البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة

 [كتاب جامع البيوع الثاني] [الدار الغائبة تشترى بصفة]

(7/323)


من سماع أشهب وابن نافع عن مالك رواية سحنون قال مالك في الدار الغائبة تشترى بصفة لا يجوز أن يشتريها إلا مذارعة، وذكرها سحنون من رأيه.
قال محمد بن رشد: قوله في الدار الغائبة تشترى بصفة أنه لا يجوز أن يشتريها إلا مذارعة، معناه: أنه لا بد في صفتها من تسمية ذرعها، فيقال: اشترى منه الدار التي ببلد كذا بموضع كذا، وحدها كذا، وصفتها كذا؛ وذرع ساحتها في الطول كذا وكذا، وفي العرض كذا وكذا؛ وطول بيتها الكذا - كذا وكذا ذراعا، وعرضه كذا وكذا - ذراعا؛ حتى يأتي على جميع مساكنها ومنافعها بالصفة والذرع؛ ولو وصف بناءها وذكر صفة أنقاضها وهيئة مساكنها، وقدرها بالكبر أو الصغر أو الوسط، واكتفى من تذريعها بأن يقول على أن فيها كذا وكذا ذراعا، لجاز ذلك، والأول أتم وأحسن؛ وليس المعنى فيا ذلك أنه لا يجوز أن يشتريها على الصفة، إلا كل ذراع بكذا ما بلغت، بل لا يجوز ذلك إلا أن يكون قد رأى الدار ووقف عليها؛ كالأرض لا يجوز شراؤها على الصفة

(7/325)


كل ذراع بكذا، دون أن يراها؛ وكالصبرة لا يجوز شراؤها على الصفة، كل قفيز بكذا دون أن يراها؛ وقد اختلف إذا باع منه الدار والأرض والخشبة أو الشقة على أن فيها كذا وكذا ذراعا، فقيل: إن ذلك بمنزلة أن يقول: اشترى منك من ذلك كله كذا وكذا ذراعا، فإن وجد في ذلك أكثر مما سمى من الأذرع، كان البائع شريكا للمبتاع بالزيادة؛ كالصبرة يشتريها على أن فيها عشرة أقفزة، فيجد فيها أحد عشر قفيزا، كان القفيز الزائد للبائع؛ فإن وجد في ذلك أقل مما سمى من الأذرع، كان ما نقص مما سمى بمنزلة المستحق، إن كان يسيرا، لزم المبتاع ما وجد بحسابه من الثمن؛ وإن كان كثيرا، كان مخيرا فيما وجد بين أن يأخذه بما يجب له من الثمن أو يرده، وقيل: إن ذلك كالصفة ما ابتاع من ذلك، فإن وجد أكثر مما سمى، كان ذلك للمبتاع؛ وإن وجد أقل مما سمى، كان المبتاع بالخيار بين أن يأخذ ما وجد بجميع الثمن أو يرد؛ والقولان قائمان من أول كتاب تضمين الصناع من المدونة، ومن رسم أوصى، من سماع عيسى، من هذا الكتاب؛ وفرق في نوازل سحنون منه بين الدار والأرض، وبين الشقة والخشبة؛ وساوى بين ذلك كله في نوازل سحنون من كتاب العيوب في بعض الروايات، وقال: إن الخلاف يدخله كله دخولا واحدا؛ وقال بعض الشيوخ على قياس التفرقة التي في نوازل

(7/326)


سحنون من هذا الكتاب: كل ما كان أصل الشراء فيه شراء الجملة بغير ذرع، فوجد زيادة في الذرع فهي له، كالثوب والحبل خشبة؛ وكل ما كان أصله أن يشترى بعدد أو كيل أو ذرع، فوجد زيادة فهي للبائع، كصبرة الطعام والحوت والأرض تشترى على ذراع؛ وأما الدار يكون في صفتها عدد ذرع، فإنه إن كانت دارا ذات بناء وهيئة، فالذرع بعض صفتها إن وجد فيها زيادة كانت للمبتاع، وإن كانت على غير ذلك، إنما بيعت لسعتها وانفساحها، فوجد زيادة كان شريكا مع البائع بالزيادة إن شاء، أو يرد الكل إن كره الشركة.

[مسألة: اشترى من رجل أربعة أعذق بعينها في حائط له]
مسألة قال سحنون: قال أشهب وابن نافع: سئل مالك عمن اشترى من رجل أربعة أعذق بعينها في حائط له، ولم يشترط البائع على المبتاع أنه لا طريق لك ولا شرب لك؛ ولم يشترط المبتاع على البائع شربها من الماء، ولا الطريق إليها؛ فقال: أرى ذلك للمبتاع على البائع، يكون له طريقه إليها وشربها من الماء، وإن لم يكن يشترطه؛ لأنه إنما يشتري المشتري النخل بمائها وطرقها إليها، وأرى ذلك له عليه، وإن لم يشترطه.

(7/327)


قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة أن البيع وقع بينهما، وهما عالمان بمبلغ الشرب، وقد مضى القول في رسم حلف، من سماع ابن القاسم إذا وقع البيع بينهما، وهما جاهلان بمبلغ الشرب أو أحدهما مستوفى، فلا معنى لإعادته؛ وإذا وقع البيع بينهما، وهما عالمان بمبلغ الشرب، فلا يخلو الأمر من ثلاثة أحوال؛ أحدها: أن يقع البيع بينهما مبهما دون نية ولا شرط. والثاني: أن يتفقا على أن البيع وقع بينهما مبهما دون شرط، فيقول البائع: إنما كانت إرادتي بيعها دون شربها؛ ويقول المبتاع: إنما كانت إرادتي شراءها بشربها. والثالث: أن يختلفا فيقول البائع: بعتك دون شرب بشرط وبيان، ويقول المبتاع: بل اشتريتها منك بشربها بشرط وبيان، فأما إذا وقع البيع بينهما مبهما دون نية ولا شرط، ففي ذلك اختلاف؛ قال في هذه الرواية: إن المبتاع يكون له شرب النخل من الماء، وقيل: إنه لا يكون له الشرب إلا أن يشترطه، وهو ظاهر ما في رسم باع شاة، من سماع ابن القاسم، من هذا الكتاب، وذلك إذا كان المبتاع يقدر على سقيها من غير ساقية البائع بوجه من الوجوه، أو كانت تستغني عن السقي؛ وأما إن كان المبتاع لا يقدر على سقيها من غير ساقية البائع بوجه من الوجوه، ولا تستغني عن السقي؛ فإن الشرب يكون للمبتاع قولا واحدا.
وأما إذا وقع البيع بينهما مبهما، فقال البائع: إنما كانت إرادتي أن أبيعك النخل دون شربها؛ وقال المبتاع: إنما كانت إرادتي شراءها بشربها، فإن كان لما قال البائع وجه، مثل أن يكون المبتاع يقدر على سقيها من غير ساقية البائع؛ أو كانت تستغني عن السقي، تحالفا وتفاسخا؛ فإن حلف أحدهما ونكل الآخر، كان القول قول الحالف؛ وإن لم يكن لما قال البائع

(7/328)


وجه، كان الماء للمشتري؛ قال ذلك ابن القاسم في بعض الروايات، من سماع أصبغ، من كتاب الصدقات والهبات.
وأما إذا اختلفا فقال البائع: بعتك النخل دون شرب بشرط وبيان، وقال المشتري: بل اشترينها منك بشربها بشرط وبيان؛ فقال ابن القاسم: إن كان لما قال البائع وجه، تحالفا وتفاسخا؛ وإن لم يكن لما قال وجه، كان القول قول المبتاع؛ وقال أصبغ: يتحالفان ويتفاسخان، كان لما قال البائع وجه، أو لم يكن؛ فراعى ابن القاسم دعوى الأشباه في اختلاف المتبايعين مع القيام، ولم يراعه أصبغ، وهو المشهور في المذهب؛ ولو وهبه الأعرف؛ لكان القول قول الواهب: إنه إنما وهبها له دون شربها؛ بخلاف إذا كان الماء فيها على ما في سماع أصبغ، من كتاب الصدقات والهبات، خلاف ظاهر ما في أول رسم شهد، من سماع عيسى، من كتاب الصدقات والهبات، وعلى ما سنذكره هناك، إن شاء الله تعالى.

[مسألة: الموز هل يباع اثنان بواحد]
مسألة وسئل عن الموز أيباع اثنان بواحد؟ فقال: لا يعجبني، وغيره أحب إلي منه.
قال محمد بن رشد في الموطأ لمالك: إنه لا بأس بالتفاضل فيه، وهو الصحيح على أصله؛ لأنه لا يدخر ولا يقتات، وإنما هو فاكهة يخرج بطونا كمقاثئ والخضر.

[مسألة: اشترى سلعة من رجل وشرط عليه عند عقدة البيع]
مسألة وسئل مالك عمن اشترى سلعة من رجل، وشرط عليه عند

(7/329)


عقدة البيع إن ادعاها مدع، فمالي علي رد بغير خصومة، قال: لا يعجبني هذا البيع اشترط ما ليس في كتاب الله، فلا يعجبني هذا البيع.
قال محمد بن رشد: قوله: لا يعجبني هذا البيع، يدل على أنه رآه بيعا فاسدا لما اقترن به من الشرط؛ وذلك بين؛ لأنه غرر؛ إذ لم يبين البائع بما قبض من الثمن، إذ شرط عليه رده بالدعوى دون بينة، وذلك خلاف لما أحكمه الكتاب، وجاءت به الآثار، من أنه لا يؤخذ أحد بمجرد الدعوى دون بينة؛ فمعنى قوله اشترط ما ليس في كتاب الله، أي اشترط خلاف ما أوجبه الكتاب وقدره الشرع عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، المبين عن الله ما أنزله في كتابه.

[مسألة: يقول للرجل ابتعني سلعتك هذه بكذا وكذا فيقول نعم]
مسألة قال أشهب: سألت مالكا عن الرجل يقول للرجل: ابتعني سلعتك هذه بكذا وكذا، فيقول: نعم؛ فيقول: قد أخذتها، فيقول رب السلعة: ما أردت بيعها، إنما أردت اختبار ثمنها؛ فقال لي: لا سواء، أما الذي يوقف سلعته في السوق يتسوق بها، فأرى ذلك له لازما، ولا يغني عنه إباءه ذلك، وإن لم يفترقا وكان ذلك مكانهما؛ وأما الذي يعلم أنه كان لاعبا لا يريد بيع سلعته، فلا أرى ذلك له لازما، ولا عليه جائزا؛ قيل لمالك فإن كان على غير

(7/330)


وجه اللعب رأيت ذلك لازما لهما، وإن لم يفترقا إن لم تكن صفة خيار؟ قال: نعم، أرى ذلك لهما لازما، إن لم يكن بيع خيار، وكانت مناكرتهما من ساعتهما؛ وقد ذكر هذا الحديث، ولعله يكون شيئا ترك، ولم يعمل به.
قال محمد بن رشد: هذه الرواية تدل على أن الخلاف إنما هو في الذي يسوم الرجل بسلعته، وقد أوقفها للبيع في السوق، هل يصدق إن ادعى أنه لم يجد في السوم، وأنه إنما أراد اختبار ثمنها، أو أنه كان لاعبا وما أشبه ذلك أم لا؛ وأما الذي يلقى الرجل في غير السوق، فيسومه في سعلته فيقول هي بكذا وكذا؛ فلا اختلاف في أن البيع لا يلزمه إن ادعى أنه لم يكن مجدا في السوم، وأنه كان لاعبا، ويحلف على ذلك إن لم يتبين صدقه؛ وإنما يلزمه إن علم أنه كان مجدا غير لاعب: إما بتردد المكايسة بينهما، كنحو رواية ابن نافع، عن مالك الواقعة في نوازل سحنون، وإما بإقراره بذلك على نفسه؛ إذ لا يعلم ذلك إذ لم تتردد المكايسة بينهما إلا من قبله؛ وقد قيل: إن الخلاف يدخل في هذا أيضا على ظاهر ما مضى في رسم سلعة سماها من سماع ابن القاسم، وليس ذلك عندي بصحيح على ما مضى القول فيه هناك، وقد مضى تحصيل القول في هذه المسألة في أول رسم من سماع أشهب، من كتاب العيوب، فمن أحب الوقوف على الشفاء منها تأمله هناك.
وقوله: وكانت مناكرتهما من ساعتهما، معناه وإن كانت مناكرتهما من ساعتهما؛ لأن الخلاف إنما هو إذا كانت مناكرتهما من ساعتهما، للحديث الذي جاء أن المتبايعين كل واحد

(7/331)


منهما على صاحبه بالخيار ما لم يفترقا، إلا بيع الخيار؛ فرآه حديثا متروكا لم يصحبه عمل، قال في موطئه: وليس لهذا عندنا حد معروف، ولا أمر معمول به فيه؛ وقد تؤول أن معناه المراد به أن المتساومين كل واحد منهما على صاحبه بالخيار ما لم يتفرقا بالقول؛ إذ قد يكون التفرق بالقول؛ قال عز وجل: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلا مِنْ سَعَتِهِ} [النساء: 130] ، وقال: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} [البينة: 4] . وقد يسمى المتساومان متبايعين، فيكون فائدة الحديث على هذا التأويل إثبات الخيار في البيع؛ إذ قد علم أن المتساومين بالخيار ما لم ينعقد البيع بينهما؛ وقيل: فائدته أن من أوجب البيع منهما لصاحبه له الرجوع عنه ما لم يجبه صاحبه بالقبول، إلا أن هذا ليس على المذهب؛ وقيل: فائدته أن المتساومين لا يلزم البائع منهما البيع بما طلب من الثمن ولا المبتاع الأخذ بما بدا منه في حال المساومة، وأن لكل واحد منهما أن يرجع عن ذلك، ما لم يتم البيع بالكلام؛ وهذا يأتي على مذهب مالك في المدونة؛ ومن أهل العلم من ذهب إلى أن المراد بالفرقة فرقة الأبدان، وأنها فرقة تحل العقدة، وتبطل ما أوجبه أحد المتبايعين على نفسه لصاحبه، وهو معنى حسن يخرج على المذهب.

[مسألة: دفع إليه الدرهم وقال له اعطني نصفه بطيخا ونصفه تينا]
مسألة وسئل مالك فقيل له: جئت إلى صاحب فاكهة، فأعطيته درهما

(7/332)


وقلت له: أعطني رطبا، فلما دفعت إليه الدرهم، بدا لي فقلت له: أعطني نصفه بطيخا، ونصفه تينا، قال: أرجو أن يكون هذا خفيفا، ولا أرى به بأسا.
قال محمد بن رشد: إنما جاز هذا؛ لأن عقد البيع لم يتم بينهما؛ وإنما كانا في حال التراوض؛ إذ لم يقطعا السعر بعد؛ فلو أراد أن يأخذ درهمه، لكان ذلك له؛ ولو كان البيع قد انعقد بينهما، لم يجز ذلك على ما مضى في رسم شك، ورسم حلف من سماع ابن القاسم، من هذا الكتاب؛ وقد مضى القول على ذلك في الرسمين جميعا، ومضى أيضا في رسم القبلة، ورسم المحرم من سماع ابن القاسم، من كتاب الصرف، القول على هذه المسألة مستوفى لمن أحب الوقوف عليه.

[مسألة: ابتاع حائطا ثم جاءه البائع يستقيله]
مسألة وسئل مالك عمن ابتاع حائطا، ثم جاءه البائع يستقيله، فقال له المبتاع: أقيلك على أنك متى بعته فهو لي بالثمن الذي تبيعه به، فقال: نعم ذلك لك، والله ما أريد بيعه، فأقاله على ذلك، فأقام بيده زمنا ثم باعه بالثمن، ثم جاء المقيل فقال: أنا آخذه بالثمن الذي بعته به، فإني قد كنت شرطت ذلك عليك حين أقلتك؛ أيكون ذلك له؟ فأطرق فيها طويلا، فقال لي: إني أرى ذلك الآن بالثمن الذي باعه به، أراه له بذلك الثمن فيما أرى الآن؛ وإن أحببت أن ترجع إلي فارجع، فقام عنه هنيهة، ثم رجع فقرأ عليه الكتاب أنه أقاله على أنه أحق به بالثمن الذي يبيعه به إن باعه،

(7/333)


فباعه بعد زمان؛ أترى هذا مردودا؟ فقال: أما مردود فلا، ولكن أرى إن شاء أن يأخذه بالثمن الذي باعه به هذا الآخر، فذلك له؛ وإن شاء أن يتركه له، فذلك له.
قال محمد بن رشد: أوجب مالك للمقيل أخذ الحائط بشرطه، وإن باعه المستقيل بعد زمان؛ لقوله في الشرط متى ما باعه؛ لأن متى ما تقتضي قرب الزمان وبعده، بخلاف ما في سماع محمد بن خالد لابن القاسم وابن كنانة، من تفرقته بين القرب والبعد إذا أقاله على أنه إن باعه من غيره، فهو له بالثمن؛ وقد كان المقيل يخاف من المستقيل أن يكون إنما استقاله ليبيعه من غيره بزيادة أعطى فيه، وإنما جاز هذا الشرط في الإقالة؛ لأن الإقالة معروف فعله به، واشترط أن يكافئه عليه بمعروف، فلزم ذلك فيها، بخلاف البيع؛ وقد مضى القول في حكم البيع إذا وقع على هذا الشرط مستوفى في رسم القبلة، من سماع ابن القاسم، ولمحمد بن خالد في سماعه أن الإقالة على هذا الشرط لا تجوز كالبيع؛ والذي يوجبه القياس والنظر عندي ألا فرق في هذا كله بين البيع والإقالة، وأنه إذا أقاله أو باعه على أنه متى باعه من غيره، فهو أحق به، أن ذلك لا يجوز؛ لأن في إجازة البيع والإقالة وإمضاء الشرط فيهما إبطالا لحق المشتري، وظلما له في أن يؤخذ منه ما ابتاع دون حق يوجب ذلك عليه؛ وأنه إن استقاله أو سأله البيع ابتداء، فقال له: أخشى أنك إنما تسألني الإقالة أو البيع لربح أعطيت في ذلك، لا لي رغبة لك فيه، فقال: له لا أريده إلا لرغبة فيه لا للبيع؛ فأقاله أو باعه على أنه أحق به بالثمن إن باعه - أو يكون أحق به - إن

(7/334)


باعه بالقرب؟ فيتبين أنه إنما استقاله، أو سأله البيع لذلك؟ وكذلك لو أقاله أو باعه على أنه إن أراد بيعه، فهو أحق به بالثمن الذي يعطى فيه، لم يجز ذلك في البيع؟ ويختلف فيه في الإقالة، من أجل أن بابها معروف المكايسة، وكذلك يختلف أيضا في هذا الشرط إذا وقع في الهبة، وقع الاختلاف في ذلك في سماع سحنون، من كتاب الصدقات والهبات، ظهر في الهبة الجواز، وفي الإقالة المنع، فإذا جمعت المسألتين تجمع فيهما ثلاثة أقوال: الجواز فيهما جميعا، والمنع فيهما جميعا، والفرق بين الهبة والإقالة؛ وسيأتي القول على مسألة الهبة في رسم إن خرجت، من سماع عيسى، من كتاب الصدقات والهبات، وفي سماع سحنون منه، وفي أول سماع سحنون مسألة من هذا المعنى، سنتكلم عليها إذا مررنا بها إن شاء الله.

[مسألة: باع أصل حائطه من رجل أنه متى جاءه بالثمن كان أحق بحائطه]
مسألة وسئل مالك عمن باع أصل حائطه من رجل أنه متى جاءه بالثمن، كان أحق بحائطه، وكان إليه رد فأقام في يد المشتري ست سنين، يأكل ثمرته، ويزرع قصبا يأكل غلته، ثم أيسر البائع بعد ست سنين، فجاءه بالثمن فرده عليه، وأخذ حائطه، وقد أكل المشتري ثمرته ست سنين وغلة قصب كان يزرعه، وطلب مشتري الحائط ما أنفق في الحائط، فقال مالك: أصل هذا

(7/335)


البيع لم يكن جائزا ولا حسنا، وأرى للمشتري ما أكل من الثمر، واستغل من القصب بالضمان؛ لأنه كان للحائط ضامنا، وأرى له أيضا على رب الحائط ما أنفق في بنيان جدار أو حفر بئر؛ فإنه رد إليه، وقد بنى فيه، وحفر فيه بئرا، وأصل هذا البيع لم يكن جائزا ولا حسنا.
قال محمد بن رشد: البيع على هذا الوجه يسمونه بيع الثنيا، وقد اختلف فيه؛ فقيل: إنه بيع فاسد بما شرط البائع على المبتاع من أنه أحق به متى ما جاءه بالثمن؛ لأنه يصير كأنه بيع وسلف، وهو قول مالك هاهنا، وفي بيوع الآجال من المدونة، فإن وقع فسخ، ما لم يفت بما يفوت به البيع الفاسد، وكانت الغلة للمبتاع بالضمان، فإن فات صحح بالقيمة، والحائط لا يفوت في البيع الفاسد بالبناء اليسير، فلذلك قال: إنه يكون على رب الحائط إذا رد إليه ما أنفق على المبتاع في بنيان جدار أو حفر بئر، وقد قيل: قيمته ما أنفق، وليس ذلك باختلاف قول؛ وإنما المعنى في ذلك أن نفقته إن كانت بالسداد، رجع بما أنفق، وإن كانت بغير السداد، مثل أن يستأجر الأجراء بأكثر مما يستأجر به مثلهم بغبن جرى عليه في ذلك، أو بمعروف صنعه إليهم، رجع بقيمة ذلك على السداد، وقيل فيه: إنه ليس بيعا، وإنما هو سلف جر منفعة؛ قال سحنون ذلك في المدونة، وهو قول ابن الماجشون وغيره؛ لأنه كان المبتاع أسلف البائع الثمن على أن يغتل حائطه حتى يرد إليه سلفه، فعلى هذا القول ترد الغلة للبائع، ولا تكون للمبتاع؛ لأنها ثمن السلف فهي عليه حرام.

(7/336)


[مسألة: لبن البقر والغنم يخلطان جميعا ويضربان فيخرج زبدهما ثم يباع اللبن]
مسألة وسئل مالك عن لبن البقر والغنم يخلطان جميعا ويضربان، فيخرج زبدهما ثم يباع اللبن؛ فقال: أحب إلي ألا يخلطا جميعا، وأن يضرب كل واحد منهما على حدته؛ فإن ضربا جميعا، فأرى عليه إذا باع اللبن أن يبين ذلك للمبتاع، فيعلمه أنه لبن بقر وغنم، قلت: أفرأيت إن باع الزبد الذي خرج منهما، والسمن الذي خرج منهما، أترى ذلك عليه أيضا أن يبين ذلك للمبتاع، ويقول له: إنه زبد، أو إنه سمن بقر وغنم؟ فقال لي: نعم، أرى ذلك عليه أن يبين ذلك للمبتاع؛ لأنه ليس شيء من الزبد، ولا من السمن، ولا اللبن مثل زبد الغنم وسمنها، أو مثل لبنها أطيب ولا أجود، فأرى أن يبين ذلك إذا باع، وأحب إلي ألا يخلطهما.
قال محمد بن رشد: قوله: أحب إلي ألا يخلطا ليس على ظاهره، وهو تجوز في اللفظ، بل لا يحل ذلك، ولا يجوز وإن بين؛ لأنه من الغش؛ وكذلك قال ابن القاسم في رسم الجواب من سماع ابن القاسم، وقال مالك في كتاب ابن المواز: يعاقب من خلط طعاما بطعام دونه، أو قمحا بشعير، ويمنع من بيعه على ظاهر ما في كتاب ابن المواز من أجل الذريعة، فإن باع وبين مضى البيع ولم يكن للمبتاع رد، وكان قد أساء؛ فليس في قوله في الرواية: فأرى أن يبين ذلك إذا باع، دليل على أن ذلك مباح له أن يفعله، وإنما معناه أن ذلك يلزمه من أجل حق المشتري؛ فإن لم يفعل، كان له أن يرد، ويلزمه أن يبين قدر ما فيه من كل واحد منهما إن علم ذلك؛ وإن لم يعلمه أخبر باختلاطهما، وقد كره مالك في كتاب ابن المواز لمن خلط قمحا بشعير لقوته، ففضل له منه

(7/337)


فضل، أن يبيعه وإن قل الثمن، وخفف ذلك ابن القاسم إذا لم يتعمد خلطه للبيع، وهو قول مطرف، وابن الماجشون في الواضحة؛ وإنما يكون للمبتاع أن يرد اللبن المخلوط والزبد والسمن من اللبن المخلوط إذا كان لبن الغنم وزبدها وسمنها هو الغالب في البلد أو كان متساويين؛ وأما إن كان لبن البقر وزبدها وسمنها هو الغالب في البلد، فليس له أن يرد شيئا من ذلك إذا وجده مخلوطا بلبن الغنم؛ لأنه لو وجده كله لبن بقر أو غنم، لم يكن له أن يرده؛ فكيف إذا وجده مخلوطا بلبن الغنم، وقد مضى هذا المعنى في أول رسم من سماع أشهب، من كتاب العيوب، وما يدخله من الخلاف؛ وهذا على ما ذكر مما هو لا شك معلوم عندهم، أن لبن الغنم وزبدها وسمنها أفضل من لبن البقر وزبدها وسمنها، وأما على ما هو معلوم عندنا من أن سمن البقر أفضل وأطيب من سمن الغنم، فليس له أن يرد السمن المخلوط إذا كان الغالب في البلد سمن الغنم؛ وإنما له أن يرده إذا كان الغالب بالبلد سمن البقر، أو كانا متساويين، كما لو اشتراه فوجده سمن غنم.

[مسألة: الموز إذا بلغ في شجره أيشترى قبل أن يطيب]
مسألة وسئل مالك عن الموز إذا بلغ في شجره، أيشترى قبل أن يطيب؟ فإنه لا يطيب حتى ينزع؟ فقال: لا بأس بذلك إن شاء الله.
قال محمد بن رشد: من شأن الموز أنه لا يطيب حتى ينزع من شجره، ويدفن أياما في تبن أو غيره، وكذلك يطيب؛ فلذلك جاز بيعه قبل أن يطيب، وذلك إذا صلح للقلع، فصلاحه للقلع من ثمره هو طيبه الذي يجوز بيعه به، وكذلك ثمار عندنا تسمى المشتهى، لا تطيب حتى تقطع وتقيم أياما بعد القطع، فبلوغها حد القطع هو طيبها الذي يجوز له بيعها، وبالله التوفيق.

(7/338)


[مسألة: التين وإذا بلغ وكبر إلا أنه أخضر لم يؤكل منه شيء بعد أيباع]
مسألة وسألنا مالكا عن التين وإذا بلغ وكبر، إلا أنه أخضر لم يؤكل منه شيء بعد أيباع؟ فقال لي: لا يباع حتى يطيب أو يطيب أوائله ويؤكل، فإذا طاب أوائله وأكل منه جاز بيعه.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: إنه لا يجوز بيعه إذا كبر حتى يطيب منه شيء، وقد مضى تحصيل القول في هذه المسألة، في أول رسم من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته.

[مسألة: الرجل يكون عنده العبدان فيسلم بهما]
مسألة وسئل مالك عن الرجل يكون عنده العبدان فيسلم بهما، فيقول الرجل: هذا العبد بأربعين إلى سنة، وهذا بخمسين إلى سنة، خذ أيهما شئت، فقال: ما أرى بهذا بأسا.
قال محمد بن رشد: لم يجعل في هذه الرواية قول البائع، خذ أيهما شئت إيجابا أوجبه على نفسه للمبتاع، فلذلك قال: لا أرى به بأسا؛ لأن البيع على هذا الوجه من بيعتين في بيعة، فلا يجوز إذا كان البيع لازما لهما أو لأحدهما، وقد روي عن مالك أن قوله: خذ أيهما شئت إيجاب منه للبيع على نفسه، بمنزلة قوله قد بعتك أيهما شئت، أو لك أيهما شئت، ووقع ذلك في كتاب لابن المواز من رواية أشهب عنه، قال: سئل مالك عمن قال لرجل: أن احبس لي راويتين من زيت، ثم رجع إليه، فقال: كيف

(7/339)


بعت الراوية؟ فقال: بأربعة وعشرين نقدا، وبخمسة وعشرين على التقاضي؛ فأيهما شئت فخذ، قال: قد أخذت؛ قال مالك: هذا بيع مفسوخ، قيل له: إن الزيت قد فات، قال: فيرد مثله.
قال محمد بن رشد: وإنما فسخه لقوله: خذ أيهما شئت؛ لأن ذلك إيجاب على البائع، قال: ولم يزد على أن قال: خذها إن شئت بدينار، وإن شئت بهذه الشاة، لم يكن فيه خير؛ لأنه حين قال: خذ، أو قال له: قد بعتك، أو قال له: هي لك، فقد أوجب ذلك البائع على نفسه، وذكر محمد بن المواز بإثر هذه الرواية رواية أشهب الواقعة في هذا الرسم على نصها، ثم قال: والرواية الأولى أصح، وقد مضى هذا المعنى في أول رسم من سماع أشهب، من كتاب العيوب.

[مسألة: باع حائطا فيه ألوان من الثمر]
مسألة وسئل مالك عمن باع حائطا فيه ألوان من الثمر: العجوة والكبسي والصيحاني وغير ذلك، أيجوز له أن يستثنى الثلث من الثمر كله في صنف واحد من تلك الألوان، وإن كان هو أكثر تلك الألوان؟ أو لا يجوز له أن يشتري من صنف واحد من تلك الألوان إلا ثلث ذلك الصنف؟ فقال: لا بأس أن يشتري ثلث الثمر الذي باع كله من صنف واحد من الثمرة العجوة والصيحاني؛ وإن كان ذلك من ذلك الصنف هو أكثره أو أقله إذا كان مما يباع من ذلك، هو ثلث الثمر الذي باع أو أدنى، لا بأس بذلك.

(7/340)


قال محمد بن رشد: قد مضى القول على هذه المسألة مستوفى في رسم قطع الشجرة، من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته.

[مسألة: بيع القطاني بعضها ببعض متفاضلا]
مسألة وسألت مالكا عن القطاني بعضها ببعض متفاضلا يدا بيد، أيصلح ذلك؟ فقال لي: ذلك من القطاني مختلف، منه ما يجوز، ومنه ما لا يجوز؟ فأما الحمص والعدس، فلا أرى ذلك يجوز، ولا يصلح إلا مثلا بمثل؛ فقيل له: ما كنا نرى القطاني عندك كلها إلا بمنزلة الحنطة المختلفة بعضها ببعض، فقال: لا، القطنية أسماء كثيرة، فمنها ما يجوز بعضه ببعض متفاضلا، ومنها لا يجوز، فذلك مختلف.
قال محمد بن رشد: اختلف قول مالك في القطاني في البيع على ثلاثة أقوال؛ أحدها: أنها صنف واحد لا يصلح الفضل بينها. والثاني: أنها أصناف مختلفة، يجوز التفاضل بينها، وهو قول ابن القاسم وأصحاب مالك كلهم. والثالث: قوله في هذه الرواية؛ أن ما كان منها يشبه بعضه بعضا - يريد في المنفعة - كالحمص والعدس واللوبية والجلبان والبسيلة فهو صنف واحد، وما كان منها لا يشبه بعضه بعضا في ذلك مثل الفول والحمص والكرسنة، فهي أصناف مختلفة، يجوز التفاضل فيها؛ ولا اختلاف بينهم في أنها في الزكاة صنف واحد يضم بعضها إلى بعض، وإنما اختلف فيما هو من القطنية، مما هو ليس منها، من ذلك الكرسنة، ذهب ابن حبيب إلى أنها صنف على حدة؛ وقال ابن وهب: لا زكاة فيها، واختار ذلك يحيى بن يحيى،

(7/341)


وهو الأظهر؛ لأنه علف وليس بطعام؛ ومن ذلك الأرز والجلجلان، روى زياد عن مالك أنهما من القطنية، والمشهور أنهما صنفان لا يضافان إلى غيرهما، ولا يضاف بعضهما إلى بعض؛ وقد مضى القول على هذه المسألة أيضا في رسم حلف، من سماع ابن القاسم، من كتاب السلم والآجال.

[ابتاع متاعا من ميراث فباع فيه مصلى]
ومن كتاب الأقضية الثاني
وسئل مالك عمن ابتاع متاعا من ميراث، فباع فيه مصلى، ثم قال له المشتري: أتدري ما هذا المصلى؟ هو والله خز؛ فقال البائع: ما علمت أنه خز، ولو علمت ما بعته بهذا الثمن؛ فقال مالك: ما أرى ذلك له، وأراه للمشتري، ولو شاء البائع استبرأه قبل أن يبيعه، وكذلك لو باعه هرويا، ثم قال له: لم أعلم أنه هروي، إنما ظننته كذا وكذا؛ أرأيت لو أن المبتاع قال: والله ما اشتريته، إلا أني ظننت أنه خز وليس بخز، فهذا مثله.
وكذلك الذي يبيع الحجر بالثمن اليسير، ثم إذا هو ياقوتة أو زبرجدة تبلغ مالا كثيرا، لو شاء البائع استبرأه قبل أن يبيع؛ قيل له: أرأيت الذي يأتي إلى الرجل فيقول له: أخرج لي ثوبا هرويا بدينار، فيخرج إليه ثوبا فيعطيه إياه؛ ثم ينظر بعد ذلك فيجده من أثمان أربعة دنانير، فيقول: أخطأت هذا مثله، قال: ليس هذا مثله، لا أرى هذا إلا أن يحلف ويأخذ ثوبه.
قال محمد بن رشد: في بعض الكتب، ولو شاء البائع استبرأه

(7/342)


من الرؤية، والمعنى في هذا سواء، وفي سماع أبي زيد خلاف هذا أن من اشترى ياقوتة وهو يظنها ياقوتة، ولا يعرفها البائع ولا المشتري، فيجدها على غير ذلك؛ أو يشتري القرط وهو يظنه ذهبا فيجده نحاسا، أن البيع يرد في الوجهين جميعا، وهذا الاختلاف إنما هو إذا لم يسم أحدهما الشيء بغير اسمه، وإنما سماه باسم يصلح له على كل حال، مثل أن يقول البائع: أبيعك هذا الحجر، أو يقول المشتري: بع مني هذا الحجر، فيشتري المشتري وهو يظنه ياقوتا فيجده غير ياقوت، أو يبيع البائع وهو يظنه غير ياقوت، فإذا هو ياقوت؛ فيلزمه اشتراء المشتري، وإن علم البائع أنه غير ياقوت، والبائع البيع، وإن علم المبتاع أنه ياقوت على رواية أشهب عن مالك.
ولا يلزم المشتري الشراء، ولا البائع البيع على ما في سماع أبي زيد، وأما إذا سمى أحدهما الشيء بغير اسمه، مثل أن يقول البائع: أبيعك هذه الياقوتة، فيشتري المشتري، فيجدها غير ياقوتة، أو يقول المشتري: بع مني هذه الزجاجة فيبيعها منه، ثم يعلم البائع أنها ياقوتة، فلا اختلاف في أن الشراء لا يلزم المشتري، وأن البيع لا يلزم البائع.
وكذلك القول في المصلى، وما أشبه ذلك، وأما القرط يشتريه الرجل وهو يظنه ذهبا، ولا يشترط أنه ذهب فيجده نحاسا، فلا اختلاف في أن له أن يرده إذا كان قد صيغ على صفة أقراط الذهب، أو كان ذلك مغسولا بالذهب؛ لأن ذلك غش، وقد اختلف إذا ألغز أحدهما لصاحبه في التسمية، ولم يصرح، فقال ابن حبيب: إن ذلك يوجب الرد كالتصريح، وحكي عن شريح القاضي أنه اختصم إليه في رجل مر برجل، ومعه مصبوغ الصبغ الهروي، فقال له: بكم هذا الثوب الهروي؟ فقال له البائع: بكذا وكذا، فاشتراه منه، ثم تبين للمشتري أنه ليس هرويا، وإنما صبغ صبغ الهروي؛ فأجاز بيعه، وقال: لو استطاع أن يزين ثوبه بأكثر من هذا لزينه به؛ قال عبد المالك: لأنه إنما باعه هروي الصبغ حتى إذا قال: هروي هراة، فعند ذلك يرده، وذلك

(7/343)


عندي اختلاف من قوله، وقد قال بعض الشيوخ: إذا باع الحجر في سوق الجوهر فوجده صخرة، كان للمبتاع القيام وإن لم يشترط أنه جوهر؛ وإذا باعه في ميراث أو غير سوق الجوهر، لم يكن للمبتاع قيام؛ وعلى هذا يقاس ما أشبهه، وهذا عندي يجري على الاختلاف الذي ذكرته في الألغاز؛ ووجه تفرقة مالك بين الذي يبيع الياقوتة، وهو لا يعلم أنها ياقوتة، أو مصلى الخز وهو لا يعلم أنها خز، وبين الذي يذهب أن يخرج للمشتري ثوبا ثمنه دينار، فيخرج إليه ثوبا ثمنه أربعة دنانير؛ أن الأول جهل وقصد، إذ لم يسأل من يعلم ما هو، والثاني: غلط، والغلط لا يمكن التوقي منه؛ فيكون له أن يحلف ويأخذ ثوبه إذا أتى بدليل على صدقه من رسم، أو شهادة قوم على حضور ما صار به إليه في مقاسمة، أو ما أشبه ذلك؛ والرجوع بالغلط في بيع المرابحة متفق عليه، وفي بيع المكايسة مختلف فيه؛ وقد مضى القول على ذلك في أول رسم من سماع ابن القاسم، وليس في هذه الرواية بيان، إذ قد يحتمل أن يريد بقوله: أخرج لي ثوبا شراؤه دينار، فيكون بيع مرابحة؛ وأن يريد أخرج لي ثوبا قيمته دينار، فيكون بيع مكايسة، وانظر في ذلك وتدبر.

[مسألة: تصدق بنخل بمائها ثم أصابتها الرمال حتى بلغت كرانيفها]
مسألة وسئل عمن تصدق بنخل بمائها، ثم أصابتها الرمال حتى بلغت كرانيفها، وغلبت عليها، وفي مائها فضل، وقد أردت بيعها، فقال له: ما أرى أن تبيعها، وأرى أن تدعها على حالها حتى يغلب عليها الرمال فتستريح منها.
قال محمد بن رشد: يريد بالصدقة هاهنا الحبس الموقف، فلم ير بيعه وإن غلبت عليه الرمال حتى خشي أن يغير فلا ينتفع به، وهذا هو

(7/344)


مذهب ما في المدونة، أن الربع الحبس لا يباع وإن خشي عليه الخراب، بخلاف ما بلي من الثياب، وضعف من الدواب، والفرق بين ذلك، أن الربع وإن خرب، فلا تذهب البقعة، ويمكن أن يعاد إلى حاله، وكذلك هذه النخيل، وإن غلبت عليها الرمال بكثرة الرياح أو المياه، يمكن أن يذهب عنها بمثل ذلك أو بما سواه، فتعود إلى حالها، وابن الماجشون يرى أن لا يباع شيء من ذلك كله، وهو قول غير ابن القاسم في المدونة، وروي عن ربيعة: أن الإمام يبيع الربع إذا رأى ذلك لخرابه كالدواب والثياب، وهو قول مالك في إحدى روايتي أبي الفرج عنه، قال: لا يباع الربع الحبس، وقال في موضع آخر: إلا أن يخرب، وبالله التوفيق.

[مسألة: ابتاعا طعاما فوجد أحدهما طعامه ينقص أربعة أرادب]
مسألة وسئل عن رجلين ابتاعا طعاما، فحمل إليهما الحمالون الطعام، فوجد أحدهما طعامه ينقص أربعة أرادب، فذهب إلى أن الذي كان يحمل إليه الطعام معه؛ فقال له: انظر أن يكون ذهب إليك من قمحي شيء، فقام الرجل وكال قمحه، وقد كان خلطه بقمح له آخر قد كان يعرف كيله فوجدها تزيد غرارة، فردها عليه، فأراد الذي ذهب قمحه أن يستحلفه؛ فقال: قال مالك: ذلك له على الذي وجد في بيته الطعام الفضل، يحلف بالله ما دخل بيته إلا هذا، فإن أبى أن يحلف حلف الآخر وأخذه، وهو رجل سوء إن حلف على ما لا علم له به؛ لأنه يحلف على ما لا يعلم، ولا يدري أوصلت إلى هذا أم لا؟ ولعل الحمالين اختانوا ذلك، وكيف

(7/345)


يحلف على أمر لا يدري ما هو؟ وما أدري ما يمينه؟ وما أدرى لعله ليس له يمين؟ ولكن هذا أشد ذلك، إذا أبى هذا الذي أفرغ في بيته القمح أن يحلف، قيل له: اغرم؛ فإذا كان يغرم فليحلف، هذا أحب إلي، والذي فرغ في بيته الطعام أحقهما باليمين؛ وأما الآخر، فيحلف على الباطل وهو ظالم.
ثم سئل مالك عن ذلك الثانية، وقيل له على من ترى اليمين؟ فقال: أرى اليمين على المدعى عليه، فإن أبى أن يحلف، حق عليه الحق؛ وما أرى على المدعي يمينا؛ لأنه لا يدري ما يحلف عليه، ولكن لما أبى المبتدئ باليمين أن يحلف، رأيت الغرم عليه؛ قلت له: أيحلف هذا ويأخذ ما ذهب له؟ قال: نعم.
قال محمد بن رشد: قال ابن أبي زيد في النوادر: طالعت أصل السماع، فلم أجد فيه من قول مالك، قال: نعم في آخر المسألة، قال ابن رشد: وإن سقط جوابه في آخر المسألة، فقد تقدم في أولها أنه يحلف، إلا أنه لا يسوغ له فيما بينه وبين خالقه أن يحلف إن لم يكن على يقين من أن الطعام الذي نقصه صار عنده، وهذا معنى قوله: إنه رجل سوء إن حلف على ما لا علم له به، إلا أنه في واجب الحكم على هذه الرواية يمكن من اليمين إن نكل المدعى عليه، ولا يجب له شيء إلا أن يحلف، ويقال له: أنت أعلم بما تحلف عليه إن كنت على يقين من أن الطعام صار عنده، فلا حرج عليك في أن تحلف، ومثل هذا في سماع عيسى، من كتاب الشركة، أن اليمين ترد في التهمة، والاختلاف في وجوب ردها، وفي لحوقها ابتداء أيضا مشهور معلوم، وبالله التوفيق.

(7/346)


[أهل المقاومة بالسرار وبيع المقاومة بالحصاة]
ومن كتاب أوله
مسائل بيوع وكراء وسئل عن أهل المقاومة بالسرار، فقال: هو عندي خفيف، وكره بيع المقاومة بالحصاة.
قال محمد بن رشد: رأيت لابن دحون في هذه المسألة أنه قال فيها المقاومة بالسرار: أن يتقاوموا السلعة سرا بالإشارة، وكذلك قال ابن لبابة: السرار أن يشير له بيده حتى يستتر عمن حضر له، وفي هذا من قولهما نظر؛ لأن الأشراك في السلعة إذا تقاوموها فيما بينهم، فليس لأحد من غيرهم أن يدخل عليهم فيها؛ فلا وجه للاستتار بالتقاوم عن سواهم، ولا معنى للسؤال عن ذلك، وإنما المعنى في المسألة عندي أن يتقاوم بعض الأشراك أنصباءهم فيما بينهم سرا عن بقيتهم، فيكون بعضهم قد خرج نصيبه لبعض أشراكه بما انتهى في المقاومة عليه دون علم بقيتهم، فهذا خفيف على ما قال؛ إذ لا يجبر على المقاومة من أباها من الأشراك، فلا حجة لمن استسر دونه بالمقاومة من الأشراك؛ لأن الذين تقاوموا يقولون له: نحن لا نريد أن نقاومك، وذلك من حقنا؛ إذ لا يجبر على المقاومة من أباها، وإنما تكون على التراضي، ونحن رضينا فيما بيننا بالتقاوم، فلا حجة لك علينا في ذلك.
وإنما استسروا لأنه كان من حقه لو علم بالمقاومة قبل نفوذها، أن يكون شريكا في نصيب الخارج عن نصيبه مع الآخر له بالثمن الذي رضي أن يخرج له به عنه؛ لأن السلعة بين الشريكين إذا أراد أحدهما أن يبيع نصيبه منها، كان الشريك أحق بها بما يعطى فيها ما لم ينفذ البيع، فكما يكون الشريك أحق من الأجنبي، فكذلك يكون الشريك أحق من الشريك بما زاد على قدر حقه؛ وكما يكره للشريك أن يبيع نصيبه

(7/347)


من أجنبي دون أن يُعلم شريكه؛ إذ ليس ذلك من مكارم الأخلاق، ولا من محاسنها، وكذلك يكره له أن يبيع نصيبه من بعض أشراكه دون أن يعلم سائرهم، إلا أن مالكا رأى في هذه الرواية ذلك في الشريك أحق من الأجنبي، إذ لم يدخل على الذي لم يعلم شريكا أجنبيا، فهذا وجه قول مالك: هو عندي خفيف.
وأما بيع المقاومة بالحصاة، فرأيت لابن دحون أنه قال ذلك أن تقوم السلعة، فإذا عرف كم الربح فيها، جعل كل من اشترك في ابتياعها حصاة، ثم جعلت الحصاة كلها في كم رجل منهم أو من غيرهم، ثم يدعى من يخرج حصاة منها، فإذا أخرج منها حصاة، عرف لمن هي تلك الحصاة؛ فكانت السلعة له بالثمن الذي قومت به، ثم كان الفضل بينهم على حسب اشتراكهم، وهو تفسير حسن، والمكروه فيه بين على ما قال مالك.
وقد اختلف في بيع الحصاة التي ورد النهي فيها عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وكان من بيوع الجاهلية؛ فقال ابن حبيب: هو أنه كان أحدهم يسوم بثوبه أو بجمله، وبيده حصاة، فيقول لصاحبه الذي يسومه: إذا سقطت هذه الحصاة من يدي، فقد وجب البيع بيني وبينك. وقال الطحاوي: هو أنه كان أحدهم إذا أراد ثوب صاحبه وملكه عليه بما يعوضه إياه به، ألقى عليه حصاة أو حجرا فاستحقه بذلك، ولم يستطع رب الثوب منعه من ذلك، وأحسن ما رأيت في تفسير ذلك، أن البائع كان يضع ثيابه ويقول للمبتاع: لك ما ودعت عليه حصاتك بثمن كذا، ويلقي المبتاع حصاة يريد صعدا، فعلى أيها وقعت لزمته بما سمياه، وبالله التوفيق.

[مسألة: يشتري السلعة فيغتبط ثم يسأل أن يوضع له]
مسألة وسألته عن الذي يشتري السلعة فيغتبط، ثم يسأل أن

(7/348)


يوضع له وهو مغتبط؛ فقال: ما أرى بذلك بأسا، وما زال هذا من أمر الناس، وما هذا من وجه المسألة؛ الرجل يقول للرجل: أعرني ثوبك، أعرني دابتك، فلا أرى بهذا بأسا، ولا أراه من وجه المسألة التي نهي عنها؛ إذا كان يسأل مسألة معروفة، فأما مسألة الإلحاح والتضرع والتبكي فإني أكرهه، والذي يشتري السلعة ثم يقول، وهو مغتبط: إن لم تضع لي خاصمتك، فهذا لا خير فيه.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة حسنة بينة، وقد مضى القول عليها في رسم الشجرة تطعم بطنين في السنة، من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته.

[مسألة: يبيع سلعته فيقول قد أعطيت بها ثلاثين دينارا وهو صادق]
مسألة وسألته عن الرجل يبيع سلعته فيقول: قد أعطيت بها ثلاثين دينارا وهو صادق، فقال: ليس بذلك بأس إذا كان أعطى عطاء يعلم أنه جد به السوم، فأما ذلك النجش فليس شيئا، وليس بذلك بأس، ولا أكرهه إلا أن يكون أعطى قديما فكتمه ذلك، ويظن صاحبه أنه أعطى حديثا، فلربما أعطى الرجل بالسلعة قديما، ثم يحط ثمنها، وأما إن كان أعطى بها بحدثان ذلك عطاء صحيحا، فلا أرى بذلك بأسا.

(7/349)


قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال: إنه إن كان أعطى بسلعته ما قال عطاء صحيحا بحدثان ذلك، فلا بأس بذلك، وإن ثبت أنه لم يعط بها ما قال، أو أنه إنما أعطي بها ذلك قديما، كان المشتري بالخيار في السلعة؛ بين أن يمسكها بالثمن الذي اشتراها به، أو يردها، وإن فاتت؛ قيل: بما يفوت به البيع الفاسد، وقيل: بالنماء والنقصان، رد المبتاع فيها إلى القيمة إن كانت أقل من الثمن على حكم الغش والخديعة في البيع، ولو قال له المبتاع: انظر ما أعطيت بسلعتك، فأنا آخذها بذلك الثمن؛ فقال: أعطيت بها كذا وكذا، ثم ثبت أنه لم يعط فيها إلا أقل من ذلك؛ كان الحكم في ذلك حكم الكذاب في بيع المرابحة في فوات السلعة وقيامها، وقد مضى ذلك في رسم صلى نهارا ثلاث ركعات، من سماع ابن القاسم.

[مسألة: حكم بيع المصراة]
مسألة وسئل عن قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من ابتاع مصراة، فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها؛ إن شاء أمسكها، وإن شاء ردها وصاعا من تمر» ؛ فقال: سمعت ذلك، وليس بالثابت، ولا الموطأ عليه، ولئن لم يكن هذا الحديث أن له اللبن بما أعلف وضمن، قيل له: اللبن بما أعلف وضمن، قيل له: نراك تضعف الحديث، فقال: كل شيء يوضع بموضعه، وليس بالموطأ، ولا الثابت، وقد سمعته.
قال محمد بن رشد: رأى مالك في رواية أشهب هذه عنه حديث المصراة حديثا لم يتواطأ على العمل به، فجعله منسوخا بحديث الخراج

(7/350)


بالضمان؛ فأوجب للمشتري رد الشاة المصراة بعيب التصرية، وجعل ما احتلب من اللبن له بما أعلف وضمن، وذلك بعيد؛ لأنه ابتاع شاة محفلة عظيمة الضرع باللبن الذي صراه البائع فيها، فليس له أن يردها، وقد نقصت صفتها عما اشتراها به، ويأخذ جميع الثمن.
وقوله في المدونة من رواية ابن القاسم عنه، أو لأحد في هذا الحديث رأي أصح وأولى بالصواب؛ لأن اللبن المصرى في ضرع الشاة بعضه للبائع تركه في ضرعها، فلم يحلبه لينفعها به، فوقع البيع عليه، وصار كمن باع شاة ولبنا بالثمن الذي سمياه، وبعضه غلة للمشتري، وهو المقدار الذي كان يكون في ضرعها لو لم تكن مصراة مع ما احتلب منها في الحلاب الثاني، فلما لم يعلم مقدار ما يجب رده مع الشاة من اللبن المصرى مما هو غلة للمشتري، لا يجب عليه رده؛ أوجب النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في ذلك للبائع على المبتاع إن رد الشاة بعيب تصريتها صاعا من تمر، حكما أوجبه شرعا رفع به مئونة الاجتهاد في تحري ما وقع عليه البيع من اللبن المصرى مما هو غلة.
وقد كان القياس أن يتحرى ذلك اللبن، فيرد قيمته مع الشاة إذا أراد ردها بعيب تصريتها؛ لأنه كمن باع طعاما جزافا وعرضا في صفقة واحدة، ثم وجد بالعرض عيبا وقد فات الطعام الجزاف، أنه لا يرد بقيمته مع العرض؛ إذ لا يمكن رد مثله؛ لكونه جزافا؛ وألا يجوز الحكم في ذلك بالصاع من التمر؛ لأن البائع قد وجبت له قيمة ذلك اللبن إذا ردت عليه الشاة، فيكون قد فسخ تلك القيمة الواجبة له في صاع تمر حتى يقضاه، فيدخله فسخ الدين في الدين؛ إلا أنه لا رأي لأحد مع السنة الثابتة، وإذا ثبتت

(7/351)


وجب أن تستعمل في موضعها، وتكون مخصوصة من عموم نهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الدين بالدين؛ لأن من عموم قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الخراج بالضمان» ؛ إذ لا مدخل في ذلك للخراج بالضمان على ما بيناه من أن الصاع لا يرده المبتاع عرضا عما هو له غلة بالضمان، وإنما يرده عما وجب للبائع عليه، مما ليس بعلة له على ما بيناه؛ ولم يجز ابن القاسم أن يأخذ اللبن الذي احتلب منها عوضا عن الصاع من التمر، ورأى ذلك بيع الطعام قبل أن يستوفى؛ قال ابن لبابة: وكذلك لا يجوز على قياس قوله: أن يأخذ الصاع من غير التمر؛ لأنه يدخله أيضا بيع الطعام قبل أن يستوفى، فكأنه ذهب إلى أن قوله خلاف لما حكاه عن مالك، من أن أهل البلدان يعطون الصاع من عيشهم ما كان.
قال: ولو جاز أن يؤخذ عن الصاع غيره من التمر، ما جاز إلا في اللبن؛ لأنهم يجيزون الإقالة في الطعام، فإذا رد الشاة وما احتلب منها من اللبن المصرى، كانت إقالة؛ وقد ذهب إلى هذا سحنون، وقاله ابن وضاح أيضا؛ فزاد: إذا لم يغب عن اللبن، وليس ذلك بصحيح؛ لما بيناه من أن اللبن الذي يجب رده لا يعرف قدره إلا بالتحري، فإنما يجب فيه بالسنة صاع من تمر، فإذا أخذ عنه اللبن كان قد باعه به كما قال ابن القاسم، فكان بيعا له قبل استيفائه، ولا تصح في ذلك الإقالة بوجه؛ لأن اللبن المصرى في الضرع بعضه غلة للمبتاع، فإذا رد على البائع جميعه، كان قد دفع إليه أكثر مما قبض منه من اللبن، فلم تكن إقالة على وجهها؛ وإذا لم تكن إقالة على وجهها دخله ما قال ابن القاسم من بيع الطعام قبل استيفائه.
وقد روى زياد عن مالك أن من اشترى ناقة أو شاة قد صراها البائع، فإنه إذا حلبها ردها ومكيلة ما حلب من اللبن تمرا أو قيمته، وهذا بعيد لا وجه له؛ لأنه مخالف للحديث، ولما ذكرناه من القياس، ولو رضي بعيب تصريتها، ووجد بها عيبا آخر فردها به؛ لوجب على ما ذكرناه من القياس أن يكون عليه قيمة اللبن الذي صراه البائع في الضرع بعد أن يتحرى قدره.
وقد قال أبو إسحاق التونسي: إنه لا شيء عليه في اللبن الذي احتلب إذا ردها بغير عيب التصرية، وذلك غير صحيح، فتأمل ذلك؛ وقد

(7/352)


اختلف إذا اشترى شياها أو نوقا مصراة صفقة واحدة، فردها بعيب تصريتها؛ فقيل: إنه لا شيء عليه فيما احتلب منها، بخلاف الشاة الواحدة؛ لقوله في الحديث: «من اشترى شاة مصراة» . . . الحديث. وقيل: عليه فيها كلها صاع واحد على ظاهر قوله في الحديث الآخر: «لا تصروا الإبل والغنم، فمن ابتاعها فهو بخير النظرين؛ بين أن يحلبها إن رضيها أمسكها، وإن سخطها ردها وصاعا من تمر» . وقيل: إن عليه في كل شاة أو في كل ناقة صاعا من تمر، وهو الأظهر، والله أعلم، والبقر في ذلك بمنزلة الإبل والغنم؛ وأبو حنيفة لا يرى الرد بعيب التصرية، ويقول: إن الواجب في ذلك الرجوع بقيمة العيب، ورأى أحاديث المصراة منسوخة؛ واختلف المتكلمون على مذهبه في الناسخ لها ما هو اختلافا كثيرا في أكثره بعد، ولم أر لذكره وجها.

[مسألة: التجارة في الخصيان]
مسألة وسئل عن التجارة في الخصيان، فقال: ترك التجارة في الخصيان أحب إلي، وأما تحريمه فلا، قيل له: لأن شراءهم قوة على خصائهم، قال: نعم.
قال محمد بن رشد: هذا نحو ما في أول رسم من سماع أشهب، من كتاب الأقضية، أنه لا بأس أن يشتري الرجل لنفسه الخصي والاثنين، ولا أحب له أن ينفق لهم؛ يعني يتخذهم متجرا، والمعنى في كراهة ذلك بين، ولم ير شراء الرجل الاثنين والواحد منهم مما ينفقه، ويكون قوة على خصائهم؛ لأنه قد علم أنه لا يشتريهم إلا القليل من الناس، فإذا كان القليل من الناس لا يشتريهم منهم إلا الواحد والاثنين، لم يكن ذلك تنفيقا لهم؛ وقد كان لمالك خصي، ولعمر بن عبد العزيز، وبالله التوفيق.

(7/353)


[مسألة: ما يجب على الكيال في الكيل]
جامع البيوع وسئل عما يجب على الكيال في الكيل، أيطفف المكيال أم يصبه عليه ويجلب ثم يكيل؟ فقال: لا يطفف ولا يجلب؛ لأن الله تعالى يقول: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} [المطففين: 1] فلا خير في التطفيف، ولكن يصب عليه حتى يجتبذه، فإذا اجتبذه أرسل يده ولم يمسك.
قال محمد بن رشد: كذا وقع في الرواية حتى يجتبذه، والصواب يجتنبذه، فإذا اجتنبذه، قال بعض أهل اللغة: الجنبذة ما ارتفع من كل شيء، والعامة تقول: الجنبذة بفتح الباء لما ارتفع من الأرض، إنما قلنا: هو الصواب؛ لأن الاجتباذ هو الجلب الذي منع منه؛ يقال: لا يطفف ولا يجلب، والتطفيف في الكيل هو الزيادة فيه على الوفاء، ومنه ما مضى القول فيه في رسم سلف، من سماع ابن القاسم في الرزم والتحريك، وقد يقع التطفيف على النقصان أيضا؛ قال تعالى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} [المطففين: 1] {الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ} [المطففين: 2] ، {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} [المطففين: 3] . فسمى النقصان تطفيفا، وقد قال مالك في الموطأ: ويقال لكل شيء وفاء وتطفيف، أي إن التطفيف يستعمل في الزيادة والنقصان.

[مسألة: ما اشتري وزنا من الزعفران أو غير ذلك وكيفية وزنه]
مسألة قيل له: أرأيت ما اشتري وزنا من الزعفران أو غير ذلك من

(7/354)


اللحم، ما حد ذلك؟ أيميل الميزان، أم حتى يستوي لسان الميزان؟ فقال ذلك أن يقوم لسان الميزان معتدلا ولا يميله، فإن سأله أن يميله، لم أر ذلك من وجه المسألة.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال: إن الوفاء في الوزن أن يقوم لسان الميزان معتدلا، فلا وجه للقول فيه، وأما سؤاله أن يميله، فإنما لم ير ذلك من ناحية المسألة؛ لأن ذلك مما مضى على فعله الناس؛ إذ هو من التسامح في البيع الذي يندب إليه المتبايعون؛ قال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «رحم الله عبدا سمحا إن باع، سمحا إن ابتاع، سمحا إن قضى، سمحا إن اقتضى» ، وكذلك سؤال الوضيعة بعد البيع، وقد مضى ذلك في الرسم الذي قبل هذا، وفي رسم الشجرة من سماع ابن القاسم.

[مسألة: عمر بن الخطاب وتخييره لأزواج النبي عليه السلام]
مسألة وقال: يزعمون أن عمر بن الخطاب خير أزواج النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: فمن أحب منهن أن يكون لها أرض بيضاء ونخل، جعله لها، ومن أحب، أجرى لها أوسقا طعمة؛ فمنهن من اختار الأوسق، ومنهن من اختار الأرض، فعمر بن الخطاب أول من أجرى لهن هذه الطعمة، قيل لمالك: أفترى أن يبيع أهل تلك الطعمة طعمتهم قبل أن يستوفوها؟ قال: لا أرى بذلك بأسا؛ لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من ابتاع طعاما فلا يبيعه حتى يستوفيه» . وهذا لم يبتع، إنما أعطوا عطاء، وكذلك طعام الجار الذي

(7/355)


يخرج للناس في الأرزاق، فلا أرى ببيع ذلك بأسا قبل أن يستوفى.
قال محمد بن رشد: إنما خير عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أزواج النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فيما خيرهن فيه؛ لأن النفقة كانت واجبة لهن بعد موت النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فيما أفاء الله عليه من بني النضير، وفدك، وسهمه بخيبر؛ بقوله عز وجل: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ} [الحشر: 6] الآية، كما كانت تجب لهن في حياته من أجل أنهن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ - كن محبوسات عليه، ليكن أزواجه في الجنة محرمات على غيره، يبين ذلك قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا يقتسم ورثتي دينارا ما تركت بعد نفقة نسائي، ومؤنة عائلتي؛ فهو صدقة» ؛ فكان أبو بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بعد النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يلي ما أفاء الله على نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من ذلك، مما كان يليه هو - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حياته؛ وكان ينفق منه على عياله، ويجعل ما بقي في الكراع والسلاح؛ وفي هذه الولاية تخاصم إليه علي والعباس، ليوليها كل واحد منهما بما كان يليها به - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم سار عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بعد أبي بكر في ذلك بسيرة النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وأبي بكر؛ غير أنه خير أزواج النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فيما يخترنه من إقطاع الأرض أو إجراء الأوسق؛ فهذا معنى قوله: فعمر بن الخطاب أول من أجرى لهن هذه الطعمة يريد لمن اختار ذلك منهن دون إقطاع الأرض، وقوله في السؤال لمالك: أفترى أن يبيع أهل تلك الطعمة طعمتهم قبل أن يستوفوها؟ معناه أفكان يجوز لمن أجرى له منهن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ - هذه الطعمة أن يبيعها قبل أن يستوفيها؟ فقال: نعم؛ لأن ذلك ليس ببيع، وإنما أعطين عطاء، يريد بحق وجب لهن لا عن عوض؛ ثم قال: وكذلك طعام

(7/356)


الجار الذي يخرج للناس في الأرزاق عطية لهم من بيت المال على غير عمل يعملونه، يجوز لهم بيعه قبل استيفائه؛ وتأويل حديث مروان بن الحكم في الصكوك التي خرجت للناس في زمانه بالمدينة، فتبايعها الناس فيما بينهم قبل أن يستوفوها، فدخل زيد بن ثابت، ورجل من أصحاب النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - على مروان فقالا: أتحل بيع الربا يا مروان؟ فقال: أعوذ بالله، وماذا قالا تلك الصكوك يتبايعها الناس ثم باعوها قبل أن يستوفوها، فبعث مروان الحرس يتبعونها وينزعونها من أيدي الناس، ويردونها إلى أهلها، أن المعنى في هذا أنها كانت قطائع أقطعها أهل المدينة من مال الله الذين كان يعمل من مصر في السفن إلى الجار، فباع الناس قطائعهم، وكان بيعها أولا حلالا، ثم إن من اشتراها باعها أيضا قبل أن يستوفيها؛ فكان بيعها الثاني حراما، فأمر مروان بفسخ البيع الثاني، ورده إلى الباعة الذين اشتروه أولا، ولم يفسخ بيع الذين أقطعوه أولا؛ وأما أرزاق القضاة وولاة السوق والمؤذنين والكتاب والأعوان والجند الذين يرزقون من الأطعمة، فلا يجوز لهم أن يبيعوها حتى يستوفوها؛ لأنها أجرة لهم على عملهم، بخلاف ما كان رفقا وصلة على غير عمل، أو على أنه مخير إن شاء عمل، وإن شاء لم يعمل، ويجوز بيع الأرزاق والعطاء السنة والسنتين، إن كانت داره مأمونة، فإن حبست انفسخ البيع، وكان للمبتاع رأس ماله؛ ولا يجوز بيع أهل العطاء؛ لأنه يبطل بموته، قال ذلك أشهب وابن وهب، وجماعة من فقهاء التابعين، وبالله التوفيق.

[ابتاع من رطاب رطبا بدرهم فاكتال الرطب وحازه]
ومن كتاب الأقضية
وسئل عمن ابتاع من رطاب رطبا بدرهم، فاكتال الرطب وحازه، ثم قال الرطاب: هات الدرهم، فقال له: قد دفعته إليك، فقال الرطاب: ما دفعت إلي شيئا؛ فقال: القول قول الرطاب ما

(7/357)


قبض الدرهم، ويكون ذلك له على المشتري يأخذه؛ لأنه لم يزل ولم يفارقه، إنما اكتال الرطب، ثم قال له: هات الدرهم؛ فقال له: قد دفعته إليك، فقال الرطاب: لم تدفع إلي شيئا؛ وكذلك الرجل يبتاع الطعام فاكتاله في وعائه، ثم يقول له رب الطعام: هات الثمن؛ فيقول المشتري: قد دفعته إليك، فيقول رب الطعام: ما دفعت إلي شيئا قبل أن يتزايلا، فقالا: لا أرى القول في هذا إلا قول رب الطعام، ويحلف وعليه اليمين، وذلك أنه لم يزايله.
قال محمد بن رشد: جعل مالك في هذه الرواية القول قول الرطاب مع يمينه أنه ما قبض منه الدرهم ما لم يعترفا إذا ادعى المبتاع أنه دفعه إليه، ولم يبين متى ادعى أنه دفعه إليه؛ فأما إن قال: دفعته إليه بعد أن قبضت الرطب، فلا اختلاف في أن القول قول الرطاب، وأما إن قال: دفعته إليه قبل أن أقبض الرطب، ففي ذلك ثلاثة أقوال؛ أحدها: أن القول قول البائع، وهو ظاهر قول مالك في هذه الرواية. والثاني: أن القول قول المبتاع، وهو قول مالك في رواية ابن القاسم عنه من كتاب ابن المواز. والثالث: أن القول قول المبتاع في كل ما الشأن فيه قبض ثمنه قبل قبض المثمون، وهو قول ابن القاسم في كتاب ابن المواز.
وجه القول الأول أن المبتاع مقر بقبض المثمون مدع لدفع الثمن، فعليه إقامة البينة على ما يدعي من الدفع، فإن لم تكن له بينة، حلف البائع، لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «البينة على من ادعى، واليمين على من أنكر» . ووجه القول الثاني أنه قد كان من حق البائع ألا يدفع إليه ما باع منه حتى يقبض ثمنه؛

(7/358)


لأن ذلك كالرهن في يده بالثمن، فدفعه إليه دليل للمبتاع على دفع الثمن؛ وكذلك قال في سماع ابن القاسم، من كتاب الرهون: إن الرهن إذا ألفي بيد الراهن، فالقول قوله مع يمين أنه قد دفع الدين الذي قد كان رهنه به، وهذا الذي ذكرناه أن من حق البائع ألا يدفع إليه ما باع منه، ولا يزنه له، ولا يكيله له إن كان مكيلا أو موزونا حتى يقبض ثمنه، هو أمر متفق عليه في المذهب، مختلف فيه في غيره؛ قيل: إنهما إذا اختلفا فقال البائع: لا أدفع السلعة حتى أقبض الثمن، وقال المبتاع: لا أدفع الثمن حتى أقبض السلعة؛ أجبر البائع على دفع السلعة أولا، وقيل: يجبر المبتاع على دفع الثمن أولا، وقيل: إنه لا يحكم على واحد منهما بالدفع ابتداء، ويقول الحاكم لهما من أحب منكما أن أقضي له على صاحبه، فليدفع إليه؛ وقيل: إن الحاكم ينصب أمينا يأمر كل واحد منهما بالدفع إليه، فيسلم الثمن للبائع، والسلعة للمبتاع، وقيل في ذلك غير ذلك.
ووجه القول الثالث أن العرف الجاري في تلك السلعة بقبض الثمن قبل المثمون، دليل يوجب أن يكون القول قول المبتاع، فإن افترقا، فلا اختلاف في أن القول قول المبتاع؛ وهذا كله فيما يتبايعه الناس في الأسواق بالنقد، شبه الصرف كيسير الحنطة والزيت، ومثل السوط والشراك والنعل، وأما الكثير لمن الطعام، والبز، والعروض، والرقيق، والدور، فالقول قول البائع: إنه لم يقبض ثمن ذلك كله إلى ما يجوز التبايع إلى مثله من المدة عند ابن القاسم، وقد روى عنه يحيى في العشرة: أن القول قول المبتاع في دفع ثمن الطعام، وإن كثر إذا قبضه وبان به وفارق بائعه، وخالفه يحيى، وأصبغ وغيره، فقالوا: إن

(7/359)


الكثير من الطعام كالبز والعروض؛ وقال ابن حبيب: أما الرفيق والدواب والرباع وما أشبه ذلك مما الأصل فيه ألا يباع على الدين، ولا على التقاضي، فالقول حول البائع أنه ما قبض، وإن تفرقا ما لم يمض لذلك السنة والسنتان، فيكون القول قول المبتاع أنه قد دفع؛ وأما البز والتجارات، وما تبايعه الناس على التقاضي، وإلى الآجال، فالقول قول البائع، وإن تفرقا ما لم يمض لذلك مثل العشر سنين ونحوها، فيكون القول قول المبتاع.

[احتكارالرجل ما عدا القمح والشعير من الطعام]
ومن البيوع الأول وسئل أيحتكر الرجل ما عدا القمح والشعير من الطعام؟ فقال: لا بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: قوله: إنه لا بأس باحتكار ما عدا القمح والشعير، معناه إذا كان ذلك في وقت لا يضر احتكاره فيه بالناس؛ إذ لا اختلاف في أنه لا يجوز احتكار شيء من الطعام ولا غيره في وقت يضر احتكاره بالناس، ويغليه عليهم؛ فهذا يدل على أنه لم يجز احتكار القمح والشعير خاصة بحال، ومذ هب ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة إجازة احتكار الطعام وغيره في الأوقات التي لا يضر الاحتكار فيه، ولا يغلي الأسعار؛ وذهب مطرف وابن الماجشون وغيرهما من أهل المدينة، إلى أنه لا يجوز احتكار شيء من الطعام، وقالوا: ليس وقت من الأوقات، ولا شراء الطعام في السوق وإخراجه منه يضر بالناس ويقلله عليهم، ويغلي سعره، قال ابن حبيب، وكذلك القطاني والحبوب كلها التي هي قوت للعباد أو علوفة للدواب؛ والأدم كلها: الزيت والسمن والعسل وما يتقوت به الناس من يابس التين والزبيب، وما أشبه ذلك من معايش الناس، سبيله سبيل القمح والشعير في أن احتكاره لا يجوز، أضر بالناس شراؤه أو لم يضر، ومن قوله: إن ما لا يجوز احتكاره، فلا يترك التجار أن يشتروه جملة، ويبيعوه

(7/360)


على أيديهم؛ فإن الواجب فيه على محتكره أن يباع عليه من الناس كافة بالثمن الذي اشتراه به، أو بسعر ذلك اليوم إن جهل ما اشتراه به، وهو يقول في السمن والعسل وما أشبهه من الأدم: إنه لا يمنع التجار من شرائه جملة ليبيعوه على أيديهم، فيأتي على قوله هذا إجازة احتكار الأدم في وقت لا يضر احتكارها بالناس، بخلاف الأقوات من الحبوب كلها، ويتحصل في احتكار الأطعمة أربعة أقوال:
أحدها: إجازة احتكارها كلها القمح والشعير، وغير ذلك من الأطعمة كلها في الأوقات التي لا تضر الحكرة فيها بالناس. والثاني: المنع من احتكارها كلها جملة. والثالث: إجازة احتكارها كلها ما عدا القمح والشعير. والرابع: المنع من احتكارها كلها ما عدا الأدم والفواكه؛ السمن، والعسل، والتين، والزبيب، وشبه ذلك. وقد قال ابن أبي زيد فيما ذهب إليه مطرف وابن الماجشون، من أنه لا يجوز احتكار شيء من الأطعمة، معناه في المدنية؛ إذ لا يكون الاحتكار أبدا إلا مضرا لأهلها؛ لقلة الطعام بها، فعلى قوله هم متفقون على أن علة المنع من الاحتكار تغلية الأسعار، وإنما اختلفوا في جوازه؛ لاختلافهم باجتهادهم في وجود العلة وعدمها؛ ولا اختلاف بينهم في أن ما عدا الأطعمة من العصفر والكتان والحناء وشبهها من السلع، يجوز احتكارها إذا لم يضر ذلك بالناس.

[مسألة: باع جارية واشترط أن ترضع ابنا له سنة]
مسألة وسئل عمن باع جارية، واشترط أن ترضع ابنا له سنة، فقال مالك: إن ماتت الجارية، ثم قال: لا خير في هذا، فقلت له: أرأيت - أمتع الله بك - إن شرط عليه أن الجارية إن ماتت أخلف له مكانها؟ فقال: لا يعجبني، وإنه ليكفي من هذه الأشياء ما مضى

(7/361)


عليه الناس من ترك العمل به؛ لأنهم الذين أمرنا بالاقتداء بهم، والاتباع لهم.
قال محمد بن رشد: إنما قال: لا يعجبني، وإن اشترط عليه أن الجارية إن ماتت أخلف له مكانها؛ لأنه حمل الشرط على أن الرضاع في عين الجارية ما لم تمت، فإن ماتت أتى بخلفها، خلاف ما سأله عليه في أول رسم من سماع ابن القاسم؛ وإذا كان الرضاع مشترطا في عين الأمة المبيعة، دخله التحجير على المشتري في عين الأمة التي اشترى؛ ولو باع الجارية على أن على المبتاع أن يأتي بمن يرضع ابنه سنة مضمونا ذلك عليه، لجاز، وقد مضى هذا المعنى في أول رسم في سماع ابن القاسم.
وقد ذهب بعض الشيوخ إلى أن الفرق بين هذه المسألة، وبين مسألة سماع ابن القاسم، أنه هاهنا اشترط على البائع أن ترضع الأمة التي باع ولده، وهناك اشترط على البائع أن ترضع الأمة التي باع ولدها الحر، فكره ذلك في ولده؛ إذ لم يجربه عمل، وهو فرق غير لائح.

[مسألة: ابتياع ألبان الغنم شهرا]
مسألة وسئل عن ابتياع ألبان الغنم شهرا، فقال: نحن نقول: لا بأس به؛ لأنه يعرف ذلك، ولكن إن ماتت شاة أو عطبت، أو أصابها شيء ينقص لبنها وضع عنه، قيل له: أرأيت إن نقص لبنها كما ينقص ألبان الغنم؟ قال: لا يوضع عنه، ذلك أمر قد عرف، إذا

(7/362)


كان ذلك نقصان مثلها، العيون ليست تكون في الشتاء، مثلها في الصيف، إذا كان الصيف نقص ماؤها؛ قال: ولا أرى بأسا، نقد الثمن أو لم ينقد.
قال محمد بن رشد: مثل هذا في سماع سحنون، من كتاب كراء الدور والأرضين، وهو صحيح بين لما في المدونة؛ لأن النقصان المعروف قد دخل عليه المبتاع، فلا رجوع له به، وإنما يرجع بالنقصان المتفاحش الخارج عما جرت به العادة، وقد بين في كتاب التجارة إلى أرض الحرب من المدونة صفة التقويم فيما مات من الغنم، إذا اشترى لبنها بيانا شافيا لا زيادة عليه، وشراء لبن الغنم عكس شراء ثمرة المقثأة، يجوز شراء لبن الغنم شهرا أو شهرين إذا عرف وجه حلابها، ولا يجوز شراء لبنها إلى أن ينقطع، ويجوز شراء ثمر المقثأة إذا بدا صلاحها حتى ينقطع، ولا يجوز شراء ثمرتها شهرا ولا شهرين، وإنما افترقت لافتراق الغرر فيها، فالغرر في المقثأة شراء ما تطعم شهرا أو شهرين؛ لأن حملها يكثر بالحر، ويقل بالبرد، ولا يدرى هل يشتد الحر في تلك المدة، أو لا يشتد، وحد انقطاعها معلوم عند الناس، وللغرر في لبن الغنم شراؤه إلى أن ينقطع؛ لأن ذلك ليس بمعروف عند الناس، قد يتعجل ويتأخر، وشراؤه شهرا أو شهرين جائز؛ لأن ذلك لا يختلف بحر ولا برد، وإنما يجوز ذلك في الشياه الكثيرة، ولا يجوز في الشاة ولا الشاتين؛ وقد أجاز في المدونة أن تكثر البقرة ويشترط حلابها إذا عرف وجهه، فقيل: إن ذلك معارض لكراهيته بيع لبن الشاة والشاتين، وقيل: ليست بمعارضة لها؛ لأن الغرر خف فيها بما انضاف إليها من الكراء، كما خف في الغنم إذا كثرت، وهو الأظهر.

(7/363)


[مسألة: يأتي إلى الصبرة فيقول لصاحبها أبتاع منك كل ما فيها ما بلغت]
مسألة وسئل عن الذي يأتي إلى الصبرة، فيقول لصاحبها: أبتاع منك كل ما فيها ما بلغت ثلاثة آصع بدينار، وتزيدني ثلاثة آصع على الجملة؛ فقال: لا خير فيه، وليس بحسن؛ لأنه غرر؛ لأنه لا يدري كم يصيب كل دينار من الزيادة؛ فأما بيع الصبرة ثلاثة آصع بدينار ما بلغت، فإني لا أكره هذا؛ فأما الأول فإنه قال: يزيدني ثلاثة آصع على الجملة، فإني أكرهه ولا أراه حسنا.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال؛ لأن من شرط صحة البيع أن يكون الثمن معلوما، وإذا اشترط زيادة ثلاثة آصع على الجملة عاد الثمن مجهولا؛ إذ لا يدري المبتاع ولا البائع كم صاع تبايعا بدينار؛ لأنه إن وجد في الصبرة تسعة آصع وقع شراؤه أربعة أصوع بدينار، فإن وجد فيها اثني عشر صاعا، وقع شراؤه ثلاثة آصع، وثلاثة أرباع صاع بدينار؛ وكذلك إن زادت أو نقصت على هذا التمثيل، وعبد العزيز بن أبي سلمة لا يجيز شراء جملة الصبرة على الكيل بسوم معلوم؛ لأن السوم وإن كان معلوما، فثمن الجملة مجهول لا يعلم حال العقد، وإنما يعلم بعد الكيل؛ فمن شرط صحة البيع عنده أن يكون الثمن معلوما حال العقد، ولا يشترط فيه على مذهب مالك الذي يجيز شراء الصبرة على الكيل، إلا أن يكون معلوما لا أكثر.

[مسألة: ابتاع قصبا وأبوابا وكل بنيان في الدار إلا أن البقعة قطيعة من أمير المؤمنين]
مسألة وسئل عمن ابتاع قصبا وأبوابا، وكل بنيان في الدار، إلا أن البقعة قطيعة من أمير المؤمنين، على أن التباعة في كل ما اشترى على البائع إلا البقعة، وما لحق المشتري في شيء مما اشترى سوى البقعة، فهو على البائع؛ فقال: هذا البيع ليس بجائز ولا حسن.

(7/364)


قال محمد بن رشد: ما أقطعه أمير المؤمنين من أموال المسلمين التي يجوز بيعها، فإقطاعه حكم لا يجوز له الرجوع فيه في حياة المقطع ولا بعد وفاته؛ وهو مال من ماله بنفس الإقطاع، يورث عنه كسائر ماله، وهو قول ابن القاسم، في سماع يحيى، من كتاب السداد والأنهار؛ فمعنى هذه المسألة أن الذي أقطعه أمير المؤمنين البقعة فبناها، لما أراد بيعها خشي أن تكون البقعة التي أقطع إياها، لم يستحسن ملكها المسلمين، وأن يكون لها رب يقوم فيها فيستحقها، أو لعله علم ذلك، فقال للمبتاع: إنما أبيعك البنيان والأبواب والقصب - والبقعة تبع لذلك، فلا تباعة لك علي فيها - إن استحقت من يدك تحيلا؛ لإسقاط الرجوع عليه بالاستحقاق؛ وهذا من التحيل لإجازة ما لا يجوز، نحو ما حكى ابن حبيب في الواضحة، في الرجل تكون له رحى طاحنة، فيريد كراءها، ويقول للمكتري: إنما أكري منك البيت والقنوات فارغة دون شيء من آلة الرحى؛ لئلا يرجع عليه بما تعطلته الرحى من قلة الماء، أو ذهاب آلتها؛ فالكراء على هذا فاسد، فوجب أن يكون البيع فاسدا، كما لو باع الدار بشرط أن استحقت بقعتها لم تكن علي تباعة، ولو باع معه البنيان خاصة دون البقعة على أن يقلعه، أو على أن يكون شريكا معه في الدار بقيمة البنيان من قيمة البقعة؛ لكان البيع على هذا جائزا، وقد قال ابن دحون: إنما لم يجز هذا البيع؛ لأنه غرر، لا يدري متى يأخذ السلطان أرضه ويخرجه، ولا متى يزيد عليه في كراء الأرض فينقص ثمن النقض لكثرة كراء البقعة، وهذا غير صحيح؛ إذ ليس للإمام أن يرجع فيما أقطع في حياة المقطع، ولا بعد وفاته، فيلزم المبتاع كراء البقعة؛ وهذا بيّن.
وقد استدل جماعة من الشيوخ أيضا بهذه المسألة على أنه لا يجوز بيع الأنقاض المبتنات في

(7/365)


البقاع المحبسة، وفي البقاع التي للسلطان من حقوق المسلمين، وهذا استدلال فاسد؛ لأن المعنى فيها إنما هو ما ذكرته وبينته مما لا إشكال فيه، والحمد لله؛ والقول في بيع الأنقاض، وما في ذلك من الاختلاف، وتبيين الصحيح منه، يتسع ويخرج عفا قصدنا إليه من الاختصار والاقتصار على شرح ما تفتقر المسألة إلى شرحه دون التطويل لسياقة ما يتسلسل بذلك من الشبيه والنظير.

[مسألة: اشترى حائطا غائبا ولم ينقد فتلف الحائط بسيل أو غيره]
مسألة وسئل عمن اشترى حائطا غائبا ولم ينقد، فتلف الحائط بسيل أو غيره قبل أن يقبضه المشتري؛ قال: أما الحائط يشترى على عدد نخل نقد له، أو الدار على أذرع مسماة تذرع له، فإن ضمانها على البائع؛ أما الشيء الذي قد رآه، ولم يشتره على عدد نخل ولا أذرع مسماة، ثم تلف فهو من المبتاع.
قال محمد بن رشد: معنى شراء الحائط على عدد نخل نقد له، أو الدار على أذرع مسماة تذرع له، هو أن يشتري منه الحائط على أن فيه من النخل كذا وكذا نخلة، وأن يشتري منه الدار على أن ذرعها كذا، وكذا ذراعا، والشراء على هذا الوجه مختلف فيه: قيل: إن ذكر عدد النخل وذرع الدار صفة لذلك، وقيل: إنه بمنزلة من اشترى عددا من النخل، وذرعا من الدار حسبما مضى القول فيه في أول السماع؛ وتحصيل الاختلاف في الضمان في ذلك، أن في كل واحد من الوجهين قولين، وفي الجملة ثلاثة أقوال؛ أحدها: أن الضمان من البائع حتى يقبضها المبتاع، وإن كان الشراء على رؤية، وهو أحد قولي مالك في المدونة، واختيار ابن القاسم

(7/366)


فيها. والثاني: أن الضمان من المبتاع، وإن كان اشتراء الحائط على عدد نخل نقد له، والدار على أذرع تذرع له، وهو قول ابن القاسم في سماع أبي زيد من هذا الكتاب، ورواية ابن أبي أويس عن مالك. والثالث: تفرقته في هذه الرواية بين الوجهين، فقف على ذلك وتدبره.

[مسألة: يشتري الدار الغائبة عنه مذارعة]
مسألة وسألته عن الذي يشتري الدار الغائبة عنه مذارعة، أيصلح النقد فيها مثل الذي يشتري غير مذارعة، فقال: لا يصلح، أرأيت إن كان قيل له مائة ذراع، فوجد تسعين ذراعا، لا يعجبني النقد فيها.
قال محمد بن رشد: إنما لا يجوز النقد فيها إذا كان البائع هو الذي قال له: إن فيها كذا وكذا ذراعا، وأما إن كان قال ذلك له غير البائع من مخبر أو رسول، فالنقد في ذلك جائز؛ يبين هذا ما تقدم في رسم نذر سنة يصومها، من سماع ابن القاسم.

[مسألة: القوم يجتمعون في البيع فيقولون لا نزيد على كذا وكذا]
مسألة وسئل عن القوم يجتمعون في البيع، فيقولون: لا نزيد على كذا وكذا، فقال: لا والله، ما هذا بحسن.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال؛ لأن تواطؤهم على ذلك إفساد على البائع، وإضرار به في سلعته، وهو نحو ما في رسم

(7/367)


مسائل بيوع وكراء، من سماع أشهب، من كتاب العيوب؛ لأنه استخف به أن يقول المشتري للسلعة في سوقها للرجل يقف عليه: كف عني فيها، فإن لي بها حاجة؛ وكره الأمر العام من ذلك، وقد مضى القول على ذلك هناك، فإن وقع هذا وأقر به القوم، أو شهدت به عليهم بينة؛ كان البائع بالخيار إن كانت السلعة قائمة بين أن يمضي البيع أو يرده، وإن فاتت كان له الأكثر من القيمة، أو الثمن على قياس حكم الغش والخديعة في البيع؛ لأن ذلك غش للبائع، وإن أمضى البائع السلعة بالثمن، فهم كلهم فيها أشراك؛ لتواطئهم على ترك الزيادة فيما زادت أو نقصت أو تلفت؛ يكون من حق المبتاع منهم أن يلزمهم الشركة إن نقصت أو تلفت، ويكون من حقهم أن يلزموه ذلك إن زادت أو كان فيها ربح ظاهر، وسواء كان هذا في سوق تلك السلعة أو في غير سوقها، أرادوها للتجارة أو لغير التجارة، كانوا من أهل تلك التجارة، أو لم يكونوا، بمنزلة أن لو وقفوا على المبتاع وهو يبتاع، فقالوا له: أشركنا في هذه السلعة، فقال لهم: نعم، وإنما يفترق ما ذكرناه إذا وقفوا عليه، حتى تم ابتياعه، ولم يقولوا له شيئا، أو قالوا ذلك له، فسكت، ولم يجبهم على ما سيأتي القول فيه في أول نوازل أصبغ، والله ولي التوفيق.

[مسألة: يبيع ثلاثمائة شجرة تين قد طابت يكون فيها شجرات شتوية لم تطب]
مسألة وسئل عن الذي يبيع ثلاثمائة شجرة تين قد طابت، يكون فيها عشر شجرات، أو عشرون شجرة شتوية لم تطب، فقال: أرأيت ذلك الشتوي أيطيب الآن؟ فقال: لا؛ ولا إلى شهر؛ قال: فلا خير فيه، فقيل له: وكذلك العنب، فقال: نعم؛ قيل له: فيبيع كل واحد على حدة؟ قال: نعم.

(7/368)


قال محمد بن رشد: أما إذا كان الشتوي لا يطيب حتى ينقضي ثمر الذي ليس بشتوي، فلا اختلاف في أنه لا يجوز بيع الشتوي بطيب الذي ليس بشتوي، إلا أن يكون الشتوي في حيز التبع: الثلث فأقل، فقد قيل: إنه يجوز بيعه معه، وفي كتاب محمد بن المواز دليل على هذا القول؛ وقال أبو إسحاق التونسي: إن ذلك لا يجوز؛ إذ لا ضرر على المبتاع في بقاء ما لم يطيب للبائع، إذ لا بد له من دخول الحائط لسقيه على كل حال؛ ولو كان المبتاع أراد أن ينفرد بعياله في الحائط وشرط السقي على نفسه؛ لجاز ذلك قياسا على الثمرة في الدار، فهذه الرواية خلاف القول الذي يدل عليه ما في كتاب محمد بن المواز؛ إذ لم يجز فيها بيع عشرين شجرة شتوية بطيب ثلاثمائة غير شتوية، ويحتمل ألا يكون خلافا لما ذهب إليه أبو إسحاق التونسي، فتأمل ذلك وانظره.

[مسألة: الشجر غير النخل إذا بيعت أصولها]
مسألة قال: وقلت لمالك: إني سألتك عن الشجر غير النخل إذا بيعت أصولها، وفيها ثمر لمن هو؟ فقلت: إذا بيعت، وقد ألحقت بثمرتها للبائع، إلا أن يشترطها المبتاع؛ فجعلت اللقاح حد ذلك، فما اللقاح؟ قال اللقاح: أن يثمر الشجر، ثم يسقط منها ما يسقط منه، ويثبت منها ما يثبت منه؛ فإذا كان ذلك، فقد ألقحت الشجرة وهو اللقاح، وقلت له: وليس له ذلك بأن تورد الشجر، فقال: لا، إنما ذلك الذي يثمر فيسقط منه ما يسقط، ويثبت منه ما يثبت، فإذا كان ذلك، فهو اللقاح؛ وقد يكون ذلك في الأعناب والرمان، يسقط بعضه ويثبت بعضه، وذلك اللقاح.
قال محمد بن رشد: هذا هو المشهور في المذهب، المعلوم من

(7/369)


قول مالك: إن اللقاح فيما سوى النخل من الثمر، هو أن يثبت منه ما يثبت، ويسقط ما يسقط، كالإبار في النخل، وقد كان مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقول: إن النوار فيما يورد من الشجر بمنزلة الإبار في النخل، ثم رجع إلى أن اللقاح فيها كالإبار في النخل، وفي رسم العرية، من سماع عيسى، مثل قول مالك الأول، قال فيه: والزرع حين يطلب بمنزلة النوار في الشجر، وأما الزرع فقيل: إن نباته كالإبار في النخل، وهو قول ابن القاسم وروايته عن مالك، وقيل: بل حتى يستقل ويفرق، وقيل: بل حتى يأخذ الحب، وقع ذلك في أصل الأسدية، وهو أحد قولي ابن عبد الحكم.

[يشتري مشتري العبد ماله بعد أن يشتريه]
من سماع عيسى
بن دينار من كتاب نقدها نقدها قال عيسى: وكان ابن القاسم يقول: لا نرى أن يشتري مشتري العبد ماله بعد أن يشتريه، ولم يكن ما استثنى ماله، لا يرى به بأسا أن يشتريه وإن لم يعلمه به، يصنع كما كان يصنع لو استثناه؛ يريد إذا كان ماله عينا يشتريه بالعين، وأما العروض فليس فيه كلام، وفي سماع أصبغ عن ابن القاسم: إن كان بقربه، فلا بأس به، وإن كان قد طاق فلا خير فيه؛ لأنه لا يدري كم هو؟ وهل نقص أم لا؟ قال أصبغ: أو زاد بتجارة أو فائدة، قال ابن القاسم: وليس شيء من ذلك مضمونا على السيد، فإن ابتاعه بحضرة ذلك أخذ ما وجد، ولم يكن على البائع أن يوفيه شيئا؛ لأنه ليس شيء من ذلك بمضمون على البائع؛ وقال في ثمر النخل: لا يستثنيه ثم يشتريه: إنه مثله، لا بأس أن يشتريه، وإن لم يبد

(7/370)


صلاحه؛ قال عيسى: وذلك إذا كان بحدثان شرائه، وأما إذا طال، فلا خير فيه.
قال محمد بن رشد: أجاز ابن القاسم في رواية عيسى عنه شراء مال العبد، وثمر النخل بعد الصفقة، إذا لم يشترط ذلك عند الصفقة، ولم يفرق في ذلك بين قرب ولا بعد، ومثله في الجوائح من المدونة في شراء ثمر النخل بعد الصفقة، وروى أشهب عن مالك، في رسم البيوع الأول، من سماعه من كتاب العيوب، أن ذلك لا يجوز قرب أو بعد، فكنت أقول: إن تفرقة عيسى وابن القاسم في رواية أصبغ عنه بين القرب والبعد في ذلك، مفسرة لقوله في رواية عيسى عنه؛ وأن الاختلاف إنما هو في القرب، ولا اختلاف في البعد من أجل أن الأمر إذا طال، فليس الذي اشترى هو الذي كان يجوز له أن يستثني؛ والذي أقول به الآن: إن التفرقة بين القرب والبعد، قول ثالث في المسألة، وأن ذلك جائز على ظاهر رواية عيسى هذه، وما في المدونة من القرب والبعد؛ لأن لكل قول منهما وجها من النظر.
فوجه إجازة ذلك في القرب والبعد، هو أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما نهى عن بيع الثمر قبل أن يبدو صلاحها إذا بيعت دون الأصول، من أجل أن المشتري لا يضمنها بالعقد؛ إذ هي في أصول البائع، فكان بيعها غررا، وأجاز - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمبتاع الأصول أن يستثنيها بقوله: «من باع نخلا قد أبرت فثمرتها للبائع، إلا أن يشترطها المبتاع» ، وإن كان إذا استثناها قد ابتاعها بما ينو بها من الثمن؛ إذ لا غرر في ذلك، من أجل أن

(7/371)


المبتاع قد قبضها وضمنها بكونها في أصوله، فكذلك إذا اشتراها في صفقة أخرى، يجوز قرب أو بعد؛ إذ لا فرق في ذلك من أجل أن المبتاع يقبضها ويضمنها بالعقد؛ لكونها في أصوله؛ ووجه المنع من ذلك في القرب والبعد، هو أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها» ، فوجب أن يحمل النهي على عمومه في كل حال، ولا يخصص من ذلك إلا ما خصصته السنة من الاشتراط في عقد ابتياع الأصول، ووجه التفرقة بين القرب والبعد، هي أن السنة إنما أجازت الاشتراط في أصل الصفقة، فلا يجوز أن يشتري بعدها، إلا ما كان له أن يشترط فيها؛ وإذا بعد الأمر، فليس الذي اشترى هو الذي كان له أن يشترط؛ إذ قد زادت الثمرة أو نقصت؛ وكذلك مال العبد؛ لاحتمال زيادته ونقصانه؛ وأشهب يفرق بين ثمرة النخل ومال العبد، فيجيز شراء ثمر النخل بعد الصفقة، يريد في القرب والبعد، ولا يجيز شراء مال العبد، يريد لا في القرب ولا في البعد، وهو قول رابع في المسألة.
قال أبو إسحاق التونسي: وشراء ثمر النخل أبين من شراء مال العبد؛ لأن الثمرة تدخل بالعقد في ضمانه، لكونها في أصوله، فيرتفع الغرر بذلك، وعندي ألا فرق بينهما؛ لأن مال العبد أيضا إنما يشتريه ليكون للعبد كما كان، فإنما جاز؛ لكونه لاحقا بمال العبد، ألا ترى أنه لو اشتراه لنفسه أو بعد أن باع العبد، لم يجز؛ كما لو اشترى الثمرة بعد أن باع الأصل لم يجز، وحكم شراء الزرع بعد الأرض، حكم شراء الثمرة بعد الأصل؛ يدخل في ذلك الأقوال الثلاثة: الجواز، والمنع، والفرق بين القرب والبعد.
قال يحيى: وحد القرب في ذلك العشرون يوما ونحو ذلك، وفي قوله في أول المسألة يريد إذا كان مال العبد عينا يشتريه

(7/372)


بالعين؛ وأما العروض فليس فيه كلام نظر؛ لأن مال العبد إذا كان عينا فوقع على معرفته، لم يجز أن يشتريه إلا بما يجوز لغيره أن يشتري به العين، كما أنه إذا كان عروضا أيضا فوقع على معرفتها، لم يجز أن يشتريها إلا بما يجوز لغيره أن يشتري به تلك العروض، وإذا لم يقع على معرفته واشتراء على الجهل به، فسواء كان عينا أو عرضا، يجوز له أن يشتريه بما شاء من عين أو عرض، وإن كان ذلك لا يجوز لغيره؛ وقد وقع من قول أصبغ في آخر أول رسم من سماعه بيان هذا؛ فمعنى قوله: إن مال العبد المجهول الذي لا يعلم ما هو يجوز أن يشتريه بعين، وإن كان فيه عين، ولا يجوز له على مذهب ابن القاسم أن يشتري بعضه، كما لا يجوز له أن يشترط بعضه، إلا أن يكون معلوما، فيشتري منه ما شاء بما شاء، مما يجوز له أن يشتريه به.

[مسألة: يبيع الثمر في رءوس النخل حين تزهى فتيبس]
مسألة وقال في الذي يبيع الثمر في رءوس النخل حين تزهى فتيبس، ثم يأتي فيستقيله، قال: لا يصلح ذلك؛ لأنه كأنه أخذ من ثمن رطب ثمرا.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة اختلف فيها قول مالك، في سماع أشهب، من كتاب السلم والآجال، وقد مضى القول عليها هناك مستوفى، فأغنى عن إعادته هنا.

[مسألة: اشترى زيتا فكال له مطرا ثم كال آخر فوقع على وعاء المشتري فانكسرا]
مسألة وسألته عن الرجل يشتري من الرجل زيتا، فأمر أجيرا له أن يكيل له، فكال مطرا فصبه في وعاء المشتري؛ ثم كال آخر فوقع على وعاء المشتري فانكسرا جميعا؛ قال: أما الثاني، فليس من

(7/373)


المشتري هو من البائع، وليس على الأجير فيه شيء، وأما الأول الذي انكسر في وعاء المشتري، فعلى الأجير ضمانه؛ لأنه من سببه.
قال محمد بن رشد: المطر خفيف، وهو مكيال يكال به؛ والمسألة كلها صحيحة بينة المعنى.
قوله فيها: إن الكيل الثاني الذي انكسر بعد امتلائه، وقبل أن يصبه في إناء المشتري، ضمانه من البائع لا من المشتري صحيح؛ لأن انكساره بيد أجير البائع، كانكساره بيد البائع لو كان البائع، هو متولي الكيل؛ لأن يد أجيره كيده، ولا ضمان على الأجير فيما سقط من يده مما استؤجر عليه؛ وإذا ضمنه لزمه غرمه من بقية الزيت، إلا أن يرضى المشتري؛ أن يأخذ من غيره، ولو كان آخر كيل وقد فني الزيت، رد إليه ما ينوبه من الثمن، إلا أن يتراضيا على أخذ مثله قبل التفرق؛ ولا اختلاف في أن الكيل لو سقط من يد البائع، وهو يكيل بعد امتلائه وقبل أن يصبه في وعاء المشتري، أنه من البائع، فكذلك إذا سقط من يد أجيره على الكيل، وإنما اختلف إذا كان المبتاع هو الذي يكتال لنفسه أو وكيله على ذلك أو أجيره، إذا قال له البائع: كل لنفسك؛ فاكتال لنفسه، أو استناب في ذلك أحدا، أو استأجره عليه، فسقط الكيل من يده أو من يد وكيله، أو من يد أجيره بعد أن امتلأ، وقبل أن يصبه في وعائه، فانكسر وذهب ما فيه؛ فروى يحيى بن يحيى، عن ابن القاسم، في رسم يشتري الدور والمزارع من سماعه بعد هذا: أن مصيبته من البائع؛ وقال سحنون في نوازله: إنه إن انكسر بعد أن امتلأ، فمصيبته من المبتاع،

(7/374)


وكذلك لو كان الذي يكيل أجيرا لهما جميعا، أو وكيلا استأجراه للكيل، أو استعاناه في ذلك، وسواء في هذا، كله كان المكيال للبائع أو للمبتاع، إلا أن يكون المكيال هو الذي ينصرف به المبتاع إلى منزله، ليس له إناء غيره، فيكون ضمان ما فيه منه إذا امتلأ، كان له أو للبائع استعاره منه المبتاع، قاله ابن وهب في رواية ابن أبي جعفر عنه، وهو صحيح، والاختلاف في هذا، جار على اختلافهم فيمن اشترى سلعة حاضرة بعينها، هل تدخل بالعقد في ضمان المبتاع، ولا يكون على البائع فيها حق توفية؟ أو لا تدخل في ضمانة حتى يقبضها، أو يمضي من المدة ما كان يمكنه قبضه فيها، لو أراد أن يقبضها؟ لأن الكيل إذا ملأه المشتري لنفسه أو أجيره، فقد تعين ما فيه له، وصار كالسلعة الحاضرة المبتاعة، فتلف ما فيه قبل أن يفرغه في وعائه، كتلف السلعة الحاضرة عقيب البيع قبل إمكان القبض، والقولان في السلعة الحاضرة المبيعة قائمان من المدونة مما وقع في كتاب البيوع الفاسدة من المدونة، وفي كتاب بيوع الآجال منها.
وإنما لم يدخل هذا الاختلاف إذا كان البائع هو الذي يكيل؛ إذ لا يتعين ما في المكيال للمشتري بامتلائه؛ إذ من حق البائع أن يأخذ ما في المكيال لنفسه إذا ملأه، ويقول للمشتري: أكيل لك غيره، ولو كان المكيال الذي انكسر بيد البائع آخر كيل بقي للمشتري، وقد فني زيت البائع الذي باع منه الكيل المسمى؛ لدخل الاختلاف المذكور في ذلك، من أجل أنه قد تعين للمشتري، إذ لم يبق للبائع من الزيت ما يوفيه منه غيره، وكذلك لو كان البائع، وأخذ في صب الكيل في وعاء المشتري بعد أن امتلأ، فسقط من يده فانكسر وذهب ما فيه قبل أن يستوفي تفريغه؛ لدخل الخلاف

(7/375)


المذكور أيضا فيما ذهب مما كان بقي في المكيال، إذ قد تعين للمشتري ما بقي في المكيال بشروع البائع في تفريغه في وعاء المشتري، ولا اختلاف بينهم في أن مصيبة ما في المكيال من البائع إذا انكسر قبل أن يمتلئ، ولو كان البائع، فلما امتلأ الكيل دفعه إلى المشتري ليفرغه في وعائه، فسقط من يده قبل أن يفرغه؛ لكان ضمانه منه؛ فلا خلاف في هذا بين ابن القاسم وسحنون، وقوله في الرواية.
وأما الأول الذي انكسر في وعاء المشتري، فعلى الأجير ضمانه صحيح؛ لأنها جناية منه على المشتري هو لها ضامن؛ لأن الأجير عند ابن القاسم لا يضمن ما سقط من يده، ولا ما وطئ عليه فكسره؛ وقال أشهب في المدونة: إنه يضمن ما وطئ عليه، بخلاف ما يسقط من يده، ولا اختلاف بينهم في أنه يضمن ما سقط ذلك الشيء عليه من يده فكسره، ولو كان البائع هو الذي سقط من يده المكيال على وعاء المشتري فانكسر، وكسر ما في وعاء المشتري، للزمه غرم ما كان في وعاء المشتري من زيت مثله، ولا يلزمه غرمه من ذلك الزيت إلا أن يشاء، وأما ما كان في المكيال؛ فيلزمه غرمه من ذلك الزيت، إلا أن يرضى البائع أن يأخذ من غيره، فإن كان الكيل آخر كيل، ولم يبق عند المشتري شيء من ذلك الزيت، رد من الثمن ما يجب له، إلا أن يتراضيا على أن يعطيه من زيت غيره، فيجوز قبل التفرق.

[مسألة: بيع صبرة قمح وعشرة أرادب عدس بدينار]
مسألة وقال في صبرة قمح، وعشرة أرادب عدس بدينار، قال: لا خير فيه؛ كذلك قال لي مالك؛ لأن الخطار يدخله، إلا أن يكون كيلا كله، أو جزافا كله، لا يشتري كيلا شيئا من الأشياء، وجزافا من غيره؛ وقد قال لي مالك: إنه عن مثل هذا.

(7/376)


قال محمد بن رشد: قد مضى القول في هذه المسألة، في رسم شكل من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته؛ وسيأتي إن شاء الله في رسم البيع والصرف من سماع أصبغ، تمام القول فيما يتعلق بها.

[مسألة: اشترى من رجل سلعة بمائة دينار قائمة وشرط عليه في عقدة البيع]
مسألة وسئل عن رجل اشترى من رجل سلعة بمائة دينار قائمة، وشرط عليه في عقدة البيع أن يحمل له على وزن مائة قائمة، يدخل في ذلك ما دخل؛ قال: ليس فيه خير؛ وقيل له: إنه قد اشترطه، فقال: أرأيت ما لا يجوز في القضاء، أيجوز في البيع، وذكر مسألة مالك في القضاء، قيل له: أيفسخ هذا البيع؟ قال: إن أدرك فسخ، وإن فات، لم أره مفسوخا.
قال محمد بن رشد: لم يجز أن يبيع منه سلعة بمائة دينار قائمة على أن يأخذ منه دنانير مجموعة بوزن المائة القائمة، أن يجعل المائة القائمة صنجة يأخذ بها دنانير مجموعة، كما لا يجوز ذلك في القضاء، يريد كما لا يجوز إذا كان له عليه مائة دينار قائمة، أن يأخذ منه دنانير مجموعة بوزنها، بأنه يأخذ مائة دينار قائمة فيجعلها صنجة؛ يقضيه بها دنانير مجموعة، وإنما لم يجز ذلك في القضاء ولا في البيع؛ لأن الدنانير القائمة تجوز عددا، ويعرف وزن كل واحد منها على الانفراد، ولا بد أن يكون بعضها أوزن من بعض.
فإذا جمعت كلها في الوزن لم يعرف حقيقة ما يكون فيها من الوزن، فإذا باع سلعة على هذا، فكأنه قد باعها بثمن مجهول؛ إذ لا يعرف حقيقة وزن ما باعها به من الدنانير المجموعة، إلا أنه رأى الجهل في ذلك يسيرا؛ إذ لا يتفاوت الوزن في ذلك تفاوتا بعيدا، فرآه بيعا مكروها، فسخه في القيام وأمضاه في الفوات، وأما القضاء فهو أشد؛ لأنه إذا أخذ

(7/377)


بوزن القائمة التي له مجموعة، لا يدرى هل أخذ أقل في الوزن أو أكثر؛ إذ لا بد من أن يزيد في الوزن أو ينقص، وهو يغتفر فضل عدد القائمة التي له رجاء زيادة الوزن، لا سيما والصرافون يزعمون أن الذهب إذا جمع نقص، وإذا فرق زاد، وهذا مثل قوله في المدونة في مسألة الدرهمين الفردين يؤخذ بوزنهما تبر فضة.

[مسألة: اشترى مائة أردب من طعام بعينه فقصر عن المائة]
مسألة وسئل عن رجل اشترى مائة أردب من طعام بعينه فقصر عن المائة، فأراد أن يأخذ عدسا ثمن ذلك، رضيا بذلك جميعا، فقال: إذا كان طعاما بعينه، فلا بأس إذا لم يكن فيه وفاء؛ فإن كان فيه وفاء، فلا خير فيه، وإن كان مضمونا، فلا خير فيه؛ لأنه بيع الطعام قبل أن يستوفى.
قال محمد بن رشد: هذا بيّن على ما قال؛ لأن الطعام المشترى إذا كان بعينه، ولم يكن فيه وفاء، فالواجب أن ينتقض من البيع بحساب ما نقص من الطعام، ويرد البائع على المبتاع ما يجب لذلك من الثمن، فجاز للمبتاع أن يأخذ منه بما يجب له عليه من الثمن بما شاء من الطعام أو العروض إذا تعجل؛ فإن كان فيه وفاء أو كان سلما مضمونا، لم يجز له أن يأخذ في شيء منه عدسا وما سوى طعامه؛ لأنه إذا فعل ذلك كان قد باع ما وجب له من الطعام بما أخذ من غير صنفه، أو من العروض، فدخله بيع الطعام قبل أن يستوفى.

(7/378)


[مسألة: اشترى من رجل طعاما بعينه إلى أجل ثم غاب أحدهما من عذر أو غيره]
مسألة وسئل عن رجل اشترى من رجل طعاما بعينه إلى أجل، ثم غاب أحدهما من عذر أو غيره، حتى مضى الأجل، فأحب أحدهما إتمام البيع وكره الآخر، قال: أرى البيع لازما لهما، وليس لأحدهما أن يتأخر عن صاحبه، ولا يتغيب عنه لفسخ البيع بينهما، ويكون ذلك ندما منه.
قال محمد بن رشد: قد تكررت هذه المسألة في هذا الرسم بعينه، من هذا السماع، من كتاب السلم والآجال، وقد مضى القول عليها هناك، فلا معنى لإعادته.

[مسألة: باع سلعة بيعا فاسدا ثم دفع ذلك فقال إذا حالت فيهما الأسواق فهو فوت]
مسألة وسئل عن رجل باع سلعة بيعا فاسدا، ثم دفع ذلك فقال: إذا حالت فيهما الأسواق فهو فوت كذلك قاله لي مالك، إلا في الطعام وما أشبهه مما يوجد مثله وفيه الرد.
قال محمد بن رشد: هذا هو المنصوص عليه من قول مالك وأصحابه، المعلوم من مذهبه في المدونة وغيرها، أن المكيل والموزون من الطعام وغيره الذي يوجد مثله، لا تفيته حوالة الأسواق، والذي يوجبه النظر أن يفيت ذلك كله حوالة الأسواق كالعروض؛ لأن العلة في أن العروض تفيتها حوالة الأسواق ما يدخل من الضرر على أحد المتبايعين بإيضاع قيمتها أو ارتفاعها، وذلك موجود في المكيل والموزون من الطعام

(7/379)


وغيره، فقد يبيعه الطعام في الشدائد بيعا فاسدا، ثم يعثر على الفساد في الرخاء، فيظلم البائع في أن يرد عليه مثل طعامه، وهو لا يساوي إلا يسيرا، أو يبيعه في الرخاء ثم يعثر على الفساد في الشدائد، فيظلم المبتاع بأن يكلف رد مثله فيشتريه بعشرة أمثال ما باع به الطعام الذي اشتراه أو أكثر؛ وقد قال ابن المواز: إن الطعام الجزاف، والحلي الجزاف، تفيته في البيع الفاسد حوالة الأسواق كالعروض؛ فإذا كان الطعام الجزاف والعروض تفيتها حوالة الأسواق مع بقاء العين، فأحرى أن تفيت حوالة الأسواق المكيل والموزون كله من الطعام وغيره مع ذهاب العين؛ لأن مثل الشيء أنزل رتبة من عينه، فإذا كان العرض يفوت بحوالة الأسواق مع بقاء عينه، فأحرى أن يفوت الطعام بحوالة الأسواق مع ذهاب عينه.

[مسألة: بيع البيض المسلوق بالنيء متفاضلا]
مسألة وقال في البيض المسلوق بالنيء متفاضلا: لا خير فيه، ليس السلق صنعة.
قال محمد بن رشد: هذا صحيح على أصله في المدونة في اللحمان: أن النار فيها ليس بصنعة يبيح التفاضل في الصنف الواحد منها إذا شوي أو طبخ بغير إبزار، فالسلق في البيض كالشي في اللحم بغير إبزار.

[مسألة: مسلم اشترى من مسلم خنزيرا]
مسألة وسئل عن مسلم اشترى من مسلم خنزيرا، قال: يرد الثمن، ويقتل الخنزير.

(7/380)


قال محمد بن رشد: الظاهر من هذه الرواية أن البيع ينقض في الخنزير، فيقتل على البائع، وإن كان المبتاع قد قبضه، ويرد الثمن إلى المبتاع، وقد قيل إذا قبضه المبتاع أنه يقتل عليه، ويمضي البيع، ويتصدق بالثمن على المساكين، قبضه البائع أو لم يقبضه؛ إذ لا يحل للبائع، ولا يصح تركه للمبتاع، وقد قتل الخنزير عليه؛ وأما إن عثر على البيع قبل أن يقبض المبتاع الخنزير، فلا اختلاف في أنه يقتل على البائع، ويسقط الثمن عن المشتري إن كان لم يدفعه، واختلف إن كان قد دفعه إلى البائع؛ فقيل: إنه يرد على المبتاع، وهو قوله في هذه الرواية، وقيل: إنه يتصدق به على المساكين أدبا له، ولو اشتراه المسلم فأكله من ضرورة، لرجب أن يبطل الثمن عنه إن كان لم يدفعه، وأن يرد عليه بلا خلاف، إن كان قد دفعه.

[مسألة: كان له على رجل مائة إردب قمح من شراء]
مسألة وقال فيمن كان له على رجل مائة إردب قمح من شراء، فقال الرجل: اقبضها، فما اقتضيت من شيء، فلك ربعه أو جزء منه؛ قال: لا خير فيه ولا يحل، وهو من بيع الطعام قبل أن يستوفى.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال؛ لأنه قد باع بعض الطعام من المقتضي للطعام بعنائه له في اقتضاء باقيه.

[مسألة: باع كبشا بصوف إلى أجل]
مسألة وسئل عن رجل باع كبشا بصوف إلى أجل، قال: إن كان أجلا قريبا لا يكون للكبش صوف يجز في مثله، فلا بأس، وإن كان أجلا بعيدا يكون فيه للكبش صوف، فلا خير

(7/381)


فيه؛ قال مالك: لا يصح لرجل أن يبيع نخلا بثمن إلى أجل يكون للنخل ثمن إلى الأجل.
قال محمد بن رشد: قد تكررت هذه المسألة بعينها في هذا الرسم بعينه من هذا السماع، من كتاب السلم والآجال، ومضى القول عليها مستوعبا مستوفى في أول رسم من سماع ابن القاسم من الكتاب المذكور، فمن أحب الوقوف على ذلك تأمله هناك.

[يشتري من الرجل عشر شياه يختارها من غنمه]
ومن كتاب
أوله استأذن سيده وسئل عن الرجل يشتري من الرجل عشر شياه يختارها من غنمه، قال: لا بأس بذلك؛ قيل له فاشترى عشرة من شرارها، قال: لا خير فيه؛ لأن الخيار فيه للبائع، يعطيه ما أحب، ولا يدري ما اشترى؛ قال ابن القاسم: ولو أن رجلا اشترى عشر شياه من خيار غنم، فلما وجبت له، قال: زدني عشرة أخرى اختارها بعدها؛ قال: لا بأس به، ولو كان قال رجل آخر: بعني بعشرة اختارها بعدها أن يختار هذا عشرته لم يكن فيه خير؛ لأنه غرر لا يدري ما اشترى؛ قال: وأن الذي يزيد عشرة إلى عشرة قد عرف ما اشترى، وهو بمنزلة رجل اشترى عشرين يختارها.
قال محمد بن رشد: شراء الغنم على الاختيار، وإن تفاضلت عددا

(7/382)


مسمى من جملة، كان أقل الجملة أو أكثرها، جائز إذا كان قد قبلها وأحاط علما بها، وعرف شرارها من خيارها، لم يختلف في جواز ذلك نصوص الروايات عن مالك وأصحابه، وإن جاز أن يدخل الخلاف في جواز ذلك بالمعنى، فقد قال ابن حبيب: إنه لا يجوز شراء ثوب يختاره من ثياب على أن أحدها لازم له، إلا أن تكون الثياب صنفا واحدا لا تتفاضل في الجودة، وأما مالك في المدونة، فجرى في الثياب على أصله في الغنم، وأجاز شراء العدد منها على الاختيار إذا كانت صنفا واحدا، وصفة واحدة وإن تفاضلت، وإنما لم يجز ذلك إذا اختلفت أصنافها، أو اختلفت رقومها وصفاتها، وأجاز ذلك ابن المواز وإن اختلفت رقومها وصفاتها، ما لم تتباين تباينا يجوز معه سلم أحدهما في الآخر، فيكون ذلك كالصنفين، وعلى مذهب عبد العزيز بن أبي سلمة في المدونة، يجوز ذلك في الصنفين، والشافعي وأبو حنيفة لا يجيزان على الشراء على الاختيار بحال، فهي خمسة أقوال.
وإنما لا يجوز أن يختار باتفاق فيما لا يجوز أن يحول أحدهما في الآخر، وأما شراء عشرة من الغنم ونحو ذلك مما هو يسير من الجملة، مثل أن يبيع جملة غنمه على أن يختار منها عددا مسمى مما هو جلها أو أكثرها فلا يجوز، لم تختلف نصوص الروايات في أن ذلك لا يجوز، وإن جاز أن يدخل الخلاف في ذلك بالمعنى، فقد قال ابن حبيب في الرجل يبيع البز المنصف، ويستثني منه ثيابا، أنه إن اشترط أن يختارها من رقم بعينه، فلا بأس به، وإن كان جل ذلك الرقم، قال: وإنما يكره ذلك في الكيل من الجزاف؛ وهو بعيد، وقد قال ابن عبدوس: إن هذا إذا حمل على النظر، بطل كله، ولم يجز منه شيء؛ إذ لا يجوز للبائع أن يجهل ما باع، ولا للمشتري أن يجهل ما اشترى؛ وإذا كان الخيار

(7/383)


للمبتاع، فقد جهل البائع ما باع، وإذا كان للبائع قد جهل المبتاع ما ابتاع، وإنما جوز اختيار البيع إذا اتفق الصنف والثمن بالتسهيل؛ لأنه من بياعات الناس، وليس يحتمل النظر مثل الذي يبيع ثمر حائطه، ويستثني منه كيلا دون الثلث، وهو إنما باع منه ما بعد الكيل وهو مجهول، والحد الذي يجوز للبائع أن يستثنيه من غنمه على الخيار الثلث فأقل، فإن كان أكثر من الثلث لم يجز عند ابن القاسم، وأجازه سحنون؛ يريد والله أعلم ما لم يكن الجل أكثر من النصف، فقد رأيت له أنه أجاز أن يبيع الرجل أحد عبديه أيهما شاء على أن ذلك لازم للمشتري؛ وأن يتزوج المرأة على ذلك، خلاف ما في النكاح الأول من المدونة.
وأجاز للذي اشترى عشرة من الغنم على أن يختارها أن يشتري قبل أن يختارها عشرة أخرى على الخيار أيضا، ولم يجز ذلك لغيره، والفرق بينه وبين غيره، أنه قد علم ما يختار؛ فلم يدخل في العشرة الثانية على جهل، وغيره لا يعلم ما يختار، هو فدخل على جهل، وكذلك يجوز له أن يشتري بقيتها قبل أن يختار العشرة، ولا يجوز ذلك لغيره، وأجاز ذلك محمد بن المواز لغيره في الوجهين، ووجهه أن العشرة التي اشتراها الأول على أن يختارها كأنها معلومة عند الثاني؛ إذ قد علم أنه لا يختار إلا خيارها، وخيارها لا يخفى على أهل المعرفة بها؛ فكأن البائع أبقى تلك العشرة لنفسه، وباع منه الباقي أو عشرة على أن يختارها، فعلى هذا يجوز للأول أن يبيع العشرة قبل أن يختارها من غيره، فيختارها المشتري الثاني لنفسه، خلاف ما يأتي في سماع سحنون لأشهب، وإذا اشترى عشرة من الغنم على أن يختارها، كان من حقه أن يختارها هو، فإن أراد أن يأتي بمن يختارها له كان ذلك له؛ هذا هو الذي يوجبه النظر، ويأتي على قول أشهب ما في سماع سحنون: أن ذلك ليس له؛ إذ لم يجز له بيعه من غيره على أن يأخذ ما يختار هو، ولا

(7/384)


على أن يختارها هو لنفسه؛ إذ لا ينزل أحد منزلته في اختيار ما اشترى إلا ورثته، هذا معنى قوله، وهو بعيد؛ وقد قال بعض الشيوخ على قول أشهب هذا: إنما لم يجز له أن يقدم من يختار له؛ لأن من حق البائع أن يقول: إنما رخصت عليك في الثمن؛ لأني علمت أنك غير ما هي بالاختيار في الغنم؛ فرجوت أن تختار ما ليس بخيارها، وهذا ليس بشيء؛ إذا لو كان البائع إنما دخل معه على ألا يختار إلا هو لهذا المعنى، لكان غررا؛ وقد قال يحيى بن دحون: إن اشترط البائع عليه أن يختار هو لنفسه لزمه، وليس بصحيح؛ فإن اشترى منه عشرة من خيرة غنمه وسكتا فلم يقل: أختارها أنا ولا أنت، واختلف في خيرتها، فقال البائع: هذه هي خيرتها فخذها، وقال المبتاع: بل هذه هي، دعي لذلك أهل المعرفة والبصر، قاله ابن حبيب، وهو صحيح؛ لأن البيع إذا وجب في خيرتها وسكتا عمن يختارها، فكأنه شيء معلوم.

[مسألة: يشتري الرقيق من الرجل بأفريقية فيقدم الفسطاط بها فيوجد البيع حرام]
مسألة وسألته عن الرجل يشتري الرقيق من الرجل بأفريقية، فيقدم الفسطاط بها، فيوجد البيع حراما، هل يكون فيه رد؟ وهل قدومه بها فوت؟ قال: ليس البلدان فوتا، إلا أن يفوت بنماء أو نقصان، أو اختلاف أسواق، أو طول زمان؛ فإن كانت الأسواق قد اختلفت فهو فوت، وما أرى إلا أن الفوت قد دخلها؛ لأن سوق القيروان وسوق الفسطاط ليسا واحدا؛ قلت: فلو اشتراها بالإسكندرية، وقدم

(7/385)


بها الفسطاط، هل ذلك فوت؟ قال: الذي اشتراها بالإسكندرية إنما يقدم بها الفسطاط للفضل، ومع ذلك قد غيرها السفر؛ فإن كانت الأسواق مختلفة، أو غيرها السفر، فهو فوت تكون فيه القيمة، قلت: وإن كانت لم تختلف الأسواق، ولم يغيرها السفر؛ قال: إن كانت كما تقول ردها، قلت: فأين يردها عليه بالفسطاط أم بالإسكندرية؟ قال: بل بالفسطاط، ولو كان طعاما لم يرده عليه إلا بالإسكندرية.
قال محمد بن رشد: وكذلك السلع على قياس قوله في الرقيق، إذ يحتاج إلى الكراء عليهم، كالسلع لا يكون نقل شيء من ذلك من بلد إلى بلد فوتا في البيع الفاسد، إلا أن تختلف أسواق البلدان؛ وقد قيل: إن ذلك كله فوت، وهو الذي يأتي على قول أشهب وأصبغ في سماعه، من كتاب الغصب في مسألة الغصب؛ إذ جعل المغصوب منه مخيرا بين أن يأخذ متاعه، أو يضمنه قيمته في البلد الذي غصبه فيه، والغصب لا يفيته حوالة الأسواق؛ فجعلا نقل ذلك من بلد إلى بلد أشد من حوالة الأسواق، ووجه القول الأول أن الأسواق لم تختلف، وما أكرى به المتاع على السلعة مستهلك على كل حال، فسخ البيع أو صحح بالقيمة؛ إذ لا تساوي السلعة إلا القيمة التي صححت بها، فوجب أن يفسخ؛ إذ لا ضرر على المبتاع في الفسخ، ووجه القول الثاني: أن الأسواق وإن لم تختلف مما أكرى المبتاع به على السلعة محسوبا بثمنها، فكأن الأسواق قد حالت

(7/386)


بنقصان، فوجب ألا يفسخ البيع لما يدخل على المبتاع من الضرر بالفسخ؛ إذ قد يرتفع سوقها، فيربح فيها ما اكترى به عليها، فمن حقه ألا يعجل عليه الخسارة، وهذا القول أظهر؛ وأما الدواب التي لا يكرى عليها، وإنما تركب أو تكرى، فلا اختلاف في أن حملها من بلد إلى بلد لا يفيتهما في البيع الفاسد إذا لم تختلف أسواق البلدان؛ وكذلك الرقيق الذي لا يحتاج إلى الكراء عليهم، لا يفوت في البيع الفاسد من حمله من بلد إلى بلد، كالدواب يقوم ذلك من رواية ابن القاسم عن مالك، في سماع سحنون، من كتاب الغصب في مسألة الغصب؛ إذ فرق فيها بين الرقيق والسلع؛ ومعناه في الرقيق الذي لا يحتاج إلى الكراء عليهم، وأما نقل السلع من بلد إلى بلد بالكراء عليها، فهو فوت في الرد بالعيب؛ وقد مضى القول على ذلك في رسم نذر سنة، من سماع ابن القاسم، من كتاب العيوب؛ وأما قوله: ولو كان طعاما لم يرده عليه إلا بالإسكندرية، فمعناه في الطعام المكيل؛ وهو على أصله في أن حوالة الأسواق لا تفيته، وقد مضى القول على ذلك في الرسم الذي قبل هذا.

[مسألة: يكون له نصف عبد ونصفه لآخر أو نصفه حر فيبيع نصفه من رجل]
مسألة وسألت ابن القاسم عن الرجل يكون له نصف عبد ونصفه لآخر، أو نصفه حر، فيبيع نصفه من رجل، ولا يذكر البائع ولا المبتاع ماله عند البيع؛ فقال: قال مالك: لا يشتريه أحد إلا من كان في ماله بمنزلة سيده الذي باعه، وليس لسيده أن يستثنيه إذا باعه؛ فإذا باعه ولم يذكر هو ولا المبتاع ماله، ثم قال البائع والله ما بعته بماله ولا بعته إلا بغير ماله، فإن البيع يفسخ بينهما

(7/387)


ويرد، ولا يجوز لأحد أن يشتريه إلا على أن يكون في ماله بمنزلة بائعه يقر في يديه؛ يريد العبد ولا يحرك؛ قيل لسحنون: فإن باعه من شريكه على أن له ماله، قال ذلك جائز؛ لأن ذلك مقاسمة له، ولا يجوز له من غير شريكه أن يبيعه ويشترط ماله، أو يبيعه ويسكتان عن ماله، قال: هذا لا يجوز ويفسخ، إلا أن يبيعه بماله، ويحل المشتري فيه محل البائع.
قال محمد بن رشد: أما إذا باعه من شريكه، فلا اختلاف في جواز البيع، استثنى المبتاع المال أو لم يستثنه؛ لأنه إن لم يستثنه، بقي نصفه للبائع، فكان ذلك مقاسمة له كما قال سحنون؛ وأما إذا باعه من غير شريكه، ولم يستثن المبتاع ماله، فقيل: إن البيع فاسد، وهو قول مالك في هذه الرواية؛ وفي سماع أشهب من كتاب الشركة: وقيل: إن البيع يفسخ إلا أن يرضى البائع أن يسلم ماله إلى المبتاع، وهو دليل ما في رسم العرية، من سماع عيسى، من كتاب العتق؛ ومثل ما في رسم كتب عليه، من سماع ابن القاسم، من هذا الكتاب، في مسألة النخل يباع وقد أبر نصف ثمرها حسبما بيناه هناك.

[باع الرجل أرضا وفيها زرع]
ومن كتاب العرية وقال: إذا باع الرجل أرضا، وفيها زرع حين بدا فهو للبائع، إلا أن يشترطه المبتاع؛ قال: ولا يحل أن تباع أرض فيها زرع

(7/388)


بأرض أخرى فيها زرع، وهو جميعه قول مالك؛ والزرع حين يطلع بمنزلة النوار في الشجر، لا يحل على وجه من الوجوه، ويستثنى كل واحد منهما زرع صاحبه، ولا بأس أن يستثني أحدهما زرع صاحبه، ولا يستثني الآخر.
قال محمد بن رشد: قوله: إن من باع أرضا وفيها زرع حين بدا فهو للبائع، إلا أن يشترطه المبتاع، هو المعلوم المشهور من مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك، وقد مضى ما في ذلك من الاختلاف في آخر سماع أشهب؛ وكذلك قوله: إنه لا يحل أن تباع أرض فيها زرع بأرض أخرى فيها زرع، هو المشهور في المذهب المعلوم من قول ابن القاسم، وروايته عن مالك في المدونة وغيرها؛ وسحنون يجيز ذلك ما لم يحل بيع الزرع، ويجيز أيضا بيع الأرض، وفيها زرع لم يحل بيعه بطعام نقدا وإلى أجل؛ لأنه يجعله ملغى لا تقع عليه حصة من الثمن، وهو مذهب ابن الماجشون؛ وأما قوله: إن الزرع حين يطلع بمنزلة النوار في الشجر، فيقوم منه أن النوار في الشجر بمنزلة الإبار في النخل، خلاف ما مضى في آخر سماع أشهب، وقد مضى هنالك ذكر اختلاف قول مالك في ذلك؛ ويحتمل أن يريد أنه بمنزلته في أنه لا يجوز أن يستثني كل واحد منهما ثمر حائطه، وإن كان قد ورد، كما لا يجوز أن يستثني كل واحد منهما زرع حائطه، وإن كان قد ثبت؛ لا أنه بمنزلته في أنه يكون للبائع إذا ورد، وإن لم يستثنه كما يكون الزرع له إذا ثبت، وإن لم يستثنه، وهو الأظهر.

(7/389)


[مسألة: يبيع أرضا فيها زرع لم يطب بثمن إلى أجل واستثناه المشتري]
مسألة وعن رجل يبيع أرضا فيها زرع لم يطب بثمن إلى أجل، واستثناه المشتري، فاستقال البائع على أن يمحو عنه الثمن، ويترك له الزرع، قال ابن القاسم: ليس بذلك بأس.
قال محمد بن رشد: هذا بيّن على ما قال: إن ذلك جائز؛ إذ لا تهمة فيه؛ لأن الأمر آل بينهما إلى أن رجعت إلى البائع أرضه، وبقي الزرع للمبتاع موهوبا بغير ثمن فجاز؛ وقد مضت هذه المسألة متكررة في رسم نقدها، من سماع عيسى، من كتاب السلم والآجال، ومضى هناك من القول عليها ما فيه كفاية.

[مسألة: يأتي إلى الرجل فيقول له هل لك أن تبيعني ثوبك هذا بهذه الدراهم]
مسألة وعن الرجل يأتي إلى الرجل فيقول له: هل لك أن تبيعني ثوبك هذا بهذه الدراهم، ولا تزنها تأخذها وازنة كانت أو ناقصة ولا تزنها، هل يكره أم لا؟ قال ابن القاسم: قال مالك: لا خير فيه.
قال محمد بن رشد: المكروه في هذه المسألة بين إذا كانت الناقصة لا تجوز بجواز الوازنة؛ لأنه غرر بين، وقد «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع الغرر» ؛ ولو كانت الناقصة تجوز بجواز الوازنة لم يكن به بأس، وقد

(7/390)


مضى بيان هذا في سماع أشهب، من كتاب الصرف.

[مسألة: اشترى من رجل مائة قسط من زيت فوجد فأرة ميتة في الجرة التي يكال منها]
مسألة وسئل عن رجل اشترى من رجل مائة قسط من زيت، فكال له خمسين من جرة، ثم بدأ في أخرى يكيل له منها؛ فلما كال له منها قسطا أو قسطين، فصبه على الخمسين، فإذا بفأرة ميتة في الجرة الأخرى، قال: ضمان الخمسين من المبتاع. قلت: ولم لا يكون ضمانه على البائع الذي أفسده؟ قال: ليس عليه ضمان؛ لأنه إنما صبه عليه بأمر المبتاع؛ أرأيت لو أنك ابتعت جرة زيت من رجل فقلت له: بلغها إلى البيت، فحملها حتى بلغها، فأمر بصبها على زيت له في البيت؛ فلما صبه، فإذا بفأرة في الجرة، أكان يضمن زيتك الذي في البيت؟ ليس عليه ضمان، فالخمسون التي اكتالها بمنزلة زيته التي في بيته ضمان الخمسين منه.
قال محمد بن رشد: هذا بيّن على ما قال؛ لأنه لم يتعد في الصب، ولا كان منه خطأ في فعله إياه؛ وصبه إياه عليه بأمره؛ بمنزلة ما لو دفعه إليه فصبه هو على زيته، فوجب ألا يضمن، إلا أن يعلم بموت الفأرة في الجرة.

(7/391)


[الحلباء هل تباع قبل أن تستوفى]
ومن كتاب أوصى
أن ينفق على أمهات أولاده
وسئل عن الحلباء أتباع قبل أن تستوفى؟ قال: لا.
قال محمد بن رشد: حكم ابن القاسم في هذه الرواية للحلباء بحكم الأطعمة في أنها لا تباع قبل الاستيفاء، ولم يتكلم على جواز التفاضل فيها يدا بيد، والأظهر إجازة ذلك؛ وقد قيل: إنها من الأدوية، وليست من الأطعمة، وقيل: إن للخضراء منها حكم الأطعمة، ولليابسة حكم الأدوية، وقد مضى القول في هذا كله مستوفى، في سماع أبي زيد، من كتاب السلم والآجال.

[مسألة: بيع القصب بالسكر]
مسألة وقال في القصب بالسكر: لا بأس به.
قال محمد بن رشد: زاد في هذه المسألة في بعض الروايات: وقال في عسل القصب برب القصب إذا دخلته الصنعة والإبزار مثل القرفة والسنبل والفلفل، قال: ومثل اللوز والفستق والبيض يجعل فيه: لا بأس به متفاضلا، قال: ولا أعلم إلا أنه بلغني عن مالك أنه قال ذلك؛ ووقف ابن القاسم فيه إذا لم تدخله هذه الأشياء، ولم يجعل منها فيه شيء، وإنما ضرب بالبيض فقط؛ ولا بأس بعسل القصب بالسكر؛ لأن السكر يطول أمره ومؤنته وعمله، فيتحول من شيء إلى شيء قبل أن يكون سكرا.
قال محمد بن رشد: وهي زيادة بينة على ما في المدونة

(7/392)


لأنه أجاز السكر بالقصب وبربه وبعسله، لبعد ما بين السكر وبين كل واحد منهما؛ فجعل ذلك صنعة توجب جواز التفاضل بينه وبين كل واحد منهما، ورأى القصب وربه وعسله صنفا واحدا؛ فلا يجوز القصب بربه، ولا بعسله على حال؛ لعدم المماثلة فيه؛ ولا ربه بعسله إلا مثلا بمثل، وذلك مثل خل العنب يجوز بالعنب وبعصير العنب؛ لبعده من كل واحد منهما وطول زمانه إلى أن يصير خلا، ولا يجوز العنب بعصيره على حال؛ فإن دخل في القصب بربه أو بعسله، أو في ربه بعسله إبزار، جاز التفاضل في ذلك، كاللحم النيء بالمشوي، لا يجوز إلا أن يدخله الإبزار؛ وتوقف ابن القاسم في ضربه بالبيض وحده، وقد اختلف في خل التمر بالتمر؛ ومضى تحصيل القول فيه في رسم الصبرة من سماع يحيى من كتاب السلم والآجال.

[مسألة: يبيع الشاة ويستثنى جلدها]
مسألة وقال في الذي يبيع الشاة ويستثنى جلدها حيث يجوز ذلك فيه ثم تموت الشاة: إن المشتري لا يكون ضامنا للجلد؛ لأنه شريك معه، وفي سماع أصبغ من كتاب العيوب، قال ابن القاسم: المشتري ضامن للجلد.
قال محمد بن رشد: رأيت لابن دحون في هذه المسألة أنه قال فيها قوله: إن المشتري لا يكون ضامنا لجلد الشاة إذا استثناه البائع حيث يجوز له، معناه: إذا لم يفرط حتى ماتت قبل الذبح؛ فإن فرط وتوانى في الذبح حتى ماتت ضمن، وهو معنى الرواية الأخرى؛ قال: وقيل: إنما جعل المصيبة من المبتاع؛ لأنه إنما أجاز أن يشتري بهذا الاستثناء؛ لأنه لا

(7/393)


قيمة للمستثني في السفر، فكأنه اشترى الجميع؛ وهذا كله لا يصح منه شيء في النظر؛ إذ لا معنى للاعتبار بالتفريط في هذا من غير التفريط، وإن كان ابن حبيب قد نحا إلى هذا، ورواه أبو قرة أيضا عن مالك؛ قال فيمن باع بهيمة واستثنى رأسها فلم يذبحها حتى ماتت بغير إذن البائع، فعليه قيمة رأسها؛ لأنه ترك ما اشتراها له من الذبح، وإن حبسها بإذن البائع حتى هلكت فلا شيء عليه في رأسها؛ وإن صحت فأبى أن يذبحها فعليه قيمة رأسها؛ وأما استحياؤها بإذنه فهو شريك معه فيها، وهو استحسان على غير حقيقة قياس؛ إذ لا يخلو من أن يكون للبائع على المشتري في الجلد حق توفية، أو لا يكون له فيه حق توفية؛ فإن كان له عليه فيه حق توفية، فلا يسقط عنه بترك التفريط، وإن لم يكن له عليه فيه حق توفية، فلا يجب عليه بالتفريط.
وقوله: وقيل: إنما جعل المصيبة من المبتاع؛ لأنه إنما جاز ... إلى آخر قوله - كلام متناقض؛ لأن كون الجلد لا قيمة له في السفر، يقتضي أن البيع لم يقع عليه، وأن المبتاع لا يكون ضامنا له؛ فالصحيح في المسألة أن رواية أصبغ خلاف لرواية عيسى، وأن الاختلاف في هذا جارٍ على الاختلاف في المستثنى، هل هو مبقى على ملك البائع وبمنزلة المشتري؟
فعلى القول بأنه مبقى على ملك البائع، يكون مصيبة الجلد منه إن ماتت الشاة؛ لأنها ماتت وجلدها له باق على ملكه حتى يذبح المبتاع الشاة فيأخذ جلده إذا لم يبعه، فإن استحياها المشتري أعطى البائع شرى جلده استحسانا، وكان القياس إذا استحياها أن يكونا شريكين فيها البائع بقيمة الجلد، والمشتري بقيمة ما سواه؛ وعلى القول بأنه بمنزلة المشتري، وكان البائع باع جميع الشاة بعشرة دراهم في التمثيل، وبجلدها يكون المشتري ضامنا لجلده؛

(7/394)


وليس معنى قوله: إنه ضامن له أنه يغرم للبائع قيمته أو جلدا مثله؛ وإنما معناه أن ينظر إلى قيمته، فإن كانت قيمته في التمثيل درهمين وكان باع الشاة بعشرة دراهم، رجع البائع على المبتاع بسدس قيمة الشاة؛ لأنه كمن باع شاة بعشرة دراهم، وعرض قيمته درهمان، فاستحق العرض من يد البائع وقد فاتت الشاة عند المبتاع، وهذا بين كله لا إشكال فيه والحمد لله، وسيأتي في رسم حمل صبيا إذا استثنى الجلد في موضع لا يجوز له، والقول في ذلك إن شاء الله تعالى.

[مسألة: الزيتون الذي قد جنى بالأمس وقد ذبل وضمر]
مسألة وقال في الزيتون الذي قد جنى بالأمس وقد ذبل وضمر يباع بما يجني للغد أو اليومين، وهذا أشد انتفاخا؛ قال: هذا لا يكون، لا يذبل ليوم ولا ليومين، وليس ذلك ذبلا، فإن كان هذا المجني الآخر لو أخذ كيلا بكيل فترك قدر ما ترك الآخر ضمر ونقص، يعرف ذلك ويقول ذلك أهل المعرفة فلا خير فيه، وقد سألني الأندلسيون عن الرجل يتسلف من الرجل الفدان أو الفدانين يحتاج إليه فيحصده وفيه رطوبة يَتَنَفَّع بذلك إلى أن يترك زرعه ويبس فيجده ويعطيه قدر كيله وما خرج منه، فقال: إن كان لو ترك ضمر لرطوبته ونقص فلا خير فيه، ثم أخبرت أنهم سألوه بالمدينة ثانية، فلم يرخص لهم في ذلك.
قال محمد بن رشد: أما بيع الزيتون الغض الطري، بالزيتون الذي

(7/395)


قد ذبل وضمر ويعلم أنه قد نقص كيلا بكيل، فلا اختلاف في أن ذلك لا يجوز؛ كما لا يجوز الرطب بالتمر، ولا الفريك بالقمح، ولا الحنطة المبلولة بالحنطة اليابسة، ولا بالحنطة المبلولة؛ لأن بعض المبلول أشد انتفاخا من بعض؛ والأصل في هذا ما روي «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل: عن بيع الرطب بالتمر، فقال: أينقص الرطب إذا جف؛ قالوا: نعم، قال: فلا إذًا.
» وأما الذي يحتاج فيتسلف الفدان والفدانين من الزرع الذي فيه رطوبة فيحصده ويدريه ويرد عليه مكيلة ما وجد فيه، فهو أخف وفيه اختلاف؛ لأنه ليس ببيع إذا كان على وجه المعروف من المسلف، لحاجة المسلف إلى ذلك، وقد مضى تحصيل الاختلاف في ذلك في رسم القبلة من سماع ابن القاسم من كتاب السلم والآجال، فمن أحب الوقوف عليه، تأمله هناك.

[مسألة: باع عكم قراطيس بدينار نقدا ثم استقال أحدهما]
مسألة وسئل: عن رجل باع عكم قراطيس بدينار نقدا، ثم استقال أحدهما، فأبى الآخر أن يقيله إلا بزيادة عشرة دراهم إلى أجل؛ قال: إن كان المشتري هو المستقيل فهو حرام، وإن كان البائع فلا بأس به.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال؛ لأن المشتري إن كان هو المستقيل الذي زاد العشرة الدراهم إلى أجل، فقد فسخ البائع الدينار الذي له عليه حالا في عشرة دراهم إلى أجل وقراطيس نقدا، فيدخله فسخ الدين في الدين، وذهب بعرض نقدا وورق إلى أجل، ولو كان قد انتقد البائع الدينار، لم يدخله فسخ الدين في الدين، ودخله بيع ذهب نقدا بعروض ودراهم إلى أجل؛ وإن كان البائع هو المستقيل الذي

(7/396)


زاد المبتاع العشرة دراهم إلى أجل فهو جائز؛ لأن البائع يصير قد ابتاع من المبتاع القراطيس التي باع منه بالدينار الذي له عليه، وبعشرة دراهم إلى أجل، وذلك جائز، ولو كان البائع قد انتقد الدينار وغاب عليه لم يجز، وأنهما على الزيادة في السلف؛ لأن الأمر آل بينهما إلى أن رجعت إلى البائع قراطيسه فكانت لغوا، وأسلف المبتاع البائع دينارا فغاب عليه وانتفع به، على أن أعطاه عشرة دراهم إلى أجل؛ وهذا إن كان من أهل العينة؛ لأن بيوع النقد لا يتهم فيها إلا أهل العينة حسبما مضى القول فيه في رسم كتب عليه ذكر حق من سماع ابن القاسم من كتاب السلم والآجال، وقد مضت هذه المسألة مفرعة مستوفاة الوجوه في رسم القبلة من الكتاب المذكور، وفي رسم البراءة من سماع عيسى منه، والقول فيها على أصل مذهبه في الموطأ والمدونة.

[مسألة: اشترى من رجل كل مملوك هو له ولم يسمهم]
مسألة وقال في رجل اشترى من رجل كل مملوك هو له ولم يسمهم، إلا أن المشتري قد كان عرفهم كلهم صغارهم وكبارهم وتحراهم وهم غيب بموضع، أن البيع جائز لازم له إذا كان الموضع قريبا اليوم واليومين وما أشبهه وإن نقده بشرط؛ وإن كان الموضع بعيدا ولم يكن اشترط النقد، فذلك جائز، وإن نقده الثمن وتطوع، فذلك جائز؛ وإن ادعى البائع أن المشتري اشترى ما لا يعرفه، وادعى المشتري المعرفة، فالقول قول المشتري وإن لم تكن له بينة؛ لأنه ادعى الحلال؛ لأن كل متبايعين ادعى

(7/397)


أحدهما حلالا والآخر حراما، فالقول قول مدعي الحلال.
قال محمد بن رشد: قوله إن اشترى العبيد الغيب إذا عرفهم المشتري صغارهم وكبارهم. وإن لم يسمهم بأسمائهم جائز لازم له، معناه: إذا كان البائع أيضا قد عرفهم، ومثله في الصلح من المدونة؛ لأنه أجاز مصالحة الورثة المرأة في ثمنها وإن لم يسموا التركة إذا كانوا قد عرفوا ذلك وعرفته، ولو جهلا جميعا مبلغ العبيد وصفاتهم، لكان البيع فاسدا، وكذلك إذا جهل ذلك أحدهما، والآخر يعلم بجهله، فتبايعا على ذلك، وأما إذا علم (أحدهما) وجهل الآخر ولم يعلم بجهله، فليس ببيع فاسد، وإنما هو في الحكم كبيع غش وخديعة يكون الجاهل منهما إذا علم مخيرا بين إمضاء البيع أو رده.
فقوله وإن ادعى البائع أن المشتري اشترى ما لا يعرف، وادعى المشتري المعرفة، أن القول قول المشتري وإن لم تكن له بينة؛ لأنه ادعى الحلال؛ معناه: إذا ادعى البائع أن المشتري اشترى ما لا يعرف، فإنه باع أيضا ما لم يعرف، أو إنه باع وهو يعلم أن المشتري لم يعرف، وادعى المشتري أنهما عرفا جميعا؛ لأنه لا يكون المبتاع مدعي الحلال والبائع مدعي حرام، إلا على ما ذكرناه.
وقوله إن القول قول المشتري، معناه: دون يمين؛ لأنها يمين تهمة، إلا أن يدعي عليه أنه أخبره (أنه) اشترى ما لم يعرف، فيجب له اليمين عليه، ويكون له ردها؛ وقد قيل بأن اليمين ملحق بالتهمة، ويجب صرفها، وقد مضى هذا في رسم الأقضية الثاني من سماع أشهب.
واختلاف المتبايعين في الجهل بمعرفة المبيع لا يخلو من سبعة أوجه: أحدها: أن يقول أحدهما جهلناه جميعا، ويقول الآخر: بل علمناه جميعا. والثاني: أن يقول أحدهما جهلناه جميعا،

(7/398)


ويقول الآخر: بل علمته أنا وجهلته (أنت) . والثالث: أن يقول أحدهما أيضا: جهلناه جميعا، ويقول الآخر: بل جهلته أنا وعلمته أنت. والرابع: أن يقول أحدهما علمناه جميعا، ويقول الآخر بل علمته أنت وجهلته أنا. والخامس: أن يقول أحدهما أيضا بل علمناه جميعا، ويقول الآخر بل علمته أنا وجهلته أنت. والسادس: أن يقول أحدهما علمته (أنا) وجهلته أنت، ويقول الآخر: بل علمته أنا وجهلته أنت، والسابع: أن يقول أحدهما جهلته أنا وعلمته أنت، ويقول الآخر جهلته أنا وعلمته أنت.
فأما الوجه الأول، وهو أن يقول أحدهما قد جهلناه جميعا، ويقول الآخر بل علمناه جميعا، فالقول قول الذي ادعى المعرفة منهما، كان البائع أو المبتاع؛ لأنه ادعى حلالا وادعى الآخر حراما؛ وقد مضى ذلك والاختلاف في اليمين إن لم يحقق صاحبه عليه الدعوى.
وأما الوجه الثاني وهو أن يقول أحدهما قد جهلناه جميعا، ويقول الآخر بل) علمته أنا وجهلته أنت، ولم أعلم بجهلك إياه، فإن البيع يفسخ على كل حال دون أن يحلف واحد منهما؛ لأن الذي يقول جهلناه (جميعا) يدعي أن البيع فاسد يجب فسخه، وصاحبه يقر له بما يوجب أن الخيار له في فسخه، فوجب أن يفسخ على كل حال؛ ولو قال علمته أنا وجهلته أنت فبايعتك وأنا أعلم بجهلك إياه، لكانا جميعا قد تصادقا على الفساد.
وأما الوجه الثالث وهو أن يقول أحدهما جهلناه جميعا، ويقول الآخر بل جهلته أنا وعلمته أنت؛ فالقول قول الذي قال جهلته أنا وعلمته أنت مع يمينه إن أراد أن يمضي البيع ولم يرد أن يرده؛ لأنه ادعى عقدا يوجب له الخيار، وادعى صاحبه أنه حرام؛ فإن نكل عن اليمين، حلف صاحبه وفسخ البيع.
وأما الوجه الرابع وهو أن يقوك أحدهما علمناه جميعا ويقول الآخر بل جهلته أنا وعلمته أنت، فالقول قول الذي قال جهلته أنا وعلمته أنت مع يمينه إن أراد أن يرد البيع ولم يرد أن

(7/399)


يمضيه، فإن نكل عن اليمين، حلف صاحبه وألزمه البيع، وأما (الوجه) الخامس وهو أن يقول أحدهما أيضا علمناه جميعا، ويقول الآخر علمته أنا وجهلته أنت، فالبيع لهما لازم، إلا أن يكذب الذي قال علمناه جميعا نفسه، ويرجع إلى تصديق صاحبه قبل أن يرجع صاحبه إلى تصديقه فيكون له أن يرد البيع ولا يمين في شيء من ذلك.
وأما الوجه السادس وهو أن يقول أحدهما علمته أنا وجهلته أنت، ويقول الآخر بل علمته أنا وجهلته أنت، فالبيع لهما لازم أيضا، إلا أن يبدر أحدهما إلى تكذيب نفسه ويصدق صاحبه قبل أن يبدر صاحبه إلى مثل ذلك، فيكون له الرد، ولا يمين في شيء من ذلك.
وأما الوجه السابع وهو أن يقول أحدهما جهلته أنا وعلمته أنت، ويقول الآخر بل جهلته أنا وعلمته أنت؛ فالقول قول من أراد أن يرد منهما مع يمينه يحلف ويرده، فإن نكل عن اليمين، حلف صاحبه وألزمه البيع، وقد مضى طرف من هذا المعنى في رسم حلف من سماع ابن القاسم.
وأما قوله إن كان موضع العبيد قريبا اليوم واليومين، فالبيع بشرط النقد جائز، وإن كان موضعهم بعيدا فلا يجوز البيع بشرط النقد، ويجوز أن يتطوع به المبتاع من غير شرط؛ فهو مثل ما في المدونة، خلاف ما في الموطأ من أنه لا يجوز النقد في بيع الغائب بشرط وإن كان قريبا.

[مسألة: وجد مكتلا ملآن طعاما فاشتراه بدينار]
مسألة قال ابن القاسم: في رجل وجد مكتلا ملآن

(7/400)


طعاما، فاشتراه بدينار؛ ثم قال له املأه لي ثانية بدينار؛ قال: إن كان في موضع فيه مكيال فلا أحبه، وهو بمنزلة صبرة اشتراها بدينار فلا بأس به؛ فإن قال له أعطني الآن كيلها بدينار، لم يكن فيه خير؛ ولو وجد غرارة ملأى لم يكن بأسا أن يشتريها بدينار، ولو جاءه بغرارة فقال املأ لي هذه الغرارة بدينار، لم يكن فيه خير.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأن شراء الطعام وغيره جزافا غرر، إلا أن الشرع أجازه توسعة ورخصة لمئونة الكيل فيما يكال في ذلك، والوزن فيما يوزن منه؛ فإنما يجوز شراء ذلك جزافا إذا لم يقصدا فيه إلى الغرر بأن يجده جزافا في وعاء أو في غير وعاء، فيشتريه كما وجده. فالفرق بين شراء الطعام يجده في المكتل والغرارة جزافا بدينار، وبين قوله املأ لي ذلك ثانية بدينار - أن الأول لم يقصد إلى الغرر إذا اشتراه كما وجده جزافا؛ والثاني قصد إلى الغرر إذ ترك أن يشتريه بمكيال معلوم، فاشتراه بمكيال مجهول، ولا يجوز الشراء بمكيال مجهول إلا في موضع ليس فيه مكيال معلوم على ما قاله في المدونة، ودل عليه قوله في هذه الرواية: إن كان في موضع فيه مكيال، يريد مكايل معروفة الكيل يكال بها، فلا أحبه؛ ولما كان لا يجوز أن يقول له ابتداء املأ لي هذه الغرارة بدينار، إذ لا يعلم مبلغ كيلها، لم يجز أن يقول له ذلك بعد أن اشتراها ملأى كما وجدها؛ إذ لا يعلم مبلغ كيلها فتقدم شراؤه إياها

(7/401)


جزافا؛ وأجاز ذلك في سماع أبي زيد في سلال العنب، من أجل أنه يجوز أن يسلف في سلال من العنب بمعيار يكون قدرها كذا وكذا، ولو قال رجل لرجل صبر لي طعامك مما هنا صبرة وأنا أشتريها منك جزافا، لما انبغى أن يجوز ذلك، لما فيه من القصد إلى الغرر على قياس ما قلناه.

[مسألة: اشترى دارا على أن فيها ألف ذراع فلم يجد إلا خمسمائة]
مسألة وقال في رجل اشترى دارا على أن فيها ألف ذراع، فلم يجد إلا خمسمائة؛ قال: هو مخير بين أن يأخذ الخمسمائة وما يصيبها من الثمن، وبين أن يرد ويأخذ ماله؛ قيل له: فإن اشتراها وفيها بنيان فانهدم البنيان، ثم قاس فلم يجد إلا خمسمائة؛ قال: يلزمه الخمسمائة بما يصيبها من الثمن، وقد قال في كتاب أسد: يكون مخيرا في أخذها كلها بجميع الثمن أو يترك.
قال محمد بن رشد: إنما قال ذلك إذا اشترى دارا على أن فيها ألف ذراع فلم يجد إلا خمسمائة، أنه مخير بين أن يأخذ الخمسمائة بما يصيبها من الثمن، وبين أن يرد ويأخذ ماله، وقال: إنه إن كان فيها بنيان فانهدم، لزمته خمسمائة بما يصيبها من الثمن، ولم يكن له خيار في ردها؛ من أجل أن ما نقص من الزرع بمنزلة ما استحق، واستحقاق نصف ذرع الدار إذا لم يكن فيها بنيان كثير، يوجب له الخيار، وليس نقصان نصف ذرع الدار إذا كان فيها بنيان بكثير، إذ قد يكون قيمة البنيان وقيمة البقعة سواء، فإذا نقص من ذرع البقعة نصفه، فكأنه لم يستحق عليه مما اشترى إلا ربعه، وسواء كان البنيان قائما أو انهدم؛ لأن مصيبة ما انهدم من الدار بعد الشراء من المشتري، وهذا على القول بأن شراء الدار أو الأرض أو الثوب أو الخشبة، على أن فيها كذا وكذا، بمنزلة إذا اشترى منها كذا وكذا، وأما على القول بأن ذلك كالصفة لما اشترى وهو أظهر القولين، فهو

(7/402)


مخير إذا اشترى الدار على أن فيها ألف ذراع، فوجد فيها خمسمائة، بين أن يأخذ بجميع الثمن ما وجد، أو يرد، وهو الذي قاله في كتاب أسد؛ والقولان قائمان من كتاب تضمين الصناع من المدونة، وقد مضى القول على هذا المعنى مستوفى في أول سماع أشهب، والله ولي التوفيق.

[رقيق يؤتى به من طرابلس إلى مصر فيباع فيمن يزيد]
ومن كتاب (أوله) بع ولا نقصان عليك قال ابن القاسم: سألني اليوم رجل عن رقيق يؤتى به من طرابلس إلى مصر، فيباع فيمن يزيد، فيأتي رجل من أهل مصر برأس له، فيقول للصائح: اخلطه بها وبعه ولا تعلم أنه لي ففعل، ثم يطلع المشتري على ذلك فيريد أن يرده؛ قال: فقلت: ذلك له؛ لأن الرجل قد يبلغه عن رقيق موضع يجلب منه، فيرغب فيها فيباع وهو يظن أنه منها، ثم يتبين له، وكذلك الدواب التي تجلب الحمير وغيرها من موضع يجلب منه، فيصاح عليها فيدخل رجل دابته بينها فتباع، فإن مشتريها له أن يردها، قال: ولقد قال مالك في تركة الميت تباع ممن يزيد فيأتي رجل بسلعة ثوب أو عبد أو غير ذلك، فيخلطه بالتركة فتباع: إن المبتاع بالخيار إذا علم، إن شاء رد، وإن شاء أمسك؛ فالمسألة الأولى مثلها.
قال محمد بن رشد: هذا بيّن على ما قال، إذ قد يرغب في شراء

(7/403)


المجلوب من الرقيق، ويكره شراء رقيق البلد؛ وكذلك الدواب وغيرها قد يرغب في المجلوب منها ما لا يرغب في شراء غير المجلوب، وكذلك تركة الميت قد يرغب فيها ما لا يرغب في غيرها، لما يعلم من طيب كسبه ويؤمن فيها من الاستحقاق وما أشبه ذلك، والله الموفق.

[اشترى قمحا بدينار فسأله رجل على أن يوليه نصفه]
ومن كتاب أوله لم يدرك من صلاة الإمام إلا الجلوس وقال في رجل اشترى قمحا بدينار، فسأله رجل على أن يوليه نصفه؟
قال: يعطيه دينارا ويرد عليه نصفه دراهم، واستثقل أن يعطي في التولية إلا مثل ما أعطى إن كانت دراهم فدراهم، وإن كانت دنانير فدنانير، وذلك قبل أن يستوفى ويكال، فأما بعد الكيل والاستيفاء، فلا بأس بما أعطاه؛ لأنه بيع جديد، وليس بعد تولية.
قال محمد بن رشد: استحسانه أن يعطيه في التولية دينارا كما دفع هو ويرد عليه نصفه دراهم، لا وجه له؛ لأنه لم يأخذ مثل ما دفع إليه؛ لأنه قبض في الدينار الذي دفع عشرة أرادب حنطة في التمثيل، ودفع فيه إلى المولى خمسة أرادب حنطة ودراهم، ولا يجب على من عليه نصف دينار لرجل أن يدفع إليه دينارا ويأخذ نصفه دراهم، ولا على من له نصف دينار، أن يأخذ دينارا ويرد نصفه دراهم؛ وإذا لم يجب ذلك على واحد منهما، انبغى أن يكون ذلك في التولية مكروها، لتراضيهما فيها على خلاف ما يوجبه الحكم من الثمن، فيضارع البيع قبل الاستيفاء؛ والذي

(7/404)


أقول به في هذا أن إجازة التولية من نصف الطعام المشترى بدينار، يتخرج على اختلافهم فيمن وجب له على رجل جزء من دينار، هل يراعى فيه في وجه الصرف ما يوجبه الحكم، أو ما ثبت في الذمة؛ وقد مضت من هذا مسائل كثيرة في سماع ابن القاسم وغيره من كتاب الصرف، فتجوز التولية فيه على القول بمراعاة ما ثبت في الذمة ويعطيه دراهم؛ إذ لا يقدر أحدهما على الامتناع مما يوجبه الحكم، ولا يجوز على القول بمراعاة ما يوجبه الحكم؛ لأنه بمنزلة من ابتاع طعاما بدينار، فولاه بصرفه من الدراهم.

[يجعل في الخل الماء الذي لا يصلح إلا به]
ومن كتاب إن خرجت من هذه الدار وقال مالك: لا بأس أن يجعل في الخل الماء الذي لا يصلح إلا به.
قال محمد بن رشد: وكذلك الماء يجعل في اللبن لاستخراج زبده لا بأس بذلك، قاله مالك في أول رسم من سماع أشهب من كتاب السلطان؛ وليس ذلك من الغش، وإنما الغش ما يطرح في ذلك بعد ذلك من الماء ليكثر به، وأما ما يصلح به فلا بأس به؛ وقال سحنون في سماع أشهب من كتاب السلطان في مسألة الخل مثل قول مالك هاهنا قياسا على قوله في مسألة اللبن.

[مسألة: يشتري حمل الماء ففيما يجيء معه]
مسألة وسئل: عن رجل يشتري حمل الماء، ففيما يجيء معه

(7/405)


السقاء ينقطع رواياه وينكسر، قال له قبل أن يبلغ على من ترى الضمان؛ قال: أرى الضمان على السقاء؛ لأن هذا من الأمور التي تشترى على أن تبلغ وهو من أمر الناس.
قال محمد بن رشد: حمل هذه المسألة على عادة الناس من أنهم إنما يشترون الماء على البلاغ، وليس ذلك على الأصول؛ لأنه جزاف؛ ولو اشترى رجل زيتا في زق أو لبنا في زق فتلف في الطريق، لكان ضمانه منه؛ وفي المبسوطة لأصبغ في الماء أن الضمان من المشترى وهو القياس، ومعنى قوله أنه ضامن لما يجب من الثمن (للماء) الذي اشتراه به؛ لأنه اشتراه على أن يحمله له إلى داره، فإذا عثر به فذهب، لم يكن عليه في الماء ضمان، ولم يكن له فيما حمل كراء على مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك في تلف الشيء المستأجر على حمله من قبل ما عليه استحمل؛ فيحتمل أن يكون معنى ما قاله ابن القاسم في الرواية، أن الضمان من السقاء إذا لم يكن للماء قيمة في الموضع الذي اشترى منه الحمل فيه، فيكون جملة الثمن إنما هو على توصيله فقط.

[مسألة: اشترى غنما غائبة بغلام غائب على صفة]
مسألة وقال في رجل اشترى غنما غائبة) بغلام غائب على صفة، فقدم بالعبد على الصفة ولم يقدم بالغنم، فمات العبد قبل أن تأتي الغنم؛ قال: ينظر، فإن جاءت الغنم على الصفة، أو على غير

(7/406)


الصفة، فأراد مشتريها أن يأخذها كما جاءت على غير الصفة، كان العبد من الذي كان إليه صائرا وذلك بائع الغنم؛ وإن لم تأت الغنم على الصفة، فالمصيبة من بائع العبد إن أبى بائع العبد أن يأخذها.
قال محمد بن رشد: موت العبد بعد قدومه على الصفة كتلف الثمن الموضوع بيد أمين في بيع الغائب، وفي المواضة؛ قيل: إنه من المبتاع، وهو قول مالك في نوازل سحنون من كتاب الاستبراء وأمهات الأولاد؛ فعلى هذا القول ينفسخ البيع في الغنم بموت العبد، وإن جاءت الغنم على الصفة أخذها مبتاعها وكانت مصيبة العبد من بائع الغنم الذي كان إليه صائرا، وإن تلفت قبل أن تدخل في ضمان مبتاعها إما بالقبض وإما بإدراك الصفة لها على الاختلاف في ذلك، كانت مصيبة العبد من بائعه، وكذلك إن جاءت على غير الصفة، فأبى بائع العبد أن يأخذها تكون مصيبة العبد منه؛ واختلف على هذا القول إن جاءت على غير الصفة، هل له أن يأخذها بالعبد التالف، فتكون مصيبة من بائع الغنم؛ فقيل: ذلك له، وهو قوله في هذه الرواية على قياس قوله، وقول أشهب في نوازل سحنون من كتاب الاستبراء في الثمن يتلف في المواضعة؛ وقيل: ليس ذلك له، ويفسخ البيع على كل حال، وهو الذي يأتي على ما ذهب إليه ابن حبيب في الثمن يتلف في المواضعة، وقد مضى تحصيل القول في هذا في أول سماع ابن القاسم من الكتاب المذكور.

[مسألة: الحميل يبيع من الغريم سلعة ليبيعها فيقضي صاحب الحق ثمنها]
مسألة وسئل ابن القاسم: هل يجوز للحميل أن يبيع من الغريم سلعة ليبيعها فيقضي صاحب الحق ثمنها؟ قال ابن القاسم: إن

(7/407)


كان بيعه بشرط على أن يبيعها فيقبضه، فلا خير فيه؛ وإن كان اشتراها منه شراء الناس ولا يدري أيبيعها في قضائه أم لا؟ فلا بأس به.
قال محمد بن رشد: قوله هل يجوز للحميل أن يبيع من الغريم سلعة ليبيعها فيقضي صاحب الحق ثمنها، معناه: هل يجوز (له) أن يبيع منه سلعة بثمن إلى أجل على أن يبيعها بالنقد ويؤدي ثمنها إلى الغريم الذي تحمل له به؟ فقال: إنه لا خير فيه، والمكروه فيه بين؛ وذلك أنه إذا باعه إياها على أن يبيعها (ويؤدي ثمنها فيما عليه من الدين الذي هو حميل به، فكأنه إنما وكله على بيعها) ليقضي عن نفسه وعنه ما تحمل به عنه، فهو بالتمثيل يبيعها بثمانية ويؤديها إلى الغريم في دينه، وهو قد باعها منه بعشرة إلى أجل؛ فكأنه أسلفه ثمانية في عشرة إلى أجل أو أدى عنه ثمانية على أن يأخذ منه عشرة إلى أجل، وذلك ما لا يحل ولا يجوز.

[مسألة: قال لرجل ولني بيع دارك ولك عندي عشرة دنانير]
مسألة قال ابن القاسم: من قال لرجل ولني بيع دارك ولك عندي عشرة دنانير، قال: إذا فعل وسمى للدار ثمنا فالعشرة لازمة، ولا بأس بهذا.
قال محمد بن رشد: قوله وسمى للدار ثمنا، يريد: أو فوض إليه الاجتهاد في بيعها بما يراه من الثمن؛ لأنه إنما بذل له العشرة على أن يتم

(7/408)


له ما أراد من بيعها لما له من الغرض في ذلك؛ فلو كان لم يسم له ثمنا ولا فوض إليه الاجتهاد فيما يبيعها به لما جاز ذلك؛ إذ لعله لا يرضى أبدا ببيعها بما يعطى فيها، فتذهب العشرة التي أعطى باطلا، أو ترد فيكون سلفا رجاء منفعة؛ وإذا ولاه بيع الدار على ما بذل له، فليس له أن يعزله عن ذلك قبل أن يبيع؛ إذ لا يتعلق بذلك حق لغيره، بخلاف النكاح الذي يتعلق به حق الولية المزوجة على ما مضى القول فيه في رسم الجواب من سماع عيسى من كتاب النكاح؛ وسيأتي في رسم البز من سماع ابن القاسم من كتاب الجعل والإجارة، وفي رسم البراءة من سماع عيسى، منه مسائل من هذا المعنى، نتكلم عليها إذا مررنا به.

[مسألة: يشتري الرجل المتاع أو الجارية أو العبد ويشترط على الرجل حملانه إلى بلد]
مسألة وقال: لا بأس أن يشتري الرجل المتاع أو الجارية أو العبد، ويشترط على الرجل حملانه إلى بلد، ولو قال: أشتري منك هذه السلعة بعشرين دينارا على أن تحمل لي هذا المتاع لمتاع آخر إلى بلد، لم يكن به بأس أيضا؛ لأنه إنما اشترى السلعة ببعض الثمن واكترى ببعضه.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال؛ لأن الشراء والكراء جائز أن تجمعهما الصفقة، وهو مما لا اختلاف فيه؛ ولو كان المبيع دابة واشترط أن يحمل عليها متاعا إلى بلد بعيد لم يجز، فإن لم يعين الحمل عليها؛ وضمن ذلك المشتري جاز، والله الموفق.

(7/409)


[يبيع السلعة بمائة دينار على أن يعيره دابة بعينها إلى الإسكندرية]
ومن كتاب أوله أسلم وله بنون صغار
وسئل: عن الرجل يبيع السلعة بمائة دينار على أن يعيره دابة بعينها إلى الإسكندرية، هل يجوز هذا؛ وكيف إن جاز هذا فعطبت الدابة ببعض الطريق؛ هل عليه أن يخلف (له) دابة أخرى مكانها؟
قال: ذلك جائز، وليس عليه أن يحمله على دابة أخرى مكان الدابة التي عطبت، فأرى أن يرد من ثمن السلعة قدر ما قصرت الدابة حين عطبت عن الإسكندرية؛ قال أصبغ: ويقوم كراؤها إلى الموضع الذي شرط ركوبه إليه، فيعرف كم هو، فيضم إلى الثمن ثم يقسم قيمة الدابة المشتراة على قيمة الركوب؛ فما أصاب قيمة الركوب من قيمة الدابة، قسم على ما ركب وما لم يركب، ثم يرجع بما لم يركب من ذلك مما أصابه عينا، ولا يرجع في الدابة.
قال محمد بن رشد: قوله في الذي يبيع السلعة بمائة دينار على أن يعيره دابة بعينها إلى الإسكندرية، إن ذلك جائز صحيح؛ وسواء كان المشتري هو المشترط لعرية الدابة إلى الإسكندرية على البائع، أو كان البائع هو مشترطها على المبتاع؛ والسؤال يحتمل الوجهين، فتكلم ابن

(7/410)


القاسم على أن المبتاع هو مشترطها على البائع، ولذلك قال: إن البائع يرد من ثمن السلعة قدر ما قصرت الدابة حين عطبت قبل بلوغها إلى الإسكندرية؛ ووجه العمل في ذلك أن ينظر إلى قيمة السلعة وإلى قيمة ركوب الدابة إلى الإسكندرية؛ فإن كانا سواء، علم أن الثمن وقع نصفه للسلعة ونصفه للركوب؛ فإن كان قد سار نصف الطريق، رجع المبتاع على البائع بربع الثمن الذي دفع إليه؛ لأنه هو الذي ينوب منه ما بقي له من الركوب؛ وعلى هذا الحساب إن كانت قيمة السلعة أقل من قيمة الركوب أو أكثر، أو كان قد سار أقل من نصف الطريق أو أكثر.
وقوله وليس عليه أن يحمله على دابة أخرى مكان الدابة التي عطبت لفظ ليس على ظاهره؛ لأن فيه دليلا على أنه لو أطاع بذلك وإن لم يكن واجبا عليه لجاز، وليس ذلك بجائز على حال؛ لأنه فسخ الدين في الدين، من أجل أن الواجب للمبتاع على البائع أن يرد عليه من الثمن ما ينوب منه لما بقي من الركوب؛ فإذا أخذ منه بذلك دابة يركبها، كان قد فسخ ما وجب له به الرجوع عليه من الثمن في الركوب؛ وذلك لا يحل ولا يجوز على مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك إلا عند الضرورة التي تحل أكل الميتة، مثل أن يكون ذلك في صحراء حيث لا يجد كراء، أو يخشى على نفسه الهلاك إن لم يأخذ من البائع دابة فيبلغ عليها فيما (وجب) له عليه من الثمن، وذلك منصوص عليه في رسم مرض من سماع ابن القاسم من كتاب الرواحل والدواب؛ وأشهب يجيز أن يأخذ منه دابة بما بقي له من الثمن وإن لم تكن ضرورة، وتكلم أصبغ على أن البائع هو مشرط العرية على المبتاع، ولذلك قال: إن الكراء يقوم فيضم إلى الثمن ... إلى آخر

(7/411)


قوله؛ ووجه العمل في ذلك على ما حمل المسألة عليه من أن البائع هو مشترط كالعرية، أن ينظر إلى قيمة ركوب الدابة إلى الإسكندرية وإلى الثمن؛ فإن كانا سواء، علم أن السلعة وقع نصفها للركوب ونصفها للثمن؛ وإن كان البائع قد سار نصف الطريق، رجع على المبتاع في السلعة التي باع منه، فكان شريكا معه بربعها؛ لأنه هو الذي يجب منها لما بقي له من الركوب، إلا أن تكون السلعة المبيعة مما تضر فيه الشركة كالجارية والدابة والثوب الذي يشترى للباس، وما أشبه ذلك؛ فيأخذ منه قيمة ربعها، ولا يكون معه شريك فيها، لضرر الشركة على مذهب ابن القاسم، وهو قول أصبغ هاهنا؛ وأشهب لا يراعى ضرر الشركة، فيقول: إنه يرجع في عين السلعة ما كانت، فيكون فيها شريكا معه؛ وقد قيل: إنه يرجع فيها فيكون شريكا معه إلا أن لا يرضى المبتاع بضرر الشركة فيفسخ البيع في الجميع، وهو قول ابن القاسم في سماع يحيى من كتاب الشفعة؛ فمتى كان المشتري هو مشترط الركوب على البائع، سميت قيمة الركوب من قيمته مع قيمة السلعة، فرجع المبتاع على البائع بذلك الجزء من الثمن.
ومتى كان البائع هو مشترط الركوب على المبتاع سميت قيمة الركوب من قيمته مع الثمن، فرجع البائع على المبتاع بذلك الجزء في السلعة، أو في قيمتها إن كانت قد فاتت، أو كانت مما يضر بالمبتاع الشركة فيها على ما ذكرناه في ذلك من الاختلاف.

[مسألة: باع رداءه أو كساءه بدينار وانتقد الدينار]
مسألة وسئل ابن القاسم: عن رجل باع رداءه أو كساءه بدينار وانتقد الدينار، فقال البائع للمشتري: أبلغ البيت به آخذ على نفسي

(7/412)


ثوبا ثم آتيك بكسائك، فاختلس منه الكساء، ممن تكون المصيبة؟ قال: المصيبة من المشتري، وليس على البائع شيء إذا قامت بينة على ذلك.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن سؤال البائع المشتري بعد أن باع منه الثوب أو الكساء وانتقد ثمنه، أن يذهب به إلى بيته، ثم يأتيه به استعارة منه له؛ ومن استعار ما يغاب عليه من ثوب أو غيره، فقامت بينة على تلفه، فالمصيبة من المعير على المشهور في المذهب، وهو نص قول ابن القاسم وروايته عن مالك؛ ولو لم تكن له بينة على أن الكساء أو الثوب اختلس منه، لوجب أن تكون عليه قيمته للمبتاع بالغة ما بلغت، كانت أقل من الدينار الذي باعه به أو أكثر.
وقد روي عن مالك، وهو قول أشهب أن المستعير ضامن لما يغاب عليه، وإن قامت له بينة على تلفه؛ فعلى هذا يكون البائع ضامنا لقيمة الكساء وإن كانت له بينة على أنه اختلس منه؛ ويتخرج في المسألة على قول من رأى على البائع في العروض حق توفية، وأنها في ضمانه وإن انتقد الثمن وطال الأمر ما لم يقبضها المبتاع، أو يدعه البائع إلى قبضها فيأبى؛ وهو قول ثالث وهو أن المصيبة تكون من البائع في الكساء وإن قامت له بينة على أنه اختلس منه، وينتقض فيه، فيرد على المبتاع ديناره.

[مسألة: باع من رجل سلعة بنصف دينار من صرف العشرين درهما بدينار]
مسألة وسئل: عن رجل باع من رجل سلعة بنصف دينار من صرف العشرين درهما بدينار، فقال له: عشرة دراهم غلا الصرف أو نقص، فإن قال أبيعكها بعشرة دراهم من صرف عشرين درهما

(7/413)


بدينار، قال له: نصف الدينار غلا الصرف أو نقص؛ وقد قال ابن القاسم في غير هذا الكتاب: إذا قال أبيعك بعشرة دراهم من صرف عشرين درهما بدينار، أن له نصف دينار؛ وروى أشهب عن مالك مثله، يعطيه نصف دينار ما بلغ، كان أقل من ذلك أو أكثر إن كانت العشرة من بيع باعه؛ وأما إن كانت من سلف أسلفه، فلا يأخذ إلا مثل ما أعطى.
قال محمد بن رشد: هذا بيّن على ما قال، وهو مما لا اختلاف فيه، أنه إذا باع بنصف دينار من صرف عشرين درهما بدينار، أنه ليس له نصف الدينار الذي سمى إذ لم يسمه إلا ليبين به عدد الدراهم التي باع بها؛ وأنه إذا باع بعشرة دراهم من صرف عشرين درهما بدينار، أنه ليس له الدراهم التي سمى، إذ لم يسمها إلا ليبين بها الجزء الذي باع به من الدينار؛ وقد مضى هذا كله في رسم البيوع الأول من سماع أشهب من كتاب الصرف، وفي سماع يحيى منه.
وقوله: فأما إن كانت من سلف أسلفه، فلا يأخذ منه إلا مثل ما أعطى، معناه: فليس له أن يأخذ منه إلا مثل ما أسلفه، إلا أنه لا يجوز له أن يأخذ منه دنانير إذا أسلفه دراهم، أو دراهم إذا أسلفه دنانير، بل ذلك جائز إذا حل الأجل ولم يكن في السلف شرط ذلك؛ والسلف في هذا بخلاف البيع، لا يجوز لمن خرجت من يده دنانير على سبيل البيع أن يأخذ بها دراهم، ولا لمن خرجت من يده دراهم على سبيل البيع إن لم يأخذ بها دنانير؛ والفرق بينهما أن السلف معروف، فلا يتهمان فيه على القصد إلى العمل بالربا، والبيع على سبيل المكايسة، فإنهما على القصد إلى ما آل إليه أمرهما من الربا.

(7/414)


[مسألة: اشترى مائة إردب من طعام بعينه ونقده الثمن فيكيله]
مسألة وسئل: عن رجل اشترى مائة إردب من طعام بعينه ونقده الثمن فيكيله، فلا يجد فيه إلا ثمانين؛ هل ترى أن يأخذ منه بثمن العشرين طعاما غيره أو تمرا أو زبيبا أو شيئا غير الطعام؛ قال: لا بأس بذلك، وإنما هو بيع مستأنف؛ لأنه لم يكن طعاما مضمونا، ولم يكن له على صاحبه إذا نقد الطعام أن يأتيه بطعام غيره؛ وإنما كان يجب عليه رد بقية الثمن، وليس بذلك بأس، وله أخذ ما تحول إليه مكانه، فإن أخره، كان الكالئ بالكالئ.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة، وقد مضت والقول فيها في أول رسم من السماع، فلا معنى لإعادة شيء من ذلك، وبالله التوفيق.

[يشتري الثمرة قبل أن يبدو صلاحها]
ومن كتاب الثمرة وسألت ابن القاسم: عن الرجل يشتري الثمرة قبل أن يبدو صلاحها، والزرع قبل أن يبدو صلاحه، ليجد الثمرة للعلوفة ويحصد الزرع للعلوفة؛ ثم يشتري الأرض من أصلها، والحائط من أصله؛ فيريد أن يقر الزرع ويقر الثمرة حتى تطيب؛ قال ابن القاسم: إذا اشترى ذلك للعلوفة، ثم اشترى الأصل

(7/415)


فلا بأس به أن يقر ذلك؛ لأن الصفقتين جميعا كانتا حلالا، ولو اشترى الزرع قبل أن يبدو صلاحه ليقره حتى يحبب، أو اشترى الثمرة قبل أن يبدو صلاحها ليقرها حتى تطيب؛ ثم اشترى الحائط وأصل الأرض، ثم أراد أن يقره؛ لم يجز ذلك وانفسخ بيع الثمرة، فكان الثمر لبائعه، ورد ثمن الثمرة إلى مشتري الحائط؛ لأنها كانت صفقة حراما، قلت: فلو كان اشتراه على هذه الصفقة ثم ورث الأصل من بائعه، هل يكون له أن يقره؟ قال: إذا ورثه فلا بأس أن يقره.
قال محمد بن رشد: أجاز إذا اشترى الأصل وقد كان اشترى الثمرة قبل أن تزهي على أن يقطعها، أو يقرها إن شاء؛ ومثله في كتاب كراء الأرضين من المدونة وهو بيّن في الجواز؛ لأن الثمرة قد حصلت في ضمانه تكون الأصول له، وارتفع بذلك الغرر عنها؛ فإن شاء جدها؛ وإن شاء تركها، وكذلك يجب إذا صار إليه الأصل بأي وجه كان من وجوه الملك؛ وأما إذا اشترى الثمرة على أن يقرها ثم صار إليه الأصل بوجه من وجوه الملك، فلا بد من فسخ البيع فيها؛ لأن الصفقة وقعت فاسدة، فلا يصلحها تصيير الأصل إليه بوجه من وجوه الملك؛ فلا بد من فسخ، إلا أن يصير الأصل إليه بميراث من الذي ابتاع منه الثمرة فيمتنع الفسخ فيها؛ إذ لا يمكن أن يردها على نفسه، كمن

(7/416)


حلف ليقضين فلانا حقه إلى أجل، فمات المحلوف عليه قبل الأجل والحالف وارثه (أنه) لا حنث عليه بحلول الأجل؛ إذ لا يمكن أن يقضي نفسه لوجوب الحق له بالميراث؛ وقد استحسن مالك في رسم إن أمكنتني من سماع عيسى من كتاب الأيمان بالطلاق أن يرفع ذلك إلى السلطان فيقضيه، ثم يرده عليه للبراءة من الحنث، وهو استحسان بعيد؛ لأن قضاء السلطان على أن يرده عليه كالإقضاء، فلا يدخل في هذه المسألة؛ ولو صار إليه الأصل بميراث من غير الذي اشترى منه الثمرة، لوجب الفسخ فيها وردها على الذي باعها منه؛ ولو ورث بعض الأصل من الذي اشترى منه الثمرة، لوجب أن يفسخ البيع منها في مقدار ما صار، لإشراكه في الميراث من الأصل؛ ولو اشترى الثمرة على أن يبقيها ثم اشترى الأصل، فلم يفطن لذلك حتى أزهت الثمرة، لم يفسخ البيع فيها؛ وكان على المبتاع قيمتها يوم اشترى الأصل؛ لأنه باشتراء الأصل يكون قابضا للثمرة، ويكون ما حدث من النماء فيها بعد القبض يفوتها، قاله أبو إسحاق التونسي.
وكذا يجب وإن لم تزه إذا نمت بعد شراء الأصل، فقف على ذلك؛ ولو اشترى الثمرة قبل أن تؤبر على ترك الجد ثم اشترى الأصل قبل أن تؤبر الثمرة، لفسخت الصفقة الأولى والثانية؛ بخلاف إذا اشترى الأصل بعد إبار الثمرة؛ إذ لا يمكن أن يفسخ البيع في الثمرة خاصة قبل الإبار، فيكون بمنزلة من اشترى نخلا قبل أن تؤبر على أن تبقى الثمرة للبائع، وذلك مما لا يجوز.

[مسألة: اشترى زيتونة على أن يقطعها فتوانى في قطعها حتى أثمرت]
مسألة وسئل: عمن اشترى زيتونة على أن يقطعها فتوانى في قطعها

(7/417)


حتى أثمرت، لمن تكون الثمرة؛ قال: الثمرة لمشتري الشجرة.
قال محمد بن رشد: قوله حتى أثمرت، يريد حتى صار لها ثمرة؛ والمعنى فيها: أنه اشتراها ولا ثمرة فيها أصلا، أو فيها ثمرة إلا أنها لم تبلغ حد الإبار، وهو في الزيتون وشبهه اللقاح، فلم يقطعها المشتري حتى ألقحت عنده وبلغت بعد اللقاح مبلغا ينتفع بها بعد قطع الأصل؛ وأما لو اشترى الزيتونة بعد أن ألقحت ثمرتها على أن يقطعها، فلم يقطعها حتى طابت ثمرتها، لكانت الثمرة للبائع باتفاق؛ وفي قوله إن الثمرة لمشتري الشجرة، دليل على أن قطعها على المشتري، إذ لو كان قطعها على البائع، لكان الضمان منه، ولكانت الثمرة له؛ وذلك معارض لما مضى في رسم سلف من سماع ابن القاسم في مسألة الضأن يباع صوفها، وقد مضى من القول عليها هناك ما فيه شفاء لمن تأمله؛ وإذا كانت الثمرة لمشتري الشجرة، فيكون عليه للبائع أجر قيامه عليها إن كان يسقيها ولم يكن المطر يسقيها، قاله ابن القاسم في رواية ابن أبي جعفر عنه؛ ويكون له عليه كراء موضعها من الأرض إن كان غائبا باتفاق، وإن كان حاضرا على اختلاف؛ إذ قد قيل: إنه يحلف إن كان حاضرا ويكون له الكراء، وهو قول عيسى بن دينار في رسم القطعان من سماعه من كتاب الشركة، وهو أصل قد اختلف فيه قول ابن القاسم.
وقال ابن عبدوس: إن كان البائع اشترط الأغصان فالثمرة له، وإن لم يشرط ذلك وكان البيع مجملا، فذلك للمبتاع، وقاله سعيد بن حسان؛ ويلزم على قياس ما قلناه أن يكون عليه لمشتري الشجرة كراء العمود إن كان غائبا؛ وإن كان حاضرا، فعلى ما ذكرناه من الاختلاف؛ وقد قال ابن لبابة على قياس ما قلناه: ولو اشترى عمود الزيتونة، واشترى آخر الفروع، ثم استؤتي بقطعها حتى أثمرت، فإن الثمرة لصاحب الفروع، وعليه كراء العمود، وعلى صاحب العمود كراء الأرض؛ قال:

(7/418)


وذلك إذا كان صاحب الأرض وصاحب العمود غائبين، فإن كان صاحب الأرض غائبا وصاحب العمود حاضرا لم يكن لصاحب العمود الكراء، وكان لصاحب الأرض كراؤها على صاحب العمود، وقد روى سحنون في مسألة الزيتونة: تشترى على القطع فتثمر قبل ذلك، أرى الضمان على البائع فالغلة له، وذلك يدل على ما ذكرناه من معارضتها لمسألة الضأن يباع صوفها.

(7/419)