وهي تفرقة لا حظ
لها في النظير، فالله أعلم بصحتها.
[مسألة: بيعت الجارية وعليها حلي وثياب ولم
يشترط البائع ولا المبتاع]
مسألة قال ابن القاسم قال مالك: إذا بيعت الجارية وعليها حلي وثياب، ولم
يشترط البائع ولا المبتاع، فهو للبائع؛ ولا ينقض البيع لذلك، إلا ما يكون
لها مما لا يزين به فهو لها؛ قال ابن
(7/247)
القاسم وما كان مما ليس لها مما تزين به،
فلا ينبغي أن يشترطه المبتاع؛ قال سحنون: من الحلي، فأما الثياب فلا بأس
به؛ قال ابن وهب وسمعت مالكا يقول في الرجل يشتري الجارية عليها ثوب الوشي
الحسن، فيريد البائع أن يأخذه، ويقول المشتري ليس هذا من الشيء الذي يكون
للبائع، إلا أن يشترطه المبتاع، قال مالك أرى إذا كانت الجارية فارهة عليها
الثوب اليسير الثمن، وهو نحو بذلته عند أهلها، فإني لا أرى للبائع نزعه؛
فأما الثوب الجيد الذي إنما لبسته لتزين به، وأشباه ذلك؛ فإني أراه للبائع؛
هذه المسألة لعبد الله بن وهب في سماعه من مالك.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة؛ لأن ما زينت به الجارية عند البيع من
الحلي والثياب، لا يدخل في البيع، إلا أن يشترطه المبتاع. فقوله: إن
الجارية إذا بيعت وعليها حلي وثياب، لم يشترط البائع ولا المبتاع أنه
للبائع، ولا ينقض البيع لذلك؛ يريد إن كان وقع بذهب وعليها حلي ذهب، بين في
المعنى؛ لأن الحلي للبائع، ولا يدخل في البيع إلا باشراط المبتاع له؛ وإذا
كان الحلي والثياب للبائع، فيلزم البائع أن يكسوها كسوة تصلح لمثلها
للبذلة. وقيل لا يجب ذلك عليه إذا لم يشترطه المبتاع، فإن اشترط ذلك
المبتاع، لزم البائع؛ واختلف إن اشترط البائع إلا يكسوها، وأن يأخذها
المبتاع عريانة؛ ففي سماع أشهب من كتاب العيوب أن شرطه باطل، وعليه أن
يكسوها؛ وقيل شرطه عامل، وهو الصحيح؛ وقد مضى القول على ذلك في سماع أشهب
المذكور. وقوله إلا ما يكون لها
(7/248)
مما تزين به فهو لها يريد الحلي والثياب
وإن كان الحلي حلي ذهب، فاشتراها بذهب؛ لأنه تبع لها من أجل أنه مالها.
وكذلك لو كان الحلي الذي زينت به لها، فاستثناه المشتري، لجاز ذلك وإن كان
حلي ذهب فاشتراه بذهب، وأما إذا لم يكن لها، فاستثناه المشتري، فلا يجوز إن
كان الحلي ذهبا فاشتراها بذهب أو فضة؛ إلا أن يكون مصوغا بما معه من اللؤلؤ
والحجارة غير منفصل عنه وهو تبع له فيجوز، وقول سحنون مفسر لقول ابن
القاسم؛ إذ لا إشكال في أنه يجوز للمشتري أن يستثني ما عليها من الثياب
التي زينت بها، وإنما لا يجوز له أن يستثني ما عليها إن كان حلي ذهب
فاشتراها بذهب؛ إلا أن يكون الحلي غير منفصل عما معه من الحجارة، وهو في
حيز التبع له على ما ذكرناه؛ وهذه الرواية تفسير ما مضى في سماع أشهب من
كتاب الجهاد، وفي رسم إن خرجت من سماع عيسى من كتاب التجارة إلى أرض الحرب،
وقد مضى القول على ذلك هناك.
[مسألة: يشتري الزق ويزعم صاحبه أن فيه عشرة
أقساط بقمح جزافا]
مسألة قال مالك في الرجل يشتري الزق ويزعم صاحبه أن فيه عشرة أقساط بقمح
جزافا: أكره ذلك إذا قبضه بكيل صاحبه، قال سحنون قال لي ابن القاسم لم أجد
لهذه المسألة معنى، ولا أرى به بأسا؛ قال سحنون قول مالك الصواب، قال سحنون
وقد قاله المخزومي.
قال محمد بن رشد: إنما كرهه إذا أعطاه الزيت على التصديق؛ لأنه قد يفارقه
ثم يكيله بحضرة بينة لم تفارقه منذ أخذه من صاحبه، فيجده ينقص نقصا بينا،
فيرجع عليه في الطعام بمقدار ما نقص من الزيت، فلم
(7/249)
يتناجزا بيع الطعام عند ما تبايعا، ولا
يجوز بيع الطعام بالطعام إلا يدا بيد لا يفترقان وبينهما عمل؛ وقد قال أشهب
لا يجوز التصديق في الصرف ولا في تبادل الطعامين، وقاله ابن المواز لهذه
العلة، مثل قول سحنون والمخزومي، وقد روى ابن نافع عن مالك إجازة ذلك، مثل
قول ابن القاسم؛ ووجه ذلك أن التناجز قد حصل بينهما بالتقابض، وما يطرأ بعد
ذلك من وجود النقصان الذي تقوم عليه البينة فيوجب أن يرد من الطعام بمقدار
ما نقص من الزيت، لا يؤثر في صحة العقد؛ كما لا يؤثر في صحة الصرف ما يوجد
فيه بعد التناجز من زائف أو ناقص، إذ لم يأخذه على أن يكيله، وإنما أخذه
على أن يصدقه بما أخبره به من كيله ولا يكيله؛ فكأنه قد باع جزافا بجزاف،
وهو عندي خفيف في الصرف وفي مبادلة الطعام بالطعام بالكيل على التصديق
فيهما، أو في أحدهما؛ لأنه إن وجد في أحدهما نقصانا، رجع بما يجب له من كيل
قد كان عرفه، فانتقض الصرف والبدل فيه؛ ومضى فيما سواه على العقد الأول،
والكيل الذي وقع به؛ وأما في بيع الطعام جزافا بالكيل، أو التبر جزافا
بالدنانير، فهو ثقيل؛ لأنه إن وجد نقصانا فيما صدقه من الكيل، أو الوزن، لم
يدر ما يرجع به عليه في الجزاف الذي دفع إليه إلا بعد كيل جميعه أو وزنه؛
فيئول الأمر في ذلك إلى الصرف المتأخر، أو الطعام غير يد بيد؛ إذ لا يدرى
ما يمضي فيه البيع من الجزاف الذي قبض في الكيل الذي دفع إلا بعد الكيل،
فيتحصل في المسألة قولان وتفرقة.
[مسألة: باع أمة لها ولد وشرط أن عليهم رضاعه
سنة ونفقته سنة]
مسألة قال ابن القاسم وسمعت مالكا يقول من باع أمة لها ولد وشرط أن عليهم
رضاعه سنة ونفقته سنة، فذلك جائز إذا كان
(7/250)
إن ماتت أمه أرضعوا له أخرى؛ ووقع في
المدونة ذلك جائز إذا كان إن مات أرضعوا له أخرى. قال ابن القاسم هذا وهم
من مالك، أو أمر رجع عنه؛ لأنه كره أن تباع أمة لها ولد صغير يشترطه البائع
لنفسه، ولا يباع صبي ويشترط الأم لنفسه، إلا أن يباعا جميعا، وأرى هذا
وهما! قال سحنون: وهذا عندي على أن الولد رقيق؛ لأنها تفرقة، فأما لو كان
حرا جاز البيع.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة، أن الولد حر، وكذلك قال فيها في
آخر البيوع الفاسدة من المدونة؛ وعلى ذلك أجاب مالك كما بين سحنون؛ فلم يهم
مالك؛ بل وهم ابن القاسم فيما حمل المسألة عليه مما نسب فيه الوهم إلى
مالك؛ والمعنى فيها أيضا أن سيد الأمة أعتقه ثم باعها ولم يبق من أمد رضاعه
إلا سنة، فأجاز له أن يشترط على المشتري بقية رضاعه مضمونا عليه، لا في عين
الأمة، وذلك بين من قوله: فذلك جائز إذا كان إن ماتت أمه أرضعوا له أخرى،
ووقع في المدونة: ذلك جائز- إذا كان- إن ماتت أرضعوا له أخرى. وكذلك وقع
ههنا في بعض الروايات؛ فإذا وقع البيع على الشرطين جميعا: إن ماتت أرضعوا
له أخرى، وإن مات أرضعوا له آخر؛ وأرادوا بذلك أن الرضاع يكون مضمونا على
المشتري لا في عين الأمة، جاز باتفاق، وإن أرادوا بذلك أنه يكون في عين
الأمة ما لم تمت، فإن ماتت أتى بخلفها لم يجز؛ كما لو اشترط أن الرضاع يكون
في عينها، ويبطل عنه بموتها، أو يرجع عليه البائع بقدره؛ لأنه إن كان في
عين الأمة، دخله التحجير على المشتري في الأمة التي اشترى، إذ لا يقدر على
التصرف فيها بما يجوز لدى المالك في ملكه
(7/251)
من أجل الشرط، وإن كان في عين الصبي
ومضمونا على المشتري دخله الغرر؛ لأنه مضمون في ذمة تبطل بموت الصبي؛
واختلف إذا لم يكن لهم في الشرط نية ولا إرادة، فحمله ههنا على أنهم أرادوا
به أن الرضاع يكون مضمونا على المشتري، لا في عين الأمة وأجازه؛ وحمله في
آخر رسم من سماع أشهب بعد هذا على أنهم أرادوا به أن يكون في عين الأمة ما
لم تمت فلم يجزه؛ واختلف إذا وقع البيع على أنه إن مات الصبي أرضعوا له
آخر، ولم ينصوا على أن الرضاع مضمون على المشتري بأن يقولوا فيه إنها إن
ماتت أرضعوا له أخرى، وسكتوا على ذلك، فحمله ابن القاسم في المدونة على
المضمون وأجازه، وحمله سحنون على أنه في عين الأمة يبطل على المشترى
بموتها؛ فلم يجزه إلا على وجه الضرورة؛ مثل أن يرهقه دين، فيباع عليه على
ذلك؛ وتأول على ابن القاسم أنه أجازه على أن الرضاع في عين الأمة، فاعترض
عليه بأن قال كيف تجيز هذا وهو لا يجيز الإجارة على ذلك، فلا يجوز إلا مع
الضرورة؛ ولا يلزم ابن القاسم اعتراضه؛ لأنه لم يجز ذلك إلا بأن حمل الأمر
في المسكوت عليه بأن الرضاع مضمون على المشتري في عين الأمة؛ ويلزم سحنون
من الاعتراض في قوله في آخر هذه المسألة: فأما لو كان حرا جاز البيع- ما
ألزم ابن القاسم؛ لأنه حمل المسكوت عنه في جهة الصبي على المضمون فأجاز
البيع، كما حمل ابن القاسم المسكوت عنه في جهة الأمة على المضمون في
المدونة فأجاز البيع؛ وإذا انقضى الرضاع، كانت نفقته على سيده الذي أعتقه
حتى يبلغ حد الإثغار؛ لأن من أعتق صغيرا لزمته نفقته حتى يستغني بنفسه
ويقدر على الكسب عليها ولو بالسؤال، هذا معنى ما قاله ابن المواز فيمن أعتق
صغيرا، أو التقط لقيطا؛ قال أبو إسحاق التونسي: وانظر لو فلس قبل انقضاء
الرضاع، هل تباع أمه في الدين ويشترط رضاعه ومؤونته على المشتري وإن نقص
ذلك من حق الغرماء، ويكون
(7/252)
ذلك أوجب من نفقته على ولده الذين لا يترك
لهم من ماله إلى أن يقدروا على أنفسهم؛ والذي أقول به في ذلك، أنه لا يلزم
أن يشترط على المشتري ذلك في بيع الأمة؛ فيكون قد بدئ على الغرماء بجميع
حقه، ولا يبطل أيضا حقه جملة بتبدئة الغرماء عليه، كهبة لم تقبض حتى قام
الغرماء على الواهب، ولكنه يحاص له الغرماء المبلغ نفقته الواجبة له عليه
بعتقه إياه وهو صغير؛ لأنه أضربه في ذلك فصارت نفقته كالدين الواجب له
عليه؛ وسيأتي من معنى هذه المسألة في رسم سلعة سماها في هذا السماع، وفي
آخر رسم من سماع أشهب، وفي رسم البراءة، ورسم إن أمكنتني من سماع عيسى؛ وقد
مضى منه أيضا في رسم إن خرجت من سماع عيسى من كتاب طلاق السنة، فقف على ذلك
كله في مواضعه، وبالله التوفيق.
[مسألة: باع ثمرة لم يبد صلاحها ثم باعها
مشتريها بعد ما بدا صلاحها]
مسألة قال ابن القاسم وسمعت مالكا قال من باع ثمرة لم يبد صلاحها، ثم باعها
مشتريها بعد ما بدا صلاحها؛ أن لصاحبها عدد الثمرة حين يبدو صلاحها، ولا
يأخذ إلا ثمرا؛ وإن تلفت، لم يأخذ الأول من أخذ الثمرة المبتاع شيئا.
قال محمد بن رشد: إذا باع الرجل الثمرة قبل أن يبدو صلاحها، فهو بيع فاسد،
والمصيبة فيها إن تلفت من البائع ما دامت في رؤوس النخل وإن طابت، ما لم
يجدها المبتاع؛ لأن قبض الأصول ليس بقبض لها، فإن جدها ضمنها بالجد، وكان
عليه مكيلة ما جد منها رطبا إن عرفت المكيلة ولم يفت إبان الرطب؛ وإن جهلت
المكيلة أو فات إبان الرطب، كان عليه قيمة خرص ذلك؛ وكذلك يكون عليه إن
جدها ثمرا فبلغت مكيلة ما جد منها تمرا إن علمت المكيلة، وإن جهلت كان عليه
قيمة خرص
(7/253)
ذلك؛ وإن كان الثمر قائما، رده بعينه
وانفسخ البيع على كل حال؛ هذا معنى قوله في البيوع الفاسدة من المدونة
وغيره؛ واختلف إن باعها المبتاع بعد أن بدا صلاحها، فقيل إن البيع فيها قبض
وفوت، فيجوز البيع ويكون على الذي اشتراها قبل بدو صلاحها قيمتها يوم
باعها، قاله محمد بن المواز؛ وحكى عن مالك أن القيمة تكون عليه يوم بدا
صلاحها، ومعناه إذا كان بيعه لها يوم بدا صلاحها، أو استوت القيمة في
الوقتين؛ فليس قول محمد بن المواز بخلاف لما حكى عن مالك على هذا التأويل؛
وقيل ليس البيع فيها قبضا ولا فوتا؛ لأنه باع ما لم يدخل في ضمانه، فهو بيع
فاسد أيضا لا يقع به فوت ما لم يجد المبتاع؛ وهو قوله في هذه الرواية؛
والقولان قائمان من كتاب العيوب من المدونة؛ لأنه لم يجعل فيه البيع الصحيح
قبل القبض تفويتا للبيع الفاسد، وجعل الهبة فيه تفويتا له؛ وإذا فوته
بالهبة، فأحرى أن يفوته بالبيع؛ فدل على أن ذلك اختلاف من القول؛ فقوله في
هذه الرواية إن لصاحبها عدد الثمرة، معناه إذا جدها المبتاع الذي اشتراها
بعد أن بدا صلاحها ثمرا؛ لأنه إذا لم يجعل البيع فيها بعد أن بدا صلاحها
فوتا، من أجل أنه باعها قبل أن تجب له وتدخل في ضمانه؛ وجب أن ترد إلى
البائع الأول إن كانت قائمة، أو مكيلتها إن كانت فاتت أو تلفت بعد الجد،
وتنفسخ فيه البيعتان جميعا. وقوله حين يبدو صلاحها لا وجه له؛ لأن المكيلة
لا تجب عليه ببدو صلاحها، إنما تجب عليه بجده إياها بعد ذلك تمرا؛ ولأن
المكيلة لا تختلف باختلاف الأوقات، وإنما تختلف باختلاف القيمة على القول
بأن البيع فوت؛ فقيل إن القيمة تكون فيها يوم البيع، وقيل يوم بدو الصلاح
فيها؛ وقد مضى القول في
(7/254)
ذلك، وأنه ليس باختلاف من القول، والله
أعلم. وقوله ولا يأخذ إلا ثمرا، معناه أنه ليس له أن يأخذ إلا ثمرا إذا كان
قد جدها ثمرا؛ لأنه هو الواجب له عليه؛ ولو تراضيا على ما سوى التمر، لجاز
له أن يأخذ منه كل ما يجوز له أن يبيع به التمر، كمن استهلك لرجل تمرا.
وقوله وإن تلفت لم يأخذ الأول من آخذ الثمرة المبتاع شيئا، معناه إن تلفت
في رؤوس النخيل قبل أن تجد وإن يبست، ومثله في كتاب ابن المواز؛ وهو صحيح
على قياس قوله إن البيع فيها ليس بفوت، فتكون المصيبة فيها إن تلفت في رؤوس
النخل من البائع الأول، وتنفسخ البيعتان جميعا.
[مسألة: البزاز يشترى منه الثوب فيأمر بعض
قومته بدفعه إلى المبتاع]
مسألة قال مالك في البزاز يشترى منه الثوب فيأمر بعض قومته بدفعه إلى
المبتاع، ثم يقول بعد انصراف المبتاع إن الثوب الذي دفع إليك ليس بالثوب
الذي بعتك، أو كان هو دفعه إليه؛ قال إذا كان أمر بدفعه، ثم زعم أنه ليس
الذي باع، حلف بالله ورد عليه الثوب؛ وإن كان هو الذي دفعه إليه، فإني أرى
قوله باطلا ما لم يأت مع قوله أمر معروف من رشم أكثر مما باع به، أو شهادة
قوم قاسموه، أو عرفوا ما قام به عليه؛ فإن جاء بشيء من ذلك، رأيت أن يحلف
ويرد عليه الثوب، وهو رأي ابن القاسم، وقد سمع بعض هذه المسألة.
قال محمد بن رشد: أما الذي باع الثوب من الرجل، فأمر بعض قومته أن يدفعه
إليه فدفعه إليه، ثم زعم البائع أنه ليس هو الثوب الذي باعه إياه؛ فلا
اختلاف في أن القول قوله مع يمينه أنه ليس هو الثوب الذي
(7/255)
باعه إياه، وأنه هذا الثوب المثوب الذي زعم
أنه هو الذي باعه منه؛ فإن حلف على ذلك، أخذ الثوب الذي زعم أنه لم يبعه
إياه، ودفع إليه الثوب الذي زعم أنه باعه منه؛ فإن نكل عن اليمين، لم يكن
له شيء إذا كان المبتاع لا يكذب البائع فيما ادعى ولا يصدقه، وأما إن كذبه
المبتاع، فقال بل هو الذي بعتني، فإنهما يحلفان جميعا؛ فإن حلفا لم يكن
بينهما بيع في واحد من الثوبين؛ وكذلك إن نكلا؛ وإن نكل أحدهما وحلف الآخر،
كان القول قول الحالف منهما إن كان البائع هو الذي حلف؛ ألزم المبتاع الثوب
الذي زعم أنه باعه منه، وأخذ الثوب الذي دفع إليه قيمته؛ وإن كان المبتاع
هو الذي حلف، أخذ الثوب الذي دفع إليه القيمة ولم يلزمه الآخر؛ وكذلك لو
أمر التاجر بعض قومته أن يري الرجل ثوبا فأراه إياه، ثم باعه منه التاجر
على تلك الرؤية، ادعى أنه ليس هو الثوب الذي أمره أن يريه إياه؛ فالقول قول
التاجر مع يمينه يحلف ويأخذ ثوبه، فإن نكل عن اليمين لزمه البيع فيه، وأما
إذا باعه الثوب ثم دفعه هو إليه وادعى أنه غلط، فإن لم تكن له شبهة من رشم
ولا شيء لم يصدق، وإن كانت له شبهة، فعلى ما مضى القول فيها إذا دفعه إليه
وكيله في الوجوه كلهاة وأما إذا باع منه الثوب ثم ادعى أن شراءه أكثر مما
باعه به منه، وأنه غلط فسه، واختلط له بغيره؛ فإن كان البيع مرابحة صدق،
وإن كانت له شبهة من رشم أو شهادة، قوم على ما وقع به عليه في مقاسمة أو
شبه ذلك؛ كما لو قال شراء هذه السلعة كذا، ثم أقام البينة أن شراءها كان
أكثر من ذلك، أو استدل على صدقه برشم في الثوب وما أشبه ذلك، واختلف إذا
ادعى الغلط في بيع المساومة وزعم أنه اختلط له بغيره وهو ذو أثواب كثيرة،
فقيل إنه بمنزلة بيع المرابحة وهو ظاهر هذه الرواية، وما في كتاب الأقضية
(7/256)
من المدونة، وما في نوازل سحنون من كتاب
العيوب في بعض الروايات، وما في رسم الأقضية الثاني من سماع أشهب من هذا
الكتاب محتمل، وسيأتي القول عليها إن شاء الله؛ وقيل إن البيع له لازم، ولا
حجة له فيما ذكر، وإلى هذا ذهب ابن حبيب؛ وكذلك اختلف أيضا في الجهل بصفة
المبيع مثل أن يبيع الحجر بالثمن اليسير وهو ياقوت، ثم يدعي أنه لم يعلم
أنه ياقوت؛ وسيأتي الكلام على هذا في رسم الأقضية من سماع أشهب، وفي سماع
أبي زيد؛ وأما الجهل بقيمة المبيع، فلا يعذر واحد من المتبايعين في ذلك إذا
غبن في بيع المكايسة؛ هذا هو ظاهر المذهب، وقد حكى بعض البغداديين على
المذهب أنه يجب الرد بالغبن إذا كان أكثر من الثلث؛ وأقام ذلك بعض الشيوخ
من مسألة سماع أشهب من كتاب الرهون، وليس ذلك بصحيح؛ لأنها مسألة لها معنى
من أجله وجب الرد بالغبن، وبالله التوفيق لا بغيره.
[باع ثمر حائطه واستثنى مكيلة من صنف من الثمر]
ومن كتاب قطع الشجر وسئل مالك عن رجل باع ثمر
حائطه واستثنى مكيلة من صنف من الثمر، قال أكره ذلك إلا أن يكون ذلك
الصنف كثيرا، مخافة أن يستوعب ما استثنى من ذلك ثمر الحائط كله أو يذهب ما
سمى من ذلك، فهلك قبل أن يستوفى؛ فإذا كان الصنف الذي استثنى كثيرا مأمونا
فلا بأس به؛ قال سحنون وقد قال ابن القاسم في غير هذا الكتاب: لا يجوز
للبائع أن يستثني من صنف من التمر إلا ثلث ذلك الصنف فأقل، قال فإن استثنى
كيلا من صنف من ثمر الحائط فكان ما استثنى من ذلك الكيل يذهب بجل ذلك
(7/257)
الصنف، أو يخاف أن يستوعبه، فلا خير فيه؛
لأنه خاطره في ذلك الصنف؛ ولا ينبغي له أن يشترط كيلا من صنف من بعض ثمر
الحائط، إلا ما يجوز له أن يستثني في جميع الحائط وذلك الثلث فأدنى؛ قال
أصبغ وبهذا آخذ؛ قال أصبغ: ولا تبالي قل ذلك الصنف الذي استثنى منه أو كثر
إذا كان الذي استثنى منه من الكيل الثلث فأقل، قال سحنون مثله، وهو قول ابن
القاسم.
قال محمد بن رشد: قول مالك ههنا فيمن باع ثمر حائطه وهو أصناف، فاستثنى
مكيلة من صنف منه، أن ذلك مكروه عنده، إلا أن يكون ذلك الصنف الذي استثنى
منه المكيلة كثيرا مأمونا؛ يفسر قوله في أول رسم من سماع أشهب؛ لأنه أطلق
القول هناك في إجازة استثناء ثلث جميع ثمرة الحائط فأقل في صنف واحد منه،
كان ذلك الصنف الذي استثنى منه المكيلة أقل الأصناف ثمرا أو أكثرها؛ ومعناه
على ما قال ههنا إذا كان الصنف الذي استثنى منه كثيرا مأمونا وإن كان أقل
أصناف الحائط؛ لأنه إذا لم يكن كثيرا مأمونا فيه فضل بين على المكيلة التي
استثنى، خشي أن يستغرقه المستثنى، أو يهلك قبل أن يستوفى ذلك منه، فدخله
الغرر، وهذا ليس بقياس، وإنما هو استحسان مراعاة لقول من يجيز استثناء
الكيل من الجزاف قل أو كثرة والقياس قول ابن القاسم إنه لا يجوز أن يستثني
من صنف من الأصناف إلا ثلث ذلك الصنف فأقل؛ لأن أكثر أهل العلم لا يجيزون
استثناء الكيل من الجزاف قل أو كثر؛ ومالك وأكثر أهل المدينة يجيزونه في
القليل وهو الثلث فأقل؛ فإذا لم يجز بيع الصنف الواحد مفردا باستثناء مكيلة
تقع في أكثر من الثلث، وكان ذلك غررا؛ وجب أن لا يجوز إذا انضاف إليه في
الصفقة أصناف غيرها لم يستثن منها شيء؛ ألا ترى أنه لا يجوز بيع العبد
الآبق ولا البعير الشارد وإن انضاف
(7/258)
إليه في الصفقة عبيد حضور يقع العبد الآبق
في أقل من ثلث الصفقة؟ وقوله في الرواية إلا أن يكون ذلك الصنف كثيرا مخافة
أن يستوعب ما استثني من ذلك ثمر الحائط كله، كلام وقع على غير تحصيل؛ وإنما
أراد مخافة أن يستوعب ما استثني من ذلك ثمر ذلك الصنف كله، إذ لا يمكن أن
مكيلة ثلث ثمر الحائط أو أقل من ثلث ثمر الحائط كله، وإنما يمكن أن يستوعب
ذلك ثمر الصنف الذي استثناها منه فهو الذي أراد، وبالله التوفيق.
[الأمة تشترى على أن يعتقها الذي اشتراها بشرط أو عدة]
ومن كتاب القبلة قال مالك في الأمة تشترى على
أن يعتقها الذي اشتراها بشرط أو عدة، فيحبسها يطأها أو يستخدمها، ثم
أعتقها بعد، أو مات السيد أو الأمة قبل أن يعتقها؛ قال إن كان ذلك بغير علم
البائع ولا رضاه، فعليه قدر ما نقص ذلك الشرط من ثمنها يوم بيعت للبائع؛
وإن كان قد علم بذلك البائع فأقر بذلك أو رضي، فذلك جائز للمبتاع ولا شيء
عليه؛ وإن علم به قبل أن يفوت العبد، رأيت أن البائع إن أحب أن يسترجع عبده
أو يدعه فذلك له.
قال محمد بن رشد: قول مالك في هذه المسألة مبني على ما في كتاب البيوع
الفاسدة من المدونة من أن الشراء على العتق جائز، ولا يلزم المشتري العتق؛
فإن لم يعتق، كان للبائع أن يرد البيع، وينبغي على قياس قوله ألا يجوز
النقد فيه بشرط؛ لأنه إن لم يعتق واسترد البائع عبده، رجع إلى المبتاع
الثمن الذي نقده؛ فكان مرة بيعا، ومرة سلفا؛ وإنما يجوز النقد فيه بشرط على
مذهب أشهب الذي يلزم المبتاع العتق، ويرى البيع باتا وهو أظهر؛ لأن العتق
إذا لم يكن في اشتراطه غرر، وجب أن يلزم المبتاع بالشرط؛ والأصل في جواز
البيع بشرط العتق «حديث بريرة، وما روي فيه من أنها جاءت تستعين عائشة -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فقالت لها عائشة: إن
(7/259)
أحب أهلك أن أصب لهم ثمنك صبة واحدة
وأعتقك، فعلت؛ فذكرت ذلك بريرة لأهلها، فقالوا: لا، إلا أن يكون لنا ولاؤك؛
فذكرت ذلك عائشة لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال:
اشتريها وأعتقيها، فإنما الولاء لمن أعتق» . فأباح لها النبي - عَلَيْهِ
السَّلَامُ - شراءها للعتق، إذ كانت قد عجزت عن كتابتها، وحكم أن الولاء
لها وإن كان أهلها إنما باعوها منها على أن تعتقها. ومساواته في الرواية
بين الشرط والعدة صحيح، لتساويها جميعا في المعنى؛ لأن الشرط هو أن يقول
البائع للمبتاع أبيعها منك بكذا وكذا على أن تعتقها، والعدة هي أن يقول
المبتاع للبائع بعها مني وأنا أعتقها، أو بعها مني بكذا وكذا وأنا أعتقها؛
وإذا قال ذلك المبتاع للبائع، فباعه البائع على ما وعده؛ فكأنه قد اشترطه
إذا لم يبعه إلا على ما وعده؛ فصار التمليك ثمنا للعدة، فوجب أن يلزم؛ وقد
قيل إن العدة بخلاف الشرط، فلا تلزم المبتاع ولا يكون للبائع في ذلك كلام؛
وعلى هذا يأتي ما حكى ابن حبيب عن مالك من رواية مطرف عنه في الرجل يقول
للرجل بعني جاريتك فلانة أتخذها أم ولد فباعه، أنه لا مكروه فيه؛ وهو إن
شاء باع، وإن شاء اتخذ حتى يكون شرطا؛ مثل أن يقول بعنيها على أن أتخذها؛
أو يقول له بائعها أبيعكها على أن تتخذها، فيكون بيعا مكروها. وقوله فعليه
قدر ما نقص ذلك الشرط من ثمنها في الذي أعتقها بعد أن حبسها يطقها
ويستخدمها، أو مات السيد أو الأمة قبل أن يعتقها؛ يريد بعد أن حبسها يطقها
ويستخدمها؛ لأنها لو ماتت بقرب شرائه، لم يكن للبائع رجوع على المشتري؛
كذلك وقع في رسم المدبر والعتق من سماع أصبغ، وفي العتق من كتاب ابن
المواز، ولو مات السيد المشتري بقرب شرائه أيضا
(7/260)
ولم تفت الأمة، لوجب أن يكون ورثته
بمنزلته، يخيرون بين أن يعتقوا أو يردوا؛ ووجه العمل في التوصل إلى معرفة
قدر ما نقص ذلك الشرط من ثمنها، أن تقوم يوم بيعت بغير شرط العتق؛ فإن كانت
قيمتها على هذا مائة في التمثيل، قومت أيضا بشرط العتق، فإن كانت قيمتها
على هذا تسعين في التمثيل، رجع البائع على المبتاع بعشر الثمن كان أقل من
مائة أو أكثر؛ وهذا خلاف ما في رسم المدبر والعتق من سماع أصبغ؛ لأنه قال
فيه إن المشتري يغرم للبائع إذا فات عنده فواتا بعيدا بالعيوب المفسدة،
والنقصان المتفاحش، والزيادة المتباينة، ما نقص من قيمته يوم اشترائه، إلا
أن يتقارب ذلك؛ فإن كان قيمته على رواية أصبغ هذه يوم اشتراه بغير شرط
العتق قريبة من الثمن الذي اشتراه به، لم يكن للبائع على المشتري شيء؛ وإن
كانت قيمته أكثر من الثمن بكثير، رجع عليه بما زادت القيمة على الثمن الذي
اشتراه؛ وقول مالك أصح في المعنى من رواية أصبغ؛ لأن البيع قد يكون بمثل
القيمة وأقل وأكثر، فيمضي العتق على من وقع عليه منهما؛ وإنما قال إن عليه
قدر ما نقص ذلك الشرط من قيمتها إذا كان أعتقها بعد أن حبسها يطقها
ويستخدمها؛ لأنه إذا فعل ذلك فلم يتم للبائع ما قصده بشرطه من تعجيل عتقها،
إذ إنما أعتقها لنفسه بعد أن قضى وطره منها؛ فعلى قياس هذا لو كان عتقه لها
في عتق واجب عليه، لوجب أن يجزيه؛ وكذلك لو أعتقها بعد أن تفوت عنده
بالعيوب المفسدة؛ وإذا علم البائع أن المبتاع لم يعتق وأنه يطأ ويستخدم
فأقر بذلك ورضي به، فلا اختلاف في أن ذلك جائز للمبتاع، ولا شيء عليه كما
قال؛ وسكوته مع علمه بوطء البائع واستخدامه رضى، ولا يدخل في هذا عندي
الاختلاف في السكوت هل هو إذن أم لا على ما يأتي في كثير من مسائلهم.
وقوله: وإن علم به قبل أن يفوت العبد، رأيت أن البائع إن أحب أن يسترجع
عبده أو يدعه فذلك له فيه تفصيل؛ أما إذ علم أن
(7/261)
المبتاع لم يعتقه بحدثان البيع قبل أن
يفوت، فليس له إلا ما قال، وأما إذا علم بذلك بعد أن طال الأمر والمبتاع
يطأ ويستخدم، فهو مخير بين أن يسترجع عبده أو يدعه له ويرجع عليه بقدر ما
نقص الشرط من ثمنه على التفسير الذي ذكرناه؛ أما إذا فات فليس له أن
يسترجعه، وإنما له أن يرجع عليه بما نقص الشرط من الثمن، أو ببقية القيمة
على رواية أصبغ؛ ولا يفوت إلا بالعيوب المفسدة، كذلك في رواية أصبغ؛ وقد
قيل إنه يفوت بحوالة الأسواق وهو بعيد؛ لأنه ليس ببيع فاسد.
[مسألة: ابتاع طعاما كيلا فحمله إلى بعض
البلدان أو حبسه عنده]
مسألة قال مالك فيمن ابتاع طعاما كيلا، فحمله إلى بعض البلدان أو حبسه
عنده، أو باع منه طائفة كيلا، ثم أراد أن يبيع ما بقي جزافا؛ لأنه لا يدري
ما حدث فيه من السرقة أو النقصان، قال: لا يبيعه جزافا حتى يكون هو
والمشتري فيه سواء، مثل أن يكون للرجل طعام وقد علم كيله فيخرج منه كيلا
كثيرا، وينسى ما أخرج، فلا يدري ما أخرج ولا ما بقي؛ أو يخرج منه جزافا
كثيرا لا يدري كم بقي منه، فليبعه جزافا إن شاء؛ فأما أن يخرج من الطعام
الكثير إردبا أو إردبين، ثم ينسى ذلك فلا يحفظ، أو يخرج قدر ذلك جزافا
كثيرا فلا أرى أن يبيع ما بقي جزافا حتى يبين ذلك للمبتاع؛ لأنه كان يعلم
ما فيه، إذ لم يخرج منه إلا نحو هذا.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال لا إشكال فيه؛ لأن
(7/262)
بيع الجزاف فيما يتأتى فيه الوزن أو الكيل
غرر، إلا أن السنة قد جوزته لمشقة مئونة الكيل أو العدد فيما في عده مئونة؛
وما جاز فيه المجهول، فمن شرط جوازه استواء المتبايعين في الجهل؛ لأنه متى
علم أحدهما وجهل الآخر، كان الذي علم قد قصد إلى خديعة الذي جهل؛ إذ لم
يعلمه من ذلك أن الجعل الذي يجوز فيه المجهول على طلب الأباق وحفر الآبار،
لا يجوز في ذلك المجاعلة إذا كان أحدهما دون الآخر قد خبر الأرض أو عرف
موضع العبد؛ ومن ذلك مسألة كتاب الشفعة من المدونة في الرجل يدعي على الرجل
حقا في دار، فيصالحه عليه ولا يسميه؛ فقال إن ذلك لا يجوز إلا أن يكونا لا
يعرفان ذلك جميعا؛ فإذا أخرج صاحب الطعام من طعامه الذي يعرف كيله جزافا
يسيرا أو كيلا يسيرا، ونسي حقيقته؛ فلا يجوز، أن يباع الباقي جزافا، إلا أن
يعلمه بما علم من كيله، بقدر الذي ظن أنه أخرجه منه جزافا أو كيلا، حتى
يستويا جميعا في المعرفة بقدره؛ فإن لم يفعل وكتمه ذلك لم يجز؛ لأنه وإن لم
يعرف حقيقة كيله فهو عالم بقدره، والمبتاع جاهل بذلك؛ والحكم فيه إن وقع
حكم الغش، لا حكم البيع الفاسد؛ لأن الفساد فيه إنما هو من أحد المتبايعين
وهو البائع، فيكون المبتاع بالخيار بين أن يمسك بجميع الثمن أو يرد؛ فإن
فات الطعام، كان عليه قيمة خرص مكيلته؛ إلا أن يكون ذلك أكثر من الثمن الذي
اشتراه به، فلا يزاد البائع على الثمن، وقد قال ابن حبيب إن سبيله سبيل
العيوب، ومعناه في القيام؛ ولو علم البائع كيل الطعام فقال له المبتاع: أنا
أشتريه منك جزافا وإن كنت قد علمت كيله، لكان البيع فاسدا يفسخ على كل حال
في القيام، ويكون عليه خرص مكيلته بالغة ما بلغت في الفوات، لاتفاقهما
جميعا على الفساد؛ ولو أراد المبتاع أن يصدق البائع في كيل الطعام ويرد
مثله، لا نبغي ألا يجوز ذلك على
(7/263)
أصولهم كالاقتغاء من ثمن الطعام طعاما، وقد
حكى الفضل عن يحيى بن سعيد وسحنون إجازة البيع وهو بعيد.
[مسألة: ابتاع سلعة على أن لا يبيعها ولا يهبها]
مسألة قال ابن القاسم وسمعت مالكا يقول من ابتاع سلعة على أن لا يبيعها ولا
يهبها، قال: لا أحب هذا الشرط يقع في بيع.
قال محمد بن رشد: كره مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - البيع على هذا الشرط،
فقال: لا أحبه، ولم يجب الحكم فيه إذا وقع؛ وقد اختلف فيه وفيما أشبهه من
الشروط التي تقتضي التحجير على المشتري فيما اشترى، ولا يوجب غررا ولا
فسادا في الثمن ولا في المثمون؛ مثل أن يبيعه الجارية على أن يتخذها أم
ولد، أو على أن لا يخرجها من البلد، أو على أن لا يجيزها البحر، أو على أن
لا يعزل عنها، أو على إن باعها فهو أحق بها بالثمن الذي يبيعها به؛ وما
أشبه ذلك من الشروط على قولين، أحدهما وهو المشهور أن البائع بالخيار ما
كانت السلعة قائمة بين أن يترك الشرط أو ينقض البيع؛ فإن فاتت، قيل بما
يفوت به البيع الفاسد من حوالة الأسواق فما زاد، وقيل بالنقصان والنماء فما
زاد مضى البيع، وكان على المبتاع القيمة؛ إلا أن يكون بأقل من الثمن، فلا
ينقص المبتاع من الثمن شيئا، ولا يكون للبائع عليه في الشرط شيء؛ وقيل إن
البيع يمضي إذا فاتت ويرجع البائع على المبتاع بقدر ما نقصه من الثمن بسبب
(7/264)
الشرط، وذلك بأن تقوم السلعة بالشرط وبغير
الشرط، فيرجع البائع على المبتاع باسم ما بين القيمتين من الثمن؛ ولا يجوز
للمبتاع أن يطأ حتى يوقف البائع، فيترك الشرط، ويمضي البيع، وهو تأويل قول
عمر بن الخطاب لعبد الله بن مسعود في الجارية التي ابتاعها من امرأته، على
أنه إن باعها أحق بها بالثمن؛ وقد قيل تأويل لا يقربها، وفيها شرط لأحد، أي
لا يبيعها وفيها شرط لأحد، وهو قول ابن حبيب، والتأويل الأول أظهر؛ لأن
ظاهر الحديث أنه إنما سأله بعد أن يبتاعها، لا مستشيرا له في ابتياعها، ففي
الحديث حجة لهذا القول.
والقول الثاني: أن حكم هذه البيوع كلها حكم البيع الفاسد، يفسخ على كل حال
في القيام، وتكون فيه القيمة بالغة ما بلغت في الفوات؛ والبيع على السلف
جائز على هذين القولين، يفسخ على القول الواحد، وإن رضي مشترط السلف بتركه،
إلا أن يفوت فيصحح بالقيمة بالغة ما بلغت، ويفسخ على القول الثاني، وهو
المشهور ما دام البائع متمسكا بشرطه؛ فإن ترك السلف صح البيع، إلا أن يفوت،
فيكون فيه الأكثر من القيمة، أو الثمن إن كان البائع هو مشترط السلف، أو
الأقل من القيمة؛ أو الثمن إن كان المشتري هو مشترط السلف؛ وقيل: إنه يكون
فيه الأكثر من القيمة أو الثمن، ما لم تكن القيمة أكثر من الثمن والسلف؛
وإن كان البائع هو مشترط السلف، والأقل من القيمة أو الثمن، ما لم تكن
القيمة أقل من الثمن بعد أن يطرح منه السلف إن كان المشتري هو مشترط السلف،
وهو قول أصبغ؛ وقيل: إنه يرجع مشترط السلف منهما على صاحبه، بقدر ما نقصه
بسبب الشرط، وهذا القول يتخرج على قياس ما ذكرناه في بيع الشرط على أحد
الأقوال، وقد ذكرنا ذلك في سماع يحيى من كتاب السلم والآجال؛ فهذا حكم هذا
الباب، إلا في مسألتين لا يجوز للبائع فيهما إمضاء البيع على ترك الشرط،
فيكون حكمها حكم البيع الفاسد، يفسخ في القيام، وتكون القيمة فيه في الفوات
بالغة ما بلغت؛ إحداهما: أن يبيع الرجل من
(7/265)
الرجل الأمة على أن لا يطأها، فإن فعل فهي
حرة، أو عليه كذا وكذا، وما أشبه هذا؛ فهذا يفسخ على كل على حال حكم البيع
الفاسد، ولا يكون للبائع أن يترك الشرط من أجل أنها يمين قد لزمت المبتاع،
فليس له أن يسقطها عنه على ما يأتي في رسم العشور، من سماع عيسى؛ والثانية:
أن يشتري الرجل السلعة بثمن معلوم، ويشترط أحد المتبايعين على صاحبه الخيار
فيها إلى أجل بعيد؛ فهذا أيضا يفسخ ولا يكون لمشترط الخيار منهما أن يبطل
الشرط، ويمضي البيع؛ لأن ذلك يعد منه تجويز الشرط، لا إبطالا له؛ لأنه
يقول: لي الخيار في أن أرد أو أجيز، فأنا أجيز.
وقد روي عن ابن القاسم أنه فرّق بين أن يبيع الرجل الرجل السلعة، على أن لا
يبيع ولا يهب، وما أشبهه من الشروط؛ وبين أن يبيعه إياها على أنه إن باعها
فهو أحق بها بالثمن، فجعل البيع في الذي باع على أنه أحق بها بالثمن إن باع
بيعا فاسدا يفسخ على كل حال؛ وإن رضي البائع بترك الشرط بخلاف الذي يبيع
على تلك الشروط؛ وأجاز ابن وهب أن يبيع الرجل العبد على أن يخرجه إلى
الشام، ولم يجز أن يبيعه إياه على أن لا يبيعه إلا بالشام، والوجهان على
مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك سواء؛ وقد روى ابن وهب، وعلي بن زياد، عن
مالك في الذي يبتاع الجارية على ألا يبيعها فباعها، أن بيعه ينقض، يريد
فيفسخ البيع؛ فلم ير على هذه الرواية البيع فوتا.
وقال سحنون: هو فوت بمنزلة البيع الفاسد؛ لأنه إنما باع ما قد ضمن، فيمضي
البيع، ويرجعان فيه إلى القيمة؛ وإذا باع على ألا يبيع إلا من فلان، فهو
بمنزلة إذا باع على ألا يبيع؛ وأجاز ابن القاسم البيع على ألا يبيع من فلان
في رسم باع شاة، من سماع عيسى، من كتاب الدعوى والصلح، وكرهه أصبغ في
الواضحة، واتفقا على كراهة البيع، على ألا يبيع ممن يضر بالبائع؛ وأما
البيع على أنه متى جاء بالثمن، فهو أحق به، فليس من هذا المعنى؛ وسيأتي
القول فيه في أول رسم، من سماع أشهب.
(7/266)
[مسألة: ابتاع
سلعة على أنه إن وجد ثمنه قضاه]
مسألة قال ابن القاسم: وسمعت مالكا يقول: من ابتاع سلعة على أنه إن وجد
ثمنه قضاه، وإن هلك ولا شيء عنده، فلا شيء عليه وهو في حل؛ قال: ما أحب هذا
من الشروط، قال ابن القاسم: فإن وقع هذا الشرط وفات، لزمه قيمتها يوم
قبضها.
قال محمد بن رشد: هذا الشرط من الشروط التي يفسد بها البيع؛ لأنه غرر؛ إذ
لا يدري البائع هل ينض له الثمن أم لا ينض، فلا يدخل فيه من الاختلاف ما
دخل في المسألة التي قبلها، فالحكم فيه أن يفسخ البيع في قيام السلعة شاءا
أو أبيا؛ ويصحح في فواتها بالقيمة بالغة ما بلغت، وهو ظاهر قول ابن القاسم،
وتفسير لقول مالك؛ إذ قد يقول كثيرا فيما لا يصح عنده ولا يجوز، ويجب فيه
الفسخ: لا أحب هذا، وأكره هذا وما أشبهه من الألفاظ، فيكتفي بذلك من قوله،
ويتناهى به من فعله، وبالله التوفيق.
[بيع الجلود قبل أن تذبح]
ومن كتاب أوله سلعة سماها وسئل عن بيع الجلود
قبل أن تذبح، قال: ما هو عندي بالحرام البين، وما يعجبني ذلك؛ وعسى
أن يكون خفيفا، وما هو بالمكروه.
قال محمد بن رشد: هذا كلام متعارض أوله مخالف لآخره، فهو اختلاف من قوله
مرة لم يجزه؛ فقال: ما يعجبني، وما هو عندي بالحرام البين، وهو نص قول ابن
القاسم في العشرة؛ فعلى هذا القول يفسخ البيع إن وقع، فإن فات بقبض المشتري
للجلد، وفواته عنده بما تفوت به البيوع
(7/267)
الفاسدة صحيح بالقيمة؛ ومرة أجازه فقال: ما
هو بالمكروه، وعسى أن يكون خفيفا؛ وهو دليل قوله في المدونة في السباع إن
كانت تشترى وتذكى لجلودها، فلا بأس به؛ فعلى القول ألا يفسخ البيع إن وقع؛
وإن كره البائع ذبح الشاة أو البقرة، وأراد استحياءها؛ يخرج ذلك على ثلاثة
أقوال؛ أحدها: أن ذلك ليس له، ويجبر على الذبح. والثاني: أن ذلك له، ويعطي
المشتري شراء الجلد أو قيمته. والثالث: أن ذلك له، ويكونان شريكين فيها
بقيمة الجلد من جميع قيمتها، ولا يكون له أن يعطي المشتري شراء الجلد أو
قيمته إلا برضاه.
وقد روي عن ابن القاسم: أن البيع يفسخ، إلا أن يفوت الجلد فلا يفسخ، فجعله
على هذا القول من البيوع المكروهة للاختلاف فيه؛ وقد اختلف في البيع
المكروه إذا وقع كالزرع يباع إذا أفرك قبل أن ييبس، فقيل: إن العقد فيه
فوت، وقيل: إن اليبس فيه فوت. وقيل: إن القبض فيه فوت.
وقيل: إنه لا يفوت إلا بفواته بعد القبض؛ فكل هذه الأقوال تدخل في شراء
الجلود قبل أن تذبح، ويتحصل فيها ستة أقوال؛ أحدها: أن شراءها جائز.
والثاني: أن شراءها مكروه، وإن وقع مضى بالثمن. والثالث: أن شراءها مكروه
ويفسخ، إلا أن يذبح البائع الشاة، فيمضي البيع بالثمن. والرابع: أن شراءها
مكروه ويفسخ، إلا أن يقبض المبتاع الجلد بعد ذبحه، فلا يفسخ ويمضي بالثمن.
والخامس: أن شراءها مكروه ويفسخ، إلا أن يقبض المبتاع الجلد، ويفوت عنده،
فلا يفسخ ويمضي بالثمن. والسادس: أن شراءها لا يجوز ويفسخ، فإن قبض المشتري
الجلد، وفات عنده صحح بالقيمة؛ ولو اشتراها على أنه بالخيار فيها إذا ذبحها
ونظر إليها؛ لجاز إن لم ينقد، قاله مالك في كتاب ابن المواز، وهو صحيح على
أصوله.
(7/268)
[مسألة:
النخاسين الذين يبيعون الرقيق والدواب]
مسألة وسئل عن النخاسين الذين يبيعون الرقيق والدواب، يأتي الرجل إليهم،
فيسوم أحدهم بالرأس أو بالدابة، فيقول له السائم بثلاثين دينارا، أو بعشرين
دينارا، فيماكسه حتى يقف على ثمن لا يزيده على هذا الكلام، ولا يقول له
البائع: إن رضيت فخذ، ولا يزيد على أن يقول: هي بكذا وكذا دينارا؛ فيقول
السائم: اذهب بها فاستشير فيها؛ فيقول: نعم، فاذهب بها واستشر فيها، ولا
يزيده السائم على ذلك من القول، فيرضى بها فيأتيه بالثمن؛ فيقول البائع: قد
بدا لي وما كان بيني وبينك إلا مساومة، أو يقول: قد زيد عليه فيها، فبعتها
من غيرك؛ قال مالك: لا أرى ذلك له، وأراه بيعا نافذا عليه إن رضيه الذي
ساومه، وليس له أن ينزع عن ذلك؛ وإني لأرى هذا يدخله ما نهي عنه ألا يبيع
أحدكم على بيع أخيه، فلا أرى له رده، وأراه بيعا لازما إن رضيه، والثوب مثل
ذلك.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بيّنة المعنى، ليست بخلاف لما في كتاب
بيع الغرر من المدونة، ولا لما في سماع أشهب من هذا الكتاب، ومن كتاب
البيوع؛ لأن قول البائع فيها للمبتاع: اذهب بها فاستشر فيها، دليل على أنه
قد أوجب البيع على نفسه، وجعل الخيار فيه
(7/269)
للمبتاع، وقد مضى تحصيل القول في هذه
المسألة، في أول رسم من سماع أشهب، من كتاب العيوب، فمن أحب الوقوف عليه
تأمله هناك.
[مسألة: الثمر تباع وزنا فيطول ذلك عليهم]
مسألة وسئل عن الثمر تباع وزنا فيطول ذلك عليهم، فيقول البائع: إن الوزن
يطول علينا، وفي الويبة كذا كَذا رطلا، فخذ أكل لك بها، وأحاسبك على
الأرطال؛ قال: إن كان ذلك مستقيما معروفا عند الناس، فلا بأس بذلك، قلت:
فالرجل يبتاع بالويبة الطعام المضمون إلى أجل، فلا يحل حقه حتى يأتي وأبى،
فيحدث ويبات أخر، وتغيب تلك الويبات، فيقول له الرجل: تعال أكل له بهذه
الويبة المحدثة، والذي بينهما معروف، إنما زيد فيها كذا وكذا، فيكيل له
ويحاسبه بفضل ما بينهما؛ قال: إن كان ذلك أمرا معروفا، فلا بأس به.
قال محمد بن رشد: هاتان مسألتان صحيحتان بينتا المعنى، أجاز في الأولى
منهما أن يأخذ ما وجب له من الوزن بالكيل إذا كان معروفا عند الناس ما يدخل
في الكيل من الوزن، وكان الكيل أخف عليهم من الوزن، كما أجاز في المدونة أن
يأخذ ما وجب له من الكيل بالوزن إذا كان ما يدخل في الوزن من الكيل معروفا
لا يختلف، وكان الوزن أخف عليهم من الكيل؛ فلا إشكال في جواز ذلك؛ إذ لا
غرر في انتقالهم عن الوزن إلى الكيل، ولا عن الكيل إلى الوزن، إذا عرف قدر
كل واحد منهما من صاحبه؛ وكذلك ما العرف فيه أن يباع بالمكيل، فجائز أن
يشتري بالوزن إذا كان يعرف الكيل من الوزن؛ وما العرف فيه أن يباع بالوزن،
فجائز أن
(7/270)
يبتاع بالكيل إذا كان يعرف الوزن من الكيل،
وإن كان لا يعرف ذلك فلا يجوز، وهو قول أشهب في كتاب البيوع الفاسدة من
المدونة، ولا اختلاف فيه؛ وأما المسألة الثانية فإنها أبين؛ لأنه إنما
انتقل من كيل إلى كيل، فإذا عرف ما بين الكيلين، جاز أن يقتضي بكل واحد
منهما ما وجب من الآخر، ويحاسبه بما بينهما؛ كمن وجب له على رجل كيل، فلم
يجد عند القضاء إلا ربع كيل، فجائز له أن يأخذ حقه به، فيكيل له منه أربعا.
[مسألة: يبيع نصف الوصيفة أو نصف الدابة من
الرجل ويشترط عليه نفقتها سنة]
مسألة وسئل عن الرجل يبيع نصف الوصيفة، أو نصف الدابة من الرجل، ويشترط
عليه نفقتها سنة، وأن له عليه إن ماتت الدابة أخذ ذلك منه؛ فإن باعها أو
ماتت، فذلك له عليه ثابتا: وإن بقيت إلى ذلك، فهو حقه استوفاه منه؛ فلا بأس
بذلك.
قال محمد بن رشد: وقعت هذه المسألة على نصها في رسم خلف، من سماع ابن
القاسم، من كتاب السلطان، ووصل بها أن سحنون أنكرها؛ والمعنى عندي في
مخالفة سحنون لمالك فيها، أن مالكا محل قوله: وأن له عليه - إن ماتت الدابة
- أخذ ذلك منه ثابتا على أنه يأتيه في كل يوم من الطعام، مما كان ينفق
عليها، إلى أن تنقضي السنة، فأجاز ذلك؛
(7/271)
إذ لا وجه للكراهة فيه على هذا الوجه؛ لأنه
باع منه نصف الوصيفة، أو نصف الدابة بثمن مسمى؛ ونفقة معلومة يستوفيها في
كل يوم إلى انقضاء السنة؛ كانت الوصيفة أو الدابة باقية أو لم تكن؛ لأن
العرف فيها كالصفة لها على ما في المدونة وغيرها من إجازة استئجار الأجير
بالنفقة، وإن لم توصف؛ وحمل سحنون قوله أخذ ذلك منه على أنه يأخذ منه إن
ماتت الدابة أو الوصيفة ما بقي من النفقة حالا أو قيمة ذلك، فأنكر جوازه
لما فيه من الغرر على هذا؛ ولو وقع الأمر على أحد الوجهين بنص، احتمال فيه،
لارتفع الخلاف؛ ولو باع منه نصف الوصيفة، أو نصف الدابة واشترط عليه نفقتها
سنة، ولم يزيدا على ذلك، لوجب أن يجوز ذلك على معنى ما في المدونة في الرجل
يبيع من الرجل نصف الثوب أو نصف الدابة، على أن يبيع له النصف الآخر إلى
شهر؛ وعلى ما في أول رسم البراءة، من سماع عيسى، بعد هذا من هذا الكتاب؛
فإن ماتت الدابة أو الوصيفة قبل السنة، رجع البائع على المبتاع في قيمة
النصف الذي باعه منها يوم باعه، لفواته بالموت بقدر ما يقع ما بقي من
النفقة من جميع الثمن؛ لأن البائع باع نصف الوصيفة بما سمى من الثمن،
وبالنفقة على نصفها الذي لم يبعه في السنة ديناران؛ فأنفق عليه نصف السنة،
ثم ماتت، وجب أن يرجع البائع على المبتاع بنصف سدس قيمة النصف الذي باعه
منها يوم باعه؛ لفواته بالموت، كان أقل من دينار أو أكثر.
كما لو باع منه نصف الجارية بعشرة دنانير، وعرض قيمته ديناران، فاستحق
نصفه؛ لأن ما بطل من النفقة بموت الوصيفة كاستحقاق بعض الثمن وهو عرض؛ وقد
قيل: إنه لا يرجع عليه بشيء، وهو الذي يأتي على ما في العشرة لابن القاسم،
في الذي يبيع الأمة وقد أعتق ولدا لها صغيرا، فاشترط نفقته على المشتري حتى
يثغر، ويستغني
(7/272)
عن أمه، فيموت قبل ذلك، أن المشتري لا يتبع
بشيء؛ لأنه إنما أريد بهذا الشرط كفاية مئونة الصبي، ولم يطالب به التزايد
في الثمن، وهو بعيد.
[مسألة: يقف بجاريته أو بغلامه في السوق فيبيعه
بثمن]
مسألة وسئل عن الذي يقف بجاريته أو بغلامه في السوق، فيبيعه بثمن، ونقد
أصحاب الرقيق المثاقيل؛ فإذا وجب البيع بينهما، قال له المشتري: تعال
أنقدك، قال: ما هو؟ قال: نقد الرقيق المثاقيل، قال: ما بعتكها إلا
بالقائمة، قال مالك: ما أرى له إلا المثاقيل، ولو شاء لبين قبل أن يبيع،
وأرى هذا ندما منه، يبيع ثم يقول: إنما بعت بوزن كذا وكذا، فقال له رجل: إن
الرجل ربما باع بالقائمة؛ قال: لا ينظر إلى الرجل الخاص، فيحمل عليه أمر
الناس، ولكن يعملان على ما يتبايعون عليه، ولو شاء لبين.
قال محمد بن رشد: هذا بيّن على ما قال؛ لأن العرف كالشرط؛ ولو ادعى المبتاع
أنه بالقائمة شرط على البائع، ألزمت البائع اليمين أنه ما شرط عليه شيئا،
فإن نكل عن اليمين، حلف المبتاع وأخذ القائمة، ولو اختلفا فقال البائع:
إنما بعتك بالقائمة نصا وشرطا، وقال المشتري: إنما اشتريت منك بالمثاقيل
نصا وشرطا؛ لكان القول أيضا قول المشتري الذي ادعى نقد الرقيق، ما حكى ابن
حبيب في الواضحة. وقوله يأتي على مراعاة دعوى الأشباه في القيام، وهو خلاف
المشهور في المذهب.
[يشتري الصبرة من الطعام جزافا بمائة دينار]
ومن كتاب أوله شك في طوافه
وسئل مالك عن الرجل يشتري الصبرة من الطعام
جزافا بمائة دينار، على أن يعطيه بخمسين دينارا شعيرا من صبرة أخرى،
عشر أرادب بدينار؛ فكره ذلك؛ فقيل له: أفترى أن ينهوا عن ذلك؟ فقال: نعم،
أرى أن ينهوا عن ذلك؛ قال ابن القاسم: لأنه بيع الجزاف والكيل جميعا، وهو
من قول مالك.
(7/273)
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في أول رسم من
سماع عيسى، ووجه القول في هذا أن بيع الجزاف الأصل فيه أن يباع كيلا أو
وزنا رخصة وتوسعة، أجازته السنة، فلا يجوز أن يباع مع مكيل في صفقة واحدة؛
لأن ذلك غرر، وخلاف لما أجازته السنة، اتفق على هذا مالك وجميع أصحابه
اتفاقا مجملا، وفي ذلك تفصيل؛ أما ما الأصل فيه أن يباع كيلا أو وزنا من
جميع الأشياء، فلا يجوز بيعه جزافا مع مكيل منه، ولا مما الأصل فيه أن يباع
جزافا كالأرضين والثياب؛ وكذلك الجزاف مما أصله أن يباع جزافا، لا يجوز
بيعه مع المكيل منه، اختلف في بيعه جزافا مع المكيل، مما أصله أن يباع
كيلا؛ فأجاز ذلك ابن زرب، وأقام إجازته من السلم الأول من المدونة؛ لأنه
أجاز فيه أن يسلم في ثياب وطعام صفقة واحدة؛ ومنع من ذلك غيره مع
المتأخرين، وما ذهب إليه ابن زرب هو الصحيح؛ ولا خلاف في جواز بيع الكيلين
في صفقة واحدة، والجزافين في صفقة واحدة، ولا في جواز بيع الجزاف مع العروض
في صفقة واحدة؛ إلا عند ابن حبيب؛ فإنه ذهب إلى أن الجزاف مما أصله أن يباع
كيلا أو وزنا، لا يجوز بيعه مع العروض في صفقة واحدة، وهو بعيد؛ وسيأتي في
رسم البيع والصرف، من سماع أصبغ القول في بيع الجزاف والجزافين على الكيل،
وما يجوز من ذلك مما لا يجوز، فهو موضعه إن شاء الله تعالى.
[مسألة: المجذوم المملوك يبيعه صاحبه]
مسألة وسئل مالك عن المجذوم المملوك، أترى أن يبيعه صاحبه؟ قال: لا بأس
بذلك، قيل له: أفيكاتبه؛ قال: لا بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن جذامه لا يخرجه من
(7/274)
ملك سيده أن يبيعه وأن يكاتبه؛ وإن لم يقدر
على الكسب إلا بالسؤال، فقد أجاز في المدونة أن يكاتب الرجل عبده الذي لا
حرفة له، إلا ما يسأل، فيتصدق به عليه؛ وإنما وقع السؤال عن هذا القول من
يقول من أهل العلم: إن أهل البلايا الذين لا منفعة لساداتهم فيهم، يجب
عتقهم عليهم؛ كما يعتق على الرجل أمته إذا حملت منه، وهي من ذوات محارمه؛
إذ لا منفعة له فيها بوطء ولا استخدام؛ والفرق بين الموضعين عند مالك، أن
الإيلاد شبهة عتق كانت من سببه، حرم بها على نفسه استخدامها، فوجب أن يعتق
عليه؛ بخلاف المجذوم الذي لا يقدر على الخدمة بسبب جذامه الذي هو مرض من
الأمراض من عند الله لا سبب له فيه.
[مسألة: يشتري أهل السوق من الرطب من أهل
الجفان من النخل]
مسألة وسئل مالك عما يشتري أهل السوق من الرطب من أهل الجفان من النخل،
أترى به بأسا؟ وعن العنب الحصرم، وعن الرمان الأخضر والتفاح، وكل ذلك لم
يطب، باع على أن يقطع؛ قال: لا بأس بذلك، وإنما كرهت النقش هاهنا؛ لأن ذلك
مضر بالناس، وقد «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن
يبيع حاضر لباد» ؛ لضرر ذلك على الناس، وأن يتلقوا السلع؛ فكل ما أضر
بالناس مثل هذا، فأرى أن يمنعوا إلا الأمصار؛ فإن فاكهتهم كثيرة، ولا أرى
به بأسا.
قال محمد بن رشد: سؤاله عما يشتري أهل الأسواق من الرطب
(7/275)
من أهل الجفان من النخل، سؤال فيه التباس،
لتقديم وتأخير وقع فيه، وتقديره وسئل عما يشتري أهل الأسواق من الرطب من
الجفان من أهل النخل، يريد هل يجوز أن يخرج أهل السوق إلى الحوائط فيشترون
من أهل النخل الجفان من الرطب؟ فأجاز ذلك، ولم يره من التلقي الذي ورد
النهي فيه، عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، ومثله في هذا الرسم، من هذا
السماع، من كتاب السلطان، وهو قوله في سماعه منه؛ قال: لا بأس بذلك؛ لأنه
إنما اشترى بموضعه، وإنما التلقي أن يلتقي الجلاب بالسلع؛ فهل أن يهبط بها
إلى الأسواق، كان ذلك الجلاب طعاما أو غيره؛ خلاف روايته عن مالك في السماع
المذكور أن ذلك من التلقي؛ وأما شراء عنب الحصرم والرمان الأخضر والإجاص
والتفاح وسائر الثمار، قبل أن تطيب على أن تقطع، فلا خلاف في جواز ذلك، وقد
مضى القول فيه في أول رسم من هذا السماع؛ إلا أنه كره ذلك فيما عدا الأمصار
القليلة الثمار، فأحب أن يمنع من ذلك رفقا بأهل ذلك المكان، ونظرا لهم.
كما يمنع من بيع الفتايا من البقر القوية على الحرث للذبح، نظرا للعامة،
وصلاحا لهم؛ وكما كره النقش بالمدينة، نظرا للعامة؛ إذ فيه فساد للثمرة،
وذلك ضرر بهم؛ فوجب أن ينظر في ذلك لهم قياسا على ما نهى عنه رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من تلقي السلع، ومن أن يبيع حاضر
لباد؛ لأن المعنى في ذلك، الرفة بأهل الحاضرة، والنظر لعامتهم؛ والنقش الذي
كرهه، أن يؤثر في البشرة أثرا كالجرح، فيسرع إليها الترطيب قبل أوانه، وذلك
من الغش، إن لم يبين، ومع التبيين كرهه مالك، لما فيه من إفساد الثمرة،
ورأى أن يمنع أهل الحوائط من ذله، وأن يبينوا، نظرا لعامة الناس.
[مسألة: التين يباع كيلا أو وزنا وهو أخضر]
مسألة وسئل مالك عن التين يباع كيلا أو وزنا وهو أخضر، فيريد
(7/276)
أن يبدله من صاحبه بغيره قبل أن يقبضه،
قال: لا خير فيه، قلت: فالبطيخ يباع كذلك، أترى أن يبدل بغيره؟ قال: هو
مثله لا خير فيه.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة أنه أراد أن يبدله بأكثر من صنفه
أو من غير صنفه، أو بمثله من غير صنفه، فذلك لا يجوز؛ لأنه بيع الطعام قبل
أن يستوفى، ولو أبدله بمثله من صنفه قبل أن يقبضه لجاز؛ لأنه بدل المثل
بالمثل، ولو قبضه لجاز بدله بغير صنفه أكثر أو أقل، ولا يجوز بصنفه إلا
مثلا بمثل؛ فأما البطيخ، فيجوز إذا قبضه أن يبدله بصنفه وبغير صنفه متفاضلا
باتفاق؛ لأنه مما لا يدخر أصلا، وكذلك سائر الفواكه التي كانت لا تدخر إلا
نادرا على المشهور في المذهب؛ لأن ابن نافع لا يجوز التفاضل في الصنف
الواحد من الطعام، وإن كان لا يدخر إلا نادرا.
وكذلك لو قبض بعض ما اشترى منه من التين، ثم أراد أن يأخذ بالبقية غير
التين، أو صنفا آخر من التين أقل أو أكثر، لم يجز على ماله بعد هذا في أول
رسم حلف؛ ولو أراد أن ينتقل من صنف إلى صنف آخر، قبل أن ينبرم البيع
بينهما، وهما في حال التراوض؛ لجاز على ما يتأول عليه ما وقع في أول رسم من
سماع أشهب، وقد مضى القول على هذه المسألة مستوفى رسم القبلة، ورسم المحرم
يتخذ الخرقة لفرجه، من سماع ابن القاسم، من كتاب الصرف، فمن أحب الوقوف
عليه تأمله هناك، وبالله التوفيق.
[الشجرة تطعم بطنين في السنة]
ومن كتاب أوله
الشجرة تطعم بطنين في السنة
قال: وسئل مالك عن شجرة تطعم بطنين في السنة، بطنا بعد
(7/277)
بطن، أفترى أن يباع البطن الآخر مع البطن
الأول؛ قال: لا يباع كل بطن إلا وحده.
قال محمد بن رشد: ظاهر قول مالك هذا، أنه لا يجوز أن يباع البطن الآخر مع
البطن الأول، وإن كان النبات متصلا، لا يتم البطن الأول حتى يبدأ طيب البطن
الثاني، وهو على قياس ما تقدم من قوله في أول رسم من هذا السماع؛ وقد روى
ابن نافع، عن مالك: أنه يجوز أن يباع البطن الآخر مع البطن الأول، إذا لم
يكن بينهما فترة، كان لا ينقطع الأول حتى يدركه الثاني؛ وهو مثل ما يأتي في
رسم طلق من هذا السماع، في مسألة الجميز؛ وقد مضى في أول رسم من هذا السماع
تحصيل القول في هذه المسألة؛ لأن البطنين في الثمرة الواحدة كالجنسين في
الصنف الواحد.
[مسألة: يشتري أصنافا من الثمر في صفقة واحدة]
مسألة وسئل مالك عن الرجل يشتري أصنافا من الثمر في صفقة واحدة، فيريد أن
يولي صنفا منها، ويحبس ما بقي؛ قال: لا بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: قال بعض أهل النظر في هذه المسألة: القياس ألا يجوز أن
يولي صنفا من الثمر إلا بعد المعرفة بما يقع عليه من الثمن، وإنما استخفه
من أجل أن التولية معروف، وليست على وجه المكايسة؛ والصحيح ألا فرق في هذه
المسألة بين التولية والبيع؛ لأن ما يصيب الصنف
(7/278)
المولى من الثمن، لا يعلمه المولي من الثمن
ولا المولى، والجهل بالثمن في التولية إنما يجوز إذا علمه المولي وجهله
المولى، وكان الخيار له على وجه المعروف؛ ولو ولاه على الإلزام له، وهو
جاهل بالثمن، لم يجز؛ لأن ذلك هو وجه المكايسة إلا بعد معرفتهما جميعا
بالثمن، فإذا ولاه صنفا من الثمر بما ينوبه من الثمن، وجب ألا يجوز، وإن
كان على وجه المعروف، وعلى أن المولي بالخيار من أجل أن المولى قد وجبت
عليه التولية، وهو جاهل بالثمن؛ فإجازته التولية في هذه المسألة إنما يخرج
على القول بجواز جمع الرجلين سلعتيهما في البيع؛ لأن جملة الثمن معروف، وما
يقع لكل سلعة منها لا يعلم إلا بعد التقويم؛ وكذلك هذه المسألة جملة ثمن
جميع الثمر معروف، وما يقع للصنف المولى منها لا يعرف إلا بعد التقويم،
فالاختلاف في جواز جمع الرجلين سلعتيهما في البيع، وفي كون المستحق من يده
جل ما اشترى من السلع على العدد، مخيرا فيما بقي منها بين أن يمسكها بما
ينوبها من الثمن، أو يرد ما يدخل في تولية صنف من الثمر بما ينوبه من الثمن
قبل التقويم، وفي بيعه بما ينوبه من الثمن قبل التقويم دخولا واحدا؛ وهذه
مثل مسألة كتاب الشفعة من المدونة في الذي يجب له الشفعة، فيصالحه المشتري
على أن يأخذ بيتا من الدار بما ينوبه من الثمن.
[مسألة: يبتاع السلعة ثم يستوضع صاحبه من ثمنها]
مسألة وسئل عن الرجل يبتاع السلعة، ثم يستوضع صاحبه من ثمنها، وهو مغتبط
بالسلعة، أترى ذلك له حلالا؟ قال: أما حلال فنعم، وغيره أحسن منه.
(7/279)
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال: إنه
إن استوضع وهو مغتبط ببيعته، حلت له الوضعية، ورأى ترك ذلك أحسن؛ لقول
النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لعمر بن الخطاب: «إن خيرا لأحدكم ألا يأخذ
من أحد شيئا» ، وقوله: «اليد العليا خير من اليد السفلى» .
ولم ير عليه فيه حرجا، ولا إثما، ولا ضيقا إن فعله، إذ لم يره من ناحية
المسألة المنهي عنها؛ لما مضى من أمر الناس على هذا، واستجازتهم له؛ ولما
أشبه ذلك من استعارة الدابة والثوب، ما لم يلح ويتضرع ويتبكى، فإن ذلك
مكروه لا ينبغي؛ قال ذلك في سماع أشهب، وهو صحيح؛ لأنه إذا فعل ذلك، أشبه
ألا يضع عنه طيب النفس، وقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه» ، قال: وأما إن
قال: إن لم تضع لي خاصمتك، فلا خير فيه؛ وهذا بين أن ذلك لا يحل له، ولا
يجوز؛ لأنه يضع عنه مخافة مخاصمته إياه؛ فإن فعل ذلك وجب عليه أن يرد
وضيعته إليه، أو يستحله منها، أو يكافئه عليها، وبالله التوفيق.
[مسألة: عبد أراد رجل شراءه ليعتقه تطوعا فأبى
سيده]
مسألة وسئل عن عبد أراد رجل شراءه ليعتقه تطوعا، فأبى سيده أن ينقصه من
خمسين، وأبى المشتري أن يعطيه إلا أربعين؛ فقال العبد للسيد بغير حضرة
المشتري، ولا أعلم به لسيده: بعني ولا
(7/280)
تمنعني العتق، وأنا أشهد ذلك بأني أعطيك
عشرة دنانير دينا لك علي؛ فأشهد على العبد بذلك، ثم باعه من الذي عتقه
بأربعين دينارا؛ وأعتقه، فعلم المشتري بذلك فأنكر عليه؛ فقال: ما أرى ما
صنع جائزا، قلت له: أفترى أن يتبع العبد بالعشرة دينا، قال: لا شيء له على
العبد، ويسقط عنه؛ فإذا كان ذلك بإذن المشتري وبعلمه، لزمته العشرة.
قال محمد بن رشد: أوجب على العبد لسيده ما أشهد له به على نفسه على أن
يبيعه ممن يعتقه، وجعل ذلك دينا ثابتا له عليه يتبعه به إن علم بذلك
المشتري، كدين ثبت له في ذمته قبل البيع؛ فقوله: إنه يسقط عنه إن لم يعلم
به المشتري، هو مثل ما في رسم لم يدرك من سماع عيسى، من كتاب العيوب؛ وعلى
هذا الأصل يأتي قول أصبغ في نوازله، في مسألة المجرى، وهو خلاف ما في كتاب
الكفالة من المدونة في الذي يبيع عبده، وله عليه دين لم يعلم به المشتري؛
أنه لا يسقط عنه، ويكون عيبا به إن شاء أمسك، وإن شاء رد، وقد قال ابن
القاسم في العشرة: إن العهدة تسقط عن الغلام، علم المشتري أو لم يعلم؛
ويكون البيع فاسدا يفسخ إن كان باع لغير عتق، إلا أن يموت فيرد إلى القيمة،
يريد إن علم المشتري واشترى على هذا؛ وأما إن لم يعلم، فلا وجه لفساد
البيع؛ وقد مضى القول في هذه المسألة مستوفى في رسم لم يدرك، من سماع عيسى،
من كتاب العيوب.
[مسألة: يبتاع الطعام إلى أجل فيأتيه فيقتضي
منه نصفه ويبقى نصفه]
مسألة وسئل عن الرجل يبتاع من الرجل الطعام إلى أجل، فيأتيه
(7/281)
عند الأجل، فيقتضي منه نصفه، ويبقى نصفه،
ثم يأتي بعد ذلك فيطلبه ببقية حقه، فيقول له: ما عندي قضاؤك، ولكن إن أحببت
أن ترد إلي ما أعطيتك، وأرد ذهبك إليك فعلت، فقال: لا خير فيه، وقال:
أكرهه؛ وسمعته قبل ذلك يقول: إن كان الذي اقتضى منه يسيرا مما له عليه، لم
أر بذلك بأسا أن يرده، ويأخذ رأس ماله.
قال محمد بن رشد: قوله: يبتاع من الرجل الطعام إلى أجل، يريد يسلم في
الطعام إلى أجل، ويدخل المسألة إذا تقايلا في الجميع بعد أن قبض منه بعض
الطعام بمجموع البيع والإقالة: أسلفني وأسلفك؛ لأن الأمر آل بينهما إلى أن
دفع المسلم إلى المسلم إليه ذهبا، فرد إليه مثله بعد قبضه وانتفع به؛ ودفع
المسلم إليه إلى المسلم طعاما، فرد مثله إليه بعد أن قبضه، وغاب عليه،
وانتفع به؛ فاتهمهما على القصد إلى ذلك في الكثير، واستخفه في اليسير؛ لبعد
التهمة عنده في ذلك؛ ولو أقاله مما بقي؛ لما جاز في القليل ولا في الكثير؛
لأنه يدخله البيع والسلف؛ فالمكروه فيه أشد؛ لنهي النبي - عَلَيْهِ
السَّلَامُ - عن بيع وسلف، وقد مضت هذه المسألة متكررة في كتاب السلم
والآجال، في رسم الحجرة، ورسم صلى نهارا من سماع ابن القاسم، وبالله
التوفيق.
(7/282)
[اشترى بدينار
قمحا فاكتال نصفه ثم سأله أن يعطيه بالنصف الثاني زيتا]
ومن كتاب أوله
حلف بطلاق امرأته
وسئل مالك عمن اشترى بدينار قمحا، فاكتال نصفه، ثم سأله أن يعطيه بالنصف
الثاني زيتا أو عدسا؛ فقال: لا خير في هذا، قال ابن القاسم: لأنه بيع
الطعام قبل أن يستوفى؛ قال مالك: وإن كان شعيرا، فأخذ مثل كيله، فلا بأس
به.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال؛ لأنه إذا أخذ فيما بقي له من القمح
زيتا أو عدسا، فقد باعه بذلك قبل أن يستوفيه، وقد مضى القول على هذا
المعنى، في آخر رسم شك في طوافه مستوفى، فلا معنى لإعادته.
[مسألة: الفول والعدس والحمص وحكم التفاضل
بينهما]
مسألة قال مالك في الفول والعدس والحمص مثل ما قال في عام الأول، لا يصلح
الفضل بينهما؛ وسألت ابن القاسم عن هذا فقال: لا بأس به، وبه قال أصحاب
مالك كلهم.
قال محمد بن رشد: ذهب ابن القاسم، وسائر أصحاب مالك إلى أن القطاني في
البيع أصناف مختلفة، واختلف قول مالك في ذلك على ثلاثة أقوال؛ أحدها: أنها
أصناف مختلفة. والثاني: أنها صنف واحد، والقولان له في الزكاة الأول من
المدونة نصا، ويقومان من هاهنا بدليل.
(7/283)
والقول الثالث: أن ما كان منها لا يشبه
بعضه بعضا، يريد في المنفعة كالحمص والفول والترمس والكرسنة، فهي أصناف
مختلفة، يجوز التفاضل فيها؛ وما كان منها يشبه بعضه بعضا كالحمص والعدس،
فهو صنف واحد، وهو قوله في أول رسم من سماع أشهب، ولم يختلف قوله فيها في
الزكاة أنها صنف واحد؛ وقد مضت هذه المسألة متكررة في كتاب السلم والآجال،
في هذا الرسم بعينه، ومضى القول عليها هناك مستوفى.
[مسألة: يأتي إلى الحائك فيجد عنده ثوبا قد نسج
جله وبقي بعضه فيشتريه]
مسألة وسئل مالك عن الرجل يأتي إلى الحائك فيجد عنده ثوبا قد نسج جله، وبقي
بعضه، فيشتريه منه وينقده ثمن الثوب حتى ينسج الثوب؛ قال: لا خير فيه؛ لأن
الثوب يختلف نسجه يكون آخره شراء من أوله، ولا أحبه؛ قال سحنون: هذه جيدة،
فقس عليها ما ورد عليك.
قال محمد بن رشد: إنما لم يجز هذا من أجل أنه اشترى بقية الثوب على أن
ينسجه البائع، فصار بيعا وإجارة في نفس الشيء المبيع، والبيع والإجار في
نفس الشيء المبيع؛ إنما يجوز على مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك فيما
يعرف وجه خروجه، كالقمح على أن على البائع طحينه، والثوب على أن على البائع
خياطته استحسانا أيضا على غير قياس؛ أو فيما لا يعرف وجه خروجه إلا أنه
يمكن إعادته إلى العمل حتى يأتي على الصفة، كالفضة على أن على البائع
صياغتها، أو الصفر على أن على البائع أن يعمل منه أقداحا صفة، وما أشبه
ذلك؛ وأما ما لا يدرى وجه خروجه، ولا يمكن إعادته إلى العمل، إن خرج على
غير الصفة، كالغزل
(7/284)
على أن على البائع حياكته؛ والزيتون على أن
على البائع عصره، فلا يجوز على حال؛ وسحنون: لا يجيز البيع والإجارة في نفس
الشيء المبيع شيء من الأشياء، كان مما يعرف وجه خروجه أو لا يعرف؛ ولذلك
قال في هذه المسألة: إنها جيدة، فقس عليها ما ورد عليك، ولا حجة له فيها من
قول مالك؛ لأنه قد بين العلة فقال: لأن الثوب مختلف نسجه، يكون آخره شرا من
أوله؛ فلو كانت الإجارة فيما لا يختلف، ويعرف وجه خروجه؛ لجاز ذلك على
تعليله، خلاف مذهب سحنون.
[مسألة: يبيع كرمه ويستثني منه أسلالا أقل من
الثلث]
مسألة وسئل مالك عن الرجل يبيع كرمه، ويستثني منه أسلالا أقل من الثلث،
فينفد الكرم قبل أن يستوفي الأسلال، قال: يتراضيان على ما بقي من الأسلال؛
فقيل له: أفيأخذ مكان أسلاله من غير كرمه؟ قال: نعم. قال ابن القاسم:
ويتعجل السلال إذا تحول إليها، ولا يؤخرها ولا يأخذ إلا مثلها في قدرها؛
لأنه إذا أخرها كان دينا بدين.
قال محمد بن رشد: اختلف في المستثنى، هل هو مبقى على ملك للبائع، أو هو
بمنزلة المشتري؟ وجواب مالك في هذه المسألة على أنه مبقى على ملك البائع،
وعلى أن عنب الكرم نفذ ببيع المبتاع له؛ فصار المبتاع قد تعدى على البائع
في السلال التي استثناها عليه، فأبقاها لنفسه على ملكه، فباعها في جملة ما
باع من عنب الكرم؛ فوجب
(7/285)
أن يكون البائع مخيرا بين أن يأخذ منه مثل
السلال، أو الثمن الذي باعها به؛ فإن رضي أن يأخذ السلال، لم يجز أن يؤخره
بها؛ لأنه يدخله فسخ الدين في الدين، من أجل أنه قد كان له أن يأخذ منه
الثمن، ففسخه في السلال إلى أجل، ولو كان عنب الكرم إنما نفد بالأكل
والإعطاء؛ لما وجب للبائع على المبتاع إلا بمثل السلال التي استثنى عليه،
ولجاز له أن يؤخره بها؛ لأنه إنما له عليه سلال، فجاز أن يؤخره بها، إلا أن
يكون الإبان قد خرج، فلا يجوز أن يؤخره بالسلال إلى عام قابل؛ لأن القيمة
قد وجبت له في السلال لخروج الإبان، فيكون إذا فعل ذلك قد فسخ القيمة التي
وجبت له في سلال إلى عام قابل، وذلك ما لا يحل ولا يجوز، وقوله: يتراضيان
على ما بقي من السلال، يريد بما يجوز بينهما في ذلك من دنانير أو دراهم،
بعد معرفة مبلغ ما يجب له من الثمن، أو عروض، أو طعام من غير صنف العنب؛
يعجل ذلك كله، ولا يؤخر شيئا منه؛ فإن تراضيا على عنب مخالف له أرفع أو
أدنى، لم يجز إلا مثل السلال نقدا؛ لأنه إن أخره بها، كان العنب بالعنب إلى
أجل؛ وأما على القول بأن المستثنى بمنزلة المشترى، وأن البائع كأنه قد باع
الكرم بما سمي من الثمن، وبالأسلال التي استثنى منه.
فإذا نفد عنب الكرم قبل أن يستوفي البائع الأسلال التي استثنى، فالواجب
للبائع أن يرجع على المبتاع بقدر ما استثنى من قيمة الكرم؛ لأن الأسلال
التي لم يستوفها البائع، كعرض من الثمن استحق فرجع بقدره من الثمن في عين
الكرم الذي باع إن كان قائما، أو في قيمته إن كان فائتا، وجائز أن يأخذ
بذلك من المبتاع ما تراضيا عليه من قليل الأسلال وكثيرها، وجميع الطعام
والعروض، وأن يأخذ دراهم من دنانير إذا كان ذلك كله معجلا؛ لأن البيع قد
انفسخ في مقدار السلال؛
(7/286)
فجاز أن يأخذ بما وجب له به الرجوع ما شاء
من ذلك كله نقدا، كمن وجب له على رجل ذهب فأخذ به ورقا أو طعاما أو عرضا،
وقد روي الحديث عن ابن القاسم أنه لا يأخذ مكان أسلاله أسلالا من غير كرمه؛
ولا وجه يمنع من ذلك إذا تعجلها وكانت مثلها، فلعل معنى الرواية إذا لم
يتعجلها.
[مسألة: يشتري من الرجل طعاما جزافا أو كيلا أو
غيره]
مسألة قال: وسئل مالك عن الرجل يشتري من الرجل طعاما جزافا أو كيلا أو
غيره، فيجد في أسفله مخالفا لأوله، قال مالك: إن أحب أن يأخذه كله أخذه،
وإن أبى رده كله؛ إلا أن يشاء البائع أن يسلم إليه ما وجد فيه من طيب إن
أحب ذلك المبتاع، وإلا لم يلزمه إذا وجد في أسفله مخالفا لأوله، فقلت له:
يا أبا عبد الله، ألا يلزمه أن يأخذ ما وجد من طيب بسعر ما ابتاع، ويوضع
عنه ما وجد من القمح مخالفا؛ قال: لا، إلا أن يشاء، هما في ذلك بالخيار؛
وسواء إن رضي هذا أن يعطي، لم يكن ذلك له إلا أن يرضى المبتاع أن يأخذ؛ وإن
رضي المبتاع أن يأخذ، لم يكن له ذلك، إلا أن يرضى البائع أن يأخذه؛ قال
سحنون: وإنما هذا إذا أصاب العيب بجله، وأما الشيء اليسير فذلك يلزمه
بحسابه.
قال محمد بن رشد: قوله: طعاما جزافا أو كيلا أو غيره، فيه تقديم وتأخير؛
ووجه الكلام: وسئل عن الذي يشتري من الرجل طعاما أو غيره
(7/287)
جزافا أو كيلا، ويريد بغيره ما عدا الطعام
مما يكال أو يوزن كالحنك، والعصفر والكتم، وشبه ذلك؛ لأن له حكم الطعام
فيما يوجد فيه من العيب ببعضه. وقوله: إنه إذا وجد في أسفله مخالفا لأوله،
أنه يأخذه كله أو يرده كله؛ يريد وليس له أن يرد المعيب ويمسك السالم بحصته
من الثمن، هو نص ما في المدونة من أن البائع إنما باع على أن يحمل بعضه
بعضا؛ لأن السالم يحمل المعيب، وقوله: إلا أن يشاء البائع أن يسلم إليه ما
وجد فيه من طيب، فيكون ذلك له إن أحب المبتاع، وإلا لم يلزمه؛ معناه إذا
كان المعيب الثلث فأكثر؛ لأن مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك، أن استحقاق
ثلث الطعام والمكيل والموزون من العروض، يوجب للمشتري رد الجميع، بخلاف
العبيد والعروض.
فقول سحنون: وإنما هذا إذا أصاب العيب بجله إلى آخر قوله، خلاف لقول مالك
على مذهب أشهب في مساواته بين العبيد والعروض والطعام في الاستحقاق؛ فلا
يجب للمبتاع رد الباقي، إلا أن يكون المستحق أكثر من النصف وهو الجل؛ فإذا
كان المعيب من الطعام الثلث أو النصف، فأراد البائع أن يلزم المبتاع السالم
بحصته من الثمن، لم يكن ذلك له على مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك؛ وكان
ذلك له على مذهب أشهب، وإليه ذهب سحنون، فالخلاف الموجود في الطعام، وما
كان في معناه من المكيل والموزون من العروض، ينقسم على خمسة أقسام: أحدها:
أن يكون مما لا ينفك منه الطعام كالفساد اليسير في قيعان الأهراء والبيوت.
والثاني: أن يكون مما ينفك منه الطعام، إلا أنه يسير لا خطب له. والثالث:
أن يكون مثل الخمس والربع، ونحو ذلك. والرابع: أن يكون مثل الثلث والنصف.
والخامس: أن يكون أكثر من النصف وهو الجل، فأما إذا كان الفساد والخلاف
الموجود فيه مما لا ينفك منه الطعام لجري العادة، فهو للمشتري لازم، ولا
كلام له فيه؛ وأما إذا كان مما ينفك منه الطعام، إلا أن 189 يكون يسيرا لا
خطب له؛ فإن أراد
(7/288)
البائع أن يلزم المعيب، ويلزم المشتري
السالم بما ينوبه من الثمن، كان ذلك له بلا خلاف؛ وإن أراد المشتري أن
يلتزم السالم، ويرد المعيب بحصته من الثمن، لم يكن ذلك له على ما في
المدونة وظاهر هذه الرواية، وروى يحيى، عن ابن القاسم: أن ذلك له.
وأما إن كان مثل الربع والخمس، فإن أراد البائع أن يلزم المشتري السالم
بحصته من الثمن، ويسترد المعيب، كان ذلك له بلا خلاف؛ إذ لا اختلاف في أن
استحقاق ربع الطعام أو خمسه، لا يوجب للمبتاع رد الباقي؛ وإن أراد المبتاع
أن يرد المعيب، ويلتزم السالم بحصته من الثمن، لم يكن ذلك له بلا خلاف
أيضا.
وأما إن كان الثلث أو النصف، فأراد البائع أن يلزم المشتري السالم بحصته من
الثمن، لم يكن ذلك له على مذهب ابن القاسم، وروايته عن مالك؛ وكان ذلك له
على مذهب أشهب، واختيار سحنون، ولم يكن للمبتاع أن يلزم السالم، ويرد
المعيب بحصته من الثمن، وأما إن كان الجل وأكثر من النصف، فلا اختلاف في
أنه ليس للبائع أن يلزم المشتري السالم بحصته من الثمن، ولا للمبتاع أن يرد
المعيب بحصته من الثمن؛ وهذا الذي ذكرناه من أن استحقاق الثلث من المكيل
والموزون من العروض يوجب للمبتاع رد الجميع بمنزلة الطعام؛ هو ظاهر هذه
الرواية على ما بيناه، بما وقع فيها من التقديم والتأخير، وبدليل أن حكم
المكيل والموزون من العروض حكم غير الموزون منها، لا يوجب للمبتاع رد
الباقي، إلا أن يستحق الجل.
[مسألة: باع نخلا وله شرب في ماء ولم يبين]
مسألة وسئل عن رجل باع نخلا وله شرب في ماء، ولم يبين
(7/289)
ما هو من ذلك الماء أسدسه أم خمسه أم ربعه؟
قال: ما أرى إلا أن يفسخ، وأرى هذا غير جائز؛ وربما كان من ذلك الماء الذي
لا يكون فيه ري النخل، فأرى أن يفسخ؛ فقيل له: إن الرجل قد حلف بعتق ما
يملك ألا يقيله، أفترى له أن يقيله إذا تبين له أن هذا مفسوخ، وقد دخل فيما
لا ينبغي له من أمر فساد البيع، ورأى أن فساده يخرجه من يمينه، قال: لا،
ولكن يرفع إلى السلطان؛ قال ابن القاسم: يعني بذلك حتى يكون السلطان هو
الذي يفسخه، ثم لا يكون على الحالف في يمينه شيء.
قال محمد بن رشد: قوله: ولم يبين ما هو، يدل على أنه علم ما هو، فكتم ذلك
عن المشتري، ولم يعلمه به، فاشترى على جهل؛ وإذا كان الأمر على هذا، فليس
ببيع فاسد؛ لأن البيع إنما يكون فاسدا إذا جهل المتبايعان جميعا، وأما إذا
علم أحدهما وجهل الآخر، فالحكم فيه أن يكون الذي جهل بالخيار إذ علم بين أن
يتمسك بالبيع أو يرده.
فقول مالك: ما أرى إلا أن يفسخ وأرى هذا غير جائز؛ معناه إذا لم يرض
المشتري بالشراء بعدما يعلم ما للنخل من الماء، ولو ادعى البائع أنه أعلمه
بمالها من الماء، أو أنه كان عالما بذلك دون أن يعلمه؛ فقال المبتاع: لم
أعلم، ولا أعلمتني، وإنما اشتريت على جهل بذلك؛ لكان القول قول المبتاع مع
يمينه أنه ما علم ولا أعلمه، ولا اشترى إلا على جهل بمبلغ مالها من الماء،
فإن حلف على ذلك كان له الرد؛ ولو قال المبتاع: لم أعلم، ولا
(7/290)
أعلمتني، ولا علمت أيضا أنت، وإنما وقع
شرائي على الجهل مني ومنك؛ لكان القول قول البائع؛ لأنه يدعي صحة، والمبتاع
يدعي فسادا، وسيأتي هذا المعنى في رسم أوصى، من سماع عيسى، فيستوفى القول
فيه إن شاء الله تعالى.
ولو سكتا عن الشرب فلم يذكراه، وهما عالمان بمبلغه؛ لكان داخلا في البيع،
وسيأتي هذا المعنى في أول سماع أشهب، وقوله: إنه إذا حلف ألا يقيله، يحنث
إن أقاله بعد أن علم ما يجب له من فسخ البيع صحيح؛ لأن الفسخ إقالة في
المعنى؛ فإذا فاسخه في البيع باختياره دون حكم حاكم، وجب أن يحنث؛ ولو قيل:
إنه يحنث، وإن قضى له عليه السلطان بالفسخ على القول بأن من حلف ألا يفعل
فعلا، فقضى به عليه السلطان أنه حانث؛ لكان قولا، وقد مضى هذا في غير ما
موضع، من سماع ابن القاسم وغيره، من كتاب الأيمان بالطلاق وغيره.
[يشتري الطعام المضمون إلى يومين يوفيه إياه]
ومن كتاب طلق بن حبيب وسئل مالك عن الرجل يشتري
الطعام المضمون إلى يومين يوفيه إياه، قال: لا بأس به؛ قال ابن
القاسم: قد كان كرهه قبل ذلك غير مرة، وقال: لا خير فيه حتى يكون إلى أجل،
يريد ترتفع فيه الأسواق وتنخفض، قال: وبلغني عن سعيد بن المسيب أنه كرهه
حتى يكون إلى زمن ترتفع فيه الأسواق وتنخفض، قال ابن القاسم: وهو قول مالك
الأول، وهو أحب ما فيه إلي.
قال محمد بن رشد: قد اختلف قول سعيد بن المسيب في هذا أيضا، فحكى ابن حبيب
عنه إجازة السلم إلى الثلاثة الأيام والأربعة
(7/291)
والخمسة، خلاف قوله هاهنا، وفي المدونة
وأجازه ابن عبد الحكم إلى اليوم؛ وإلا شبه ما اختاره ابن القاسم من أن ذلك
لا يجوز إلا إلى أجل ترتفع فيه الأسواق وتنخفض؛ لأن الأجل القريب يشبه
السلم الحال الذي لا يجوز، من أجل أن المسلم كأنه دفع إلى المسلم إليه
دنانير على أن يشتري له بها سلعة كذا، على أن له ما زاد، وعليه ما نقص،
فدخله الغرر والخطر، ووجه إجازته التعلق بظاهر قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ
-: «سلموا في كيل معلوم إلى أجل معلوم» ، فأجاز السلم إلى أجل معلوم، ولم
يخص قريبا من بعيد، فإن وقع السلم إلى الأجل القريب، فسخ على ظاهر قول ابن
القاسم هنا وفي المدونة، وقال ابن حبيب: لا يفسخ إذا أوقع مراعاة للاختلاف،
وقد وقع في رسم المكاتب، من سماع عيسى، من كتاب السلم والآجال، مسألة كان
الشيوخ يقيمون منها إجازة السلم الحال إذا وقع، وليس ذلك بصحيح على ما
بيناه هناك، فلا وجه لإعادته.
[مسألة: باع جارية من رجل بشرط ألا يخرج بها من
المدينة]
مسألة وسئل مالك عن رجل باع جارية من رجل بشرط ألا يخرج بها من المدينة،
فعلم مكروهه؛ فقال البائع للمبتاع: أنا أضع عنك الشرط، وألزمك البيع، أترى
ذلك لازما للمشتري؟ قال: ما أرى ذلك، قال ابن القاسم: وأرى بأن يلزم
المشتري البيع.
قال محمد بن رشد: هذا هو المشهور في المذهب في هذه المسألة، وقد مضى تحصيل
القول فيها في رسم القبلة، فلا معنى لإعادته.
(7/292)
[مسألة: أجر
الكيالين أيؤخذ ذلك من المشتري]
مسألة وسئل مالك عن أجر الكيالين، أترى أن يؤخذ ذلك من المشتري؟ قال: إن
الصواب والذي يقع في قلبي أن يكون على البائع، وذلك أن المشتري لو لم يجد
أحدا يكيل له، كان على البائع أن يكيل، وقد قال إخوة يوسف ليوسف: {فَأَوْفِ
لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا} [يوسف: 88] فكان يوسف هو الذي
يكيل.
قال محمد بن رشد: هذا هو المعلوم من قول مالك الذي عليه أصحابه، أن البائع
هو الذي يلزم أن يكيل للمبتاع ما باع منه، وأن عليه أجر الكيال إن لم يرد
أن يتولى ذلك بنفسه؛ وقد كان مالك يقول قديما: أجرة الكيل على المشتري،
فعلى قوله هذا لا يلزم البائع أن يكيل، وعلى المبتاع أن يكتال لنفسه.
فقوله في الرواية: وذلك أن المشتري لو لم يجد أحدا يكيل له، كان على البائع
أن يكيل، ليست بحجة؛ لأن أجرة الكيل إنما تجب على الذي عليه أن يكيل، فهي
في المشهور على البائع؛ لأن عليه أن يكيل، وهي على قول مالك القديم على
المبتاع؛ لأن عليه أن يكتال لنفسه، فالصحيح على أن يوفيه ما باع منه،
ويفرزه بالكيل عن مالكه، كما أن على المبتاع أن يوفي البائع الثمن ويفرزه
بالكيل عن مالكه، كما أن على المبتاع أن يوفي البائع الثمن ويفرزه عن مالكه
بالوزن؛ واستدلاله على ذلك بقوله عز وجل: {فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ
وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا} [يوسف: 88] ، صحيح على القول بأن شرائع من قبلنا
لازمة لنا؛ وهو مذهب مالك، وفي ذلك اختلاف كثير قد ذكرناه في أول رسم من
سماع ابن القاسم، من كتاب النكاح، فإن تولى البائع الكيل بنفسه أو أحد من
قبله، فضمان ما في المكيال منه حتى
(7/293)
يفرغه في وعاء المشتري، واختلف إن تولى
المشتري الكيل لنفسه أو أحد من قبله، على القول بأن أن على المشتري أن
يكتال لنفسه، أو بتفويض البائع إليه ذلك، على القول الآخر؛ فقيل: إن ضمان
ما في المكيال من البائع أيضا حتى يفرغه في وعائه، وهو قول ابن القاسم في
سماع يحيى؛ وقيل: إنه إذا امتلأ الكيل، فضمان ما فيه منه إن تلف قبل أن
يفرغه في وعائه، وهو قول سحنون في نوازله.
[مسألة: بيع الجميز وهي في بطون]
مسألة وسئل مالك عن بيع الجميز وهي في بطون، فقال: إن كان نباتا متصلا فلا
بأس به؛ فقلت له: إنه ينبت كما تنبت القثاء بطنا بعد بطن، وهي شجرة، قال:
والقثاء شجر؟ فلا أرى به بأسا إذا كان نباتا متصلا؛ فأما إن كان ينقطع ثم
ينبت بعد ذلك، فلا أرى فيه خيرا، ثم قال: والسدر كذلك.
قال محمد بن رشد: قد مضى تحصيل القول في هذه المسألة، في أول رسم من هذا
السماع، فلا معنى لإعادته.
[مسألة: يبيع الزيت أرطالا بكذا وكذا دينارا
إلى أجل]
مسألة وسئل مالك عن الرجل يبيع الزيت أرطالا بكذا وكذا دينارا إلى أجل،
فيزن له فيفضل له عنده الرطلان ينقصان من وزنه، فيقول المشتري للبائع: هما
لك، قال: ما أرى من بأس، ولكن أخاف أن يكثر؛ فإن كثر فلا يعجبني؛ فأما
الشيء اليسير مثل هذا، فلا أرى من بأس؛ قال سحنون: ولا بأس به كثيرا كان أو
قليلا.
(7/294)
قال محمد بن رشد: اتقى مالك - رَحِمَهُ
اللَّهُ - إذا كثر ما نقص من الوزن، فتركه له أن يكون إنما فعل ذلك رجاء أن
يوسع له في الثمن إذا حل الأجل، فيدخله ما نهي عنه من هدية المديان؛ واستخف
ذلك سحنون وإن كان كثيرا، ولم يتهمه على القصد إلى ذلك؛ لأنه من ناحية ما
يندب إليه المتبايعان من السماحة في البيع، فقد قال - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رحم الله عبدا سمحا إن باع، سمحا إن ابتاع، سمحا إن
قضى، سمحا إن اقتضى» . فلا يقام من هذا أن سحنونا يجيز هدية المديان إذا
كانت مبتدأة على غير هذا الوجه، بل لا تحل عنده، ولا عند أحد من أهل العلم
لمن عليه دين أن يهدي لمن له عليه الدين، رجاء أن يؤخره بما له عليه من
الدين، ولا يحل لمن له الدين أن يقبل منه الهدية، إن علم أن ذلك غرضه فيها،
ولا حرج على من أهدى لصاحب دينه إذا صحت نيته في ذلك، وقد كان ابن شهاب
يكون عليه الدين، فإذا جاءه غرماؤه أجازهم ولم يقضهم، لصحة نيته في ذلك،
ويكره لمن يقتدي به أن يقبل ذلك منه؛ فقد رد عمر بن الخطاب - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - على أبي بن كعب هديته من أجل ماله عنده؛ لئلا يقتدي به في
ذلك، فيكون ذريعة إلى استجازة ذلك، والعمل به حتى يكثر؛ فيوقع في المحظور
منه؛ هذا وجه رد عمر بن الخطاب عليه هديته؛ إذ ليس من أهل التهم؛ وقد قال
ابن دحون: إنما أجاز سحنون أن يترك ما نقص من الوزن وإن كثر؛ لأن مذهبه
قبول هدية المديان إذا كان الدين من بيع؛ فإن كان من قرض لم يجز عند
الجميع، إلا أن يكون قد جرت به عادة من المهدي قبل الدين؛ وليس قوله بصحيح
لما بيناه، وقد مضت هذه المسألة متكررة، والقول فيها في رسم حلف، من سماع
ابن القاسم، من كتاب السلم والآجال.
(7/295)
[مسألة: يشتري
الجارية أينظر إلى كفيهما]
مسألة وسئل عن الرجل يشتري الجارية، أترى أن ينظر إلى كفيهما؟ قال: أرجو أن
لا يكون به بأس؛ فقيل له: فمعصميها وساقيها؛ قال: لا أرى ذلك له، ولا
يعجبني ذلك، ولكن أرى أن يخبر عنها كما يخبر عن المرأة التي يتزوجها؛
وأخبرنا سحنون قال: أخبرني ابن نافع: أن ابن عمر دخل السوق، فضرب بيده على
صدر جارية فهزها، ثم قال: من شاء فليشتر.
قال محمد بن رشد: قوله: إنه لا ينظر في الجارية عند الشراء إلا إلى كفيها،
ولا ينظر إلى معصميها وساقيها، خلاف ما في كتاب الخيار من المدونة، من أن
الرقيق قد يجرد في الشراء، فظاهر قوله فيها أنه يجوز له أن ينظر منها إلى
ما عدا الفرج؛ وفعل ابن عمر هذا يتأول على أن الجارية كانت له، فلذلك صح له
أن يضرب بيده على صدرها، فيهزها ويقول: من شاء فليشتر، يريد فليشتر مني؛ إذ
لا حاجة له أن يفعل ذلك بجارية غيره، فيكون كالسمسار له في بيعها، وهو منزه
عن مثل هذا، والله أعلم؛ وقد قيل: لم تكن له، وإنما فعل ذلك معلما للناس أن
فعل مثل هذا يجوز لهم في الرقيق، وضرب الصدر من فوق الثوب أخف من النظر إلى
المعصمين والساقين، والأول هو أشبه لحال ابن عمر وفضله وورعه - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ -.
[اشترى نصف ثمرة بعدما بدا صلاحها]
ومن كتاب أوله سن
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
وقال مالك: من اشترى نصف ثمرة بعدما بدا صلاحها،
فلا أرى ببيعها بأسا قبل أن يجدها؛ قال ابن القاسم: وتفسير ذلك أن
(7/296)
مالكا كان يقول قديما: إذا اشترى جزءا من
ثمرة فليس له أن يبيعها حتى يستوفيها، فسألناه عن ذلك فأخبرنا هذا.
قال محمد بن رشد: وجه قول مالك الذي كان يقول قديما، هو أنه لما كان لا
يقدر على أن يتبين لحظه من الثمرة إلا بالقسمة في الكيل فيما يكال من ذلك،
أو الوزن فيما يوزن منه، أو العد فيما يعد منه؛ أشبه من اشترى شيئا من
الطعام كيلا أو وزنا أو عددا في أنه لا يبيعه حتى يستوفيه، والقول الآخر هو
مقتضى القياس؛ لأن حظه من الثمرة داخل في ضمانه بالعقد، كما يدخل جميعها في
ضمانه بعقد الشراء وإن لم يستوفها؛ إلا ما في ذلك من حكم الجاثمة على سنتها
في الوجهين جميعا، وقد مضت هذه المسألة والقول فيها في رسم حلف، من سماع
ابن القاسم، من كتاب السلم والآجال، ومضت أيضا في رسم سن منه؛ واختلف قول
مالك أيضا في الرجل يبيع ثمر حائطه بعد أن بدا صلاحه، ويستثني أقل من ثلثه
كيلا، هل يجوز له أن يبيعه قبل أن يستوفيه أم لا؟ والقولان في هذه المسألة
جاريان على القول في المستثنى، هل هو مبقى على ملك البائع أو بمنزلة
المشترى؟ وقد مضى في رسم حلف هذا المعنى، وبالله التوفيق.
[الحائط الذي ليس فيه زهو وما حواليه قد أزهى
هل يباع]
ومن كتاب أوله
أخذ يشرب خمرا وسئل عن الحائط الذي ليس فيه زهو، وما حواليه قد أزهى، أترى
أن يباع ولم ير فيه شيء من الزهو؟ قال: نعم، لا أرى به بأسا إذا كان الزمان
قد أمنت فيه العاهات، وأزهت الحوائط؛ فلا
(7/297)
أرى بذلك بأسا. قال عيسى: وسألت ابن القاسم
عن هذا فقال: لست أراه حراما، وأحب ذلك إلي قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «حتى تزهى» . وقال: وسئل عن الحائط الذي تزهى فيه
النخلات الأربع والخمس، وقد تعجل زهوه قبل الحوائط، أترى أن يباع؟ قال:
نعم، لا بأس بذلك إن تعجل قبل الحوائط.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة والقول فيها مستوفى في أول رسم من هذا
السماع، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[الضأن يباع صوفها فيصاب منها الأكبش قبل أن
يجزها]
ومن كتاب أوله
يسلف في المتاع والحيوان قال مالك في الضأن يباع صوفها، فيصاب منها الأكبش
قبل أن يجزها، قال مالك: أراها من البائع، ويوضع عن المبتاع بقدر ذلك. قال
ابن القاسم: وذلك إذا سرقت أو أخذها السبع؛ فأما إن ماتت، لم يكن له إلا
صوفها، إلا أن يكون صوف الميتة عند الناس لا يشبه الحي، فيوضع ذلك عنه.
قال محمد بن رشد: جعله الضمان من البائع فيما أصيب من الأكبش، يدل على أنه
رأى الجزاز عليه، فجعل الضمان منه، لما عليه من حق التوفية بالجزاز، وهو
خلاف ما يدل عليه ما في رسم الثمرة من سماع عيسى، وخلاف المشهور من أن
الجزاز على المشتري، كمن اشترى ثمرة بعد طيبها، فالجداد على المشتري؛ وكمن
اشترى زيتونة على القطع، أو حلية سيف على القلع، أن القطع والقلع على
المشتري؛ وإن لم يقع الشراء على أن يقطع المشتري، أو على أن يقلع، إلا أن
يشترط كذلك على
(7/298)
البائع، فيكون عليه بالشرط.
ويحتمل أن يكون تكلم في الرواية على أن العرف كان عندهم أن الجز على
البائع، وأن الضمان منه؛ لأن الخلاف لا يتصور إلا مع عدم العرف والشرط؛
وقال: وقال ابن دحون: معنى المسألة أن المشتري اشترط الجزاز على البائع،
فلهذا كان الضمان منه، قال: وكذلك وقع في سماع ابن أبي أويس: أن المشتري
اشترط الجزاز على البائع، قال: ولو لم يشترطه عليه؛ لكان الجزاز عليه،
والضمان منه؛ كالثمرة إذا اشتراها بعد طيبها، فالجزاز والضمان على المشتري؛
فإن اشترط المشتري الجداد على البائع، كان الضمان منه؛ وفي هذا عندي من
قوله نظر؛ لأن الحكم لو كان أن الجزاز على المشتري، والضمان منه قولا
واحدا؛ لما صح أن يتنقل الضمان عن المشتري إلى البائع باشتراط الجزاز عليه،
ولكان البيع فاسدا إن وقع بشرط الضمان؛ لأنه قد حصل له جزء من الثمن، فصار
مبتاعا له بما وقع له من الثمن، وإنما يجوز اشتراط الضمان في البيع إذا كان
أمرا مختلفا فيه، فإذا قررنا أن في المسألة قولين؛ أحدهما: أن الجز على
البائع، والضمان منه. والثاني: أن الجز على المبتاع والضمان منه، جاز أن
يشترط الجز والضمان على البائع، على القول بأن ذلك على المشتري؛ وجاز أن
يشترط ذلك على المشتري على القول بأنه على البائع، كشراء السلعة الغائبة
على الصفة، يجوز أن يشترط البائع الصفة، وأن يشترط المبتاع أنها من البائع
حتى يقبضها هو أو رسوله.
وإذا قررنا أنه لا اختلاف في أن الجز على المبتاع والضمان منه، واشترط
المبتاع الجز على البائع والضمان، كان البيع فاسدا؛ وإن شرط عليه الجز وسكت
عن الضمان، كان البيع صحيحا؛ لأنه إنما اشترى منه الصوف جزافا، واستأجره
على جزازه، كمن اشترى من رجل ثوبا على أن على البائع خياطته، أو قمحا على
أن عليه طحينه، فلا يضمنه البائع؛ إلا أن يكون صانعا قد نصب نفسه
(7/299)
للأعمال فيسلك به في الضمان سبيل الصناع،
ولو باع منه الكباش دون صوفها، أو السيف دون حليته، أو الحائط دون أصل ثمرة
استثناها لنفسه؛ لكان جز الصوف، ونقض الحلية وقطع الثمرة على البائع
باتفاق، كمن باع من رجل عمودا له عليه بناء، أن عليه إزالة البناء من على
العمود حتى يصل المبتاع إلى أخذ العمود الذي ابتاع.
[مسألة: الرزم والتحريك في الكيل]
مسألة وسئل مالك عن الرزم والتحريك في الكيل مثل ما يصنع أهل المغرب، أترى
ذلك؟ فقال: ما أرى ذلك، وتركه أحب إلي، فقيل له: فكيف يكال؟ قال: يملأ
الويبة من غير رزم ولا تحريك، ثم يمسك الكيال على رأسها، ثم يسرح يديه فهو
الوفاء؛ فقيل له: فإن قال البائع للمبتاع: استوف لنفسك، وأبى أن يكيل له،
قال: إن كال لنفسه فليستوف ولا يتعدى.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: إن الرزم والتحريك في الكيل مما لا ينبغي أن
يصنع فيه؛ إذ لا حد له يعرف؛ فمن الواجب أن ينهى أهل الأسواق عن فعل ذلك،
والجري عليه سيرة وعرفا؛ لأنه عرف مجهول، فلا يباح لهم التمادي عليه؛
وقوله: وتركه أحب إلي، معناه الوجوب؛ وهذا نحو قوله في كتاب الوضوء من
المدونة لا يتوضأ بشيء من الأنبذة، ولا العسل الممزوج بالماء، والتيمم أحب
إلي من ذلك؛ أي هو الواجب دونه، والعرف قد تفاضل بين الشيئين، وإن لم يكن
للتفاضل بينهما مدخل، فيقول: الجنة خير من النار، والهدى خير من الضلال،
وإن لم يكن في النار ولا في الضلال خير؛ قال عز وجل: {آللَّهُ خَيْرٌ
أَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل: 59] ، وقال:
(7/300)
{أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلا أَمْ شَجَرَةُ
الزَّقُّومِ} [الصافات: 62] ، وقال: {أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ
أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [فصلت: 40] ، وقال: {قُلْ
أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ} [الفرقان: 15] ، وذلك كثير في
كلامهم، فالوفاء في الكيل كما قال: أن يملأ الكيل من غير رزم ولا تحريك؛
ويجمع الطعام فيمسكه بيديه على رأس الكيل، ثم يسرح يديه، فما استمسك منه
على رأس الكيل فهو وفاء، لا يجوز للبائع أن ينقص من هذا، ولا للمبتاع إذا
اؤتمن على الكيل أن يزيد عليه؛ قال تعالى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ}
[المطففين: 1] إلى قوله: {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ} [المطففين:
3] الآية.
[مسألة: يبيع القمح وغير ذلك فيبيع الويبة
وحفنة بدرهم]
مسألة وسئل مالك عن الرجل يبيع القمح وغير ذلك، فيبيع الويبة وحفنة بدرهم،
قال: ليس ذلك للمبتاع بأي حفنة يأخذ، فمن الرجال من تتسع حفنته، ومنهم من
تضيق، فأحب إلي أن يبين ذلك، وأرجو أن يكون ذلك خفيفا.
قال محمد بن رشد: كذا وقع في بعض الأمهات، قال: ليس ذلك للمبتاع، وفي بعضها
قال: يبين ذلك للمبتاع بأي حفنة يأخذ، وهو الصحيح الظاهر في المعنى، ومثله
في السلم الثاني من المدونة؛
(7/301)
وإنما أجاز ذلك واستخفه، ليسارة الحفنة في
جنب الويبة؛ ولو لم يبين بأي حفنة يأخذ؛ لقضي بينهما بحفنة وسطة، ولم يفسخ
البيع بينهما على ظاهر قوله: وأرجو أن يكون ذلك كله خفيفا؛ يريد بين بأي
حفنة يأخذ، أو لم يبين، وأما لو اشترى منه الطعام كذا وكذا حفنة بدرهم، لما
جاز كما لا يجوز البيع بمكيال مجهول، حيث ثم مكيال معلوم، ويفسخ إن وقع،
إلا على قول أشهب في المدونة؛ وقد أنكر سحنون مسألة الويبة والحفنة بدرهم؛
وقال: لا يجوز ذلك، كما لا يجوز البيع بمكيال مجهول، وهو القياس، وتخفيف
ذلك استحسان؛ ومن هذا المعنى السلم في الثياب والقراطيس على ذراع رجل
بعينه، وقد مضى القول على هذا مستوفى في رسم البيوع العاشر، من سماع أصبغ،
من كتاب السلم والآجال، فلا معنى لإعادته، والله ولي التوفيق.
[مسألة: يشتري النحاس المكسور بالفلوس]
ومن كتاب أوله
تأخير صلاة العشاء في الحرس وسئل مالك عن الرجل يشتري النحاس المكسور
بالفلوس، قال: لا خير فيه، وأراه من وجه المزابنة؛ فقيل له: فإن الرجل
يشتري التور بدرهمين ونصف، لا يريد به وجه النحاس، إنما يريد به أن يتوضأ
فيه؛ فقال: أرأيت لو كانت فلوسا كلها؟ فقيل له: إنما يتوضأ فيه. فقال: هو
سواء لا خير فيه، وأراه من وجه المزابنة.
قال محمد بن رشد: أما شراء النحاس المكسور بالفلوس، فقوله: إنه لا خير فيه؛
لأنه من وجه المزابنة؛ وهو مثل ما في المدونة من قوله، ولا خير في الفلوس
بالنحاس، إلا أن يتباعد بينهما؛ لأن المزابنة إنما تدخله إذا
(7/302)
لم يتبين الفضل بينهما، وهذا مما لا اختلاف
فيه أعلمه؛ وأما شراء التور المصنوع من النحاس بالفلوس أو النحاس، فاختلف
فيه على ثلاثة أقوال؛ أحدها: أن الصنعة تخرجه إلى صنف آخر، وترفع المزابنة
عنه، فيجوز ذلك يدا بيد، وإلى أجل، وهو قول مالك في إحدى روايتي ابن وهب
عنه. والثاني: أن ذلك يجوز نقدا، وإن لم يتبين الفضل بينهما، ولا يجوز إلى
أجل، وهو ظاهر قوله في المدونة؛ لأنه جعل ذلك فيها كالصوف بثوب الصوف،
والكتان بثوب الكتان؛ فقال: لا بأس بذلك نقدا، ولا بأس بالتور النحاس
بالنحاس نقدا؛ وإلى هذا رجع مالك في رواية ابن وهب عنه.
والثالث: أن ذلك لا يجوز نقدا، ولا إلى أجل، يريد إلا أن يتبين الفضل
بينهما في النقد، وعلى هذا حمل أبو إسحاق التونسي ما في المدونة لابن
القاسم، وهو قول مالك في هذه الرواية؛ لأنه لم يجز فيها أن يشتري التور
بدرهمين ونصف، فيعطي في جميعها فلوسا؛ ولا في النصف درهم منها، وإذا لم يجز
ذلك في النقد، فأحرى ألا يجيزه إلى أجل، وقد تأول بعض الناس من هذه
الرواية، أن ذلك لا يجوز وإن تبين الفضل، إذ منع فيها أن يعطي في النصف
فلوسا؛ ولا يشك أن التور أكثر نحاسا من الفلوس التي يعطي في النصف درهم،
وليس ذلك بصحيح؛ لأن التور مفضوض على قيمة الدرهمين والنصف درهم من الفلوس،
وإذا فض ذلك لم يدر أكان ما ينوب الفلوس منه أكثر أو أقل، فوجب ألا يجوز؛
ولو أخذ في جميع الدرهمين ونصف فلوسا لا يشك أنها أكثر من التور أو أقل؛
لكان ذلك جائزا، والاختلاف في هذه المسألة موجود أيضا في الصوف بثوب الصوف،
والكتان بثوب الكتان، روى ذلك أشهب عن مالك أنه لا يجوز نقدا، ولا إلى أجل،
أيهما عجل، وروى ذلك أيضا أصبغ عن ابن القاسم، ثم رجع إلى أنه يجوز إذا كان
الثوب هو المعجل؛ وأما مصنوع بمصنوع من
(7/303)
النحاس، أو منسوج بمنسوج من الصوف أو
الكتان أو الكرسف؛ فلا اختلاف في جواز ذلك نقدا، وإن لم يتبين الفضل
بينهما؛ واعترض ذلك أبو إسحاق التونسي فقال: لا فرق في القياس بين مصنوع
بمصنوع، أو مصنوع بغير مصنوع؛ لأن الصناعة إذا لم يكن لها تأثير في الجهة
الواحدة، وجب ألا يكون لها تأثير في الجهتين، فانظر في ذلك كله وتدبره.
[مسألة: يشتري الشاة بخمسة دراهم فيذبحها
فيسأله الرجل أن يشركه]
مسألة وسئل مالك عن الرجل يشتري الشاة بخمسة دراهم فيذبحها ثم يسأله رجل أو
رجلان أن يشركهما قبل أن يسلخها بدرهم، قال: لا بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: إنه يجوز أن يشركهما فيها بعد أن ذبحها
وقبل أن يسلخها؛ لأنه إذا فعل ذلك، فإنما باع من كل واحد منهما جزءا منها؛
وبيع جزء معلوم منها بعد الذبح وقبل السلخ جائز، كما يجوز بيع جميعها؛
وإنما لا يجوز له أن يبيع منها بعد الذبح وقبل السلخ أرطالا مسماة؛ لأن ذلك
يكون بيع اللحم المغيب وإشراكهما فيها بعد الذبح بدرهم درهم بيع جائز، وإن
سمياه شركة، وعهدتهما على الذي أشركهما قولا واحدا، بخلاف إذا أشركهما فيها
بحضرة البيع الأول وقبل الذبح، فقيل: إن العهدة على البائع الأول، وقيل:
إنها على المشتري الأول الذي أشركهما؛ وقد مضى القول على ذلك مستوفى في رسم
أسلم، من سماع عيسى، من كتاب السلم والآجال، وبالله التوفيق.
(7/304)
[باع نخلا قد أبر بعضها ولم يؤبر بعض حتى
باع]
ومن كتاب أوله
كتب علية ذكر حق قال مالك: من باع نخلا قد أبر
بعضها ولم يؤبر بعض حتى باع، فإنه ينظر إلى الذي هو أكثر، ويجعل
القليل تبعا له إن كان أبر أكثرها، فالثمن للبائع، وإن كان الذي لم يؤبر
أكثر، فالثمرة للمبتاع؛ قال مالك: كل ثمرة تؤبر فهي كذلك، قال سحنون: قيل
لابن القاسم: فلو اشترى رجل من رجل نخلا قد أبر نصفها، ونصفها لم يؤبر،
فاختلف البائع والمشتري؛ فقال: قال مالك: إذا كان أكثر الحائط، وهذا نصف،
فأرى أن يقال للبائع: إما أن تسلم الحائط بما فيه؛ وإلا فخذ الحائط، ويفسخ
البيع؛ قلت: فإن رضي المشتري أن يكون له ما لم يؤبر، وما أبر فهو للبائع؛
قال: لا خير فيه؛ قال سحنون: وكان المخزومي يقول: إذا أبر الأقل فهو
للمشتري، وإذا كان الأكثر فهو للبائع جميعا، إلا أن يشترطه المبتاع؛ وإن
كان بنصفين، فنصفها للبائع، ونصفها للمبتاع الذي لم يؤبر؟ وكان ابن دينار
يقول: إذا أبر النصف، ولم يؤبر النصف، فهو كله للمشتري، وهو تبع للذي لم
يؤبر.
قال محمد بن رشد: الأصل في هذه المسألة قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -:
«من باع نخلا قد أبرت، فثمرتها للبائع، إلا أن يشترطها المبتاع» ؛ فالحكم
في ثمر النخل إذا كانت قد أبرت قبل البيع أن تكون للبائع، إلا أن يشترطها
المبتاع بنص الحديث؛ وإذا كانت لم تؤبر، أن تكون للمبتاع بدليل الحديث؛
لأنه لما قال: إنها تكون للبائع إذا أبرت، دل أنها لا
(7/305)
تكون للمبتاع إذا لم تؤبر؛ ولا يجوز للبائع
أن يستثنيهما، كما لا يجوز له أن يستثني جنين الأم الحامل في البيع عند
مالك وجميع أصحابه؛ فإذا كان بعض الحائط قد أبر، وبعضه لم يؤبر، فتحصيل
القول في ذلك، أن الأقل تبع للأكثر، شائعا كان أو غير شائع؛ فإن لم يكن
أحدهما تبعا لصاحبه، وكانا متناصفين أو متقاربين، فلا يخلو من أن يكون ما
أبر على حدة، وما لم يؤبر على حدة، أو يكون ذلك شائعا في كل نخلة، فأما إن
كان على حدة ما أبر، وما لم يؤبر، فيكون للبائع ما أبر، وللمبتاع ما لم
يؤبر على ما قاله المخزومي؛ لأن معنى قوله: فنصفها للبائع، ونصفها للمبتاع،
أن يكون للبائع ما أبر، وللمبتاع ما لم يؤبر؛ وأما إذا كان ذلك شائعا في كل
نخلة، ففي ذلك أربعة أقوال؛ أحدها: أنه يقال للبائع: إما أن تسلم الحائط
بثمرته للمبتاع، وإلا فخذ الحائط وينفسخ البيع، وهو قول ابن القاسم، ورواية
سحنون عنه في هذه الرواية، وفي كتاب ابن المواز دليل ما في رسم العرية، من
سماع عيسى، من كتاب العتق، في مسألة العبد. والثاني: أن البيع يفسخ على كل
حال، إلا أن يكون وقع بشرط أن تكون الثمرة للمبتاع، وهو قول ابن القاسم
وسحنون فيما حكى الفضل؛ وأراه ساقه على المعنى فيما وقع في رسم استأذن، من
سماع عيسى في الذي يبيع نصف عبد له، ونصفه حر، أو نصفه لرجل آخر وله مال؛
أن البيع فاسد يفسخ، إلا أن يبيعه بماله؛ إذ لا فرق بين المسألتين في هذا
المعنى، ومثله في سماع أشهب من كتاب الشركة.
والثالث: أن يكون كله للمشتري، ويكون تبعا للذي لم يؤبر، وهو قول ابن
دينار. والرابع: أنه يكون كله تبعا
(7/306)
للذي أبر، فيكون للبائع، وهو قول ابن حبيب
في الواضحة؛ فعلى هذا الذي ذكرناه، يكون قول المخزومي مفسرا لقول مالك،
وقول ابن دينار خلاف له؛ لأن المخزومي إنما تكلم في المتناصفين على أن
المأبور من غير المأبور على حدة، وتكلم ابن دينار على أنه شائع، وبالله
التوفيق.
[يبيع السلعة بخمسين دينارا ثم يخرج الذي
اشتراها دراهم ليصرفها]
ومن كتاب أوله
الشريكان يكون لهما المال وقال مالك في رجل يبيع السلعة بخمسين دينارا، ثم
يخرج الذي اشتراها دراهم ليصرفها، ليدفع إليه ثمنها؛ فقال البائع: أنا آخذ
منك هذه الدراهم بصرفها، ثم وجد المشتري بعد ذلك بالسلعة عيبا ترد منه، وقد
حالت أسواق الدراهم ورخصت؛ قال مالك: ليس له إلا دراهم ليس له عليه دنانير،
قلت له: أرأيت إن أعطاه عرضا أو غيره مما كان له عليه من ثمن السلعة؟ قال
مالك: أرى العروض مخالفة لذلك، وأرى عليه الذهب.
قال ابن القاسم: قال مالك بعد ذلك: إلا أن يكون العرض لا يشبه أن يكون
ثمنا، فإذا كان كذلك، لم أر عليه إلا قيمة العرض؛ قال ابن القاسم: يريد
إنما أخذه منه على وجه التجاوز، مثل ألا يجد عنده شيئا، أو يجده معسرا، أو
كان ذلك تخفيفا منه للثمن؛ فإذا كان كذلك، لم أر عليه إلا قيمته يوم قبضه،
قال ابن القاسم: وذلك كل رأيي.
(7/307)
قال محمد بن رشد: قوله في الذي باع سلعة
بدنانير، فأخذ بها دراهم، ثم وجد المبتاع بالسلعة عيبا؛ يريد أو استحقت من
يده، أنه يرجع بالدراهم التي دفع؛ ولو كان إنما أعطى بالدنانير عرضا لرجع
بالدنانير، هو مثل ما في المدونة في كتاب العيوب والاستحقاق والرواحل
والدواب؛ والفرق بين أن يعطي في الدنانير التي ابتاع بها السلعة دراهم أو
عرضا، هو أنه في الدراهم صرف، وفي العروض بيع استحقاق السلعة المبيعة
بالدنانير، أو وجود العيب بها لسقط الدنانير عن المبتاع؛ فيصير كأنه قد
استحقها، فوجب إن كان دفع فيها دراهم أن يرجع بالدراهم؛ لأنه صرف استحقت
فيه الدنانير، فوجب انتقاض الصرف والرجوع بالدراهم، وإن كان دفع فيها عرضا،
أن يرجع بمثل الدنانير استحقت؛ لأن استحقاق الثمن في البيع لا يوجب نقض
البيع، وإنما يوجب الرجوع بمثل الثمن المستحق؛ وقول مالك بعد ذلك: إلا أن
يكون العرض لا يشبه أن يكون ثمنا، وإنما أخذه على وجه التجاوز، فيرجع
بقيمته يوم قبضه، صحيح لا يمكن أن يختلف فيه؛ ومعناه إن كان العرض قد فات،
وأما إن كان قائما فيرجع به بعينه؛ وقد روى أشهب عن مالك: أنه يرجع في
قيمته العرض أو في عينه إن لم يفت، وإن كان قبضه على غير التجاوز؛ وإلى هذا
الاختلاف أشار في العيوب من المدونة بقوله: وإنما اختلف الناس في السلعة
الأولى، ولو باع سلعة بسلعة، فأخذ بالسلعة دنانير، فاستحقت السلعة الأولى؛
لوجب أن يرجع بالدنانير، على قياس ما قلناه من أن المبتاع يصير مستحقا
للسلعة الثانية، فيجب له الرجوع بثمنها، وهو الدنانير.
[مسألة: يبيع الرمكة وهي حامل ويشترط البائع
أنها للمبتاع]
مسألة وقال في الرجل يبيع الرمكة، وهي حامل، ويشترط البائع أنها
(7/308)
للمبتاع عقوق؛ قال مالك: لا خير فيه، وأراه
مكروها؛ لأنه قد زاده في ثمنها لمكان جنينها، فكأنه قد صار للجنين ثمن، ولا
خير في ثمن الجنين.
قال محمد بن رشد: لم يجز بيعها، وإن كانت حاملا ظاهرة الحمل، بشرط أنها
حامل؛ لأنه غرر؛ إذ قد ينفش الحمل بعد ظهوره، فيكون بالشرط قد أخذ للجنين
ثمنا، وسحنون يجيز ذلك إذا كانت ظاهرة الحمل، وأشهب يجيزه وإن لم تكن ظاهرة
الحمل، ويرى للمبتاع الرد إن لم يجدها حاملا، وقع ذلك من قوله في سماع
زونان، من كتاب العيوب، وابن أبي حازم يجيز البيع على الشرط، ولا يرى
للمبتاع الرد إن لم تكن حاملا؛ وابن عبد الحكم يرى أنه لا بأس أن يقول:
إنها عقوق ما لم يشترط ذلك على نفسه، وهذا كله في الحيوان الذي يزيده
الحمل، وأما في الجواري المرتفعات اللاتي ينقصهن الحمل، فيجوز أن يبيعها
على أنها حامل إذا كانت ظاهرة الحمل؛ لأن ذلك تبر، من عيب حملها، كالتبري
من سائر عيوبها؛ وقد مضت هذه المسألة والقول فيها في سماع زونان، من كتاب
العيوب، والحمد لله.
[اشترى من رجل ثمرة على أنه إذا أدخلها بيته
فهي له]
ومن كتاب أوله
اغتسل على غير نية
وسئل عن رجل اشترى من رجل ثمرة على أنه إذا أدخلها بيته، فهي له كذا وكذا
صاعا بدينار، ولم ينقد شيئا، قال: لا بأس بذلك.
(7/309)
قال محمد بن رشد: هذه مسألة فيها نظر، قال
فيها بعض أهل النظر منهم ابن دحون: إن المعنى فيها أن البيع لا يتم بينهما
حتى يجد الثمرة، إما البائع وإما المشتري، ويدخلها بيته على ما شرطه من ذلك
وتراضيا عليه؛ وهذا بعيد؛ إذ لو وقع البيع بينهما على هذا لم يكن بيعا
منعقدا في الحال، لا ينعقد في حال آخر إلا باستئناف عقد؛ وقد قال في النكاح
من المدونة في القائل للمرأة: إذا مضى هذا الشهر فأنا أتزوجك، فرضيت المرأة
بذلك، ورضي الولي: إنه نكاح باطل من أجل أنهما قصدا إلى أن يكون النكاح
منعقدا بينهما بمضي الشهر دون استئناف عقد.
وإنما معنى المسألة عندي أنه اشترى ثمرا لحائط، وقد طابت جزافا على الكيل،
إذا يبست وجدت وصارت في بيت البائع أو المبتاع، فالمعنى فيها شرط ألا
يأخذها حتى تيبس وتجد؛ فأجاز ذلك، وإن اشتراها جزافا على الكيل، كما أجازوا
اشتراءها جزافا على غير الكيل بشرط إبقائها حتى تيبس، وفي ذلك اختلاف، وقد
ذكر الفضل أن القولين قائمان من المدونة، وأما شراء مكيلة معروفة منها بشرط
أن يتركها حتى تيبس، فلا اختلاف في أن ذلك لا يجوز، قال ذلك في المدونة
وغيرها؛ واختلف في ذلك إن وقع، فقيل: العقد في ذلك فوت، وقيل: القبض فوت،
وقيل: اليبس فوت، وبالله التوفيق.
[مسألة: أعطى دينارا حناطا في أربعة آصع]
مسألة وسئل عن رجل أعطى دينارا حناطا في أربعة آصع، على أن يعطيه في كل يوم
مدا من حنطة، قال: لا بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: إجازة مالك لهذا ينحو إلى أحد قوليه في إجازة السلم إلى
اليومين والثلاثة؛ لأنه إذا قبض كل يوم مدا من ثاني يوم
(7/310)
سلمه، فقد قبض جل ما سلم الدينار فيه قبل
أن يمضي من الأمد ما تختلف فيه الأسواق؛ وقد تكررت هذه المسألة في هذا
الرسم من هذا السماع، من كتاب السلم والآجال.
[مسألة: يباع مصحف فيه فضة وإن كانت يسيرة
بدنانير إلى أجل]
مسألة قال مالك: لا يباع مصحف فيه فضة، وإن كانت يسيرة، بدنانير إلى أجل.
قال محمد بن رشد: هذا صحيح على معنى قول ابن القاسم، وروايته عن مالك في
المدونة وغيرها، وربيعة يجيز بيعه بالفضة إلى أجل، إذا كانت الفضة التي فيه
أقل من الثلث، قياسا على جواز بيعه بالفضة نقدا، وهو مذهب ابن الماجشون؛
وقول سحنون: بيعه بالدنانير إلى أجل أجوز عندهم، وقد تكررت هذه المسألة
أيضا في هذا الرسم من هذا السماع، من كتاب السلم والآجال.
[مسألة: باع متاعا فقال إن بعتني أنه من وقعت
عليه الدراهم فإن دنانيرنا بمثقال]
مسألة وسئل مالك عن رجل باع متاعا فقال: إن بعتني أنه من وقعت عليه
الدراهم، فإن دنانيرنا أربعة عشر ونصف درهم بمثقال على هذا نبيع؛ فقال: إن
قال ذلك قبل البيع، فلا بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: قوله: فقال: إن بعتني، معناه فقال: إن شرطنا أنه من وقعت
عليه الدراهم، فإنها من صرف أربعة عشر درهما ونصف درهم بمثقال؛ فالمعنى في
المسألة أن يبيع الرجل المتاع في المزايدة، فيكتب على الرجل المتاع بذهب
ودراهم زائدة على الذهب؛ فإذا كان قد شرط هذا الشرط، اشترى المشتري على
ذلك، كان عليه في الدراهم الزائدة
(7/311)
على الذهب جزء من الدينار، يؤدي فيه صرفه
يوم القضاء، زاد الصرف أو نقص كمن باع سلعا بكذا وكذا درهما من صرف كذا؛
وقد مضى بيان هذا المعنى في رسم البيوع الأول، من سماع أشهب، وفي رسم
الصبرة، من سماع يحيى، من كتاب الصرف، وبالله التوفيق.
[بيع العصفر]
ومن كتاب البز
قال: وذكر مالك بيع العصفر فقالوا له:
إنما يشترونه وزنا، فقال: ما كان يباع إلا كيلا وهو الصواب أن يباع كيلا.
قال محمد بن رشد: هذا مما يتأتى فيه الوزن والكيل، فرأى مالك الكيل فيه
أعدل؛ لأنه الأصل الذي جرى عليه، فلم ير أن ينتقل فيه عن ذلك إلى الوزن،
وبالله التوفيق.
[باع حائطا فيه تمر وشرط عليه أربعة أحمرة
يرسلها له في الحائط]
ومن كتاب أوله
باع غلاما بعشرين دينارا وسئل مالك عن رجل باع حائطا فيه تمر، وشرط عليه
أربعة أحمرة يرسلها له في الحائط، فكان التمر سقط فتأكله الحمير، فأراد أن
يرد البيع؛ قال: لا أرى أن يرد البيع، وأراه يلزمه، وقد عرف أنها حمير حين
اشترى الحائط، وأنها تأكل؛ فأرى البيع له لازما.
قال محمد بن رشد: إنما جوز هذا البيع؛ لأنه رأى قدر ما يسقط من التمر
فتأكله الحمير معروفا، قد دخل عليه المشتري فلزمه، ومثله في
(7/312)
التفسير ليحيى؛ قلت: ولم جوزه مالك؟ فقال:
لأنه شيء معروف، بمنزلة ما لو اشترط علفها إلى الجداد.
[مسألة: يشتري من الرجل بعيرين مهملين في الرعي]
مسألة قال مالك: لا أحب للرجل أن يشتري من الرجل بعيرين مهملين في الرعي،
قد رآهما المشتري في الرعي، وذلك أنهما لا يدريان متى يوجدان، مثل إبل
الأعراب المهملة في المهامه، فلا أحب أن تشتري هذين الجملين اللذين في
المهامه، ولا يدري متى يجدها.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال؛ لأنهما في حكم العبد الآبق، والجمل
الشارد؛ إذ لا يدري المشتري متى يجدهما، فبيعهما من الغرر، وإن كان قد
رآهما في الرعي، ووقف عليهما.
[مسألة: بيع الزيت والسمن في الزقاق أرطالا
مسماة]
مسألة وسئل مالك عن بيع الزيت والسمن في الزقاق أرطالا مسماة كذا وكذا رطلا
بدينار، وزقاقهما في الوزن؛ قال: أرجو أن لا يكون به بأس، قال: ومن ذلك أن
يأتي الرجل يريد أن يحملها إلى بلد فيشتريها ويحملها كما هي؛ وذلك أن
الزياتين قد عرفوا قدرها، وكم وزنها؛ فأرجو أن لا يكون به بأس، وأصح ذلك
عندي أن لو فرغوها ثم وزنوا الظروف بعد؛ ولكن أرجو ألا يكون به بأس، وأن
يكون خفيفا؛ قلت له: يا أبا عبد الله، فالقلال لو أعلم أنها في التقارب مثل
الزقاق، ما رأيت بها بأسا، ولكني لا أظنهما
(7/313)
مثل الزقاق، وذلك أن الفخار يكون بعضه
كثيفا، وآخر رقيقا، فهذا لا تثبت معرفته فلا أحبه.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة قد بين مالك وجه قوله فيها في الفرق بين
الزقاق والقلال بما لا مزيد عليه، فلا وجه للقول فيه؛ وأما إذا اشترى السمن
دون الزقاق أو الجرار، فإن شاء فرغها ووزن السمن، وإن شاء وزن جميعه بجراره
وزقاقه، ثم طرح وزن الزقاق، أو الجرار من ذلك، وقد مضى القول في ذلك في رسم
العتق، من سماع عيسى، من كتاب المرابحة، وسيأتي أيضا في رسم العتق، من سماع
عيسى، من هذا الكتاب.
[مسألة: باع سلعة على أن يستأمر ثم بدا له من
قبل أن يستأمر]
مسألة وقال في رجل باع سلعة على أن يستأمر، ثم بدا له من قبل أن يستأمر،
أترى له أن يرد البيع؟ قال: ذلك له؛ لأن المشتري قد قال له: من أردت أن
تستأمر فاستأمره؛ قال: لم أرد أن أستأمر أحدا، إلا أني أردت أن أنظر في
ذلك؛ قال مالك: ذلك له، ويرد البيع إن أحب.
قال محمد بن رشد: هذا ما لا اختلاف فيه أعلمه، أن المشترط المشورة من
المتبايعين أن يتركها، وأن يخالف رأي المستشار، ويرد أو يجيز؛ وأن الحق في
ذلك لمشترطها من المتبايعين دون صاحبه، إلا ما حكى أبو إسحاق التونسي من أن
ظاهر ما في كتاب محمد بن المواز أن المشورة كالخيار إذا سبق، فأشار بشيء
لزم، وهو بعيد؛ وإنما اختلاف في
(7/314)
مشترط الخيار لغيره من المتبايعين على
أربعة أقوال، وقد فرغنا من تحصيلها في المقدمات.
[قال لرجل له حائط يبيعه: انظر ما أعطيت بثمر
حائطك فلك زيادة دينار]
ومن كتاب أوله
صلى نهارا ثلاث ركعات وسئل مالك عمن قال لرجل له حائط يبيعه: انظر ما أعطيت
بثمر حائطك، فلك زيادة دينار، فلقيه صاحب الحائط، فقال: قد أعطيت مائة
دينار، قال مالك: زيادة دينار، قال: فنقده وقبض الحائط، ثم سأل الذي زعم
أنه أعطاه مائة دينار، فقال: ما أعطيته به مائة دينار، وما أعطيت إلا
تسعين، قال مالك: البيع لازم لهما، ولو شاء استثبت لنفسه قبل أن يأخذ فيه
بصدقه في أول، ثم يكذبه في آخر؛ قال: ما أرى البيع إلا لازما له؛ قال:
وكذلك الجارية يبيعها صاحبها في السوق، ثم يأتيه الرجل فيقول له: قد أعطيت
فيها مائة دينار، فيصدقه ويربحه على ما قال، فيكون البيع لازما للمشتري؛
ولكن إن كان ثم شهود حضور في سوم الحائط، فشهدوا بخلاف ما قال قد أعطى به
فلان، فإني أرى أن يرد هذا البيع إن كان على مثل هذا الوجه؛ فقال: ولا أرى
على صاحب الحائط يمينا، ولا على صاحب الجارية إذا ثبت البيع، ورضي بقوله.
(7/315)
قال محمد بن رشد: إنما رأى البيع لازما
للمبتاع، ولم ير له على البائع يمينا؛ لأنه قد صدقه أولا فيما زعم أنه أعطى
بحائطه، فليس له أن يرجع إلى تكذيبه؛ وأما إذا كان ثم شهود حضور فشهدوا
بخلاف ما قال: إنه أعطى به. فقوله: فإني أرى أن يرد البيع، معناه إن شاء
المبتاع، وكان الحائط لم يفت؛ وأما إن كان الحائط أو الجارية قد فاتا بما
يفوت به البيع الفاسد، فيكون على المبتاع القيمة يوم البيع؛ إلا أن تكون
القيمة أكثر من الثمن الذي وقع الابتياع به، فلا يزاد البائع على ذلك، أو
يكون أقل مما شهدت البينة أنه أعطى به، والربح الذي ربحه، فلا ينقص المبتاع
من ذلك شيء على حكم الكذب في بيع المرابحة، وبالله التوفيق.
[يكون له على الرجل عشرة دراهم فيمر عليه وقد
ابتاع قمحا]
ومن كتاب أوله
مساجد القبائل وسئل مالك عن الرجل يكون له على الرجل عشرة دراهم، فيمر
بالرجل الذي له عليه عشرة دراهم قد ابتاع قمحا، فيسأله أن يوليه إياه
بالدراهم التي له عليه قمحا مما ابتاع ليستوفيه مكانه، وذلك قبل أن يستوفيه
الذي ابتاعه؛ قال: لا بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: روي عن سحنون أنه أنكر هذا ولم يجزه، ووجه ما ذهب إليه أن
للمبتاع القمح اشتراه بالنقد فنقد، والمشتري لم ينقد، وإنما أخذه بما كان
له من الدين، والدين حكمه حكم القرض؛ فدخله بيع الطعام قبل أن يستوفى إذ لم
ينقد المولي كما نقد المولى؛ ووجه ما ذهب إليه مالك أن المولي لما سقط عنه
بالتولية ما في ذمته، فكأنه قد قبضه من نفسه وانتقده، وقول سحنون أظهر؛ وقد
أقام بعض الناس من لفظ وقع في باب تعدي الوكيل من السلم الثاني من
(7/316)
المدونة مثل قول سحنون، وذلك قوله فيه،
ولأنه إذا أسلفك من عنده فتعدى، فأخذته فدفعت إليه الثمن، كان تولية؛ لأنه
لم يلزمه شيء تعدى له فيه، ولا صرف فيه ذهبك؛ وليس ذلك بصحيح؛ لأنه إنما
تكلم في المدونة على طعام مسلم فيه، ولا اختلاف في أن من له على رجل دنانير
أو دراهم، لا يجوز له أن يستوليه بذلك طعاما مسلما فيه، ولا غير طعام أيضا؛
لأنه يدخله الدين بالدين، وبيع الطعام قبل أن يستوفى.
[مسألة: بيع البراءة في الدواب]
مسألة وقال مالك: لا ينفع بيع البراءة في الدواب وإن تبرءوا في ميراث ولا
غيره، وإن وجد بها عيبا ردها؛ ولا براءة عندنا إلا في الرقيق، وضعف البراءة
في الرقيق؛ قال ابن القاسم: وإن البراءة جائزة على مثل قضية عثمان بن عفان
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
قال محمد بن رشد: قول مالك: إن البراءة لا تنفع في الدواب، هو الذي رجع
إليه، خلاف قوله في موطئه: إن البراءة جائزة في الرقيق والحيوان؛ وأما
العروض والثياب، فلم يختلف قوله: إنه لا براءة فيها؛ وقد أجاز البراءة فيها
جماعة من السلف، وهو قول ابن وهب من أصحاب مالك، واختيار ابن حبيب، وقد مضى
في رسم سلف، من سماع ابن القاسم، من كتاب العيوب، وجه الفرق عنده بين
الرقيق والثياب في ذلك، وقد حكى ابن القاسم، عن مالك في المدونة أنه رجع عن
إجازة البراءة في الرقيق،
(7/317)
قيل في كل وجه من بيع الناس بعضهم من بعض،
ومن بيع المواريث، ومن بيع السلطان؛ وقيل في بيع الناس بعضهم من بعض، وفي
بيع المواريث لا في بيع السلطان؛ وقيل في بيع الناس بعضهم من بعض، لا في
بيع المواريث، ولا في بيع السلطان، كل ذلك قد تقول على ما في المدونة، وأخذ
ابن القاسم بقول مالك الأول في إجازة البراءة في الرقيق في كل وجه من بيع
الناس بعضهم من بعض إذا اشترطوا البراءة، ومن بيع المواريث إذا أخبروا أنه
ميراث، وإن لم يشترطوا البراءة ومن بيع السلطان، هذا نص قوله في المدونة،
ومعنى قوله هاهنا، وأرى البراءة جائزة على مثل قضية عثمان؛ لأنه إنما أراد
أنها جائزة في الرقيق خاصة في جميع الوجوه.
[مسألة: يبتاع من الرجل بعشرين درهما فيعطيه
إياها لا يعرف لها وزنا]
مسألة وسئل مالك عن الرجل يبتاع من الرجل بعشرين درهما، فيعطيه إياها لا
يعرف لها وزنا، والدراهم تختلف، فرب درهم عريض يكون عريضا خفيفا في الوزن،
ورب درهم صغير يكون صغيرا أثقل في الوزن، فيشتري بها على عددها بما كان
فيها من الوزن؛ فقال: ما هو بحسن، يبيع الدراهم جزافا، كأنه رآه من وجه
الجزاف؛ قال ابن القاسم: قال الله جل ذكره: {وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ
الْمُسْتَقِيمِ} [الإسراء: 35] ، فلا ينبغي لأحد أن يترك الوزن، وذلك رأيي؛
وسمعت مالكا غير مرة يكره ذلك.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال: إنه لا يجوز له أن يقتضي من عشرين
درهما مجموعة موزونة عشرين درهما عددا مجموعة؛ لأنه غرر؛ إذ لا يدري هل أخذ
أقل من حقه أو أكثر، إذ قد يكون
(7/318)
الدرهم العريض خفيفا، والدرهم الصغير
ثقيلا، ولو اقتضى منها عشرين درهما عددا مجموعة لا تجوز أعيانها، لا يشك
أنها أكثر في الوزن من التي له أو أقل، لجاز ذلك؛ لأنه معروف من أحدهما إلى
صاحبه؛ ولو اقتضى منه عشرين درهما عددا تجوز بأعيانها، لجاز إن كانت في
الوزن أكثر من التي له، ولم يجز إن كانت في الوزن أقل من التي له، أنها إن
كانت أكثر في الوزن من التي له، فقد أخذ أفضل من حقه في الوزن، وفي عيون
الدراهم، وإن كانت أقل في الوزن، كان إنما ترك فضل الوزن لفضل عيون الدراهم
فلم يجز، وهذا كله قائم من قوله في المدونة: إن القائمة تقتضى من المجموعة؛
لأنها أكثر في الوزن وأفضل في العين، ولا يقتضى منها الفراد؛ لأنها أقل في
الوزن وأفضل في العين، وقد مضى بيان هذا كله في رسم القبلة، ورسم الشريكين
من سماع ابن القاسم، من كتاب الصرف، وليس ما مضى في سماع أشهب منه من إجازة
اقتسام الدراهم الناقصة والوازنة عددا بغير وزن، بخلاف لهذه الرواية؛ لأن
المعنى فيها أن الناقصة تجوز بجواز الوازنة حسبما ذكرناه هناك، وبالله
التوفيق.
[جواز الذهب وحكم شراؤه]
ومن كتاب أوله
نذر سنة يصومها وسئل مالك عن جواز الذهب، أيشتري بها ولا يبين لمن يدفعها
إليه؟ قال: أما كل بلد مثل مكة التي يجوز فيها كل شيء فلا بأس، وأما غير
ذلك فلا أحبه حتى يسمى.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال: إن البلد الذي تجوز فيه
(7/319)
جميع السكك جوازا واحدا لا فضل لبعضها على
بعض، ليس على المبتاع فيه شيء أن يبين بأي سكة يبتاع، ويجبر البائع أن يأخذ
أي سكة أعطاه؛ كما أن البلد إذا كان يجري فيه سكة واحدة، فليس عليه أن يبين
بأي سكة يبتاع، ويجبر على أن يقضيه السكة الجارية؛ وأن البلد الذي يجري فيه
جميع السكك، ولا تجوز فيه بجواز واحد، لا يجوز البيع فيه حتى يبين بأي سكة
يبتاع، فإن لم يفعل، كان البيع فاسدا.
[مسألة: يشتري الدار وهي غائبة عنه]
مسألة ومن رواية يحيى بن يحيى قال ابن القاسم: قال مالك في الرجل يشتري
الدار وهي غائبة عنه، إنما يشتريها بصفة المخبر والرسول؛ قال: فأما بصفة
صاحبها فلا أرى ذلك، إلا أن يشترط النظر فلا ينقد.
قال محمد بن رشد: هذه رواية ليست على ظاهرها في أن شراء الدار الغائبة بصفة
صاحبها لا يجوز، إلا أن يشترط النظر فلا ينقد؛ والذي يأتي على المذهب أنه
إن اشتراها بصفة المخبر والرسول، جاز الشراء والنقد؛ وإن اشتراها بصفة
صاحبها، جاز الشراء وإن لم يشترط النظر، ولزمه البيع إن وجدت على الصفة
التي وصف؛ إلا أن يشترط أنه بالخيار إذا نظر، ولم يجز في ذلك النقد؛ فمعنى
قوله في الرواية إنما يشتريها بصفته المخبر والرسول، إنما الحق له أن
يشتريها بصفة المخبر والرسول؛ وقوله فأما بصفة صاحبها، فلا أرى ذلك، معناه
فلا أرى ذلك من الحق له أن يشترط النظر فلا ينقد؛ فإذا اشترى المأمون
الغائب بصفة بائعه، جاز البيع ولم يجز النقد بشرط؛ وإن اشتراه بصفة غير
بائعه، جاز البيع والنقد بشرط، فإن كان الغائب المشتري غير مأمون كالحيوان
وشبهه، لم يجز فيه النقد إذا بعد بشرط، فإن قرب جاز فيه النقد بشرط إذا
وصفه غير صاحبه، ولم يجز إذا وصفه صاحبه، وإن كان المبتاع قد رأى الغائب،
جاز النقد فيه بشرط إن
(7/320)
كان مأمونا أو كان قريبا، واختلف في ضمان
هذا كله إن كان يوم البيع على الصفة، فقيل: إنه من المبتاع، إلا أن يشترط
أنه من البائع حتى يقضيه المبتاع؛ وقد قيل: إنه من البائع حتى يقضيه
المبتاع، إلا أن يشترط أن ضمانه من المبتاع؛ وأما إن كان يوم البيع على غير
الصفة، فالضمان من البائع قولا واحدا؛ واختلف هل يلزم المبتاع أن يخرج
الثمن فيضعه على يدي عدل حتى يقبض ما اشترى أو يقبض له، أم لا على قولين؛
كالاختلاف في وجوب توقيف الثمن في المواضعة، وقد مضى ذلك في أول سماع ابن
القاسم، من كتاب الاستبراء وأمهات الأولاد، وبالله التوفيق.
[باع ثمرا واستثنى من الكيل ما يجوز له أن يستثنيه]
ومن كتاب أوله
مرض وله أم ولد فحاضت
قال: وقال مالك: من باع ثمرا واستثنى من الكيل
ما يجوز له أن يستثنيه، أو أسلفه أو وهبه؛ فإنه يبيعه قبل أن يقبضه،
وإنما كره من ذلك ما كان على وجه الاشتراء، فأما الاستثناء فليس باشتراء،
ولا أرى به بأسا.
قال محمد بن رشد: أجاز في هذه الرواية أن يبيع ما استثنى كيلا مما باع من
الثمر جزافا، وما أسلفه أو وهبه قبل أن يقبض ذلك؛ فأما ما استثنى كيلا مما
باع من الثمر جزافا، فقد روى ابن وهب عن مالك أن بيعه قبل أن يستوفيه لا
يجوز، خلاف رواية ابن القاسم هذه عنه؛ والاختلاف في هذا جار على اختلافهم
في المستثنى، هل هو مبقى على ملك البائع، أو بمنزلة المشترى؟ فرواية ابن
القاسم على أنه مبقى على ملك البائع، وهى أظهر القولين؛ وقد مضى هذا المعنى
في رسم حلف، ورسم سن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛
وأما ما أسلفه أو وهبه، فإن كان مما كان يجوز للمسلف أو الواهب أن يبيعه
قبل أن يقبضه، فلا اختلاف في أنه يجوز للذي
(7/321)
أسلفه أو وهبه أن يبيعه قبل أن يقبضه؟ وأما
إن كان مما لا يجوز للمسلف أو الواهب أن يبيعه قبل أن يقبضه، مثل أن يبتاع
طعاما أو يسلف فيه، فيهبه لرجل قبل أن يقبضه، أو يسلفه إياه، فالمشهور أن
الموهوب له والمسلف يحلان محل الواهب والمسلف، في أنهما لا يجوز لهما بيعه
قبل قبضه؛ وقد حكى ابن حبيب عن مالك تخفيف ذلك في الهبة والصدقة، والسلف
مثله، وهو شذوذ من القول؛ وقد مضى في أول سماع ابن القاسم، من كتاب السلم
والآجال، من تحصيل القول في مثل هذه المسألة ما أغنى عن ذكره هنا مرة أخرى،
وبالله التوفيق.
[مسألة: باع بدينار قمحا فأتى بائعه فوجد عنده
ثمرا فاشتراه بدينار]
مسألة قال مالك في رجل باع بدينار قمحا، فأتى بائعه فوجد عنده ثمرا،
فاشتراه بدينار، ثم لقيه بعد ذلك فقال: لك علي دينار، ولي عليك دينار
فقاصني؛ فقال مالك: لا أحبه، ولكن أرى أن يرد الثمن الذي أخذ منه؛ قال ابن
القاسم: لأنه إذا قاصه كان من ثمن الطعام طعاما.
قال محمد بن رشد: وقعت هذه المسألة هاهنا في بعض الروايات، وهي ثابتة في كل
رواية في رسم صلى نهارا، من سماع ابن القاسم، من كتاب السلم والآجال، وقد
مضى القول عليها هناك مستوفى، فلا معنى لإعادته مرة أخرى، وبالله التوفيق.
(7/322)
|