البيان
والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة [كتاب جامع
البيوع الثالث] [يبتاع الزقاق فيها
الزيت فيمر بها فيذهب الزيت قبل أن يفرغها في آنيته]
(7/421)
ومن كتاب أوله حمل صبيا على دابة وسئل ابن
القاسم: عن الرجل يبتاع الزقاق فيها الزيت فيمر بها فيذهب الزيت قبل أن
يفرغها في آنيته ممن هو؟
قال: من المشترى؛ لأنه كان يجوز له بيعه والأكل منه، وهو قد استوفاه، ولو
لم يستوفه ما حل بيعه؛ لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
نهى عن بيع الطعام قبل أن يُستوفى» .
قال محمد بن رشد: هذا بيّن على ما قال؛ لأنه (إنما) اشترى الزيت في الزقاق
جزافا على غير كيل، فبالعقد يدخل في ضمانه كالصبرة، ولذلك يجوز له بيعها
قبل أن يفرغها من آنية؛ لأنه قد استوفاه لحصوله بالعقد في ضمانه.
[مسألة: يبتاع الشاة ويستثني صاحبها جلدها ثم
يسقط عليها جدار فتموت قبل أن تذبح]
مسألة وسئل ابن القاسم: عن الرجل يبتاع الشاة ويستثني صاحبها جلدها، ثم
يسقط عليها جدار فتموت قبل أن تذبح؛ قال:
(7/423)
هي من المبتاع، قال: وكذلك كل بيع حرام؛
ولو كان بيع وسلف فمات قبل أن يرده إذا وصل إلى المبتاع فهو من المبتاع،
وإذا لم يصل إلى المبتاع وهو في يد البائع فهو من البائع، وهذا كله قول
مالك؛ وفي سماع أصبغ عن ابن القاسم مثله، وقال سحنون مثله؛ وفي سماع عيسى
من كتاب أمهات الأولاد: قال ابن القاسم: ولو استثنى الجلد بموضع يجوز له
استثناؤه فماتت الشاة، أن المشتري لا يكون ضامنا؛ لأن البائع شريك معه.
قال محمد بن رشد: قوله في الذي يبتاع الشاة ويستثني صاحبها جلدها، ثم يسقط
عليها جدار فتموت قبل أن تذبح، إنها من المبتاع؛ يريد إذا استثنى الجلد حيث
لا يجوز له استثناؤه فيه، فكان البيع فاسدا وسقط عليها الجدار بعد أن قبضها
المبتاع؛ بدليل قوله متصلا بذلك: قال: وكذلك كل بيع حرام ... إلى قوله:
وقال سحنون مثله؛ ولأنه لما قال بعد ذلك: وفي سماع عيسى من كتاب أمهات
الأولاد: قال ابن القاسم: ولو استثنى الجلد بموضع يجوز له؛ دل على أنه
يتكلم فيما قبل ذلك؛ إلا إذا استثناه بموضع لا يجوز له، فإذا استثناه بموضع
لا يجوز له، فالبيع فاسد، والمصيبة في الشاة من البائع ما لم يقبضها
المبتاع؛ واختلف إذا قبضها فتلفت بعد القبض، فقيل: يضمنها كلها ويكون عليه
قيمتها يوم قبضها قائمة بجلدها؛ وهو ظاهر ما وقع في هذه الرواية من قول
مالك وابن القاسم في رواية عيسى وأصبغ عنه، وقول سحنون؛ وعلى قياس القول
بأن المستثنى بمنزلة المشتري (من أنه يضمن الجلد) ، وقيل: إنه لا يضمن
الجلد؛ لأنه مبقى على ملك البائع فيضمن على هذا القول قيمتها يوم قبضها،
على أن جلدها مستثنى لو كان يحل بيعها في الحضر على هذا؛ وأما إذا استثنى
الجلد في موضع يجوز له استثناؤه، فالبيع صحيح والمصيبة فيها من
(7/424)
المشتري؛ وإن تلفت قبل أن يقبضها على حكم
البيع الصحيح، إلا أنه اختلف هل يضمن الجلد أم لا؟
فقيل: إنه لا يضمنه، وهو قول ابن القاسم في سماع عيسى من كتاب أمهات
الأولاد هاهنا، وفيما تقدم في رسم أوصى؛ وقيل: إنه يضمنه، وهو قول ابن
القاسم في رواية أصبغ عنه المتقدم في رسم أوصى أن ينفق على أمهات أولاده،
وقد مضى هناك القول على كلتا الروايتين وتوجيههما، وبالله التوفيق.
[يبتاع الأمة على ألا يطأها]
ومن كتاب العشور وسئل ابن القاسم: عن الذي
يبتاع الأمة على ألا يطأها، فإن فعل فهي حرة؛ هل يثبت هذا البيع
ويلزمه فيها ما شرط عن نفسه، وكيف إن قال فإن وطئتها فغلامي حر أو على صدقة
مال أو صيام؟ قال ذلك كله عند البيع؛ قال: أرى هذا كله قبيحا، فإن أدرك
بحدثانه فسخ؛ وإن طال ذلك حتى يفوت بما تفوت به البيوع الفاسدة من الزيادة
والنقصان وغير ذلك؛ كانت اليمين في رقبته، ولزمه البيع بقيمتها يوم قبضها،
فإن وطئها حنث؛ ورواها أصبغ وقال: إذا اشترط ألا يطأ مع البيع ثم حلف فذلك؛
فأما لو لم يكن شرطا في البيع وإنما حلف على ذلك لهم من غير شرط لم يفسد
البيع، وكانت يمينا من الأيمان.
قال محمد بن رشد: لم ير البيع على هذا الشرط من بيوع
(7/425)
الثنيا التي قيل فيها إن البيع لا يفسخ إذا
رضي مشترط الشرط بترك الشرط، من أجل أنها يمين قد لزمت المبتاع، فليس
للبائع أن يسقطها عنه ويمضي البيع؛ وقال فيه: إنه بيع فاسد يفسخ على كل
حال، إلا أن يفوت بما يفوت به البيع الفاسد، فيصحح بالقيمة؛ وقد مضى القول
على هذا في رسم القبلة من سماع ابن القاسم، وقول أصبغ بين في المعنى مفسر
لقول ابن القاسم.
[مسألة: يبيع السلعة بدينار إلا ثلث دينار على
أن يدفع إليه البائع ثلثا إذا جاءه]
مسألة قال: وسئل مالك عن الرجل يبيع السلعة بدينار إلا ثلث دينار على أن
يدفع إليه البائع ثلثا إذا جاءه بدينار، ويشترط ذلك على المشترى؛ قال: لا
خير فيه، ولكنه يبيعه بثلثين ويصطلحان إذا قضاه؛ وإن تعاسرا فليس عليه إلا
ثلث دينار، ولا بأس به إذا كان بالنقد وإن شرط؛ رجع ابن القاسم، وقال: لا
خير أيضا فيه بالنقد، إلا أن يشترط دراهم معدودة، وقد قال في كتاب العيوب:
لا بأس به على كل حال إذا كان نقدا.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال: إنه لا يجوز أن يبيع منه سلعة بدينار
إلا ثلث إلى أجل، على أن يدفع إليه البائع إذا حل الأجل صرف الثلث دراهم،
ويأخذ منه دينارا؛ لأنه يصير إذا فعل ذلك قد باع منه سلعته نقدا، ودراهم
إلى أجل غير مسماة أيضا بدينار إلى ذلك الأجل، وهو حرام لا يحل؛ وإنما الذي
يجوز أن يبيع منه سلعته بدينار إلا ثلث؛ لأنه إذا فعل ذلك كان قد باع منه
سلعته بثلثي دينار؛ فإذا حل الأجل وحان القضاء، اصطلحا في الثلثي الدينار
على ما يجوز بينهما من أن يأخذ منه في الثلثين عرضا مخالفا للعرض الذي
باعه، أو طعاما قبل أن يفارقه، أو
(7/426)
يدفع إليه البائع صرف الثلث ويأخذ منه
دينارا صحيحا؛ فإن لم يتفقا على شيء من ذلك، لم يكن له عليه إلا ثلثا دينار
يحكم عليه فيه بصرفه دراهم، إذ لا ينقسم الدينار القائم؛ واختلف إذ باع منه
سلعته بثلثي دينار نقدا، أو قال: بدينار إلا ثلث، على أن يدفع إليه صرف
الثلث ويأخذ الدينار صحيحا؛ فمرة قال: لا خير فيه؛ لأنه قد باع سلعته
ودراهم غير معلومة بدينار، إذ لم يسميا ما يعطيه في الثلث من الدراهم؛ ومرة
قال: لا بأس بذلك إذا كان ذلك نقدا؛ لأن الصرف في الحال لا يخفى، فكأنهما
قد دخلا على دراهم معلومة في الثلث، فجاز ذلك، والله الموفق.
[اشترى طعاما بعينه غائبا وتواضعا الثمن على يدي رجل فهلك الثمن]
ومن كتاب أوله حبل حبلة وسئل: عن رجل اشترى
طعاما بعينه غائبا وتواضعا الثمن على يدي رجل فهلك الثمن ممن يكون؟
قال: إن وجد الطعام على الصفة، فهو من البائع؛ وإلا فهو من المبتاع؛ قلت:
فلو تعدى بائع الطعام على الطعام فباعه من آخر، قال: يكون عليه أن يشتري له
طعاما مثله، وتكون مصيبة المال منه.
قال محمد بن رشد: قوله: وسئل: عن رجل اشترى طعاما بعينه غائبا، معناه:
بعينه غائبا على الصفة والكيل؛ مثال ذلك: أن يقول البائع: لي في بلد كذا
وكذا طعام صفته كذا وكذا، وكيله كذا وكذا؛ فيقول المبتاع: أنا أشتريه منك
بكذا وكذا، أو يقول: لي في بلد كذا وكذا طعام صفته كذا وكذا، فيقول
المبتاع: أنا أشتري منك منه كذا وكذا إردبا بكذا وكذا؛ وهذا مثل ما في
المدونة من قوله، وقد كان المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام يبيع
وهو بالمدينة ثماره كيلا التي بالصفراء وبخيبر، فلم ير
(7/427)
أحد بذلك بأسا، ولم يره من الدين بالدين؛
وإنما قلنا هذا؛ لأن بيع الطعام الغائب جزافا على الصفة لا يجوز؛ وقد مضى
القول على ذلك مستوفى في أول رسم من سماع ابن القاسم، وضمانه من البائع حتى
يقبضه المبتاع قولا واحدا لا يدخل في هذا اختلاف قول مالك في ضمان الغائب
يشترى على الصفة من أجل أنه مكيل، فهو في ضمان البائع حتى يكيله على
المبتاع.
وفي أصل كتاب اللؤلؤ مكتوب على هذه المسألة، قد قال مالك: لا يجوز على أن
أدركته الصفقة مجموعا، وخالف بينه وبين الزرع القائم في أول الكتاب؛ فكأنه
ذهب إلى أن هذه المسألة مخالفة لمسألة أول الكتاب، وذلك غير صحيح؛ لأن
المعنى في هذه المسألة إنما هو ما ذكرناه من أن شراء الطعام فيها إنما هو
على الصفة والكيل.
وقوله في الثمن الذي هلك: إنه من البائع إن وجد الطعام على الصفة، وإلا فهو
من المبتاع؛ يقتضي ظاهره أن الطعام إن وجد على غير الصفة وقد تلف الثمن، لم
يكن للمبتاع أن يأخذه إلا بثمن آخر؛ لأنه قد قال: إن مصيبته منه إن وجد على
غير الصفة، خلاف ما مضى في رسم إن خرجت؛ وقد روي عن مالك أن الثمن من
المبتاع وإن وجد الطعام على الصفة، فهي ثلاثة أقوال: أحدها: أن الثمن من
المبتاع وإن وجد الطعام على الصفة. والثاني: أنه من البائع إلا أن يوجد
الطعام على الصفة فيلزم المبتاع أن يأخذه. والثالث: أنه من المبتاع إلا أن
يوجد الطعام على الصفة فيلزم المبتاع أن يأخذه، أو على غير الصفة فيريد أن
يأخذه. وقوله: إن على بائع الطعام إذا تعدى على الطعام فباعه أن يشتري
طعاما مثله للمبتاع وتكون مصيبة المال منه، صحيح على أصله في أن مصيبة
المال من البائع إذا وجد الطعام على الصفة؛ لأنه إذا أتاه بمثله، فكأنه هو
الطعام الذي اشترى منه بعينه؛ ولو أبى أن يغرمه مثل الطعام، لكانت مصيبة
المال منه لا من البائع، ولو كان قد نقده الثمن بغير شرط، لم يكن له عند
ابن القاسم خيار في أن يأخذ منه
(7/428)
الثمن أو يغرمه مثل الطعام، قاله في السلم
الثالث من المدونة؛ لأن الإقالة لا تكون إلا ناجزة، فإذا خيره بين الطعام
والثمن دخله بيع الطعام قبل أن يستوفى؛ وأشهب يخيره في ذلك، فلعل ابن
القاسم تكلم إذا لم يعرف عداؤه على الطعام إلا بقوله، وأشهب إذا عرف ذلك،
وبالله التوفيق.
[مسألة: بيع شيء من الثمر رطبه بيابسه]
مسألة وقال ابن القاسم: لا يباع شيء من الثمر رطبه بيابسه، كان مما يدخر أو
مما لا يدخر؛ حل رطبه واحد باثنين وصنفه، أو لم يحل؛ للنهي الذي جاء عن
النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في ذلك، ولا بأس بما لا يدخر من الفاكهة
واحد باثنين أو ثلاثة أو ما شاء من صنفه، رطبه برطبه، ويابسه بيابسه، يدا
بيد؛ ولا خير فيما يدخر من الفاكهة من صنف واحد إلا مثلا بمثل، يدا بيد؛
وقال: إنما أكره الرطب باليابس من صنف واحد، فإذا اختلفت الصنفان فلا بأس
به.
قال محمد بن رشد: أما الرطب باليابس من الصنف الواحد الذي لا يجوز التفاضل
فيه، فلا اختلاف في المذهب في أن ذلك لا يجوز، لما جاء في الحديث من «أن
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل: عن الرطب بالتمر،
فقال: أينقص الرطب إذا يبس؛ قالوا: نعم، قال: فلا إذا.» وأما الرطب باليابس
من الصنف الواحد الذي يجوز فيه التفاضل، فاختلف فيه على ثلاثة أقوال حسبما
مضى القول فيه في رسم يدير ماله من سماع عيسى من كتاب
(7/429)
السلم والآجال، فلا معنى لإعادته. وأما
قوله ولا خير فيما يدخر من الفاكهة من صنف واحد إلا مثلا بمثل، فهو قول
مالك في موطئه؛ لأن كل ما يدخر منها فهي أقوات إذا احتيج إليها، ومذهب ما
في المدونة عندي؛ وقد كان شيخنا الفقيه ابن رزق يتأول ما في المدونة على أن
التفاضل جائز في الصنف الواحد من الفواكه التي تدخر، وليست بأقوات؛ وعلى
هذا الاختلاف يختلف الأصوليون في تحرير علة تحريم التفاضل في الصنف الواحد
من الطعام، فمنهم من يقول: هي أن يكون الصنف الواحد مدخرا مقتاتا أصلا
للمعاش غالبا، وهو الذي يأتي عليه ما كان يحمل عليه الفقيه ابن رزق -
رَحِمَهُ اللَّهُ - ما في المدونة. ومنهم من يقتصر على أن يقول: هي أن يكون
الصنف الواحد مدخرا مقتاتا، ولا يزيد في صفة العلة أصلا للمعاش غالبا، وهو
الذي يأتي عليه ما في هذه الرواية ومذهب مالك في موطئه.
[مسألة: ابتاع ثوبا بنصف دينار وأحال البائع
على المشتري غريما له بالثمن]
مسألة وسئل: عن رجل ابتاع من رجل ثوبا بنصف دينار وأحال البائع على المشتري
غريما له بالنصف الدينار، فأعطاه فيه عشرة دراهم؛ ثم وجد المشتري عيبا
بالثوب، بأي شيء يرجع على البائع؛ قال: بالنصف الدينار وليس بالدراهم.
قال محمد بن رشد: تكررت هذه المسألة في سماع أصبغ من كتاب العيوب، وزاد
فيها، وقاله أصبغ اتباعا، وفيه ضعف وغمز، ومضت
(7/430)
أيضا مستوفاة بتحصيل الاختلاف فيها، وذكر
معانيها وما يتعلق بها في أول سماع ابن القاسم من كتاب الصرف، فلا معنى
لإعادته.
[مسألة: يأتي إلى الجزار أو البياع فيقول له
بعني كما تبيع من الناس]
مسألة وسألت ابن القاسم: عن الذي يأتي إلى الجزار أو البياع فيقول له بعني
كما تبيع من الناس، قال: لا يصلح هذا في شيء من الأشياء؛ قلت: فإن وقع،
قال: إن وقع وكان قائما بعينه، رد البيع وفسخ؛ فإن فات وكان مما يوجد مثله
مثل القمح وغيره مما يكال أو يوزن كيله أو وزنه، فإن كان مما لا يوجد مثله
مثل الثياب وغيرها كانت فيه القيمة.
قال محمد بن رشد: معنى هذه المسألة إذا قال له بعني كما تبيع (من) الناس
فقال له نعم وأعطاه السلعة وانصرف بها دون أن يعلم كيف يبيع من الناس؟ لأنه
انصرف بالسلعة على ثمن مجهول، ولو عقد معه البيع قبل أن يعلم كيف يبيع من
الناس بأن يقول له بعني كذا وكذا رطلا، أو كذا وكذا إردبا، أو أمرا كذا،
كما تبيع من الناس؛ فيقول له قد بعتك، ويقول له هو: وأنا قد اشتريت، قبل أن
يعلمه بما يبيع من الناس؛ لكان العقد فاسدا وإن لم يفارقه ولا انصرف
بالسلعة؛ وكذلك لو قال له بعني كذا وكذا كما تبيع من الناس، فقال له: قد
بعتك فسكت هو ولم يزد على قوله الأول بعني على القول بأن ذلك إيجاب عليه،
وقد مضى ذكر
(7/431)
الاختلاف في ذلك في أول رسم من سماع أشهب
من هذا الكتاب، ومن كتاب العيوب؛ وأما لو قال له بعني كما تبيع من الناس،
فقال له أبيع بكذا وكذا فقال له قد أخذت، وقال له هو: وأنا قد بعتك، لكان
ذلك بيعا جائزا. فإن عثر على أنه قد كذبه فيما قال، كان الحكم في ذلك حكم
الغش والخديعة، يكون له الخيار في القيام وترد السلعة إلى القيمة في الفوات
إن كانت أقل من الثمن؛ وقوله إذا وقع وفات وكان مما يوجد مثله من المكيل
والموزون، أنه يرد كيله أو وزنه؛ هو المشهور المعلوم من قول مالك وأصحابه،
وقد مضى القول على ذلك في أول رسم من السماع.
[مسألة: اشتري من جميع الأشياء مما لا يكال ولا
يوزن فباع بعضها مرابحة]
مسألة قال ابن القاسم: ما اشتريت من جميع الأشياء مما لا يكال ولا يوزن
فبعت بعضها، فلا تبع ما بقي منه ولا جزءا مما بقي منه مرابحة، حتى تبين أنك
قد بعت منه؛ فإن لم تفعل وبعت مرابحة، وكتمت المشترى أنك قد بعت منه، كان
بيعا مردودا يرده إن أحب؛ وإن فات، كانت فيه القيمة؛ وما اشتريت من جميع
الأشياء مما يكال أو يوزن من الطعام وغيره كيلا أو وزنا فبعت بعضه، فلا بأس
أن تبيع ما بقي أو بعض ما بقي مرابحة، ولا تبين أنك قد بعت منه شيئا، وليس
عليك أن تبين.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في المدونة سواء، وعلى ما
(7/432)
ذهب إليه ابن عبدوس من أن الجملة قد يزاد
فيها (مما) لا يجوز أن يبيع مرابحة بعض ما اشترى جملة دون أن يبين وإن كان
ذلك مما يكال أو يوزن؛ وعلى ما وقع في سماع أبي زيد هذا الكتاب، ومن كتاب
السلم والآجال من أنه يجوز لمن اشترى طعاما إلى أجل بثوبين مستويين؛ أن
يستقيل من أحدهما إذا حل الأجل بنصف الطعام، يجوز أن يبيع مرابحة بعض ما
اشترى جملة دون أن يبين وإن كان ذلك مما لا يكال ولا يوزن إذا كانت الصفقة
واحدة، وقد مضى القول على هذا السماع المذكور من كتاب السلم والآجال،
وبالله التوفيق.
[اشترى ثيابا فلما خرج بها وسار بها من عنده
زعم أنه أبدل له ثيابا]
ومن كتاب جاع فباع امرأته وسئل: عن رجل اشترى ثيابا، فلما خرج بها وسار بها
من عنده زعم أنه أبدل له ثيابا، وأقر له بثلاثة أثواب أنه أبدلها، وادعى
المشتري أكثر من ذلك؛ قال: يحلف بالله أنه ما أبدل إلا ثلاثة أثواب، ثم يرد
الثلاثة أثواب إن كانت عنده أو قيمتها من جميع الثمن يقبض ثمنها على جميع
الثياب إن كانت فاتت؛ إلا أن تكون خيار الثياب ووجه المتاع، وفيها كان يرجى
الفضل، ومن أجلها اشترى المتاع؛ فإن كانت كذلك، وفاتت جميع الثياب إذا
فاتت.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة على أصولهم، وقوله فيها ثم يرد
الأثواب إن كانت عنده، أو قيمتها من جميع الثمن ... إلى آخر قوله، يريد: أو
قيمتها من جميع الثمن إن لم تكن الأثواب عنده،
(7/433)
وكانت قد فاتت، وذلك بعد يمينه؛ لقد فاتت
فواتا لا يقدر على صرفها؛ إلا أن يصدقه المبتاع فيما ادعى من فواتها، فتسقط
عنه اليمين في ذلك؛ وإن لم يشبه ما ادعى من فواتها وتبين كذبه في ذلك، اشتد
عليه السلطان في صرفها فيما يراه في ذلك باجتهاده من سجن ونحوه.
[مسألة: أتاه رجل بقراطيس فوضعها عنده يبيعها
له فأراه بعضها]
مسألة وسئل: عن رجل أتاه رجل بقراطيس فوضعها عنده يبيعها له، فأراه بعضها
وقال له بقيتها على هذه الصفة، أو وصفها له أو بعث بها إليه، أو كتب إليه
بصفتها؛ فأتاه رجل فساومه بها فنظر منها إلى قنطار، وأخبره أنها بضاعة لرجل
وضعها عندي أبيعها له، فوصفها أنها على القنطار الذي رأيت؛ أخبرني بذلك
صاحبها أو كتب به إلي؛ فاشتراها على ذلك، وانقلب بها فوجد فيها قنطارا
متغيرا مخالفا للصفة، ولما رأى منها، فأراد ردها؛ فقال البائع: لا أعرف هذا
القنطار، فقال المشترى: احلف لي أن هذا القنطار ليس مما بعت لي، فقال: بل
أحلف لك أني ما أعرف هذا القنطار، ولا دلست فيه؛ ولقد بعتك على ما وصف لي؛
قال ابن القاسم: ليس عليه أكثر من أن يحلف ما يعرف هذا القنطار ولا دلس
فيه، ولقد باعه على ما وصف له، وليس عليه أكثر من ذلك؛ لأنه قد صدقه حين
اشتراه منه على الصفة، وهذه المسألة قد تكلم فيها، وكتب فيها إلى مالك في
الرجل يقف على البزاز
(7/434)
فيقول له: أعندك ثياب قصب؟ فيقول: في هذه
الصندوق كذا وكذا ثوب، من صفة كذا وكذا؛ فيساومه عليها فيبيع منه، ثم يذهب
بالصندوق ويغيب عليه؛ ثم يرجع فيقول وجدتها مخالفة للصفة أو ناقصة من
العدد، أو يقول وجدتها خيوشا؛ أنه لا يصدق وقد لزمه البيع، وعلى البائع
اليمين بالله ما كذبه ولقد باعه على صفة ما كتب إليه؛ ولو كان هذا يجوز،
ذهبت أموال الناس؛ فإذا صدقه على الصفة والعدد، فهو ضامن لما انقلب به.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة على معنى ما في كتاب بيع الغرر من
المدونة، والأصل فيها قوله عز وجل {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا
فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} [البقرة: 283] ، والمشترى في
هذه المسألة قد ائتمن البائع فيما وصفه له من صفة المبتاع وباعه عليه وصدقه
على ذلك، إذ قبضه على قوله، واحتازه دون أن يقلبه وينظر إليه قبل أن
يفارقه؛ فوجب أن يكون القول قول البائع مع يمينه - كما قال مالك، والله
الموفق.
[يبيع الطعام فيأتيه صاحب له بطعام مأكول فقال
أبدل لي هذا من طعامك]
ومن كتاب النسمة وقال ابن وهب وابن القاسم، في الرجل يبيع الطعام فيأتيه
صاحب له بطعام مأكول، فقال: أبدل لي هذا من طعامك، فهل
(7/435)
ترى له أن يفعل ويخلطه في الذي يبيع؟ قال
ابن وهب: لا ينبغي هذا ولا يحل، وهذا من الغش الذي نهي عنه، وقد قال رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من غشنا فليس منا» . فليحذر
هذا وما أشبهه، قال ابن القاسم: يبدله له ولا يخلطه.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم ليس بخلاف لقول ابن وهب، إذ لا يجيز ابن
القاسم ولا غيره أن يبدله ويخلطه فيما بيع، ولا يمنع ابن وهب والله أعلم من
أن يبدله له إذا لم يخلطه؛ فهو الذي يدل عليه قوله: لأنه سئل هل يبدله
ويخلطه؟
فقال: إن ذلك لا يحل لأنه غش؛ ولو كان البدل عنده لا يجوز، لقال: إن ذلك غش
وربا؛ وظاهر هذا من قولهما جميعا، إجازة البدل فيما قل من ذلك وكثر، وهو
ظاهر ما وقع أيضا في سماع ابن القاسم من كتاب الصرف في رسم القبلة منه؛
ومنع من ذلك أشهب في المعفون والمأكول، وهو دليل ما في كتاب القسمة من
المدونة من أنه لا يجوز الطعام المعفون بالطعام الصحيح، ولا بالطعام
المعفون، إلا أن يشبه بعضه بعضا ولا يتفاوت؛ وأجاز ذلك سحنون في المعفون،
ولم يجزه في المأكول.
[مسألة: النواتية الذين يحملون التلاليس إلى
البر فتسقط في البحر]
مسألة قال ابن القاسم، في النواتية الذين يحملون التلاليس إلى البر فتسقط
في البحر: إنه من المشتري.
(7/436)
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال، لا
إشكال فيه؛ لأنه إذا اشترى المتاع في المركب فسقط في البحر في إخراجه من
المركب، فضمانه من المشتري؛ لأنه إنما يخرج من المركب على ملكه؛ ولو اشتراه
وشرط على البائع أنه ضامن لما يصيبه في إخراجه من البحر، لكان البيع فاسدا؛
لأنه اشترى شيئا بعينه على أن البائع ضامن لما أصابه، فصار مبتاعا للضمان.
وقد قال ابن القاسم في الذي يبيع الجارية أو العبد على أن عليه جوازه من
الماكس، قال: لا يعجبني ذلك؛ لأنه لا يدري كم يغرم في ذلك، وقال: جميع
الأشياء التي لا تجتاز من الماكس إلا بغرم، كذلك لا خير في ذلك؛ وإن قبض
ذلك أو كان ضمانه منه، فلا خير في ذلك؛ وليس ذلك بمنزلة الذي يشتري الطعام
بعينه ويستوفيه، ويكون ضمانه منه؛ إلا أن عليه حملانه فلا بأس به، وهذا ليس
فيه غرر، وإنما عليه حملانه بأي الوجوه شاء: إن شاء على سفينته، وإن شاء
على دابته، أو كيف شاء، وبالله التوفيق.
[ابتاع طعاما ونقد بعض الثمن إلى أن يأتيه بالبقية]
ومن كتاب أوله يدير ماله وقال فيمن ابتاع طعاما
ونقد بعض الثمن إلى أن يأتيه بالبقية، ثم بدا له فأراد أن يعطيه من
الطعام بعدة ما نقد، ويستقيل من البقية؛ قال: لا بأس به؛ فإن كان قد نقد
الثمن كله، فلا يصلح أن يأخذ بعضا ويستقيل من بعض، إلا أن يكونا لم يفترقا
ولم يغب على الدنانير.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة مكررة في رسم البيوع
(7/437)
العاشر من سماع أصبغ من كتاب السلم
والآجال، وقلنا فيها هناك: إن الصحيح فيها على أصولهم، أن الإقالة من البعض
جائزة وإن نقده الثمن كله؛ إذ ليس في نفس الإقالة فساد، وإنما يوجد الفساد
في ذلك بمجموع الصفقتين إذا اتهما في ذلك؛ فوجب أن يجوز إذا لم يكونا من
أهل العينة؛ لأن بيوع النقد لا يتهم فيها إلا أهل العينة على ما مضى في رسم
كتب عليه ذكر حق من سماع ابن القاسم من الكتاب المذكور، وفي غيره من
المواضع.
[يبيع الصبي الصغير على أن ينفق عليه عشر سنين ثم يعتق المشتري الصبي]
ومن كتاب البراءة
قال: وسألته: عن الرجل يبيع الصبي الصغير على
أن ينفق عليه عشر سنين ثم يعتق المشتري الصبي، أو يبيعه، أو يموت؛
قال: ينظر كم نفقة العشر سنين، وكم قيمة الصبي، فإن كان الصبي نصف القيمة
أو ثلثي القيمة، رجع إلى الثمن، فوضع بقدر ذلك بعض الثمن على قيمة العبد،
وقيمة النفقة؛ ثم يرد من الثمن بقدر الذي أصابه، وهو بيع جائز وإن لم يفت،
وإنما يقوم هو والنفقة يوم بيع.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة رديئة حائلة من مسائل المجالس لم تدبر، إذ لا
يصلح أن يكون هذا البيع جائزا مع ما فيه من الغرر والفساد؛ لأن المشتري إذا
اشترى الصبي على أن ينفق البائع عليه عشر سنين، وكان له أن يبيع الصبي أو
يعتقه؛ فيرجع على البائع من الثمن
(7/438)
بقدر ما يقع عنه لما بقي من النفقة، كان ما
يسترجع من الثمن مرة سلفا، ومرة ثمن بيع؛ وصار البائع لا يدري هل يصح له
جميع الثمن الذي قبض بما التزم من النفقة أو يجب عليه رد بعضه ويسقط عنه
النافقة، وذلك من أبين الغرر والفساد؛ ولا يخلو البيع على هذا الشرط من أحد
وجهين: فإما أن يكون المبتاع شرط أن يكون الصبي الذي اشترى عنده ويأخذ
نفقته من البائع عشر سنين شهرا شهرا أو سنة سنة، وإما أن يكون مع البائع
يأكل معه يده كيده، كواحد من جملة عياله، فإن كان البيع وقع على أن يكون
الصبي عند المبتاع ويأخذ نفقته من البائع عشر سنين؛ جاز البيع ولم تسقط
النفقة عن البائع بموت الصبي، ولا ببيعه، وكان للمبتاع أن يأخذه بها.
وإن كان العبد (قد) خرج عن ملكه بوجه من هذه الوجوه، كما لو اشترط ذلك؛ وإن
كان وقع على أن يكون الصبي من البائع يأكل معه يده كيده لم يجز عند ابن
القاسم، إلا أن يكون على أنه إن مات الصبي أو باعه أو أعتقه، أتاه بمثله
ينفق له عليه إلى تمام المدة، يعلم أن هذا مذهبه من قوله في المدونة في
الذي يبيع الأمة على أن ترضع ابنا لها سنة: إن هذا جائز إذا كان إن مات
أرضعوا له آخر، وهو على أصله في الراعي يستأجر على رعاية غنم بأعيانها، أن
ذلك لا يجوز إلا بشرط الحلف، ويجوز عند سحنون، وإن لم يشترط إن مات الصبي
أو باعه أو أعتقه، أتاه بمثله؛ وقد مضى ذلك من مذهبه، والقول فيه في الذي
يبيع أمة له على أن ترضع ابنا لها سنة في أول رسم من سماع ابن القاسم؛ وهو
أيضا على أصله في الأجير على رعاية غنم بأعيانها، أن الحكم يوجب الحلف وإن
لم يشترطه.
وإن اختلف المتبايعان فقال
(7/439)
البائع إنما شرطت على أن يكون الصبي يأكل
عندي يده كيدي كواحد من عيالي، وقال المبتاع: بل شرطت عليك أن يكون عندي،
وآخذ منك نفقته شهرا بشهر، وسنة بسنة، أو نحو ذلك؛ وجب أن يتحالفا
ويتفاسخا؛ وإن وقع البيع بينهما فهما في ذلك، فقال البائع: إنما أردت كذا،
وقال المبتاع: إنما أردت كذا، تحالفا على نياتهما؛ وفي قوله: أو يعتق
المشتري الصبي - نظر؛ إذ لا تسقط النفقة عمن أعتق صغيرا لا يقوم بنفسه،
فلعله أراد إذا أعتقه بعد أن بيع مبلغا يقوم بنفسه.
[مسألة: لقي رجلا ومعه دهن فابتاعه منه بمائة
دينار نقدها إياه]
مسألة وسألته: عن رجل لقي رجلا في بعض الأسفار ومعه دهن، فابتاعه منه بمائة
دينار نقدها إياه، قبض المبتاع الدهن، فقال له: إنك على سفر ولا تستطيع
كيله الآن؛ فقال له البائع: فيه كذا وكذا تزنه وأنت فيه مأمون، فما نقص
فعلي أوفيكه؛ أو كان اشتراه بنظرة فائتمنه على كيله، وقال: ما نقص أوفيكه،
وقبض في كلا الوجهين أو لم يقبض؛ قال ابن القاسم: أما الذي اشتراه بنقد
وقال تزنه فما نقص فعلي أوفيكه، فإن كان يزنه عند مواجبة البيع، أو قريبا
الميل وما أشبهه، وكان الذي يزيده إن نقص من عصر دهنه الذي باعه، فلا بأس
به؛ وإن كان وزنه يتأخر الأيام أو إلى موضع ينتهي به إليه، فإنه لا يحل، إن
ضمانه على البائع؛ فلا يحل أن ينقده على أنه ضامن له إلى بلد، ولو لم ينقده
ما حل أن يبيعه إياه على أن يكتاله ببلد آخر وكذلك يقول بعض
(7/440)
أهل العلم فيما يشبه؛ وإن كان ما يزيده ليس
من عصره ولا من صنفه حتى يكون مثله في الجودة، لم يجز وإن وزنه بحضرة ذلك؛
لأن الذي ينقص لا يدري كم ذلك وهو يزيده إن نقص مخالفا لما باعه، فلا خير
فيه؛ إلا أن يكون من عصره ومن صنفه، ويزيده بحضرة ذلك، فلا بأس به؛ وكذلك
إن باعه بثمن إلى أجل، فإن كان اتزنه مكانه ويوفيه ما نقص من دهن مثله من
عصره فلا بأس بذلك؛ وان اختلف، فلا خير فيه؛ وإن كان يكيله ببلد غير البلد
الذي اشتراه به، فلا يحل؛ لأنه يزيده في ثمنه على أن يضمنه له إلى ذلك
البلد؛ لأن كل ما يكال أو يوزن إذا اشتراه رجل كيلا أو وزنا، فضمانه من
البائع حتى يستوفيه المبتاع، وهو غرر لا يجوز، وهو وجه ما سمعت.
قلت: فإن كان اشتراه ليزنه ببلد، فحمله إليها ثم أدرك؛ هل يفسخ البيع
بينهما؟ قال: إن كان أدرك قبل أن يفوت فسخ البيع بينهما؛ وإن فات الدهن، رد
إليه مثله إن كان يعرف مثله حيث قبضه منه، لا حيث اتزنه؛ فإن فات وكان لا
يعرف مثله، فله قيمته حيث قبضه منه أيضا.
قال محمد بن رشد: هذا بيّن على ما قال: إنه لا يجوز له أن يشتري الدهن كيلا
أو وزنا على أن فيه كذا وكذا، فيقبضه على أن يزنه إلى أيام، أو في البلد
الذي يصير إليه (إن) كان مسافرا؛ ولا على أن يزنه فحضر بحضرتهما على أن
يزيده ما نقص إن نقص من صنف آخر؛ لأنه في الأول اشتراه على أن البائع ضامن
له حتى يصل إلى ذلك البلد، وحتى
(7/441)
تنقضي تلك الأيام، فكان قد زاده في الثمن
لموضع الضمان، وذلك مما لا يحل ولا يجوز، كان الثمن نقدا أو إلى أجل؛ وفي
الثاني غرر، إذ لا يدري هل يأخذ من الصنف الآخر شيئا ولا مقدار ما يأخذ منه
إن أخذ؛ إذ قد لا ينقص الدهن، وقد ينقص قليلا، وقد ينقص كثيرا؛ وأجاز ابن
كنانة أن يشتريه على أن يزنه في البلد الذي يسير إليه إذا كان على مسير
عشرة أميال فدون، ولا يجوز في أبعد من ذلك.
وروى عيسى عن ابن القاسم في المدنية: أنه لا خير فيه في عشرة أميال، وهو
نحو قوله في هذه الرواية؛ لأنه لم يجز ذلك فيها، إلا إلى الموضع القريب
الميل وما أشبهه.
وأما قوله في آخر المسألة إذا اشتراه على أن يزنه ببلد آخر فحمله إليه، أنه
إن أدرك بيده قبل أن يفوت فسخ البيع بينهما، يريد عرف مثله أو لم يعرف، وإن
فات كان على المبتاع مثله حيث قبضه إن عرف مثله، وقيمته حيث قبضه إن لم
نعرف مثله، ففيه نظر؛ لأنه إذا جعل المثل فيما يعرف مثله إذا فات كالعين،
وقال: إنه يكون على المبتاع مثله حيث قبضه، وجب على قياس ذلك أن يستوي
قيامه وفواته، وألا يكون عليه إذا أدرك بيده في البلد الذي حمله إليه إلا
مثله أيضا حيث قبضه.
وكذلك قال في رسم استأذن قبل هذا في البيع الفاسد، ولو كان طعاما ما لم
يرده عليه إلا بالإسكندرية حيث قبضه؛ وأما إذا لم يعرف كيله فحكمه حكم
العرض تفيته حوالة الأسواق، كذلك في كتاب ابن المواز؛ فقوله: إن البيع يفسخ
بينهما إن أدرك بيده في البلد الذي حمله إليه قبل أن يفوت، يريد بحوالة
الأسواق أو غير ذلك؛ ولم ير نقله من بلد إلى بلد فوتا له، وفي ذلك
(7/442)
اختلاف قد ذكرناه؛ وبينا وجهه في رسم
استأذن المذكور، ويعرف مثله بأن تكون الظروف التي كان فيها حاضرة لم تفت،
وبالله التوفيق.
[يبيع الفصيل أو شيئا من أولاد البهائم على أن رضاعه على أمه]
ومن كتاب أوله إن أمكنتني من حلق رأسك وقال في الذي
يبيع الفصيل أو شيئا من أولاد البهائم على أن
رضاعه على أمه، قال: بلغني أن المهر إذا ماتت أمه لم يقبل على
غيرها؛ فنحن نرى إذا كان الرضاع ضامنا على البائع إن ماتت الأم، أخلف
مكانها من موضعه، وكان من البهائم التي لا تبالي بموت أمهاتها وهو يقبل على
غير أمه إن ماتت، ولم يضره ذلك شيء، فالبيع جائز، والرضاع يضمنه إلى فطام
مثله؛ فإن كان من البهائم التي إذا ماتت أمهاتها لم يقبل على غيرها إلا
بعناء، أو لا يقبل حتى يخاف عليه الموت أو النقصان في كبره ونباته؛ فلا أرى
في هذا خيرا؛ لأن هذا من وجه المخاطرة والغرر.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة ليست على الأصول؛ لأنه أجاز لمشتري المهر أن
يشترط رضاع أمه إذا كان الرضاع ضامنا على البائع إن ماتت الأم، أخلف مكانها
من يرضعه؛ ولا يجوز أن يستأجر الرجل أمة ترضع ابنا له على أن الرضاع ضامن
على سيدها إن ماتت أخلف له مكانها من ترضع ابنه حتى ينقضي أمد رضاعه؛ ولا
أن يستأجر مرضعة حرة على أنها إن ماتت كان في مالها خلفها؛ ولا أن يتكارى
راحلة بعينها على أنها إن عطبت، أتاه المكري بعوضها؛ وشرطه في ذلك أيضا أن
يكون
(7/443)
المهر من البهائم التي لا تبالي بموت
أمهاتها، غير صحيح؛ إذ لو لم يجز شراء المهر على أن يكون رضاعه على أمه إذا
كان من البهائم التي لا تقبل غير أمهاتها، وكان ذلك غررا مخافة أن تموت أمه
فلا يقبل رضاع غيرها فيهلك؛ لما جاز شراؤه مع أمه مخافة أن تموت أمه فيهلك،
إذ ما لا يجوز شراؤه منفردا لغرره، لا يجوز إذا انضاف إليه غيره؛ ولو اشترى
شيئا من أولاد البهائم التي لا تقبل غير أمهاتها ولا تعيش دون رضاع ولا أم
له، أو على أن لا يكون على البائع أن يرضعه أمه؛ لوجب ألا يجوز البيع إذا
كان من البهائم التي (لا) تؤكل؛ لأنه من بيع ما لا منفعة فيه، وأكل المال
بالباطل؛ فالذي يوجبه النظر في هذه المسألة، أن يكون شراء الصغير من أولاد
البهائم على أن يكون رضاعه على أمه جائزا إذا لم يشترط الخلف إن ماتت كان
مما يقبل غير أمه، أو لا يقبل؛ فإن ماتت الأم قبل أن ينقضي أمد فطام مثله،
رجع على البائع بالثمن بما ناب منه ما بقي لأمد فطامه.
ووجه العمل في ذلك: أن ينظر إلى قيمة الرضاع وقيمة المهر، فإن كان في
التمثيل قيمة الرضاع ديناران، وقيمة المهر عشرة دنانير، وكان قد مضى من أمد
الرضاع النصف، رجع المبتاع على البائع بنصف سدس الثمن الذي دفع إليه؛ لأنا
علمنا أن سدسه وقع للرضاع وقد استوفى نصفه، فرجع عليه بنصفه.
[مسألة: رجل دبغ جلود ميتة فباعها واشترى
بثمنها غنما فنمت وتوالدت]
مسألة وسئل: عن رجل دبغ جلود ميتة فباعها واشترى بثمنها غنما، فنمت
وتوالدت، ثم أراد أن يتوب مما صنع؛ قال: يتصدق بثمن الجلود التي باعها به،
وليس بالغنم الذي اشترى؛ قال عيسى: إن
(7/444)
وجد الذي باع منه الجلود أو ورثته إن كان
قد مات، دفع ذلك إليه أو إليهم؛ فإن لم يجده ولا ورثته، تصدق به؛ فإن جاء
بعد ذلك، خير بين الصدقة والثمن كاللقطة.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم إنه يتصدق بثمن الجلود الذي باعها به إذا
أراد التوبة، معناه: إذا فات الأمر وبعد، ولم يعلم المشتري ولا ورثته؛ وهذا
على الاستحسان والتورع، مراعاة لقول من لا يجيز بيع جلد الميتة ولا
الانتفاع به على حال - دبغ أو لم يدبغ؛ وليس على حقيقته ما يوجبه القياس
على قوله وروايته عن مالك في إجازة الانتفاع بجلود الميتة إذا دبغت، وإلزام
القيمة (فيها) لمن استهلكها قيمة الانتفاع؛ والذي يجب عليه واجبا على
مذهبه، أن يتصدق بما زاد الثمن الذي قبض من المبتاع في الجلود على قيمة
الانتفاع بها؛ إذ من حقه أن يرجع على المبتاع بقيمة انتفاعه بها، فيقاصه
بذلك من الثمن؛ لأن انتفاعه بها غلة، والغلة لا تكون للمبتاع إلا بالضمان،
وهو ليس بضامن الجلود إن تلفت، وهذا إن لم يعلم المبتاع، ولا قدر على رد
ذلك إليه. وقول عيسى: إنه إن وجد الذي باع الجلود منه أو ورثته، دفع ذلك
إليه أو إليهم - ليس ببين؛ إنما ينبغي أن يدفع إليهم أو إليه ما زاد الثمن
على قيمة الانتفاع، ويمسك الباقي أو يتصدق به إن أراد التورع، ويلزم الذي
اشترى الجلود إن باعها ما يلزم بائعها الأول؛ وكذلك إن باعها المشتري
الثاني من ثالث، والثالث من رابع أبدا ما تداولتها الأملاك، وبالله
التوفيق.
[المريض يبيع في مرضه وهو ليس في عقله]
ومن كتاب القطعان وسئل: عن المريض يبيع في مرضه
وهو ليس في عقله،
(7/445)
فيريد المبتاع أن يرد، ويأبى هو ذلك بعد
صحته، أو ورثته بعد موته، أن البيع لازم للمشتري إن رضي البائع أو ورثته.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال؛ لأنه ليس ببيع فاسد؛ وإنما هو بيع
للبائع فيه الخيار من أجل أنه لم يكن في عقله كبيع السكران على مذهب من لا
يلزمه البيع، وقد مضى القول على ذلك مستوفى في أول سماع ابن القاسم من كتاب
النكاح، وبالله التوفيق.
[باع وليدة واستثنى جنينا في بطنها]
ومن كتاب الفصاحة قال عيسى: قال ابن القاسم، في رجل
باع وليدة واستثنى جنينا في بطنها، فإنه
إن أدرك البيع بحدثان ذلك فسخ؛ وإن فاتت الوليدة بولادة، أو طول زمان، أو
اختلاف أسواق، أو موت، أو عتق، أو بيع، أو هبة؛ مضى البيع وكانت فيها
القيمة يوم قبضت الأمة على غير استثناء بالغة ما بلغت؛ وإن ولدت وقبض
مستثنى الجنين الجنين فعثر عليه بحدثان قبضه، رد إلى مبتاع الأمة وغرم
قيمتها؛ وإن فات الجنين عند مستثنيه بطول الزمان، أو بشيء من وجوه الفوت؛
كان للبائع على المبتاع قيمة الأم يوم باعها على غير استثناء، وكان للمبتاع
على البائع قيمة الجنين يوم قبضه؛ ثم يتقاومان الجنين والأم، أو يبيعان من
واحد إن عثر على ذلك قبل إثغار الصبي، للنهي عن التفرقة.
قال: واستثناء الجنين في بطن أمه بمنزلة اشترائه، سواء العمل في اشترائه
كما وصفت لك في استثنائه؛ وكذلك لو اشترى بعيرا في شراده، أو عبدا في
إباقه، فإنه إن أدرك قبل أن يقبض المشتري ما اشترى، أو بعد
(7/446)
قبضه إياه؛ ما لم يفت في يديه بوجه من وجوه
الفوت، فسخ البيع بينهما ورد إلى البائع ما باع من ذلك، لا يكون للمشتري
شيء في طلبه إياه؛ وإن فات بوجه من وجوه الفوت، كان على المشتري قيمته يوم
قبضه بالغة ما بلغت؛ قال عيسى: وهذا قول ابن القاسم عن مالك كله، إلا في
قبض مستثني الجنين الجنين، فإنه رأيي.
قال محمد بن رشد: لم يختلف قول مالك ولا قول أحد من أصحابه فيما علمت أنه
لا يجوز بيع الأمة، ولا بيع شيء من الحيوان واستثناء ما في بطنها؛ لأنهم
رأوا البائع مبتاعا للجنين بما وضع من ثمن الأم، لمكان استثناء جنينها؛
فكأنه على مذهبه ومذهبهم باع الأمة بالثمن الذي سمي، وبالجنين الذي استثنى،
وإن كان قد اختلف قوله وأقوالهم في المستثنى هل هو مبقي على ملك البائع، أو
بمنزلة المشترى في غير ما مسألة؛ من ذلك اختلاف قوله فيمن باع ثمرة حائطه
واستثنى منها مكيلة مسماة، هل يجوز له بيعها قبل أن يستوفيها أم لا؟
وقد مضى ذلك في رسم مرض من سماع ابن القاسم، وفي غير ما موضع؛ فيأتي على
قياس القول بأن المستثنى مبقى على ملك البائع، إجازة بيع الحامل واستثناء
ما في بطنها؛ وعلى هذا إجازة من أجازه من أهل العلم، منهم الأوزاعي، والحسن
بن حي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وداود؛ وروي ذلك عن عبد الله بن
عمر؛ فإذا باع الرجل الحامل واستثنى ما في بطنها، فهو على مذهب مالك
وأصحابه بائع للأمة، ومبتاع لما في بطنها صفقة واحدة؛ فوجب أن تكون
البيعتان فاسدتين، وعلى هذا يأتي جوابه في الرواية أن البيع يفسخ في الأمة
ما لم تفت عند المبتاع بعد القبض بما يفوت به البيع الفاسد، فصحح عليه
بالقيمة يوم القبض، وأنه يفسخ في الجنين ما
(7/447)
لم يفت عند البائع الذي هو مبتاع له، فيصحح
عليه بالقيمة يوم قبضه، ورأى الولادة في الأمة فوتا على أصولهم في أنها
تفيت البيع الفاسد؛ لأنها أشد من حوالة الأسواق التي تفيته؛ وذهب ابن حبيب
إلى أن الولادة لا تفيتها، ومعنى ذلك إذا لم يكن معها مرض يتغير به حالها،
وعزا ذلك إلى أصبغ.
ووجه ما ذهب إليه من أن الولادة لا تفيت الأمة في البيع الفاسد؛ إذا استثنى
جنينها، بخلاف إذا بيعت بيعا فاسدا ولم يستثن جنينها، أن الولادة إذا لم
يكن معها مرض يتغير به حالها، فالولد إذا لم يستثن نماء فيها تفوت به؛ وإذا
استثنى، فليس بنماء فيها؛ إذ كان البيع لم يقع عليه.
وقول ابن القاسم أصح؛ لأن البيع إنما فسد بوقوع البيع عليه، ولو لم يقع
عليه البيع وكان مبقى على ملك البائع، لكان البيع جائزا على ما ذهب إليه من
أجازه. وقوله إذا اشترى بعيرا في شراده، أو عبدا في إباقه، فعثر على ذلك
قبل أن يفوت عند المبتاع؛ أن البيع يفسخ فيه ولا يكون للمشتري شيء في طلبه
إياه؛ صحيح على ما في المدونة من أن من جاء لرجل بعبده الآبق، فلا جعل له
فيه عليه إذا لم يكن ممن يطلب الإباق، وإنما الاختلاف إذا وجده بجعل جعله
فيه فعثر على ذلك قبل أن يفوت عنده، فيفسخ البيع.
فقيل: إن للمشتري أن يرجع على البائع بما جعل في طلبه، قاله في كتاب ابن
المواز؛ وقيل: إن الجعل على الجاعل، ولا يرجع به على البائع، وهو مذهب ابن
القاسم؛ قاله في رسم محض القضاء من سماع أصبغ من كتاب الجعل والإجارة في
الذي يجعل جعلا لرجل في طلب عبده ثم يستحقه مستحق، أن الجعل عليه ولا رجوع
له به على المستحق، ولا فرق بين المسألتين؛ والاختلاف في هذا مبني على
الاختلاف في السقي والعلاج، هل يحاسب بهما إن استحق الشيء من يده إذا أخذ
المستحق الثمرة، إذ البيع الفاسد مثله سواء، وذهب ابن المواز إلى أن يكون
الجعل على الجاعل، ويكون له على البائع والمستحق جعل مثله، إلا أن يكون
أكثر مما غرمه الجاعل، وبالله التوفيق.
(7/448)
[بيع التمر
المنثور بالكيل]
ومن كتاب أوله سلف دينارا قال ابن القاسم: لا بأس بالتمر المنثور بالكيل
على التحري.
قال محمد بن رشد: إنما أجاز التحري في ذلك؛ لأن التمر المكتل لا يتأتى في
الكيل، فإنما يباع بالوزن؛ ولا اختلاف في إجازة التحري فيما يوزن مما لا
يجوز فيه التفاضل، قيل: في القليل دون الكثير، وقيل: في القليل والكثير، ما
لم يكثر جدا حتى لا يستطاع تحريه؛ قيل: وإن لم تدع إلى ذلك ضرورة، وقيل: بل
إنما يجوز للضرورة عند عدم الميزان.
وقيل: بل إنما يجوز ذلك فيما يخشى فساده إلى أن يوجد ميزان، وهذا في
المبايعة والمبادلة ابتداء؛ وأما من وجب له على رجل وزن من طعام، لا يجوز
فيه التفاضل، فلا يجوز له أن يأخذه منه تحريا إلا عند الضرورة، لعدم
الميزان على ما يأتي في نوازل سحنون من هذا الكتاب بعد هذا؛ وقد مضى القول
على هذه المسألة في رسم أخذ يشرب خمرا، ورسم كتب عليه ذكر حق من سماع ابن
القاسم من كتاب السلم والآجال، وفي رسم باع شاة من سماع عيسى، وبالله
التوفيق.
[اشترى طعاما سمي له كيله أو كان حاضرا كيله]
ومن كتاب العتق قال عيسى: قال ابن القاسم: من اشترى طعاما سمي له كيله، أو
كان حاضرا كيله، هو على الكيل أبدا، وعلى البائع أن يكيله له ثانية حتى
يشتريه على أنه يأخذه بكيله، أو على أنه يصدقه في كيله، بمنزلة ما يقول: كم
في طعامك؟ فتقول: مائة إردب، فيقول
(7/449)
له: قد أخذتها بخمسين فهو على الكيل لا بد
منه، إلا أن يشتريه على التصديق له؛ قيل: فإن اشتراه على الكيل ثم أراد أن
يصدقه فيأخذه بكيله، قال: لا بأس بذلك؛ قيل: فإن أراد بعد ذلك أن يرجع إلى
الكيل وبدله، قال: ليس ذلك له.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: إن من حق المشتري أن يكيل له البائع ما
اشترى منه من الطعام وإن كان قد حضر كيله؛ لأن الشراء فيما يكال على الكيل
وإن لم يشترطه حتى يشتريه على التصديق تصريحا؛ قال عز وجل: {فَأَوْفِ لَنَا
الْكَيْلَ} [يوسف: 88] .
فإن اشتراه على التصديق لم يكن له أن يرجع إلى الكيل إلا أن يرضى البائع؛
لأن الضمان قد سقط عن البائع فيه بتصديق المشتري إياه؛ فليس له أن يرده
عليه، وكذلك إن اشتراه على الكيل، فليس له أن يرجع إلى التصديق إلا برضاه،
وإن كان حاضرا كيله؛ لأنه يقول: أخشى خصومتك بأن تأخذه فتغيب عليه فتدعي
النقصان فيه، وهو معنى قوله لا بأس بذلك، أي: ذلك جائز إذا رضي البائع، ولا
اختلاف في أن من اشترى طعاما على الكيل، يجوز له أن يبيعه على التصديق إذا
باعه بالنقد؛ واختلف إذا اشتراه على التصديق؛ فقيل: إنه لا يبيعه على الكيل
ولا على التصديق حتى يكيله هو، أو يغيب عليه؛ من أجل أنه لو كاله قبل أن
يغيب عليه فألفى فيه نقصانا، رجع في الثمن بحسابه؛ فكأن البيع لم يتم
بينهما حتى يكتال أو يغيب عليه، حكى ذلك ابن حبيب من قول ابن كنانة عن
مالك؛ ولو قيل له: لا يجوز له أن يبيعه قبل أن يكتاله وإن غاب عليه وحده؛
لأنه قد يدعي النقصان فيه فينكل البائع عن اليمين، فيحلف هو ويأخذ ما يقع
له من الثمن، فكأن البيع لم يتم أيضا لكان قولا؛ وقيل: إنه لا يجوز أن
يبيعه قبل أن يكيله أو يغيب عليه على التصديق وعلى الكيل، وهو قول ابن
القاسم، وابن الماجشون، وأصبغ.
(7/450)
[اشترى جرار
زيت أو سمن موازنة فوزنت له ثم أراد بيعها مرابحة]
مسألة ومن اشترى جرار زيت أو سمن موازنة فوزنت له، ثم أراد بيعها مرابحة
قبل أن يفرغ أو يزن ظروفها، فذلك حلال لا بأس به؛ لأن ضمانها منه؛ لأنه قد
قبضها ووزنها قبض ليس في هذا شك فإن انكسرت منها ظروف فضمان ما فيها منه،
إلا أن وزن الظروف بوزن فخارها فيطرح ذلك عنه، فلا بأس أن يبيعها مرابحة
وغيرها، وهي على الوزن في ذلك كله إن باعها يزنها للمشتري أيضا ذلك عليه،
إلا أن يبيعه على أن يأخذها بوزنها الأول ويصدقه في ذلك، قال أصبغ: ويسلفان
جميعا.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة متكررة في هذا الرسم من هذا السماع من
كتاب المرابحة، ومضى عليها من القول هناك ما فيه شفاء، فلا وجه لإعادته،
وبالله التوفيق، لا إله إلا هو، وهو على كل شيء قدير.
[يكون في العبد بالخيار أو في شيء من الحيوان
أو رهنه]
ومن كتاب أوله باع شاة واستثنى جلدها وسألته: عن الذي يكون في العبد
بالخيار، أو في شيء من الحيوان، أو رهنه، أو يكتب إلى رجل له عليه حق أن
يشتري له عبدا، فيدعي هؤلاء كلهم أن ذلك هلك عندهم؛ هل يكلفه البينة إن
زعموا أن ذلك هلك عندهم في الحاضرة وحيث الناس، أو ادعوا أنه هلك بفلاة من
الأرض؛ قال ابن
(7/451)
القاسم: إذا كان ذلك في حاضرة وحيث الناس
وله جيران فلم يعلم أحد من جيرانه ما يذكر من الموت في العبد والدابة،
رأيته ضامنا؛ وإذا ادعى أنه مات بفلاة، فلا ضمان عليه؛ وإن ادعى إباقا، فهو
مصدق.
قال محمد بن رشد: ساوى في دعوى التلف بين الذي يشتري العبد بالخيار، أو
يرتهنه، أو يشتريه لرجل فيما له عليه من الدين بأمره، وما يشتريه الرجل
للرجل بأمره هو فيه مؤتمن كالمودع سواء؛ فدل ذلك على أنه لا فرق في دعوى
تلف ما لا يغاب عليه من الوديعة والرهن وما أشبهه، وأن ذلك إنما يفترق فيما
يغاب عليه، فيصدق في الوديعة؛ ولا يصدق في الرهن، إلا أن يقيم البينة؛
ويصدق فيما لا يغاب عليه في الوديعة والرهن والعارية، وما اشتراه لغيره
بأمره إلا أن يتبين كذبه؛ ومما يتبين به كذبه أن يدعي أنه مات في حاضرة وله
جيران لا يعلمون شيئا من ذلك.
وقوله: وله جيران فلم يعلم أحد منهم ما يذكر من موت العبد، يدل على أن
السلطان يستخبر ذلك من الجيران، ولا يكلف إقامة البينة على ذلك؛ وفي رسم سن
من سماع ابن القاسم من كتاب الرواحل والدواب، أنه يكلف البينة على ذلك، وفي
المدونة دليل على القولين جميعا، ولم يشترط هاهنا عدالة من يسأل من
الجيران؛ وقال في المدونة: إنه لا يقبل في ذلك إلا العدول، فقيل: إن ذلك
ليس باختلاف من القول، وإن معنى ما هاهنا إذا لم يكن في الجيران عدول، وأن
معنى ما في المدونة إذا كان فيهم عدول؛ وقيل: إن ذلك اختلاف من القول، وأنه
ضامن على ما في المدونة إذا لم يأت بعدول وإن لم يكن في ذلك الموضع عدول؛
والذي أقول به أنه لا اختلاف في شيء من ذلك كله، وأن المعنى فيه أن السلطان
لا يلزمه أن يسأل عن ذلك ويستخبر عنه إلا أن يشاء، فإن سأل وفي ذلك الموضع
عدول، لم يسأل إلا العدول، فإن قالوا نعلم موت ذلك العبد بعينه
(7/452)
الذي ادعى موته، سقط عنه الضمان، ولم يكن
عليه يمين؛ وإن قالوا نعلم أنه مات عنده عبد، أو شهدنا عنده جنازة ولا نعلم
أن كان ذلك العبد الذي يدعي تلفه أم لا، صدق بيمينه؛ وإن قالوا لا نعلم
شيئا مما يذكر لم يصدق ولزمه الضمان؛ وإن لم يكن في ذلك الموضع عدول، سئلوا
على ما هم عليه؛ فإن قالوا: لا نعلم شيئا مما يذكر، لم يصدق ولزمه الضمان؛
وإن قالوا: نعلم أنه مات العبد الذي يدعي موته، أو نعلم أنه مات له عبد، أو
أنه كانت عنده جنازة ولا نعلم إن كان العبد الذي يدعي موته أو غيره، صدق في
الوجهين جميعا مع يمينه؛ وكذلك إن لم يرد السلطان أن يسأل عن ذلك وكلفه
إقامة البينة عنده إن أتاه بعدول يشهدون عنده على موت العبد الذي يدعي
موته، سقط عنه الضمان ولم تلزمه يمين؛ وإن شهدوا عنده على معرفة الموت دون
أن يعرفوا أنه هو العبد، صدقه فيما ادعى من موته مع يمينه، وإن أتى ببينة
من جيرانه وهم غير عدول وليس فيهم عدول، فشهدوا عنده بموت العبد، أو بحضور
جنازة كانت عنده، ولا يعلمون إن كانت للعبد أو لغيره صدق فيما ادعى من موته
مع يمينه، وإن كان فيهم عدول لم يلتفت إلى من شهد عنده من غير العدول؛ وإن
لم يأته ببينة على شيء من ذلك، لزمه الضمان ولم يصدق.
وقوله: فإن ادعى أنه مات بفلاة، فلا ضمان عليه، معناه: ويحلف على ذلك؛
وكذلك قوله وإن ادعى إباقا فهو مصدق، معناه: مع يمينه؛ والأصل في هذا، أنه
إذا لم تكن له بينة عدلة على ما ادعى من موت العبد أو إباقه، فهو مصدق مع
يمينه، إلا أن يتبين كذبه بدعواه ما لا يمكن أن يخفى دون أن يعلم ذلك
ويدرى. وفي قوله في أول المسألة: أو يكتب إلى رجل له عليه حق أن يشتري له
عبدا - بيان واضح أنه صدقه في دعواه الشراء والتلف، ما لم يتبين كذبه، وإن
كان غائبا حيث لا يجوز له الشراء؛ خلاف رواية ابن أبي جعفر الدمياطي عنه
أنه لا يصدق في الشراء والتلف إلا في الموضع الذي يجوز له فيه الشراء، وذلك
إذا كان صاحب الدين حاضرا معه أو وكيله؛ وأما إذا كان غائبا عنه
(7/453)
حيث لا يجوز له الشراء، فلا يصدق في التلف
إلا أن يقيم البينة على الشراء؛ فيتحصل في المسألة ثلاثة أقوال: تصديقه في
الموضعين، وهو قوله في هذه الرواية؛ لأنه إذا صدق حيث لا يجوز له الشراء،
فأحرى أن يصدق حيث يجوز له؛ وألا يصدق في واحد منهما حتى يقيم البينة على
الشراء، وهذا القول قائم من المدونة من مسألة الغرر وغيرها؛ والقول الثالث:
الفرق بين الموضعين، وقد مضى هذا في رسم سن من سماع ابن القاسم من كتاب
السلم والآجال، ويأتي أيضا من سماع باع شاة من سماع عيسى من كتاب البضائع
والوكالات، وبالله التوفيق.
[مسألة: باع داره واستثنى من الدار بيتا يسكنه]
مسألة وسئل: عن رجل باع داره واستثنى من الدار بيتا يسكنه، واستثنى على
المشترى الاختلاف إلى الكنيف والاستقاء من البئر، فاحتاج الكنيف أو البئر
إلى الكنس؛ هل عليه من ذلك شيء؟ قال: نعم عليه من ذلك بقدر ما استثنى من
الدار إذا كان استثنى بيتا وباع ثلاثة أبيات، فعليه ربع نفقة الكنس؛ وإن
كان أقل أو أكثر، فعلى حساب ذلك؛ ولا يلتفت في هذا إلى كثرة العدد وقلته.
قال محمد بن رشد: قوله في هذه المسألة: واستثنى على المشتري الاختلاف إلى
الكنيف والاستقاء من البئر - دليل على أنه لو لم يستثنه عليه، لم يكن له،
ولكان من حق المبتاع أن يمنعه، خلاف ما مضى في أول رسم من سماع أشهب؛ وقوله
في كنس البئر إذا احتاجت إلى الكنس، أنه يكون على البائع منه بقدر ما
استثنى من الدار، صحيح لا اختلاف فيه عندي؛ لأنهم أشراك في البئر، فوجب أن
تكون النفقة في كنسه على قدر الأنصباء، كما لو انهدم. وقوله: إنه يكون عليه
ربع النفقة إن
(7/454)
كان استثنى بيتا من أربعة أبيات، معناه:
إذا تساوى البيوت؛ وأما إن لم تتساو، فلا بد من أن يرجع في ذلك إلى القيمة؛
فإن كان البيت الذي استثنى يعدل الثلاثة الأبيات في القيمة، كان عليه نصف
نفقة الكنس.
وأما قوله في كنس الكنيف أنه يكون عليه منه بقدر ما كان استثنى بيتا من
أربعة أبيات من الدار ككنس البئر، ففيه قولان:
أحدهما: أنه على صاحبه الأصل لا على من ألقى فيه سقاطته بحق أوجب ذلك له،
وهو قوله في هذه الرواية، وقول أشهب في سماع أصبغ من كتاب الأقضية في الدار
يكون لواحد سفلها، ولآخر علوها، أن كنس الكنيف على صاحب السفل لأنه له،
وإنما للأعلى الحق في الانتفاع به.
والثاني: أنه على من ألقى سقاطته فيه؛ لأنه شغله بما وضع فيه، فعليه أن
يزيله منه؛ وإن كانوا عددا فعلى الجماجم، ولا يراعى في ذلك ملك الأصل لمن
هو؟ وهو قول أصبغ وروايته عن ابن وهب في سماعه من الكتاب المذكور. وقوله في
نوازله أيضا من كتاب السداد والإنهار.
وعلى هذا الاختلاف يأتي اختلافهم في كنس كنيف الدار المكتراة، فقال أشهب:
إنه على صاحب الدار؛ لأن الأصل له على أصله لم يضطرب في ذلك قوله، وقاله
ابن القاسم أيضا في رواية أبي جعفر الدمياطي عنه؛ وهو على قياس قوله في هذه
الرواية، وعلى أصل أشهب؛ وروى أبو زيد عنه في سماعه من كتاب كراء الدور أنه
على المكترى، وهو على قياس قول ابن وهب وأصبغ، وفي المدونة دليل على
القولين جميعا، وبالله التوفيق.
[مسألة: الرجل يبيع الدار والعبد بيعا حراما ثم
يعلم البائع]
مسألة قال عيسى، في الرجل يبيع الدار والعبد بيعا حراما، ثم يعلم
(7/455)
البائع بفساد البيع، فيقوم على المشترى
يريد فسخ البيع ولم يفت ذلك فيفوت المشتري الدار بتصديق بها، أو يبيعها؛ أو
يبيع العبد، أو يعتقه بعد قيام البائع عليه؛ قال: أما الصدقة والبيع فإني
لا أرى ذلك يجوز له بعد قيام البائع على فسخ البيع؛ وأما العتق فإني أراه
خلاف البيع والصدقة، وأراه فوتا، وأرى أن يمضي العتق للعبد ولا يرد، وذلك
أن للعتق حرمة.
قال محمد بن رشد: قوله إنه لا يجوز له البيع ولا الصدقة ولا الهبة بعد قيام
البائع عليه بفسخ البيع صحيح؛ لأنه متعد في ذلك عليه إذا فعله بعد أن قام
عليه؛ إذ الواجب له بقيامه عليه أن يرد ماله إليه بفسخ البيع، وإنما يجوز
ذلك له إذا فعله قبل أن يقوم عليه؛ لأنه قد أذن له في ذلك حين ملكه المبيع
بالبيع الفاسد، فهو على ذلك الإذن، ما لم يرجع عنه بالقيام عليه؛ فإذا باع
أو وهب أو تصدق بعد أن قام عليه، كان بالخيار بين أن يجيز له ما صنع من
البيع والهبة والصدقة، ويضمنه القيمة في ذلك يوم القبض؛ لأنه إذا فعل ذلك
فقد رضي بالتزام القيمة، وبين أن يرد البيع والهبة والصدقة ويأخذ ماله؛
وليس له أن يقول أنا أجيز البيع وآخذ الثمن، إذ ليس بعداء صرف، من أجل أنه
باع ما قد حصل في ضمانه بالبيع الفاسد؛ ألا ترى أنه لو تلف، كانت مصيبته
منه؛ وكان القياس على هذا أن يكون في العتق مخيرا أيضا بين أن يرده ويأخذ
عبده، أو يمضي عتقه ويضمن المشتري القيمة؛ إلا أنه أمضاه ورآه فوتا، لحرمة
العتق استحسانا، من أجل أنه لم يعتق إلا ما قد حصل في ضمانه بالقبض بالبيع
الفاسد وإن كان متعديا فيه بعد قيام البائع عليه، وهذا وجه الاستحسان أن
يعدل عن حقيقة القياس في موضع من المواضع لمعنى يختص به ذلك الموضع، يترجح
به ما ضعف من الدليلين المتعارضين.
[مسألة: يشتري كيلا من طعام بعينه فلم يقبضه
حتى ادعى البائع أن الطعام هلك عنده]
مسألة وسئل: عن رجل يشتري كيلا من طعام بعينه فلم يقبضه حتى
(7/456)
ادعى البائع أن الطعام هلك عنده، وكذبه
المبتاع، وأراد أن يضمنه الكيل الذي باع منه، قال: عليه أن يوفيه الكيل
الذي اشترى منه، إلا أن يعلم هلاكه بالبينة العادلة.
قال محمد بن رشد: قوله عليه أن يوفيه الكيل الذي اشترى منه، يريد ولا يكون
له أن يصدقه فيما ادعى من هلاكه، فيأخذ منه الثمن؛ لأنه إذا كان مخيرا في
أن يأخذه بمثل الكيل الذي ابتاع منه، أو يأخذ الثمن الذي دفع إليه، دخله
بيع الطعام قبل أن يستوفى؛ لأن أخذ الثمن منه إقالة، والإقالة لا تكون إلا
ناجزة، ففسدت بما دخلها من الخيار؛ وهذا قاله من قول ابن القاسم في كتاب
السلم الثالث من المدونة في الذي يشتري طعاما بعينه كيلا، فيتعدى عليه
البائع فيستهلكه؛ أنه يضمن له مثله، ولا يكون له الخيار في أن يأخذ منه
الثمن؛ لأن محمل المسألة أن الاستهلاك لم يعلم إلا بقوله، وقد قال أشهب:
إنه في ذلك بالخيار؛ وهو نحو ما وقع في كتاب السلم الأول في بعض الروايات
في الذي أسلم ثوبا في طعام، فتعدى رجل على الثوب في يد المسلم فأحرقه، ولم
يعلم ذلك إلا بقوله؛ أن المسلم إليه بالخيار بين أن يغرمه قيمته ويكون
السلم عليه على حاله، أو يفسخ السلم عن نفسه، ومثله في كتاب ابن المواز؛
فعلى هذا يكون المشتري بالخيار بين أن يصدقه فيما ادعى من هلاك الحمل،
ويأخذ منه الثمن، أو يغرمه مثله.
وقد قيل: إن معنى ما تكلم عليه أشهب في مسألة كتاب السلم الثالث، إذا علم
استهلاكه للطعام؛ وأما مسألة كتاب السلم الأول فلا وجه فيها للتأويل؛ لأنه
قد خيره بين الأمرين، مع أنه قد نص على أنه لم يعلم ذلك إلا بقوله؛ إلا أن
في هذا القول بعدا، لاحتمال أن يكون المسلم قد استهلك الثوب، فوجبت عليه
قيمته للمسلم إليه فيكون قد أقاله على القيمة من السلم، فيدخله بيع الطعام
قبل أن يستوفى، فالصحيح فيها أن يغرمه القيمة ويثبت السلم، وبالله التوفيق.
(7/457)
[باع غنما وفيها كبش معتل على أن المبتاع
فيه بالخيار]
من سماع يحيى بن يحيى من ابن القاسم من كتاب الكبش قال يحيى: سألت ابن
القاسم: عن رجل باع غنما وفيها كبش معتل على أن
المبتاع فيه بالخيار عشرة أيام أو نحوها، فإن رضيه حبسه، وإن كرهه
رده بالذي يصيبه من الثمن؛ قال: هذا بيع لا يحل؛ لأنه لا يدري بكم وجبت
عليه الغنم؛ ألا ترى أنه لو حبس الشاة التي هو فيها بالخيار، كان عليه جميع
الثمن؛ وإن ردها، ردها بقيمتها من جميع الثمن؛ فهو لا يدري كم تلك القيمة؛
ولا ما يصير عليه؛ ولا بكم يبقى عليه ما بقي في يده من الغنم؛ قال: قلت:
فإن فاتت الغنم فلم يوجد سبيل إلى ردها؛ قال: يفسخ البيع ويرد إلى قيمة
الغنم يوم تبايعاها.
قال محمد بن رشد: هذه المسألة لفساد البيع فيها علتان: إحداهما: يختلف في
إفساد البيع بها وهي الجهل بما تبقى عليه الغنم إن رد الشاة، والثانية:
يتفق على فساد البيع بها وهي كونه في الشاة المعتلة بالخيار عشرة أيام،
والخيار لا يجوز فيها إلى هذا الأمد، فيكون البيع فيها فاسدا متفقا عليه؛
لأن الصفقة إذا جمعت حلالا وحراما فسخت، إلا على رواية شاذة تروى عن مالك،
فكيف إذا جمعت ما لا يجوز، وما يختلف في جوازه؛ وقد مضت هذه المسألة في رسم
المكاتب من سماع يحيى من كتاب الخيار، واعتل فيها لفساد البيع بالعلتين
جميعا؛ وسكت هاهنا عن العلة الواحدة، واكتفى بالثانية على أحد قوليه في
إفساد البيع بها؛ فلو سمى للشاة العليلة ثمنا واشترط الخيار فيها اليوم
واليومين، لجاز البيع؛ لأنه كان يجمع صفقتين: صفقة بت وصفقة خيار.
وقوله: ويرد إلى قيمة الغنم يوم
(7/458)
تبايعا، معناه: إذا كان العقد والقبض في
يوم واحد، وأما إن اختلفت الأيام والقيم؛ فالقيمة إنما تكون في الغنم يوم
القبض لا يوم البيع.
[يشتري من الرجل طعاما بدينار فيتقابضان ثم
يختلفان قبل الافتراق]
ومن كتاب الصبرة قال يحيى: سئل ابن القاسم: عن الرجل يشتري من الرجل طعاما
بدينار، فيقبض البائع الدينار، ويقبض المشتري الطعام؛ فيختلفان قبل
الافتراق: فيقول البائع: إنما بعت منك خمسة أرادب بدينار وقد وصلت إليك،
ويقول المشتري: بل اشتريت منك ستة بدينار وبقي لي إردب؛ قال: القول قول
البائع؛ لأن المشتري مدع عليه إن قبض الطعام وقضى الدينار، والبائع مصدق مع
يمينه لقبضه الدينار؛ قيل له: أرأيت إن لم يكن قبض الدينار وقد قبض المشتري
الخمسة الأرادب، وادعى أنه اشترى ستة؛ أو لم يقبض من الطعام شيئا، ولم ينقد
الدينار.
فقال: إذا تناكرا ولم يقبض واحد منهما شيئا، تحالفا وتباريا، وإن كان قبض
الخمسة أرادب، فادعى في السادس ولم ينقد الدينار، حلف أنه اشترى ستة
بدينار، ثم أحلف البائع ما باعه إلا خمسة بدينار؛ فإن حلفا جميعا قضاه خمسة
أسداس الدينار، وفاسخه في السدس، ولم يكن بينهما فيه بيع؛ قلت: فأيهما يبدأ
باليمين إذا لم يقبض واحد منهما من صاحبه شيئا، قال: يحلف المشتري بالله
اشترى مني ستة أرادب بدينار، ثم يحلف البائع بالله لما باعه إلا خمسة أرادب
بدينار؛ ثم يكون المشتري بالخيار أن يأخذ خمسة بدينار، أو يفاسخه.
(7/459)
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم في هذه
المسألة إنهما إذا اختلفا في مكيلة الطعام قبل الافتراق؛ وقد قبض البائع
الدينار، أنه مصدق مع يمينه لقبضه الدينار، خلاف مذهبه في المدونة، وعلى
غير أصله فيها؛ لأنه لم ير النقد المقبوض فيها فوتا إذا اختلفا في المثمون
ولا قبض السلعة فوتا إذا اختلفا في الثمن.
فقوله إن البائع مصدق مع يمينه لقبضه الدينار، هو مثل قول غيره في كتاب
كراء الرواحل والدواب من المدونة وعلى رواية ابن وهب عن مالك في أن قبض
السلعة فوت إذا اختلفا في الثمن؛ فالاختلاف في قبض الثمن هل فوت أم لا، إذ
الاختلاف في المثمون جاز على الاختلاف في قبض السلعة، هل هو فوت أم لا إذا
اختلفا في الثمن، إذ لا فرق بين الموضعين؛ فمن رأى قبض السلعة فوتا، رأى
قبض النقد فوتا، وهو الذي ذهب إليه ابن القاسم في هذه الرواية، ومن لم ير
قبض السلعة فوتا، إلا أن تفوت بحوالة أسواق فما زاد، لم ير قبض النقد فوتا
إلا أن يغيب عليه البائع؛ وقيل: إنه لا يكون فوتا وإن غاب عليه حتى يطول
الأمر، أو يحل أجل المثمون المختلف فيه - إن كان سلما، وهو قول ابن القاسم
في المدونة، ولا فرق في القياس إذا غاب عليه بين أن يطول الأمر أو لا يطول،
وقيل: إنه لا يكون قبض النقد فوتا وإن غاب عليه وطال الأمر، إذ لا يراد
النقد من الدنانير والدراهم لعينه؛ وأما المكيل والموزون إذا اختلفا في
ثمنه بالقيمة عليه على مذهب ابن القاسم فوت، إذ لا يعرف بعينه إذا غيب
عليه.
وقوله في هذه الرواية: إنه إن كان قبض الخمسة أرادب وادعى في السادس ولم
ينقد الدينار، أنه يحلف لقد اشترى منه ستة بدينار، ويحلف البائع ما باعه
إلا خمسة بدينار؛ فإن حلفا جميعا، قضاه خمسة أسداس الدينار، وفاسخه في
السدس - خلاف المشهور من مذهبه في أن القبض ليس بفوت على أصله في هذه
الرواية أن النقد المقبوض فوت، وإنما يصح هذا الجواب على المشهور من مذهبه
في أن القبض ليس بفوت إذا كان قد غاب على الطعام؛ وأما إذا لم يغب عليه
فيتحالفان ويتفاسخان
(7/460)
ويرجع الطعام إلى البائع، وأما إذا لم يقبض
واحد منهما شيئا، فلا اختلاف في أنهما يتحالفان ويتفاسخان، والاختيار أن
يبدأ المشتري باليمين في هذه المسألة على ما في هذه الرواية؛ لأنه بائع
للدينار، بقوله لم أبع ديناري إلا بستة أرادب، فكان الاختيار أن يبدأ
باليمين ولو اختلفا في ثمن الخمسة الأرادب، فقال البائع: بعتها لو فعلت،
وقال المبتاع: اشتريتها بخمسة أسداس دينار، لكان الاختيار أن يبدأ البائع؛
كما إذا اختلفا في ثمن السلعة؛ فقال البائع: بعتها بستة أرادب، أو بستة
دنانير، وقال المبتاع: (بل) ابتعتها بخمسة أرادب أو بخمسة دنانير؛ الاختيار
أن يبدأ البائع باليمين، وأيهما بدأ باليمين في المسألتين جميعا فذلك جائز؛
لأن كل واحد منهما مدع ومدعى عليه، فأيهما بدأ باليمن جاز.
وقد كان يمضي لنا عند من أدركناه من شيوخنا في هذه المسألة أن تبدئة
المشترى فيها باليمين خلاف الاختيار، والصحيح ما قلناه وبيناه، فإن حلفا
جميعا، أو نكلا جميعا، فسخ البيع بينهما، وذهب ابن حبيب إلى أنهما إن نكلا
كان القول قول البائع، ظاهره بلا يمين؛ وقيل: بعد أن يحلف، وهو الصواب؛
وعلى هذا ليس قوله بخلاف لقول سواه، وقد شرحنا هذا في غير هذا الكتاب؛ وإن
حلف أحدهما ونكل الآخر، كان القول قول الحالف.
واختلف هل ينفسخ البيع بينهما بتمام التحالف، أو لا ينفسخ حتى يفسخه الحاكم
بينهما؛ فقيل: إنه ينفسخ بتمام التحالف وهو قول سحنون، وظاهر ما في كتاب
الشفعة من المدونة؛ وقيل: إنه لا ينفسخ حتى يفسخه الحاكم بينهما، وهو مذهب
ابن القاسم في كتاب السلم الثاني من المدونة، وفي هذه الرواية لقوله فيها،
ثم يكون المشتري بالخيار بين أن يأخذ خمسة بدينار، أو يفاسخه.
وقيل: إن كان التحالف بأمر حكم لم ينفسخ حتى يفسخه الحاكم، وإن كان
تحالفهما بغير أمر حكم انفسخ بتمام التحالف؛ وقيل بعكس هذه التفرقة، وعلى
(7/461)
القول بأن البيع لا ينفسخ حتى يفسخه
الحاكم، يكون للمبتاع بعد التحالف أن يأخذ السلعة بما قال البائع، وللبائع
أن يلزمها المبتاع بما قال ما لم يفسخ الحاكم بينهما، وقد تأول على ما في
المدونة أن للمبتاع أن يأخذها بما قال البائع، وليس للبائع أن يلزمها
المبتاع بما قال، وتأول على ابن عبد الحكم أن للبائع أن يلزمها المبتاع بما
قال، وليس للمبتاع أن يأخذها بما قال البائع، والصحيح من التأويل أن ذلك
ليس باختلاف من القول، وأن كل واحد منهما تكلم على طرف لم يتكلم عليه
صاحبه، فصار قول كل واحد منهما مفسرا لصاحبه.
[مسألة: بيع كبير الخشب المجموع جزافا]
مسألة وسئل: عن بيع كبير الخشب المجموع الذي يلقى بعضه على بعض، أيجوز بيعه
جزافا؟
قال: لا؛ قيل له: لِمَ؟ قال: لأنه غرر ترك عدده ويجازفه، ومثله يخف مؤنة
عدده، بمنزلة البقر والغنم وما أشبه ذلك؛ قال: ولا أرى بأسا باشتراء صغير
الخشب مجموعا جزافا، وذلك أن عدده مما يشق على الناس؛ ووجه بيعه الجاري فيه
بين الناس المجازفة فيه. وإنما مثل كبير الخشب في هذا وصغيره، كمثل كبير
الحيتان وصغيره؛ ولا بأس ببيع صغيره جزافا، ولا يصلح في كبيره؛ قال: وما
جاز بيعه من صغير الحيتان مجموعا جزافا، فلا يصلح إذا سار في أوعيته أن
تباع أوعيته جزافا مثل قلال الصير وما أشبهها مما يجمع في السفن، فلا يجوز
بيع ما في السفينة من قلال الصير جزافا؛ وكذلك ما يجمع في البيت منها، أو
في غير ذلك مما يجمع فيه الظروف، فلا يصلح بيعه إلا عددا.
(7/462)
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأن بيع
الجزاف رخصة وتوسعة وسع فيه لطرح مئونة الكيل فيما يكال، والوزن فيما يوزن،
أو العد فيما يعد، فإذا كان الشيء المعدود كثيرا لا مئونة في عدده، لم يجز
بيعه جزافا؛ لأن ذلك قد يئول إلى الغرر، إذ لا مكونة في عدده، وبالله
التوفيق.
[يشتري الزيت من الرجل ويسقط الإناء الذي يكيل
به على إناء المشتري]
ومن كتاب أوله يشتري الدور والمزارع وسئل: عن الرجل يشتري الزيت من الرجل،
فبينما البائع يكيل للمشتري بعد أقساط قد كالها وجعلها في إناء المشتري، إذ
سقط العيار الذي يكال به من يد البائع على إناء المشتري، فكسره وذهب ما
فيه، وما كان في المكيال بعد ما امتلأ المكيال، وأراد صبه في الإناء، فقال:
أما ما كان في المكيال، فهو من البائع، وما كان في الإناء فضمان مكيلته من
البائع الذي كسره بفعله؛ فإن بقي عند البائع من الزيت الذي كان اشترى منه
المشتري، أوفاه ما بقي عليه من الزيت؛ وإن كان فنسي، حاسبه ورد عليه ما بقي
من ذهبه ولم يضمن له غرم ما كان في المكيال، ولكن يرد عليه ما يصبه من
الثمن لفناء الزيت من يده، قلت: أرأيت إن كان البائع أمكن المشتري من
المكيال يكتال لنفسه، فلما أن أوفاه هذا الكيل، سقط من يد المشتري على إناء
نفسه فكسره؛ قال: أما ما كان في الإناء، فهو أتلفه على نفسه؛ وما كان في
المكيال، فضمانه من البائع؛ لأنه لا ضمان على المشتري فيما يشتري بالكيل
حتى يقبضه، وليس القبض أن يملأ له الكيل، ولكن القبض أن يجعله في إناء
المشتري أو يصبه حيث أمره؛ ولا يضمنه من أجل أنه كان يكتال لنفسه؛ لأنه في
ذلك مؤتمن حتى يصل إليه؛ قلت: أرأيت إن استأجرا جميعا رجلا أو استعاناه
للكيل
(7/463)
بينهما، فسقط من يده على نحو ما سقط من يد
أحدهما؛ قال أما ما كان في الإناء، فضمان على الذي استؤجر أو استعين، وأما
ما كان في المكيال، فهو من البائع، لا ضمان فيه على الذي استؤجر أو استعين
إذا لم يكن منه في ذلك شيء يعلم أن تلفه كان من عمله أو بسبب تضييعه،
والمشتري مثله فيما سقط من يده.
قال محمد بن رشد: قوله في المكيال إذا سقط من يد البائع بعد أن امتلأ على
إناء المشتري فانكسر وكسر ما في إناء المشتري، أن ما كان في المكيال فهو من
البائع، وما كان في الإناء فضمان مكيلته من البائع الذي كسره بفعله، لا
اختلاف فيه؛ غير أن ما كان في المكيال يلزمه غرمه من الزيت الذي باع منه،
فإن لم يكن فيه ما يوفيه إياه منه، حاسبه ورد عليه ما ينوبه من الثمن؛ وأما
ما كان في الإناء فيلزمه غرم مثله من ذلك الزيت ومن غيره.
وقوله فإن بقي عند البائع من الزيت الذي كان اشترى منه المشتري، أوفاه ما
بقي عليه من الزيت، يريد بعد الذي انكسر، إذ الذي انكسر هو ضامن لمثله على
كل حال وإن فني الزيت من يده، وإنما يحاسبه إذا فني الزيت من يده بما بقي
من العدد الذي باع منه؛ مثال ذلك: أن يبيع منه عشرة أقساط من زيت عنده،
فيكيل له منه خمسة في إنائه، ثم يسقط الكيل السادس من يده على إناء المشتري
فيذهب ما فيه وما في الإناء؛ فإن كان في بقية الزيت الذي كان عنده ما يوفيه
منه الخمسة الأقساط الباقية، وفاه إياها منه؛ وإن لم يكن فيه وفاؤها، رد
عليه من الثمن ما يجب لما نقص من ذلك.
وأما الخمسة الأقساط التي سقط المكيال عليها فكسرها، فهو ضامن لمثلها من
غير ذلك الزيت إذا فني ذلك الزيت، أو لم يرد أن يعطي منه؛ إذ لا يلزمه أن
يعطي ذلك منه؛ لأنها
(7/464)
جناية لازمة لزمته غير متعينة في ذلك
الزيت، وقد مضى القول على هذا المعنى وعلى سائر ما في المسألة مستوفى في
رسم نقدها من سماع عيسى.
[مسألة: يبيع الزرع وقد أفرك أو الفول وقد
امتلأ حبه]
مسألة وسئل: عن رجل يبيع الزرع وقد أفرك، أو الفول وقد امتلأ حبه - وهو
أخضر، والحمص والعدس أو ما أشبه ذلك، فيتركه مشتريه حتى ييبس ويحصد، أيجوز
بيعه؟ فقال: إن علم به قبل أن ييبس فسخ البيع، وإن لم يعلم به إلا بعد أن
ييبس، مضى البيع ولم يفسخ؛ وليس هو مثل من يشتري الثمرة قبل أن تزهى؛ لأن
النهي جاء في بيع الثمار قبل أن تزهى من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، واختلف العلماء في وقت بيع الزرع: فقال بعضهم: إذا
أفرك، وقال بعضهم: حتى ييبس، فأنا أجيز البيع إذا فات باليبس لما جاء فيه
من الاختلاف، وأرده إذا علم به قبل أن ييبس.
قال محمد بن رشد: لا يجوز عند مالك وجميع أصحابه بيع شيء من ذلك حتى ييبس
ويستغني عن الماء، لما جاء من أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، قال: «لا
تبيعوا الحب في سنبله حتى يبيض في أكمامه» ، إلا أنه إن بيع عندهم بعد أن
أفرك وقبل أن ييبس، لا يحكمون له بحكم البيع الفاسد، مراعاة لقول من يجيز
ذلك من أهل العلم، منهم ابن شهاب؛ فمنهم من يرى العقد فيه فوتا، وإنما
يكرهه ابتداء، فإذا وقع، مضى ولم يفسخ؛ ومنهم من يفسخه ما لم ييبس، ومنهم
من يفسخه ما لم يقبض؛ ومنهم من يفسخه
(7/465)
وإن قبض ما لم يفيت بعد القبض، وهو ظاهر ما
في السلم الأول من المدونة؛ ولو بيع قبل أن يفرك، يفسخ البيع فيه على كل
حال وإن قبض وفات، فإذا لم يختلف في أن بيعه لا يجوز قبل أن يفرك والشافعي
لا يجيز بيعه وإن يبس حتى يحصد ويصفى، ويرى ذلك من الغرر، وقد مضت هذه
المسألة متكررة في هذا السماع من كتاب زكاة الحبوب والثمار.
وقوله في الفول والحمص إنه لا يجوز شراؤه أخضر على أن يتركه البائع حتى
ييبس، هو مثل ما في المدونة، وقد أجازوا شراء العنب والتمر إذا طاب على أن
يتركه مشتريه حتى ييبس، وحكى الفضل أن ذلك اختلاف في القول يدخل في
المسألتين، وبالله التوفيق.
[مسألة: يشتري الثوبين من الرجلين ثوب أحدهما
بعشرة والآخر بخمسة]
مسألة قال: وسئل: عن الرجل يشتري الثوبين من الرجلين ثوب أحدهما بعشرة،
والآخر بخمسة، على أنه فيهما بالخيار، فردهما وقد خلطهما فتداعيا في
الأجود؛ فقال: إن نص لكل رجل ثوبه، حلف وبرئ إليه منه؛ وإن قال لا أدري
أيهما لهذا ولا أيهما لهذا؛ غير أن هذا لأحدهما، إنما أخذت ثوبه بعشرة،
وثوب هذا الآخر بخمسة نصهما نصا، ولست أدري أي الثوبين ثوب هذا من هذا؛
فإنه يقال له قد ضمنتهما جميعا بخمسة عشر دينارا، فإن شئت فادفعه إلا
أحدهما أيهما شئت: الثوب الرفيع، وأعط الآخر ثمن الثوب الذي أقررت لله به؛
فإن أعطى الثوب الرفيع الذي كان يزعم أنه أخذ منه ثوبه بعشرة، دفع إلى
الآخر خمسة دنانير وبرئ؛ وإن أعطى الثوب الرفيع الذي أخذ ثوبه بخمسة
احتياطا على نفسه، وخوفا من أن يكون ثوبه غرم لصاحب الثوب
(7/466)
الآخر العشرة التي أقر أنه أخذ منه ثوبه
بها؛ قال: وإن قال لا أدري أيهما ثوب هذا ولا ثوب هذا؛ ولا أدري أيضا من
أيهما أخذت الثوب بعشرة؛ ولا من أيهما أخذت الآخر بخمسة؛ قيل له: اغرم لكل
واحد منهما، وشأنك بثوبك؛ لأنك قد أقررت أنك قد أخذت من أحدهما ثوبا بعشرة،
فلما ادعياه جميعا ولم ينص لواحد منهما ثوبه فتبرأ بذلك من ضمانه بالثمن،
ولا أنت نصصت لكل واحد منهما في دعواهما، حتى تجعل صاحب الخمسة أحدهما،
فتبرأ مما ادعى عليك من الفضل مع يمينك؛ فكلا دعواهما في عشرة عشرة، وأنت
غير مكذب لهما، إذ لا تنص أيهما ادعى أكثر من حقه فتحلف وتبرأ.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة متكررة في هذا الرسم بعينه من كتاب
بيع الخيار، ومضى من القول عليها هناك ما فيه كفاية، فلا معنى لإعادته،
وبالله التوفيق.
[يسوم الرجل بسلعة ليست له]
ومن كتاب المكاتب قال: وسألته عن الرجل يسوم
الرجل بسلعة ليست له، فيقول اشتر مني هذا العبد عبد فلان بستين
دينارا، فإني قد أعطيته عطاء، وأنا أرجو أن يمضيه لي؛ فيقول نعم قد أخذته
بستين دينارا، فيرجع البائع إلى سيد العبد فيشتريه منه بخمسين نقدا ويمضيه
للآخر بستين دينارا نقدا على السوم الأول، فقال: أكره هذا ولا أحبه، وإن
وقع أمضيته إن كانت البيعتان جميعا بالنقد وانتقدا.
قال محمد بن رشد: كره هذا البيع ابتداء، لما فيه من معنى بيع ما ليس عندك،
وربح ما لم يضمن، إذ باع ما لم يتم له شراؤه بعد
(7/467)
وأجاز ذلك إذا وقع، لما كان ذلك بعد أن قرب
الأمر (بينه) وبين صاحب السلعة بالمراوضة التي كانت بينهما فيها؛ ولأن معنى
قوله قد أخذته بستين، أي: قد أخذته بها إن أمضاه لك صاحبه، وتم شراؤك فيه؛
ولو اشتراه منه بستين شراء ناجزا على أن تحصله له من صاحبه مما قدر عليه،
لم يجز، ولكان بيعا فاسدا.
وقد وقع في رسم الشريكين من سماع ابن القاسم من كتاب السلم والآجال، تخفيف
ذلك ابتداء، وفي رسم تسلف منه اختلاف قول مالك فيه؛ وهذا كله إذا كانت
البيعتان جميعا بالنقد، وأما إذا كانت إحداهما إلى أجل، فلا اختلاف في أن
ذلك لا يجوز؛ ويختلف في وجه الحكم في ذلك إذا وقع على حسبما ذكرناه في رسم
سلعة سماها من سماع ابن القاسم من الكتاب المذكور، فإنا استوعبنا هناك
القول على جميع وجوه المسألة وأقسامها بما لا مزيد عليه، وبالله التوفيق.
[مسألة: يشتري العبد في مرضه على أن يوصي له
بالعتاقة فيفعل ثم يموت]
مسألة وسألته: عن الرجل يشتري العبد في مرضه على أن يوصي له بالعتاقة فيفعل
ثم يموت، فلا يسع الثلث عتاقة العبد؛ فقال: كان البيع غير جائز، فإذا فات
بالعتاقة بعضه بالوصية التي اشترطت عليه، فالعبد يرد إلى قيمة مثله يوم
تبايعا، ثم يصح بعد وتمضي الوصية للعبد، يسع الثلث من رقبته ما وسع، ويضيق
عما ضاق؛ ولا يكون للبائع أن يرتجع ما رق منه بالذي يصيبه من الثمن.
قال محمد بن رشد: اشتراء الرجل العبد على أن يوصي
(7/468)
بالعتاقة غرر لا يجوز؛ لأن البائع حط من
الثمن لعتق لا يدري هل يكون أم لا يكون؛ كمن باع عبده على أن يدبره المشتري
أو يكاتبه أو يعتقه إلى أجل؛ وقد اختلف في هذه البيوع، فقيل: إن البائع إن
رضي بترك الشرط جاز البيع، وإن أبى فسخ البيع؛ إلا أن يفوت، فيكون فيه
الأكثر من القيمة أو الثمن؛ وقيل: يرجع البائع على المبتاع بقدر ما نقص من
الثمن بسبب الشرط، وقيل: إن البيع يفسخ على كل حال، وإن رضي البائع بترك
الشرط ما لم يفت البيع؛ فإن فات، كانت فيه القيمة بالغة ما بلغت؛ وهو ظاهر
قوله في هذه الرواية؛ لأنه قال فيها إن القيمة تكون فيه يوم تبايعا إذا فات
بعتاقة بعضه بالوصية، ولم يقل الأكثر من القيمة، أو الثمن؛ ويريد بقوله يوم
تبايعا إذا كان البيع والقبض في يوم واحد، ويفوت بما يفوت به البيع الفاسد،
ولا يفوت بالوصية ما لم يبت البائع الموصى، فيجب عتقه بالوصية، أو عتق
بعضه، إذ له الرجوع عن الوصية، بخلاف التدبير والكتابة والعتق إلى أجل، ولو
مات المبتاع الموصى ولا مال له وعليه دين يفترقه، لفسخ فيه البيع ولم يبع
في الدين، وقد مضى تحصيل القول في هذا النوع من البيوع في رسم القبلة من
سماع ابن القاسم.
[مسألة: يشتري الغنم وفيها شاة بها علة]
مسألة وسئل: عن الرجل يشتري الغنم وفيها شاة بها علة، ويقول المشتري أنا
بالخيار في هذه العليلة عشرة أيام، فإن صحت فهي لي، وإن لم تصح رددتها بما
ينوبها من الثمن؛ فقال: هذا بيع غير جائز. قلت له: ولم؟ قال: لأنه لو اشترى
(شاة) واحدة عليلة على أنها له إن صحت إلى عشرة أيام، وإن لم تصح ردها،
لكان بيعا مفسوخا غير جائز؛ قيل له: فإنها غير عليلة إلا أنه
(7/469)
استثنى الخيار في شاة منها أياما، فقال:
هذا أيضا غير جائز؛ قلت له: ولم كرهت ذلك؛ قال له: لأنه إن حبسها تم البيع
بجميع الثمن الذي اشتريت به الغنم كلها، وإن ردها بالقيمة والقيمة لا تعرف
إلا حين تقوم الغنم والشاة؛ فإنه لا يدري إن رد الشاة بكم تبقى عليه الغنم
الباقية، فهي أحيانا بجميع الثمن، وأحيانا بثمن لا يدري كم هو؟
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة متكررة في هذا الرسم من هذا السماع من
كتاب بيع الخيار، ومضت أيضا في رسم الكبش قبل هذا من هذا الكتاب، ومضى من
القول عليها في الموضعين ما فيه بيان، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[يبيع السفينة ويشترط على المشتري أن لا يبيعها ولا يهبها حتى يقضيه الثمن]
ومن كتاب الصلاة
وسئل ابن القاسم: عن الرجل يبيع السفينة ويشترط
على المشتري أن لا يبيعها ولا يهبها حتى يقضيه الثمن، فقال: إن لم
تفت فسخ البيع، وإن فاتت أو هلكت، فهي من المشتري والبيع ماض عليهما
لفوتها.
قال محمد بن رشد: هذه المسألة من بيوع الثنيا التي المشهور فيها أن البيع
يفسخ ما لم يفت، إلا أن يرضى البائع بترك الشرط؛ فإن فاتت كان فيها الأكثر
من القيمة أو الثمن. وقوله في هذه الرواية إنه بيع فاسد يفسخ على كل حال في
القيام، ويصحح في الفوات بالقيمة يوم القبض، وهو معنى قوله والبيع ماض
عليهما بفوتها؛ ورواية يحيى عن ابن القاسم في هذه المسألة، وفي المسألة
التي في الرسم الذي قبل هذا؛ كروايته عنه في سماعه من كتاب السلم والآجال،
وفي العشرة في البيع والسلف أنه بيع فاسد يفسخ على كل حال في القيام، ويكون
فيه القيمة بالغة ما بلغت في الفوات، وبالله التوفيق.
(7/470)
[الدار تباع
وفيها نقض لرجل هو فيها بكراء]
من سماع سحنون وسؤاله ابن القاسم قال: وسئل ابن القاسم: (عن الدار تباع)
وفيها نقض لرجل هو فيها بكراء، وأبواب في بيوت الدار، والمكتري حاضر، حضر
البيع؛ ثم قال بعد ذلك: نقضي وخشبي وأراد أخذه، فقال له المشتري: قد حضرت
شرائي فلم تدع شيئا وقد اشتريت ووجب لي كل شيء في الدار، قال: أرى الأبواب
والنقض للمكتري، ولا أرى ذلك يقطع حجته، من قبل أنه يقول ما لي لم أظن أن
ذلك يكون لك ولا يجب لك.
قال محمد بن رشد: قوله أرى الأبواب والنقض للمكتري، معناه: إذا كانت له
بينة، على أن ذلك له جاء به من عنده، أو على إقرار له من صاحب الدار بذلك
قبل البيع؛ إذ لا يقبل إقراره له بذلك بعد البيع، وإنما عذر المكتري في
سكوته عند حضور البيع على أن يذكر أن الأنقاض والأبواب له؛ لأن من حجته أن
يقول إنما سكت؛ لأني ظننت أن من اشترى دارا لا يكون له شيء من نقصها المبني
فيها، إلا أن يشترطه؛ ولو قال له البائع أبيع منك الدار بأنقاضها وأبوابها
والمكتري حاضر يسمع فلم ينكر، لكان سكوته تجويزا منه للبيع، ولوجب أن يكون
له من الثمن ما ناب النقض والأبواب منه إن كان صاحب الدار مقرا له بالنقض
والأبواب.
وأما إن لم يكن له مقرا بذلك ولا مكذبا لبينته التي شهدت له بالأنقاض
والأبواب، وإنما ادعى أنه اشترى ذلك بماله، أو بما كان له عليه من كراء
الدار، وأنها قد تصيرت إليه بعد ذلك ببيع وما أشبه ذلك، لكان سكوته
(7/471)
على البيع موجبا لتصديق البائع صاحب الدار
فيما ادعى من الأنقاض، ولم يكن للمكتري شيء منها ولا من ثمنها؛ هذا الذي
يأتي في هذا على أصولهم، وقد قيل: إن حقه لا يبطل في الأنقاض إذا كانت له
بينة أنه جاء بها من عنده، ويكون له أن يأخذ ما يجب لها من الثمن بعد يمينه
على تكذيب دعوى صاحب الدار، إلا أن يطول سكوته بعد البيع، ولو ادعى النقض
المبني في الدار والأبواب المركبة فيها ولم تكن له بينة عليها، لم يكن له
شيء منها؛ ولو كان النقض مطروحا في الدار، والأبواب غير مركبة فيها، ولا
مقلوعة منها؛ لما دخلت في البيع، ولكانت للمكتري، بيعت الدار، أو لم تبع مع
يمينه إن ادعاها صاحب الدار.
وقد قال ابن دحون: إنما لم يضره سكوته عند البيع إذا كانت له بينة
بالأنقاض، من أجل أنه في الدار؛ ولو كان خارجا عن الدار وله بينة بالأنقاض
فسكت عند البيع، لم يكن له منها شيء؛ وهذا لا وجه له، إذا لا فرق في سكوته
بين أن يكون في الدار، أو خارجا عنها؛ وإنما يفترق الأمر في سكوته بين أن
يقول أبيع منك الدار ولا يزيد على ذلك، ويقول أبيعها منك بنقضها على ما
ذكرناه.
[مسألة: بيع العود والبوق والكبر]
مسألة وسئل ابن القاسم: عن بيع العود والبوق والكبر، فقال: أرى أن يفسخ
البيع فيه، وأرى أن يؤدب أهله.
قال محمد بن رشد: أما العود والبوق فلا اختلاف في أنه لا يجوز استعمالهما
في عرس ولا غيره، فيفسخ البيع فيهما باتفاق، ولا يقطع من سرقهما إلا في
قيمتهما مكسورين؛ وأما الكبر، فقوله إن البيع يفسخ فيه، يدل على أنه لا
يجوز استعماله في العرس، وذلك خلاف لما في رسم سلف من سماع عيسى من كتاب
النكاح، ولما في رسم سلف من سماع
(7/472)
عيسى من كتاب السرقة، من أن من سرقه يقطع
في قيمته قائما، ولم يختلف في إجازة الدف وهو الغربال في العرس؛ واختلف في
المزهر والكبر، فقيل: إنهما يجوزان فيه، وهو قول ابن حبيب، وقيل: إنهما لا
يجوزان فيه، وهو قول أصبغ في نوازله من كتاب النكاح، وهو الذي يقوم من هذه
الرواية؛ وقيل: إنه يجوز الكبر ولا يجوز المزهر، وهو دليل ما في سماع عيسى
من كتاب النكاح، ومن كتاب السرقة؛ وقد مضى تحصيل القول في هذه المسألة، في
رسم سلف من سماع عيسى من كتاب النكاح.
[مسألة: باع سلعة من رجل ثم استقال البائع
المبتاع]
مسألة وسئل ابن القاسم: عن رجل باع سلعة من رجل ثم استقال البائع المبتاع،
فقال له المبتاع: إني أخاف أن تكون يريد بيعها وأربحت فيها؛ فقال له
البائع: لا، إنما أردتها لنفسي، فيقيله ثم يبيع تلك السلعة؛ فقال: إذا علم
أنه استقال منها ليبيعها، فأرى بيعه غير جائز، وأراه ينقض، وإن كان على غير
ذلك، ثم بدا له في بيعها، وطال زمانها ثم باعها، فأرى بيعه جائزا.
قال ابن القاسم: ومثل ذلك أن مالكا سئل: عن رجل سأل امرأته أن تضع عنه
صداقها، فقالت له: أخاف إن أنا وضعته أن تطلقني؛ فقال: ما أفعل، فتضع له
صداقها ثم يطلقها؛ فقال مالك: أرى أن ترجع عليه بما وضعت عنه، إلا أن تكون
وضعت ذلك عنه وطال الزمان، وتبين صحة ذلك، ثم طلق، فلا أرى لها شيئا؛ فأما
إذا خيف أن يكون إنما خدعها بذلك، فأراها ترجع به.
وأخبرنا محمد بن خالد، قال: أخبرني ابن القاسم عن مالك في الرجل يسأل
امرأته أن تضع عنه مهرها، فتقول له: إني أخاف إن أنا فعلت ذلك أن تطلقني.
قال: لست أفعل، فتضع عنه مهرها فيطلقها؛ قال: الطلاق له لازم، ويرجع عليه
بمهرها إن طلقها بحدثان ذلك؛ فإن طلقها
(7/473)
بعد ذلك بحين حتى برئ من التهمة، مضى
الطلاق ولم يرد شيئا.
قال محمد بن رشد: قوله إن البيع ينقض إذا علم أنه إنما استقاله فيها
ليبيعها صحيح؛ لأنه إنما أقاله على ألا يبيعها، فإن باعها نقض البيع فيها
وردت إليه سلعته؛ ويستدل على أنه إنما استقال منها ليبيعها ببيعه إياها
بقرب ذلك، هذا ظاهر من مقتضى قوله في المسألة: وإذا نقض البيع فيها انتقضت
الإقالة وردت إلى المقيل، ولو أقاله على أنه إن باعها كان أحق بها بالثمن
الذي يبيعها به، فباعها بقرب ذلك، لرد البيع فيها، وأخذها المقيل بذلك
الثمن، وقد مضى القول على هذا مستوفى في أول سماع أشهب.
وتنظير ابن القاسم لهذه المسألة بمسألة مالك في وضع الصداق صحيح؛ لأن قول
المرأة لزوجها أخشى إن وضعت عنك الصداق أن تطلقني، فيقول لا أفعل؛ مثل قول
المبتاع البائع أخشى إن أقلتك أن تبيعها، فيقول لا أفعل؛ ولو لم يجز بينهما
هذا الكلام، وإنما سأل الرجل زوجته أن تضع عنه الصداق، فوضعته ثم طلقها
بالقرب، لرجعت عليه بصداقها، إذ قد علم أنه إنما وضعته عنه رجاء استدامة
صحبته؛ ولو سأل البائع المبتاع أن يقيله فأقاله، ثم باعها بالقرب، لم يكن
للمبتاع في ذلك قول؛ فهاهنا تفترق المسألتان، ولا فرق في وضع المرأة صداقها
عن زوجها، إذا سألها ذلك بين أن تضع عنه وتسكت، أو تقول له: أخشى إن وضعته
عنك أن تطلقني، فيقول: لا أفعل؛ أو تقول: إنما وضعته عنك على أنك إن طلقتني
رجعت عليك بصداقي، في أنه يكون لها أن ترجع به عليه إن طلقها بقرب ذلك؛ إلا
أن تقول له إنما أضعه عنك على ألا تطلقني أبدا، أو على أنك متى ما طلقتني
رجعت عليك بصداقي، فيكون لها أن ترجع عليه بصداقها متى ما طلقها، كان ذلك
بالقرب أو بعد طول من الزمان، ومثل مسألة مالك في المعنى ما في سماع أصبغ
من كتاب طلاق السنة في التي
(7/474)
تقول لزوجها: إن لم تتزوج علي فصداقي عليك
صدقة فيقبل ذلك منها، ثم يطلقها بالقرب، أنها ترجع عليه بصداقها؛ بخلاف
الذي يقول لزوجته: أنت طالق إن لم تضعي لي صداقي، فتضعه عنه ثم يطلقها، وقد
مضى هناك الفرق بين المسألتين، فلا معنى لإعادته.
[مسألة: يبيع عبده ويستثني المشتري نصف ماله]
مسألة سحنون: قلت لأشهب: أرأيت الرجل يبيع عبده ويستثني المشتري نصف ماله،
أو يبيعه نخلة وقد أبرت ويستثني نصف الثمار؛ قال: ذلك جائز، قال سحنون:
وخالفه ابن القاسم، فقال: لا يجوز.
قال محمد بن رشد: مثل ابن القاسم هذا في المدونة من قوله وروايته عن مالك،
أنه لا يجوز للمبتاع أن يشترط بعض مال العبد، ولا بعض ثمر النخل. وقوله -
عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من باع نخلا قد أبرت فثمرتها للبائع إلا أن
يشترطها المبتاع» ، يروى: «إلا أن يشترطها المبتاع» ، أو «إلا أن يشترط
المبتاع» ، بهاء وبغيرها؛ فثبوت الهاء دليل لقول ابن القاسم وروايته عن
مالك؛ وسقوطها دليل لقول أشهب، وحجة أشهب من جهة النظر أنه إذا جاز اشتراط
الكل جاز اشتراط البعض.
وحجة ابن القاسم من جهة النظر أن اشتراط الكل إنما جاز من أجل أنه كان ملغى
لا قدر له عند البائع، فتركه للمبتاع ولم يشاحه فيه؛ وإذا اشترط البعض، دل
على
(7/475)
رغبة البائع (فيه) إذ لم يترك له جميعه؛
وأنه إنما ترك له منه ما ترك، لاشتراطه إذا زاده في الثمن من أجل الشرط؛
واختلف قول ابن القاسم إن وقع ذلك، فقال مرة: يفسخ البيع إلا أن يشاء
البائع أن يترك له الجميع، وقال مرة: يفسخ وليس لأحدهما أن يمضيه؛ لأنه وقع
على ما لا يحل، وإلى هذا رجع؛ وقع اختلاف قوله هذا في التفسير ليحيى، وهذا
الاختلاف على الاختلاف الذي مضى في رسم استأذن (من سماع عيسى) في العبد
يكون بين الرجلين فيبيع أحدهما نصيبه من غير شريكه ولا يستثني المبتاع
ماله، وبالله التوفيق.
[مسألة: الرجلين يأخذان من الرجل ثوبين مروي
وخز بمائة دينار]
مسألة وسئل أشهب: عن الرجلين يأخذان من الرجل ثوبين مروي وخز بمائة دينار،
وقد تراوض المشتريان قبل ذلك أن يأخذ أحدهما الخز بما يقع عليه، والآخر
المروي بما يقع عليه؟
قال: البيع جائز والمراوضة بينهما باطل، أو يكون لكل واحد منهما نصف كل
ثوب؛ وذكر مسألة الأرض تكون بين حائطي رجلين والأرض لرجل، فيشتريانها على
أن يقتسما الأرض فيأخذ كل واحد منهما نصيبه مما يليه والأرض مختلفة. قال
ابن كنانة: لا يجوز؛ لأن مرة يكون لأحد الشريكين ثلث تلك الأرض، ومرة يكون
له ثلثاها، ومرة يكون له ربعها، فلا يجوز.
قال محمد بن رشد: البيع في مسألة أشهب في الثوبين المروي والخز جائز
باتفاق؛ لأن الفساد فيها إنما هو من جهة أحد المتبايعين، إذ لم يبع البائع
منهما على ما تراوضا عليه؛ كما لو جمع رجلان سلعتين لهما في
(7/476)
البيع ولم يعلم المشترى بذلك، وظن أنهما
شريكان فيهما، لكان البيع جائزا باتفاق؛ وإذا تراوض الشريكان في الثوبين
اللذين اشترياهما صفقة واحدة، على أن يأخذ كل واحد منهما ثوبا سماه منهما
بما يقع عليه من الثمن، لم يجز إلا على مذهب من يجيز جمع الرجلين سلعتيهما
في البيع؛ لأن كل واحد منهما قد اشترى نصف صاحبه من الثوب الذي أراد الخروج
إليه بنصف ما يقع عليه من الثمن، ولا يعرف ذلك إلا بعد التقويم؛ فلا يجوز
ذلك، كما لا يجوز للرجل أن يشتري من الرجل ثوبا من جملة ثياب قد اشتراها
صفقة واحدة بما يقع عليه من الثمن إذا قومت، إلا على مذهب من يجيز جمع
الرجلين سلعتيهما في البيع؛ ومن مذهب أشهب إجازة ذلك كله، فإنما قال في
المراوضة التي وقعت بينهما في الثوبين: إنها باطل، من أجل أنهما عقداها
بينهما قبل الشراء، فدخله بيع ما ليس عندك.
وأما المسألة الثانية التي أجاب عليها ابن كنانة، فإنها جارية على الاختلاف
في إجازة جمع الرجلين سلعتيهما في البيع؛ لأنهما اشتريا الأرض التي بين
حائطيهما على أن يأخذ كل واحد منهما نصف مساحتها الذي يليه بما يقع عليه من
الثمن؛ وذلك لا يعلم إلا بعد التقويم، لاختلاف الأرض؛ ولو كانت الأرض
مستوية لجاز؛ لأن النصف الذي يلي حائط كل واحد منهما يكون بنصف الثمن، ولا
فرق بين أن يبيع الرجلان سلعتيهما بثمن واحد، على أن يكون لكل واحد منهما
منه ما ينوب ثوبه؛ وبين أن يشتري الرجلان السلعتين بثمن واحد، على أن يأخذ
كل واحد منهما السلعة التي سماها بما ينوبها منه، والله أعلم.
[مسألة: يشتري عشرة أكبش من مائة يختارها]
مسألة وقال أشهب، في الرجل يشتري عشرة أكبش من مائة يختارها، فلم يختر حتى
جاءه رجل فقال له خذ مني ربحا واجعلني أختار في مكانك، آخذ ما كان لك أن
تختار؛ إن ذلك ليس له بجائز؛ لأن الأول لا يجوز له أن يبيع ما لم يجب له،
(7/477)
ولأن الخيار يختلف، يختار ما لا يوافق
الثاني، وليس للآخر أن يختار ما لم يجب الأول حتى يختار للأول ولا يجوز
أيضا؛ وإن قال (له) اختر فأنا أشتري ما تختار أنت؛ لأنه غرر؛ وهو خلاف لو
مات المشتري الأول قبل أن يختار، كان لورثته أن يختاروا لأنهم كأنهم هو.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول على هذه المسألة مستوفى في رسم استأذن من
سماع عيسى، فلا معنى لإعادته.
[مسألة: يشتري الزرع بعدما طاب ويبس بثمن فاسد
فتصيبه عاهة فيتلف قبل أن يحصد]
مسألة قال ابن القاسم: في الرجل يشتري الزرع بعدما طاب ويبس بثمن فاسد،
فتصيبه عاهة فيتلف قبل أن يحصد، إن مصيبته من المشتري وهو قابض؛ وهو خلاف
الذي يشتري الزرع قبل أن يبدو صلاحه على أن يتركه فيصاب بعدما يبس، إن
مصيبته من البائع؛ لأنه لم يكن قبض ما اشترى حتى يحصد.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأنه إذا اشترى الزرع بعد أن طاب ويبس بثمن
فاسد، دخل بالعقد في ضمانه؛ إذ لا توفية فيه على البائع، من أجل أنه جزاف؛
ألا ترى أنه لو اشتراه شراء صحيحا، لكانت مصيبته منه بالعقد؛ لأن حصاده
عليه ولا جائحة فيه، فهو كالصبرة من الطعام تشترى جزافا؛ وإذا اشترى الزرع
قبل أن يبدو صلاحه على أن يتركه، لم يدخل في ضمانه حتى يقبضه؛ لأنه إنما
اشتراه على أن يتركه، وقبضه إنما يكون بحصاده، وهذا ما لا اختلاف فيه
أعلمه، أعني في أن مصيبته من البائع، ما لم يقبضه المشتري بحصاده؛ ولو باعه
على الجد بيعا صحيحا، أو تصدق به؛ أو وهبه؛ لجرى ذلك على الاختلاف في الذي
(7/478)
يشتري العبد بيعا فاسدا فيعتقه، أو يبيعه،
أو يهبه، أو يتصدق به قبل أن يقبضه؛ إذ قد قيل: إن ذلك كله فوت، وقيل: إنه
ليس شيء من ذلك كله فوتا إلا العتق لحرمته؛ وقيل: إن ذلك فوت في العتق
لحرمته؛ وفي البيع، إذ لا يحتاج إلى قبض؛ وليس بفوت في الهبة والصدقة،
لافتقارهما إلى القبض، فيكون عليه قيمته على الرجاء والخوف يوم فوته
بالبيع، أو الصدقة؛ كما لو استهلكه على القول بأن ذلك فوت، ويفسخ البيع على
القول بأن ذلك ليس يفوت.
[مسألة: يشتري الثوب من رجل فيحبسه البائع
للثمن ثم يدعى أنه تلف]
مسألة وسألت ابن القاسم: عن الرجل يشتري الثوب من رجل فيحبسه البائع للثمن،
ثم يدعى أنه تلف، ولا يعرف ذلك إلا بقوله؛ قال: أحب ما فيه إلي أن البيع
مفسوخ، إلا أن يكون قيمة الثوب أكثر من الثمن فيغرمه؛ لأنه يتهم أن يكون
غيبه لأنه ندم؛ وإن كانت قيمته أقل، فسخ البيع، وليس احتباسه إياه برهن؛
ولو كان حيوانا، كان مصدقا في قوله قد تلف؛ ولو أن قائلا قال في الثوب إن
عليه قيمته - كان أقل أو أكثر - لم أعب قوله؛ قال سحنون: ليست هذه الرواية
بشيء، وردها إلى أن ضاع، فالبيع فيه مفسوخ، ولا قيمة فيه على البائع.
قال محمد بن رشد: المشهور من قول ابن القاسم، أن السلعة المبيعة المحبوسة
بالثمن رهن به، يكون مصيبتها من المشتري - إن تلفت، وقامت بينة على تلفها،
وإن لم تقم بينة على تلفها، لم يصدق البائع في ذلك، ولزمه غرم قيمتها؛
وجوابه في هذه المسألة على أن ضمان السلعة المحبوسة بالثمن من البائع، فإن
تلفت وقامت بينة على تلفها، انفسخ
(7/479)
البيع، وهو قول سليمان بن يسار في المدونة،
وأحد قولي مالك فيها،؛ وقد قال سحنون، في نوازله من كتاب الاستبراء وأمهات
الأولاد: إن ذلك هو قول جميع أصحاب مالك إلا ابن القاسم، فإنه يرى حكمها
حكم الرهن؛ فجاء جواب ابن القاسم في هذه المسألة على قول سليمان بن يسار،
وأحد قولي مالك؛ وما أجمع عليه أصحابه من أن ضمان السلعة المحبوسة بالثمن
من البائع، خلاف المشهور من مذهبه، فقال: إن البيع يفسخ؛ يريد بعد يمينه
لقد تلف، إلا أن يصدقه المبتاع فيما ادعى من تلفه؛ إلا أن تكون قيمتها أكثر
من الثمن فيغرمها؛ لأنه يتهم أن يكون ندم في بيعه فغيبه وادعى تلفه، فلا
يصدق في ذلك؛ ويقال له: لا بد لك من أن تأتي بالثوب أو تغرم قيمته.
وقوله: ولو كان حيوانا كان مصدقا في قوله: قد تلف، يريد مع يمينه وينفسخ
البيع على ما بنى جوابه عليه من أن ضمان السلعة المحبوسة بالثمن من البائع،
وقوله: ولو أن قلنا قال: إن عليه في الثوب قيمته كانت أقل أو أكثر - لم أعب
قوله، هو الذي يأتي على المشهور المعلوم من مذهبه أن السلعة المحبوسة
بالثمن رهن به؛ فإن ادعى تلفه لم يصدق في ذلك؛ لأنه مما يغيب عليه، ولزمته
قيمته بالغة ما بلغت.
وعاب سحنون هذا القول؛ لأنه ذهب إلى أن ضمان السلعة المحبوسة بالثمن من
البائع، وأن البيع ينفسخ بتلفها على قول سليمان بن يسار، وأحد قولي مالك؛
وما يحكى أن أصحاب مالك اتفقوا عليه، فقال: ليست هذه الرواية بشيء، وردها
إلى أن ضاع فالبيع فيه مفسوخ، ولا قيمة فيه على البائع، يريد: أنه يصدق في
تلفها مع يمينه، فينفسخ البيع فيها؛ فالذي يتحصل في تلف السلعة المحبوسة
بالثمن: إن قامت بينة على تلفها قولان: أحدهما: أن مصيبتها من البائع،
ويفسخ البيع. والثاني: أن مصيبتها من المشتري ويلزمه الثمن؛ وإن لم تقم
بينة على تلفها، فأربعة أقوال: أحدها: أن البائع يصدق
(7/480)
مع يمينه على ما ادعاه من تلفها - كانت
قيمتها مثل الثمن، أو أقل أو أكثر، ويفسخ البيع، وهو قول سحنون.
والثاني: يصدق مع يمينه على ما ادعاه من تلفها، ويفسخ البيع، إلا أن تكون
قيمتها أكثر من الثمن، فلا يصدق في ذلك، إلا أن يصدقه المبتاع ويكون
بالخيار بين أن يصدقه فيفسخ البيع أو يضمنه القيمة ويثبت البيع، وهو قول
ابن القاسم في هذه الرواية؛ وهذان القولان على قياس القول بأن المصيبة من
البائع، وينفسخ البيع إذا قامت البينة على التلف.
والقول الثالث: أن البائع يصدق مع يمينه: لقد تلفت ويلزمه قيمتها كانت أقل
من الثمن، أو أكثر، ويثبت البيع، وهو الذي يأتي على المشهور من قول ابن
القاسم في أن السلعة المحبوسة بالثمن، حكمها حكم الرهن؛ وهو الذي أشار إليه
ابن القاسم في هذه الرواية بقوله: ولو أن قائلا قال ... إلى آخر قوله.
والقول الرابع: (أن البائع) مصدق مع يمينه: لقد تلفت ويلزمه قيمتها، إلا أن
تكون قيمتها أقل من الثمن، فلا يصدق في ذلك؛ لأنه يتهم في أن يدفع القيمة
ويأخذ الثمن وهو أكثر، إلا أن يصدقه المبتاع فيكون المبتاع على هذا بالخيار
بين أن يصدقه فيأخذ منه القيمة ويدفع إليه الثمن - إن كان أكثر، وبين أن لا
يصدقه فينقض البيع.
وعلى هذا القول يأتي قول ابن القاسم في المدونة في بعض الروايات في الذي
أسلم ثوبا في طعام فادعى بتلفه - ولم يعلم ذلك إلا بقوله: إن المسلم إليه
بالخيار بين أن يضمنه قيمة الثوب ويثبت السلم عليه، وبين أن يدع قيمته
ويبطل السلم.
وقوله فيها: إن السلم ينتقض إذا لم يعرف تلف الثوب إلا بقوله، معناه عندي:
إن شاء المسلم إليه؛ فليس ذلك باختلاف من قوله، وقد حمله أبو إسحاق التونسي
على أنه اختلاف من القول، وهو بعيد؛ وهذان القولان: الثالث والرابع على
قياس القول بأن مصيبة السلعة المحبوسة بالثمن من المبتاع إذا قامت البينة
على تلفها على حكم الرهن، وبالله التوفيق.
(7/481)
[باع سهما في رحا واستثنى البائع على
المشترى]
من مسائل نوازل سئل عنها سحنون
وسئل سحنون: عن رجل باع سهما في رحا واستثنى
البائع على المشترى أنه ليس يبيع منه في سد تلك الرحا قليلا ولا
كثيرا، والرحا ليست تطحن من غير ذلك السد؛ قال: البيع فاسد؛ لأنه من الغرر.
قال محمد بن رشد: هذا بيّن على ما قال؛ لأن الرحا لا ينتفع بها إلا بسدها؛
فإذا لم يكن له في السد حق، كان انتفاعه بالسهم الذي اشترى موقوفا على
اختيار صاحب السد، إذ من حقه أن يهدمه، وإن انهدم ألا يقيمه، وذلك من أعظم
الغرر.
[مسألة: يشتري الزيت من الزيات فيسقط الكيل من
يد المشتري]
مسألة وسئل سحنون: عن الرجل يشتري الزيت من الزيات ويمسك المشتري الكيل
بيده ويصب الزيات الزيت في الكيل فيسقط الكيل من يد المشتري، على من ضمان
الزيت؟
فقال: إن كان سقط الكيل من يده بعد أن أوفاه الكيل، (وامتلأ) الكيل، فالتلف
من المشتري؛ وإن كان سقط من يده قبل أن يمتلئ الكيل، فالتلف من البائع؛
وسئل: عن رجل اشترى من رجل زيتا، فقال البائع للمشتري: خذ الكيل وكل لنفسك،
فكال المشتري، فسقط منه الكيل وهو ملآن فاهراق؛ قال: مصيبته من المشتري؛
لأنه قد تقاضاه لنفسه، قيل له: فإن سقط منه الكيل قبل أن يمتلئ، فقال:
المصيبة من البائع.
(7/482)
قال محمد بن رشد: وكذلك إذا تولى المشتري
الوزن لنفسه، فلما استوى لسان الميزان، سقط من يده فتلف؛ أنه من المشتري
مثل الكيل، قاله سحنون في غير العتبية على قياس قوله في الكيل؛ وذلك خلاف
ما مضى من قول ابن القاسم في رسم نقدها من سماع عيسى، وفي رسم يشتري الدور
من سماع يحيى؛ وكذلك لو كان المتولي للكيل هو أجير المبتاع، أو وكيله، أو
مستنابه، أو أجير لهما جميعا.
وأما إن كان البائع هو المتولي للكيل، فلا اختلاف في أن ضمان ما في الكيل
من البائع وإن امتلأ حتى يصبه في وعاء المشتري، وقد مضى القول على هذه
المسألة مستوفى في رسم نقدها من سماع عيسى.
[مسألة: اشترى من رجل زيتا فكال له البائع حتى
فرغ]
مسألة وسئل: عن رجل اشترى من رجل زيتا، فكال له البائع حتى فرغ بخابيته، ثم
قدم خابية أخرى، فقال للمشتري: كل لنفسك ما بقي، فأخذ المشتري في كيل
الخابية الثانية، فصب على زيت الخابية الأولى، فإذا قد سقط فيها فأر فمات،
فصب المشتري الفأر على الزيت الطيب؛ هل يكون على المشتري ضمان؟ قال: ما
أفسد من زيته الطيب فمصيبة من المشتري.
قال محمد بن رشد: وكذلك لو كان البائع هو الذي يكيل، فكال من الخابية
الثانية فصبه على الزيت الذي كان من الخابية الأولى بأمر المشتري، لكان
ضمانه من المشتري؛ لأنه إنما صبه عليه بأمره، قاله ابن القاسم في رسم
العرية من سماع عيسى؛ وقد مضى القول على ذلك هناك، فلا معنى لإعادته؛
ومصيبة ما صب عليه من الزيت النجس من البائع، ويكونان في ذلك شريكين على
قدر الخبيث من الطيب، قاله ابن القاسم في رواية ابن أبي جعفر عنه، وهو
صحيح.
(7/483)
[مسألة: باع
كرمه ممن يعصره خمرا من مسلم أو نصراني]
مسألة وسئل: عن رجل باع كرمه ممن يعصره خمرا من مسلم أو نصراني، قال: يفسخ
بيعه وهو بمنزلة النصراني يشتري العبد المسلم، أنه يفسخ بيعه، ولا يثبت
ملكه للنصراني.
قال محمد بن رشد: ساوى سحنون بين أن يبيع الرجل كرمه من نصراني أو ممن
يعصره خمرا من المسلمين، وقال: إن البيع يفسخ في المسألتين جميعا؛ وقاسهما
على النصراني يشتري العبد المسلم وليستا بسواء، إذ لا اختلاف في وجوب فسخ
بيع من باع كرمه ممن يعصره خمرا من المسلمين، فلا يصح قياس ذلك على
النصراني يشتري العبد المسلم، إذ قد اختلف هل يفسخ البيع فيه، أو يباع
عليه.
قال في كتاب التجارة إلى أرض الحرب من المدونة: (إنه) يباع عليه ولا يفسخ
البيع وله في موضع آخر منه وفي المديان والشفعة ما يدل على أنه يفسخ البيع
ولا يباع عليه؛ ومن حق القياس أن يرد ما اختلف فيه إلى ما اتفق عليه، لا ما
اتفق عليه إلى ما اختلف فيه؛ وأما بيع الكرم من النصراني، فهو بمنزلة بيع
العبد المسلم منه، ذهب سحنون إلى أن بيع العبد المسلم منه يفسخ، فقاس عليه
بيع الكرم منه، وذهب أشهب إلى أن العبد يباع عليه، فقاس عليه بيع الكرم
منه، وقع قول أشهب في سماع سحنون من كتاب السلطان.
واختلف على القول بأنه يفسخ ولا يباع عليه إن لم يعثر عليه حتى باعه
النصراني من مسلم، فقال ابن الماجشون: يفسخ البيع أيضا ولو كانوا عشرة،
ويترادون الثمن حتى يرجع إلى بائعه من النصراني؛ وقال ابن القاسم: لا يفسخ
إذا باعه من مسلم، وهو القياس؛ وإذا لم يفسخ، فقيل: إنه يرد إلى القيمة،
وقيل: إنه يمضي بالثمن، وهو قول ابن القاسم في سماع سحنون
(7/484)
من كتاب السلطان في الذي يبيع العنب ممن
يعصره خمرا، أنه يمضي إذا فات؛ ولو باع المسلم كرمه أو عبده المسلم من
النصراني وهو يظنه مسلما، لبيع عليه ولم يفسخ قولا واحدا.
[مسألة: شراء النخل من أصلها وفي رؤوسها ثمر لم
يبد صلاحه]
مسألة قال سحنون: لا بأس باشتراء النخل من أصلها وفي رؤوسها ثمر لم يبد
صلاحه، أو قد بدا صلاحه وطاب بقمح نقدا أو إلى أجل، ومثله اشتراء العبد وله
مال بماله بدين وبنقد.
قال محمد بن رشد: هذا معلوم من قول سحنون، ومذهب ابن الماجشون أن ما أجيز
بيعه مع غيره وجعل في حكم التبع له كالزرع الذي لم يطب مع الأرض، والثمر
الذي لم يطب مع النخل، وما أشبه ذلك؛ يرى أنه لم يقع عليه حصة من الثمن،
فيجوز بيعه بالدنانير، والدراهم، والطعام نقدا وإلى أجل ولا يرى (في
استحقاقه رجوعا للمشتري، وابن القاسم لا يجيز بيع ذلك بشيء من الطعام نقدا
ولا إلى أجل، ويرى للمشتري أن يرجع بما يقع له من الثمن - إذا استحق؛ وكذلك
الحلي المصوغ بالذهب، إذا كان الذهب فيه الثلث، فأقل، يجيز بيعه بالذهب
نقدا وإلى أجل ولا يرى) للمشتري في استحقاقه رجوعا على البائع خلاف مذهب
ابن القاسم وروايته عن مالك؛ وقد مضى هذا المعنى في رسم العرية من سماع
عيسى وفي غيره من المواضع، وبالله التوفيق.
[مسألة: يسوم بالدابة فيقول له رجل تبيعني بكذا
وكذا فيقول لا أفعل إلا بكذا]
مسألة قال سحنون: عن ابن نافع، عن مالك في الرجل يسوم بالدابة فيقول له رجل
تبيعني بكذا وكذا؛ فيقول لا أفعل إلا بكذا
(7/485)
وكذا، فيقول له المشتري أنقصني دينارا،
فيقول لا أنقصك دينارا، فيقول المشتري قد أخذتها بما قلت؛ إنها له ويلزم
ذلك البيع البائع، وليس له أن يرجع.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة لا اختلاف فيها، إذ قد تبين بتردد
المماكسة بينهما، أنه كان مجدا في السوم، مريدا للبيع، غير لاعب ولا هازل؛
وقد مضى من القول على هذه المسألة في أول رسم من سماع أشهب من هذا الكتاب،
ومن كتاب العيوب ما فيه كفاية، فلا معنى لإعادته.
[مسألة: سام بسلعة فلما قبضها وأراد الانقلاب
بها قال قد أخذتها بعشرة]
مسألة وعن رجل سام بسلعة، فلما قبضها وأراد الانقلاب بها، قال: قد أخذتها
بعشرة، وقال البائع: تأخذها بأحد عشر، وقال المشتري: لا أزيدك على عشرة،
فذهب بها، ثم إنها فاتت السلعة؛ قال: يرد إلى البائع القيمة، فإن كانت
القيمة أقل من عشرة، قيل للمبتاع: ليس لك أن تأخذها بأقل من عشرة؛ لأنك قد
كنت رضيتها بعشرة؛ فإن كانت القيمة أكثر من أحد عشر، قيل للبائع: ليس لك أن
تأخذ منه أكثر من أحد عشر؛ لأنك قد كنت أمضيتها له بذلك.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة جيدة، إلا أنها خفية المعنى ناقصة الوجوه؛ وأنا
أبين ما خفي منها وأتمم ما نقص من وجوهها إن شاء الله تعالى؛ إنما رجع في
السلعة إلى القيمة إذا فاتت بيد المبتاع؛ لأنه قبضها وانقلب بها على غير
اتفاق في الثمن؛ إذ لا يلزم المبتاع الأحد عشر بقول البائع له: تأخذها بأحد
عشر؛ ولا يلزم البائع أخذ العشرة بقول المبتاع، لا أزيدك على عشرة، إلا أن
البائع قد رضي في سلعته بأحد عشر، والمبتاع قد رضي أخذها بعشرة؛ فإذا فاتت
كانت فيها القيمة ما لم تكن
(7/486)
أكثر من أحد عشر، ولا أقل من عشرة؛ وسواء
فاتت السلعة بيد المبتاع، أو أفاتها هو؛ إذ لم يقل له البائع لا أنقصك فيها
من أحد عشر، وإنما عرض عليه أن يأخذها بذلك، إلا أن يفيتها بحضرة البائع
وهو ساكت، مثل أن يكون طعاما فيأكله، أو شاة فيذبحها، أو ثوبا فيقطعه، أو
كراء دار فيسكنها، وما أشبه ذلك؛ فيلزمه أخذ العشرة فيها، لسكوته على
تفويته إياها، وقد سمع قوله لا أزيدك فيها شيئا على عشرة.
ولو قال له لا أنقصك فيها من أحد عشر، فأخذها المبتاع، وقال: لا أزيدك فيها
على عشرة شيئا، فلما انقلب بها أفاتها، كان ثوبا فقطعه، وما أشبه ذلك؛
لزمته فيها الأحد عشر إذا أفاتها، وقد سمع قول البائع لا أنقصك فيها من أحد
عشر شيئا؛ ولو أفاتها المبتاع بحضرة البائع وهو ساكت بوجه من وجوه الفوت
التي ذكرناها، وما أشبهها، لوجب أن يلزم من قولهما القول الآخر الذي افترقا
عليه؛ فإن كان المبتاع قد قال للبائع أولا: لا أزيدك على عشرة، فقال له
البائع: لا أنقصك فيها من أحد عشر شيئا، لزمت المبتاع الأحد عشر بتفويته
إياها؛ وإن كان البائع قد قال للمبتاع أولا: أنقصك فيها من أحد عشر شيئا،
فقال له المبتاع: لا أزيدك فيها شيئا على عشرة، لزم البائع أن يأخذ العشرة
لسكوته على تفويته إياها، وقد سمع قوله لا أزيدك فيها شيئا على عشرة، وهذا
كله بين، يبينه ما وقع في سماع عيسى من كتاب كراء الدور، وما رواه ابن أبي
جعفر عن ابن القاسم في الدمياطية؛ لأن بعض هذه المسائل يبين بعضا ليس في
شيء منها خلاف الآخر، كما ظن من قصر في النظر، وبالله التوفيق.
[مسألة: اشترى من رجل دارا على أن فيها مائة
ذراع فوجد فيها مائة ذراع وذراع]
مسألة وسئل: عن رجل اشترى من رجل دارا على أن فيها مائة
(7/487)
ذراع، فوجد فيها مائة ذراع وذراع؛ قال
المشتري بالخيار، إن شاء أخذ المائة ذراع وكانت البقية لبائع الدار، ويكون
البائع شريكا له في الدار بذراع، وإن شاء ترك؛ قيل له فلو اشترى صبرة منه
على أن فيها مائة صاع، فوجد فيها مائة صاع وصاعا، قال: له مائة صاع وليس له
صاع؛ قيل له فلو اشترى شقة على أن فيها سبعة أذرع، فوجد فيها ثمانية أذرع؛
قال هي له كلها، قيل له فلو اشترى منه خشبة على أن فيها عشرة أذرع، فوجد
فيها أحد عشرة ذراعا، أو اثني عشر ذراعا؛ قال: تكون له الخشبة كلها.
قال محمد بن رشد: المعنى في شراء الشقة على أن فيها سبعة أذرع، والخشبة على
أن فيها عشرة أذرع إذا كانت غائبة فاشتراها على الصفة، فأما لو كانت حاضرة،
لم يجز عقد البيع فيها إلا بعد كيلها إذ لا مؤونة في ذلك، وأما الصبرة
والدار فيجوز عقد البيع فيهما على أن فيهما كذا وكذا قبل أن تكال الصبرة أو
تذرع الدار، لمؤونة الكيل والتذريع، فلا يلزم التذريع والكيل قبل عقد
البيع، وقد مضى بقية القول على هذه المسألة مستوفى في أول سماع أشهب، فلا
معنى لإعادته.
[مسألة: السكران الذي ليس يعقل وليس معه من
عقله شيء أيجوز بيعه]
من مسائل سئل عنها مطرف بن عبد الله
وسئل مطرف: عن السكران الذي ليس يعقل، وليس معه من عقله شيء؛ أيجوز بيعه؟
وما الذي يجوز عليه من أمره والذي لا يجوز عليه؟ فقال: لا يلزم السكران
الذي لا يعقل شيئا سوى ما أصف لك: القذف، والقتل، والعتق، والطلاق؛ هذه
الأشياء قط لا غيرها هي التي تلزمه؛ فهو إن قذف أحدا حد، وإن قتل أحدا قتل،
وإن طلق امرأته لزمه الطلاق؛ وإن أعتق عبده مضى عليه العتق؛ وأما بيعه،
وهبته، وصدقته، فذلك كله ساقط عنه؛ لا
(7/488)
يلزمه منه قليل ولا كثير، ولا يمضي عليه
منه شيء؛ قلت له: فوصيته إن أوصى؛ قال: إذا لم يكن معه عقله فكيف يجوز؛ لا
أرى وصيته جائزة؛ لأنه كالمجنون؛ ألا ترى لو أن مجنونا لم يكن معه عقله
أوصى، فإن وصيته لا تجوز.
قال محمد بن رشد: هذه المسألة قد مضى (من القول) فيها وتحصيل الخلاف، ما لا
مزيد عليه في أول سماع ابن القاسم من كتاب النكاح، فلا معنى لإعادته.
[اشترى أرطالا من لحم فانكسر الميزان]
ومن نوازل سئل عنها سحنون
وسئل: عن رجل اشترى أرطالا من لحم، فانكسر الميزان؛ فقال له المبتاع: أنا
آخذ منك على التحري هذا اللحم بالأرطال التي لي عليك؛ فقال: كل ما كان أصله
الوزن فلم يجد ميزانا، فأراد أن يأخذ مثله على التحري من غير وزن، فلا بأس
به؛ وكل من اشترى شيئا على الكيل ولم يجد كيلا، فلا يجوز للمبتاع أن يأخذه
من البائع على التحري، ولا يجوز إلا بكيل؛ وإنما أجيز التحري فيما يوزن
للضرورة؛ لأنه لا يجد ميزانا، وما يكال ليست فيه ضرورة؛ لأنه يجد كيلا.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول على هذه المسألة في رسم سلف من سماع عيسى،
فلا معنى لإعادته.
(7/489)
[مسألة: بيع
الجوز جزافا]
مسألة قال سحنون، عن ابن وهب، عن مالك: لا يجوز بيع الجوز جزافا إذا باعه
وقد عرف عدده؛ ولا بأس أن تباع القثاء، جزافا؛ لأنه مختلف؛ فيه كبير وصغير،
ويكون العدل الذي هو أقل عددا أكثر من العدل الذي هو أكثر عددا.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال؛ لأن ما يعد أو يكال أو يوزن، لا يجوز
بيعه جزافا، إلا مع استواء البائع والمبتاع في الجهل بعدما يعد منه، أو
وزنه، أو كيله؛ لأنه متى علم ذلك أحدهما وجهله الآخر كان العالم منهما بذلك
قد غر الجاهل وغشه؛ فإذا علم عدد الجوز ولم يجز أن يبيعه جزافا وإن كان
العرف فيه أن يباع كيلا؛ لأنه يعرف قدر كيله بمعرفة عدده؛ وأما معرفة عدد
القثاء، فلا تأثير له في المنع من بيعه جزافا، إذ لا يعرف قدر وزنه بمعرفة
عدده، لاختلافه في الصغر والكبر، بخلاف الجوز الذي يقرب بعضه من بعض.
[مسألة: يشتري من رجل طعاما بعينه على الكيل
بنقد أو إلى أجل]
مسألة وسئل سحنون: عن رجل يشتري من رجل طعاما بعينه على الكيل بنقد أو إلى
أجل، فيؤخر قبضه من البائع على غير شرط كان بينهما شهرا أو شهرين؛ هل يفسخ
البيع بينهما أم يجوز ذلك ويكون له قبض طعامه منه؛ فقال: ذلك جائز ولا
يفسخ.
قال محمد بن رشد: هذا بيّن على ما قال: إن البيع لا يفسخ بتأخير القبض إذا
كان ذلك بغير شرط، بخلاف الصرف؛ وقد مضى هذا المعنى في آخر أول رسم من سماع
ابن القاسم من كتاب السلم والآجال، وفي
(7/490)
أول رسم من سماع عيسى منه، ومضى في رسم
القبلة من سماع ابن القاسم من كتاب الصرف؛ تفصيل القول فيما يجوز من ذلك في
الصرف، فلا وجه لذكره في غير موضعه.
[مسألة: اشترى من رجل شعيرا بدينار ودفع إليه
الدينار]
مسألة وسئل سحنون: عن رجل اشترى من رجل شعيرا بدينار، ودفع إليه الدينار،
فأتاه بعد شهر أو نحو هذا يطلب الشعير، فقال البائع ليس عندي شعير وقد
قضيته غريما كان له علي دين؛ قال: هو ضامن يأتيه بشعير مثل الشعير الذي
اشترى منه، إن كان المشتري حين اشتراه منه، أراه البائع الشعير أو وصفه له.
قال محمد بن رشد: هذا بين كما قال؛ لأنه إذا باع منه الشعير الذي عنده بأن
أراه إياه أو شيئا منه، أو وصفه له؛ فليس له أن يستهلكه بوجه من وجوه
الاستهلاك بعد أن أوجبه بالبيع للمشتري؛ فإن فعل، وجب عليه أن يأتي المشتري
بمثله.
قال ابن القاسم: في السلم الثالث من المدونة: ولا يكون المبتاع بالخيار في
أن يأخذ منه الثمن، ولا يضمنه مثل الطعام؛ وقال أشهب: هو في ذلك بالخيار،
وقد مضى ما يدخل التخيير في ذلك من المكروه عند ابن القاسم في رسم باع شاة
من سماع عيسى، ولو هلك الشعير عند البائع ولم يستهلكه هو؛ لانتقض البيع
بينهما.
[مسألة: باع ثوبا بعشرة دنانير حالة على أن
يقضيها المشتري رجلا]
مسألة قيل لسحنون: أرأيت لو أن رجلا باع ثوبا بعشرة دنانير حالة على أن
يقضيها المشتري رجلا، هل يجوز هذا البيع؟ فقال: أكرهه
(7/491)
وأرى هذا قد خرج من بيوع المسلمين؛ لأن
صاحب الدين لم يحل على المشتري، ولم يرض بالحوالة عليه بعد.
قال محمد بن رشد: إنما لم يجز هذا البيع؛ لأنه إنما باع منه الثوب على أن
يبرئ ذمته من الدين الذي عليه للأجنبي، وليس ذلك بيده؛ لأن الدين ثابت عليه
لا يبرئ ذمته منه، وينتقل صاحب الدين إلى ذمة المشتري إلا بحوالة يرضى بها
كما قال؛ ولو باع منه الثوب على أن يدفع الثمن إلى رجل له عليه دين دون أن
تبرأ ذمة المشتري من دين غريمه، أو تبرأ ذمة المشتري من الثمن حتى يدفعه؛
لكان البيع جائزا، فقد أجاز في المدونة أن يشتري الحميل سلعة من الذي عليه
الدين على أن يدفع ثمنها إلى المحمول عنه بالدين، وهذا بين، والله أعلم.
[مسألة: العبد يكون بين الرجلين فيبيع أحدهما
حصته من العبد ولا يستثني]
مسألة وسئل سحنون: عن العبد يكون بين الرجلين فيبيع أحدهما حصته من العبد
ولا يستثني المبتاع ماله ولا البائع، فقال: لا يجوز إلا أن يشترط المبتاع
المال في عقد الشراء؛ وهو قول ابن نافع وأشهب عن مالك؛ والبيع فاسد إذا لم
يشترط المال.
قال محمد بن رشد: إنما لم يجز هذا البيع؛ لأنه مقاسمة للشريك في مال العبد
بغير أمره، وليس لأحد من الشركاء أخذ شيء من مال العبد إلا برضا من جميعهم،
ولو باعه من شريكه لجاز وإن لم يستثن ماله؛ لأن ذلك مقاسمة له منه في مال
العبد، وقد مضت هذه المسألة والقول فيها في رسم استأذن من سماع عيسى، فلا
معنى لإعادته.
[مسألة: يشتري من الرجل عبدا غائبا مما لا يجوز
فيه النقد على الصفة]
مسألة وسئل سحنون: عن الرجل يشتري من الرجل عبدا غائبا مما لا يجوز فيه
النقد على الصفة، وشرط البائع على المشتري: إن
(7/492)
أدركته الصفقة حيا مجموعا فهو منك، قال:
هذا جائز، قيل: فإن سأل المشتري البائع أن يقيله، قال: فإن ذلك ليس بجائز،
خوفا أن يكون العبد قد أدركته الصفقة، وتم البيع فيه ووجب الثمن على
المشتري دينا عليه؛ فيكون إذا أقاله قد فسخ دينه في عبد لم يقبضه، وإن كان
الضمان من البائع يوم اشتراه ثم استقال البائع المشتري فلا بأس به؛ لأن
ضمانه من البائع، فلم يجب للبائع قبل المشتري دين يكون فسخه في شيء هو
للمشتري.
قال محمد بن رشد: أما الإقالة من السلعة الغائبة المشتراة على الصفة بشرط
أن الضمان من المشتري بالعقد إن كانت على الصفة يومئذ، أو على القول بأن
الحكم يوجب أن يكون الضمان منه، إلا أن يشترط أن الضمان على البائع حتى
يقبضها المبتاع؛ وهو قول مالك الأول، فلا يجوز باتفاق؛ لأنه يدخله فسخ
الدين في الدين؛ لأن السلعة إن كانت على الصفة يوم العقد، فقد وجبت للمبتاع
وصار الضمان منه، ووجب عليه الثمن؛ فإذا أقال البائع فيها، كان قد فسخ
الثمن الذي وجب له على المبتاع في سلعة غائبة لا يقبضها، ولا هي في ضمانه؛
وأما إقالته منها إذا كان الضمان من البائع حتى يقبضها المبتاع إما باشتراط
المبتاع ذلك عليه، وإما بأن الحكم أوجب ذلك عليه، وهو القول الذي رجع إليه
مالك، وبه يقول ابن القاسم؛ فاختلف فيها؛ أجاز ذلك سحنون هاهنا؛ لأن الضمان
من البائع، فلم يجب للبائع قبل المشتري دين يكون قد فسخه في شيء لم يقبضه،
فصار ذلك حلا للعقد الأول، إذ لم ينتقل بذلك الضمان عما كان عليه، وقاس ذلك
أيضا على إجازة مالك الإقالة من الجارية التي هي في المواضعة وبيعها بربح
إذا لم ينتقد الربح؛ ولم يجز ذلك في المدونة، قال في التفسير الثاني؛ لأن
السلعة للمشتري وإن كان ضمانها
(7/493)
من البائع، ألا ترى أنه لا يقدر على بيعها
من غيره، ولا يرجع في بيعه، فأشبه ذلك بيع الغائب، وقول سحنون أظهر، إذ لا
فرق بين الإقالة من الجارية التي في المواضعة، وبين السلعة الغائبة على
القول بأن الضمان من البائع، إلا من وجه أنه لم يختلف في أن ضمان الجارية
في المواضعة من البائع؛ وقد اختلف في ضمان السلعة الغائبة على الصفة، ومن
مذهبه مراعاة الخلاف؛ وقد تأول قول مالك في المدونة على مذهبه فقال في قوله
فيها إن الإقالة لا تجوز لأنها دين بدين؛ وهذا على الحديث الذي جاء في
السلعة إن أدركتها الصفقة قائمة مجتمعة وليس ذلك بصحيح؛ بل لا تجوز الإقالة
فيها عند ابن القاسم وروايته عن مالك، كان الضمان من البائع أو من المبتاع،
يبين ذلك من مذهبهما ما ذكرته مما وقع في التفسير.
[مسألة: أتيا إلى رجل فابتاع أحدهما منه جاريته
ونقد الثمن]
مسألة وسئل: عن رجلين أتيا إلى رجل فابتاع أحدهما منه جاريته ونقد الثمن،
ثم أتيا بعد ذلك ليقبضا الجارية؛ فقال كل واحد منهما: أنا الذي دفعت إليك
الثمن فهي لي؛ ولم يعرف البائع ممن باع، ولا من أعطاه الثمن منهما؛ قال:
إذا قال بعتها من واحد منهما وقبضت منه الثمن ولا يدري أيهما هو، وحلف كل
واحد منهما بالله إنه هو الذي اشترى ونقد الثمن؛ وكانت الجارية بينهما ويرد
الثمن، فيكون بينهما أيضا.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأن كل واحد منهما يدعي أنه دفع إليه الثمن
في الجارية وهو لا يكذب واحدا منهما، فوجب أن يبرأ إليهما بالجارية والثمن؛
لأن كل واحد منهما يقول له: لا بد أن تدفع إلي الجارية أو ترد علي الثمن؛
ويحلف كل واحد منهما، أنه اشترى الجارية
(7/494)
ودفع الثمن فيها إلى البائع؛ فإن حلفا
جميعا، أو نكلا جميعا، كانت الجارية والثمن بينهما، وان حلف أحدهما ونكل
الآخر، كان القول قول الحالف، وبالله التوفيق.
[مسألة: يبيع من الرجل طعاما إلى أجل]
مسألة وسئل: عن الرجل يبيع من الرجل طعاما إلى أجل، ثم يجد البائع المبتاع
في السوق قبل حلول الأجل وهو يبيع طعاما مخالفا للطعام الذي اشترى منه،
فيريد أن يشتري منه بالنقد؛ قال: إذا كان ذلك قبل الأجل الذي إليه اشترى
الطعام، فلا خير فيه؛ لأنه يصير طعاما بطعام إلى أجل؛ لأن دراهمه ترجع
فيصير كأنه لم يعطه شيئا، وصار إلى أن أخذ من ثمن طعام طعاما؛ وكذلك ما بقي
عليه ثمن طعامه أبدا؛ وإن حل الأجل، فلا يجوز له أن يبتاع منه طعاما، قال
سحنون: هو عندي جائز، حل الأجل أو لم يحل إذا اشترى منه بنقد، وكان الطعام
خلاف ما باع منه.
قال محمد بن رشد: قول سحنون أصح من قول ابن القاسم؛ لأن الطعام إذا كان
مخالفا للطعام الذي باع منه، فقد علم أنه غيره، وصح أنهما صفقتان، باع
طعاما واشترى طعاما آخر، فلا وجه للتهمة في ذلك، إلا أن يشتري منه الطعام
المخالف للذي باعه بمثل الثمن إلى ذلك الأجل؛ لأن الثمن يكون مقاصة في
الثمن، ويصير قد دفع طعاما في طعام مخالف له، فيتهمان على ذلك، كذلك إن كان
الأجل قد حل فاشتراه بثمن نقد؛ على أن يقاصه به في الثمن الذي حل له عليه؛
وأما إن اشتراه منه بالنقد والثمن لم يحل أو إلى أجل، والثمن نقدا أو إلى
أجل مخالف له، فذلك جائز ولا يدخله الاقتضاء من ثمن الطعام طعاما؛ لأن
الثمن الذي باع به منه الطعام يقتضيه منه عند أجله، فيكون الطعام الذي قبض
منه، إنما
(7/495)
هو الطعام الذي اشترى منه بعد ذلك، إما بما
نقده من الثمن إن كان اشتراه بالنقد، وإما بالثمن المؤجل الذي يؤديه عند
حلول أجله؛ وقول ابن القاسم إنه لا خير أن يشتري منه بالنقد إذا كان ذلك
قبل الأجل، كلام كان أشبه أن يكون بالعكس؛ لأن الأجل وإذا كان قد حل
واشتراه بالنقد، يكون النقد مقاصة فيما حل له من الثمن، فيصير قد أخذ في
الطعام الذي باع منه طعاما مخالفا له؛ وإذا لم يحل الأجل، امتنعت المقاصة،
فصار الطعام الذي يأخذ منه مشترى بالثمن الذي اشتراه به، لا مقتضى من الثمن
الذي باع به منه الطعام؛ لأنه يأخذه منه عند أجله.
وقوله في آخر كلامه: وإن حل الأجل فلا يجوز (له) أن يبتاع منه طعاما -
صحيح، إن كان يريد أنه لا يبتاعه منه بالنقد، من أجل أنه يصير مقاصة بالثمن
الذي حل له عليه من ثمن الطعام الذي باع منه، فيكون قد دفع طعاما وأخذ
طعاما مخالفا له، فيتهمان على القصد إلى ذلك، وقول سحنون هو عندي جائز حل
الأجل أو لم يحل، إذا اشترى منه بنقد، معناه: إذا اشتراه بنقد فنقده ولم
يقاصه؛ إن كان الأجل قد حل.
وليس في قوله إذا اشتراه بنقده، دليل على أنه لا يجوز إلى أجل، بل يجوز على
مذهبه بالنقد وإلى أجل، ما لم يكن إلى مثل الأجل الذي باع منه الطعام، أو
لا يكون مقاصة به؛ فإنما شرط النقد تحذرا من أن يشتريه منه إلى ذلك الأجل
بعينه، فيكون مقاصة.
[مسألة: يبتاع الأرض من الرجل أو الدار]
مسألة وعن الرجل يبتاع الأرض من الرجل، أو الدار، أو غير ذلك، وقد عرفه
المبتاع في يد البائع يحوزه ويملكه، ثم يسأله أن يحوزه له بعد البيع؛ هل
ترى على البائع حوزا؟ قال سحنون: إذا كان المشتري اشترى ما قد عرفه في يد
البائع، فلا حوز عليه؛ وإن دفعه عمن اشترى دافع، فتلك مصيبة دخلت على
المبتاع.
(7/496)
قال محمد بن رشد: شراء الرجل من الرجل
الدار، أو الأرض، لا يخلو من أربعة أوجه: أحدها: أن يكون المبتاع مقرا
للبائع باليد والملك، والثاني: أن يقر له بالملك، ولا يقر له باليد؛
والثالث: أن يقر له باليد ولا يقر له بالملك؛ والرابع: لا يقر له بيد ولا
بملك، فأما إذا كان مقرا له باليد والملك، فلا يلزمه أن يحوزه ما باع منه
ويسلمه إليه وينزله فيه؛ وإن دفعه دافع عن النزول في ذلك، أو استحقه مستحق
بعد النزول فيه، فهي مصيبة نزلت به على قول سحنون هذا.
والصواب أنه يلزمه أن ينزله فيما باع منه ويسلمه إليه، بمنزلة إذا كان مقرا
له بالملك غير مقر له باليد، مخافة أن ينهض لينزل فيه فيمنعه وكيله فيه، أو
أمينه عليه من النزول فيه، ويقول له: لا أدري صدق ما تدعيه من شرائه، فإن
نزل فيه وصار بيده على الوجهين، فاستحقه منه مستحق؛ كانت مصيبة نزلت به على
قول سحنون هذا.
وعلى ما في سماع عيسى من ابن القاسم من كتاب الاستحقاق، خلاف قول أشهب في
المجموعة، وقد قيل: إنه خلاف ما تقدم من سماع عبد الملك في كتاب الحوالة
والكفالة من قول ابن وهب وأشهب، وليس ذلك عندي بصحيح على ما سنبينه في
موضعه إن شاء الله تعالى، وأما إذا كان مقرا له باليد غير مقر له بالملك،
فعلى مذهب سحنون لا يلزم البائع أن يحوزه ما باع منه.
والصواب أن ذلك يلزمه على ما ذكرناه، للعلة التي وصفناها؛ فإن استحق من يده
شيء من ذلك، وجب له الرجوع بذلك على البائع، وأما إذا كان غير مقر له باليد
ولا بالملك، فلا اختلاف في أنه يلزمه أن يحوزه ما باع منه وينزله فيه؛
مخافة أن ينهض لقبض ذلك والنزول فيه، فيمنعه منه مانع؛ فإن استحق من يده
شيء من ذلك، وجب له الرجوع به على البائع أيضا، وضمان ما يطرأ على ذلك بعد
عقد البيع وإن كان قبل القبض في الوجوه كلها من غصب أو غرق، أو هدم، أو
حرق، وما أشبه ذلك من المبتاع؛ إلا على القول بأن السلعة المبيعة في ضمان
البائع، وإن قبض الثمن وطال الأمر، ما لم يقبضها لها المبتاع أو يدعوه
البائع إلى قبضها فيأبى، وهو قول أشهب.
وقد مضى في آخر سماع سحنون الاختلاف في ضمان المحبوسة بالثمن، للخروج من
هذا الاختلاف يقول الموثقون في وثائقهم
(7/497)
ونزل المبتاع فيما ابتاع، وأبرأ البائع من
درك الإنزال؛ لأنه بنزوله فيما ابتاع، يسقط الضمان عن البائع باتفاق؛ ومن
حق المبتاع أيضا إذا ابتاع أملاكا في قرية من رجل، أن ينزله فيما باع منه
بمحضر شهيدي عدل يتطوف معهما على الأملاك، ويوقفهما على حدودها؛ مخافة أن
يستحق عليه منها شيء، فينكره البائع أن يكون باع منه ذلك الموضع المستحق؛
فلكل واحد من المتبايعين حق في الإنزال على صاحبه إذا دعا إليه، وجب أن
يحكم له به على البائع ليسقط عنه الضمان المختلف في لزومه إياه، والمبتاع
ليجد السبيل إلى الرجوع عليه بما يستحق من يديه.
[مسألة: باع من رجل بعيرا بعشرة دنانير فسرق
البعير منه]
مسألة وسئل: عن رجل باع من رجل بعيرا بعشرة دنانير، فسرق البعير منه، فأتى
إلى بائعه بعد أيام، فقال له: إن البعير الذي اشتريت منك قد سرق مني، فقال
له البائع: فلا بأس، قد حط الله عنك من ثمنه خمسة دنانير؛ ثم إن المشتري
أصاب البعير بجعل جعل فيه، أو جمعه الله عليه بغير جعل؛ فأراد البائع أن
يرجع عليه بالخمسة التي حط عنه، هل ترى ذلك له أم لا؟ وكيف إن اشترى رأسا
فأتى إلى بائعه، فقال له: إن الرأس الذي اشتريت منك غال وأنا أخاف أن أضع
فيه؛ فقال له البائع: قد وضع الله عنك خمسة دنانير، ثم إن المشتري باع
الرأس بعد ذلك بأيام بربح كثير؛ فأراد البائع أن يرجع عليه؛ فقال له: إنما
خفت الوضيعة وقد بعت الرأس بربح، فرد علي الخمسة دنانير؛ أو مرض الرأس،
فقال المشتري للبائع: إن الرأس الذي اشتريت منك قد مرض، وأنا أخاف أن أصاب
به، فحط عني من ثمنه؛ ثم
(7/498)
رزق العافية، فأراد البائع أن يرجع عليه
بالحطاط؛ قال سعدون: ما أرى للمشتري من الحطاط شيئا؛ لأن الذي كانت الوضيعة
فيه عفي عنه.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأن الوضيعة لما خرجت على سبب صار السبب
شرطا لها، فوجب أن تبطل بارتفاع الشرط؛ وهذا مثل قول ابن القاسم في سماع
يحيى من كتاب الأيمان بالطلاق في الذي يريد سفرا فيستنظر صاحبه دينه،
فينظره، ثم يبدو له عن السفر ويقيم، أن النظرة تسقط، وبالله التوفيق.
[مسألة: تبايعا سلعة فاختلفا في الثمن]
مسألة أخبرنا سحنون عن ابن وهب، قال: قال مالك عن رجلين تبايعا سلعة
فاختلفا في الثمن، فقال البائع: بعتك بالنقد، وقال المشتري: اشتريت منك إلى
أجل، قال مالك: إن كانت السلعة (قد) وصلت إلى المشتري وبان بها، فالقول
قوله ويحلف؛ وإن لم يحز السلعة، فالقول ما قال البائع؛ والمبتاع بالخيار
يحلف البائع بالله ما بعتكها إلا بالنقد، ثم يحلف المشتري بالله ما
اشتريتها بالنقد ويبرآن؛ قال لي سحنون: خذ مني هذا الأصل، فإنه قد اختلف
فيه قول مالك اختلافا شديدا، وهو أفضل ما تتزود إلى بلدك.
قال محمد بن رشد: اختلف في اختلاف المبتايعين في أجل الثمن إذا اتفقا على
عدده على ثمانية أقوال: أحدها: رواية ابن وهب هذه عن مالك أنهما يتحالفان
ويتفاسخان ما كانت السلعة بيد البائع، فإن قبضها المبتاع كان القول قوله،
سواء أقر البائع بأجل أو لم يقر به، وهو اختيار سحنون، ودليله قوله عز وجل:
{فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ
أَمَانَتَهُ} [البقرة: 283] ،
(7/499)
ودفع البائع السلعة إلى المبتاع، باب من
الائتمان، فوجب إذا قبض السلعة أن يكون القول قوله.
والثاني: أنهما يتحالفان ويتفاسخان ما كانت السلعة بيد البائع، فإن دفعها
إلى المبتاع، كان القول قول البائع إن لم يقر بأجل؛ والقول قول المبتاع، إن
أقر بأجل.
والثالث: أنهما يتحالفان ويتفاسخان - وإن قبض المبتاع السلعة ما لم تفت،
فإن فاتت كان القول قول البائع إذا لم يقر بأجل، والقول قول المبتاع إذا
تقارا على الأجل واختلفا فيه، وهذا أحد قولي ابن القاسم والمشهور عنه.
والرابع: أنهما يتحالفان ويتفاسخان أيضا - وإن قبض المبتاع السلعة ما لم
تفت، فإن فاتت، كان القول قول المشتري - وإن لم يقر البائع بأجل، وهو قول
ابن الماجشون، وابن عبد الحكم، وأصبغ.
والخامس: أن القول قول المشتري إذا ادعى من الأجل ما يشبه - قائمة كانت
السلعة أو فائتة، روي هذا القول عن ابن القاسم.
والسادس: أن البائع إذا لم يقر بأجل، كان القول قوله ما لم يدفع السلعة،
فإن دفعها كان القول قول المشتري.
والسابع: إن لم يقر بأجل، كان القول قوله وإن دفع السلعة ما كانت السلعة
قائمة، فإن فاتت، كان القول قول المشتري؛ روي هذا القول أيضا عن ابن
القاسم، وهو قول العراقيين.
والثامن: أن القول قول البائع - إن لم يقر بأجل، كانت السلعة قائمة أو
فائتة؛ وإن أقر بأجل، فالقول قول المشتري، كانت السلعة أيضا قائمة أو
فائتة، ولا يتحالفان ولا يتفاسخان في شيء من ذلك، وهو قول مالك في رواية
مطرف عنه؛ وأما إذا اختلفا في عدد الثمن، ففي ذلك ثلاثة أقوال:
أحدها: أنهما يتحالفان ويتفاسخان ما كانت السلعة بيد البائع، فإن قبضها
المبتاع كان القول قوله، وهو رواية ابن وهب عن مالك، فلا فرق في رواية ابن
وهب عن مالك بين اختلافهما في الأجل أو في الثمن.
والثاني: أنهما يتحالفان ويتفاسخان وإن قبض المشتري السلعة ما لم تفت بوجه
من وجوه الفوت، وهو قول ابن القاسم وروايته عن مالك.
(7/500)
والثالث: أنهما يتخالفان ويتفاسخان، وإن
قبض المشتري السلعة وفاتت بيده، ويرد قيمتها؛ وهو قول أشهب، وروايته عن
مالك؛ ولا ينظر إلى قول الأشبه فيهما حيث يجب التحالف والتفاسخ، وقد قيل:
إنه ينظر إلى قول الأشبه منهما في القيام، كما ينظر إليه في الفوات، وهو
قول رابع في المسألة؛ وصفة أيمانهما إذا تخالفا أن يحلف البائع بالله ما
باع سلعته بكذا وكذا، وليس عليه أن يزيد في يمينه: ولقد باعها بكذا وكذا؛
ولا أن يحلف بالله ما باع سلعته بكذا إلا أن يشاء، رجاء أن ينكل صاحبه عن
اليمين، فلا يحتاج إلى يمين ثانية؛ لأنه إن حلف ما باع سلعته بكذا وكذا،
فنكل المشتري عن اليمين، لم يكن له أن يأخذ ما ادعى أنه باع سلعته، حتى
يحلف على ذلك؛ فإن حلف البائع بالله ما باع سلعته بكذا وكذا، أو ما باعها
إلا بكذا، حلف المشتري بالله ما اشتريت السلعة بكذا؛ ولا معنى لأن يزيد في
يمينه: ولقد اشتريتها بكذا، إذ قد حلف البائع على تكذيبه في ذلك؛ فإن حلفا
جميعا، أو نكلا جميعا، ترادا البيع فيما بينهما؛ وإن نكل أحدهما وحلف
الآخر، كان القول قول الحالف منهما، وقد مضى في رسم الصبرة من سماع يحيى
زيادة في هذا المعنى، فلا وجه لإعادته.
[مسألة: شراء الدار وبها نخل]
مسألة وأخبرنا عن ابن وهب أيضا قال: أخبرني يزيد بن عياض، أنه بلغه أن
مروان بن الحكم اشترى من إبراهيم بن نعيم النجام نخلا له كانت في دار مروان
أو بعضها؛ فقال إبراهيم: إنما بعتك النخل، وقال مروان: إنما اشتريت النخل
والبقعة، فاختلفا فجعلا بينهما ابن عمر، فقضى بينهما ابن عمر باليمين على
إبراهيم بن نعيم، فنكل إبراهيم عن اليمين، فأسلم البيع لمروان.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة، أن البائع كان قد انتقد الثمن،
ولذلك كان القول قوله؛ لأنه رأى النقد المقبوض فوتا،
(7/501)
وذلك على رواية ابن وهب عن مالك في أن قبض
السلعة إذا اختلف في ثمنها فوت، إذ لا فرق بين أن يقبض البائع الثمن
فيختلفا في المثمون، وبين أن يقبض المبتاع المثمون فيختلفا في الثمن، وقد
مضى هذا في رسم الصبرة من سماع يحيى؛ ولو لم ينتقد البائع الثمن، لوجب أن
يتحالفا ويتفاسخا باتفاق؛ وهذا أيضا إذا قال البائع: إنما بعتك النخل دون
البقعة ببيان ونص، وقال المبتاع: بل بعتهما مني جميعا بنص وبيان؛ لأن النخل
تبع للأرض، والأرضي تبع للنخل، إذا قال: أبيعك هذه الأرض، فالنخل داخلة في
البيع، وإذا قال أبيعك هذه النخل، فالأرض داخلة في البيع؛ هذا قوله في
المدونة وغيرها، وهو مما لا اختلاف فيه.
[مسألة: باع ثلاثة أحمال زبيب وقال للمشتري إن
لي فيها ثمانية أرطال تين]
مسألة وأتى رجل سحنون فسأله، فقال: إني بعت ثلاثة أحمال زبيب، وقلت
للمشتري: إن لي فيها ثمانية أرطال تين، وإنما استثنيتها عليك ولست أبيعها
منك؛ فقبض المشتري الزبيب، ثم وزن التين فوجد فيها أحد عشر رطلا من تين؛
قال سحنون: أما الثمانية فواجبة للبائع، وأما الثلاثة الزائدة فترد إلى
البائع أيضا، وينظر إلى الثلاثة الأرطال الزائدة أي شيء هي من الزبيب، فإن
كانت الثلث أو السدس، وضع عن المشتري قدرها من الثمن؛ وإنما ينظر إلى قدرها
من الزبيب قط بعد أن تطرح الثمانية الأرطال التين؛ قيل له: فلو أنه باع من
رجل غرارة وفيها زبيب، فوجد في داخله حجرا، بماذا يرجع به المشتري على
البائع؛ قال: يرجع بمقدار ما شغل الحجر من الغرارة، ولا يرجع بوزن الحجر
زبيبا؛ لأنه لو رجع بوزن الحجر زبيبا لعله أن يكون ذلك مثل نصف
(7/502)
الغرارة أو ثلثها، فلا يكون له أن يرجع إلا
بمقدار ما شغل الحجر من الغرارة.
قال محمد بن رشد: أما مسألة التين فصحيحة بينة في المعنى، لا وجه للقول
فيها؛ لأن ما وجد في الزبيب من التين زائدا على ما استثنى البائع، فقد نقص
قدره من الزبيب الذي اشترى؛ فوجب أن يرجع على البائع بما ينوبه من الثمن؛
وأما الذي وجد الحجر في الغرارة التي اشترى من الزبيب، فإنما يصح جوابه في
الرجوع بمقدار ما شغل الحجر من الغرارة إن كان إنما نظر إليها ولم يقلبها
ليعرف مقدار ما فيها من الزبيب؛ وأما إن كان رأزها، ليعرف خفتها من ثقلها،
فإنما يرجع بمقدار ما يقع وزن الحجر من وزن الغرارة بالحجر من الثمن، والله
أعلم.
[مسألة: يشتري الدار ويشترط سكناها سنة]
مسألة قيل لسحنون: أرأيت الرجل يشتري الدار ويشترط سكناها سنة، ثم انهدمت
الدار قبل السنة؛ أو كانت دابة فاشترط البائع ركوبها اليوم واليومين، فماتت
الدابة قبل اليومين، أو انهدمت الدار قبل السنة؛ أيرجع البائع على المشتري
بحصة السكنى والركوب من الثمن؛ لأنه يقول: إنما رخصت عليك في البيع بما
اشترطت من السكنى والركوب من الثمن، ولولا ذلك بعتها بأكثر؛ قال: سمعت علي
بن زياد يقول في هذه بعينها: إنه لا يرجع عليه بشيء، وهي مصيبة دخلت عليهما
جميعا؛ وروى أصبغ عن ابن القاسم مثل رواية سحنون عن علي بن زياد.
قال محمد بن رشد: وقعت رواية أصبغ هذه عن ابن القاسم في أول رسم من سماعه
بعد هذا، وزاد فيها أنه إذا لم يكن للبائع على المشتري رجوع فيما استثنى
عليه من أجل أنه خفيف، لم يكن يضع لذلك
(7/503)
من الثمن شيئا، وفي ذلك من قوله نظر، إذ قد
علم أن الرجل لا يشتري الدار إذا استثنى عليه سكناها العام بما يشتريها به
إذ لم يستثن عليه ذلك؛ ولعل قيمة سكنى الدار السنة مثل قيمة ربع الدار
وأكثر، وكذلك الدابة إذا استثنى عليه ركوبها اليوم، واليومين، والثلاثة.
وإنما المعنى في أنه لا يجب عليه رجوع إن كان ما استثناه البائع من السكنى
في الدار والركوب في الدابة؛ أبقاه على ملكه ولم يبعه؛ فإنما حط عن المشتري
ما كان يجب لما لم يبعه من السكنى والركوب لو باعه، وذلك في التمثيل كرجل
باع ناقة لها فصيل، فاستثنى فصيلها، فقد علم أنه قد حط عن المشتري ما كان
يجب لفصيلها لو باعه؛ فوجب أن تكون مصيبة السكنى والركوب منه؛ لأنه أبقاه
على ملكه ولم يبعه كالفصيل سواء؛ فإن بنى المبتاع الدار على هذا القول وقد
بقيت من مدة الاستثناء بقية، كان للبائع أن يسكن الدار بقيمة المدة التي
استثنى، ويكون عليه كراء الأنقاض قائمة؛ إذ قد ذهبت الأنقاض التي استثنى
سكناها، ولا حق في أنقاض المشتري.
ووجه العمل في ذلك أن يقال: كم قيمة كراء البقعة مهدومة؟ وكم قيمة كراء
الدار قائمة؟ فيكون على البائع ما زادت قيمة كراء الدار قائمة على قيمة
الأنقاض في المدة التي بقيت من اشتراطه، وإن لم يبتها المشتري، كان من حق
البائع أن يسكنها قاعة مهدومة إلى انقضاء أمد استثنائه، إن شاء أن يبنيها،
كان ذلك له، فإذا انقضى أمد سكناه، أخذ نقده، إلا أن يشاء المبتاع أن يعطيه
قيمته منقوضا على مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك؛ وعلى مذهب المدنيين
وروايتهم عن مالك، له قيمته قائما إذا انقضى أمد سكناه.
ومن قال: إن المستثنى بمنزلة المشتري، فهو عنده كأنه باعه داره بدنانير،
وسكنى مدة معلومة؛ فإن انهدمت الدار نظر إلى قيمة السكنى، فإن كان عشرة
دنانير والثمن تسعون دينارا، رجع بعشر قيمة الدار يوم باعها، وكذلك العمل
في الدابة وهو قول أصبغ في سماعه المذكورة إلا
(7/504)
أنه قال ما لم يكن المستثنى يسيرا مثل
الأيام في الدار، والبريد في الدابة؛ وهو استحسان على غير حقيقة القياس،
وكذلك تفرقة ابن حبيب بين اشتراط الركوب الجائز قبل قبض المبتاع لها، أو
بعد قبضه؛ فجعل شرط البائع الركوب قبل قبض المبتاع، كأنه مبقى على ملكه لا
رجوع له فيه، وشرطه له بعد قبض المبتاع، كأنه مشترى يجب له به الرجوع، هو
استحسان أيضا على غير حقيقة القياس.
[مسألة: الرجل يأتي إلى الزجاج ونحوه يستقرض
منه قارورة فيقع ذلك منه فينكسر]
مسألة قال سحنون: وسألت ابن القاسم: عن الرجل يأتي إلى الزجاج أو القلال أو
القداح يستقرض منه قارورة أو قلة أو قدحا، فينظر إليها فيقع ذلك منه فينكسر
ويكسر ما تحته من الزجاج، والقلال؛ قال: لا أرى عليه ضمان ما ناوله، وأراه
يضمن ما انكسر تحته؛ قلت: فإن جاء يتناول بغير إذنه وجعل يساومه ولم يناوله
صاحب المتاع، فيقع منه فينكسر؛ قال: هو ضامن لما أخذ ولما انكسر أسفله،
هكذا روى عيسى عن ابن القاسم، وزاد في سماعه وكذلك السيف يتناوله فينهز
فينكسر، أو الدابة يركبها ليختبرها فتموت تحته، والقوس يرمي عنها؛ وما كان
من هذه الأشياء كلها، إن أخذ ذلك بغير إذنه كان ضامنا، وإن كان بإذنه فلا
ضمان عليه؛ ورواها أصبغ بن الفرج، وزاد فيها: وكذلك قلال الخل يرفعها
يروزها ليعرف قدرها وملكها فتنكسر، قال أصبغ: هذا عندي مثل القوارير
والأقداح، ما لم يعنف ويأخذه بغير مأخذه، مثل أن يعلق القلة الكبيرة
بأذنها، أو غير ذلك من وجوه العنف، فيضمن.
(7/505)
قال أصبغ: قال ابن القاسم: والدينار يعطيه
الرجل الصراف على دراهم فينقره فيذهب، أنه ضامن؛ وقد صار منه حين قبضه على
الصرف، فهو بيع وشراء مقبوض، وسواء نقره نقرا يتلف من مثله، أو خفيفا لا
يعطب من مثله إلا بالقضاء والقدر إلا أن يأخذ له في نقره فينقره نقرا خفيفا
لا يعطب من مثله فيصاب في مثل هذا، فلا شيء عليه، وإن خرق ضمن.
قال محمد بن رشد: قوله إنه لا يضمن ما ناوله إياه أو تناوله بإذن ليقلبه أو
ليختبره وإذا سقطت القارورة من يده فانكسرت، وانكسر السيف في هزه إياه، أو
القوس في رميه عنها، أو ماتت الدابة في ركوبه إياها، أو أشبه ذلك، هو
المشهور في المذهب، ولا اختلاف فيه بين ابن القاسم، وأصبغ؛ وابن الماجشون
يرى أنه ضامن لما سقط من يده، إلا أن تكون له بينة على أمر غالب أسقطها من
يده من ريح غالب، أو دابة نطحته، أو ما أشبه ذلك؛ فلعله أراد إتلافها فادعى
أنها سقطت من يده، واختلفا إذا تناول ذلك وهو حاضر دون أن يستأذنه؛ فقال
ابن القاسم: هاهنا هو ضامن، وقال أصبغ في أول سماعه بعد هذا: لا ضمان عليه،
وهو ظاهر روايته عن ابن القاسم؛ واختلفا في قلال الخل يرفعها عند التقليب
فتنكسر، فقال أصبغ: هي كالقوارير ولا ضمان عليه فيها، إلا أن يعنف فيها، أو
يأخذها بغير مأخذها؟
وسكت ابن القاسم عن الجواب فيها في سماع أصبغ، والمعلوم من مذهبه أنه ضامن
لها وإن لم يكن منه عنف في رفعه إياها؛ حكى ذلك عنه ابن المواز من رواية
أصبغ، وإنما ضمنه ابن القاسم في الخل؛ لأنه لا يختبر بالرفع، وإنما يختبر
بالذوق؛ فإذا رفع القلة فسقطت ضمن، حكى ذلك ابن المواز عن ابن القاسم من
رواية أبي زيد عنه؛ قال: وكذلك كل ما يجتزأ منه ببعضه مثل ألبان، فإنه
يجتزَأ فيه بالشم، فإن أخذه رجل فسقط من يده فانكسر، فإنه يضمن، بخلاف ما
لا يحاط بمعرفته إلا
(7/506)
بأن يؤخذ باليد، مثل السيف، والقوس، وشبه
ذلك؛ وأما ما يتناول بغير إذنه ولا علمه، فسقط من يده، فلا اختلاف في أنه
ضامن له؛ وكذلك لا اختلاف بينهم في أنه ضامن لما سقط من ذلك الشيء من يده
فكسره؛ وأما الدينار يعطيه الرجل الصراف على درهم فينقره فيذهب، فلا اختلاف
بينهم في أنه ضامن؛ ومعنى ذلك إذا قبضه منه على الصرف والبيع؛ لأنه يقبضه
له بعد مواجبة الصرف فيه، يدخل في ضمانه؛ ولو اغتصب منه أو اختلس إياه،
لكانت مصيبته منه؛ وأما لو قبضه منه على أن يقلبه وينقره وينظر إليه، فإن
أعجبه سامه فيه، فتلف في نقره إياه، لم يكن عليه فيه ضمان؛ كالقارورة،
والقوس، والسيف، وما أشبه ذلك؛ ووقع في بعض الكتب ينقره، وفي بعضها ينقده،
والمعنى في ذلك سواء؛ لأن نقره مما ينقد به.
[مسألة: الرجل يشتري السلعة على أنه بالخيار
إلى أربعة أشهر]
مسألة قال ابن القاسم: إذا اشترى الرجل السلعة من الحيوان أو غيره - على
أنه بالخيار إلى أربعة أشهر، وقبضها واشترط عليه فيها النقد، أو لم يشترط
عليه فيها نقدا فماتت، فمصيبتها من البائع؛ لأنه وإن كان فاسدا، فإن البيع
لم يكن تم فيه.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة متكررة في سماع سحنون من كتاب بيع
الخيار وهي صحيحة بينة؛ لأن البيع الفاسد إنما يدخل في ضمان المشتري بالقبض
إذا لم يكن فيه خيار، والضمان من البائع في بيع الخيار إذا كان صحيحا، فكيف
إذا كان فاسدا، والله أعلم.
[مسألة: باع أرضا مبذورة بحنطة]
مسألة وسئل سحنون: عن رجل باع أرضا مبذورة بحنطة أو غير
(7/507)
ذلك من الحبوب، ولم يكن نبت فيها شيء،
فاشترى المشتري الأرض واشترط ما فيها من بذر؛ فقال: ذلك جائز للمشتري، وهو
قول ابن القاسم؛ فسألت عنها البرقي، فقال: نازعني فيها يوسف بن عمر، وقلت
له: ذلك جائز، وكان قد سأل أشهب عنها.
قال محمد بن رشد: قوله واشترط ما فيها من بذر، لا معنى له؛ لأنه له، اشترطه
أو لم يشترطه؛ ولو استثناه البائع، لم يجز، بمنزلة الثمر الذي لم يؤبر هو
لمشتري النخل، وإن لم يشترطه، ولا يجوز للبائع أن يشترطه؛ وأجازه ابن
القاسم، وذلك خلاف أصله في أنه لا يجوز بيع النخل بطعام إذا كان فيها تمر
وإن لم تؤبر؛ لأن النبات في الزرع بمنزلة الإبار في النخل؛ فالقياس ألا
يفرق بين التمر الذي لم يؤبر، والزرع الذي لم ينبت في جواز بيعه مع الأصل
بالطعام؛ وأما سحنون فهو يجيز ذلك وإن نبت الزرع، وأبرت النخل، ما لم يصب
ذلك؛ وقد مضى ذلك من قوله في رسم العرية من سماع عيسى، وفي نوازله الأول من
هذا الكتاب، فيتحصل في المسألة ثلاثة أقوال: الجواز، والمنع، والتفرقة.
[مسألة: اشترى عرصة من رجل فلما أراد البنيان
فيها وجد بئرا]
مسألة وسئل سحنون: عن رجل اشترى عرصة من رجل، فلما أراد البنيان فيها، وجد
بئرا عادية لها بال؛ فقال له البائع: بعتك شيئا لم أعرفه وأنا أفسخ البيع؛
قال سحنون: أراها للمشتري؛ وكذلك المواريث إذا قسمها الورثة فوجد أحدهم في
سهمه مثل ذلك، أن ذلك له دون الورثة.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة ستأتي متكررة في آخر الكتاب،
(7/508)
ونتكلم عليها هناك إذا وصلنا إليها بما
يبين معناها، إن شاء الله تعالى، وبه التوفيق.
[يبيع أرضه من الرجل أو جاريته ثم يأتيه
يستقيله]
من سماع محمد بن خالد وسؤاله ابن القاسم
قال محمد بن خالد: سألت ابن القاسم: عن الرجل يبيع أرضه من الرجل، أو
جاريته، ثم يأتيه يستقيله؛ فيقول له المبتاع: إني أتخوف أن تكون أرغبت في
سلعتك وأعطيت زيادة، فأنت تسألني الإقالة لذلك؛ فيقول: ليس كما ظننت؛ فيقول
المبتاع: فإني أقيلك على أنك إن بعتها من غيري فهي لي بالثمن أقيلك منه؛
فيرضى بذلك، ثم يبيع سلعته بأكثر مما باعها منه.
فقال ابن القاسم: إن كان إنما استقاله للزيادة التي أعطي، وتبين أن طلبه
رغبة في الزيادة، فهي للمقيل بشرطه؛ وإن كان لم يستقله لذلك، وإنما هو شيء
حدث له في بيعها فوجد بها زيادة، فلا شيء للمقيل ولا حجة، والبيع جائز له.
وقال: وذكر عن ابن كنانة أنه قال: إذا قال أنا أقيلك على أنك إن بعتها من
غيري، فأنا أولى بها من غيري، وشرط ذلك عليه، فأقاله على شرطهما؛ فإنه إن
باعها بحضرة ذلك من غيره، وكان الأمر فيها على ما تخوف الذي أقال من صرف
المستقيل إياها إلى غيره، فهو أولى بها؛ وإن تفاوت ما بين ذلك وطال، ثم باع
جاريته فليس عليه شيء يلزمه فيما اشترط عليه المقيل.
محمد بن خالد: كان ابن نافع يقول: لا تجوز الإقالة في
(7/509)
هذا، وهو بمنزلة البيع؛ قال ابن لبابة: هذا
جيد من فتياه واستحسنه.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول عليها مستوفى في أول رسم من سماع
أشهب، وفي سماع سحنون، فلا معنى لإعادته.
[ثلاثة نفر أحرار باع بعضهم بعضا]
من سماع عبد الملك بن الحسن من ابن وهب
قال عبد الملك: أخبرنا عبد الله بن وهب، عن
ثلاثة نفر أحرار باع بعضهم بعضا، أنهم يغرمون الثمن ويعاقبون.
قال محمد بن رشد: يريد أنهم يغرمون الثمن للمشتري يردونه إليهم، وهذا إن
كان اشتروهم ولم يعلموا أنهم أحرار. وأما إن اشتروهم على معرفة أنهم أحرار،
فقيل: إن الثمن يرد إليهم؛ وقيل: إنه لا يرد إليهم ويتصدق به عليهم أدبا
لهم، وعلى كل واحد منهم أن يطلب صاحبه الذي باع إن كان غاب حتى يرده، فإن
لم يعنه على ذلك، فقد قيل: إنه يغرم ديته.
كتب الحسن بن عبد الملك وهو قاض بطليطلة إلى محمد بن بشير وهو قاض بقرطبة
في رجل باع حرا، وأنه قضى عليه أن يطلبه حتى يرده، وأنه طلبه فلم يجده،
وأنه طال زمان ذلك، فجمع ابن بشير أهل العلم بقرطبة، فكتب إليه: أن أغرمه
ديته كاملة؛ فقضى عليه عبد الملك بديته كاملة، يريد تكون لورثته كما لو
قتله.
[مسألة: المسلم يبيع اليهودي من النصراني
والنصراني من اليهودي]
مسألة وسئل: عن المسلم هل يبيع اليهودي من النصراني، والنصراني من اليهودي؟
فقال: لا يباع بعضهم من بعض؛ لأنهم
(7/510)
أعداء بعضهم لبعض، ولا تجوز شهادة بعضهم
على بعض، وسألت عنها سحنون، فقال لي مثل ذلك.
قال محمد بن رشد: اختلف في جواز بيع اليهودي من النصراني، والنصراني من
اليهودي، فقيل: ذلك جائز، حكى ذلك سحنون عن بعض أصحاب مالك، وهو ظاهر قول
مالك في رواية ابن نافع عنه في كتاب التجارة إلى أرض الحرب من المدونة؛
لأنه قال فيها عنه أن كبار أهل الكتاب لا يمنع النصارى من شرائهم فعم ولم
يخص.
وقياس قوله أيضا في رواية ابن القاسم عنه من كتاب التجارة إلى أرض الحرب من
المدونة والعتبية؛ لأنه أجاز بيع كبار المجوس الذين لا يجبرون على الإسلام
من اليهود والنصارى، فإذا أجاز بيعهم منهم من أجل أنهم لا يجبرون على
الإسلام وإن كان قد قيل: إنهم يجبرون عليه، فأحرى أن يجيز بيع اليهودي من
النصراني، والنصراني من اليهودي؛ إذ لا اختلاف في أنهم لا يجبرون على
الإسلام، إلا أن يفرق بين الموضعين لعلة العداوة، على ما ذهب إليه ابن وهب،
وقد قيل: إن ذلك لا يجوز، وهو قول ابن وهب، وسحنون في هذه الرواية؛ قال ابن
وهب فيها: لأنهم أعداء بعضهم لبعض، وإنما قال: إنهم أعداء بعضهم لبعض، لما
دل عليه من قوله عز وجل: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى
شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ} [البقرة:
113] ... الآية.
وروي عن سحنون أنه قال: إنما لم يجز أن يباع اليهودي من النصراني،
والنصراني من اليهودي؛ لأن بعضهم يكره بعضا على دينه إذا ملكه، فبيعه منه
إضرار به؛ فعلى تعليل ابن وهب، يجوز أن يباع المجوس الكبار من اليهود
والنصارى على القول بأنهم لا يجبرون على الإسلام؛ لأن العداوة إنما هي بين
اليهود والنصارى، للتنافس الذي بينهم من أجل أنهم أهل الكتاب، وقد دل على
ذلك ما
(7/511)
تلوناه من الآية. وأما المجوس، فلا تنافس
بينهم وبين أهل الكتاب؛ إذ ليسوا بأهل كتاب، وإن كان قد قيل فيهم أهل كتاب،
فليس ذلك بمعروف، وعلى قول سحنون لا يجوز ذلك؛ فيتحصل في جملة المسألة
ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه يجوز أن يباع جميع أهل الملل الذين لا يجبرون على الإسلام بعضهم
من بعض، وهو قول بعض أصحاب مالك، وهو قول مالك أيضا على ما ذكرناه من ظاهر
قوله في رواية ابن نافع عنه، ومن قياس قوله في رواية ابن القاسم عنه.
والثاني: أنه لا يجوز بيع بعضهم من بعض بحال، وهو الذي يأتي على تعليل
سحنون.
والثالث: أنه لا يجوز بيع اليهودي من النصراني، ولا النصراني من اليهودي؛
ويجوز أن يباع المجوسي من الكتابي، والكتابي من المجوسي، وهو الذي (يأتي)
على تعليل ابن وهب، ومن قول ابن القاسم في المدونة وغيرها أنه لا يجوز أن
يباع المجوسي من الكتابي، فإن كان من مذهبه أنه يجبر على الإسلام، فلا
إشكال في قوله؛ لأنه صحيح على أصله؛ وإن كان من مذهبه أنه لا يجبر على
الإسلام، فقوله مثل قول سحنون؛ وهذا الاختلاف إنما هو في المسبي من المجوس،
هذا الذي قيل فيه: إنه يجبر على الإسلام، من أجل أنه لا بصيرة له في دينه،
إذ لا يفقه لجهله.
وقد قيل فيه لهذه العلة: إنه مسلم بملك المسلمين له كالصغير، وعلى هذا يأتي
على ما وقع في كتاب النذور من المدونة أنه يجوز في الرقاب الواجبة؛ وأما
المجوسي الذي ثبت على مجوسيته بين ظهراني المسلمين، فلا اختلاف في أنه لا
يجبر على الإسلام.
وقد حكى عن سحنون أنه قال: اجتمع أصحابنا على أنه لا يباع من يهودي ولا
نصراني، وليس ذلك بصحيح؛ لأنه يجوز أن يباع منه على القول بأنه يجوز أن
يباع اليهودي من النصراني، والنصراني من اليهودي؛ لأن المجوسي الثابت على
مجوسيته لا يكون في هذا أحسن حالا من اليهودي والنصراني؛ فإن بيع اليهودي
أو المجوسي من النصراني على
(7/512)
القول بأن ذلك لا يجوز، جبر المشتري على
بيعه من أهل دينه؛ قال ذلك سحنون في كتاب ابنه، ورواه زياد عن مالك؛ إلا أن
يتبين أن البائع قصد إلى الإضرار بالعبد في ذلك، فيفسخ البيع على ما في
كتاب المديان والشفعة من المدونة، خلاف ما في كتاب التجارة إلى أرض الحرب
منها؛ وأما قول ابن وهب ولا تجوز شهادة بعضهم على بعض، فالمعنى في ذلك أنه
أراد لا تجوز شهادة بعضهم على بعض عند أحد من أهل العلم، فلا دليل فيه على
أنه يجيز شهادة اليهودي على اليهودي، والنصراني على النصراني؛ لأن من مذهبه
ومذهب مالك وجميع أصحابه، أن شهادة أهل الكفر لا تجوز على حال.
[مسألة: المسلم يبيع الصبي الصغير من النصراني]
مسألة وسئل: عن المسلم يبيع الصبي الصغير من النصراني، فقال: أحب إلي ألا
يبيعه إلا من مسلم، فإن باعه من نصراني، جاز بيعه.
قال محمد بن رشد: يريد الصبي الصغير الذي لا يجبر على الإسلام، وأما الذي
يجبر على الإسلام، أو يختلف في جبره عليه، فلا يجوز على قول من يرى أنه
يجبره عليه إن باع من النصراني؛ وإن بيع منه، جرى ذلك على الاختلاف في
النصراني يشتري العبد المسلم، هل يفسخ البيع، أو يباع عليه؛ وقد مضى في رسم
الشجرة من سماع ابن القاسم، ومن كتاب الجنائز، وفي غيره من المواضع، تحصيل
القول فيمن يجبر على الإسلام من الصغار، ومن لا يجبر منهم، فلا معنى
لإعادته.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله
(7/513)
|