البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة

 [كتاب جامع البيوع الرابع] [باع من امرأته خادما واشترط عليها أن تتصدق بها على ولده]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وصلى الله على سيدنا ونبينا ومولانا محمد وآله وسلم من سماع أصبغ بن الفرج من ابن القاسم
من كتاب البيوع والعيوب
قال أصبغ: سمعت ابن القاسم وسئل عن رجل باع من امرأته خادما واشترط عليها أن تتصدق بها على ولده، فلما وقع البيع بدا لها أن تتصدق بها، قال: لا تلزمها الصدقة، والرجل بالخيار، فإن شاء أجاز البيع على ذلك، وإن شاء نقضه ورد إليها مالها، قال أصبغ: وكذلك العتق إن اشترى على أن يعتق مثل هذا التفسير، وهو قول مالك في العتق، [والصدقة] أحرى وأضعف.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال أصبغ إن البيع على الصدقة كالبيع على العتق، إذ لا غرر في ذلك بخلاف البيع على الوصية أو على

(8/7)


الوصية بالعتق أو [على] الكتابة أو التدبير أو العتق إلى أجل، وقد مضى في رسم القبلة من سماع ابن القاسم القول على البيع بشرط العتق، ويأتي أيضا في رسم المدبر والعتق من هذا السماع، ومضى في رسم المكاتب من سماع يحيى القول على البيع بشرط الوصية وما أشبه ذلك، فلا معنى لإعادته.

[مسألة: حكم أقداح القوارير المنصوبة في المجالس للبيع]
مسألة قال أصبغ: سألت ابن القاسم عن أقداح القوارير المنصوبة في المجالس للبيع مثل التي عند باب المسجد مفروشة في أفنية الحوانيت للبيع وأقداح الخشب يقف بها الرجل يشتري منها فيتناول منها شيئا فينظر إليه ويقلبه فيسقط من يديه فينكسر، فقال: لا ضمان عليه، وهذا من شأن الناس النظر إليها عند الاشتراء والتقليب، وذكره عن مالك في القوارير. قال أصبغ: وسواء استأذن في الأخذ [أو لم يستأذن] إذا رآه صاحبها وتركه يأخذ وينظر، فإن كان بغير أمره، ولا علمه فهو ضامن، قال أصبغ: وكذلك الذي يدار به من القوارير أيضا للبيع، وكذلك البواقل في المجالس للبيع، قال أصبغ: فسألت ابن القاسم فقلت له: فقلال الخل يرفعها يروزها ليعرف نحوها وملأها فتنكسر؟ فقال:

(8/8)


ما أدري ما هذا؟ ولم أسمع فيه شيئا، قال أصبغ: وهو عندي مثل الأول مثل القوارير والأقداح ما لم يعنف ويخرق ويأخذ بغير مأخذه مثل أن يعلق القلة الكبيرة بأذنها أو غير ذلك من وجوه العنف عن وجه الحمل المعروف فيضمن. قال أصبغ: قال لي ابن القاسم احتجاجا عليّ في الخل: أرأيت الدينار ينقره الصيرفي فيذهب ألا يضمن؟ قلت: فهذا مثله؟ قال: نعم، وهو يضعف ذلك، وقال أصبغ: ليس هو مثله ولا من بابه، وقال لي قبل ذلك في الدينار يعطيه الرجل الصراف على دراهم فينقده فيذهب إنه ضامن، قال أصبغ: هذا صواب قد صار منه حين قبضه بصرف، فهو بيع واشتراء مقبوض، قال أصبغ: وكذلك لو اغتصبه الصراف أو اختلس منه قبل أن يزنه كان منه، قال أصبغ: وسواء في هذا عندي نقره نقرا يتلف من مثله أو خفيفا لا يعطب في مثله إلا بالقضاء والقدر، إلا أن يأذن له في نقره فينقره نقرا خفيفا لا يعطب مثله فيصاب في ذلك فلا شيء عليه، وإن خرق ضمن.
قال محمد بن رشد: إنما رأى ابن القاسم في الخل أنه ضامن إذا رفع القلة فسقطت من يده فانكسرت من أجل أنه لا حاجة به في تقليب الخل إلى رفع القلة حسبما حكى ابن المواز عنه من رواية أبي زيد، وقد ذكرنا ذلك في نوازل سحنون، وكذلك رأى أنه لا يحتاج في انتقاد الدنانير إلى نقرها فقال في الصراف: إنه إذا قبض الدينار ليقلبه ثم يصارفه فيه إن أعجبه فنقره فتلف إنه ضامن إن لم تكن به حاجة في تقليبه إلى نقره، فاحتج على أصبغ بذلك في ضمان الخل، وأما إذا قبض الدينار على وجه الصرف فلا اختلاف في أنه ضامن له على كل حال كما قال أصبغ وإن غصبه الصراف أو اختلس منه قبل أن يزنه. وقد اعترض ابن دحون قوله قبل أن يزنه فقال: قوله قبل أن يزنه قول مشكل، كيف يضمنه قبل أن يزنه وقد أخذه ليزنه؟ قال: وإنما تؤول المسألة الأولى التي في نوازل سحنون إنه

(8/9)


مثقال يجوز بعينه لا بوزن، فقبضه له ضمان؛ لأنه لم يدفعه إلا على مواجبة الصرف، وهذه ذكر فيها الوزن، وذلك يدل على عدم المواجبة إلا بعد الوزن، فمحال أن يضمن ما أخذ ليزن قبل الوزن، وهو اعتراض غير صحيح، وقول أصبغ قبل أن يزنه كلام صحيح ليس فيه لبس ولا إشكال؛ لأن معنى ما تكلم عليه إنه دينار يجوز بعينه، فبالقبض يدخل في ضمانه؛ لأنه محمول على أنه وازن حتى يعلم أنه ناقص لا يجوز بجواز الوازن فيكون ذلك عيبا فيه يجب له رده به، فإنما يزنه ليختبر هل به عيب أم لا؟ فمتى تلف قبل الوزن ضمنه المشتري، وهذا بيّن لا إشكال فيه، وقوله في قلال الخل يرفعها يروزها؛ ليعرف نحوها وملأها فمعناه ليعرف مقدار ما فيها من الخل ملأ لا ليعرف هل ملأى أم لا؟ فتحصيل هذه المسألة أن كل ما أخذه ليقلبه بغير إذن صاحبه ولا علمه فهو ضامن له عنف أو لم يعنف، وكل ما أخذه بإذن صاحبه أو هو يراه على أحد قولي ابن القاسم وقول أصبغ فلا يضمن إلا أن يعنف، وكل ما قبض على جهة البيع فضمانه منه على كل حال إلا أن يهلك بأمر أذن له فيه دافعه لم يتعده إلى غيره.

[مسألة: قلال الخل هل يجوز شراؤها بحالها مطينة ولا يدري ما فيها]
مسألة قال أصبغ: قلت لابن القاسم في قلال الخل أيجوز شراؤها بحالها مطينة ولا يدري ما فيها ولا ما ملؤها؟ فقال لي: إن كان قد مضى عليه عمل الناس أفأحرمه؟ كأنه لا يرى بذلك بأسا. قال أصبغ: لا بأس به، قد جرى عليه وعرف حزره بقدر ظروفه، وهو يدور على أمر واحد في الملء والحد متقارب فلا بأس وإن لم يذقه ويعرف جودته من رديئه؛ لأن الاشتراء إنما يقع على الخل فهو الطيب فإن وجد خلافه برداوة مغيبة عنهما رده كما لا يدرى لعله خمر أو بعضه، وفتحه كله للبيع فساد، فلا بأس باشترائه

(8/10)


كذلك أو اشترائه على عين أوله يفتح الواحد منه ويذوقه ويشتري عليه وهذا أصوبه.
قال محمد بن رشد: إنما جاز شراؤها دون أن تفتح وتذاق للعلة التي ذكرها من أن فتحها للبيع فساد، فجاز شراؤها دون أن تفتح على الصفة من [أجل] أنه خل طيب أو وسط، كما جاز شراء الثوب الرفيع الذي يفسده الفتح والنشر على الصفة دون أن يفتحه وينشره ويقلبه، وكما جاز بيع الأحمال على صفة البرنامج لما في حل الأحمال للسوام من الضرر بأصحاب المتاع. وقوله: ولا يدري ما فيها ولا ما ملؤها معناه ولا يدري مقدار ما فيها من الخل ملأ لا أنه لا يدري، هل هي ملأى أو ناقصة؛ لأنه إذا كانت القلة ناقصة غير ملأى فلا اختلاف في أنه لا يجوز أن يشتريها مطينة على ما هي عليه من نقصانها؛ لأن ذلك من الغرر، إذ لا يجوز بيع الجزاف إلا بعد الإحاطة برؤيته.

[مسألة: باع دابة على أن يركبها بعد ثلاث فقبضها المشتري فنفقت عنده قبل الثلاث]
مسألة قال أصبغ: سمعت ابن القاسم يقول فيمن باع دابة على أن يركبها بعد ثلاث إلى الإسكندرية فقبضها المشتري فنفقت عنده قبل الثلاث إنها من المشتري، وإنه إذا أخذها البائع فركبها بعد الثلاث فماتت تحته فهي منه. قال أصبغ: البيع فاسد لطول الركوب وبعده وكثرته، فإذا ردها المشتري على البائع للركوب فهي كمن لم يقبض، والضمان في البيع الفاسد إذا لم يقبض من البائع، فالمصيبة في هذا منه لهذا. ولو كان البيع صحيحا لقرب الركوب وخفته وما يجوز كان الضمان على كل حال من المشتري ماتت في يده قبل الركوب أو في الركوب في يد البائع.

(8/11)


قال محمد بن رشد: الفساد في هذه المسألة من وجهين: أحدهما مسافة الركوب، والثاني بعد وقت الركوب؛ لأن السنة في استثناء الركوب إنما جاءت في اتصاله بالبيع لا بعد أجل اليوم واليومين، ولذلك قال في سماع أبي زيد إنه إذا باع الدابة واستثنى ركوبها يوما بعد ثلاثة أيام إن البيع فاسد إلا أنه جعل المصيبة فيها من البائع ما بقي له فيها ركوب وإن تلفت في يد المشتري خلاف قوله ههنا، قولان جاريان على الاختلاف في المستثنى هل هو مبقى على ملك البائع أو بمنزلة المشترى، فرواية أبي زيد على القول بأنه مبقى على ملك البائع، وهذه الرواية على القول بأنه بمنزلة المشترى.

[مسألة: الأرض يبيعها الرجل من الرجل على أن يردها عليه متى ما جاءه بالثمن]
مسألة قال أصبغ: سألت ابن القاسم عن الأرض يبيعها الرجل من الرجل على أن يردها عليه متى ما جاءه بالثمن، ما الذي يفوتها؟ فقال: قال مالك: الغرس والبنيان مما يفوتها، قال مالك: والهدم وبيع المشتري إياها مما يفوتها حتى لا يكون له إليها سبيل ويردان فيها إلى القيمة قيمتها يوم قبضها وينفذ اشتراء المشتري الثاني إياها فيما بينه وبين بائعه حلالا لا يردان فيه إلى القيمة ولا غير ذلك إذا كانت عقدتهما في ذلك صحيحة، وإنما القيمة ما بين المشتري الأول والبائع. قال ابن القاسم: طول الزمان في ذلك عندي ليس بفوت، واختلاف الأسواق ليس بفوت، ويرد متى ما علم بذلك، وقاله أصبغ، إلا أن يطول الزمان بالدهور مثل العشرين سنة وما فوق ذلك فإن هذا لا بد أن يدخله الغير ببعض الأوجه والبلى وغيره فأراه فوتا وإن كانت قائمة، والله أعلم، وهذا رأيي.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم في هذا البيع، إنه بيع فاسد

(8/12)


هو مثل قوله في أول سماع أشهب خلاف قول ابن الماجشون وقول سحنون في المدونة من أنه ليس ببيع فاسد، وإنما هو سلف جر منفعة حسبما مضى القول فيه في سماع أشهب المذكور. وقد اختلف قول ابن القاسم في طول الزمان بالدهور هل هو فوت في الأرضين والدور، والقولان له في كتاب الشفعة من المدونة، نص في موضع منها أن طول الزمان فيها فوت، وقال في موضع آخر: إن السنتين والثلاث ليس فيها بفوت، فدل ذلك من قوله أن الزمان الطويل فيها فوت، فعلى هذا يكون قول أصبغ في هذه الرواية مفسرا لقول ابن القاسم ومبينا له كما ذهب إليه أصبغ، وله في موضع آخر منه أن تغير البنيان من غير هدم ليس بفوت، قال ذلك على أن طول الزمان بالدهور التي يتغير فيها البنيان ليس بفوت، فعلى هذا يكون قول أصبغ خلافا لقول ابن القاسم. وأما حوالة الأسواق فلم يختلف قوله في أنه ليس بفوت في الأرضين والدور، وأشهب يراه فوتا فيها، ووجه قول ابن القاسم أن الرباع والعقار لا يراد بها الأرباح وإنما تشترى للقنية فلا يفيتها حوالة الأسواق، ووجه قول أشهب أنه وإن كان الأغلب فيها أنها إنما تشترى للقنية فقد تشترى للربح وطلب الفضل، فوجب أن يراعى ذلك في البيع الفاسد وشبهه.

[مسألة: يبيع الدور ويستثني سكناها سنة فانهدمت الدار قبل أن تمضي السنة]
مسألة قال أصبغ: سمعت ابن القاسم يقول في الذي يبيع الدور ويستثني سكناها سنة فانهدمت الدار قبل أن تمضي السنة إنها من المبتاع، ولا يرجع البائع بشيء مما بقي له من السكنى.
قال محمد بن رشد: قوله إن مصيبة الدار إذا انهدمت قبل تمام السنة من المشتري ولا رجوع للبائع عليه بشيء فيما بقي له من الأمد الذي استثنى هو مثل ما تقدم من قوله في نوازل سحنون، وقد مضى القول على ذلك هناك فلا معنى لإعادته، وستأتي المسألة أيضا متكررة بعد هذا.

(8/13)


[مسألة: الرجل من أهل الأندلس يكون له المال الموضوع بمصر]
مسألة قال أصبغ: سألت ابن القاسم عن الرجل من أهل الأندلس يكون له المال الموضوع بمصر عند القاضي أو عند رجل وضعه له القاضي عنده من مورث أو غير ذلك، هل يجوز لرجل أن يشتريه منه بالأندلس بعرض ويخرج إليه؟ فقال لي: سئل مالك عن رجل له ذهب بالمدينة عند قاضيها أراد أن يشتري بها زيتا بالشام أو طعاما لا يدري ما حدث على الذهب، قال مالك: لا خير في هذا، فقيل له: كيف العمل في هذا والصواب؟ قال: يتواضعان الزيت والطعام على يدي رجل ثم يخرج إلى الذهب، فإن وجدها تم البيع بينهما. قال أصبغ: قال لي ابن القاسم: فإن تواضعا العرض في مسألتك على يدي غيرهما لم يكن به بأس ويخرج إلى الذهب، فإن وجدها تم البيع بينهما، وإن لم يجدها فأخلف له غيرها وأعطاه عوضا منها لزم ذلك بائع العرض على ما أحب أو كره، وإن كان بائع الدنانير الغائبة يقبض العرض لا يتواضعانه فلا يحل ذلك إلا أن يكون ضامنا للدنانير إن لم توجد أعطاه مكانها أخرى، فإن كان كذلك فلا بأس به، وإن كان بائع الدنانير الغائبة لا يقبض العروض ولا يمكنه منها صاحبها ولا يتواضعانها ولا يخرجها من يديه لم يكن بذلك بأس، ويخرج إلى الدنانير فإن وجدها لم يقبصها حتى يقبض مشتري العروض العرض؛ لأنه يصير كمن اشترى سلعة غائبة بدنانير، فلا يصلح النقد فيها حتى يقبض السلعة أو يحضر.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضت متكررة في رسم الجواب من سماع عيسى من كتاب السلم والآجال، ومضى في رسم القبلة من سماع ابن القاسم منه ما فيه بيانها فلا معنى لإعادته، وبالله تعالى التوفيق.

(8/14)


[مسألة: باع دابة بثمن مسمى واشترط ركوبها]
مسألة قال أصبغ: وسمعت ابن القاسم وسئل عمن باع دابة بثمن مسمى واشترط ركوبها إلى الموضع القريب الذي يجوز له اشتراطه فركب فنفقت قبل أن يبلغه، قال: ضمانها من المشتري، قلت: فهل يرجع البائع على المشتري بثمن الركوب الذي اشترطه؟ قال: لا لأنه لم يضع لذلك الركوب شيئا من ثمنها إنما هو شيء اشترطه يجوز لأنه خفيف، وإنما هو بمنزلة ما لو قال: أبيعك هذه الدابة على أن لا تأخذها إلى غد وإلى بعد غد، قلت: فهذا البيع الذي ذكرت لا بأس به أيضا؟ قال: نعم، قلت: وضمانه ممن؟ قال: من المشتري، انظر أبدا كل من اشترط مثل هذا ويجوز له اشتراطه ويكون البيع به جائزا فالضمان من المشتري، قال أصبغ مثله كله إلا الرجوع بثمن الركوب فإني أرى ذلك له إذا كان شيء لا قدر له ولم يكن مثل الساعة والميل والأميال والبريد ونحو ذلك، ومثل اليوم في الدار واليومين والأيام الثلاثة وشبه ذلك، فهذا الذي يلغى وأراه لغوا ولا أرى له رجوعا ولا شيئا، فإذا كان له بال مثل ما ذكرت اليوم واليومين وشبهه رأيته ثمنا، والضمان من المشتري، وإنما ذلك بمنزلة بيع نصف السلعة على أن يبيع النصف الباقي إلى شهر فيبيع إلى أقل من ذلك فلا يبطل بقية شرطه، قال أصبغ: فسألته إن باع دابة واشترط ركوب دابة أخرى غيرها إلى المكان البعيد أيجوز؟ قال: نعم إلى إفريقية إن شاء، قلت: فنفقت في بعض الطريق؟ قال: يرجع عليه لأن الركوب ههنا ثمن ما باع به

(8/15)


دابته، قلت: فكيف يرجع؟ قال: يقوم الكراء كراء الموضع الذي اشترط ركوبه فيعرف كم هو، قال أصبغ: فإذا علم مبلغه ضم إلى الثمن ثم قسم عليه قيمة الدابة، فما صار لقيمة الكراء من قيمة الدابة قسم على ما ركب وعلى ما لم يركب، فيرجع بما لم يركب من ذلك بما أصابه عينا ولا يرجع في الدابة بعينها، وكذلك السكنى مثل ذلك سواء.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة والقول فيها في نوازل سحنون مستوفى، والحمد لله.

[مسألة: العبد يشترى ويستثنى نصف ماله]
مسألة قال أصبغ: سمعت ابن القاسم يقول في العبد يشترى ويستثنى نصف ماله: لا خير فيه إلا أن يكون ماله معلوما عرضا أو حيوانا أو رقيقا ولا يكون ذهبا ولا ورقا إذا كان اشتراه بذهب أو ورق، فإن كان اشتراه بعرض أو حيوان فلا بأس أن يستثني نصف ماله وإن كان ماله ذهبا أو ورقا، ورواها سحنون عن ابن القاسم إلا أنها في سماع أصبغ أفسر. قال أصبغ: وذلك إذا وقع المشتري على معرفة الذهب والورق كم هي وأنها له معروفة أو العرض بتسميته وصفته وعينه ومخالفا للعرض الذي يعطى في ثمنه، فأما مجملا فلا يدري ما هو ولا مبلغه فلا يجوز، وإن كان عرضا أو ذهبا أو ورقا واشترى بعرض لأنه لا يجوز بيع الجميع وحبس نصف المال للبائع واستثنى المشتري نصفه والمال

(8/16)


مجهول كما يجوز في الجميع هو السنة والبعض خارج من السنة فلا يجوز وإنما تجوز السنة على وجهها ولا تبعض وكذلك سمعت. قال أصبغ: قلت لابن القاسم: أرأيت إن كان ماله عرضا من صنف العرض الذي يشتريه به فلم يستثن ماله كله؟ قال: لا بأس، قال أصبغ: ولا يعجبني، قال أصبغ: ولو أن رجلا اشترى نصف حائط واشترط نصف ثمره لم يكن به بأس.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم فإن كان اشتراه بعرض أو حيوان فلا بأس أن يستثني نصف ماله وإن كان ماله ذهبا أو ورقا يريد ذهبا أو ورقا معلوما على ما فسره به أصبغ، فقوله تفسير لقول ابن القاسم؛ وقول ابن القاسم إن ماله إذا كان عرضا من صنف العرض الذي اشترى به يجوز له أن يستثني بعضه يريد إذا كان مال العبد معلوما؛ وقول أصبغ لا يعجبني يريد إذا كان ماله مجهولا، فليس قوله بخلاف لقول ابن القاسم، وإنما تكلم كل واحد منهما على غير الوجه الذي تكلم عليه صاحبه، هذا الذي يجب أن يحمل عليه قولهما، إذ لا يصح أن يختلف في جواز ذلك إذا كان مال العبد معلوما، ولا خلاف في أن ذلك لا يجوز عندهما إذا كان المال مجهولا، وإنما يجيز ذلك أشهب. وقد مضى ذلك من قوله في سماع سحنون. وقول أصبغ: ولو أن رجلا اشترى نصف حائط واشترط نصف ثمره لم يكن بذلك بأس صحيح، ولو اشترط جميع الثمرة في اشترائه نصف الحائط لم يجز باتفاق، وكذلك مال العبد فإنما يجوز للرجل أن يشترط من مال العبد وثمر النخل بقدر ما اشترى من العبد ومن النخل، فإن اشترط أكثر مما اشترى من الأصل لم يجز عند الجميع، وإن اشترط أقل مما اشترى من الأصل جاز عند أشهب ولم يجز عند ابن القاسم.

[مسألة: اشترى من رجل كرما فخاف الوضيعة]
مسألة قال أصبغ: سمعت أشهب وسئل عن رجل اشترى من رجل

(8/17)


كرما فخاف الوضيعة فأتى ليستوضعه فقال: بع وأنا أرضيك، قال: إن باع برأس المال أو بربح فلا شيء عليه، وإن باع بوضيعة كان عليه أن يرضيه، فإن زعم أنه أراد شيئا سماه فهو ما أراد، وإن لم يكن أراد شيئا أرضاه بما شاء وحلف بالله الذي لا إله إلا هو ما أراد أكثر منه يوم قال له ذلك. قال أصبغ: وسألت عنها ابن وهب، فقال: عليه رضاه بما يشبه ثمن تلك السلعة والوضيعة فيها، قال أصبغ: وقول ابن وهب هذا أحسن عندي، وهو أحب إلي إذا وضع فيها.
قال محمد بن رشد: قوله: بع وأنا أرضيك عدة " إلا أنها عدة " على سبب، وهو البيع، والعدة إذا كانت على سبب لزمت بحصول السبب في المشهور من الأقوال، وقد قيل: إنها لا تلزم بحال، وقيل: إنها تلزم على كل حال، وقيل: إنها تلزم إذا كانت على سبب وإن لم يحصل السبب، وقول أشهب إنه إن زعم أنه أراد شيئا سماه فهو ما أراد يريد مع يمينه، ومعناه إذا لم يسم شيئا يسيرا لا يشبه أن يكون إرضاء والدليل على أنه يحلف على مذهبه إذا قال: أردت كذا وكذا لما يشبه قوله إنه إن لم يكن أراد شيئا أرضاه بما شاء وحلف أنه ما أراد أكثر من ذلك، وجوابه هذا على كله في كثير من مسائله أنه لا يؤخذ أحد بأكثر مما يقربه على نفسه، واليمين في هذا يمين تهمة، إذ لا يمكن لمستوضع أن يدعي علم نيته فيحقق الدعوى عليه بخلاف ما ذكر أنه أراده، فيدخل فيها من الخلاف ما يدخل في يمين التهمة، وأما ابن وهب فأخذه بمقتضى ظاهر لفظه وألزمه إرضاءه إلا أن يقول: لا أرضى فيما يقول الناس فيه إنه إرضاء فلا يصدق أنه لم يرض ويؤخذ بما يقول الناس فيه إنه إرضاء، هذا معنى قوله. ولو حلف ليرضينه لم يبر إلا باجتماع الوجهين، وهما أن يضع عنه ما يرضى به وما يقول الناس فيه إنه إرضاء، وقد مضى ما يدل على هذا في رسم سلف من سماع عيسى من كتاب النذور في الحالف ليرضين غريمه من حقه، والحمد لله.

(8/18)


[حكم بيع البرج]
ومن كتاب البيع والصرف قال أصبغ: وسمعت ابن القاسم يقول في البرج يباع قال: إذا باعه بما فيه أو باع جميع ما فيه فذلك جائز لا بأس به وإن كان لا يعرف عدده إذا كان قد رآه وعرفه، قال أصبغ: وذلك إذا عاينه كما يعاين النخل والزرع وصبرة الطعام وأحاط به بصرا ومعرفة أو حزرا وإلا فلا خير فيه، وقد يكون صغيرا كثير العمارة، وكبيرا قليل العمارة.
قال محمد بن رشد: لعبد الله بن نافع في المدنية أنه لا يجوز أن يباع حمام البرج جزافا لأنه من الغرر، ولا يباع إلا عددا، فقيل: إن ذلك مثل قول ابن حبيب في الواضحة في أنه لا يجوز أن يباع الطير أحياء في الأقفاص جزافا؛ لأنه يتداخل بعضه في بعض فلا يحيط البصر به، وإن قول ابن القاسم في حمام البرج خلاف قول ابن حبيب في طير الأقفاص، والذي أقول به أن ذلك ليس بخلاف له لأن طير الأقفاص لا مؤونة في عدها، وحمام البرج لا يصل إلى عدها إلا بعناء كثير ومؤونة شاقة، فطير الأقفاص لا خلاف في أنه لا يجوز بيعها جزافا إذ لا مؤونة في عدها ولا يحاط كل الإحاطة بالنظر إليها لتداخل بعضها في بعض، ونحل الأجباح لا خلاف في جواز بيعها جزافا إذ لا يمكن عدها ولا كيلها بوجه، وحمام الأبرجة اختلف في جواز بيعها جزافا لمشقة عدها، فمن غلب المشقة في عدها على عدم الإحاطة بها في النظر إليها أجاز ذلك، ومن غلب عدم الإحاطة بها في النظر إليها على المشقة في عدها لم يجز ذلك، وليس في تغليب أحد الوجهين على الآخر إلا ما يغلب على ظن المجتهد.

[مسألة: حكم بيع الصعاب من الإبل]
مسألة قال أصبغ: سمعت ابن القاسم يقول في بيع الصعاب من

(8/19)


الإبل وهي لا تؤخذ إلا بالأوهاق، ولا يعرف ما فيها من العيوب وربما عطبت في أخذها فكره ذلك وكره بيعها وقال: في أخذها غرر في انكسارها فهو لا يحل، وكذلك بيع المهارات والفلاء الصعاب بالبراءة ولا يعلم أبها عيب أم لا، ولا يعرف عيب شيء منها ولا ما بها لصعوبتها، وفيه عيب آخر من وجه الخطار أيضا أنه يقول: لا أعلم ما فيها ولم أقلبها، فإنما أبيعها على ما كان فيها من عيب، فهو يضع من ثمنها لذلك، ولا يدري أبها عيب أم لا والمشتري يريده لما يرجو من السلامة، فكل واحد منهما قد خاطر صاحبه، ولو جاز هذا لجاز أن يبيع السلعة الغائبة بصفة أو يكون المبتاع قد رآها ولم يقلبها، أو قد قلبها فطال زمانها فيقول: أبيعك على أنه ما كان فيها من عيب أو من حدث مما لم أعلم فهو منك، فهذا غير جائز، وهو من الغرر، ووجه من التغابن في البيع، وهو يشبه بيع الإباق، فأرى جميع ذلك مفسوخا وجد عيبا أو لم يجده أو حدث بها عيب أو لم يحدث. قال أصبغ: أرى الذي اجتح به وناظر من الحجج في ذلك ليس بحجة ولا نظير المسألة ولا صواب إلا كراهة بيعها لغرر أخذها لصعوبتها وانكسارها فيه فإن ذلك كذلك غير مأمون عليها ولا سليمة منه للذي قد عرفت به واستوحشت ولا أرى بيعها ولا يعجبني، ولا شراءها، وأراه غررا من البيوع حتى تؤخذ فيسلم ما يسلم ويعطب ما يعطب قبل البيع، وأراه مفسوخا إن وقع وأرى مصيبتها من البائع حتى تؤخذ ثم تصاب بعد قبض المشتري إياها. وأما حجته بالوجه الثاني من الغرر والخطار أنه لا يعلم ما فيها فيبيعه على ما

(8/20)


كان فيها من عيب فقد خاطره فليس كذلك إنما ذلك بمنزلة بيع البراءة ولا يعلم ما في السلعة وبيع السلعة الغائبة على الصفة المخصوصة ولا يدري ما فيها سواء ذلك فليس في هذا أخطار وهذه بيوع المسلمين، وهي جائزة لازمة حتى توجد عيوب، والذي احتج به في السلعة الغائبة فيقول: أبيعك على أنه ما كان فيها أو حدث مما لم أعلم فهو منك فإنما مكروه هذا إذا اشترطه اشتراطا، وجوابه في الحجة لها في حرور المسألة على غير اشتراط فهي غير حجة لأن المسألة الأولى في بيع الصعاب بالبراءة ليس فيها اشتراط إنما هو بيع مجرد فليست بحجة، والجواب فيها بعينها لنفسها صحيح إذا كان الاشتراط مجردا فالبيع فاسد وإن كان بغير ذلك فليس بفاسد، وله شبيه ببيوع المسلمين وأحكامهم فليس به بأس في المهارة وغير ذلك من المسألة ما عدا الإبل الصعاب وما أشبهها من الأشياء في مثل حدها من المهل والصعوبة والاستيحاش.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم في أنه لا يجوز بيع الإبل الصعاب التي لا تؤخذ إلا بالأوهاق وهي الحبال لأن الوهق الحبل التي تؤخذ به الدابة والإنسان، قاله الخليل، صحيح، وتنظيره كما نظرها به من بيع المهارات والفلاء الصعاب على البراءة ومن بيع السلعة الغائبة على الصفة أو على رؤية متقدمة للمبتاع فيها وعلى البراءة مما حدث بها بعد مغيب البائع عنها أو بعد رؤية المبتاع لها إلى حين العقد عليها وقد طال

(8/21)


زمان ذلك صحيح أيضا، واعتراض أصبغ عليه في تنظيره واحتجاجه ليس بصحيح، وذلك أنه لا يجوز أن يبيع الرجل بالبراءة ما يجهل عيوبه لأن عليه أن يبين ما يعلم منها فيبرأ مما لم يعلم، فإذا باع ما يجهل عيوبه بالبراءة كان ذلك غررا فقال ابن القاسم: إن بيع الإبل الصعاب التي لا تؤخذ إلا بالأوهاق على البراءة مما بها من العيوب لا يجوز لوجهين: أحدهما الغرر لما يخشى من انكسارها في أخذها، والثاني أنه لا يعرف ما فيها من العيوب لصعوبتها ولا إن كان بها عيب أم لا، فوجب ألا يجوز كما لا يجوز بيع المهارات والفلاء الصعاب بالبراءة إذا كان لا يعرف ما فيها من العيوب ولا إن كان بها عيب أم لا إذ لم يختبر ذلك منها، وكما لا يجوز بيع السلعة الغائبة على الصفة أو على الرؤية المتقدمة على البراءة مما حدث بها بعد مغيب البائع عنها أو بعد رؤية البائع لها إلى حين العقد عليها وقد طال زمان ذلك، وقوله صحيح لائح لا وجه للاعتراض فيه. ورأى أصبغ بيع المهارات والفلاء الصعاب بالبراءة جائزا وإن كان البائع لها لا يعلم هل بها عيب أم لا إذا لم يختبر ذلك منها، وأن بيع السلعة الغائبة على الصفة بالبراءة وإن طال عهده بها طولا يمكن أن يحدث بها عيوب فيه جائز ما لم يشترط أني بريء من كل ما حدث بها مما لم أعلمه، ولذلك اعترض على ابن القاسم، ولا يلزمه اعتراضه لأنه لا يجيز شيئا من ذلك، وهو الصحيح المعلوم من قول مالك. ولهذا المعنى لم يجز للرجل أن يبيع بالبراءة ما اشترى بيع الإسلام وعهدة الإسلام، وقال في أول رسم من سماع أشهب من كتاب العيوب في ذلك يعمد الرجل إلى العبد فيشتريه بيع الإسلام وعهدة الإسلام ولا يحب أن يخبر بشيء من عيوبه ولا يقيم في يديه كبير شيء حتى يعمد إليه فيبيعه بالبراءة فيحكم على المشتري بما لا يدري كيف هو، فامنعهم من ذلك أشد المنع، وافسخ ذلك بينهم، يقول ذلك لصاحب السوق، وقال في رسم تسلف من سماع ابن القاسم منه إن بيع الثياب في الجراب بالبراءة لا خير فيه لأنه لا يستطاع أن يدرك معرفته، وقد مضى القول على هذا في الموضعين.

(8/22)


[مسألة: اشترى من رجل ثوبا مصبوغا واشترط له أن يلبسه]
مسألة قال أصبغ: سمعت ابن القاسم يقول في رجل اشترى من رجل ثوبا مصبوغا واشترط له أن يلبسه، فإن انتقض صبغه رده وأخذ حقه، قال: لا خير فيه إذا اشترط اللبس، ولكن لا بأس أن يبيعه ويقول: اغسله فإن انتقض فرده.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال إن ذلك لا خير فيه لأنه إن انتقض فرده كان سلفا جر منفعة، كأنه أسلفه الثمن على أن يلبس ثوبه ما دام سلفه عنده، وإن لم ينتقض كان بيعا، فمرة يكون بيعا، ومرة يكون سلفا جر منفعة، فإن وقع ذلك كان سبيله سبيل البيع الفاسد يفسخ في القيام، وتكون له القيمة بالغة ما بلغت في الفوات.

[مسألة: بيع كيل وجزاف]
مسألة قال أصبغ: سمعت ابن القاسم يقول: لا يباع كيل وجزاف اتفق الطعامان أو الصنفان أو اختلفا، فإن اختلفا فهو أشد، قال: ولا يباع جزاف وكيل وإن قل الكيل مثل الإردب والويبة وما أشبه ذلك ويقول: أنا أكرهه قال: ولا يباع جزافا كيلا كله وعروض معه ما كانت العروض من شيء لأنه إذا قلت لك جزافا كيلا فهو يجمع ولا تبالي ما كان، لا يباع مع الجزاف شيء وذلك إذا كان إنما يأخذ جميع ما في الصبرة كيلا مع العروض لأنه لا يدري ما مبلغها. قال أصبغ: وأنا أقول على خوف الذريعة للمزابنة والخطار وعلى الاستحسان والاتباع وليس ذلك بالبين ولا بالقوي ولا المجتمع عليه ولا المسبوق إليه بأحد من أهل العلم قبله، وقد أجازه لنا أشهب. قال أصبغ: قلت لابن القاسم: أفيباع الطعام الواحد في الجودة ومن أندر واحد إلا أنهما مصبرين كل

(8/23)


واحد على حدته، أفيباعان جميعا على الكيل بكيلين مختلفين هذا إردبين وهذا ثلاثة صفقة واحدة على الإيجاب عليهما جميعا؟ قال: لا خير في هذا ولا يعجبني؛ لأنه لا يدري كم مبلغ ثمن ذلك ولا كم يقع لكل دينار من جميع ذلك، فكل واحد منهما لا يدري ما اشترى ولا ما باع إلا أن يسمى كم يأخذ من هذا من دينار وكم يأخذ من هذا من دينار، قال أصبغ: وهذا إغراق منه على مذهبه الذي ذهب إليه في هذا الباب بين أهل العلم في أوله وآخره وأرجو أن يكون هذا خفيفا. قال أصبغ: قلت لابن القاسم: أرأيت إن اختلفا في الجودة وهو قمح كله أو اختلف الطعامان مثل التمر والقمح أيشتريهما بكيلين مختلفين صفقة واحدة أو كيل واحد صفقة واحدة؟ فقال في الطعامين المختلفين لا يباعان جميعا على الكيل، وإن اتفق الكيل فكان بكيل واحد فلا خير فيه، وكذلك الطعامان إذا اختلفت الصفة، وإن كانا من صنف واحد مثل القمح والشعير أو القمح الجيد والرديء، ولا يباعان صفقة وإن كانا بكيل واحد وسعر واحد إلا أن يسمى ما يأخذ كل واحد منهما من الدنانير فلا بأس أن تباع الصبرتان من صنف واحد وقمح واحد وصفة واحدة بسعر واحد وكيل واحد، وقاله أصبغ كله، ونحن فتقناها عليه حين علمنا أصل قوله في الأول وتشديده فيه، وهو عندي حسن، والمسألة ووجوهها حسنة جدا على ما فسرت لك في الأول.
قال محمد بن رشد: قد مضى في رسم شك من سماع ابن القاسم تحصيل القول فيما يجوز من بيع الجزاف والكيل صفقة واحدة مما لا يجوز، ولا اختلاف في أنه يجوز بيع الكيلين في صفقة واحدة وبيع الجزافين على غير الكيل في صفة واحدة ولا في بيع الكيل مع العروض

(8/24)


التي لا يتأتى فيها الكيل. واختلف في بيوع الجزاف مع العروض على ثلاثة أقوال: أحدها أن ذلك لا يجوز وإن كان الجزاف على غير الكيل، وهو مذهب ابن حبيب، والثاني أن ذلك جائز وإن كان الجزاف على الكيل، وهو قول أشهب وأصبغ، والثالث أن ذلك جائز إن كان الجزاف على غير الكيل، ولا يجوز إن كان على الكيل، وهو قول ابن القاسم في هذه الرواية والمشهور في المذهب. وأما بيع الجزافين على الكيل فإن اتفق الطعام والكيل جاز ذلك باتفاق، وإن اختلف الطعام والكيل لم يجز ذلك باتفاق، وإن اتفق أحدهما واختلف الآخر مثل أن تكون صبرتين من قمح صفة واحدة فيشتريهما صفقة واحدة، هذه ثلاثة أرادب بدينار، وهذه أربعة أرادب بدينار، أو صبرة من قمح وصبرة من شعير فيشتريهما صفقة واحدة ثلاثة أرادب بدرهم جاز ذلك عند أشهب وأصبغ ولم يجز عند ابن القاسم، فلا يجوز عند ابن القاسم أن يشتري الرجل مبدر عشرة أمداء من أرض كل قفيز بكذا إن اختلفت الأرض وإن نظر إلى جميعها، وكذلك لا يجوز على مذهبه وإن اتفقت إذا كان معها في الصفقة سوى الأرض من ثمرة أو دار أو عرض، ويجوز ذلك كله على مذهب أشهب وأصبغ، هذا تحصيل القول في هذه المسألة.

[مسألة: اشترى من رجل عشرة من الغنم يختارها والغنم كلها حوامل]
مسألة قال أصبغ: سئل ابن القاسم عن رجل اشترى من رجل عشرة من الغنم يختارها من عدة غنم، والغنم كلها حينئذ حوامل، فواجبه وتفرقا ولم يختر حتى وضعت فجاء ليختار أيكون له من لغوها شيء؟ ولغوها نسلها الذي وضعت قال: لا ليس له من

(8/25)


لغوها شيء، يشتري عشرة ويأخذ عشرين ليس له إلا أن يختار في رقابها وحدها ولا يتبعها بشيء من لغوها، فقيل له: إن البيع قد وقع حين وقع وهي حوامل، وقد كان له أن يختارها وهي حوامل وأولادها في بطونها، قال: وإن ليس له ههنا إلا الرقاب لم يشتر غيرها إلا أن يكون اشترى على أنها حوامل، بشرط واشترط، فالبيع حينئذ فاسد مفسوخ، قيل له: فإن جز صوفها قبل أن يختار ثم جاء ليختار؟ قال: له الصرف يأخذه لأنه لم يكن للبائع جزه. فقيل له: فما أكل البائع منها من الألبان والسمون؟ قال: لا شيء عليه فيه للضمان. فقيل له: فإن اشترى عشرة شياه من مائة يختارها على أن المائة كلها تحلب قسطا قسطا؟ قال: وما بأسه؟ لا بأس به، قيل: فتأخر اختياره حتى احتلبها هذا أياما ثم جاء ليختار؟ قال: لا شيء عليه فيما احتلب لأنه كان ضامنا يعني البائع، قيل له: فإن اشترى رجل عشر جواري يختارها من مائة وهي حوامل؟ قال: ليس هذا مثل الغنم، هذا إن كان يختار مكانه حين اشترى فلا بأس والبيع جائز، إلا أن يكون أيضا الشرط على أنهن حوامل فيفسخ البيع، وإن لم يشترط ذلك فلا بأس، فإن لم يختر حتى يضعن أيضا رأيت أن يفسخ البيع ولا يكون له الخيار في رقاب الأمهات كما يختار في رقاب الأمهات من الغنم من قبل أن ذلك يكون حينئذ تفرقة بين الأمهات والأولاد، ورآه بمنزلة من باع جارية ولها ولد وسكت عن الولد فلم يشترط فيها تفرقة ولا غيرها أن ذلك البيع أيضا يفسخ لأنها تفرقة، فقيل له: إن البيع

(8/26)


وقع ههنا فاسدا وأصل البيع هناك كان صحيحا، قال: وإن فقد صار إلى فساد قبل أن يتم، قال أصبغ مثله إلا في الاشتراط أنها حوامل، فإنه إن كان الحمل بينا ثابتا معروفا يعرفه كل واحد فلا بأس به في الغنم والجواري جميعا، والشرط فيه وغير الشرط سواء، ولا يفسد البيع إلا في ولادة الجواري إذا لم يشترط الحمل ووضعن قبل الاختيار فكان الولد للبائع أنه يختار ثم يجمع ما اختار مع ولده فيباعان جميعا ويقسم الثمن على الأقدار ولا يفسخ لأن أصله جائز أن تجمعهما.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم في هذه المسألة في الذي يشتري عشرة من الغنم يختارها من عدة وهي حوامل فلم يختر حتى وضعت أنه ليس له في الأولاد شيء، وإنما يختار في الأمهات مثل قول أشهب في المدونة خلاف قوله فيها في الذي يشتري أمة بالخيار فتضع في أيام الخيار أن الولد للمشتري إن اختار الشراء فجعل الولد كعضو منها بخلاف الجناية عليها عنده وهو أن يكون كعضو منها في هذه أحرى؛ لأن البيع له فيها لازم في عشرة مع أنه بالخيار في كل واحدة منهما، وقد قال ابن دحون: إن قوله في هذه المسألة ليس بخلاف لما له في المدونة لأنه إنما جعل الولد للمشتري في مسألة المدونة من أجل التفرقة، ولا تفرقة في الغنم، وليس قوله بصحيح لأنه قد قال في الجواري بعد هذا: إن البيع يفسخ إذا وضعت الجواري قبل الاختيار من أجل أن الولد يكون للبائع فيكون بيع تفرقة، ولم يقل إنه يكون له أولاد الذي يختار، فدل ذلك على أنه لا فرق عنده في هذا بين الغنم والجواري. وفي قوله: إن البيع يفسخ نظر لأنه إنما فسخه من أجل أنه رأى اختياره إن اختار إنما يكون على العقد الأول وكأنها لم تزل ملكا له من يومئذ، وهذا يوجب أن يكون له الأولاد، وفسخه للبيع أيضا من أجل التفرقة خلاف قوله في المدونة من أن البيع لا يفسخ إلا أن يأبيا أن يجمعا بينهما في ملك واحد بأن يبيع أحدهما من الآخر أو يهب له، وقد قيل: إن البيع لا يفسخ، وإن أبيا أن يجمعا

(8/27)


بينهما في ملك بيعا عليهما وقسم الثمن بينهما على قيمتهما، وهو قول أصبغ هنا، وهو القياس على القول بجواز جمع الرجلين سلعتيهما في البيع، وهو مذهب أشهب إلا أنه قد خالف أصله في هذه المسألة فقال: إن البيع يفسخ إذا أبيا أن يجمعا بينهما في ملك واحد. وقوله: إن له الصوف إذا جزه البائع قبل أن يختار صحيح بين لا اختلاف فيه لأن الشراء إنما وقع على أن يختارها بصوفها، فليس للبائع أن يسقط حقه في الصوف بجزه إياه. وأما قوله فيما أكل البائع منها من الألبان والسمون قبل أن يختار المبتاع أنه له من أجل الضمان ولا شيء للمبتاع فيه فهو قول فيه نظر لأن المبتاع ضامن العشرة على مذهبه لوجوب البيع عليه فيها لو تلفت للزمه غرم الثمن وكانت مصيبتها منه، فكان القياس على قوله أن يكون له من اللبن والسمن الذي أكل البائع ما يقع للعشرة من جملة الغنم التي اشترط الخيار منها؛ لأنه شريك معه فيها بذلك القدر لو تلفت، وإنما يصح أن يكون اللبن والسمن للبائع على مذهب سحنون الذي يقول: إن المصيبة من البائع في جميع الغنم إن تلفت قبل أن يختار المبتاع، وعلى هذا يأتي قوله في كتاب الخيار من المدونة في مسألة الدنانير، ومعناه أن تلف الدينار لم يعلم إلا بقوله؛ لأن قوله في ذلك خلاف مذهب ابن القاسم، سواء على مذهب ابن القاسم قامت بينة على تلفه أو لم تقم؛ لأن قبضه على الإيجاب. وقول العتبي في قول أصبغ إنه مثل قول ابن القاسم إلا في اشتراط أنها حوامل فلا بأس به إذا كان الحمل ظاهرا وهم منه؛ لأنه قال فيه: ولا يفسد البيع في ولادة الجواري إذا لم يشترط الحمل ووضعن قبل الاختيار ويكون الولد للبائع ويختار ثم يجمع ما اختار مع ولده فيباعان ويقسم الثمن على الأقدار ولا يفسخ البيع، وهذا نص خلاف قول ابن القاسم في أن البيع يفسخ إذا وضعن قبل الاختيار. وما وقع في الأم من قوله ولا يفسد البيع إلا في ولادة الجواري خطأ في الرواية لأن إلا إذا أثبتت فيها تناقض الكلام وصار أوله مخالفا لآخره، ولعله ينقص من آخر الكلام شيء، فينبغي أن يتأمل قول أصبغ في الأصل الذي نقله منه العتبي حتى يوقف على حقيقته. وقوله إذا لم يشترط الحمل يريد في غير بينة الحمل على مذهبه في أن اشتراط

(8/28)


الحمل في بينة الحمل لا يفسد البيع، وهو مذهب سحنون خلاف قول ابن القاسم ههنا وخلاف روايته عنه في المدونة وفي رسم الشريكين من سماع ابن القاسم، وقد مضى القول على ذلك هناك. وإنما لا يفسد البيع على مذهب أصبغ وسحنون باشتراط الحمل الظاهر في الرمكة إذا قال: أبيعك إياها على أنها حامل، ولم يقل من فرس ولا حمار، وأما إن قال من فرس أو حمار فيكون البيع فاسدا لاحتمال أن يكون انفلت عليها غير الذي سمى، وبالله التوفيق.

[مسألة: يعطي الرجل زرعه وثمره بجدادها وحصاده]
مسألة قال أصبغ: سمعت ابن القاسم يقول: لا بأس أن يعطي الرجل زرعه وثمره بجدادها وحصاده ويكونان شريكين في الزرع والثمرة بمنزلة بيعه ذلك بالعين، وإن اشترط في الزرع على أن على بائع النصف درسه وذروه لم يحل، وكذلك قال لي مالك، قال أصبغ يعني درس الجميع وذروه، فكأنه اشتراه بعد ما يخرج. قال أصبغ: ولو شرط ذلك على المشتري لم أر به بأسا لأنه اشترى نصفه بثمن مسمى وبعمل من الأعمال معروف، فلا بأس به إن شاء الله وقد سمعت ابن القاسم يغمزه ويغلظ فيه.
قال محمد بن رشد: قوله إنه لا بأس أن يعطي الرجل زرعه وثمره على النصف بجدادها وحصاده ويكونان شريكين في الزرع والثمرة بمنزلة بيعه ذلك بالعين، هو مثل ما في كتاب الجعل والإجارة من المدونة، ووجه جوازه هو أنها إجارة لأنه استأجره على حصاده بنصفه، ونصفه يجوز له أن يبيعه، وما يجوز بيعه جاز الاستئجار به، فكانت إجارة جائزة لازمة لهما

(8/29)


جميعا، إن أراد الأجير أن يترك الحصاد قبل أن يبدأ به أو بعد أن حصد بعضه لم يكن ذلك له، وإن أراد رب الزرع أن يمنعه لم يكن ذلك له. وقول أصبغ في قول ابن القاسم وروايته عن مالك إنه لو اشترط على بائع النصف درسه وذروه لم يحل يعني درس الجميع وذروه، كلام فيه نظر؛ لأن درس نصفه وذروه على البائع إذ هو له لم يبعه، فإنما يصح أن يشترط المشتري عليه ما لم يجب علمه، وذلك درس النصف الذي اشتراه وذروه، وإذا اشترط ذلك عليه كان عليه بشرط درس النصف وذروه درس الجميع وذروه بأن درس نصفه الآخر وذروه عليه لأنه ماله لم يبعه، وكان ذلك حراما [لا يحل] ، كما قال، ولو اشترط على بائع النصف حصاده وجذه لجاز ذلك لأنه يجوز للرجل أن يبيع جميع زرعه على أن عليه حصاده، وهذا على أن القول بأن بيع الزرع بعد أن يحصد وهو في سنبله قبل أن يدرس جائز، وهو قول مالك في رواية أشهب وابن نافع عنه، وقد مضى هذا المعنى في رسم اغتسل من سماع ابن القاسم من كتاب السلم والآجال، وقول أصبغ: إنه لو اشترط ذلك البائع على المشتري لم يكن به بأس، وجهه أنه إذا اشترط عليه حصاد نصفه وذروه كان عليه حصاد الجميع وذروه لأن حصاد النصف الآخر وذروه عليه لأنه ماله قد وجب عليه باشتراء وكان إذا اشترط ذلك عليه قد اشترى نصف الزرع بالثمن الذي سمياه وبحصاد النصف الآخر الذي للبائع وذروه، فجاز ذلك، وجوازه إنما يأتي على رواية أشهب عن مالك في أول رسم من سماعه من كتاب الجعل والإجارة في أنه يجوز أن يستأجر الرجل الرجل على حصاد زرعه ودرسه بنصفه، وأما على مذهبه في المدونة أنه لا يجوز أن يستأجر الرجل الرجل على حصاد زرعه ودرسه بنصفه فلا يجوز ذلك، ومن أجل ذلك كان ابن القاسم يغمزه ويغلظ فيه، إذ لا فرق في المعنى بين أن يبيع منه نصف الزرع بكذا على أن على المبتاع حصاده ودرسه، وبين أن يؤاجره على حصاده ودرسه بنصفه. ولو اشترى منه جميع الزرع أو نصفه كل قفيز بكذا على أن حصاده ودرسه

(8/30)


وذروه على البائع لجاز، قاله في المدونة، وسيأتي في سماع يحيى من كتاب الجعل والإجارة القول على تلف الزرع إذا استأجره على حصاده بنصفه.

[مسألة: بيع الشاة المذبوحة ولم تسلخ]
مسألة وسمعته يقول: لا بأس ببيع الشاة المذبوحة ولم تسلخ إذا بيعت على حالها، وإن كان إنما ابتاع أرطالا ثم توزن وتسلخ فلا خير فيه.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال لأن الشاة المذبوحة غير المسلوخة، وإن كان لها حكم اللحم في أنه لا يجوز بيعها بشيء من الطعام إلى أجل ولا باللحم إلا مثلا بمثل على التحري فيجوز بيعها بالدنانير والدراهم والعروض نقدا وإلى أجل، ولا يكون ذلك من بيع اللحم المغيب كما يكون بيع الشارف والكسير وما لا يستحيا من جميع الحيوان بيع اللحم المغيب، وأما شراء أرطال منها قبل أن تسلخ فهو بيع اللحم المغيب، والأصل في هذا أن كل ما يدخل بالعقد في ضمان المشتري فليس من بيع اللحم المغيب، وما لا يدخل بالعقد في ضمانه حتى يوفى إياه فهو بيع اللحم المغيب.

[مسألة: اشترى من صبرة عشرة أرادب فاكتال منها خمسة]
مسألة وسألته عمن اشترى من صبرة عشرة أرادب فاكتال منها خمسة ثم قال للبائع: أعطني الخمسة الأخرى من هذه الصبرة وهي أدنى منها، قال: لا بأس بذلك، فقيل له فيأخذ شعيرا مكانها؟ قال: لا بأس بذلك أيضا.
قال محمد بن رشد: هو مثل ما في المدونة إنما جاز ولم يدخله بيع الطعام قبل استيفائه؛ لأنه صنف واحد فهو يعد مبادلة يدا بيد، ولم يجز

(8/31)


في المدونة أن يأخذ من الحنطة المشتراة دقيقا وإن كان اللحم والدقيق عنده صنفا واحدا مراعاة لقول عبد العزيز بن أبي سلمة في أنهما صنفان، وقد كان يلزمه على قياس هذا ألا يجيز الشعير من القمح مراعاة لقول من يراهما صنفين مع قوة الخلاف في ذلك وما في بعض الآثار من قوله: وبيعوا القمح بالشعير كيف شئتم، فهو تعارض من القول، والله أعلم.

[مسألة: بيع ودك الرؤوس]
مسألة وسمعت ابن القاسم يقول ودك الرؤوس يشترى: لا يباع حتى يستوفى لأن أصله طعام، وقال أصبغ: وهو كالإهالة، والإهالة شحوم ألية مذابة وأوداكها فهي طعام.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال، وهو مما لا يدخل فيه اختلاف لأن كل ما كان من الأطعمة فلا يجوز بيعه قبل استيفائه «لنهي النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عن بيع الطعام قبل أن يستوفى» ، فهو محمول عند الجميع على عمومه في جميع الطعام الذي يوكل ويشرب على غير التداوي لأن الأدوية لا تعد من الأطعمة، وقد مضى ذلك في أول رسم أوصى من سماع عيسى وفي سماع أبي زيد من كتاب السلم والآجال.

[يحضر المزايدة فيقول له الصائح دونك السلعة فقد أمضيتها لك بالذي زدت فينكر]
ومن كتاب الكراء والأقضية قال أصبغ: سألت ابن القاسم في الرجل يحضر المزايدة على السلعة فيقول له الصائح: دونك السلعة فقد أمضيتها لك بالذي زدت، فينكر أن يكون زاد شيئا، قال: لا أرى عليه إلا

(8/32)


يمينا بالله ما زاد شيئا ويبرأ، وإنما ألزمته اليمين لحضوره المزايدة، وأما لو قال ذلك لمن لم يحضر المزايدة لم يكن عليه يمين ولم يلزمه من قوله شيء. قلت: أرأيت لو قال ذلك لمن لم يحضر وقال: أنت أمرتني وأوصيتني إذا وقفت على شيء أن أوجبها لك ألا يحلف له؟ قال: إن كان مثله يأمر مثله في تجارته وناحيته فأرى أن يحلف، وإن كان على غير ذلك لم يحلف.
قال محمد بن رشد: هذا صحيح على أصولهم في أن من زاد على السلعة في بيع المزايدة تلزمه السلعة بما زاد فيها إن أراد صاحبها أن يلزمها إياه ما لم ينقلب بسلعته وتذهب أيام الصياح أو يكون مما العرف فيه أن ترد أو تباع في المجلس فتلزمه السلعة بما زاد فيها وإن زاد عليه غيره ما لم ترد السلعة ويصاح على غيرها، وقد مضى هذا في آخر أول رسم من سماع أشهب من كتاب العيوب، وأوجب عليه اليمين بمجرد الدعوى لأن حضوره المزايدة خلطة توجب له عليه اليمين، وأما إذا لم يحضر المزايدة فلا يمين له عليه إلا أن يكون بينه وبينه من الأسباب ما يشبه أن يكون مثله يأمر مثله كما قال، وهذا على قولهم في أن اليمين لا تلحق بمجرد الدعوى دون خلطة؛ لأن الخلطة إنما تكون من قبيل الدعوى، فإن ادعى مبايعة كانت الخلطة بالمبايعة، وإن ادعى عليه سلفا ومعروفا كانت الخلطة بالصداقة والملاطفة التي تقتضي المسالفة والمعروف بينهما، وكذلك هذا، المخالطة فيه بأن يكون بينهما ما يشبه به أن يكون مثله يأمر مثله في تجارته، فإن حلف لم يلزم الصائح شيء إذا كان ذلك في المجلس، وأما إن قبض السلعة وقال: فلان أمرني أن أوجبها له بما أعطى فيها فجاء فلان فأنكر قول الصائح فحلف فإن السلعة تلزم نصائح بذلك الثمن لأنه أتلفها على ربها إذ لم يمضها لمن زاد فيها في المناداة في المجلس وأمسكها لغيره، وإن نكل عن اليمين حلف الصائح ولزمته السلعة، وإن نكل الصائح عن اليمين بعد نكوله هو كان لرب السلعة أن يضمنه إياها بذلك الثمن إن شاء لأنه قد أتلفها عليه بنكوله.

(8/33)


[مسألة: باع سلعة ثم أتى يقبض الثمن فقال المشتري لم أقبض السلعة]
مسألة قال أصبغ: سألت ابن القاسم عن رجل باع سلعة ثم أتى يقبض الثمن فقال المشتري: لم أقبض السلعة، وقال البائع: قد قبضتها؟ فقال: إن كان أشهد له بالثمن فقد قبض السلعة وعليه غرم الثمن. قال أصبغ: ويحلف البائع إن كان ذلك بحرارة البيع والإشهاد بأن هذا من أفعال الناس، فأما أن يكف فإذا حل الثمن وشبهه قال: لم أكن قبضت السلعة فلا قول له ولا يمين على البائع إذا حل الأجل.
قال محمد بن رشد: قد قيل إنه إذا حل الأجل فالقول قول البائع مع يمينه لقد دفع السلعة، وإذا كان بالقرب فالقول قول المشتري وإن كان قد أشهد على نفسه بالثمن. وكذلك إذا باعها منه بالنقد وأشهد عليه المبتاع بدفع الثمن ثم قام يطلب السلعة منه بالقرب الذي يتأخر فيه القبض ويستقل الناس في حوائجهم الأيام والجمعة ونحو ذلك فالقول قول المشتري وعلى البائع البينة على دفعها، وإن بعد الأمر الشهر والشهرين ونحو ذلك لم يصدق المبتاع أنه لم يقبض وكان القول قول البائع، وهذا القول هو ظاهر قول ابن القاسم في الدمياطية، وهو أظهر من رواية أصبغ هذه؛ لأن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: «البينة على من ادعى واليمين على من أنكر» ولا شك أن البائع مدع في دفع السلعة كما أن المبتاع مدع في دفع الثمن، فلما كان بالقرب القول قول البائع إنه ما قبض، وفي البعد القول

(8/34)


قول المبتاع مع يمينه لقد دفع، وقد مضى حد القرب والبعد والاختلاف فيه في رسم الأقضية من سماع أشهب، وجب أن يكون بالقرب، القول قول المبتاع مع يمينه أنه ما قبض السلعة وإن أشهد على نفسه بالثمن إن كان إلى أجل، أو على البائع بدفعه إليه إن كان نقدا، إذ لا دليل في الإشهاد بالثمن على قبض السلعة، إذ قد يشهد به قبل ذلك؛ وأن يكون في البعد القول قول البائع لقد دفع مع يمينه، ولا وجه لسقوط اليمين عنه مع تحقيق دعوى المبتاع عليه أنه لم يدفع السلعة إليه. ولو أشهد المبتاع على نفسه بالثمن وأنه قد قبض السلعة ثم قام بالقرب يطلبها وقال: إنما أشهدت له بقبضها على سبيل الطمأنينة إليه لجرى ذلك على اختلاف المتأخرين في البائع يشهد للمبتاع في كتاب الابتياع بالبيع والقبض ثم يدعي أنه بقيت له منه بقية أو أنه لم يقبض منه شيئا وقال: إنما أشهدت له بالبيع والقبض على الثقة له والطمأنينة إليه، فقيل: إنه لا يمين على المبتاع قرب الأمر أو بعد، وقيل: إن كان بالقرب حلف، وإن كان قد بعد الأمر وطال الأمد لم يحلف، حكى القولين ابن الهندي في وثائقه، وقال ابن زرب: إن كان المشتري من قرابة البائع أو من حلفائه حلف، وإن كان أجنبيا لم يحلف، ولم يفرق بين القرب والبعد.

[مسألة: قال اشتريت من فلان أنا وفلان فقال البائع لا بل بعتك أنت وحدك]
مسألة قال أصبغ: سمعت ابن القاسم يقول عن رجل قال: اشتريت من فلان أنا وفلان هذه السلعة بكذا وكذا دينارا، فقال البائع: لا بل بعتك أنت وحدك، فقال: لا يلزم المقر إلا نصف السلعة بنصف الثمن الذي ذكره، وليس للبائع عليه غير ذلك. وإن قال: اشتريت هذه السلعة من فلان، وقال البائع: بل بعتك أنت وفلانا فإنه إن طلبها ذلك الفلان الذي أقر له صاحب السلعة بالبيع أخذ ذلك إلا يكون للآخر بينة، وقاله أصبغ كله. قال ابن القاسم: فإن لم يطلب ذلك فأراها كلها

(8/35)


لهذا الذي زعم أنه اشتراها كلها لنفسه، وليس للبائع حجة لأنه قد أقر ببيعها كلها وإخراجها من يده وملكه. قال أصبغ: وليس هذا بشيء، وليس له إلا نصفها إلا أن يسلم له البائع البيع، وهذا إغراق عن الصواب، وهو كالتقصير عنه. وقد قال أيضا: إذا قال لفلان علي ألف درهم وعلى فلان وفلان فأراها عليه كلها خاصة إن كان كلاما نسقا فهو خطأ كالذي فوقه، وهو منكر من قوله، وليس عليه إلا الثلث. وفرق - زعم - بين هذا وبين أن يقول لفلان علي وفلان وفلان ألف درهم لأن الأول قد أقر بالألف على نفسه ثم ندم فأدخل ما أدخل ليسقط بعض ذلك عن نفسه، وأن الآخر إنما هو إقرار واحد وإقرار وشهادة، فيؤخذ منه ما يلزمه من حصة ذلك وهو الثلث، ويسقط ما بقي إن لم تجز شهادته فيه. قال أصبغ: وهو سواء الأول والآخر، وما فيه من الإقرار أولا وآخرا هو إقرار واحد كله بعضه من بعض، الأول بالآخر والآخر بالأول بمنزلة تقديم العتق في اليمين قبل الحلف، أو الحلف قبل العتق والطلاق كذلك، فليس عليه إلا الثلث في المسألتين.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم في الذي قال: اشتريت من فلان أنا وفلان هذه السلعة بكذا وكذا فقال البائع: بل بعتك أنت وحدك إنه لا يلزم المقر إلا نصف السلعة بنصف الثمن صحيح لا إشكال فيه، إذ لا يلزمه إلا ما أقر به. وقوله: وليس للبائع عليه غير ذلك معناه أنه ليس له أن يلزمه أخذ الكل، ولكن له عليه أن يحلفه ما اشترى منه إلا النصف، فإن حلف كان شاهدا لفلان بشراء النصف الآخر يحلف مع شهادته إن كان عدلا ويأخذه، وإن نكل عن اليمين حلف صاحب الثوب أنه ما باعه إلا من الأول ولم يكن له شيء، وإن نكل الأول عن اليمين فحلف صاحب الثوب وألزمه أخذ جميع الثوب لزمه أن يدفع نصف الثوب إلى الثاني الذي أقر له أنه اشترى الثوب معه إن أراد أخذه، وإن لم يرد أخذه وأراد هو أن يلزمه

(8/36)


إياه لزمته له اليمين أنه ما اشتراه معه، فإن حلف انفرد الأول بالثوب، وإن نكل عن اليمين حلف الأول لقد اشتراه معه وألزمه النصف فكانا فيه شريكين. وقوله في الذي قال: اشتريت هذه السلعة من فلان وقال البائع: بل بعتك أنت وفلانا أنه إن طلبها ذلك الفلان الذي أقر له صاحب السلعة بالبيع أخذ ذلك إلا أن يكون للآخر بينة بين لا إشكال فيه ولا وجه للقول. وأما قوله: وإن لم يطلب ذلك فأراها كلها لهذا الذي زعم أنه اشتراها كلها وليس للبائع حجة؛ لأنه قد أقر ببيعها كلها وإخراجها من يديه، ليس بوجه القياس، وإنما هو استحسان، وقول أصبغ هو القياس؛ لأن من حجة البائع أن يقول: إنما بعت منك النصف، فلا يلزمني أن أعطيك الكل بدعواك من أجل إقراري أني بعته من غيرك. واستحسان ابن القاسم في هذه المسألة مثل استحسان أشهب في كتاب الخيار من المدونة في الذي اشترى سلعة بالخيار فمات واختلف ورثته فقال بعضهم: نرد، وقال بعضهم: نجيز، إن للذين أجازوا في الاستحسان أن يأخذوا مصابة الذين أرادوا الرد إن لم يرد البائع أن يلتزم مصابة الذين أرادوا الرد وقال: إما أن تجيزوا جميعا وإما أن تردوا جميعا من أجل أن البائع قد رضي ببيعها كلها، فإذا أخذها كلها بعض الورثة لم تكن له حجة على وجه الاستحسان، وأما على وجه القياس فله حجة إذ لا يلزمه أن يبيع لبعضهم ما يجب لجميعهم، وإما أن يأخذوا جميعا وإما أن يردوا جميعا، ويلزم في المسألة الأولى على طرد استحسان ابن القاسم في هذه إذا قال: اشتريت من فلان أنا وفلان هذه السلعة بكذا وكذا فقال البائع: بل بعتك أنت وحدك أن يكون لفلان أن يأخذ نصف السلعة فتكون لهما جميعا ولا تكون للبائع حجة؛ لأنه قد أقر ببيعها كلها بالثمن من هذا، وكذلك المسألة التي ساق أصبغ على هذه تفرقة ابن القاسم فيها استحسان، وقول أصبغ فيها هو القياس لاتفاقهم في مسألة اليمين بالعتق والطلاق على أنه لا فرق في ذلك بين أن يقدم العتق والطلاق فيقول: عبدي حر أو امرأتي طالق إن فعلت كذا وكذا، أو يؤخره فيقول: إن فعلت فعبدي حر أو امرأتي طالق، في أن الطلاق والعتق لا يلزمه إلا بفعل الشيء الذي حلف عليه، وأنه لا يقال إذا قدم الطلاق والعتق إن ذلك قد

(8/37)


لزمه وأن قوله: إن فعلت كذا وكذا ندم منه أراد أن يسقط به عن نفسه ما قد لزمه من العتق والطلاق، وهذه مسألة قد اختلف فيها قول ابن القاسم، فله في الغصب من المدونة خلاف قوله هنا مثل قول أصبغ في الذي يقر بالخاتم أو بالثوب أو بالبقعة ويقول في الفص أو البطانة أو في البنيان إنه له أنه يصدق إذا كان قوله نسقا، وله في كتاب أشهب من كتاب الدعوى والصلح في الذي يقر أن البقعة بينه وبين فلان ويقول: إن البنيان تابع للبقعة ولا يصدق مثل قوله هنا خلاف قول أصبغ. وقد مضت من هذا المعنى مسألة في رسم كتاب عليه ذكر حق من سماع ابن القاسم من كتاب الأيمان بالطلاق، وفي رسم سلف من سماع عيسى منه هي أشكل من هذه لمعنى زائد فيها، وقد مضى من القول عليها هناك ما فيه بيان لهذه، وبالله التوفيق.

[يبيع الشاة ويستثني جلدها]
ومن كتاب البيوع الثاني وقال ابن القاسم في الذي يبيع الشاة ويستثني جلدها حيث يجوز فيه فتموت الشاة إن المشتري ضامن للجلد.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة والقول فيها مستوفى في أول رسم أوصى ورسم حمل صبيا من سماع عيسى فلا معنى لإعادته.

[مسألة: اشترى عبدا من رجل ولم يستثن ماله]
مسألة وسمعته يقول في رجل اشترى عبدا من رجل ولم يستثن ماله ثم أراد أن يشتري ماله بعد ذلك، قال: إن كان ذلك بقربه فلا بأس بذلك، وإن طال فلا ينبغي له لأنه لا يدري كم هو وهل نقص أم لا؟ قال أصبغ: أو زاد بتجارة أو فائدة، وقال ابن القاسم: ليس شيء من ذلك بمضمون على السيد، قال: فإن ابتاعه بحضرة ذلك أخذ ما وجد ولم يكن على البائع أن يوفيه شيئا؛ لأنه ليس

(8/38)


شيء من ذلك بمضمون عليه. قال ابن القاسم: ولو أن رجلا قال لرجل: أبيعك غلامي هذا وله مائة دينار أوفيكها كان هذا بيعا لا يصلح ولا يحل.
قال محمد بن رشد: قد مضى في أول رسم من سماع عيسى القول على شراء مال العبد المجهول بعد الصفقة إذا لم يشترط في الصفقة مستوفى فلا معنى لإعادته مرة أخرى، وأما إذا سمى مال العبد فقال: وهو كذا وكذا فلا اختلاف في أنه لا يجوز اشتراطه في الصفقة ولا شراؤه بعد الصفقة إلا بما يجوز شراؤه به على وجه البيع. وقوله: ولو أن رجلا قال لرجل: أبيعك غلامي هذا وله مائة دينار أوفيكها كان هذا بيعا لا يصلح ولا يحل، معناه أنه إذا اشتراه بدنانير أو بدراهم لأنه إذا اشتراه بدنانير كان عبدا ودنانير بدنانير، وإذا اشتراه بدراهم كان عبدا ودنانير بدارهم، فدخله البيع والصرف، وهو عنده لا يجوز خلافا لأشهب. وأما إن اشتراه بعرض فذلك جائز عند الجميع، هذا الذي كنت أقوله في هذه المسألة وأعتقده فيها، وقد تقدم من قولي في غير هذا الموضع، والذي أقول به الآن: إنه جائز للرجل أن يشتري العبد ويستثني ماله عينا كان أو عرضا، سماه أو لم يسمه بالدينار والدراهم نقدا وإلى أجل لأنه إنما يستثنيه للعبد لا لنفسه، فجاز معلوما كان أو مجهولا، وذلك بين من قول مالك في موطأه: الأمر المجتمع عليه عندنا أن المبتاع إذا اشترط مال العبد فهو له نقدا كان أو دينا أو عروضا يعلم أو لا يعلم، وذلك أن مال العبد له، وإن كانت جارية استحل فرجها. ولو استثنى المشتري مال العبد لنفسه لما جاز سماه أو لم يسميه إلا أن يسميه فيشتريه بما يجوز اشتراؤه به، وإنما قال في هذه الرواية في الذي قال: أبيعك غلامي وله مائة دينار أوفيكها: إن ذلك بيع لا يصلح ولا يحل من أجل قوله أوفيكها لأنه إن اشترط عليه أن يوفيه إياها فقد استثناها لنفسه في ظاهر أمره، فوجب ألا يجوز، ولو بين فقال: أوفيكها مالا له أو أوفيها إياه لجاز، فإذا قال الرجل: أشتري منك العبد وماله لم يجز إلا أن يكون ماله معلوما فيشتريه بما يجوز شراؤه به، وإذا قال: أشتريه

(8/39)


منك بماله أو أشتريه منك وأستثني عليك ماله جاز معلوما كان أو مجهولا لأنه إذا اشتراه بماله أو اشتراه وشرط ماله فإنما اشتراه على أن يبقى ماله له بعد الشراء كما كان قبل الشراء.

[مسألة: الكتان يشترى حطبا ويشترط المشتري على البائع بَلّه]
مسألة قال أصبغ: سمعت ابن القاسم وسئل عن الكتان يشترى حطبا ويشترط المشتري على البائع بَلّه؟ قال: إن كان بَلّه شيئا معروفا قدره وقدر النصب فيه فلا بأس، ولكن إن كان الكتان يختلف عند خروجه من البلل فلا خير فيه لأنه كأنما اشترى ما يخرج ولا يدري كيف يخرج، وقد جاءني قوم وسألوني عنه وقالوا لي: إنه يختلف يخرج الجرات الرديء والطيب فقلت: لا خير فيه، فكل شيء يختلف عند خروجه وليس بمأمون فلا خير فيه.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال لأنه بيع وأجرة في الشيء المبيع فلا يجوز على مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك إلا أن يكون قدر العمل معروفا ووجه خروجه معلوما لا يختلف، وسحنون لا يجيزه بحال. وقد مضى القول على هذا مستوفى في رسم حلف من سماع ابن القاسم.

[مسألة: يبيع سلعة بثمن إلى ثلاثين سنة أو عشرين]
مسألة قال أصبغ: وسألت ابن القاسم عن الذي يبيع سلعة بثمن إلى ثلاثين سنة أو عشرين، قال: أما ثلاثين فلا أدري، ولكن عشرة وما أشبهه. قلت: يكره أن يكون إلى العشرين وما أشبهه؟ قال: نعم،

(8/40)


قلت: فوقع أتفسخه؟ قال لي: لا أفسخه، ولكن لو كان سبعين أو ثمانين لفسخته، قلت: وكذلك النكاح أيضا إذا وقع الصداق مؤجلا إلى عشرين سنة وما أشبهها لم تفسخه؟ قال لي: نعم، قلت: وتكره أن يقع به النكاح كما تكره أن يقع به البيع؟ قال: نعم، وقد قال لي في الثلاثين أيضا: إن وقع به النكاح جاز، وكذلك البيع عندي. قال أصبغ: ولا أرى بذلك بأسا ابتداء إلى الخمس عشرة والعشرين؛ لأن مالكا قد سئل عن العبد يؤاجره سيده الخمس عشرة سنة ونحو ذلك فقال: لا بأس بذلك وذلك جائز، والنكاح في ذلك أبين وآمن.
قال محمد بن رشد: اتفق مالك وجميع أصحابه فيما علمت اتفاقا مجملا في النكاح يقع بمهر مؤجل إلى أجل بعيد أنه لا يجوز ويفسخ إذا وقع، واختلف في حده على أربعة أقوال: أحدها أنه يفسخ فيما فوق العشرين، وهو قول ابن وهب، وقد كان ابن القاسم جامعه عليه ثم رجع عنه، والثاني أنه لا يفسخ إلا فيما فوق الأربعين، وإليه رجع ابن القاسم فيما كان جامع عليه ابن وهب على ما حكاه ابن حبيب، والثالث أنه لا يفسخ إلا في الخمسين والستين، والرابع أنه لا يفسخ إلا في السبعين والثمانين، وهو قول ابن القاسم في هذه الرواية، واختلف في العشرين فما دونها على خمسة أقوال أيضا: أحدها أنه يكره في القليل والكثير منها، وهو أحد قولي ابن القاسم في كتاب ابن المواز وقول مالك في المدونة، واعتل لكراهيته بالاتباع فقال: إنه ليس بنكاح من مضى، ومن الحجة له أن الله لم يذكر في ذلك الأجل كما ذكره في البيع فقال: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء: 4] وقال في الإماء: {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 25] وقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في الحديث للذي سأله أن يزوجه

(8/41)


المرأة التي كانت وهبت نفسها له: «هل عندك من شيء تصدقها إياه» دليل بين على أن النكاح يكره ابتداء بالمهر المؤجل لأنه لما أخبره أنه ليس عنده شيء ولا خاتما من حديد إلا إزاره أنكحه إياها بما معه من القرآن ولم يجعل عليه الصداق دينا مؤجلا، والثاني أنه يجوز في السنة ويكره فيما جاوز ذلك وهو قول ابن وهب، والثالث أنه يجوز في السنتين والأربع ويكره فيما جاوز ذلك وهو أحد قولي ابن القاسم في كتاب ابن المواز، والرابع أنه يجوز في العشر ونحوها ويكره فيما جاوز ذلك وهو قول ابن القاسم في رواية أصبغ هذه وقول أصبغ في الواضحة ومذهب أشهب؛ لأنه زوج ابنته وجعل مؤخر مهرها إلى اثنتي عشرة سنة، والخامس أنه يجوز في العشرين فما دونها وهو قول أصبغ في هذه الرواية وظاهر قول ابن القاسم وابن وهب في كتاب ابن المواز، ومساواة ابن القاسم بين البيع والنكاح فيما يكره فيهما من الأجل ابتداء وفيما لا يجوز ويفسخ به البيع والنكاح هو القياس؛ لأنهما معاوضتان لا يجوز فيهما الغرر، فوجب أن يستويا فيما يجوز فيهما من الأجل وما لا يجوز، وقد ذكرنا وجه تفرقة من فرق بينهما ولم يعتبر في

(8/42)


ظاهر قوله ما بقي من عمر الزوج والمشتري الذي يعمر إليه المفقود، وهو قول أشهب في الدمياطية سئل عن الزوج يتزوج المرأة بمهر مؤجل إلى أجل كم الأجل؟ قال: ما شاء إن شاء ثلاثين سنة، قيل له: فإن كان كبيرا، لا يعيش إلى مثلها؟ قال: لا أدري ما يعيش أرأيت الذي يتزوج إلى عشر سنين أليس لا يدري أيعيش إلى ذلك الأجل أم لا؟ فإن كان يدخل في هذا الغرر فهو يدخل في هذا أو معنى ما تتكلم عليه عندي في الكبير الذي لا يعيش إلى مثلها في الغالب، وقد يعيش إلى مثلها في النادر. وأما لو كان كبيرا يعلم أنه لا يعيش إلى ثلاثين سنة مثل أن يكون يوم تزوج أو اشترى السلعة ابن مائة سنة وما أشبه ذلك لما انبغى أن يجوز ذلك لأنه كمن تزوج أو اشترى إلى موته، وقد قال أبو إسحاق التونسي: وإذا حقق هذا فإنما كرهوا البيع والنكاح إلى الأجل البعيد الذي يجاوز عمر الإنسان لأنه يصير غررا لحلوله بموته، ولو كان ابن ستين فنكح أو اشترى إلى عشرين سنة لم يجز لأن الغالب أنه لا يعيش إلى ذلك، فأما ابن عشرين ينكح إلى عشرين أو يشتري إلى عشرين فكان الواجب إجازته، فما الأغلب أنه يعيش إليه جاز باتفاق، وما لا يعيش إليه لا يجوز باتفاق، وما الأغلب أنه لا يعيش إليه يجوز على الاختلاف، فهذا تحصيل القول في هذه المسألة، وبالله التوفيق.

[باع جارية وأشهد للمشتري بعد البيع أن لا نقصان عليه]
ومن كتاب القضاء وقال في الذي باع جارية وأشهد للمشتري بعد البيع أن لا نقصان عليه فإنه يلزم البائع الشرط ولا يحل للمشتري أن يطأ، قال أصبغ: وذلك إذا رضي ما أشهد له به وقبله، قال ابن القاسم: فإن وطأ لزمه الثمن لأنه قد ترك ما جعل له.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال إنه إذا قال له بعد البيع بع ولا نقصان عليك يلزمه؛ لأن معنى قوله بع ولا نقصان عليك، أي بع والنقصان علي، فهو أمر قد أوجبه على نفسه، والمعروف على مذهب مالك وجميع

(8/43)


أصحابه لازم لمن أوجبه على نفسه يحكم به عليه ما لم يمت أو يفلس، وسواء قال ذلك له قبل أن ينتقد أو بعد ما انتقد، إلا أن يقول له قبل أن ينتقد انقدني وبع ولا نقصان عليك فلا يجوز ذلك لأنه يدخله بيع وسلف، وقال في سماع عيسى من كتاب العدة إن ذلك لا خير فيه لأنه يكون فيه عيوب وخصومات، فإن باع بنقصان لزمه أن يرد عليه النقصان إن كان قد انتقد وألا يأخذ منه أكثر مما باع إن كان لم ينقد، وهذا إذا لم يغبن في البيع غبنا بينا وباع بالقرب ولم يؤخر حتى تحول الأسواق، فإن وخر حتى حالت الأسواق فلا شيء له لأنه قد فرط، والقول قوله مع يمينه في النقصان إلا أن يأتي بما يستنكر فلا يصدق، وقاله ابن نافع، واختلف إذا كان عبدا فأبق أو مات فقيل: إنه لا شيء له، وقيل: إنه موضوع عن المشتري، وهو اختيار ابن القاسم في سماع عيسى من الكتاب المذكور، وأما إن كان ثوبا أو مما يغاب عليه فلا يصدق في تلفه إلا ببينة، وأما إذا باع منه على أن لا نقصان عليه فلا يجوز، واختلف إذا وقع، فقيل: إنه بيع فاسد يحكم فيه بحكم البيع الفاسد، وقيل: إنه ليس ببيع فاسد وإنما هي إجارة فاسدة وسيأتي القول على هذا في موضعه من كتاب العدة إن شاء الله.

[مسألة: بيع المقاثي في جائجتها]
مسألة قال أصبغ: وسألت أشهب عن المقاثي في جائجتها فقال لي: يوضع القليل منه والكثير ما أصيب منه من شيء، قلت: وإن كان أقل من الثلث بطن منها؟ قال: نعم، وأراها بمنزلة البقلة، قال أصبغ: ليس هذا من قوله عندنا بشيء، وهو خلاف قول مالك وأصحابه كلهم.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال أصبغ إن قوله شاذ في المذهب، ومعناه في مقاثي الفقوس لا في مقاثي البطيخ، ووجهه أن الفقوس لما لم يكن له بقاء في أصوله وكانت تجنى صغارا وكبارا أشبهت البقول في استعجال جدها، فوضعت الجائحة في القليل والكثير منها

(8/44)


بخلاف الثمار التي يحتاج إلى بقائها في الأصول إلا أن يتناهى طيبها أي لا يوضع في الحائجة فيها اليسير، إذ قد علم المشتري أنه لا بد أن يذهب منها اليسير بالطير والعافية والسقوط وما أشبه ذلك، فدخل على ذلك، وبالله التوفيق.

[مسألة: صلاح مقاثي البطيخ التي يحل بيعها به]
مسألة قال أصبغ: وسألت أشهب عن صلاح مقاثي البطيخ التي يحل بيعها به أهو أن يوكل فقوسا أو بطيخا؟ فقال: بل هو أن يؤكل فقوسا. قال أصبغ: فقوسا بطيخا قد انتهى للبطيخ، فأما الصغار فلا.
قال محمد بن رشد: قول أصبغ خلاف لقول أشهب، جائز على مذهب أشهب اشتراء المقاثي إذا عقدت وصلح بيعها وإن كان يريد أن يتركها حتى تصير بطيخا كما يجوز شراء الثمار إذا بدا صلاحها وإن كان يريد أن يتركها حتى تيبس. وقد قيل: إنه لا يجوز شراء الثمار بعد طيبها على أن تترك حتى تيبس، والقولان قائمان من المدونة؛ لأنه لم يجز فيها شراء الفول أخضر على أن يترك حتى ييبس، وذلك معارض لقوله في النخل والعنب إذا اشتراه وهو أخضر ثم أصيب بعد أن يبس إنه لا جائحة فيه؛ لأن الظاهر منه إجازته على أن يتركه حتى ييبس، وهو المشهور في المذهب من القولين، وعلى الثاني يأتي قول أصبغ.

[يبتاع العبد على أن يعتقه]
ومن كتاب المدبر والعتق قال أصبغ: سمعت ابن القاسم يقول في الذي يبتاع العبد على أن يعتقه فلا يعتقه حتى يفوت العبد عند المشتري والبائع يظن أن قد كان أعتقه ثم يعلم ذلك وفات العبد بموت أو نقصان أو نماء دخله مما هو فوت، قال: أرى أن يغرم المشتري للبائع ما نقص من قيمته يوم اشتراه وقاله أصبغ، ويكون العبد للمشتري يصنع به ما شاء إذا ضمنه للبائع بقيمته، ويبلغ في القيمة قيمته

(8/45)


بغير شرط للعتق، وليس عليه حينئذ عتقه إذا كان فوتا بعيدا بالعيوب المفسدة والنقصان المتفاحش والزيادة المتباينة وغير ذلك من غير الموت، فإن كان فوته بغيرها مثل الغير في البدن بالزيادة والنقصان واختلاف الأسواق بالأمر القريب فالمشتري بالخيار: يعتق كما اشترى ولا شيء للبائع، أو يرد إلا أن يشاء البائع إنفاذه له بالثمن الأول عبدا إن شاء أعتق وإن شاء ترك فيلزم ذلك المشتري. وإن كان فوته في المسألة بموت فلم يعمق فقد فات الرد والإشراء فأرى إن كان يرى أن البائع وضع من الثمن لاشتراط العتق وخفف عنه في ذلك أن يرجح بتمام ذلك تمام القيمة على ما يساوي يومئذ، وإن كان قد استقصى وقارب القيمة فلا أرى له شيئا، وهذا إذا شرط المشتري وترك وتهاون حتى تطاول ذلك قبل موت العبد، فإن لم يفرط ولم يطل وقد فات بحرارة البيع وفوره وقربه وما يكون في مثله الرأي والنظر والارتياء له فإن مات فلا أرى على المشتري شيئا ولا له ولا للبائع ولا عليه.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول عليها مستوفى في رسم القبلة من سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادته.

[بيع شعر الخنزير]
ومن كتاب الجامع قال أصبغ: سمعت ابن القاسم يقول: لا بأس ببيع شعر الخنزير خنزير الوحش، وهو مثل صوف الميتة، وكذلك رواها أبو زيد. قال أصبغ: هذا خطأ لا خير في ذلك، وليس مثل صوف الميتة ولا حق لبائعه، وهو مثل الميتة الخالصة كلها وأشر، كل شيء منه محرم حي وميت، وصوف الميتة إنما حل لأنه حلال منها وهي حية وشعر الخنزير ليس بحلال حيا ولا ميتا فلا يباع ولا

(8/46)


يؤكل ثمنه ولا تجوز التجارة فيه، والكلب أحل منه وأطهر، وثمنه لا يحل، وقد حرمه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين نهى عن ثمنه.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم هو الصحيح في القياس على أصل مذهب مالك في أن الشعر لا تحله الروح وأنه يجوز أخذه من الحي والميت كان مما يؤكل لحمه كالأنعام والوحوش أو مما لا يؤكل لحمه كبني آدم وكالخيل والبغال والحمير وكالقرود التي قد أجمع أهل العلم على أنه لا تؤكل لحومها أو مما يكره أكل لحمه كالسباع، فوجب على هذا الأصل أن يكون شعر الخنزير طاهر الذات أخذ منه حيا أو ميتا تحل الصلاة به وبيعه لأن الله تعالى إنما حرم لحمه خاصة دون ما سوى ذلك منه بقوله تعالى: {وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ} [البقرة: 173] فوجب أن يكون شعره موقوفا على النظر، وقد بينا ما يوجبه النظر فيه على أصل مذهب مالك، وأما قول أصبغ فليس ببين لأنه أتي فيه بقياس فاسد وعبر عنه بعبارة غير صحيحة، قال: وصوف الميتة إنما حل لأنه حلال منها وهي حية، وشعر الخنزير ليس بحلال حيا ولا ميتا. ووجه فساده أن المخالف له في شعر الخنزير لا يفرق بين أخذه حيا وميتا، بل يقول: إنه حلال أن يؤخذ منه حيا وميتا فلا تلزمه الحجة بقياسه في أنه لا يجوز له أخذه منه ميتا إلا بعد أن يوافقه على أنه لا يجوز أن يؤخذ منه حيا ويقول له: إنه يجوز أن يؤخذ منه ميتا، وذلك ما لا يشبه أن يقوله أحد، وإنما الذي يشبه أن يقال: إنه يجوز أن يؤخذ منه حيا ولا يجوز أن يؤخذ منه ميتا قياسا على سائر الحيوان، فهذا بين في إفساد قياسه، والعبارة الصحيحة فيه على فساده أن يقول: وصوف الميتة إنما حل لأنه حلال منها وهي حية، فلما كان صوف الميتة إنما حل من أجل أنه يجوز أن يؤخذ منها في حال الحياة وجب ألا يحل أخذ شعر الخنزير الميت من أجل أنه لا يحل أن يؤخذ منه في حال الحياة، فلو قال هكذا لكان التعبير مستقيما والقياس

(8/47)


فاسدا، فعاد قوله إلى أنه ليس بقياس ولا حجة، وإلى أنه ليس فيه أكثر من مجرد قوله وشعر الخنزير ليس بحلال حيا ولا ميتا فلا يباع ولا يؤكل ثمنه ولا تجوز التجارة فيه. وأما قوله: والكلب أحل منه وأطهر، وثمنه لا يحل، وقد حرمه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين نهى عن ثمنه، فليس بحجة إذ لم يحرم ثمنه لنجاسته إذ ليس بنجس، ألا ترى أنه لو وقع في بئر أو جب وخرج منه حيا لم ينجس ذلك الماء بإجماع، وقد حرم الشرع أثمان كثير من الطاهرات من ذلك ثمن الحر ولحم النسك وما سواه كثير، فلا دليل في تحريم ثمنه على أنه إنما حرم لنجاسة ذاته.

[مسألة: قال بعني عبدك هذا فقال صاحبه إن فلانا قد أعطاني فيه مائة دينار]
مسألة وقال في رجل قال: بعني عبدك هذا، فقال صاحبه: إن فلانا قد أعطاني فيه مائة دينار، فقال: أنا آخذه بما أعطاك فلان، فدفع إليه مائة دينار، ثم سأل فلان فقال: والله ما أعطيته إلا خمسين، قال: تلزمه المائة ولا ينظر إلى قول فلان هذا، ثم قال لي بعد ذلك: إلا أن تقوم بينة.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة والقول فيها في رسم صلى نهارا من سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادته.

[مسألة: بيع ما بقي مما يكال أو يوزن مرابحة]
مسألة قال أصبغ: سمعت ابن القاسم يقول: ما اشتريت من جميع الأشياء مما لا يكال ولا يوزن فبدت بعضه فلا تبع ما بقي منه ولا جزءا مما بقي مرابحة حتى تبين أنك قد بعت منه، فإن لم تفعل وبعت مرابحة وكتمته ذلك فهو بيع مردود يرده المبتاع إن أحب، وإن فات كانت فيه القيمة، قال أصبغ: لأنه كعيب مدلس كالذي يبيع الصب؛ قد علم كيلها وكتمه سواء. قال ابن القاسم: وما اشتريت

(8/48)


من جميع الأشياء مما يكال أو يوزن من الطعام أو غيره فبعت بعضه فلا بأس أن تبيع ما بقي مرابحة ولا تبين أنك بعت منه شيئا وليس عليك أن تبين، وقاله أصبغ.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة والقول فيها في رسم حبل حبلة من سماع عيسى فلا معنى لإعادته والله الموفق.

[بزازا حضر زياتا يشتري زيتا في سوق الزيت لم يكن له معه شرك]
من مسائل نوازل
سئل عنها أصبغ بن الفرج
قيل لأصبغ: أرأيت لو أن بزازا حضر زياتا يشتري زيتا في سوق الزيت لم يكن له معه شرك؟ قال: نعم، لا يدخل البزازون على الزياتين ولا الزياتون على البزازين ولا على الحناطين ولا على النغاسين ولا على باعة الدواب والصوافين إنما أهل كل تجارة يدخل بعضهم على بعض ولا يدخل أهل هذه التجارة على أهل غيرها، قلت: فلو كان رجل يحتكر هذه الأشياء كلها ويتجربها أترى له أن يدخل في جميع السلع التي يتجربها حيث وجد من يشتريها في أسواقها وتجب له الشركة على مشتريها إذا حضر الصفقة؟ قال: نعم أرى ذلك؛ لأنها من تجارته، قلت: أرأيت من اشترى من هؤلاء سلعة من هذه السلع فلما تم له الشراء قال له القوم: أشركنا، قال: إني لم أشترها لتجارة، وإنما اشتريتها للقوت إن كان طعاما أو للخدمة إن كان رقيقا أو للركوب إن كانت دواب أو للبس إن كانت ثيابا؟ قال: أرى القول قوله في

(8/49)


ذلك، وليس عليه فيما اشترى لغير تجارة شرك لأحد، قلت: وهو عندك مصدق إذا قال لم أشترها لتجارة؟ قال: نعم، أراه مصدقا إلا أن يستدل على كذبه مما يرى من كثرة تلك السلع ويعلم أن مثله في كثرتها وعظم قدرها لا يشترى إلا للتجارة وطلب الفضل، فإذا كان مثل هذا لم يصدق ودخلوا معه فيها، قلت: فلو لقي سلعة تباع في بعض الأزقة أو الدار فسام صاحبه بها وقد حضره رجل من أهل تلك السلعة فسأله الشركة فأبى أن يشركه هل ترى له معه شركا؟ قال: لا شرك له فيها، قد أعلمتك أن الشركة لا تكون في السلعة إلا في مواقفها وأسواقها المعروفة، وليس على من اشترى سلعة في غير أسواقها ومواقفها شرك لأحد من أهلها ولا من غيرهم.
قال محمد بن رشد: ذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلى أنه يقضي لأهل الأسواق بالشركة فيما ابتاعه بعضهم بحضرتهم للتجارة على غير المزايدة ورأى ذلك أرفق بهم من إفساد بعضهم على بعض وتابعه على ذلك جميع من أصحابه، واختلف من هذه المسألة في ثلاثة مواضع: أحدها هل ذلك في جميع السلع أو في الطعام وحده، فروى أشهب عن مالك أنه في الطعام وحده، وقال ابن القاسم في سماع أبي زيد من كتاب الشركة وغيره من أصحاب مالك وهو قول أصبغ هنا وقول ابن حبيب في الواضحة: إن ذلك في الطعام وغيره من الدواب والسلع، والثاني هل ذلك في السوق وغير السوق من الطرق والأزقة أو في السوق وحده؟ فذهب أصبغ في هذه الرواية إلى أن ذلك في السوق خاصة، وذهب ابن حبيب إلى أن ذلك في السوق وغيره ما لم يشترها في حانوته أو في داره، والثالث هل ذلك لجميع التجار أو لتجار تلك السلعة؟ فقال أصبغ: إنما ذلك لتجار تلك السلعة خاصة، ولا شرك لأحد على أحد في سلعة ليست من تجارته، وقاله ابن حبيب في الواضحة، وسواء كان المشتري لتلك السلعة من تجار تلك السلعة أو لم يكن. وقال ابن الماجشون في الثمانية إن ذلك لجميع من حضر

(8/50)


الشراء من التجار كانت تلك السلعة من تجارته أو لم تكن، فالتجارة لازمة لأهل الأسواق فيما اشتروه للتجارة على غير المزايدة لما كان من الطعام في سوق الطعام لأهل التجارة في ذلك النوع من الطعام باتفاق، ولما كان من غير الطعام وإن كان ذلك في سوق تلك السلعة أو في غير السوق، وإن كان من الطعام أو لغير أهل التجارة في ذلك النوع باختلاف. وقوله في غير السوق أعني في بعض الأزقة. وأما ما ابتاعه الرجل في داره أو حانوته فلا شرك لأحد معه ممن حضر باتفاق، فإذا اشترى الرجل الطعام في سوق الطعام للتجارة بحضرة غيره من التجار فيه وهم سكوت فلما تم له الشراء قالوا له: أشركنا كان ذلك من حقوقهم، وليس له هو أن يلزمهم الشراء بحضرتهم وسكوتهم إن تلف الطعام أو ظهرت فيه خسارة، ولو قالوا له وهو يسوم فيه: تشركنا في هذا الطعام؟ فقال لهم: نعم أو سكت ولم يقل لهم شيئا لكانت الشركة لازمة لهم يقضى بها لكل واحد منهم على صاحبه؛ لأن سكوته مع حضورهم كقوله نعم، ولو قال لهم لا لم يلزمه لهم شركة لأنه قد أنذرهم ليشتروا لأنفسهم إن شاؤوا، فإذا لم يفعلوا وتركوه يشتري ولم يزيدوا عليه فقد سلموا له الشراء، ولو قالوا له وهو يسوم: أشركنا واشتر علينا فسكت ولم يجبهم بشيء فذهبوا واشترى بعد ذهاب ثم جاؤوه فسألوه الشركة لم يلزمه ذلك، ويحلف بالله ما أشركهم ولا اشترى عليهم، ولو طلبهم هو بالشركة لتلف السلعة أو خسارة ظهرت له فيها للزمتهم لسؤالهم إياها، ولو قال لهم: نعم لكانت الشركة واجبة له عليهم ولهم عليه، وكذلك القول فيه إذا اشتراه في غير سوقه أو كان الذين وقفوا عليه من غير أهل التجارة به وفي غير الطعام من الحيوان والسلع كلها في سوقها أو في غير سوقها لتجارها ولغير تجارها على القول بوجوب الشركة في ذلك كوجوبها في الطعام المشترى في سوقه للتجارة له. وقوله إنه مصدق فيما اشترى إذا قال إنه لم يشتره للتجارة ما لم يتبين كذبه، معناه مع يمينه، وقد مضى في آخر سماع أشهب طرف من هذه المسألة.

(8/51)


[مسألة: تم البيع فقال المشتري أنا أشركتك بالثلث أو الربع وقال المشرك بل بالنصف]
مسألة قلت: فلو اشترى رجل سلعة حيث لا يجب على المشتري الشركة فقال له رجل: أشركني، فقال: نعم، فلما تم البيع قال المشتري: أنا أشركتك بالثلث أو الربع، وقال المشرك: بل بالنصف، قال: إذا كان إنما أشركه شركة مبهمة لم يسم له شيئا عند الشركة قبل الشراء وإنما وقع التداعي بعد الصفقة فالقول قول المشتري إذا كانا قد اجتمعا على أن الشركة كانت مبهمة، وإن زعم المشتري أنه قد بين عند الشركة أنه إنما يشكره بثلث أو ربع، وادعى المشرك أكثر من ذلك حلف المشتري ما أشركه بالنصف، فإن نكل عن اليمين حلف المشرك وكان له النصف، فإن نكل عن اليمين فليس له إلا ما أقر له به. وهذا إذا كانت السلعة قائمة، فأما لو فاتت بتلف فزعم المشتري أنه أشركه بالنصف وألزمه نصف الثمن وقال المشرك بالربع فالمشتري مدع وعلى المشرك اليمين ما أشركه إلا بالربع ويبرأ، فإن نكل عن اليمين حلف المشتري أنه أشركه بالنصف وألزمه نصف الثمن، فإن نكل عن اليمين فليس له إلا ما أقر له به المشرك، إلا أن تباع بوضيعة فالقول قول المشرك لأنه مدعى عليه، وإن بيعت بزيادة فالقول قول المشتري لأنه مدعى عليه يؤخذ منه.
قال محمد بن رشد: قوله إذا اجتمعا على أن الشركة كانت مبهمة فالقول قول المشتري فيما زعم من أنه إنما أشركه بالشك يريد دون يمين بدليل قوله وإن زعم أنه قد بين عند الشركة أنه إنما يشركه بثلث أو ربع وادعى المشرك أكثر من ذلك حلف، إذا لم يوجب عليه اليمين إلا أن يدعي عليه المشرك أكثر مما أقر أنه أشركه به، وذلك حلف، إذ في رسم سن من سماع ابن القاسم من كتاب الشركة من أنهما إذا لم يبينا شيئا فالقول قول

(8/52)


المشتري مع يمينه أنه إنما أراد الثلث أو الربع. والاختلاف في هذا على اختلافهم في لحوق يمين التهمة، إذ لا يمكن للمشرك أن يحقق الدعوى على المشتري بأنه أراد أكثر مما ذكر أنه أراده من الثلث أو الربع، وقد مضى هذا المعنى في رسم الأقضية الثاني من سماع أشهب وفي آخر أول رسم من سماع أصبغ. وفي قوله وإن زعم المشتري أنه قد بين عند الشركة أنه إنما يشركه بثلث أو ربع وادعى المشرك أكثر من ذلك حلف المشتري ما أشركه بالنصف، فإن نكل عن اليمين حلف المشرك وكان له النصف نظر، إنما الصواب أن يحلف المشتري ما أشركه إلا بالثلث أو الربع الذي أقر به، فإن نكل عن اليمين حلف المشرك على ما ادعى كان النصف أو أكثر من النصف ويكون ذلك له. وقوله: وهذا إذا كانت السلعة قائمة صحيح؛ لأن السلعة إذا كانت قد تلفت فالمصيبة على المشرك فيما يزعم أنه أشركه به من السلعة، فهو مقر للمشتري من ثمن السلعة بأكثر مما يدعي، فوجه الحكم في ذلك أن يوقف الزائد، فمن أكذب منهما نفسه ورجع إلى قول صاحبه أخذه. وأما قوله: فأما لو فاتت بتلف فزعم المشتري أنه أشركه بالنصف إلى آخر المسألة فهو صحيح إلا قوله: إلا أن تباع بوضيعة فليس بموضع استثناء لأن الاستثناء يخرج المستثني من حكم المستثنى منه، وحكم التلف والوضيعة سواء في أن المشتري مدع على المشرك، فكان صواب الكلام أن يقول فيه وكذلك إذا بيعت بوضيعة فالقول قول المشرك؛ لأنه مدعى عليه. وتحصيل القول في هذه المسألة أن المشتري إذا أشرك في السلعة التي اشترى رجلا حيث لا يجب عليه أن يشركه فيها فاختلفا في مقدار ما أشركه به منها إفصاحا يقول المشتري أشركتك بجزء كذا سميناه، ويقول المشرك بل بجزء كذا أسميناه، والسلعة قائمة لم تتلف ولا بيعت بعد، فالذي يدعي الأكثر منهما هو المدعي كان المشتري أو المشرك، والآخر مدعى عليه يكون القول قوله مع يمينه؛ لأن المشتري إذا قال: أشركتك بالثلثين وقال المشرك: ما أشركتني إلا بالثلث فهو مدع عليه أنه اشترى منه ثلثي السلعة وهو ينكر أن يكون اشترى منه إلا الثلث. وإن كان المشرك قال: أشركتني بالثلثين وقال المشتري: ما أشركتك إلا

(8/53)


بالثلث فهو مدع عليه أنه باع منه ثلثي السلعة والمشتري منكر أن يكون باع منه إلا الثلث فالقول قول المدعى عليه منهما مع يمينه، فإن نكل عن اليمين حلف المدعي واستحق ما حلف عليه، وإن كانت السلعة قد تلفت أو بيعت بوضيعة فالقول قول المشرك الذي يدعي الأقل لأن المشتري يريد أن يلزمه من ثمن السلعة التي قد تلفت أو من الوضيعة فيها ما ينكره، فأما إذا كانت السلعة قد بيعت بربح فالقول قول المشتري الذي يدعي الأقل لأن المشرك يريد أن يأخذ من ربح السلعة ما ينكر أن يكون أشركه به، ولا اختلاف بينهم في شيء من هذا، وكذلك لا اختلاف بينهم في أن السلعة تكون بينهم بنصفين إذا اتفقا على أن الشركة وقعت مبهمة بينهما ولم يدع أحدهما أنه أراد شيئا ولا نواه كانت السلعة قائمة أو قد تلفت أو بيعت بربح أو وضيعة. واختلفوا إذا اتفقا على أن الشركة وقعت بينهما مبهمة فادعى أحدهما والسلعة قائمة لم تفت ولا بيعت بعد أنه أراد أقل من النصف الثلث أو الربع، وقال الآخر: أردت النصف أو لم تكن لي نية على ثلاثة أقوال: أحدها أن القول قول الذي ادعى منهما أنه أراد أقل من النصف كان المشتري أو المشرك دون يمين وهو الذي يأتي على قول أصبغ في هذه المسألة؛ والثاني أن القول قوله مع يمينه، فإن نكل عن اليمين حلف صاحبه على ما ذكره من أن له النصف وأنه لم تكن له نية، وكانت السلعة بينهما بنصفين، وهو الذي يأتي على ما في رسم سن من سماع ابن القاسم من كتاب الشركة؛ والثالث أنه لا يصدق الذي ادعى أنه أراد أقل من النصف وتكون السلعة بينهما بنصفين وهو قول سحنون، ومثله في كتاب ابن المواز بدليل وكذلك إذا كانت السلعة قد تلفت أو بيعت بوضيعة فقال المشرك: أردت الثلث أو الربع وقال المشتري: أردت النصف أو لم تكن لي نية أو كانت قد بيعت بربح فقال المشتري: أردت الثلث أو الربع وقال المشرك: أردت النصف أو لم يكن لي نية يجري ذلك على الثلاثة الأقوال المذكورة، وإن ادعى أحد منهما أنه أراد أكثر من النصف لم يصدق. وأصل هذه في التداعي أن كل من دفع ضرا عن نفسه كان القول قوله، ومن ادعى نفعا لنفسه كان القول قول خصمه. ولو اشترى رجلان سلعة

(8/54)


فأشركا فيها رجلا فقيل: إنها تكون بينهم أثلاثا، وهو قول ابن القاسم في المدونة، وقيل: إنه يكون للمشرك نصف نصيب كل واحد منهما فيكون له نصفها وهو أحد قولي ابن القاسم في سماع عيسى من كتاب الوصايا.

[مسألة: اشترى سلعة من رجل فأتى رجل فسأله أن يوليها إياه بعد صفقته]
مسألة وسئل عن رجل اشترى سلعة من رجل فأتى رجل فسأله أن يوليها إياه بعد صفقته حين انبت له البيع والبائع قائم لم يزل فولاه المشتري على من ترى العهدة والتبعة لهذا المولى؟ فقال: تبعته على الذي ولاه إلا أن يشترط عليه المولى أن تبعته على البائع، فيكون ذلك له إذا كان على ما وصفت من القرب، فأما إن تباعد ذلك ثم ولاها رجلا واشترط عليه أن تباعته على البائع الأول فذلك باطل وعهدته على المولى، قال: ولا أرى بأسا أيضا في المسألة الأولى حيث يجوز له أن يستثني العهدة على البائع الأول أن يولي السلعة ويشترط على المولى أن تباعته على البائع الأول وإن لم يحضر البائع ذلك وكان غائبا عنه إذا كان قريبا لا أبالي حضر البائع الأول أو لم يحضر إذا كان عندما وقعت الصفقة وذهب البائع ولى المشتري رجلا واشترط أن عهدته على البائع لا يضره عندي مغيبه وسواء غاب أو حضر.
قال محمد بن رشد: قول أصبغ هذا مثل قول مالك في الموطأ ومثل ظاهر ما في سماع عيسى من كتاب العيوب خلاف ما في رسم أسلم من سماع عيسى من كتاب السلم والآجال، وقد مضى هناك القول مستوفى فلا معنى لإعادته. وروى يحيى عن ابن القاسم مثل قول أصبغ هذا، وروى عنه أيضا أن الافتراق القريب حكمه حكم ما لم يفترقا، فإن بعد وطال لم تكن العهدة عند الجميع إلا على المولى والمشرك إلا أن يشترطها على الأول ففي جواز ذلك قولان.

(8/55)


[مسألة: شراء ما على الغائب]
مسألة وقال أصبغ: ولا بأس باشتراء ما على الغائب وإن لم يحضر إذا كانت غيبته قريبة وعرف مكانه وصحته وملاؤه ولا بأس باشتراء ما عليه وإن لم يحضر.
قال محمد بن رشد: مثل هذا لابن القاسم في سماع موسى بن معونة الصمادحي من كتاب المدبر، ولم يشترط في جواز ذلك أن يكون على الدين بينة، فقيل معنى ذلك إذا كانت على الدين بينة، وهي رواية داود بن سعيد عن أبي زيد عن مالك، وقيل: إن ذلك على ظاهر قولهما وإن لم يكن على الدين بينة، وذلك كله خلاف لما في غير ما موضع من المدونة من أنه لا يجوز شراء ما على الرجل من دين إلا أن يكون حاضرا مقرا، وقد سقط من بعض المواضع فيها، مقرا، وثبوته يقضي على سقوطه، وسقط أيضا في بعض الروايات في شراء الكفيل ما على الذي تحمل عنه، فقيل: إنه فرق في هذه الرواية بين شراء الكفيل ما تحمل به من الدين وبين شراء الأجنبي ذلك، فأجاز ذلك للكفيل وإن لم يعلم إقراره لأنه مطلوب بالدين ولو أنكر لزمه الغرم، فكأنه إنما اشترى دينا على نفسه لكونه مطلوبا به، وقيل: الرواية بثبوته تقضي على سقوطه، ولا فرق بين الكفيل والأجنبي في هذا وهو الأظهر، إذ قد تكون الحمالة بعد العقد فلا يلزم الحميل شيء إلا بعد إثبات صاحب الدين دينه، وهو أيضا قبل الأجل غير مطلوب بحال، وبعد الأجل قد لا يطلب. فوجه ما في المدونة من اشتراط حضوره وإقراره وهو المشهور في المذهب هو أن شراء ما عليه من الدين لا يجوز إلا بنقد الثمن، فهو لنقد الثمن ولا يدري هل يتم له ما اشترى أو يرجع إليه ماله، فمرة يكون بيعا ومرة يكون سلفا. ووجه ظاهر قول أصبغ وما في سماع موسى من أن شراء ما عليه جائز وإن لم يحضر ولا كانت عليه بينة هو أن الأمر محمول على الصحة من أن البائع صدق فيما زعم أن له عليه من الدين الذي باعه وأن الذي عليه الدين لا ينكر، فلا يتلفت ما يطرأ بعد من إنكاره. ووجه رواية أبي زيد عن مالك أن البينة ترفع علة

(8/56)


الإنكار وإن كان لا يؤمن أن يسقط الدين عن نفسه بتجريح البينة أو إقامة بينة على القضاء فشيء أمر من شيء. ولو قال الرجل للرجل: لي على فلان كذا وكذا فأنا أبيعه منك بكذا وكذا فإن أنكرك صرفت إليك الثمن لم يجز باتفاق، ولو قال الرجل للرجل يعني دينك الذي لك على فلان وأنا أعلم وجوبه لك عليه وإقراره به لك فباعه منه لجاز باتفاق، وإن أنكره بعد كانت مصيبة دخلت عليه، وأما شراء الدين على الميت فلا يجوز باتفاق، وقد مضى ذلك والقول عليه في رسم القبلة من سماع ابن القاسم من كتاب السلم والآجال.

[مسألة: اشترى طعاما بعينه وسأل رجل المشترى أن يوليه الطعام فولاه]
مسألة وسئل أصبغ عن رجل اشترى طعاما بعينه كذا وكذا إردبا وسأل رجل المشترى أن يوليه الطعام فولاه وبائع الطعام غائب لم يحضر حين ولاه المشترى، قال: لا يجوز ذلك عندي إلا بحضور بائع الطعام، وليس الطعام في هذا مثل السلع من غير الطعام؛ لأن الطعام يدخله في هذا بيع قبل استيفاء قبضه قال: ولا بأس أن يولي سلعة له على رجل اشتراها منه بعينها والذي هي عليه غائب إذا كانت غيبته قريبة كما وصفت وعرف موضعه وصحته وملاؤه.
قال محمد بن رشد: جعل مغيب بائع الطعام الذي عنده الطعام كمغيب الطعام، إذ لا يقدر على قبض الطعام حتى يقدم الذي هو عنده الطعام كما لا يقدر على قبض الطعام الغائب حتى يخرج إليه، فإذا كان في حكم الطعام الغائب لم يجز فيه النقد كما لا يجوز في السلع الغائبة، وإذا لم ينقد المولي في الطعام كما نقد المولى دخله بيع الطعام قبل أن يستوفى كما قال، إذ لا يجوز لمن اشترى طعاما بثمن نقدا أن يوليه أحدا

(8/57)


بثمن إلى أجل، فهذا وجه ما ذهب إليه أصبغ في هذه المسألة، وقد مضى في التولية من الطعام الغائب في سماع يحيى من كتاب المرابحة ما فيه دليل على هذه المسألة.

[مسألة: اشترى أرضا شراء فاسدا فقبض الأرض فغرس حولها أشجارا]
مسألة وسئل عن رجل اشترى من رجل أرضا شراء فاسدا فقبض الأرض فغرس حولها أشجارا من تين وزيتون حتى أحاط بالأرض غير أن جلها وأكثرها بياض لم يحدث فيه شيئا فهل تراه فوتا؟ قال: نعم أراه فوتا إذا كانت الشجر قد أحاطت بالأرض كلها وعظمت فيها المؤونة وكان لها بال فأرى الأرض على مشتريها بقيمتها، قيل: فإن كان غرس ناحية منها وجل الأرض بياض كما اشتراها؟ قال: أرى أن يفسخ البيع وترد الأرض البيضاء الكثيرة إلى ربها وتكون الناحية التي غرس فيها فائتة بغراسته، وهي عليه بقيمتها، قلت: فإن كان الذي غرس منها شيئا يسيرا لا بال له؟ قال: أرى فسخ البيع في جميعها ويكون للمشتري الغارس على البائع قيمة غرسه.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة حسنة قوله فيها بين وتفصيله فيها صواب لأن الغرس في الأرض فوت في البيع الفاسد، فإذا أحاط الغرس بها وعظمت المؤونة فيه وجب أن يكون فوتا لجميعها وإن كان جلها بياضا، وإذا كان الغرس بناحية منها وجلها لا غرس فيه وجب أن يفوت منها ما غرس ويفسخ البيع في سائرها، إذ لا ضرر على البائع في ذلك إذا كان المغروس من الأرض يسيرا مما لو استحق من يد المشتري في البيع لزمه الباقي ولم يكن له أن يرده، ووجه العمل في ذلك أن ينظر إلى الناحية التي فوتها بالغرس ما هي من جميع الأرض، فإن كانت الثلث أو الربع فسخ البيع في الباقي بثلثي الثمن أو ثلاثة أرباعه فسقط عن المبتاع إن كان لم

(8/58)


يدفعه ورد عليه إن كان قد دفعه وصحح البيع في الناحية الفائتة بالقيمة يوم القبض، فمن كان له منهما على صاحبه فضل في ذلك رجع به عليه، إذ قد تكون قيمة تلك الناحية أقل مما نابها من الثمن وأكثر، وقد قيل: إن البيع يفسخ في الأرض كلها فيبطل عن المبتاع جميع الثمن إن كان لم يدفعه ويرد إليه جميعه إن كان قد دفعه ويكون عليه قيمة الناحية التي فوت بالغرس بالغة ما بلغت، وهذا القول قائم من الدمياطية لابن القاسم، والأول هو القياس. وقال في الدمياطية: وسئل ابن القاسم عمن اشترى قصبا فنقد بعض الثمن والنصف الباقي شرط فيه إذا كسر نصف القصب وزيادة فدانين على النصف، فلما كسر نصف القصب لزمه بقية الثمن ولم ينتظر به إلى أن يكسر الفدانين، قال: هذا بيع فاسد من أوله، فعليه قيمة ما كسره يوم اشتراه، ويفسخ ما بقي مما لم يكسر، قيل: لم لا يقسم الثمن على الجميع؟ قال: ليس هو كذلك إنما في البيع الحرام وجهان: إن كان عرضا فله قيمته، وإن كان طعاما فله مثله ومكيلته إلا أن يكون طعاما لا يقدر على معرفة مثله بأن لا يعرف ذلك فعليه القيمة مثل العروض، وهذا الاختلاف إنما يرجع إلى هل يكون على المبتاع قيمة الموضع الذي فوته بالغرس لو بيع منفردا أو هل يكون عليه ما وقع عليه من قيمة الأرض كلها لو بيع معها؟ وذلك يختلف، إذ قد تكون قيمة ذلك الموضع في التمثيل على الانفراد عشرة، ومع جملة الأرض عشرين إذ قد تساوي الأرض دون ذلك المجمع تسعين ويساوي ذلك الموضع دون سائر الأرض عشرة، ويساوي بجميع الأرض جملة مائة وعشرين. وقوله: وإذا كان الغرس شيئا يسيرا لا بال له فسخ البيع في جميعها ويكون للمشتري الغارس على البائع قيمة غرسه، هو مثل ما مضى من قول مالك في أول رسم من سماع أشهب في البنيان اليسير في الحائط المبيع بيعا فاسدا، إلا أنه قال هناك: يكون على رب الحائط ما أنفق المبتاع في البنيان، وقال هنا: إنه يكون للمشتري على البائع قيمة غرسه، فمعنى ذلك أنه يكون عليه قيمة الغرس مقلوعا يوم جاء به وغرسه وما أنفق في غرسه أو قيمة ما أنفق فيه على حسب ما مضى القول فيه من سماع أشهب المذكور، وبالله التوفيق.

(8/59)


[مسألة: اشترى دارا بكل ما فيها وكل حق هو لها فهدم المشتري الدار إلا حائطا]
مسألة وسئل عن رجل اشترى من رجل دارا بكل ما فيها وكل حق هو لها فهدم المشتري الدار إلا حائطا واحدا، فلما أراد هدمه منعه جاره وقال: هو لي وأقام على ذلك بينة أنه له، قال: لا شيء للمشتري فيه، قال السائل: فإنه يقول للبائع: احلف لي أنك لم تبعني هذا الحائط فيما بعتني، قال: ليس عليه يمين إلا أن يدعي أنه باعه ذلك الحائط بنفسه وينكر ذلك البائع فإن له عليه اليمين في ذلك. وأما قول المشتري إني اشتريت منك جميع الدار وإن هذا الحائط ليس من الدار فليس عليه بذلك يمين لأنه إنما باعه كل حق كان للدار، فهذا ليس من حقها.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: لأن الرجل إذا باع الدار بجميع حقوقها فلا يقع البيع على جدراتها الأربع إلا أن يشترط ذلك، وإنما يقع على ما كان منها من حقوقها، فإذا وجد شيئا منها ليس من حقوقها لم يكن له بذلك على البائع قيم إذ لم يبعه إلا ما كان من حقوقها، وإنما جاز هذا البيع ولم يكن غررا لأنه يتبين بالنظر إليها ما هو من حقوقها مما ليس من حقوقها، فقد دخل المبتاع على معرفة فيما اشترى. ولو أثبت رجل من جيرانه في بعض حيطان الدار أنه له ماله وملكه والظاهر فيه مما يدل عليه العيان أنه من دار المشتري لكان له الرجوع بذلك على البائع. فمعنى قوله في المسألة منعه جاره وقال: هو لي وأقام على ذلك بينة أنه له معناه أنه أقام بينة تشهد له أنه من حقوق داره، ولو أقام البينة أنه له بشراء أو هبة وما أشبه ذلك مما يحق له ملكه والظاهر بدليل العيان أنه من دار المشتري لكان له الرجوع بذلك على البائع.

(8/60)


[مسألة: تكون له العرصة فيبيع صاحبها أسفلها وكان صب الماء إلى ذلك الأسفل]
مسألة وسئل عن الرجل تكون له العرصة فيبيع صاحبها أسفلها وكان صب الماء إلى ذلك الأسفل فلم يذكرا هجر الماء عند بيعها فبنى المشتري فجعل في جداره كوة فجرى الماء عليها أشهرا ثم سد الكوة وقال: إن المجرى ليس علي، وكيف إن ترك الماء يجري سنة وسنتين ثم سد الكوة وقال: إن المجرى ليس علي؟ وكيف إن ترك الماء يجري سنة وسنتين ثم سد الكوة ولم يشترط عليه البائع مجرى ماء؟ قال أصبغ: إذا علم بذلك قبل أن يسلم لشيء رأيت أن يصرف عنه ولا يلزمه إلا أن يكون من الأمور الظاهرة التي تعرف ويعرفها المشتري أن لا معدل لها وأن الماء منصب إليها لا بد له منه ولا مصرف له على الوجوه كلها بأسبابها فأراه إذا كان كذلك كالمشتري عليها وكالشروط وإلا فلا، وأما إن كانوا على غير ذلك فأقروه سنة أو سنتين كما ذكرت فلا أرى ذلك يلزمه ولا يوجب عليه بعد أن يحلف بالله ما كان رضا للأبد ولا تسليما ولا على حق للبائع قد عرفه أو رضي به أو اشترطه بينه وبينه ثم يصرف عنه إذا حلف إلا أن يطول زمان ذلك جدا لمثل وقت الحيازات للأشياء وهو مسلم راض غير نافر ولا طالب ولا دافع ولا منكر إلا ساكتا على التسليم وإنه حق لصاحبه فيما يرى منه يختار ذلك عليه فذلك وجوبه ولا أرى له بعد ذلك دعوى ولا تبعة.
قال محمد بن رشد: ليس المجرى شيئا أحدثه البائع على المبتاع بعد البيع، وإنما هو شيء قديم من قبل البيع كان الماء ينصب من أعلى

(8/61)


العرصة إلى أسفلها فباع منه الأسفل ولم يبين عليه أن ماء أعلى عرصته يجري عليه على ما كان فرأى من الحق للمبتاع على البائع أن يقطع عنه مجرى الماء إذ هو عيب من قبله لم يتبرأ إليه به إلا أن يكون كما قال أمرا ظاهرا لا يخفى أن الماء منصب إليها ولا معدل له عنها فيلزم ذلك المشتري كما لو اشترطه عليه البائع. وقد قيل إنه إذا لم يشترط ذلك عليه البائع ولا كان أمرا ظاهرا فليس له أن يسده عليه، وهو عيب فيما ابتاع إن شاء أن يمسك أمسك، وإن شاء أن يرد رد، روي ذلك عن ابن القاسم وسحنون، وهو على ما في كتاب الكفالة من المدونة في الذي بيع عبده وله عليه دين لم يعلم به المشتري أنه لا يسقط عنه ويكون عيبا به إن شاء أمسك وإن شاء رد، ويأتي قول أصبغ على ما في رسم الشجرة من سماع ابن القاسم وعلى ما في رسم لم يدرك من سماع عيسى من كتاب العيوب، وقد مضى القول على ذلك في الموضعين. ولما قال: إن من حق المبتاع أن يسد المجرى على البائع حكم له بحكم ما لو أحدثه عليه بعد الشراء فقال: إنه إن قام بقرب ذلك كان له أن يسده، وإن لم يقم إلا بعد السنة والسنتين لم يكن ذلك له إلا بعد يمينه، وإن سكت إلى مثل وقت الحيازات في الأشياء عد ذلك منه رضا ولزمه. وقد اختلف في حيازة الضرر المحدث فقيل: إنه لا يحاز أصلا، وإلى هذا ذهب ابن حبيب، وقيل: إنه يحاز بما تحاز به الأملاك العشرة الأعوام ونحوها، وهو قول أصبغ هذا، وقد روى عنه أنه لا يحاز إلا بالعشرين سنة ونحوها، وكان ابن زرب يستحسن في ذلك خمسة عشر عاما، وروي ذلك عن ابن الماجشون، وقال سحنون في كتاب ابنه: إنه يحاز بالأربع سنين والخمس لأن الجار قد يتغافل عن جاره فيما هو أقل من ذلك السنة والسنتين، وقد قيل: إن ما كان ضرره على حد واحد فهو الذي يحاز بالسكوت عليه، وما كان يتزايد أبدا كالمطر إلى جانب الحائط وشبه ذلك فلا حيازة فيه، وبالله التوفيق.

[مسألة: اشترى شاة فذهب المشتري ليأتي بالثمن فباعها البائع من غيره]
مسألة وسئل عن رجل اشترى شاة فذهب المشتري ليأتي بالثمن

(8/62)


فخالفه البائع فباعها من غيره، ثم إن المشتري الأول لقي المشتري الثاني ومعه تلك الشاة فنازعه فيها فماتت الشاة في أيديهما، المصيبة ممن هي؟ قال أصبغ: الضمان عليهما جميعا إن كان موتها منهما جميعا أو بأيديهما جميعا، فإن صحت الشاة للثاني غرم له هذا نصف القيمة، وإن صحت للأول فالثاني يغرم له ويرجع على بائعه بما دفع إليه.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة معناها أن البائع مقر أنه باعها من أحدهما بعد الآخر ويدعي كل واحد منهما أنه هو الأول، فقوله فيها فإن صحت الشاة للثاني غرم له هذا نصف القيمة صحيح؛ لأنه لما نازعه فيها فماتت بأيديهما كان قد استهلك له نصفها فوجبت عليه قيمته، وتصح له الشاة بأحد وجهين: إما بأن لا يكون لواحد منهما بينة على أنه هو الأول فيحكم بينهما أن يحلف كل واحد منهما أنه هو الأول وتكون بينهما، أو ينكل الأول عن اليمين ويحلف الثاني فتصح له بيمينه مع نكول الأول؛ وإما أن يقيم الثاني بينة أنه هو الأول ولا يكون للأول بينة على أنه هو الأول، فإذا صحت الشاة إلى الثاني بأحد هذين الوجهين كان له على الأول نصف قيمتها كما قال لاستهلاكه إياه، ويرجع الأول على البائع بالثمن الذي دفع إليه إن كان قد دفعه إليه وبما زادت قيمتها أو الثمن الذي باعها به من الثاني على ثمنه هو لأنه استهلك الشاة عليه بعد أن باعها منه ببيعه إياها من الثاني، وإن صحت الشاة للأول بأحد هذين الوجهين قيل له قد قبضت نصفها الذي قتلته، وأنت مخير بالنصف الثاني الذي قتله المبتاع الثاني بين أن تجيز البيع فيه فتأخذ الثمن أو تأخذ قيمته ممن شئت منهما إن شئت من البائع وإن شئت من المبتاع الثاني الذي قتله، فإن أخذت قيمته من البائع رجع البائع بذلك على المبتاع الجاني، وإن أخذت قيمته من المبتاع لم يكن له بذلك رجوع على أحد لأنه هو الجاني، ويرجع المبتاع الثاني على البائع الأول بنصف الثمن الذي دفع إليه للنصف الذي قتله المشتري الأول.

(8/63)


[مسألة: يسلف الناس في السلع ويزعم أنه إنما يشتري جميع ذلك لفلان]
مسألة وسئل عن رجل يسلف الناس في السلع أو يشتري سلعا بعينها ويزعم أنه إنما يشتري جميع ذلك لفلان رجل غائب بماله أمره بذلك ويكتب في اشتريته هذا ما اشترى فلان ابن فلان بماله، وكيف إن قال: أمرني فلان أن أشتري له بهذه المائة كذا وكذا ويشتري بها وينقدها، ثم يأتي الذي زعم أنه أمره بذلك فينكر ويريد أخذ المال من البائع، أترى ذلك له؟ وهل يفترق عندك إن قال: أمرني أن أشتري له بهذا المال بعينه أو قال: أمرني أن أشتري له بماله فاشترى ونقد المشتري ما يسر أو ما عسر وقبض ما اشترى له فاستهلكه أو هو قائم لم يقبضه حتى قام فأنكر أن يكون أمره باشتراء شيء من الأشياء؟ قال أصبغ: هما سواء، ولا سبيل له على البائع، وسبيله على المشتري بإقراره على نفسه يأخذ ما اشترى له أو يضمنه ماله المسمى ويتبعه إن استهلكه ولم يجد له مالا، ولا سبيل له على البائع على حال؛ لأن ذلك إنما هو دعوى من المشتري المقر فلا تعدوه دعواه على نفسه ولا يضر غيره والبائع لم يصدقه ولم يبعه على ذلك شرطا إنما يبيع على قوله كما يبيع الناس، فهو المشتري وهو المبتاع حتى يصدقه قبل البيع لذلك ويبيعه عليه بتصريح من البائع أو إقرار أو بينة تقوم بعد ذلك أن أصل المال لفلان هذا المال بعينه الذي اشترى به ونقد وإلا فلا.
قال محمد بن رشد: قول أصبغ إن المشتري ضامن للمال وإنه ليس لرب المال على البائع في المال سبيل هو نحو قول ابن القاسم في

(8/64)


المدونة في الذي أمر رجلا أن يسلم له دراهم في ثوب هروي فأسلمها له في بساط شعر إنه إنما يرجع على المأمور. وقوله: إن البائع إذ باع بتصريح وإقرار أن الشراء للمشترى له، وأن المال ماله أو قامت له بينة على المال بعينه إن له أن يأخذ ماله منه بالوجهين جميعا بين على ما قاله، والتصريح أن يبين المشتري على البائع أنه لا يشتري لنفسه وإنما يشتري لفلان ويكتب في كتاب الشراء: اشترى فلان لفلان بماله وأمره وعلم البائع بذلك أو صدق المشترى فيه فإن أخذ المشترى له ماله من البائع ببينة قامت له عليه بعينه أو بتصريح وقع أن الشراء كان له انتقض البيع في إقراره إن الشراء كان له وإن المال ماله ولم ينتقض في قيام البينة أن المال ماله ورجع على المشتري بمثل الثمن ولزمه البيع لأنه استحقاق للثمن، واستحقاق الثمن إذا كان عينا لا يوجب نقض البيع، ويشبه أن يقال على القول بأن العين لا يتعين، وهو قول أشهب وأحد قولي ابن القاسم في المدونة إنه لا سبيل له على البائع في المال إذا قامت له بينة عليه بعينه والمشترى منه. وقد حكى ابن حبيب في الواضحة عن ابن الماجشون أن القول قول المشترى له مع يمينه يحلف ما أمر المشتري بالشراء ويأخذ ماله إن شاء من المشتري وإن شاء من البائع، فإن أخذه من البائع كان للبائع أن يرجع على المشتري ويلزمه الشراء، وإن أخذه من المشتري لم يكن له أن يرجع به على البائع ويرد له ما اشترى منه. ومن اشترى من رجل شيئا فإن أراد أن يكتب في كتاب شرائه: هذا ما اشترى فلان لفلان بماله وأمره لم يلزم البائع أن يشهد له بذلك لأن ذلك وإن لم يقتض تصديق البائع له بأن الشراء لفلان وأن المال ماله ولا أوجب للمشتري له رجوعا عليه إن جاء فأنكر على مذهب ابن القاسم وأصبغ ما لم يصرح فيقول بعلم البائع أو بتصديق المشتري على ما ذكر من ذلك، فمن حجته أن يقول أخشى أن يأتي فيدعي علي أني علمت بذلك وصدقته في قوله فتلزمني اليمين أو الحكم له بالرجوع على مذهب ابن الماجشون.

(8/65)


[مسألة: يبيع العبد أو الجارية وينتقد ويدفع ما باع]
مسألة قيل لأصبغ: الرجل يبيع العبد أو الجارية وينتقد ويدفع ما باع، ثم أتى إلى المشترى يستقيله، فيقول المشتري: إن جئتني بالثمن فيما بينك وبين الشهر أو سنة فقد أقلتك أو لا يوقت شيئا إلا أنه يشترط له متى ما أتاه بالثمن فالسلعة سلعته هل ترى هذا جائزا وتجعله شرطا لازما؟ فإن رأيت هذا جائزا فهل يجوز له مسيس الجارية وقد ألزم نفسه هذا الشرط ويكون موسعا عليه في البيع يبيع إن شاء؟ وكيف إن جعل هذا الشرط له، ثم فوت ما اشترى بعد ذلك الشرط باليوم ونحوه مما يتبين أنه أراد قطع الشرط والرجوع عنه؟ قال أصبغ: إذا صح الأصل في المبايعة على غير اعتزاء النقد ولا توطئة ولا مواعدة ولا مراوضة فذلك جائز حلال لا بأس به لأن في كل شيء من السلع والحيوان ما عدا الفروج فلا أرى أن يجوز فيه الشرط الذي جعل له، ولا ينبغي ولا يجوز لهما العمل عليه إلا أن يكون له وجه أن يجعل ذلك في الجارية إلى استبرائها وحده ونحوه مما لا سبيل له فيه إلى الوطء فيجوز، وما كان على غير ذلك فأرى أن يبطل إلا أن يدركها بحرارتها على نحو هذا من الأمور التي لم يخل عليها المشتري ولم يمكن فينفذ له وإلا فلا. وأما إهمالهم في السلع غير الفروج هذا الشرط بلا وقت فذلك لازم، وذلك ما أدركها في يده ولم تخرج من يديه ولا من ملكه، فإن خرج سقط أيضا. وإن وقت كالذي سألت عنه من السنة وغيرها فليس له أن يخرجها من يده ولا يحدث فيها شيئا يقطع ذلك ما بينه وبين وقته الذي جعل على نفسه.

(8/66)


قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله إن العقد إذا سلم من الشرط وكان أمرا طاع به بعده على غير رأي ولا مواطأة فذلك جائز لا بأس به؛ لأنه معروف طاع به وأوجبه على نفسه لا مكروه فيه ما عدا جارية الوطء إذ لا يجوز للرجل أن يطأ جارية قد أوجب على نفسه فيها شرطا لغيره. والأصل في ذلك قول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لعبد الله بن مسعود في الجارية التي ابتاعها من امرأته واشترطت عليه أنك إن بعتها فهي لي بالثمن وسأله عنها: لا تقربها وفيها شرط لأحد، وقد قيل معنى لا تقربها أي لا تشترها وفيها شرط لأحد؛ وقول عبد الله بن عمر: لا يطأ الرجل وليدة إلا وليدة إن شاء باعها وإن شاء أمسكها وإن شاء صنع بها ما شاء، وأما ما عدا جواري الوطء فذلك جائز لأنه معروف، والمعروف عند مالك لازم لمن أوجبه على نفسه، فإن كان له أجل لزم إلى أجله، ولم يكن للمشتري أن يفوته قبل الأجل، وإن لم يكن له أجل فذلك له لازم ما لم يفوته، يريد إلا أن يفوته بفور ذلك مما يرى أنه أراد به قطع ما أوجبه على نفسه. وقد مضى في أول سماع أشهب القول في هذا الشرط إذا كان في أصل العقد فلا وجه لإعادته.

[مسألة: يبيع الحائط وفيه تمر قد أبر]
مسألة قال مالك في الرجل يبيع الحائط وفيه تمر قد أبر فيقول البائع للمشتري: اسق النخل، فيقول المشتري: ليس ذلك علي، فيختلفان في السقي على من ترى السقي؟ قال: أراه على البائع الذي له الثمن وليس على المشتري شيء. .
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأن التمر باق على ملك البائع بقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من باع نخلا قد أثرت فتمرها للبائع إلا أن يشترطها المبتاع» فوجب أن يكون سقيها عليه إن أراد أن يسقيها ولا

(8/67)


يكون ذلك على المبتاع، إذ لا حق له في الثمرة ولا هو بائع لها فيلزمه سقيها. وقد روي عن المخزومي أنه قال: السقي على المشتري لأنه يسقي نخله فتشرب ثمرة هذا، وهو بعيد، إذ من حقه أن يقول: أنا لا أريد أن أسقي نخلي، والذي يوجبه القياس والنظر أن يكون السقي عليهما لأن فيه منفعة لهما لا يمكن أن يستبد بها أحدهما دون صاحبه كالشريكين، والله الموفق المعين.

[باع سلعة فقال البائع بعتك وأنا بالخيار ولست أنت بالخيار]
من سماع أبي زيد بن أبي الغمر
من ابن القاسم قال أبو زيد: قال ابن القاسم في رجل باع سلعة فقال البائع: بعتك وأنا بالخيار ولست أنت بالخيار، وقال المشتري اشتريت منك بالخيار ولست أنت بالخيار، قال: ينتقض البيع، ولا أقبل دعوى البائع ولا المشتري.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة مضت متكررة في سماع أبي زيد من كتاب الخيار، ومضى في سماع أصبغ منه خلاف ذلك، وقد مضى من القول عليها هنالك ما فيه شفاء، فلا معنى لإعادته.

[مسألة: الفقع في القمح]
مسألة ولا بأس بالفقع في القمح.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة أيضا تكررت في سماع أبي زيد من كتاب الخيار، ومضى القول عليها هناك فلا معنى لإعادته.

(8/68)


[مسألة: بيع كبش بشاة حلوب إلى أجل أو غير حلوب]
مسألة وسئل عن كبش بشاة حلوب إلى أجل أو غير حلوب فقال: لا خير فيه.
قال محمد بن رشد: قوله بشاة حلوب إلى أجل أو غير حلوب يريد حلوب غير غزيرة اللبن، فهو صحيح على ما في المدونة من أن الغنم كلها صنف واحد كبارها وصغارها وذكورها وإناثها ضأنها ومعزها إلا أن تكون غنما غزيرة اللبن موصوفة بالكرم فلا بأس أن تسلم حواشي الغنم، وقال ابن القاسم في العشرة: إن غزر اللبن وكثرته إنما يراعى في المعز لا في الضأن، ومثله في الواضحة لابن حبيب، وروى ابن وهب عن مالك أنه لا يستلم كبار الضأن في صغارها، ولا بأس بتسليم كبارها في صغار المعز، ولم يأخذ ابن وهب بقول مالك فأجاز تسليم كبش في خروفين.

[مسألة: باع من رجل كلبا ولم ينتقد ثمنه حتى هلك الكلب في يد المشتري]
مسألة وسئل عن رجل باع من رجل كلبا ولم ينتقد ثمنه حتى هلك الكلب في يد المشتري؟ قال مصيبته من البائع.
قال محمد بن رشد: رأى مصيبة الكلب من البائع وإن هلك في يد المشتري فجعله باقيا على ملك البائع لما كان بيعه لا يجوز، فعلى هذا لو أدرك الكلب بيد المشتري ففسخ البيع فيه لوجب أن يرجع البائع على المبتاع بقيمة ما انتفع به إذ لم يكن ضمانه منه، وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الخراج

(8/69)


بالضمان» وهذا على قياس ما مضى في رسم نقدها من سماع عيسى في المسلم يشتري الخنزير من المسلم أن الثمن يرد إلى المشتري ويقتل الخنزير لأن الظاهر من قوله أنه يقتل على البائع وإن كان قد قبضه المشتري، وقد قيل: إنه يقتل على المشتري إن كان قد قبضه، فعلى هذا يكون على المشتري في الكلب إذ هلك عنده قيمته كما لو قتله، والأول هو المعروف أن مصيبته من البائع وإن قبضه المبتاع كالزبل وجلود الميتة وما أشبه ذلك مما لا يجوز بيعه ويجوز الانتفاع به بخلاف ما لا يجوز بيعه لغرره، وقد قيل: إن ما لا يجوز بيعه لغرره فمصيبته من البائع وإن قبضه المبتاع، والمعروف المشهور من هذا أن المشتري ضامن له بالقبض، وهذا في الكلب الذي لم يؤذن في اتخاذه باتفاق، وفي الذي أذن في اتخاذه على اختلاف، فقد أجاز بيعه ابن كنانة وسحنون، قال سحنون بعد هذا في هذا السماع: ويحج في ثمنها وأجاز ابن القاسم شراءه للمشتري لحاجته إليه وكره بيعه للبائع، وهو نحو قول أشهب في المدونة في الزبل: المشتري أعذر في شرائه من البائع، وبالله التوفيق.

[مسألة: اشترى نصف شقة ولم يسم المشتري أولا ولا آخرا]
مسألة وسئل عن رجل اشترى نصف شقة ولم يسم المشتري أولا ولا آخرا ولم يسم البائع حتى قطع الثوب، فقال البائع: لا أعطيك إلا الآخر، وقال المشتري: لا آخذ إلا الأول، قال: يحلف البائع ما كان باع إلا على الآخر ويفسخ البيع ويرد الثوب إلى ربه مقطوعا إلا أن تكون سنة بين التجار أنهم إذا قطعوا إنما يبيعون الأول فيحمل الناس على تلك السنة.

(8/70)


قال محمد بن رشد: هذه مسألة في جوابها حذف سكت عنه اتكالا على فهم السامع والله أعلم، ومراده أن البائع يحلف ما باع إلا على الآخر، ثم يحلف المشتري ما اشترى إلا على الأول، ويفسخ البيع إن حلفا جميعا، وإن حلف أحدهما ونكل الآخر كان القول قول الحالف، وأيمانهما في هذه المسألة على النيات، ويحلف البائع أنه أراد الآخر، ويحلف المشتري أنه أراد الأول لأنهما قد اتفقا على أن البيع وقع مبهما لم يسميا أولا ولا آخرا، ولو ادعيا التسمية لحلف كل واحد منهما على ما يدعي، فإن حلفا جميعا انفسخ البيع، وإن حلف أحدهما ونكل الآخر كان القول قول الحالف، ولا فرق بين أن يدعيا التسمية أو يتفقا على الإبهام إذا ادعى كل واحد منهما أنه أراد غير النصف الذي أراد صاحبه إلا في صفة الأيمان، ولو اتفقا على الإبهام ولم تكن لواحد منهما نية لوجب أن يكونا فيها شريكين يقسم الثوب على القيمة ثم يستهمان عليه. وقد رأيت لابن دحون أنه قال في هذه المسألة: إنها مسألة حائلة لا تجوز إذا أبهما ولم يسميا لأنه بيع مجهول بمنزلة من باع فدانا من أرضه ولم يجزه، وإن ادعى أحدهما أنه سمى جاز ذلك وحلف على ما ادعى، فإن ادعيا جميعا فالقول قول البائع مع يمينه، ولو لم يقطع الشقة وكانا قد أبهما كانا فيها شريكين بمنزلة من اشترى نصف أرض رجل ولم يذكر الناحية.
قال محمد بن رشد: وليس قوله بصحيح لأنهما قد أبهما ولم يسميا فليس ببيع مجهول كما قال، إذ لم ينعقد البيع بينهما على جهل من أجل أن كل واحد منهما ظن أن صاحبه أراد النصف الذي أراد هو، فلم يكن بينهما في العقد غرر، إذ لم يقع شراء المشتري على أن يأخذ أحد النصفين من غير أن يعلم أيهما هو ولا بيع البائع على ذلك، ولو وقع على ذلك كان جهلا وغررا. مثال ذلك أن يقول: أشتري منك أحد النصفين الأول أو الآخر أيهما وقع السهم عليه أو أيهما شئت أن تعطيني أعطيتني. وقوله: وإن ادعى أحدهما أنه سمي جاز ذلك وحلف على ما ادعى مطرد على ما ذهب إليه من أن البيع فاسد إذا أبهما، إذ يقتضي ذلك أن من سمى منهما كان مدعيا للصحة، ومن لم يسم مدعيا للفساد. وأما قوله فإن ادعيا جميعا فالقول قول

(8/71)


البائع فلا يصح، إذ الواجب في ذلك أن يحلف واحد منهما لصاحبه فلا يكون بينهما بيع؛ لأن البائع مدع على المبتاع أنه باع منه النصف الثاني ومنكر أن يكون باع منه النصف الأولى، والمبتاع باع على البائع أنه باع منه النصف الأول ومنكر أن يكون اشترى منه النصف الثاني، فإن حلفا جميعا أو نكلا جميعا انفسخ البيع بينهما، وإن حلف أحدهما ونكل الآخر كان القول قول الحالف، وهذا مما لا إشكال فيه.

[مسألة: باع ثوبين بعشرة أرادب قمح إلى شهر]
مسألة وسئل عن رجل باع ثوبين بعشرة أرادب قمح إلى شهر، فلما حل الأجل قال: أقلني في أحد ثوبيك وخذ مني خمسة أرادب، قال: لا بأس بذلك إذا كان الثوبان معتدلين، فإن كان أحدهما أرفع من الآخر لم يصلح له أن يقيله في أحدهما.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة وقعت ههنا في بعض الروايات، وقد وقعت متكررة في سماع أبي زيد من كتاب السلم والآجال، وقد مضى من القول عليها هناك ما لا وجه لإعادته.

[مسألة: باع منه مائة فدان مزروعة كل فدان بدينارين من ناحية قد عرفها وواجبه البيع]
مسألة وسئل عن رجل باع من رجل مائة، فدان مزروعة كل فدان بدينارين من ناحية قد عرفها وواجبه البيع، ثم ذهب على أن يأتي غدا فيقيس له، فلما كان من الغد قال: بعني أيضا مائة أخرى قبل أن يقيس له ما باعه له أولا فباعه مائة أخرى كل فدان بثلاثة دنانير، فقاس له فلم يجد في زرعه إلا مائة فدان وسبعين فدانا؟ فقال: يقيس له مائة فدان على دينارين ويقيس له ما بقي بثلاثة، فما نقص فبحساب الفدان بثلاثة؛ لأن البيع الأول أولى من الآخر، كذلك لو أن رجلا باع من رجل مائة إردب من قمح في

(8/72)


منزله بثلاثين دينارا فلما كان من الغد جاء الرجل يكتاله له فاشترى منه مائة أخرى بخمسين دينارا أو جاء رجل أجنبي غيره فاشترى منه مائة إردب بخمسين قبل أن يكتال الأول فلم يجد في البيت إلا أقل من مائتين، قال: الأول أولى ثم الآخر بعد إنما يقع النقصان عليه، ولا يتحاصان في النقصان.
قال محمد بن رشد: قد قيل إنهما يتحاصان في النقصان على قدر ما اشتريا، وهو قول بعيد، ووجه ذلك أنه لما كان الطعام في ضمان البائع إن تلف أشبه الديون الثابتة في الذمة في أن التحاص يجب فيها ولا يبدأ الأول منهما على الآخر، والقول الأول أظهر لأنه طعام مشترى بعينه، وقد وجبت للأول المكيلة التي اشترى، فوجب أن يكون أحق بها من الآخر ولا يتحاصان في النقصان.

[مسألة: اشترى منه صبرة وواجبه البيع فذهب ليأتي بالثمن فأصيبت الثمرة]
مسألة وسئل عن رجل اشترى من رجل صبرة من طعام وواجبه البيع فذهب الرجل يأتيه بالثمن فأصيبت الثمرة بنار فاحترقت، قال: المصيبة من المشتري.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه إذا كانت الصبرة في غير ملك البائع مثل الرحاب التي توضع الأطعمة فيها للبيع وتلفت بعد إمكان القبض فيها، وأما إن تلفت قبل إمكان القبض فيها فيدخل في ذلك من الاختلاف ما يدخل في المكيال يسقط من يد المشتري بعد أن امتلأ وقبل أن يفرغه في إناثه، وقد مضى القول على ذلك في رسم نقدها من سماع عيسى. وأما إن كانت الصبرة المشتراة في دار البائع أو حانوته فيدخل في ذلك من الاختلاف ما يدخل في السلعة المبيعة إذا تلفت في يد البائع قبل أن يقبضها المبتاع وإن طال الأمر، وقد مضى ذكر ذلك في غير ما موضع من ذلك نوازل سحنون الثانية.

(8/73)


[مسألة: باع عشرة فدادين من قمح وواجبه فذهب ليقيسه له فأصيب الزرع]
مسألة قال: وكذلك لو أن رجلا باع عشرة فدادين من قمح من زرعه وواجبه فذهب إلى غد ليقيسه له فأصيب الزرع بنار فاحترق، قال: مصيبته منهما جميعا.
قال محمد بن رشد: قوله: المصيبة منهما يريد أن المشتري يضمن العشرة التي اشترى ويؤدي ثمنها وتكون مصيبة الزائد على العشرة من البائع. ولو لم يكن في القمح إلا عشرة فدادين فأقل لكانت المصيبة من المشتري في الجميع على هذا القول، وإنما جعل المصيبة من المشتري في الفدادين التي اشترى من القمح وإن كانت تلفت قبل التذريع لأن التذريع متمكن في الأرض بعد تلاف الزرع، وذلك على قياس قوله في رسم العتق من سماع عيسى في الذي يشتري السمن موازنة في جراره فيزنه بجراره إن له أن يبيعه قبل أن يزن الجرار، إذ لو تلف كانت مصيبته منه، إذ لم يبق إلا وزن الجرار، وذلك ممكن بعد تلاف السمن كما يمكن تذريع الأرض بعد ذهاب الزرع. وقد قيل: إن المصيبة من البائع إن تلف قبل التذريع وهو قول مالك في آخر رسم من سماع أشهب والمشهور في المذهب، ولو أراد المبتاع أن يبيع الفدادين التي اشترى من القمح قبل التذريع لجاز ذلك له على رواية أبي زيد هذه وعلى ما قال في رسم العتق من سماع عيسى في مسألة الجرار، ولم يجر ذلك على رواية أشهب الذي جعل الضمان فيها من البائع.

[مسألة: اشترى ياقوتة وهو يظنها ياقوتة ولا يعرفها البائع ولا المشتري]
مسألة قال: ومن اشترى ياقوتة وهو يظنها ياقوتة ولا يعرفها البائع ولا المشتري فوجدها على غير ذلك، قال: يرد البيع ولا يشبه مسألة الثياب، وكذلك القرط الذهب يشتري ولا يشترط أنه ذهب ويشتري المشتري وهو يظنه ذهبا فيجده نحاسا قال: يرد البيع.

(8/74)


قال محمد بن رشد: قوله يرد البيع ولا يشبه مسألة الثياب، يريد ولا يشبه مسألة الذي يبيع الثياب مساومة ثم يدعي الغلط لا مرابحة إذ لا اختلاف في أن له القيام بالغلط في بيع المرابحة. وقوله هذا إن بيع المساومة لا قيام له فيه بالغلط هو المشهور في المذهب. وقوله في الذي اشترى الياقوتة وهو يظنها ياقوتة فوجدها على غير ذلك إن له أن يرد البيع خلاف ما مضى في رسم الأقضية الثاني من سماع أشهب، وقد مضى هناك القول على المسألة مستوفى فلا معنى لإعادته.

[مسألة: قدم بلدا من البلدان بمتاع فأعطي به ثمنا]
مسألة وسئل عن رجل قدم بلدا من البلدان بمتاع فأعطي به ثمنا فجاءه رجل فقال له: أنا آخذه منك بما أعطيت وأنت فيه شريك، قال: هذا حرام.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال؛ لأنه يصير قد اشتراه منه بالثمن الذي سماه على أنه إن ربح زاده نصف الربح، وإن خسر رجع عليه بنصف الخسران، وذلك غرر وإن نقد فيدخله مع ذلك بيع وسلف، فهو كما قال حرام لا يحل.

[مسألة: يشتري لبن شاة بعينها كيلا يدفع إليه في كل يوم شيئا مسمى]
مسألة وسئل عن الرجل يشتري لبن شاة بعينها كيلا يدفع إليه في كل يوم شيئا مسمى، قال: إن علم أنها تحلب في كل يوم مثل ما شرط له أن يدفع إليه في كل يوم لا شك فلا بأس به.
قال محمد بن رشد: هذا صحيح مثل ما في كتاب التجارة إلى

(8/75)


أرض الحرب من المدونة أنه يجوز أن يسلم في لبن الشاة الواحدة كيلا في إبان لبنها، ولا يجوز ذلك قبل إبان لبنها، ولا يجوز له أن يبتاع لبن الشاة الواحدة جزافا، ويجوز له أن يبتاع لبن الشياه جزافا إذا سمى مدة معلومة شهرا أو شهرين. وأما إلى أن ينقطع فلا يجوز. وهذه المسألة في ابتياع لبن غنم بأعيانها عكس ابتياع ثمرة المقثاة يجوز ابتياعها إلى أن ينقطع، ولا يجوز ابتياعها إلى مدة معلومة شهرا أو شهرين.

[مسألة: بيع قرط الربيع بقرط اليابس]
مسألة وسئل عن قرط الربيع بقرط اليابس، قال: إن تحرى فلا خير فيه وإن كان بين تفاضله فلا بأس به، وكذلك التفاح الأخضر بالتفاح اليابس المقدد.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة في حبل حبلة من سماع عيسى، ومضت أيضا والقول عليها في رسم يدير ماله ورسم باع شاة من سماع عيسى من كتاب السلم والآجال فلا معنى لإعادته.

[مسألة: دفع إلى رجل سلعة يبيعها له بعشرة نقدا فباعها بألف درهم إلى أجل]
مسألة وقال في رجل دفع إلى رجل سلعة يبيعها له بعشرة نقدا فباعها بألف درهم إلى أجل أو بعشرين، فقال صاحب السلعة: بيعوا من هذه الألف درهم التي إلى أجل بعرض ما يساوي العشرة وأخروا ما بقي من الدراهم إلى أجلها، قال: لا بأس بذلك، وكذلك لو قال: بيعوا لي من العشرين الدينار التي إلى أجل بعرض

(8/76)


ما يساوي عشرة ودعوا ما بقي إلى أجله أخذه لم يكن بذلك بأس.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأن الواجب له أن تباع العشرون دينارا أو الألف درهم بعرض ثم يباع العرض بعين، فإذا كان ذلك أكثر من عشرة كان له، وإن كان أقل من عشرة ضمن المأمور تمام العشرة، فإذا كان من حقه أن يباع له الجميع كان له أن يباع له منه بقدر العشرة ويبقى له ما بقي يأخذه إذا حل أجله لأنه ثمن سلعته، ولا يدخل ذلك شيء من المكروه، فلذلك قال فيه لا بأس بذلك، ولو أراد أن يباع له من ذلك بأقل من عشرة لم يجز لأنه يدخله دنانير في أكثر منها أو في دراهم إلى أجل، وإنما الذي يجوز ويكون من حقه أن يباع من ذلك بعشرة وبأكثر من عشرة. واختلف إن أراد المأمور أن يدفع العشرة من عنده إلى رب السلعة ويترك العشرين إلى أجلها فإذا حلت قبض منها العشرة وكانت الباقية لرب السلعة فقيل: ذلك له، وهو قول ابن القاسم في رسم الكبش من سماع يحيى من كتاب البضائع والوكالات، وقيل: لا يكون ذلك له إلا أن يرضى بذلك رب السلعة وتكون العشرون لو بيعت كان فيها عشرة أو أكثر، فإن لم يكن فيها إلا أقل من عشرة لم يجز، وهو ظاهر قول أشهب في رسم حبل حبلة من سماع عيسى من الكتاب المذكور، وقيل: لا يكون ذلك له إلا أن يرضى بذلك رب السلعة وتكون العشرون لو بيعت لم يكن فيها إلا عشرة وأدنى، وهو قول ابن القاسم في رسم حبل حبلة المذكور، ويتخرج في المسألة قول رابع وهو ألا يجوز ذلك إلا أن تكون العشرون إن بيعت لم يكن فيها إلا عشرة لا أدنى ولا أكثر؛ لأنه إن كان فيها أكثر دخله الدين بالدين على مذهب ابن القاسم، وإن لم يكن فيها إلا أقل دخله سلف جر منفعة على مذهب أشهب.

(8/77)


[مسألة: باع دابة واستثنى ركوبها يوما]
مسألة وقال في رجل باع دابة واستثنى ركوبها [يوما] ، بعد ثلاثة أيام اليوم الرابع فقبض المشتري الدابة وبقي للبائع فيها ركوب يوم فنفقت في اليوم الثالث. قال: هي من البائع، قال: وكذلك لو نفقت في ركوب البائع كانت من البائع لأنها في ضمان البائع ما بقي للبائع فيها شرط، قال أبو زيد: وبه آخذ.
قال محمد بن رشد: قوله إنها من البائع إذا نفقت في اليوم الثالث خلاف ما مضى في أول رسم من سماع أصبغ، وقد مضى القول هناك على توجيه كلا القولين وأنهما جاريان على الاختلاف في المستثنى هل هو مبقي على ملك البائع أو بمنزلة المشترى، وأن رواية أبي زيد هذه على أنه مبقي على ملك البائع لأنه على هذا يصير إنما باع الدابة بعد أربعة أيام على أن يركبها المشتري بثلاثة أيام قبل البيع وهي على ملك البائع، فوجب أن يكون ضمانها من البائع في هذه الأربعة أيام كلها لأنها فيها على ملك البائع كما قال.

[مسألة: اشترى من عبده جارية هل يبيعها مرابحة]
مسألة وقال في رجل اشترى من عبده جارية أترى أن يبيعها مرابحة؟ قال: إن كان يعمل بماله فلا بأس به، وإن كان يعمل بمال سيده فلا خير فيه.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال لأن العبد يملك على مذهب مالك وماله له حتى ينتزعه سيده، فإذا اشترى منه شراء صحيحا لا محاباة فيه جاز أن يبيع مرابحة ولا يبين كما لو اشتراها من غير عبده، وإذا كان

(8/78)


المال له لم يجز له أن يبيع مرابحة إلا أن يبين لأن ذلك ليس بشراء وإنما هو كأنه سمى لسلعة له ثمنا فباعها عليه مرابحة إذ لا يشتري الرجل ماله بماله، فإن وقع ذلك ولم يكن العبد اشترى السلعة كان المشتري بالخيار ما كانت السلعة قائمة بين أن يمسك أو يرد، فإن فاتت رد فيها إلى القيمة إن كانت أقل من الثمن على حكم الغش والخديعة في بيع المرابحة، وإن كان العبد اشتراها بمثل ذلك الثمن أو أكثر جاز البيع ولم يكن للمشتري فيه كلام على رواية أشهب عن مالك في أنه يجوز للرجل أن يبيع مرابحة ما ابتاع له غيره ولا يبين؛ لأن السلعة إنما كان اشتراها العبد لسيده الذي باعها مرابحة إذ إنما كان يتجر له بماله، ولم يجز ذلك على رواية ابن القاسم عنه في أنه لا يجوز للرجل أن يبيع مرابحة ما اشترى له غيره حتى يبين فيكون للمشتري الرد على حكم الخديعة والغش في بيع المرابحة. وأما إن كان العبد اشتراها بأقل من ذلك الثمن فلا يجوز ذلك ويكون الحكم فيه على رواية أشهب حكم من باع مرابحة وزاد في الثمن يكون للمشتري في قيام السلعة أن يردها إلا أن يحط عنه الزيادة على ما كان اشتراها به العبد ونوبها من الربح، وإن فاتت كانت فيها القيمة ما لم تكن أكثر مما باع به فلا يزاد البائع، أو يكون أقل مما اشترى به المشتري فلا ينقص منه. وأما على رواية ابن القاسم عنه فيكون الحكم فيها حكم الغش والخديعة لأنه بيع يجتمع فيه على روايته الزيادة في الثمن والغش والخديعة، وإذا اجتمعا جميعا كان للمشتري أن يطالب البائع بأيهما شاء والمطالبة بالغش والخديعة أفضل له فيطالب بذلك.

[مسألة: باع جارية حاملا على أن ما في بطنها حر قبل أن تلد]
مسألة وقال في رجل باع جارية حاملا على أن ما في بطنها حر قبل أن تلد، قال: يمضي البيع ويرجع البائع على المشتري بقيمتها لأن العتق حين استثناه صار فوتا، فإنما يرجع بقيمتها يوم قبضها.

(8/79)


قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة أنه باع الجارية منه على أن الجنين حر على المشتري، فهو بيع فاسد؛ لأن اشتراط عتق الجنين على المشتري غرر ويفوت بنفس البيع لوجوب العتق في الجنين على المشتري بذلك، ولذلك قال: إن البيع يمضي إذا وقع ويصحح بالقيمة، والقيمة إنما تصح أن يكون يوم البيع لأنه حينئذ فات، ففي قوله يوم قبضها نظر، ومعناه إذا كان البيع والقبض في يوم واحد، ولو باعها منه على أن جنينها حر قد أعتقه البائع لوجب على مذهب ابن القاسم أن ترد الجارية ويفسخ البيع فيها ما لم تفت بما يفوت به البيع الفاسد فيكون على المبتاع قيمتها يوم قبضها على أن ولدها مستثنى لو كان يحل بيعها على ذلك، وذهب ابن حبيب إلى أنها لا تفوت بحوالة الأسواق ولا بالولادة وترد ما لم تفت بالموت أو العيوب المفسدة فيكون على المبتاع قيمتها يوم قبضها ظرفا فارغا على أن الولد مستثنى لو كان يحل بيعها على ذلك. قال: ولو أن المشتري أعتقها قبل أن تضع عتقت وكان ولاؤها وولاء جنينها للبائع ولزمته قيمتها يوم قبضها على أن الولد مستثنى. قال: وكذلك لو وهبها لزمته قيمتها يوم قبضها على أن الولد مستثنى ويكون الولد حرا إذا وضعته.

[مسألة: باع زرعا قبل أن يبدو صلاحه ثم حصده وحمله إلى منزله فأصابته نار فاحترق]
مسألة قال: ومن باع زرعا قبل أن يبدو صلاحه ثم حصده وحمله إلى منزله فأصابته نار فاحترق وعلم أنه ذلك القمح بعينه، قال: يكون من البائع.
قال محمد بن رشد: هذا خلاف المعلوم في المذهب من أن البيع الفاسد يضمنه المبتاع بالقبض وتكون مصيبته منه إن تلف، ونحوه في رسم يشتري الدور والمزارع من سماع يحيى من كتاب الجعل والآجال، ووجهه أنه لما كان بيعا لا يجوز لم ينعقد ولا انتقل به ملك وبقي في ملك البائع، فوجب أن يكون ضمانه منه إن قامت على تلفه بينة، وهو قول جماعة من أهل العلم في غير المذهب، والله أعلم.

(8/80)


[مسألة: بيع الدجاجة البياضة بالبيض إلى أجل]
مسألة وقال في الدجاجة البياضة بالبيض إلى أجل: لا بأس به.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة في حبل حبلة من سماع يحيى من كتاب السلم والآجال أكمل مما وقعت ههنا، ومضى في أول رسم من سماع ابن القاسم منه القول على حكم المزابنة وما يجوز منها مما لا يجوز مفصلا مقسما مستوفى فلا وجه لإعادته.

[مسألة: بيع الصبي الصغير الذي يحمل السؤال]
مسألة وقال في بيع الصبي الصغير الذي يحمل السؤال لا بأس به وإن كان مرضعا إلا أن يكون من بلد قد عمه الفساد من هذا الأمر من سرقة الأحرار وبيعهم فأحب إلي أن يتورع الرجل فيه ولست أرى أن يمنع لذلك البيع.
قال محمد بن رشد: وهذا بين على ما قال: إن الاحتياط ترك شرائهم إن كانوا من بلد عرف فيه سرقة الأحرار على طريق التورع والتوقي من المتشابه مخافة الوقوع في الحرام لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الحلال بين، والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات كان كالراعي حول الحمى يوشك أن يقع فيه» .

[مسألة: قامت عليه سلعة بعشرة دنانير فقال له رجل أربحك فيها دينارا]
مسألة وعن رجل قامت عليه سلعة بعشرة دنانير فقال له رجل: أربحك فيها دينارا، قال: لا إلا أن تشرك فلانا فيكون معك

(8/81)


شريكا فيها كم يأخذ من هذا وهذا؟ قال: يأخذ من كل واحد خمسة ونصفا خمسة ونصفا.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال؛ لأنه إذا باع منه على أن يشرك فلانا فرضي فلان بالشركة فقد وقعت عهدتهما جميعا عليه فيأخذ من كل واحد منهما نصف الثمن، ولا اختلاف في هذا، وإنما يختلف إذا باع منه جميع السلع فأشرك هو فيها بحضرة البيع غيره، فقيل: إن عهدة المشرك تكون على الأول فيكون له أن يأخذ الثمن منهما جميعا، وقيل: إن عهدته تكون على المشتري الذي أشركه فإليه يدفع وعليه يرجع إن طرأ ما يوجب له الرجوع. وقد مضى الاختلاف في هذا في نوازل أصبغ من هذا الكتاب، ومضى القول على ذلك مستوفى في رسم أسلم من سماع عيسى من كتاب السلم والآجال فلا معنى لإعادته.

[مسألة: شراء كلاب الصيد]
مسألة قال: ولا بأس بشراء الكلاب كلاب الصيد، ولا يعجبني بيعها. قال سحنون: نعم ويحج بثمنها، وهي الكلاب التي هي للحرث والماشية والصيد.
قال محمد بن رشد: المعلوم من قول ابن القاسم وروايته عن مالك أنه لا يجوز بيع الكلب وإن كان من الكلاب المأذون في اتخاذها للصيد والضرع والحرث على ظاهر قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في نهيه عن ثمن الكلب عموما لم يخص فيه كلبا من كلب، ويقوي ذلك ما روي

(8/82)


عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن ثمن الكلب وإن كان ضاريا» ، وإجازة ابن القاسم في هذه الرواية شراء الكلب دون بيعه هو نحو قول أشهب في المدونة في الزبل: المشتري أعذر في شرائه من البائع؛ لأن الحاجة قد تدعوه إلى شراء الكلب للصيد وشبهه مما جوز له اتخاذه له، وكذلك الزبل إذا لم يجد من يعطيه ذلك دون ثمن، ولا حاجة لأحد إلى بيع ذلك لأنه إذا لم يحتج إليه تركه لمن يحتاج إليه. وقول سحنون في إجازة الكلب المأذون في اتخاذه هو قول ابن نافع وابن كنانة وأكثر أهل العلم، وهو الصحيح في النظر؛ لأنه إذا جاز الانتفاع به وجب أن يجوز بيعه وإن لم يحل أكله كالحمار الأهلي الذي لا يجوز أكله ويجوز بيعه لما جاز الانتفاع به، ومن الدليل على ذلك أيضا قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من اقتنى كلبا لا يغني عنه ضرعا ولا زرعا نقص من عمله كل يوم قيراط» ، والاقتناء لا يكون إلا بالاشتراء، وقد قيل في معنى ما «روى ابن عمر عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من نهيه عن ثمن الكلب وإن كان ضاريا» إن المعنى في ذلك حين كان الحكم في الكلاب أن تقتل كلها ولا يحل لأحد إمساك شيء منها على ما روي «عن أبي رافع قال: أمرني النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقتل الكلاب فخرجت لأقتلها، لا أرى كلبا إلا قتلته حتى أتيت موضع كذا وسماه فإذا فيه كلب يدور ويلهث، فذهبت أقتله، فناداني إنسان من جوف البيت يا عبد الله، ما تريد أن تصنع؟ فقلت: أريد أن أقتل هذا الكلب، قالت: إنني امرأة بدار مضيعة، وإن هذا الكلب يطرد عني السباع، ويؤذنني بالجائي، فأت النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فاذكر له ذلك فأتيت النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فذكرت ذلك له فأمرني بقتله» ، ثم جاء عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه أمر بقتل الكلاب إلا كلب صيد أو كلب ماشية، وأنه قال: «من اقتنى كلبا ليس بكلب صيد ولا ماشية ولا أرض فإنه ينقص من أجره قيرطان في كل يوم» ، فنسخ بذلك أمره الأول بقتل الكلاب عموما. وأما الكلب الذي

(8/83)


لا يجوز اتخاذه فلا اختلاف في أن بيعه لا يجوز وأن ثمنه لا يحل، روي عن ابن عباس عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال: «ثمن الكلب حرام» .

[مسألة: اشترى من رجل مائة إردب قمح إلى الحصاد فأعطاه عند الحصاد قمحا قديما]
مسألة وعن رجل اشترى من رجل مائة إردب قمح إلى الحصاد فأعطاه عند الحصاد قمحا قديما، ولم يكن المشتري اشترط قديما ولا حديثا فأراد البائع أن يدفع إليه قديما، قال: إذا كان على صفته فذلك جائز.
قال محمد بن رشد: ليست هذه المسألة في جميع الروايات، وهي صحيحة، إذ لا يفتقر في صفة الطعام المسلف فيه إلى أن يذكر قدمه من حدثه، إذ لا يختلف ثمنه باختلافه، وإنما يذكر الطيب والنقي والامتلاء وما أشبه ذلك مما يختلف ثمنه باختلافه.

[مسألة: مر ببياع وعنده سل تين فقال: أنا آخذ منك هذا السل ومثله مرة أخرى بدرهم]
مسألة وعن رجل مر ببياع وعنده سل تين فقال: أنا آخذ منك هذا السل ومثله مرة أخرى بدرهم، قال: هذا خفيف من قبل أنه يجوز لي أن أسلف في أسلال من تين وعنب ورطب، قيل له: ألا تراه يشبه غرار قمح ملأى يقول له: بعنيها وملأها بدينار؟ قال: هذا بين لا خير فيه لأنه لا يجوز له أن يسلف في غرائر قمح.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة والقول فيها في رسم أوصى من سماع عيسى فلا معنى لإعادته.

(8/84)


[مسألة: باع بعيرا واشترط على المبتاع قربتين من ماء ببئر كذا وكذا فلم يجد في تلك البئر ماء]
مسألة وعن رجل باع بعيرا واشترط على المبتاع قربتين من ماء ببئر كذا وكذا فلم يجد في تلك البئر ماء، قال: إن كان يجد ماء من غير تلك البئر يشبه ماءها فإنه يأتيه بمثله، فإن كان لا يوجد مثل ذلك الماء كان للبائع قيمة البعير.
قال محمد بن رشد: قوله في هذه المسألة: كان للبائع قيمة البعير كلام وقع على غير تحصيل، والصواب أنه إذا لم يجد مثل ذلك الماء أن ينظر إلى قدر قيمة الماء من قيمة الماء والثمن مجموعين فيرجع بذلك الجزء في قيمة البعير لا في عينه على مذهب ابن القاسم من أجل ضرر الشركة، وأشهب يقول: إنه يرجع في عينه فلا يراعي ضرر الشركة. ولو كان مشترط الماء هو المشتري على البائع فلم يجد له مثلا لرجع عليه المشتري في الثمن الذي دفع بقدر قيمة الماء من قيمة الماء والبعير جميعا. وقد مضى لها نظائر في مواضع، من ذلك رسم أسلم ورسم البراءة من سماع عيسى.

[مسألة: بيع كل زريعة توكل ويستخرج من حبها طعام]
مسألة وقال: كل زريعة توكل ويستخرج من حبها طعام فإنه لا يباع حتى يستوفى، ولا يباع منه اثنان بواحد، وكل زريعة لا توكل ولا يستخرج من حبها شيء يوكل فإنه يباع قبل أن يستوفى، ويباع منها اثنان بواحد، ويباع بعضه ببعض إلى أجل.
قال محمد بن رشد: هذه المسألة قد مضت متكررة في هذا السماع من كتاب السلم والآجال، ومضى القول عليها هناك مستوفى فلا وجه لإعادته مرة أخرى.

(8/85)


[مسألة: النعال السبتية التي تجعل في الخفاف تشرى جلودها موازنة]
مسألة وعن هذه النعال السبتية التي تجعل في الخفاف تشرى جلودها موازنة، قال: هذا حرام، ولو أجزت هذا لأجزت أن تباع الثياب موازنة.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال لأن الوزن فيها غير معروف، فبيعها موازنة من الجهل والغرر الذي لا يجوز في البيوع.

[مسألة: خبز الشعير بخبز القمح رطل برطل]
مسألة وسئل عن خبز الشعير بخبز القمح رطل برطل فقال: لا خير فيه؛ لأن الشعير أخف من القمح، فإن تحرى فلا أرى به بأسا، قال أبو زيد: قال ابن القاسم: إنما التحري أن يعرف كيل دقيق الشعير ودقيق القمح، فإذا اعتدلا فلا بأس به، قال ابن القاسم: وإنما تحري الخبز اليابس بالرطب ليس على أن الرطب إذا يبس كان مثل اليابس، ولا على أن اليابس لو كان رطبا كان مثله، وإنما التحري عندي في هذا أن يكون فيه قدر ويبة أو نصف ويبة أو ربع ويتحرى الآخر كذلك.
قال محمد بن رشد: التحري فيما يكال لا يجوز، فإنما أجاز ابن القاسم التحري في دقيق الأخباز إذ لا يمكن كيل ما دخل في الخبز من الدقيق، وهذا نحو ما مضى في رسم سلف من سماع عيسى من إجازة بيع التمر المنثور بالمكتل على التحري، وقد مضى هذا المعنى في رسم

(8/86)


كتب عليه ذكر حق من سماع ابن القاسم من كتاب السلم والآجال. وقوله: إن المماثلة في أخباز القمح بالشعير يريد والسلت، إنما تكون باعتبار أصولها هو صحيح على ما في المدونة، وقد ذهب ابن دحون إلى أن الخبز يجوز أن يباع مثلا بمثل وزنا بوزن، قال: لأنه صار صنفا على حدة، فوجب ألا تراعى أصوله، قال: ولو جاز ما قال لفسد أكثر البيوع، ولعمري إن لقوله وجها، وهو القياس على الأخلال والأنبذة أنها تجوز مثلا بمثل ولا يراعى ما دخل في كل واحد منهما من التمر أو الزبيب أو العنب، وكذلك الدقيق بالدقيق أجازه مالك مثلا بمثل دون مراعاة دخل في كل واحد منهما من القمح أو من القمح والشعير إن كانا تبايعا دقيق قمح بدقيق شعير، ومعلوم أن ريع الشعير لا يساوي ريع القمح، فهذا يشهد لما ذهب إليه ابن دحون، والحجة له بالأنبذة والأخلال أبين لأنها تختلف بما انضاف إليها من الماء كما تختلف الأخباز بما انضاف إليها من الماء، إذ قد يكون بعضها أقل من بعض، وأما الدقيق فلم ينضف إليه في طحنه شيء سواه، وريعه يقرب بعضه من بعض، فلهذا أجازه والله أعلم، ألا ترى أنه لم يجز المشوي بالمشوي ولا القديد بالقديد من اللحم إلا بتحري أصولهما لتباعد ما بينهما في الرطوبة واليبس، وأما اللحم المطبوخ بالأبزار باللحم المطبوخ بالأبزار فالقول فيه كالقول في الخبز بالخبز لأن كل واحد منهما خرج إلى صنف آخر، فانظر في ذلك. وأما إن كانت أصول الأخباز مما يجوز فيه التفاضل فلا اختلاف في أن المماثلة تعتبر في أعيان الأخباز بالوزن على مذهب من يرى الأخباز كلها صنفا واحدا، وهو قول ابن القاسم في سماع يحيى من كتاب السلم والآجال، وقد مضى هناك ذكر الاختلاف في ذلك فلا معنى لإعادته.

[مسألة: كان له على رجل مائتا رطل صوف فحل الأجل]
مسألة وعن رجل كان له على رجل مائتا رطل صوف فحل الأجل

(8/87)


فوجد الرجل عند غريمه أربعة عشر كبشا سبعة منها مجزوزة وسبعة مصوفة فأراد أن يأخذ منه تلك الأكباش كلها بثمانين رطلا من صوف مما عليه، قال: إن كان يعرف كم في تلك السبعة الأكبش من صوف حتى لا يشك فيه إلا يسيرا رطل أو نحوه فإنه قيل لي إنه يعرف، وما أيسر ما يقع عنهم من علمه يريدون تلك الجزز فلا أرى به بأسا، وإن كان لا يعرف ويقع في معرفته غبن كثير فلا خير فيه، قيل له: أرأيت لو كان لرجل على رجل مائتا رطل صوف فأحضر الجزز ليزنها، فأراد أن يأخذ منه جزرا بالمائتي رطل من غير وزن؟ قال: إن تحرى ذلك حتى يعرف فإن زاد زاد يسيرا وإن نقص عما تحرى نقص يسيرا فلا أرى به بأسا، وإن كان لا يعلم إلا بتغابن كثير فلا خير فيه.
قال محمد بن رشد: إجازة ابن القاسم في هذه المسألة أن يؤخذ الصوف بالتحري دون وزن من الوزن الذي له هو على قياس قوله في رسم باع شاة من سماع عيسى من كتاب السلم والآجال. قوله فيه: وكل صنف من الطعام أو غيره مما يجوز منه واحد باثنين من صنفه فلا بأس باقتسامه على التحري كان مما يكال أو يوزن أو مما لا يكال ولا يوزن، وعلى خلاف ما في آخر السلم الثالث من المدونة. قوله فيه: وكل شيء يجوز منه واحد باثنين من صنفه إذا كايله أو راطله أو عاده فلا يجوز الجزاف بينهما لا منهما ولا من أحدهما لأنه من المزابنة إلا أن يكون الذي يعطي أحدهما متفاوتا يعلم أنه أكثر من الذي أخذ من ذلك الصنف بشيء كثير، وهو إذا تقارب عند مالك ما بينهما كان من المزابنة وإن كان ترابا. وقد قال ابن دحون في مسألتي الصوف هاتين إنهما مخالفتان لأصل مالك وأصحابه في أن الصنف الواحد مما يجوز فيه التفاضل لا يجوز بعضه ببعض إلا إذا بان

(8/88)


التفاضل وظهر، وأما إن لم يبن وتحرى أن يكون مثلا بمثل فهو من المزابنة، وإنما عول ابن دحون على ما وقع في المدونة، وهو أصل قد اختلف فيه، وقد مضى تحصيله في رسم باع شاة من سماع عيسى من كتاب السلم والآجال. وأما إجازة التحري فيما لا يجوز فيه التفاضل فلا يجوز فيما يكال ويجوز فيما يوزن على تفصيل قد مضى القول فيه في رسم سلف من سماع عيسى [وفي غيره] .

[مسألة: يأتي البزاز فيقول بكم هذا المتاع عليك فيقول بعشرة نقص]
مسألة وسئل عن رجل يأتي البزاز فيقول بكم هذا المتاع عليك؟ فيقول: بعشرة نقص، فيقول: ليست معي نقص ولكني أحسبها عليك بقائمة، وإني أربحك فيها نصفا، فيقول: هي تجيء تسعة قائمة، فيقول: قد أربحتك فيها نصفا، قال: لا بأس بهذا لأنه بيع حادث كأنه باعه مساومة.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة لا إشكال في جوازها لأنه أربحه على تسعة قائمة بعد أن بين له أنه ابتاعها بعشرة نقص، فذلك جائز كما لو باعها مساومة بتسعة قائمة.

[مسألة: بيع الرطب عددا]
مسألة وقال في التمر يباع عددا: وقال مالك في الرطب يباع عددا فكرهه وقال: هو عندي مثل التمر، قال ابن وهب: إذا أحاط

(8/89)


بصره به صغيره وكبيره فلا أرى به بأسا، قال ابن القاسم: إذا كان شيئا يسيرا فلا بأس به قدر ما لا يكال مما لا يمكن فيه الكيل.
قال محمد بن رشد: لا اختلاف في الكثير من التمر أنه لا يجوز أن يباع عددا لأن الأصل فيه الكيل، فلا يجوز أن يباع وزنا ولا عددا لأن ذلك من الغرر، ولا اختلاف أيضا في اليسير الذي لا يكال ولا يتأتى فيه الكيل أنه يجوز أن يباع عددا كما قال ابن القاسم، وإنما الاختلاف في اليسير الذي يتأتى فيه الكيل ويعرف لقلته بعدده مقدار كيله، فكرهه مالك وأجازه ابن وهب إذا أحاط به بصره صغيره وكبيره يريد فعرف بذلك مقدار كيله، والله أعلم. واختلف في وجه كراهة مالك لذلك، فقيل: لما يقع في ذلك من الجهل وإن قل، إذ لا يعرف حقيقة ما فيه من الكيل بالعدد، وقيل: إنما كرهه لما في الكيل من البركة، روى الحارث عن ابن وهب قال: سمعت مالكا يقول لصاحب السوق أنهيت الناس عن بيع الرطب عددا؟ قال: نعم، أردت ألا يباع إلا كيلا لما في الكيل من البركة، قال له مالك: إني أكره أن يباع الرطب عددا بالدراهم مثل بيع أهل المدينة.

[مسألة: قدم بقمح من بلد فقال حين خرج إن أنا وجدت بيعا في الطريق بعته وإلا بلغته]
مسألة وقال في رجل قدم بقمح من الإسكندرية فقال حين خرج: إن أنا وجدت بيعا في الطريق بعته وإلا بلغته الفسطاط، قال: لا يبع في الطريق وليبلغ به الفسطاط إلا أن يكون نوى به إلى قرية فيها سوق فلا بأس أن يبيعه فيها، قيل له فأراد أن يختزنه في منية موسى ثم بدا له أن يبيعه ثم قال: لا بأس به.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ «لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن تلقي السلع وعن بيعها حتى يهبط بها إلى الأسواق» فإذا لم يجد ثمنا خرج

(8/90)


بطعامه إلى الفسطاط أن يبيعه بالطريق قبل أن يبلغ به الفسطاط لنهي رسول الله عن ذلك وجب ألا يجوز ذلك له وإن نواه، إذ لا تأثير للنية في جواز ذلك، بل ينبغي أن يكون الأمر أشد عليه إذا نواه، إذ لا يجوز لأحد أن ينوي فعل ما لا يجوز له فعله وذلك إذا باعه بالطريق ممن يريده للبيع. وأما إن مر بقرية على أميال من الحاضرة فجائز له أن يبيعهم ما يحتاجون إليه للأكل، فإن نوى قرية فيها سوق جاز أن يبيع طعامه فيه إذا كان جائزا له أن يبيعه فيه وإن لم ينو ذلك عند خروجه، إذ لا تأثير للنية فيما يجوز من ذلك مما لا يجوز منه. وأما إذا اختزنه في الطريق بموضع ليس فيه سوق فقال: إنه إن بدا له أن يبيعه فيه جاز ذلك ولم يكن به بأس، وفي هذا تفصيل، أما إذا باعه من أهل ذلك الموضع ليأكلوه أو ليبيعوه فلا بأس بذلك لأنه قد صار باختزانه في ذلك الموضع كأنه قد أصيب فيه، وأما إن باعه ممن خرج من أهل الحاضرة لشرائه فيجري ذلك محلى الاختلاف في أهل الحاضرة يخرجون إلى الحوائط يشترون من ثمارها أجاز ذلك ابن القاسم ورواه عن مالك، وهو قول أشهب خلاف روايته عن مالك في سماعه من كتاب السلطان أن ذلك لا يجوز، وقد مضى ذلك في رسم شك في طوافه من سماع ابن القاسم.

[مسألة: اشترى منه بعشرة دنانير قمحا فولاه رجلا فأراد أخذ العشرة فأعطاه تسعة]
مسألة وسئل عن رجل اشترى من رجل بعشرة دنانير قمحا فولاه رجلا، فلما أراد أخذ العشرة منه أخذ منه تسعة وقال له: قد تصدقت عليك بالدينار، قال: هذا مكروه، ولا خير فيه.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال إن ذلك لا خير فيه لما يخشى من أن يكون قد نوى ذلك عند التولية ولعل المولى قد رجا أن يضع عنه أو فهم ذلك من إرادته فيكون كأنه قد ولاه إياه بأقل مما اشتراه فيكون بيعا له

(8/91)


قبل استيفائه، وأما لو وقعت التولية بالعشرة لا ينوي أن يعطه منها شيئا ولا يطمع بذلك المولى منه ثم بدا له فحط عنه لم يكن على واحد منهما في ذلك حرج والله أعلم.

[مسألة: استعان رجلا يبتاع له سلعة]
مسألة وسئل ابن القاسم عن رجل استعان رجلا يبتاع له سلعة فلما ابتاعها واستوجبها قال للبائع: خذ ذهبك من هذا يا رب السلعة للذي استعان به وادفع إليه السلعة ففعل ذلك البائع فوجد بعد ذلك في الذهب نقصا وقد غاب رب السلعة أو فلس، قال: إن كان المستعان لم يعلمه ذلك كان عليه بد لها.
قال محمد بن رشد: قوله إن كان المستعان لم يعلمه ذلك كان عليه بدلها معناه إن كان لم يعلمه عند الشراء أنه إنما يشتري منه لفلان المستعين له على الشراء وأنه إليه يدفع ومنه يقبض فعليه البدل، ولا ينتفع بقوله له بعد الشراء ادفع إلى فلان السلعة وخذ منه الثمن فإني اشتريتها له إلا أن يصدقه في ذلك. ولو قال له عند الشراء إني إنما اشتريتها لفلان ودفع هو إليه الثمن وقال: إنه مال فلان فوجد فيه نقصا وقد غاب فلان لوجب على المشتري البدل ما لم يصدقه البائع على ذلك ويبيعه عليه بتصريح على قياس ما مضى لأصبغ في نوازله قبل هذا خلاف قول ابن الماجشون.

[مسألة: باع جارية وعليها حلي وثياب]
من مسائل نوازل سئل عنها سحنون قال سحنون عن علي بن زياد عن مالك إنه قال في رجل باع جارية وعليها حلي وثياب، قال: إن كان يعرف أنها هيئت بذلك للبيع فهو للبائع إلا أن يشترطه المبتاع، فإن اشترطه المبتاع جاز البيع.

(8/92)


قال محمد بن رشد: قد مضى في أول سماع ابن القاسم من رواية ابن القاسم عن مالك مثل رواية ابن زياد هذه عنه، ومضى القول على ذلك هنالك فلا وجه لإعادته.

[مسألة: اشترى عرصة فلما أراد البنيان فيها وجد بئرا عادية لها بال]
مسألة وسئل عن رجل اشترى عرصة فلما أراد البنيان فيها وجد بئرا عادية لها بال، فقال البائع: بعتك شيئا لم أعرفه، وأنا أفسخ البيع، قال سحنون: أراها للمشتري وكذلك المواريث إذا اقتسمها الورثة فوجد في سهمه مثل ذلك أن ذلك له دون ورثته.
قال محمد بن رشد: وكذلك لو وجد المشتري في العرصة التي اشترى صخرا أو عمدا أو رخاما أو وجد ذلك أحد الورثة في حظه لكان ذلك له على قول سحنون هذا، وهو قول ابن حبيب في الواضحة وابن دينار في المدنية نصا وعلى قياس أحد قولي ابن القاسم في رسم استأذن من سماع عيسى من كتاب الأقضية في الذي يجد في أرضه جبا وباب الجب في أرض غيره إن له أن يأخذ ما كان منه في أرضه وينتفع به ويسده فيما بينه وبين صاحبه، ولا يستحقه صاحبه بالباب. ويأتي على قياس قول ابن القاسم في الرسم المذكور أن الجب لصاحب الباب ولا حق فيه للذي وجده في أرضه أنه إن وجد المشتري في العرصة التي اشترى بئرا أو جبا أو

(8/93)


بيتا لم يعلم بها البائع أن للبائع أن ينقض البيع، وكذلك إذا وجد ذلك أحد الورثة في حظه كان للآخرين نقض القسمة، وأنه إذا وجد فيما اشترى صخرا أو عمدا أو رخاما مغيبا تحت الأرض فهو للبائع، فإن وجد ذلك أحد الورثة في حظه فهو بينهم، وكذلك قال ابن القاسم في أول رسم من سماع عيسى من كتاب اللقطة أنه لا حق في ذلك للمبتاع.
قال محمد بن رشد: وهذا الاختلاف إنما هو في المجهول الذي لا يعلم صاحبه، وأما إن ثبت أن ما وجد مغيبا في الأرض أنه من متاع البائع أو من متاع من ورثه عنه فلا اختلاف في أنه له، وكذلك إن علم أن ما وجده أحد الورثة في حظه من ذلك أنه لموروثهم فهو بينهم بلا خلاف، وكذلك إن ثبت أن البئر أو الجب أو البيت الموجود تحت الأرض من عمل البائع كان نسيه أو من عمل من ورثه عنه فلا اختلاف في أن للبائع أن ينقض البيع وأن لمن يجد ذلك في حظه من الورثة أن ينقض القسمة. وجه القول الأول في المجهول أنه لمن وجد ذلك في أرضه هو أن البائع لم يثبت له عليه ملك، وقد باع الأرض ولا يعلم ما في داخلها فوجب ألا يكون للبائع حجة على المبتاع فيما وجده المبتاع فيها مما ينتفع به، كما لا يكون للمبتاع حجة على البائع فيما وجده فيها من جبل يمنعه من أن يحدث فيها ما يحتاج إليه من جب أو بئر أو غراس؟ ووجه القول الثاني أن ما وجد في الأرض مما يعلم أنه محدث فيها من جب أو بئر أو موضوع فيها من صخر أو عمد أو رخام فإنه محمول على أنه للبائع، إذ لعله قد انتقل إليه بميراث لم يعلم به وما أشبه ذلك، فوجب ألا يسقط حقه فيه جهله به، وإن علم أنه ليس له فحكمه حكم اللقطة، وهذا القول أظهر، والله أعلم، وبه التوفيق.

(8/94)