البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة

 [كتاب البضائع والوكالات الأول] [أسلف رجلا دينارا فجاءه به فرده لشيء كرهه]

(8/95)


من سماع ابن القاسم من مالك
من كتاب الرطب باليابس
قال سحنون أخبرني ابن القاسم عن مالك أنه قال: من أسلف رجلا دينارا فجاءه به فرده لشيء كرهه، فقال له: ادفعه إلى فلان، فقال: إن كان قبضه ورآه وعرفه ثم رده إليه فلا ضمان عليه إن تلف، وإن كان لم يره صاحبه فهو من المسلف حتى يرده.
قال محمد بن رشد: قوله: ادفعه إلى فلان يريد ادفعه إليه يبدله لك، ولم ير أن ينتقل الدينار من ذمة المستسلف له إلى أمانته بقول الذي أسلفه إياه ادفعه إلى فلان حتى يقبضه منه ثم يرده إليه ليحمله إلى فلان، ومثله في رسم القطعان من سماع عيسى من كتاب الكفالة والحوالة، وفي السلم الأول من المدونة في الذي يسلم الثوب في طعام فيحرقه رجل في يده قبل أن يقبضه المسلم إليه لأنه قال فيه: إن قال إنما تركه وديعة في يده بعدما دفعه إليه فأرى قيمته له على من أحرقه والسلم على حاله، وعلى هذا يأتي قوله في كتاب القراض من المدونة في مال القراض يضيع منه

(8/97)


بعضه فيخبر بذلك رب المال فيقول له: اعمل بما بقي في يدك قراضا إنه على القراض الأول وإن أحضر المال وحاسبه ما لم يدفعه إليه ثم يرده إليه قراضا مستأنفا خلاف ما حكى ابن حبيب عن مالك في الواضحة وربيعة والليث ومطرف وابن الماجشون وجماعة أصحاب مالك إلا ابن القاسم فإنه كان يشدد فيه ويقول: إنه على القراض الأول حتى يدفعه إليه ثم يرده عليه، فيأتي على قوله في مسألتنا أن الدينار ينتقل من ذمة المستسلف إذا أحضره بقول المسلف له ادفعه إلى فلان يبدله لك، ولو كان المسلف للدينار قبض ديناره من المستسلف له ثم أتاه به فقال: وجدته معيبا وإنما أسلفتك سالما، فقال له: إنما أخذته من فلان فاذهب به إليه يبدله لك لوجب على هذه الرواية أن يكون ضمانه إن تلف في الذهاب به من صاحبه القابض له الذاهب به وألا ينتقل عن ذمته إلى أمانته لقول الدافع له: اذهب به إلى فلان يبدله لك، ولوجب أيضا على ما حكى ابن حبيب في الواضحة عمن ذكرناه أن ينتقل بقوله: اذهب به إلى فلان يبدله لك من ذمته إلى أمانته فيصدق في دعواه تلفه، ويتخرج في هذا الوجه قول ثالث في المسألة وهو أن يكون في يده كالرهن لا يصدق في دعواه تلفه إلا أن تقوم على ذلك بينة حسبما ذكرناه وبينا وجهه في رسم القطعان من سماع عيسى من كتاب الكفالة والحوالة.

[مسألة: أرسل رسولا يبيع له غلاما ولم يوقت له شيئا فاختلفا]
مسألة وقال مالك في رجل أرسل رسولا يبيع له غلاما ولم يوقت له شيئا، فاختلفا، فقال المشتري: ابتعته بأربعين دينارا وقال الرسول وهو البائع: لا بل بخمسين دينارا أرى الأيمان بينهما، فإن

(8/98)


أبى الرسول أن يحلف لم يفسخ البيع بينهما ولم يقل لصاحب الغلام احلف؛ لأنه لا علم له، ولكن يحلف المشتري ويكون القول قوله مع يمينه.
قال محمد بن رشد: قوله: ولم يؤقت له شيئا معناه: وقد فوض إليه أن يبيع بما يراه لأنه لو لم يؤقت له ثمنا ولا فوض إليه أن يبيع بما يراه لكان الأمر موقوفا على رضاه ولوجب إذا قال الرسول: بعت بخمسين، وقال المشتري: اشتريت بأربعين إن قال رب العبد: لا أرضى أن أبيع عبدي بالخمسين التي قال إنه باع العبد بها أن يأخذ عبده، وإن قال: لا أرضى أن أبيع عبدي بدون الخمسين التي باعه بها أن يقال للمشتري: إن أردت أن تأخذ العبد بخمسين فخذه وإلا فلا شيء لك، ولا أيمان بينهما في شيء من ذلك كله. وأما إن قال رب العبد: لو باعه بأربعين لرضيت بذلك، ولكنه قد قال: إنه باعه بخمسين فأنا أطلبها لكانت الأيمان بينهما في ذلك على ما ذكره إذا لم يوقت له ثمنا وفوض إليه البيع باجتهاده، يريد أن الأيمان تكون بينهما على ما تكون بين المتبايعين إذا اختلفا في الثمن والسلعة قائمة أو فائتة. وقوله: فإن أبى الرسول أن يحلف لم يفسخ البيع بينهما صحيح؛ لأن البيع إنما لم يفسخ إذا حلفا جميعا أو نكلا جميعا على ما سنذكره في ذلك من الاختلاف. وقوله: ولم يقل لصاحب الغلام احلف معناه أنه لا يجب عليه أن يحلف إذ لم يل البيع فقد لا يعرف الثمن، وإنما يجب اليمين على الوكيل الذي ولي البيع، وأما هو فمن حقه إن ادعى معرفة الثمن أن يحلف إن شاء في موضع الرسول فيفسخ البيع إذا حلف المشتري ولا يجب له على الرسول بنكوله شيء؛ لأنه لما حلف فقد اختار فسخ البيع على إمضائه بيمين المشتري ويضمن العشرة للرسول، وكذلك إذا حلف الوكيل والمشتري وانفسخ البيع لم يجب على الوكيل شيء لأن الإشهاد لا يتعين عليه إلا عند دفع السلعة. ألا ترى أنه لو قال:

(8/99)


بعت العبد بخمسين فأنكر المشتري الشراء جملة وحلف لم يلزم الرسول شيء، ولو كان قد دفع إليه العبد فجحد الثمن وأنكر أن يكون قبض العبد فحلف لضمن الرسول الخمسين لا قيمة العبد، كذلك قال في المدونة إنه يضمن الثمن. والوجه في ذلك أن الإشهاد بالثمن إنما يتعين عليه عند دفع العبد، وإن لم يحلف واحد منهما حلف المشتري وكان القول قوله على ما قال في الرواية، ورجع رب العبد على الرسول بالعشرة التي أتلفها عليه بنكوله عن اليمين، قاله مالك في كتاب ابن المواز. ولو دفع الرسول العبد إلى المشتري ففات عنده ووجب أن يكون القول قوله لحلف وغرم الرسول العشرة التي أتلف على رب العبد بتركه الإشهاد على المشتري بالثمن، إذ دفع إليه العبد، قاله مالك في كتاب ابن المواز أيضا، ولم يتكلم في هذه الرواية إن نكل المشتري بعد نكول الرسول، وحكاها ابن حبيب وزاد فيها فإن نكل المشتري عن اليمين أيضا لزمه البيع، يريد بما ادعى الرسول البائع، وإلى هذا ذهب ابن حبيب في المتبايعين إذا اختلفا في الثمن فقال: إنهما إن نكلا كان القول قول البائع. وقد قال أبو بكر بن محمد في هذه المسألة: فإن أبى المشتري أن يحلف بعد نكول الرسول غرم ما قال الرسول، وهو خلاف المتبايعين، وقوله: وهو خلاف المتبايعين لا يصح بوجه لأنهما متبايعان فلا فرق في حلفهما أو في حلف أحدهما ونكول الآخر، أو في نكولهما جميعا بين أن يكون البائع منهما هو رب السلعة أو وكيله على البيع، ففي نكولهما جميعا قولان: أحدهما أن القول قول الوكيل على البيع أو قول رب السلعة إن كان هو الذي ولي البيع، وهو نص قول مالك في هذه المسألة ومذهب ابن حبيب، والثاني أن نكولهما جميعا بمنزلة حلفهما جميعا ينفسخ البيع فيما بينهما، وهو مذهب ابن القاسم على قول شريح في كتاب بيع الخيار من المدونة إن حلفا ترادا وإن نكلا ترادا، وقيل: إنما يكون القول قول الرسول أو قول رب السلعة إذا نكلا عن اليمين جميعا مع يمينه لقد باع العبد منه بخمسين لأنه في هذا على

(8/100)


المشتري مدع صدقا، فإذا نكل المشتري المدعى عليه عن اليمين على ذلك رجعت اليمين على المدعي وهو البائع فحلف واستحق ما حلف عليه. ويبعد قول من قال: إن البائع لما كان هو المبدأ باليمين فنكل عنها ثم نكل المشتري بعده عن اليمين كان القول قول البائع بلا يمين، بمنزلة من ادعى على رجل حقا له فيه شاهد واحد فأبى أن يحلف مع شاهده ورد اليمين على المدعى عليه فنكل عن اليمين أن المدعي يكون له ما ادعى دون يمين لنكول صاحبه بعد نكوله هو؛ لأن يمين البائع لقد باع العبد منه بخمسين لم تجب له ولا مكن منها فلم ينكل عنها؛ لأن صفة أيمانها أن يحلف البائع ما باع العبد منه بأربعين، ويحلف المشتري ما اشتراه بخمسين؛ لأن البائع مدعى عليه أنه باع بأربعين، وهو منكر لذلك، فوجب أن يحلف عليه؛ والمشتري مدعى عليه أنه اشتراه بخمسين وهو منكر لذلك، فوجب أن يحلف عليه، وليس على البائع أن يزيد في يمينه: ولقد باعه منه بخمسين لأنه باع في ذلك على المشتري، فقد كذبه بيمينه، إلا أن يشاء أن يزيد ذلك في يمينه أو يجمع المعنيين في لفظ واحد فيحلف أنه ما باعه منه إلا خمسين رجاء أن ينكل صاحبه عن اليمين فلا يحتاج إلى يمين أخرى ويكتفي باليمين الأول، فلم ينكل عن اليمين على هذه الزيادة إذ لم تكن واجبة عليه، ولا كان من حقه أن يحلف عليها ويستحق الخمسين، فوجب إذا نقل المشتري عن اليمين أنه ما اشتراها منه بخمسين ألا يستحق هو الخمسين إلا بعد يمينه: لقد باعه منه بخمسين، فإذا حمل قول ابن حبيب على هذا لصحة ما ذكرناه من معناه وجب أن يصرف قول ابن القاسم بالتأويل إليه فيقال: معنى قوله وإن نكلا ترادا أي إن أبى البائع أن يحلف على كل حال أولا وآخرا فتستقيم المسألة ويصحح معناها ولا يكون بين ابن القاسم وبين ابن حبيب اختلاف فيها، ومن تأول على ابن حبيب في قوله إذا نكل عن اليمين كان القول قول البائع أنه يكون القول قوله دون يمين فعد قوله مثل أقوال أهل العراق في القضاء بالنكول دون اليمين على

(8/101)


المدعى، وذلك خلاف مذهب مالك وجميع أصحابه، وسيأتي في رسم نقدها نقدها من سماع عيسى الحكم إذا باع الرسول العبد فوجد المشتري به عيبا فهو من معنى هذه المسألة.

[مسألة: بعث معه بضاعة فيريد أن يحسب نفقتها كما يحسب على القراض]
مسألة قال ابن القاسم عن مالك في رجل تبعث معه بضاعة فيريد أن يحسب على صاحبها من النفقة كما يحسب على القراض، قال: إن كان شيئا كثيرا فذلك له، وإن كان شيئا تافها فلا، قال ابن القاسم وذلك رأيي إذا كان الذي حمل من ذلك شيئا له بال، فأما إذا كان الشيء اليسير فلا أرى ذلك عليه.
قال محمد بن رشد: وافق ابن القاسم مالكا فيما رواه عنه من أن البضاعة إذا كانت كثيرة لها بال، قال محمد مثل الخمسين والأربعين كان للمبضع معه أن يقبض نفقته على البضاعة وعلى ماله الذي خرج به قياسا على من أخذ مالا قراضا فخرج به وبمال له أن نفقته تكون مفضوضة على المالين، وفي رسم الأقضية من سماع أشهب خلاف هذا أنه لا يحسب على البضاعة من النفقة شيء، وهو الأظهر لبعد قياس البضاعة في هذا على القراض؛ لأن الحكم في القراض أن تكون نفقة المقارض في سفره من مال القراض، فقد دخل معه رب المال على ذلك إذ لم يتطوع له بشيء، والمبضع معه قد تطوع لرب البضاعة بحملها ولم يعلمه أنه يحسب شيئا من نفقته عليه، ولعله لو علم بذلك لم يرض به ولم يسلم بضاعته إليه، فكان الأظهر ألا يكون له أن يحسب من نفقته شيئا عليها إلا بشرط أو عرف. وفي قوله في آخر رواية أشهب وإن أشياء لتكون يوما لا تجمل ولا تحسن ما يدل على أنه يكره له أن يفعل ذلك. وليس بمحظور عليه فيتحصل في المسألة ثلاثة أقوال: الجواز، والمنع والكراهة، وبالله تعالى التوفيق.

(8/102)


[مسألة: أبضع معه بضاعة في سلعة من السلع فابتاع غيرها ثم باعها فربح]
مسألة وقال مالك فيمن أبضع معه بضاعة في سلعة من السلع فابتاع غيرها ثم باعها فربح فيها ثم ابتاع أخرى فوضع، وذلك كله بغير إذن صاحب البضاعة قال: الربح لصاحبها والضمان على من افتات عليه بما افتات.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة إذا لم يفرق فيها بين أن تكون السلعة التي أمره بشرائها موجودة في ذلك البلد أو غير موجودة فيه أنه ابتاع غير السلعة التي أبضع معه فيها لرب البضاعة، ولذلك قال: إنه يكون الربح الذي ربح في الأولى لصاحبها الذي ابتاعها له والوضيعة التي وضع في الثانية على المبضع معه المفتات عليه في شراء ما لم يأمره به، ولو قدم بها لكان مخيرا بين أن يأخذها لأنه ابتاعها له بماله وبين أن يتركها ويضمنه ماله. وهذه المسألة تتشعب إلى وجوه كثيرة: منها أن يشتري المبضع معه في ذلك البلد ببضاعة الرجل السلعة التي أمره بشرائها له أو لنفسه، ومنها أن يشتري في ذلك البلد أو غير ذلك البلد ببضاعته غير السلعة التي أمره بشرائها له أو لنفسه أيضا فيبيعها بربح أو بخسارة أو يقدم بها والسلعة التي أمره بشرائها موجودة في ذلك البلد أو غير موجودة فيه، ومنها أن يشتري في غير ذلك البلد السلعة التي أمره بشرائها إذا لم يجدها في ذلك البلد أو قبل أن يبلغه، فأما إن اشترى في ذلك البلد ببضاعته السلعة التي أمره بشرائها فهي له لازمة، واختلف أنه إن زعم أنه اشتراها لنفسه فروى محمد بن يحيى السبائي عن مالك أنه يحلف على ذلك وتكون له ويرد إليه ماله، وقيل: إنه لا يصدق في ذلك إلا أن يكون أشهد قبل الشراء أنه إنما يشتريها بالبضاعة لنفسه لا له، فتكون له ويرد إلى الرجل بضاعته، وقع هذا القول في الثمانية لأبي زيد، وقيل: إنه لا يصدق في ذلك وإن

(8/103)


أشهد وتكون السلعة لرب البضاعة إلا أن يعلمه قبل الشراء أنه إنما يشتريها لنفسه لا له، وهو قول أصبغ وروايته عن ابن القاسم في الثمانية. وهذه الثلاثة الأقوال في السلعة المعينة ولا فرق، وأما إذا اشترى في ذلك البلد أو في غير ذلك البلد غير السلعة التي أمره بشرائها لصاحب البضاعة فسواء كانت السلعة التي أمره بشرائها موجودة في ذلك البلد أو غير موجودة فيه يكون الربح لصاحب البضاعة إن باعها بربح لأنه اشتراها له، والنقصان إن باعها بوضيعة على المشتري المفتات، وإن قدم بها كان صاحب البضاعة مخيرا بيمين أن يأخذها لأنه اشتراها له بماله، وبين أن يتركها ويضمنه ماله حسبما وصفناه في أول المسألة. وأما إن اشترى في ذلك البلد أو في غير ذلك البلد غير السلعة التي أمره بشرائها لنفسه فباعها بربح أو وضيعة أو قدم بها، فإن كانت السلعة التي أمره بشرائها موجودة في ذلك البلد فالربح لصاحب البضاعة والوضيعة على المبضع معه، وإن قدم بالسلعة كان رب المال بالخيار بين أن يأخذها أو يضمنه ماله، وقال مطرف: الربح والوضيعة للمبضع سعه. وأما إن كانت السلعة غير موجودة في ذلك البلد فالربح له والوضيعة عليه لأنه اشتراها لنفسه، واختلف إن قدم بالسلعة فظاهر قول ابن القاسم في رسم الكراء والأقضية من سماع أصبغ أن لرب المال أن يأخذها إن شاء، وعاب ذلك أصبغ وخطأه وقال: لا سبيل لرب المال إلى أخذها إلا إن كان اشتراها والسلعة التي أمره بشرائها موجودة في ذلك البلد، ومثل قول أصبغ هذا لابن القاسم في سماع سحنون، فيحتمل أن يتأول قول ابن القاسم في سماع أصبغ على هذا فلا يلزمه اعتراض أصبغ وتخطئته لقوله. واختلف أيضا إن اشترى له ما أمره به بعد أن باع السلعة التي كان اشتراها لنفسه فقال مطرف: هو بالخيار في أخذها، وقال ابن الماجشون: يلزمه أخذها إذا كانت على الصفة، وهو مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك. وأما إن اشترى في غير ذلك البلد السلعة التي أمره بشرائها بعد أن لم يجد مما في البلد وقبل أن يبلغه فقال ابن القاسم في آخر رسم أوصى من

(8/104)


سماع عيسى: إن صاحب المال بالخيار إن شاء أخذها وإن شاء تركها، وقال عيسى بن دينار من رأيه: يلزمه أخذها إذا كانت على الصفة أو اشتراها بمثل الثمن، وبالله تعالى التوفيق.

[مسألة: أبضع معه في ثوب فاشتراه ثم قال للذي باعه اذهب به فسرق منه]
مسألة وقال مالك فيمن أبضع معه في ثوب فاشتراه ثم قال للذي باعه: اذهب به فأره صاحبي، قال: نعم، فسقط منه أو سرق، قال: فإن ثمنه ضامن على الذي أرسله.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة أنه اشترى الثوب بالخيار على أن يريه صاحبه، وكذلك ذكر في كتاب ابن المواز أنه كان اشتراه له بالخيار إذ لا معنى لاستئذانه البائع بعد ثبات البيع في أن يريه صاحبه. وقوله إذا كان اشتراه على الخيار فإن ثمنه ضامن على الذي أرسله صحيح لأن ضمانه منه إذا لم يعرف هلاكه إلا بقوله على حكم ما اشترى بالخيار، ولا حجة له على المبضع معه بأن يقول له: قد تعديت علي إذ اشتريت بالخيار دون أن آمرك بذلك، إذ لا ضرر عليه في الخيار بل له فيه منفعة على كل حال، إلا أن يكون زاد في الثمن بسبب الخيار فيكون من حقه أن يرجع عليه بالزيادة إن تلفت السلعة قبل أن يختار، ويحتمل أن يكون معنى المسألة أنه اشترى له السلعة شراء باتا ثم سأل البائع بعد تمام البيع أن يجعل له الخيار فيها حتى يريها صاحبه، فتستقيم المسألة أيضا على هذا التأويل، ويصح فيها الجواب، ولا يكون لصاحبها في ذلك حجة ولا كلام.

(8/105)


[مسألة: اشترى سلعة أو تكارى دابة فقال: اشتريتها لامرأتي ثم طلب منها الثمن]
مسألة وقال مالك فيمن اشترى سلعة أو تكارى دابة فقال: اشتريتها لامرأتي، نقد الثمن أو الكراء أو لم ينقد، وقد حازت المرأة الدابة أو سكنت المنزل، ثم طلب منها الثمن، فقالت: قد دفعته إليك ولا بينة لها، قال: إن كان نقد الثمن فيمين المرأة: لقد دفعت إليه ثمنها، وما عندي منه قليل ولا كثير، وإن كان لم ينقد حلف الزوج بالله ما اقتضيت من ثمنها شيئا، ثم يأخذ منها.
قال محمد بن رشد: زاد في هذه المسألة في أول سماع ابن القاسم من كتاب الدعوى والصلح: قال سحنون وعيسى وإن أشهد الزوج عند دفعه الثمن إلى البائع أنه إنما ينقد من ماله ثم قالت المرأة: إني دفعت إليه الثمن لم أجعل القول قولها، ورأيت القول قول الزوج مع يمينه، وقولهما خلاف لقول مالك بعيد في النظر؛ لأنه يتهم على أن يتقدم بالإشهاد على ذلك ليكون القول قوله. ووقع في رسم استأذن من سماع عيسى بعد هذا في الرجل يوكل الرجل على شراء سلعة فيشتريها وينقد الثمن ثم يطلبه من الآمر فيقول: قد أعطيته لك وإنما اشتريتها بدراهمي أن القول قول الوكيل المشتري مع يمينه: يحلف ما أخذ منه ثمنها ثم يأخذه منه، فقال بعض أهل النظر: المعنى فيها أن الآمر لم يقبض السلعة ولذلك القول قول المأمور، فليست بخلاف لما في سماع ابن القاسم لأن الرجل سفير امرأته على ما قال في رسم حلف، والصواب أنها خلاف لها لأنه لم يعلل في سماع ابن القاسم بقبض السلعة، ولا يصح أن يعلل بذلك على مذهب ابن القاسم لأنها ليست برهن له على مذهبه يجب له إمساكها حتى يقبض الثمن، بل يلزمه دفعها إليه واتباعه بالثمن، وإنما يصح أن يعلل بقبض السلعة على مذهب أشهب الذي يراها رهنا بيده من حقه أن يمسكها

(8/106)


حتى يقبض الثمن، وإنما وجه ما في سماع عيسى أنه أحل المأمور محل البائع في أن القول قوله أنه لم يقبض الثمن وإن كان قد دفع السلعة، فالفرق بين أن يقبض الآمر السلعة أو لا يقبضها قول ثالث في المسألة يتخرج على مذهب أشهب، وفي كتاب ابن المواز قول رابع أن القول قول الآمر نقد الثمن أو لم ينقده، وتفرقة عيسى وسحنون بين أن يشهد الزوج أو لا يشهد قول خامس في المسألة، فهذا تحصيل القول فيها: رواية ابن القاسم عن مالك الفرق بين أن ينقد أو لا ينقد، وقول أشهب الفرق بين أن يقبض الآمر السلعة أو لا يقبض، وقول سحنون وعيسى الفرق بين أن يشهد المأمور أو لا يشهد، ورواية عيسى القول قول المأمور نقد أو لم ينقد، وما في كتاب ابن المواز القول قول الآمر نقد المأمور أو لم ينقد، والله أعلم.

[مسألة: يسلف الناس في البيع ويزعم أنه اشترى جميع ذلك لفلان]
مسألة قيل لأصبغ: ما تقول في الرجل يسلف الناس في البيع أو يشتري سلعا بأعيانها، ويزعم أنه اشترى جميع ذلك لفلان رجل غائب بماله أمره بذلك، ويكتب في اشترائه: هذا ما اشترى فلان لفلان بماله؟ وكيف إن قال: أمرني أن أشتري له بهذه المائة الدينار فاشترى بها ونقدها ثم يأتي الذي زعم أنه أمره بذلك فينكر أن يكون أمره باشتراء شيء من الأشياء ويريد أخذ المال من البائع هل ترى ذلك له؟ قال أصبغ: هما سواء، ولا سبيل له إلى البائع، وسبيله على المبتاع بإقراره على نفسه، يأخذ ما اشترى منه أو يضمنه ماله المسمى، ولا سبيل له على البائع على حال، إلا أن تقوم بينة على الأصل في المال لفلان هذا المال بعينه الذي اشترى به ونقده فيه وإلا فلا.

(8/107)


قال محمد بن رشد: وقع قول أصبغ هذا في نوازله من كتاب جامع البيوع على نصه، وزاد فيه أو يصدقه البائع قبل البيع على ما ذكر من أنه يشتري لفلان بماله ويبيعه على ذلك بتصريح من البائع وإقرار، يريد فيكون لفلان أن يأخذ بذلك ماله بعينه من البائع كما له أن يأخذه إذا قامت البينة عليه إن ماله بعينه، غير أن البيع ينتقض إذا أخذ فلان ماله بإقرار البائع أن الشراء كان له وأن المال ماله، ولا ينتقض في قيام البينة أن المال ماله بعينه، ويرجع على المشتري بمثله، ويلزمه البيع لأن استحقاق الثمن إذا كان عينا لا يوجب نقض البيع ويشبه أن يقال على القول بأن العين لا يتعين، وهو قول أشهب وأحد قولي ابن القاسم في المدونة أنه لا سبيل له على البائع في المال إذا قامت له البينة عليه بعينه والمشتري ملي، وكذلك قال أبو عمر الإشبيلي: إن ما في كتاب السلم الثاني من المدونة خلاف لقول أصبغ إن لفلان أن يأخذ ماله من البائع إذا أقام البينة عليه يعينه؛ وابن الماجشون يقول: إن القول قول المشترى له يحلف ما أمر المشتري بالشراء ويأخذ ماله إن شاء من المشتري وإن شاء من البائع، فإن أخذه من البائع كان للبائع أن يرجع به على المشتري ويلزمه الشراء، وإن أخذه من المشتري لم يكن له أن يأخذه من البائع ويرد إليه ما اشترى منه، وقد مضى معنى هذا كله بزيادة عليه في نوازل أصبغ من كتاب جامع البيوع، وبالله التوفيق.

[وكلت زوجها بحق كان لها وأشهدت له أنه وكيلها في ذلك الحق]
ومن كتاب أوله: حلف ألا يبيع سلعة سماها وسئل عن امرأة وكلت زوجها بحق كان لها وأشهدت له أنه وكيلها في ذلك الحق والقائم به وأنه قبضه، ثم ادعت أنه لم يعطها شيئا، ماذا ترى عليه؟ قال: أرى أن يحلف على دفعه إليها ثم قال: هو سفيرها، قيل له: وما السفير؟ قال: الوكيل والرسول، وهو يبيع لها ويشتري، وقوم يوكلون أقواما بالعراق يرسلونهم يقتضون لهم أموالا ثم يقيمون السنين ثم يأتون بعد ذلك يقولون:

(8/108)


لم يدفع إلينا شيء، ما أرى في ذلك شيئا، ولا أرى عليه إلا أن يحلف ويبرأ ولا يكون عليه شيء.
قال محمد بن رشد: قوله: وهو سفيرها، والسفير الوكيل والرسول، يدل على أنه يحكم له بحكم الوكيل فيما باع واشترى لامرأته وإن لم تثبت وكالته للعرف الجاري من تصرف الرجال لأزواجهم في أمورهن، ومثله من الدليل في رسم البز من سماع ابن القاسم من كتاب المديان والتفليس، ووقع في سماع عبد الملك بن الحسن من كتاب الدعوى والصلح ما يدل على أنه محمول في ذلك على غير الوكالة حتى تعلم وكالته، وقد اختلف في الوكيل يدعي أنه دفع إلى موكله ما قبض له من نحو مائة أو ما باع به متاعه على أربعة أقوال: أحدها أن القول قوله مع يمينه جملة من غير تفصيل، وهو قوله في هذه الرواية في رسم البز من سماع ابن القاسم من كتاب المديان والتفليس وفي آخر كتاب الوكالات من المدونة، والثاني أنه إن كان بقرب ذلك في الأيام اليسيرة فالقول قول الموكل إنه ما قبض شيئا وعلى الوكيل إقامة البينة، وإن تباعد الآمر مثل الشهر ونحوه فالقول قول الوكيل مع يمينه، وإن طال الآمر جدا لم يكن على الوكيل ولا على الزوج يمينا، وهو قول مطرف عن مالك، والثالث أنه إن كان بحضرة ذلك وقربه في الأيام اليسيرة صدق الوكيل مع يمينه، وإن طال الآمر جدا صدق دون يمين، وهو قول ابن الماجشون وابن عبد الحكم، والرابع تفرقة أصبغ بين الوكيل بالشيء بعينه وبين الوكيل المفوض إليه، فالوكيل على الشيء يعينه غارم حتى يقيم البينة على الدفع وإن طال الآمر، والوكيل المفوض إليه يصدق في القرب مع يمينه وفي البعد دون يمين، فإن مات الوكيل أو الزوج بحدثان ما جرى ذلك على أيديهما كان ذلك في أموالهما إذا عرف القبض وجهل الدفع بعد يمين الموكل أو الزوجة أنه ما دفع إليه شيء، وإن كان موتهما بغير حدثان ذلك وما يكون في مثله المخرج والقضاء والدفع فلا شيء في أموالهما وإن كان لم يعرف الدفع ولم يذكر، ولا خلاف عندي في هذا الوجه إلا على القول بأن على الوكيل إقامة البينة على الدفع في القرب والبعد.

(8/109)


[مسألة: يبعث معه قوم في رقيق ببضائع لهم إلى مصر فيخلط أموالهم]
مسألة وسئل عن رجل يبعث معه قوم في رقيق ببضائع لهم إلى مصر فعمد وخلط أموالهم ثم اشترى رقيقا مختلفة، فلما فرغ من ذلك أعطى كل إنسان منهم بقدر بضاعته رأسا على نحو ما أبضع معه، فأعطى رجلا منهم جارية مريضة ابتاعها وهي مريضة قد عرف مرضها فهلكت الجارية، ثم إنه اعترف بالذي صنع، قال: إن اعترف بالذي صنع على نحو ما ذكرت أنه اشترى رقيقا ولم يكن في أصل اشترائه لكل إنسان ببضاعته، وإنما هو أعطاهم بعد الاشتراء فأراه ضامنا لذلك، وإن لم يقر وقال: إنما اشتريت الجارية له حين اشتريتها لم أر عليه شيئا، ورأيته في ذلك مصدقا، قيل له: أفترى عليه يمينا؟ قال: نعم إني لأرى ذلك عليه، قال سحنون: لا يمين عليه، قيل له: أفرأيت حين اشترى مريضة أتراه لها ضامنا إن قال إنما اشتريتها له؟ قال: إن كان مرضا مخوفا فأراه ضامنا، وإن كان مرضا مثله يجترأ عليه، فرب مرض يجترأ عليه ومثله فرصة في اشترائها لم أر عليه ضمانا، قلت له: أفترى للمبضع أن يرجع على الآخرين أن يقول: كما ضمنت هذا فأنتم له ضامنون لأني أعطيتكم غير أموالكم فأنتم لذلك ضامنون؟ قال: لا أرى عليهم ضمانا وإنما الضمان عليه.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة أنه لما خلط أموالهم اشترى لنفسه ثم أعطى كل إنسان بقسطه، فلذلك لا يرجع الذي ماتت جاريته المريضة على أصحابه، قاله ابن دحون، وهو عندي تفسير صحيح للمسألة. وإنما يضمن الجارية المريضة للذي دفعها إليه إذا لم يعلمه أنه هو الذي دفعها إليه من عنده بعد أن اشتراها لنفسه وأعلمه بمرضها أو لم يعلمه به؛ لأن من حقه أن يردها ولا يقبلها إذ لم يبضع معه إلا أن يشتري له

(8/110)


من غيره لا أن يعطيه من عنده، ولو أعلمه أنه اشتراها لنفسه وأنه هو يدفعها إليه من عنده لزمه أن يبين له بمرضها، وإن لم يبين له به كان عيبا فيها يكون له ردها به على حكم الرد بالعيوب، وكذلك كل واحد من أصحابه ممن دفع إليه جارية صحيحة في بضاعته إن بين له أنه اشتراها لنفسه وأنه يدفعها إليه أن عنده جاز ذلك، وإن لم يبين ذلك له كان من حقه أن يردها عليه ويضمنه بضاعته. ولو كان لما خلط اشترى لكل واحد منهم جارية بعينها من المال المخلوط بمثل بضاعته أو أقل أو أكثر بقدر ما يجوز له أن يزيد في الشراء ولا يكون به متعديا لجاز، ويرجع من اشترى له بأقل بضاعته على من اشترى له بأكثر من بضاعته حتى يعتدلوا، مثل أن يبضع معه أحدهم بمائة دينار في جارية، والآخر بثمانين، والآخر بأربعين فيخلط أموالهم ويشتري لصاحب المائة بمائة دينار وخمسة دنانير، ولصاحب الثمانين بسبعة وسبعين ولصاحب الأربعين بثمانية وثلاثين، فيرجع صاحب الثمانين على صاحب المائة بثلاثة دنانير، ويرجع عليه صاحب الأربعين بدينارين فيعتدلوا. ولو كان لما خلط أموالهم اشترى بها كلها ثلاثة أرؤس على أن يشتركوا فيها بمقدار بضاعتهم فيقتسمون أو يبيعون لجاز ذلك إذا رضوا، وإن لم يرضوا ضمنوه أموالهم وكانت له الجواري. وفي قوله: وإن كان مرضا مخوفا فأراه ضامنا إن كان اشتراها له دليل بين ظاهر على إجازة شراء الجارية المريضة المرض المخوف، وهو دليل ما في كتاب بيع الخيار من المدونة في الجارية تشتري بالخيار فتلد في أيام الخيار، وظاهر قوله في كتاب الاستبراء منها وفي رسم الجواب من سماع عيسى وسماع سحنون من كتاب العيوب. ونص قول أصبغ في الثمانية، قال: لا بأس ببيع المريض ما لم يقارب الموت أو تنزل به أسبابه من شدة المرض والبلاء في جسده مثل السل والمد ونحوه خلاف قول ابن الماجشون، واختيار ابن

(8/111)


حبيب في أن يبيعه لا يجوز إذا بلغ به المرض [مبلغا] لو كان حرا لم يجز له القضاء إلا في ثلث ماله، ولسحنون في نوازله من كتاب العيوب في بعض الروايات أن المريض يرد بالعيب، وإن كان مرضه مخوفا رده ورد معه ما نقصه عيب المرض المخوف، وسحنون يميل أبدا إلى قول ابن الماجشون، وإنما قال: إنه يرد بالعيب وإن كان مرضا مخوفا مراعاة لقول من يرى الرد بالعيب نقض بيع وأنه يرجع إلى البائع على الملك الأول.

[مسألة: يبعث معه قوم ببضاعة لهم فيجمع ذهبهم يشتري لهم فيصاب ذلك الطعام]
مسألة وعن الرجل يبعث معه قوم ببضاعة لهم في قمح فيجمع ذهبهم يشتري لهم صفقة واحدة ثم يصاب ذلك الطعام، فقال: لا يشبه هذا الذي ذكرت من الرقيق وليس بهذا بأس، ولا ضمان عليه.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، ومثله لابن القاسم في كتاب ابن المواز، قال: وكذلك كل ما يقسم بكيل أو وزن يشتريه لهم مشاعا ثم يقسمه، وأما ما لا يقسمه فهذا يضمن، قال محمد: بخلاف العامل في القراض يخلط أموال المقارضين فيما يقسم بالقيمة لأنه إليه البيع، وليس ذلك للأول، والله الموفق.

[يبيع الجارية بعشرين دينارا على أن يستأمر صاحبها]
ومن كتاب أوله:
حديث طلق بن حبيب
وسئل مالك عن الرجل يبيع الجارية بعشرين دينارا على أن يستأمر صاحبها وإنما هو وكيل، فيقول له رجل: عندي زيادة أفترى أن يخبر بذلك صاحبه؟ قال: نعم أرى ذلك وإنما يطلب صاحبها الزيادة ولكني أرى أن يبين ذلك له، فرب رجل لو زاده لم يبعه

(8/112)


يكره مخالطته وخصومته ويأمن من ناحية هذا وإن كان أقلهما عطية، قيل له: فإن أمره أن يبيع من الذي زاده فأبى أن يأخذ؟ قال: أرى أن يلزمه البيع، قيل له: إنه يقول: لا حاجة لي بها، فقال: لا حجة له وأرى البيع قد لزمه.
قال محمد بن رشد: أجاز للوكيل أن يخبر رب السلعة بالزيادة التي زاد فيها بعد أن باعها على أن يستأمر صاحبها ولم ير ذلك من وجه ما نهي عنه من أن يسوم الرجل على سوم أخيه حقيقة؛ لأن النهي إنما معناه إذا ركن المتبايعان كل واحد منهما إلى صاحبه وقرب البيع أن يتم بينهما، وصاحب السلعة المستشار ههنا غائب لا يعلم إن كان يثبت البيع بذلك الثمن أم لا، فلذلك استخف للرجل أن يزيد وأجاز للوكيل أن يعلم رب السلعة بالزيادة، وقد كره مالك في رسم الأقضية من سماع أشهب بعد هذا وقال: بئس ما صنع الذي زاد، لم يصب بذلك، إلا أنه أجاز للوكيل أن يخبر صاحب السلعة بالزيادة للمعنى الذي ذكرناه. وأما قوله: إن الذي زاد يلزمه أخذ السلعة بما زاد إذا أمضاها له بذلك صاحبها فهو خلاف ما في كتاب بيع الغرر من المدونة من أنه لا يلزم المتساومين لا البائع بما بذل من السلعة ولا المبتاع بما أعطى فيها، ولكل واحد منها أن يقول: إنما كنت لاعبا غير مجد ويحلف على ذلك ولا يلزمه البيع، ومثل ما في سماع أشهب من كتاب العيوب ومن كتاب جامع البيوع في أول رسم منه من أن البيع يلزم كل واحد منهما إذا كانت السلعة قد وقفت للبيع، وقد مضى تحصيل القول في هذه المسألة مستوفى في أول رسم من سماع أشهب من كتاب العيوب فلا معنى لإعادته.

(8/113)


[مسألة: دفع إليه عشرة دنانير يبلغها الجار وأشهد عليه بدفعها]
مسألة وسئل مالك عن عبد دفع إليه عشرة دنانير يبلغها الجار وأشهد عليه بدفعها وكتب معه كتابا إلى من يبلغها إليه، فقدم الجار ودفع الكتاب فسأله عن الذهب فجحده إياها، ثم إنه قدم المدينة فقال له: الذهب، فقال له: ما دفعت إلي شيئا، فقال: إني قد أشهدت عليك، قال: فإن كنت دفعت إلي شيئا فقد ضاع مني، فقال مالك: ما أرى عليه إلا يمينه، قيل لمالك: قد جاء هذا منه، قال: لا أرى عليه إلا يمينا، وقال ابن القاسم في سماع أشهب من قول مالك: إنه ضامن.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد تكررت في مواضع منها ما في رسم أسلم من سماع عيسى من كتاب القراض، وما في سماع عيسى من كتاب الشركة، ووقع الاختلاف فيها مجموعا في رسم أسلم من سماع عيسى من كتاب القراض، فيتحصل فيه ثلاثة أقوال: أحدها أنه يصدق مع يمينه بعد الإنكار في دعواه الرد أو الضياع، والثاني أنه لا يصدق في شيء من ذلك بعد الإنكار، والثالث أنه يصدق في دعواه الضياع ولا يصدق في دعواه الرد. ومن هذا الأصل من ملك امرأته بكلام يقتضي التمليك فقضت بالثلاث فأنكر أن يكون أراد بذلك الطلاق، ثم قال: أردت بذلك واحدة، فقيل: إنه لا يصدق إذا أراد واحدة بعد أن زعم أنه لم يرد بذلك الطلاق، وقيل: إنه يصدق في ذلك مع يمينه، والقولان في رسم كتب عليه ذكر حق من سماع ابن القاسم من كتاب التخيير والتمليك. ومن هذا الأصل أيضا أن يدعي الرجل على الرجل دعوى فينكرها، فلما قامت عليه البينة جاء بالمخرج منها من بينة على البراءة أو دعوى لو جاء بها قبل الإنكار لقبل منه وما أشبه ذلك، فقيل: إنه لا يقبل منه، وقيل: إنه يقبل منه، وقيل: إنه لا

(8/114)


يقبل منه إلا في اللعان وما أشبهه من الحدود، وقيل: إنه لا يقبل منه إلا في الحدود والأصول، وقد ذكرنا ذلك مشروحا مبينا في رسم أسلم من سماع عيسى من كتاب القراض، والله تعالى الموفق المعين.

[يوكل الرجل على بيع السلعة فيبيعها على ألا يمين عليه ثم يوجد بها عيب]
ومن كتاب أوله:
أخذ يشرب خمرا وسئل مالك عن الرجل يوكل الرجل على بيع السلعة فيبيعها على ألا يمين عليه، ثم يوجد بها عيب، أترى أن يستحلف؟ قال: لولا أني أخشى قطع السنة في ذلك لرأيت ذلك، قد استحلف عثمان عبد الله بن عمر، قال مالك: فأما الرجل الرضى الذي يقول: لا أحب أن أحلف، والرجل المأمون الذي قد عرف بالحال الحسنة فإني أرى ذلك له، فإن الرضى يقول في مثل هذا: لا أحب أن أحلف لقوم آخرين، والرجل المأمون يكره موقف ذلك، فأرى ذلك لهما، فأما غيرهما فلا، ولولا كراهية قطع السنة وأن السنة في ذلك اليمين لرأيت ذلك، ولكن إذا كان على ما ذكرت فإني أرى ذلك وأرى أن يرد البيع إذا كان ممن يستحلف فلم يحلف.
قال محمد بن رشد: تفرقته في هذه الرواية في إعمال الشرط بإسقاط اليمين بين المأمون وغير المأمون وبين الذي يبيع لنفسه ولغيره فأعمل الشرط في الذي يبيع لغيره أو في المأمون وإن باع لنفسه ولم يعمله في غير المأمون إذا باع لنفسه خلاف ما في سماع أشهب من كتاب العيوب في إعماله الشرط عموما، فحصول الاختلاف فيما بين الروايتين إنما هو في غير المأمون إذا باع لنفسه فلم ير الشرط نافعا له في هذه الرواية ورآه نافعا له في سماع أشهب المذكور. وأما رواية ابن القاسم عن مالك في رسم سلعة سماها من كتاب المديان في أن الشرط بإسقاط اليمين غير عامل

(8/115)


عموما في المأمون وغير المأمون والذي يبيع لنفسه ولغيره إذ لم يفرق فيها بين شيء من ذلك، فكان الشيوخ يحملونها على أنها مخالفة لما في سماع أشهب من كتاب العيوب في أنه عامل عموما في المأمون وغير المأمون وفي الذي يبيع لنفسه ولغيره إذ لم يفرق فيها بين شيء من ذلك كله ولما في هذه الرواية من أنه عامل في المأمون وفي الذي يبيع لغيره. والذي أقول به أنها ليست بخلاف لشيء من ذلك؛ لأنها مسألة أخرى اشترط إسقاط اليمين فيها قبل وجوبها، واشترطه في هذه الرواية وفي سماع أشهب من كتاب العيوب بعد وجوبها إن علم بوجوبها، فلا يدخل الاختلاف في مسألة رواية ابن القاسم من كتاب المديان والتفليس إلا بالمعنى من أجل أن إسقاط الحق قبل وجوبه أصل مختلف فيه في المذهب لا من هذه المسائل، وقد مضى بيان هذا مستوفى في سماع أشهب من كتاب العيوب، فقف على ذلك هنالك وتدبره تجده صحيحا، وبالله التوفيق.

[بعث معه بمال وخرج حاجا أو غازيا وأمر أن يعطي منه كل منقطع به]
ومن كتاب البر وسئل مالك عن رجل بعث معه بمال وخرج حاجا أو غازيا وأمر أن يعطي منه كل منقطع به فاحتاج الذي بعث معه ولم يكن معه ما يقوى به وعليه دين في بلاده أفترى أن يأخذ منه؟ قال: نعم إني لأرى ذلك أن يأخذ منه، فقيل له: أفيأخذ منه ما يكفيه؟ قال: أخاف أن يأخذه كله، ولكن يأخذ بالمعروف، قيل له: أيستحب إن وجد من يسلفه إلى أن يخرج إلى بلاده أن يستسلفه ولا يأخذ منه؟ قال: نعم هو أحب إلي، ولكن لا أرى بأسا أن يأخذ بالمعروف، والرجل قد يكون موسرا في بلاده فيحتاج في سفره فيكون من أهل السبيل، قيل: أفيعطى من الصدقة وهو غني في بلاده إذا لم يكن معه غنى؟ قال: نعم، أرى أن يعطى من ذلك، وقد سألني هؤلاء الذين يقسمون الصدقة فقالوا: إن أقواما يأتوننا يزعمون أنهم مسافرون ولا ندري ما حقيقة خبرهم أفترى أن

(8/116)


نعطيهم؟ فقلت لهم: نعم، إذا رأيتم عليهم هيئة ذلك، ثم قال: أين يجد هذا من يعرفه؟ فأرى إذا رأى من هيئته للسفر أن يعطى، وإني لأكره لهؤلاء الذين لا يجدون ما ينفقون أن يخرجوا إلى الحج ويسألون وهم لا يقوون على ذلك إلا بما يسألون، قيل له: أفتكره ذلك لهم؟ قال: قال تعالى: {وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ} [التوبة: 91] قيل له: أفهذا الذي أخذ إذا كان من أهل هذه الصفة وأخذ فرجع إلى بلاده أترى أن يبين ذلك للذي دفعه إليه؟ قال: نعم، وليس الذي يحكم بين الناس مثل ما يحكم به بينه وبين غيره، هذا شديد أن يحكم فيما بينه وبين الناس كما كان يحكم بينه وبين الناس فيما بينهم.
قال محمد بن رشد: أجاز مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في هذه الرواية لمن بعث معه مال في غزوة أو حجة ليفرقه على المنقطعين أن يأخذ منه إذا احتاج إليه بالمعروف، والمعروف في ذلك هو ألا يحابي نفسه في مقدار ما يأخذ منه فيأخذ منه أكثر مما يعطي غيره، واستحب له إن وجد من يسلفه أن يستسلف ولا يأخذ منه شيئا إذ لا يدري هل يرضى صاحب المال أن يأخذ هو لنفسه منه شيئا أم لا؟ واستحب إذا رجع أن يعلم بما أخذ منه لمن دفعه إليه لأنه هو أعلم بما أراد من ماله، فإن أعلمه بما أخذ من ماله فلم يمضه له وجب عليه غرمه، وإن فات ولم يمكنه إعلامه لم يكن عليه أن يتمخى منه على مذهبه لأنه أجاز له الأخذ منه ابتداء، ويتخرج في المسألة قول آخر وهو أنه لا يجوز له أن يأخذ لنفسه منه شيئا إلا بإذن صاحب المال، وهذان القولان جاريان على اختلاف أهل الأصول في الآمر

(8/117)


بالشرع هل يدخل في الآمر أو لا يدخل فيه؟ لأنه يأتي على مذهب من يرى أنه يدخل فيه الآمر لأنه من جنس المأمورين المشروع لهم الشرع أن يأخذ منه القاسم؛ لأنه من جنس المقسوم عليهم، وكان صاحب المال أعلم قاسمه الذي دفعه إليه أنه قد أوجبه لذلك الصنف فدخل مدخلهم فيه، وإلى هذا القول ذهب مالك إلا أنه اتقى القول الآخر وراعاه فاستحب له أن لا يأخذ منه لنفسه شيئا إذا وجد من يسلفه، وإن أخذ أن يعلم بذلك إذا رجع، ومثل هذا من الاستحباب في رسم الوضوء والجهاد من سماع أشهب من كتاب الجهاد. وإن قال له: إن احتجت إلى شيء منه فخذه جاز له أن يأخذ منه باتفاق مثل ما يعطي غيره بالمعروف دون أن يحابي نفسه، ولا يجوز له أن يأخذ منه لنفسه أكثر مما يعطي منه غيره إلا أن يعلم صاحب المال يرضى بذلك، هذا معنى قوله في الرسم المذكور من السماع المذكور من كتاب الجهاد. وأجاز أن يعطي من هذا المال لمن انقطع به في سفره وإن كان غنيا في بلده لأنه من بني السبيل الذين أباح الله لهم الزكوات بقوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ} [التوبة: 60] الآية إلى قوله: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [التوبة: 60] فلهذا أجاز أن يعطي المنقطع به في سفره من الصدقة وإن كان غنيا في بلاده وهذا ما لا اختلاف فيه، وإنما اختلف في الغازي أن يعطى من الصدقة ما يتقوى به على الغزو وإن كان غنيا، فقيل: ذلك جائز، وهو ظاهر ما في كتاب الزكاة من المدونة، وهو قول محمد بن مسلمة إن الغازي يأخذ من الصدقة ما يتقوى به على الجهاد وإن كان غنيا وهو مذهب أصبغ، وحكى ابن مزين عن عيسى بن دينار أن الغازي لا يعطى من الزكاة إلا إذا احتاج في غزوه ولم يحضره وفره ولا شيء من ماله، والأول أصح لأنه إذا كان بهذه الصفة فهو من ابن السبيل، والله تعالى قد أباح الصدقة في السبيل وفي أبناء السبيل، فهما وجهان متباينان لا يجوز أن يجعل في

(8/118)


السبيل ما أوجب لابن السبيل، ولا لابن السبيل ما أوجب في السبيل، وبيان هذا في رسم الوصايا من سماع أشهب من كتاب الوصايا. وكره مالك في هذه الرواية للذين لا يقدرون على الحج والغزو إلا بما يسألون أن يخرجوا ويسألوا لأن الله تعالى قد رفع عنهم الحرج في ذلك بقوله: {وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ} [التوبة: 91] الآية والسؤال مذموم فلا تجوز استباحته إلا عند الحاجة، والإلحاف فيه مع الحاجة إليه مكروه، قال عز وجل: {لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [البقرة: 273] وقد روى ابن عبد الحكم عن مالك أنه لا بأس أن يحج الرجل الذي لا شيء له ويتكفف الناس ذاهبا وراجعا، ومعناه في الذي حرفته السؤال والتكفف أقام أو خرج، وأما من لم يكن ذلك شأنه إذا أقام ببلده فيكره له أن يحج أو يغزو ويتكفف الناس في طريقه ذاهبا وراجعا، وبالله التوفيق.

[باع جارية وزعم أنه وكيل فإذا هو ليس بوكيل]
ومن كتاب أوله:
باع غلاما بعشرين دينارا وسئل عن رجل باع جارية وزعم أنه وكيل، فإذا هو ليس بوكيل؟ قال: يردها ولا ينتظر رأي صاحبها فيها، وليس للذي باع أن يقول أنا أنتظر رأي صاحبي، فإن رضي فالبيع لك لازم، قال: ليس ذلك له، وهو يردها على الذي باعها، ولو باعها شركاء فيها فهم مثل هذا الذي ادعى وكالة كان ذلك البيع مردودا ولزمه بيع الشركاء ولا ينفعه ما غره ذلك الذي ادعى وكالة، وبيع شركاء البائع لازم للمشتري.

(8/119)


قال محمد بن رشد: قوله إن الذي اشترى الجارية من الذي زعم أنه وكيل وليس بوكيل يردها ولا ينتظر رأي صاحبها فيها، معناه إن شاء؛ لأن من حجته أن يقول: لا أمسك جارية لا يحل لي فرجها حتى أعلم أن سيدها يمضي لي البيع، قال ذلك ابن القاسم في رسم الصلاة من سماع يحيى من كتاب الاستحقاق، ولو رضي المشتري أن يتربص جاز ذلك له، فإن رضي ربها تم البيع، وإن أبى رجعت إلى ربها، وإن ماتت في التربص وهي في المبتاع فهي منه، ولو جاء ربها قبل أن يردها على الذي زعم أنه وكيل على بيعها فأمضى له البيع لزمه ولم يكن له أن يردها، ولا خلاف في هذا أعلمه سوى ما وقع في آخر رسم أوصى من سماع عيسى في بعض الروايات على ما سيأتي القول عليه إن شاء الله تعالى، بخلاف إذا ادعى الذي باعها أنها له فأتى ربها فاستحقها وأجاز البيع هذا يكون للمشتري حجة بانتقال العهدة على الاختلاف في ذلك حسبما مضى القول فيه في الرسم المذكور من سماع يحيى من كتاب الاستحقاق. وقوله: ولو باعها شركاء فيها، معناه ولو باعها شركاء فيها مع قوم ادعوا وكالة من غاب من الشركاء فيها على البيع فيمضي بيع الشركاء لأنصبائهم لأنهم لم يغروه إذ لم يبيعوا منه إلا حصصهم ويرد بيع نصيب الشريك الغائب إذا لم تثبت وكالته، وذلك بين من لفظ المسألة لقوله في آخرها: ولا ينفعه ما غره ذلك الذي ادعى وكالة. وقوله: وبيع شركاء البائع لازم للمشتري غلط وقع في الرواية، وإنما هو بيع شركاء الغائب لازم للمشتري، ولو كان الشركاء ادعوا وكالة الغائب فباعوا الجميع لرد البيع كله إن شاء المبتاع لأنهم غروه، وإن شاء تمسك بأنصبائهم ورد نصيب الغائب حسبما يأتي في رسم إن أمكنتني من سماع عيسى وحسبما مضى في رسم الصلاة من سماع يحيى من كتاب الاستحقاق، فليس ما وقع في هذه الرواية بخلاف لما وقع في رسم إن أمكنتني من سماع عيسى بعد هذا من هذا الكتاب ولا لما في رسم الصلاة من سماع يحيى من كتاب الاستحقاق [على ما ذهب إليه من لم ينعم النظر في ذلك] ، وبالله التوفيق.

(8/120)


[يبيع الرجل البر ثم يقول له اشتر لي بتلك الذهب التي لي عليك بزا]
ومن كتاب أوله: صلى نهارا ثلاث ركعات وسئل مالك عن الرجل يبيع الرجل البر ثم يقول له: اشتر لي بتلك الذهب التي لي عليك بزا كذا وكذا، قال: لا بأس بذلك ويقول له: أنت مصدق في ذلك، قال: لا بأس به، قال سحنون: وهذا إذا كان حاضر البلد.
قال محمد بن رشد: إنما احتيج إلى حضوره مخافة أن يدفع المبتاع من عند نفسه فيدخله فسخ الدين في الدين إذ لا يتعجل ربه قبضه، وأجاز سحنون ذلك إذا كان حاضر البلد كأنه سمح في ذلك لقربه من القبض، والأظهر أن ذلك لا يجوز إلا أن يكون حاضر الشراء، وهو ظاهر ما في المدونة وما في رسم سن من سماع ابن القاسم من كتاب السلم والآجال، روي ذلك عن سحنون، وفي إجازة ذلك وإن اشتراه بحضرته مغمز لأنه كأنه أخذه بحقه على أن يشتري له فيدخله سلف جر منفعة، وأما إن لم يكن حاضر البلد فلا يجوز باتفاق، وإذا قال له: أنت مصدق في ذلك فادعى أنه اشترى فتلف صدق على ظاهر الرواية، قيل بيمين، وقيل بلا يمين، واختلف إن ادعى ذلك ولم يصدقه على قولين دائمين من المدونة من مسألة الغرائر في السلم ومسألة اللؤلؤ في الوكالات، وسواء كان حاضرا في البلد أو لم يكن، وقد قيل: [إنه] ، إنما يصدق إذا كان حاضرا في البلد على القول بجواز ذلك، وأما على القول بأن ذلك لا يجوز فلا يصدق في التلف إلا أن يقيم البينة على الشراء، وكذلك إذا لم يكن حاضرا في البلد حسبما يأتي في رسم باع شاة من سماع عيسى من كتاب جامع البيوع، وبالله التوفيق.

(8/121)


[كان له وكيل والرجل غائب وأوصى ببيع سلعة فباع الوكيل وباع الرجل في غيبته]
ومن كتاب أوله:
نذر سنة يصومها وسئل مالك عن رجل كان له وكيل والرجل غائب وأوصى ببيع سلعة فباع الوكيل وباع الرجل في غيبته لمن ترى البيع؟ قال: إني لأقول القابض أولى، قال ابن القاسم: يريد إذا لم يقبض فالأول أولى، وهو بمنزلة النكاح، الأول أولى إلا أن يدخل الآخر فهو أولى. قال ابن القاسم: وقد بلغني ممن أثق به عن ربيعة مثل ذلك في البيع أنه للأول إلا أن يكون الآخر قد قبض فهو أولى، واحتج ربيعة بأن قال: لو ماتت في يده كان ضامنا لها، وهو مثل النكاح.
قال محمد بن رشد: مثل هذا في كتاب النكاح من المدونة في النكاح وفي كتاب الوكالة منها في البيع، ولا اختلاف في هذا أحفظه في المذهب إلا ما حكى ابن حارث عن المغيرة بن عبد الرحمن المخزومي من أن الأول أحق، قبضها الثاني أو لم يقبضها، وإنما يكون الثاني أحق بها إذا قبضها على مذهب مالك إذا باع البائع الثاني وهو لا يعلم ببيع الأول، وأما إن باع وهو يعلم ببيعه أو قبض المشتري السلعة وهو يعلم ذلك في وقت قبضه فالأول أولى كما قال عيسى فيمن وكل رجلا على نكاح ابنته البكر فيزوجها كل واحد منهما ولا يعلم واحد منهما بإنكاح صاحبه فهي للأول إلا أن يدخل بها الآخر من غير علم منه بالأول، فإن دخل بها الآخر عن علم بالأول فرق بينهما وردت إلى الأول ويعطيها الآخر صداقها بالمسيس، فعلى هذا قياس البيع. قال ابن حبيب: وإن لم يقبض السلعة ولم يعرف الأول وادعى كل أنه الأول تحالفا، فإن حلف أحدهما ونكل الآخر فهي للحالف منهما، وإن حلفا أو نكلا أو تجاهلا جميعا فهي بينهما، يريد يكون لكل واحد منهما نصفها بنصف الثمن الذي اشتراها به، وقد روى عن مالك أنها تقسم بينهما إذا حلفا بأدنى الثمنين، قيل

(8/122)


لابن القاسم: [إن] هذا يقول إنما اشتريتها كلها فلا حاجة لي بنصفها، قال: فيذهب ويسلمها لصاحبه، قال ابن حبيب: ثم يخير كل واحد منهما في أن يتمسك بنصفها بنصف الثمن الذي ابتاعها به أو يردها ويأخذ جميع الثمن إلا أن يقول أحد البائعين عند استواء حالة المشتريين إنه باع أولا وتجاهل [ذلك] ، صاحبه فالقول قول المقر منهما بأنه باع أولا، وإن قال صاحبه أيضا: بل أنا بعت أولا تحالفا، فإن حلف أحدهما ونكل الآخر كان القول قول الحالف منهما، وإن حلفا أو نكلا أو تجاهلا جميعا رجع الأمر إلى ما فسرت لك إذا حلفا أو نكلا أو تجاهلا. والكراء بخلاف ذلك هو للأول على كل حال لأنه لا يدخل في ضمان من قبضه، قاله ابن دحون، وهو صحيح، وحكى فضل من رواية أشهب عن مالك في الذي يوكل رجلا على بيع سلعته فيبيعها الموكل مكانه، ويبيعها الوكيل أن البيع بيع الوكيل لأن الموكل قد يبيعها ممن لا يخالفه، قال فضل: معناه أنه يبيعها ممن لا يخالفه فيها وينظر فإن باع الوكيل بأكثر أسلمها إليه الموكل، وإن باعها الوكيل بأقل قال: قد بعتها قبل بيعك من هذا ليبطل بيع الوكيل ببيع لم يتم، قال فضل: وهذا عندي جيد لأنه حين باعها الموكل مكانه اتهم على ما فعل فصح ما ذهب إليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وإذا لم يبعها مكانه لم يتهم على ذلك وحمل محمل من باع بيع صحة. وأما إذا باع الرجل سلعة من رجل ثم باعها بعد من آخر فلا اختلاف في أن الأول أحق بها وإن قبضها الثاني، وفي هذه المسألة تفصيل وتقسيم قد أفردنا القول فيها مسألة مخلصة تحتوي على جميع وجوهها وتقاسيمها إذ سألني ذلك بعض فقهاء الطلبة، فمن أحب الوقوف على الشفاء منها تأملها وتدبرها ووقف على صحتها بحمد الله تعالى.

(8/123)


[يبضع معه بالبضاعة من مكة إلى مصر]
ومن كتاب أوله:
شك في طوافه وسئل مالك عن الرجل يبضع معه بالبضاعة من مكة إلى مصر فيمر صاحبها بالمدينة فيكون له بها إقامة فيجد ثقة يخرج إلى مصر أترى أن يبعث بها معهم؟ قال: لا أرى بهذا بأسا، قال عيسى: وسئل ابن القاسم عن هذا فقال: لا شيء على المبضع معه ذهبت من الرسول أو المبضع معه، قال ابن القاسم: ولو لم يجد لها محملا معه وأعطاها لبعض من يثنى به معه لم يكن عليه ضمان، ولو كان معه محمل فحملها غيره لكان لها ضامنا، ومثل ذلك الرجل الحاضر يستودع الوديعة فيستودعها غيره، قال: إن كان ذلك من خراب منزل أو عورة بيت وليس عنده من يحفظ منزله أو أراد سفرا فاستودعها من يثق به فضاعت فلا ضمان عليه، ولو كان منزله في حرز كما وصفت لك ولا يخاف عليه في موضعه فاستودعه غيره ثم ضاع ممن استودعه كان ضامنا، وكذلك قال مالك في الحاضر، وجل ما قال في المسافر سمعته منه، لم يكن في كتاب سحنون قول ابن القاسم هذا ولم يره حسنا وأنكره، روى سحنون في سماعه قال: سئل مالك عن المكي يبعث معه الرجل بضاعة إلى مصر فيعرض للمبضع معه حاجة بالمدينة فيبعث بها مع من يثق به إلى مصر، قال: لا ضمان عليه، قال سحنون: قلت لابن القاسم: ما تقول فيها؟ قال: أما أنا فأقول: إن كانت إقامته بالمدينة إقامة يسيرة الأيام اليسيرة فإن بعث بها رأيته ضامنا، وإن بدا له في الإقامة بالمدينة وذلك يطول فأرى أن يبعث

(8/124)


بها، وأستحسن قول مالك؛ لأنه إن حبسها وأقام بالمدينة الإقامة الطويلة فتلفت رأيته ضامنا.
قال محمد بن رشد: قول مالك في أول هذه المسألة لا أرى بذلك بأسا في الذي أبضعت معه بضاعة من مكة إلى مصر فيمر بالمدينة وله بها إقامة فيبعث بها مع ثقة إلى مصر، معناه لا ضمان عليه في ذلك على ما حكى سحنون عنه بعد ذلك من أنه قال: لا ضمان عليه، وفي قوله: إنه لا ضمان عليه إن فعل دليل على أنه لا ضمان عليه أيضا إن أمسكها مع نفسه ولم يفعل، وهو نص قول ابن القاسم من رواية عيسى [لا شيء على المبضع معه، ذهبت من الرسول إن بعثها أو من المبضع معه، يريد: ذهبت من الرسول إن بعثها أو من المبضع معه إن أمسكها. وإنما يسقط عنه الضمان إن ادعى الرسول تلفها إذا أشهد عليه بالدفع، فقول ابن القاسم من رواية عيسى عنه] تفسير لقول مالك، وأما قوله في رواية سحنون عنه: أما أنا فأقول: إن كانت إقامته بالمدينة إقامة يسيرة، الأيام اليسيرة فإن بعث بها رأيته ضامنا وإن بدا له في الإقامة بالمدينة وذلك يطول به فأرى أن يبعث بها وأستحسن قول مالك فيها إلى آخره فظاهره أنه خلاف لقول مالك، ولا ينبغي عندي أن يحمل على ظاهره من الخلاف لقوله لأنه لا يتكلم على الإقامة الأيام اليسيرة ولا على الإقامة الطويلة، وإنما تكلم على ما بين ذلك، فإن كانت إقامته الأيام اليسيرة نحو ما ينتقل المسافر في طريقه وجب أن يضمن إن بعث بها فتلفت لأن صاحبها قد علم أن سيقيم في طريقه لما يحتاج إليه، فقد دفعها إليه على ذلك، وإن كانت إقامته بالبلد الذي مر به في طريقه إقامة طويلة وجب أن يضمن إن أمسكها ولم يبعث بها وهو يجد ثقة يبعث بها معه فتلفت لأن صاحبها لم يرد أن يودع في ذلك البلد، وإنما أراد توصيلها إلى حيث بعث بها، فإذا تعدى

(8/125)


إرادة صاحبها فيها ضمن. والطول في هذه السنة فما فوق ذلك على ما يأتي في سماع محمد بن خالد، وإذا كانت إقامته الشهر والشهرين ونحو ذلك وسعه الاجتهاد في ذلك وجب ألا يضمن أمسكها مع نفسه أو بعث مع ثقة على ما ما قال مالك، ولا يخالف في هذا ابن القاسم، والله أعلم، فلم يرد بقوله: أما أنا فأقول إنه يقول قولا مخالفا لقول مالك، وإنما أراد أنه يقول قولا أفسر من قوله وأبين، هذا الذي أقول به، والله أعلم.
وتمثيل ابن القاسم المبضع معه البضاعة لا يجد لها محملا فيعطيها لبعض من يثق به بالحاضر يستودع الوديعة فيخاف عليها في منزله من عورته أو خرابه أو عدم من يحفظه فيستودعها غيره ليس بتمثيل صحيح، وهو خلاف ما حكى عن مالك في أول كتاب الوديعة من المدونة من أنه لم ير السفر مثل الحضر؛ لأنه إذا دفعه إليه في السفر إنما دفعه ليكون معه، فالذي يأتي على مذهب مالك في المدونة أنه ضامن للبضاعة إذا دفعها إلى غيره وإن لم يجد لها محملا إلا أن يعلم صاحبها أنه لا يجد لها محملا وأنه يعطيها لغيره ممن يحملها فيسقط عنه الضمان، وأما إن لم يعلم بذلك فهو ضامن؛ لأن قبضه البضاعة منه دليل على أنه هو يحملها، ويؤيد هذا تأويل ما وقع في رسم الصبرة من سماع يحيى بعد هذا من هذا الكتاب في الذي يبعث إلى الرجل بالنفقة ليشتري له بها متاعا فيدفعها المرسل إليه لمن يشتري له فتلف إنه ضامن إلا أن يكون صاحب النفقة قد علم أنه لا يلي اشتراء مثل هذا المتاع، وإنما تشبه مسألة الحاضر يستودع الوديعة فيخرب منزله فيستودعها غيره فلا يكون عليه ضمان لما قاله سحنون في آخر سماعه من هذا الكتاب. فيمن أبضع معه بمال فخرج اللصوص إليه فلما رهقوه ألقاها في شجرة ليحرزها على صاحبها أو دفعها إلى فارس ينجو بها إنه لا ضمان عليه، ولهذا الذي ذكرناه لم ير سحنون قول ابن القاسم حسنا على ما ذكر في المدونة.

(8/126)


[مسألة: الرجل يأتي الرجل بالبضاعة يحملها إلى مصر]
مسألة وسئل عن الرجل يأتي الرجل بالبضاعة يحملها إلى مصر فيقول: إن علي يمينا لا أحمل بضاعة إلا بضاعة إن شئت سلفتها وإن شئت تركتها، قال: لا خير في ذلك.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله إنه لا خير في ذلك لاشتراطه ألا يحمل البضاعة إلا على أن يستسلف منها إن شاء فيدخله سلف جر منفعة، فهي أشد من المسألة التي في الرسم الواقع بعد هذا؛ لأن صاحب البضاعة هو الذي أباح له الاستسلاف منها إن احتاج إليها فكره ذلك مخافة أن يكون إنما سمح له بذلك ليحملها له، ولو كان قد طاع له بحملها فقال له: إن احتجت إليها فأنفق منها لم يكن بذلك بأس، وبالله التوفيق.

[أبضع معه بذهب يبلغها إلى موضع وقال له إن احتجت إليها فأنفق منها]
ومن كتاب حلف ليرفعن أمرا إلى السلطان وسئل عمن أبضع معه بذهب يبلغها إلى موضع وقال له صاحب البضاعة: إن احتجت إليها فأنفق منها، قال: ما يعجبني هذا من العمل وكرهه.
قال محمد بن رشد: إنما هذا إذا قال له ذلك مع إبضاعه البضاعة إياه معا، ولو قال له ذلك بعد أن أبضعه إياها لم يكن بذلك بأس، ولو قال له ذلك قبل أن يبضعه إياها لكان ذلك كالشرط ولم يكن فيه خير على ما قاله في المسألة التي قبل هذه في آخر هذا الرسم الذي قبل هذا الرسم، وقد مضى القول في ذلك مستوفى، والله الموفق.

(8/127)


[أبضع مع رجل بدينار بحبتين بضاعة فأبدله له بقائم]
ومن كتاب أوله: تأخير صلاة العشاء وسئل عن رجل أبضع مع رجل بدينار بحبتين بضاعة فأبدله له بقائم، ونفسه بذلك طيبة، أترى أن يعلم صاحبه إذا أبدله؟ قال: لا أرى عليه بأسا ألا يعلمه، ولا ضمان عليه.
قال محمد بن رشد: استخف هذا ليسارة الدينار؛ ولأن الذي يغلب على الظن أن صاحب الدينار يرضى بذلك ولا يكرهه، فليس عليه أن يعلمه، وقد كان القياس ألا يجوز ذلك ابتداء إلا برضاه، وأن يكون ضامنا لذلك إذا فعله بغير رضاه؛ لأن من حقه ألا يرضى بذلك؛ إذ لا يلزمه قبول معروفه، ولعله لا يرضى بماله فيدخله عدم المناجزة في بدل الذهب بالذهب بسبب الخيار الذي يوجبه الحكم لصاحب الدينار الناقص، فمعنى قوله: لا أرى عليه بأسا ألا يعلمه لا أرى عليه أن يعلمه، إذ لو كان عليه أن يعلمه فيجيز ذلك أو يرده لما جاز ذلك لما ذكرناه من الخيار في ذلك على مقتضى القياس، وهو قول مالك في رسم البيوع الأول من سماع أشهب من كتاب الصرف خلاف ما يأتي من إجازة ذلك في رسم البيوع الأول من سماع أشهب بعد هذا من هذا الكتاب من قول مالك ومن قول ابن أبي حازم فيه: لا بأس به فلا تشددوا على الناس هكذا جدا، فليس كما تشددون، ففي فساد الصرف بالخيار الذي يوجبه الحكم فيه دون أن ينعقد عليه قولان، وأما إن انعقد عليه فلا يجوز بإجماع.

[مسألة: أبضع مع رجل ببضاعة إلى رجل لا يدري الذي بعث بها معه]
مسألة وسئل مالك عن رجل أبضع مع رجل ببضاعة إلى رجل لا يدري الذي بعث بها معه لم بعث بها فألفى الرجل قد هلك فقال خليفته: ادفع إلي، قال مالك: أرى أن يردها إلى الذي بعث بها معه.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله إنه يردها إلى الذي

(8/128)


بعث بها معه، إذ لا يدري لعله إنما بعث بها لتكون له عنده وديعة أو يشتري له بها ثوبا وما أشبه ذلك، ولو علم أنه بعث بها إليه معه صلة له أو هدية فإن كان أشهد على إنفاذها حين أرسلها فهي لورثة المبعوث إليه. هذا نص ما في كتاب الهبة والصدقة من المدونة، ومعنى ذلك إن كان الموصول والمهدى له حيا يوم الصلة والهدية، ولو كان لم يشهد على إنفاذ الصلة أو الهدية وإنما قال: أشهدكم أني أبعث بهذا المال صلة لفلان أو هدية له فمات الموصول أو المهدى له قبل وصول الصلة أو الهدية إليه لم يكن لورثته منها شيء، هذا معنى ما في المدونة عندي، والله أعلم وبه التوفيق.

[بعث إلي سلعة أبيعها بثمن فبعتها بثمن واستثنيت رضاه فيها]
من سماع أشهب وابن نافع
من مالك رواية سحنون
من كتاب البيوع الأول قال أشهب: وسئل مالك فقيل له إن رجلا بعث إلي سلعة أبيعها بثمن فبعتها بثمن واستثنيت رضاه فيها، فأرسلت إليه بذلك، فأرسل إلي إنك أبصر بها مني، فإن رأيت أن تجيزها فأجزها، فقال المبتاع: إنما استثنيت رضاه، وأنت الذي بعتني، فقلت: لا أجيزها لك [هي] بهذا الثمن رخيصة، أفترى ذلك جائزا؟ قال: نعم أرى ذلك جائزا، إن شئت أن تجيز البيع أجزته وإن شئت أن ترده رددته، ما أكثر ما يبيع الرجل الرجل ويستثني رضاه، وهو أبصر بذلك، فأرى ذلك له.

(8/129)


قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله لأن الخيار الذي جعل الوكيل لرب السلعة قد رده رب السلعة إلى الوكيل، فوجب أن ينزل في ذلك منزلته فيكون بالخيار بين أن يجيز أو يرد.

[مسألة: أبضع معه بعشرين دينارا وبثوب وأمره أن يبيعه له]
مسألة وسئل مالك فقيل له: إنه أبضع معي رجل بعشرين دينارا وبثوب وأمرني أن أبيعه له وأشتري له بالعشرين دينارا وبثمن الثوب ثوبا من ثياب مكة، فلما كنت بمكة اشتريت له الثوب قبل أن أبيع ثوبه بأحد وعشرين دينارا أسلفته فيها دينارا من عندي، فلما قدمت المدينة بعت ثوبه الذي أمرني ببيعه بعشرين درهما، أيجوز لي أن آخذ العشرين درهما ثمن ثوبه الذي بعت له بديناري الذي أسلفته إياه في شراء الثوب الذي أمرني بشرائه؟ قال: لا بأس بذلك، ولكن إذا قدمت عليه فأعلمه، فإن أحب أن يجيز أجاز، وإن أحب أن يرد ذلك رده، قيل لمالك: إن الصرف عندنا هناك أغلى منه ههنا أفيجوز لي أن آخذه بديناري الذي أسلفته؟ قال: لا بأس بذلك، وإذا قدمت عليه فأعلمه، فإن شاء أخذه، وإن شاء نقضه، قيل: ولا ترى به بأسا؟ قال: نعم لا أرى به بأسا. قال أشهب: وسمعت ابن أبي حازم يقول: لا بأس بذلك، قلت له: إن هذا صرف فيه نظرة، قال: لا تشددوا على الناس هكذا جدا، وليس كما تشددون.
قال محمد بن رشد: رواية أشهب هذه عن مالك، وقول ابن أبي حازم خلاف ما في هذا الرسم بعينه من سماع أشهب من كتاب الصرف،

(8/130)


وإنما حصل الاختلاف في الصرف على هذا الوجه من الخيار لأنه خيار أوجبه الحكم لم ينعقد عليه الصرف، فلم ير له في هذا القول تأثيرا على صحة عقد الصرف كالعبد يتزوج بغير إذن سيده، والسفيه بغير إذن وليه فيكون سيد العبد وولي اليتيم بالخيار في رد النكاح أو إجازته، والخيار في النكاح لا يجوز، وقد مضى هذا المعنى في رسم تأخير صلاة العشاء من سماع ابن القاسم قبل هذا من هذا الكتاب، وسيأتي فيه في رسم يشتري الدور والمزارع من سماع يحيى.

[مسألة: يبضع مع الرجل بالبضاعة يشتري له بها ثم يريد أن يبيع مرابحة]
مسألة وسئل مالك عن الرجل يبضع مع الرجل بالبضاعة يشتري له بها ثم يريد أن يبيع مرابحة أعليه أن يبين ذلك إذا باع مرابحة؟ قال: أرأيت كل من ابتاع شيئا أهو الذي يلي الشراء لنفسه؟ ما أرى ذلك عليه إذا كان أمرا صحيحا لا دخل فيه.
قال محمد بن رشد: تكررت هذه المسألة في هذا السماع من كتاب المرابحة وفي سماع ابن القاسم منه أن عليه أن يبين إذا باع مرابحة أن غيره اشتراها له. ووجه هذه الرواية أن شراء المشتري مرابحة لم يقع على أن البائع هو المتولي لشراء السلعة حتى يشترط ذلك لما ذكره في الرواية من أن الرجل قد يشتري له غيره، وحمله في سماع ابن القاسم على أن البائع هو الذي ولي شراء ما باع مرابحة حتى بين أنه لم يشترها هو فأوجب للمبتاع أن يرد إذا علم؛ لأن من حجته أن يقول إنما اشتريت منك مرابحة على شرائك لعلمي ببصرك في الشراء وأنك لا تخدع فيه، ولو علمت أن غيرك اشتراها لك لما ابتعتها منك مرابحة، ولكلا القولين وجه، وقد مضى القول على ذلك في كتاب المرابحة، في أول سماع ابن القاسم، وبالله التوفيق.

(8/131)


[مسألة: أبضع مع رجل ببضاعة يبتاع له بها طعاما]
مسألة وسئل عمن أبضع مع رجل ببضاعة يبتاع له بها طعاما ثم أتاه بعد ذلك فأخبره أن قد ابتاع بها طعاما وقبضه وسأله أن يبيعه إياه، قال: ما أحب هذا وما يعجبني.
قال محمد بن رشد: قد أجاز في رسم بع ولا نقصان عليك من سماع عيسى من كتاب السلم والآجال لمن أسلم في طعام أن يبيعه بقبض وكيله، ولا إشكال في جواز ذلك؛ لأنه قد دخل في ضمانه بقبض وكيله إياه إذا تحقق أنه قد قبضه، فإنما كره له في هذه المسألة أن يبيعه منه إذا لم يتحقق أنه قبضه لاحتمال أن يكون كذبه، ولو تحقق ذلك لما كرهه، إلا أن الوكيل في هذه المسألة هو المبتاع للطعام بالثمن الذي دفعه إليه موكله فلا يجوز أن يبيعه منه وإن تحقق أنه قبضه بأكثر مما دفع إليه ولا بدنانير إن كان دفع إليه دراهم، ولا بدراهم إن كان دفع إليه دنانير، إلا أن يكون البخس في الصرف على رب الطعام فترتفع التهمة في ذلك، قاله ابن دحون، وهو صحيح إن شاء الله تعالى.

[أعطى رجلا حمارا ليبيعه له فباعه بعشرة دنانير على أن يستأمر رب الحمار]
ومن كتاب الأقضية وسئل مالك عمن أعطى رجلا حمارا ليبيعه له فباعه بعشرة دنانير من رجل على أن يستأمر رب الحمار، فتوجه إلى الرجل ليعلمه ذلك فلقيه رجل فقال: أين الحمار؟ فقال: بعته بعشرة دنانير على أن أستأمر رب الحمار، فقال له الرجل: فلك زيادة دينار وهو لي بأحد عشر دينارا، أفترى الذي باع الحمار أن يخبر رب الحمار بهذا؟ قال: نعم يخبره، وبئس ما صنع الذي زاد، لم يصب بذلك، قيل له: أيخبر بالزيادة؟ قال: نعم يخبر بها.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول على هذه المسألة في رسم طلق بن حبيب من سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.

(8/132)


[مسألة: سافر برقيق لنفسه وبضاعة لقوم فأنفق على نفسه نفقة]
مسألة وسئل عمن سافر برقيق لنفسه وبضاعة لقوم فأنفق على نفسه نفقة أيحسب على البضاعة من النفقة التي أنفق على نفسه شيئا؟ قال: أتريد أن تأخذ مما أنفق على نفسه من البضاعة؟ قال له: نعم، قال ليس ذلك له، وإن أشياء لتكون لؤما لا تجمل ولا تحسن.
قال محمد بن رشد: وقد مضى في أول رسم من سماع ابن القاسم من قول ابن القاسم وروايته عن مالك خلاف رواية أشهب هذه عنه، وقد مضى الكلام على ذلك هناك مستوفى فلا معنى لإعادته.

[عبد بعث معه ببعيرين فتهشم أحدهما بالطريق فنحره فأكل منه]
ومن كتاب الأقضية الثاني وسئل عن عبد بعث معه ببعيرين وهو لا يزال يبعث معه بمثل ذلك فتهشم أحدهما بالطريق فنحره فأكل منه، ثم جاء بأحد البعيرين فسئل عن الآخر فقال: تهشم فنحرته فأكلت منه ولا بينة له على ذلك، فقال: أين أصابه ذلك؟ أفي قرية؟ أفلا يعلم ذلك أحد من أهل القرية؟ قيل له: فإنه كان في صحراء فذبحته حين خفت أن يموت، فقال: عليه أن يغرم، أرأيت لو أن رجلا أخذ بعير إنسان فنحره ثم قال: وجدته يموت أكان يصدق؟ فهذا مثله، قيل له: إنه يقول إنه مؤتمن، قال: ليس على هذا اؤتمن، إنما اؤتمن على أن يبلغه، ولو تركه حتى يموت لم يكن عليه شيء، قيل له: أفيكون ذلك الغرم في ذمته أو على سيده؟ فقال: بل على سيده.
قال محمد بن رشد: وجه ما ذهب إليه مالك في هذه الرواية أن العبد ليس له أن ينحر البعير الذي أرسل معه وإن خشي عليه الموت لأنه متعد في ذلك إذ لم يؤذن له فيه، ولعله لو لم ينحره لم يمت، فهو بمنزلة

(8/133)


من ذبح بعير رجل فقال وجدته يموت، فسواء كانت للعبد بينة على ما زعم من أنه خشي عليه الموت ولذلك نحره، أو لم تكن، وسواء إن كان في قرية علم ذلك أحد من أهل القرية أو لم يعلم، إلا أنه أبين في الضمان إذا لم تكن له بينة أو لم يعلم ذلك أحد من أهل القرية، وهذا هو الذي أراد مالك أن يبين من قوله: أفلا يعلم ذلك أحد من أهل القرية لا أنه إن علم ذلك أحد من أهل القرية أو كانت له بينة سقط عنه الضمان. ومعنى قوله في آخر المسألة: بل يكون الغرم على سيده أن ذلك يكون في رقبة العبد فيخير سيده بين أن يغرم قيمة البعير الذي ذبح عبده أو يسلم فيها رقبة عبده لا أنه يغرم قيمة البعير لصاحبه من ماله ما بلغت، وإنما أراد ذلك في رقبة العبد لأنه لم يصدقه فيما ادعى من أنه خشي عليه الموت فذبحه نظرا لربه، فهذا وجه كون ذلك في رقبته، ولو صدقه فيما ادعاه من أنه خشي عليه الموت فذبحه لأشبه أن يكون أيضا ذلك في رقبته على قول أشهب ورواية ابن وهب عن مالك في الراعي يخشى على الغنم الموت فيذبحها أنه ضامن إذ لم يجعل إليه ذلك ولا أذن له فيه. وقول مالك في هذه المسألة يشبه ما وقع لابن القاسم وأشهب في سماع سحنون من كتاب العارية في العبد يأتي إلى الرجل فيقول: سيدي أرسلني إليك في كذا وكذا فيعطاه فيتلف عنده أو يزعم أنه قد دفعه إلى سيده وينكر السيد أن ذلك يكون في رقبته، وقد احتج ابن القاسم في سماع سحنون من كتاب الجنايات بقول مالك هذا لقوله: إن ذلك يكون في رقبته. وأشبه المسائل عندي بهذه المسألة مسألة العبد يستودع الوديعة فيستهلكها بالإفساد لها في غير منفعة، فابن القاسم يقول إنها في ذمته؛ لأن صاحبها ائتمنه عليها، وابن الماجشون يقول: إنها في رقبته لأنه تعدى عليها فإنها جناية منه، فقول مالك في هذه الرواية موافق لقول ابن الماجشون، ومخالف لقول ابن القاسم في هذه المسألة، وبالله التوفيق.

(8/134)


[مسألة: يبعث بدنانير إلى مثل الإسكندرية إلى رجل يبتاع بها بزا كل عشرة دنانير بدينار]
مسألة قال سحنون: قال أشهب وابن نافع: سئل مالك عن الذي يبعث بدنانير إلى مثل الإسكندرية إلى رجل يبتاع بها بزا كل عشرة دنانير بدينار، قال: لا بأس به إذا كان ما اشترى له من قليل أو كثير قبله، فإن كان يشتري له فيختار عليه فلا خير فيه، قيل: أترى عليه ضمان المال؟ فقال: لا أرى عليه ضمانا.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة مثل ما في كتاب الجعل والإجارة من المدونة لأنه جعل، فإذا فوض إليه الشراء باجتهاده ولم يكن يختار عليه جاز ولزم صاحب المال الجاعل كل ما اشترى له إذا اشترى له ما يشبهه في تجارته وكسوته، قال في المدونة ويكون له في كل ما اشترى من قليل أو كثير ما يجب له من حساب دينار في العشرة، ولا يلزمه التمادي على الشراء، وله أن يرد ما بقى من المال متى شاء، وأن يرد جميعه قبل أن يشتري له شيئا إن شاء، وكذلك صاحب المال الجاعل له أن يسترد ماله أو ما بقي منه إن شاء من عند المبعوث إليه به المجعول له، ولو أعطى دنانيره لرجل على أن يخرج بها إلى الإسكندرية فيشتري بها بزا وله في كل عشرة يشتري بها دينار لم يكن له أن يسترد ماله منه بعد أن يخرج به لئلا يبطل عليه عناءه باتفاق، ولا قبل أن يخرج به على اختلاف، إذ قد قيل إن الجعل يلزم الجاعل بالعقد. وقوله إنه لا ضمان عليه في المال صحيح لأنه مؤتمن عليه، فالقول قوله إن ادعى ضياعه كالمودع، وبالله التوفيق.

[وكل رجلا يبيع له غلاما فباعه من رجل ثم ادعى المشتري عيبا في العبد]
من سماع عيسى بن دينار من ابن القاسم
من كتاب أوله: نقدها نقدها قال عيسى: سألت ابن القاسم عن رجل وكل رجلا يبيع له غلاما فباعه من رجل ثم ادعى المشتري عيبا في العبد وهو مما

(8/135)


يحدث فطلب أن يحلفهما جميعا، قال: إنما يحلف الوكيل الذي باعه إن أراد رده على ذلك، فإن حلف وإلا رده، فإن زعم الموكل أنه لم يحط بذلك علما قيل للمشتري احلف ورده، وليس يستحلف في هذا السيد الموكل، وإن أراد المشتري أن يحلف السيد كان ذلك له، ولكنه إذا طلب من الرسول أن يحلف كان ذلك له، ولكن وجه القضاء أن يستحلف الموكل إلا أن يريد المشتري أن يستحلف السيد الأول فيكون ذلك له. قال أصبغ بن الفرج: أرى له أن يحلفهما جميعا ما علما بذلك العيب، فإن نكلا أو نكل أحدهما كان له أن يرد إن شاء.
قال محمد بن رشد: معنى قول ابن القاسم وأصبغ أن البائع لم يعلم المبتاع أنه لغيره، ولو أعلمه لم تكن له عليه يمين، كذلك في كتاب العيوب من المدونة في سماع ابن القاسم من كتاب العيوب لأن عهدة ما باع الوكيل إنما هي على الموكل لا على الوكيل إذا علم من حاله أنه إنما يبيع لغيره أو علم بذلك المبتاع منه عند بيعه، بخلاف ما يختلف فيه الوكيل مع المبتاع فيما باع منه، هذا يحلف فيه الوكيل وإن علم أنه وكيل لأنه قصر في ترك الإشهاد حسبما مضى القول فيه، في أول رسم من سماع ابن القاسم. والذي ذهب إليه ابن القاسم في هذه الرواية أنه ليس للمتباع أن يحلف الموكل والوكيل في العيب الذي ادعى أنه في العبد قديم، وإنما وجه الأمر أن يحلف الوكيل الذي باعه منه إن كان لم يعلمه أنه لغيره، فإن نكل عن اليمين حلف هو ورد العبد عليه، وإن أراد أن يحلف السيد الموكل لم يكن له أن يحلف الوكيل، وذلك خلاف مذهبه في الوكالات من المدونة في الذي يوكل الرجل أن يسلم له في طعام فيدعي

(8/136)


المسلم إليه أنه وجد في الدراهم التي دفع له زيوفا أن له أن يحلفهما جميعا، يحلف المأمور ما يعرفها من الدراهم التي أعطاه ولا أعطاه إلا جيدا في علمه، ويحلف الآمر ما يعرفها من دراهمه وما أعطاه إلا جيدا في علمه، وهو قول أصبغ في هذه المسألة إن له أن يحلفهما جميعا ما علما بذلك العيب، فإن نكلا أو نكل أحدهما كان له أن يرد إن شاء، معناه بعد يمينه. وقوله إنهما يحلفان على العلم ما علما بذلك العيب معناه إن كان العيب مما يخفى على المشهور من مذهب ابن القاسم المنصوص له في المدونة، وقد قيل إنه يحلف على العلم في الظاهر والخفي، وهو قول أشهب، وقيل إنه يحلف على البت في الظاهر والخفي، وهو قول ابن نافع ورواية يحيى عن ابن القاسم في رسم أول عبد ابتاعه من سماعه من كتاب العيوب.

[وكل وكيلا باشتراء سلعه سماها فاشتراها ونقد الثمن]
ومن كتاب أوله: عبد استأذن سيده قال: وسألته عن رجل وكل وكيلا باشتراء سلعه سماها فاشتراها ونقد الثمن ثم أتاه فقال: أعطني الثمن قال الآمر: قد أعطيتك، وإنما اشتريتها بدراهمي، قال ليس القول قوله، وإنما القول قول المشتري مع يمينه، ويحلف بالله ما أخذ منه ثمنها ويأخذ منه الثمن.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قال فيها بعض أهل النظر معناها أن الآمر لم يقبض السلعة، ولذلك كان القول قول المشتري، فليست بخلاف لما في أول رسم من سماع ابن القاسم أن الرجل سفير امرأته وليس ذلك بصحيح حسبما بيناه في مسألة سماع ابن القاسم، ولا معنى لإعادته، فالصواب أن قول ابن القاسم في هذه المسألة خلاف قول مالك في سماع ابن القاسم، إذ لا فرق بين المسألتين، وبالله التوفيق.

(8/137)


[مسألة: وكل رجلا بالفسطاط يشتري له طعاما بالإسكندرية فاشتراه ثم باعه]
مسألة وسألته عن رجل وكل رجلا بالفسطاط يشتري له طعاما بالإسكندرية فاشتراه ثم باعه بزيت فقدم بالزيت الفسطاط، فقال: يكون صاحب الطعام الذي اشترى له مخيرا في أن يأخذ مكيلة طعامه بالإسكندرية أو زيتا مثل الزيت الذي باعه به بالإسكندرية، ولا يأخذ الزيت بالفسطاط، قلت: فإن رضي الذي جاء بالزيت أن يعطيه إياه بالفسطاط ورضي بذلك صاحب الطعام أيصلح ذلك؟ قال: نعم لا بأس بذلك؛ لأن من أسلف طعاما ببلد فلقيه بغير البلد الذي أسلفه فيه فأراد أن يأخذ منه طعاما قبل محل الأجل لم يصلح، وكذلك قال لي مالك، وقال لي: وإن حل الأجل فلا بأس به، فإذا حل له أن يأخذ منه قمحا من قمح بغير البلد الذي أسلفه فيه وكذلك الزيت والقمح لا بأس به أن يأخذ بغير البلد إذا تراضيا عليه وحل الأجل.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال لأنه لما اشترى له الطعام الذي أمره أن يشتريه له بالإسكندرية ثم باعه بزيت كان مخيرا بين أن يضمنه مثل طعامه بالإسكندرية وبين أن يجيز البيع فيه بالزيت فيأخذه بمثله في الإسكندرية إذ قد فات بحمله إياه بالفسطاط، وليس له أن يأخذ الزيت بالفسطاط إلا برضاه لأن في ذلك زيادة، فليس له أن يأخذ منه الزيادة إلا برضاه وإن كل متعديا في حمله إياه إلى الفسطاط، ويأتي على ما في سماع أصبغ عن أشهب من كتاب الغصب أن له أن يأخذ الزيت بالفسطاط لأنه زيته بعينه، وهذا إن كان باع الطعام به لرب الطعام، وأما إن كان باعه به لنفسه على أن يضمن لرب الطعام مثل طعامه ويأخذ هو الزيت فلا يكون له أن يأخذ الزيت بالفسطاط على مذهب أشهب في الغاصب يغصب

(8/138)


الطعام في بلد فيحمله إلى بلد أخرى أن لرب الطعام المغصوب منه أن يأخذ طعامه بعينه حيث وجده، وقد مضى هذا المعنى مستوفى والاختلاف فيه مشروحا في سماع سحنون وأصبغ من كتاب الغصب.

[مسألة: وكل رجلا على بيع غلة له وقال له احفظ عليه ما يبيع]
مسألة وسئل ابن القاسم عن رجل وكل رجلا على بيع غلة له وقال له: احفظ عليه ما يبيع فكتب جميع ما باع فلما فرغ من البيع أتى ختنه بكتاب ما باع وكيله فقال صاحب الحق للوكيل: هات كتابك بما بعت فقال: ذهب مني ولكن انظر ما رفع إليك ختنك فهو حق وأشهد عليه بإقراره ثم نزع، فقال: لا يلزمه شيء لأنه يقول: كنت أرجو أن يصدق وقد كذب، قلت: أفلا تقبل شهادته إن كان عدلا؟ فقال لا تقبل شهادته لأنه خصم.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال لأنه إذا وكل ختنه ليحفظ عليه ما يبيع صار بمنزلته في الخصومة له لأن يد الوكيل كيد موكله فوجب ألا تجوز شهادته عليه كما قال، ولا اختلاف في أنه يجوز له أن يرجع عمن رضي به من تصديق ختنه فيما رفع عليه أنه باعه ما لم يشهد عليه بذلك، وإنما اختلف هل له أن يرجع عن ذلك بعد أن يشهد عليه حسبما مضى تحصيل القول فيه في رسم الشجرة تطعم بطنين في السنة من سماع ابن القاسم من كتاب الشهادات فلا وجه لإعادته.

[مسألة: يقول للرجل بع سلعتي هذه بفرس نقدا فيبيعها بحمار إلى أجل]
مسألة وسئل عن الرجل يقول للرجل: بع سلعتي هذه بفرس نقدا فيبيعها بحمار إلى أجل، قال يباع الحمار بنقد عاجل، فإن كان ما

(8/139)


بيع به الحمار قيمة السلعة فأكثر كان لصاحب السلعة، وإن نقص الثمن عن قيمتها كان على البائع ما نقص، قيل لابن القاسم: فإن قال بعها بعرض سماه نقدا فباعها بطعام إلى أجل؟ قال يغرم بائعها قيمتها نقدا، فإن استوفى الطعام بيع فإن كان أكثر من القيمة التي استوجب كانت له الزيادة، وإن كان أدنى من القيمة كان النقصان من البائع.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة على ما في السلم الثاني من المدونة وما يأتي في رسم أوصى ورسم حبل حبلة بعد هذا السماع. وتحصيل هذا أنه إذا أمره أن يبيع سلعته بعرض أو ثمن إلى أجل ما كان فنفذ ما أمره به وباع بغير ذلك أنه ليس لصاحب السلعة إلا قيمة سلعته، فإن كان الذي باع به نقدا كان بالخيار بين أن يضمنه قيمة سلعته وبين أن يجيز البيع ويأخذ الثمن الذي باع به نقدا، وإن كان الذي باع به إلى أجل لم يكن ذلك له لأنه يدخله فسخ الدين في الدين، ويباع ما باع به إلى أجل بالعين إن كان عرضا أو بالعرض إن كان عينا، ثم يباع العرض بالعين، فإن كان ذلك مثل القيمة فأكثر كان لصاحب السلعة، وإن كان أقل من القيمة كان عليه تمام القيمة لتعديه إلا أن يكون الذي باع به إلى أجل طعاما فتؤخذ منه القيمة وترجع إلى رب السلعة ويستأنى بالطعام فإذا استوفى بيع فإن كان فيه فضل عن القيمة كان الفضل لرب السلعة، وإن كان فيه نقصان كان النقصان على المأمور المتعدي. وكذلك إن كان أمره أن يبيع السلعة بدنانير نقدا فتعدى ما أمره به وباع بغير ذلك إلا أنه ليس لصاحب السلعة إلا الدنانير التي أمره أن يبيع سلعته بها، فإن كان الذي باع به نقدا كان بالخيار بين أن يضمنه الثمن الذي أمره أن يبيع به وبين أن يجيز البيع ويأخذ الثمن الذي باع به نقدا، وإن كان الذي باع به إلى أجل عينا أو عرضا أو طعاما فليس له أن يجيز البيع ويأخذ ما باع به لأنه يدخله

(8/140)


فسخ الدين في الدين، ويباع ذلك إن كان عرضا بعين وإن كان عينا بعرض ثم يبيع العرض بعين، فإن كان فيه فضل عن الثمن الذي أمره أن يبيع به كان للآمر، وإن كان نقصانا كان على المأمور أن يوفي الآمر تمام الثمن الذي أمره أن يبيع به لتعديه، وإن كان الذي باع به السلعة طعاما نقدا أو إلى أجل أخذ منه الثمن الذي أمره أن يبيع به سلعته فإذا استوفى الطعام بيع، فإن كان فيه فضل كان لصاحب السلعة وليس لصاحب السلعة أن يجيز البيع ويأخذ الطعام، وإن كان نقدا لأنه يدخله بيع الطعام قبل أن يستوفى إذ قد وجب للمأمور المتعدي. واختلف إذ أمره أن يبيع سلعة بعشرة إلى أجل وقيمتها نقدا أكثر من عشرة فتعدى وباعها بعرض إلى أجل فبيع العرض المؤجل هل تكون له قيمة سلعته ما بلغت؟ أو لا يزاد على العشرة التي رضي أن يبيع سلعته بها إلى أجل حسبما يأتي في رسم أوصى بعد هذا؟ وبالله التوفيق.

[مسألة: يعطي الرجل السلعة يبيعها له بشيء يسميه له فيأخذها لنفسه]
مسألة وسألت ابن القاسم عن الرجل يعطي الرجل السلعة يبيعها له بشيء يسميه له فيأخذها لنفسه، قال: إن وجدها في يديه لم تفت أخذها، وإن فاتت في يديه فإن كان أمره أن يبيعها بشيء من الطعام أو العين أو الذهب والورق فهو مخير بين أن يأخذ منه ما أمره أن يبيعها به من الطعام أو العين وبين أن يأخذ قيمتها، وإن كان أمره أن يبيعها بشيء من العروض سوى العين والطعام لم يكن عليه إلا القيمة، وليس له عليه ما أمره به قلت: وما الذي يفوتها في يديه؟ قال: النماء والنقصان واختلاف الأسواق يفوتها وتكون في ذلك كله القيمة.

(8/141)


قال محمد بن رشد: قوله: فيأخذها لنفسه معناه بالثمن الذي أمره أن يبيع به وسماه له. وقوله: إن وجدها في يديه لم تفت أخذها يريد إن شاء وإن شاء ألزمه الثمن الذي سماه له فالتزمه هو فيها. والوجه في ذلك أنه إنما أعطاها له ليبيعها من غيره هذا هو المعلوم من قوله فلم يرض أن يبيعها من نفسه، فإن فعل كان مخيرا بين أن يمضي ذلك له أو يرده. وقد يتخرج جواز بيعها من نفسه من مسألة رسم البز من سماع ابن القاسم في الذي خرج حاجا أو غازيا فبعث معه بمال ليعطي منه كل منقطع به فاحتاج هو، أنه لا بأس أن يأخذ منه، وقد مضى الكلام هنالك على وجه دخول الاختلاف في ذلك. وفي تفرقته إذا فاتت بين أن يأمره أن يبيعها بشيء من الطعام أو العين وبين أن يأمره أن يبيعها بشيء من العروض سوى العين والطعام نظر، إذ لا فرق في وجه القياس والنظر إذا أخذها لنفسه بما أمره أن يبيعها به بين الطعام والعروض، وإنما يفترق في ذلك العين مما سواه؛ لأنه إذا أمره أن يبيعها بدنانير أو دراهم مسماة فأخذها لنفسه بذلك فقد التزم الثمن في نفسه حالا عليه لرب السلعة إلا أن يقول لا أمضيها له إذ لم أرد إلا أن أبيعها لغيره فيكون له عليه فيها إذا فاتت الأكثر من القيمة أو الثمن، وإذا أمره أن يبيعها بطعام أو عروض فأخذها لنفسه بذلك فقد التزم لربها فيها الطعام أو العروض حالة عليه، والسلم الحال لا يجوز على المشهور في المذهب، فوجب أن يبطل عنه الثمن الذي ألزمه ويكون عليه قيمة السلعة إذا فاتت بالغة ما بلغت، إلا أنه لما كان الطعام يقضى فيه بالمثل أشبه العين عنده فحكم له في هذا بمثله استحسانا، فهذا وجه تفرقته في ذلك، وفي سماع أصبغ بعد هذا لابن القاسم مثل قوله ههنا إذا أمره أن يبيع له ثوبا بدنانير سماها له فقطعه على نفسه، ومثله لغير ابن القاسم في كتاب القراض من المدونة، قال: كل من جاز له أن يبيع شيئا

(8/142)


أطلقت له فيه يده فباعه من نفسه أو أعتقه فالآمر بالخيار إن أجاز فعله فقد نفذ عتقه وإن رد فعله لم يجز عتقه إلا المقارض فإنه إن كان في العبد فضل نقذ عتقه للشرك الذي له فيه وحكم لهذه السلعة بحكم البيوع الفاسدة فيما تفوت به، والقياس ألا تفوت بالنماء ولا بحوالة الأسواق بالزيادة وأنها إنما تفوت بالعيوب وحوالة الأسواق بالنقصان، ويبين هذا قوله فيما يأتي في رسم أوصى فذلك ليس ببيع، وصاحبه يرده إن شاء إذا لم يفت، فإذا فات كان مخيرا في الثمن الذي أمره به أو القيمة، وبالله تعالى التوفيق.

[يبضع معه الرجل بمائة دينار في جارية فيشتري بمائة وخمسين]
ومن كتاب العرية وسألته عن الرجل يبضع معه الرجل بمائة دينار في جارية فيشتري بمائة وخمسين فيبعث بها إليه أو يدفعها هو إليه ولا يعلمه بالزيادة حتى تفوت في يد المشتري إما بعتق وإما بحمل قبل أن يعلمه بالزيادة ثم يأتي يطلب منه الزيادة فقال: أما إذا فاتت بعتق أو بحمل فلا شيء عليه، وإن فاتت ببيع فإنه إن كان باعها بمائة دينار وقفا فلا شيء عليه، وإن باعها بزيادة على مائة فما زاد على المائة فهو للمبضع معه أبدا حتى تنتهي خمسين ومائة، فإن زاد ثمنها على خمسين ومائة فالزيادة لصاحب المائة، قلت: فلو كانت الزيادة يسيرة؟ قال: أما إذا كانت الزيادة يسيرة فإن ذلك عليه غرم ويلزمه البيع وليست الزيادة اليسيرة مثل الكثيرة لأن مالكا قال في المبضع معه يزيد على البضاعة الزيادة اليسيرة فيريد أن يأخذها من صاحب البضاعة إن ذلك له عليه فاتت الجارية أو لم تفت، وقال في الزيادة الكثيرة إنه مخير في أن يأخذها أو يدع ويضمنه بضاعته، فإن فاتت قبل أن يعلمه لم يكن عليه قليل ولا كثير إلا ما وصفت لك في البيع، قلت: وتكون له الزيادة بقوله أم ببينة؟

(8/143)


قال: بل، بقوله، ولا يحلف لأنه مؤتمن، قلت: فلا يقطع قوله في هذين الوجهين إذا لم يذكر له ذلك زمانا طويلا؟ قال: إذا طال ذلك وهو يلقاه ويكلمه فلا يذكر له شيئا من الزيادة فلا شيء له في كلا الوجهين، وإنما يقبل قوله إذا غاب عنه مثل ما يشتغل الرجل في حوائجه أو يكون في سفره فيقدم فهذا الذي يقبل قوله، وإما الذي يلقاه صاحبه ويكون معه زمانا ثم يطلب الزيادة بعد ذلك فلا يقبل قوله.
قال محمد بن رشد: قوله في الزيادة الكثيرة إذا لم يعلمه بها حتى فاتت بعتق أو بحمل إنه لا شيء عليه منها هو نص ما في المدونة، وقوله إنما إن فاتت ببيع فإن كانت بيعت بأكثر من الثمن الذي أمره به كانت الزيادة للمبضع معه المأمور إلا أن يستوفى ما زاد، فإن بيعت بأكثر من الثمن والزيادة كان ما زاد على ذلك للآمر يحمل على التفسير لما في المدونة، إذ لم يتكلم فيها على فواتها بالبيع. وقوله في الزيادة اليسيرة إن للمأمور أن يأخذها من صاحب البضاعة فاتت الجارية أو لم تفت هو مثل قوله في السلم الثاني من المدونة إنه إذا زاد الدينار والدينارين ثم أصيب الرأس فالمصيبة من الآمر ويغرم الزيادة للمأمور خلاف ما في المدونة من كتاب العرية لمالك أن الآمر لا يغرم الزيادة مصيبتها من المأمور، وحسب الآمر أن يحسب ما أعطى، وحسب المأمور المبتاع أن ينجو من الضمان، وقد قال بعض أهل النظر: إن هذا هو ظاهر ما يأتي في رسم سلف بعد هذا من قوله إذا فاتت السلعة لم يكن للمبتاع قليل ولا كثير، وليس ذلك بصحيح لأنه إنما قصد إلى التكلم على الزيادة الكثيرة فيها، قال: إن الجارية إذا فاتت عند صاحبها بعتق أو حمل لم يكن للمبضع معه من

(8/144)


الزيادة قليل ولا كثير. وما ههنا وفي المدونة هو القياس، والذي في المدنية لمالك وفي رسم سلف استحسان، وقال في الزيادة إنها تكون له بقوله ولا يحلف لأنه مؤتمن، وفي كتاب محمد أنها تكون له بقوله ويحلف لأنه مؤتمن، والاختلاف في هذا عندي على اختلافهم في لحوق يمين التهمة، ولو حقق عليه الآمر الدعوى في أنه لم يزده شيئا على الثمن الذي أبضع معه للحقته اليمين قولا واحدا. وقوله إنه لا شيء له في كلا الوجهين يريد في الزيادة اليسيرة والكثيرة إذا طال الأمر وهو يلقاه ويكلمه ولا يذكر له شيئا مر ذلك يحمل على التفسير لما في المدونة والله أعلم، وبه التوفيق.

[مسألة: أبضع معه رجلان في جارتين أبضع واحد بخمسين وأبضع الآخر بمائة]
مسألة وعن رجل أبضع معه رجلان في جارتين: أبضع واحد بخمسين، وأبضع الآخر بمائة، فذهب واشترى وأشهد في أصل الاشتراء الشهود أن هذه لفلان اشتريتها بمائة وهذه لفلان اشتريتها بخمسين، ثم بعث بهما أن تدفعا إليهما، فأخطأ الرسول فدفع جارية هذا لهذا وجارية هذا لهذا فوطأهما جميعا فحملتا، قال: إذا كانت البينة عليهما كما ذكرت أخذ كل واحد منهما جاريته، واتبع كل واحد منهما صاحبه بقيمة الولد، قال: وإذا لم يكن إلا قول المبضع معه فإنه لا يقبل قوله، ويلزم غرم قيمة الجارية التي زعم أنه اشتراها لصاحب المائة تقوم فما كان من قيمتها على خمسين دفعه إليه.
قال محمد بن رشد: قوله: إنه يأخذ كل واحد جاريته ويكون عليه قيمة ولده لصاحبه إذا كانت على ذلك بينة، هو على ما اختاره من أقوال مالك في الجارية المستحقة من يدي المشتري وقد ولدت منه أن

(8/145)


صاحبها يأخذها وقيمة ولدها، وقد قال: إنه يأخذ قيمتها يوم الحكم وقيمة ولدها، والقول الثالث أنه يأخذ قيمتها يوم أولدها ولا شيء له من قيمة ولدها، وهذه الأقوال كلها داخلة في هذه المسألة. وقوله: إذا لم يكن إلا قول المبضع معه فإنه لا يقبل قوله صحيح، وأما قوله: إنه يلزم غرم قيمة الجارية التي زعم أنه اشتراها لصاحب المائة تقوم فما كان من قيمتها على خمسين دفعه إليه، وهو قد قال: إن الرسول هو الذي أخطأ فدفع جارية كل واحد منهما إلى صاحبه، فمعناه إذا لم تكن له بينة على ما أمر به الرسول وأنكر الرسول أن يكون أخطأ، وقال: إنما فعلت ما أمرتني به وحلف على ذلك، ولو نكل عن اليمين لوجب أن يحلف المبضع معه ويكون الذي أخطأ عليه بالخيار فيمن شاء أن يرجع عليه منهما، فإن رجع على المبضع معه رجع المبضع معه على الرسول لنكوله عن اليمين وحلفه هو، وإن رجع على الرسول لم يكن للرسول أن يرجع بما رجع به عليه على أحد؛ ولو كانت له بينة على ما أمر به الرسول لوجب أن يكون الرسول هو الضامن لا المبضع معه.

[مسألة: يكون عليه لرجلين عشرون دينارا عشره لهذا وعشرة لهذا وليس هما شريكين]
مسألة وعن الرجل يكون عليه لرجلين عشرون دينارا عشره لهذا وعشرة لهذا وليس هما شريكين فيوكلان رجلا يقتضي لهما تلك العشرين فيقتضي منه عشرة فيدعي الغريم أن تلك العشرة إنما قضيتها فلانا ويقول الوكيل: ما دفعت إلي العشرة إلا لفلان يعني الآخر وقد فلس الغريم أو قال: دفعت تلك العشرة بينهما. قال: أرى ما اقتضى بينهما.
قال محمد بن رشد: قوله: أرى ما اقتضى بينهما خلاف ما مضى من قوله في سماع أصبغ من كتاب المديان والتفليس؛ لأنه قال فيه: إذا كان

(8/146)


حقهما مجتمعا فهو بينهما، فدل ذلك على أنه إن كان حقهما مفترقا لا يكون بينهما، وإذا لم يكن بينهما فالقول قول الوكيل، وهو قول أصبغ، وحكى ذلك ابن لبابة في منتخبه عن ابن القاسم، ولا اختلاف إذا كانا شريكين في العشرين أن ما اقتضى وكيلهما يكون بينهما، وإنما الاختلاف إذا كان حقهما مفترقا، فقال في هذه الرواية: إن ما اقتضى يكون بينهما وإن اختلفا فقال الوكيل: قبضت حق فلان، وقال الغريم: ما اقتضيتك إلا حق فلان، ووجه ذلك أن كل واحد منهما يتهم بالمحاباة إذا كان الغريم مفلسا، فكذلك على هذه الرواية لو اتفقا على أنه إنما قبض حق أحدهما لكان بينهما، وقال أصبغ: يصدق الوكيل، وهو دليل قول ابن القاسم في سماع أصبغ من كتاب المديان والتفليس، ونص ما حكى عنه ابن لبابة في منتخبه، وقد مضى الكلام بأوعب من هذا في هذه المسألة في سماع أصبغ من كتاب المديان والتفليس.

[مسألة: دفع إلى رجل دابة ليبيعها له وأشهد عليه ألا يبيعها إلا بدينارين فباعها بدينار]
مسألة وسئل عن رجل دفع إلى رجل دابة ليبيعها له وأشهد عليه ألا يبيعها إلا بدينارين فباعها بدينار، ثم إن المبتاع باعها بأربعة دنانير، ثم جاء صاحب الدابة الأول فطلب دابته وأقام البينة، ما ترى فيها وقد وجد دابته بعينها عند غير مشتريها أو لم يجدها إلا أنه قد علم أنه باعها المبتاع بأربعة دنانير؟ قال: إن وجد دابته بعينها عند مشتريها أخذها ولم يكن له غير ذلك، فإن فاتت أخذ من المتعدي دينارا إلا أن يكون المتعدي عديما فيأخذ الدينار من مشتري الدابة ويتبع هو المتعدي.
قال محمد بن رشد: قوله في الذي أعطي الدابة على أن يبيعها

(8/147)


بدينارين فباعها بدينار، ثم باعها المبتاع لها بدينار بأربعة دنانير إن صاحب الدابة إن وجد دابته بعينها عند مشتريها أخذها ولم يكن له غير ذلك صحيح، ومعناه أنه وجدها بحالها عند مشتريها الأول الذي اشتراها بدينار قبل أن يبيعها فلم يكن أن يضمنه الدينارين اللذين أمره أن يبيع دابته بهما لوجود دابته بحالها، كالغاصب للدابة إذا وجدها صاحبها عنده بحالها فليس له أن يضمنه قيمتها، وإن قال المشتري للدابة بالدينار أنا أدفع الدينار الذي تعدى فيه وآخذها لم يكن ذلك له، قاله ابن دحون، وهو عندي صحيح. فإن فاتت عند المشتري بعيب أو موت غرم المتعدي الدينارين اللذين أمره أن يبيع دابته بهما. وأما قوله في الرواية فإن فاتت يريد من يده ببيعه لها بأربعة دنانير كما قال في السؤال أخذ من المتعدي دينارا إلا أن يكون المتعدي عديما فيأخذ الدينار من مشتري الدابة ويتبع هو المتعدي، فإنه قول فيه نظر، فإنه قد رآها فاتت بالبيع فلم يوجب لصاحبها إلا الدينارين على المتعدي فيأخذ منه الدينار الذي باع به الدابة ويغرمه الدينار الثاني، قال: إلا أن يكون المتعدي عديما فيأخذ الدينار من مشتري الدابة ويتبع هو المتعدي، فإذا فوتها بالبيع فلماذا أرجعه على المشتري بالدينار؟ والذي يوجبه النظر الصحيح على أصولهم ألا تفوت بالبيع وأن يكون مخيرا إذا وجدها قائمة بيدي المشتري الثاني بين أن يأخذ دابته وبين أن يجيز البيع ويأخذ الأربعة دنانير من المشتري الأول، ويرجع المشتري، الأول على المتعدي بالدينار الذي اشترى به الدابة منه، وإن وجدها قد فاتت بيد المشتري الثاني كان مخيرا بين أن يضمن المتعدي الدينارين اللذين أمره بالبيع بهما وبين أن يجيز البيع ويأخذ الثمن، ولا شك أنه سيختار إجازة البيع في هذه المسألة لأنه خير له إلا أن يكون المشتري عديما فيرى أخذ الدينارين من المتعدي أحب إليه من اتباع ذمة المشتري بالأربعة الدنانير التي باع بها الدابة، وبالله تعالى التوفيق.

(8/148)


[يوصي لمكاتبه بوضع نجم من نجومه]
ومن كتاب أوله:
يوصي لمكاتبه بوضع نجم من نجومه وسئل عن رجل أمر رجلا أن يدفع سلعة إلى صباغ يصبغها فجحدها الصباغ وقال: لم تدفع إلي شيئا، وقال المأمور دفعت إليك، قال ابن القاسم: المأمور ضامن إذا جحد الصباغ، قلت: أرأيت لو قال الصباغ إنه دفع إليه وزعم أنه قد ضاع والصباغ عديم ولا بينة للمأمور بالدفع إلا وقول الصباغ: أيأخذ صاحب السلعة قيمة سلعته من المأمور ويتبع المأمور الصباغ إذ ليس له بينة على الدفع إلا قول الصباغ؟ قال: لا ولكن ضمانها على الصباغ.
قال محمد بن رشد: أما إذا جحد الصباغ فلا اختلاف في أنه ضامن لأنه متعد إذ لم يشهد، وسواء كان الوكيل مفوضا إليه أو غير مفوض إليه. قال بعض أهل النظر: معنى هذه المسألة أنه أمره أن يدفعه إلى صباغ بعينه، يريد أنه لو كان غير معين لصدق في الدفع مع يمينه وإن أنكر القبض كالمساكين الذين لا يلزمه الإشهاد عليهم ويصدق في الدفع إليهم، وهذا غير صحيح سواء كان الصباغ بعينه أو بغير عينه يلزمه الإشهاد، ولا يصدق في الدفع إذا جحده، وفي إبراء الدافع بتصديق الصباغ وهو عديم لا ذمة له تأويلان: أحدهما أن الصباغ ضامن لما أقر بقبضه تتبع ذمته في العدم فكان بخلاف المؤتمن، والثاني أن ذلك، على القول بأن الذي يبرأ المأمور بالدفع إذا كان أمينا بتصديق القابض، وإن كان مؤتمنا وادعى التلف، وهو قول ابن القاسم في كتاب الوديعة من المدونة خلاف قول مالك في

(8/149)


كتاب ابن المواز، وفي مختصر الأسدية لأبي زيد القولان جميعا. فيتحصل في جملة المسألة ثلاثة أقوال: أحدها أن الأمين الدافع يبرأ بتصديق القابض، إذا قبض إلى أمانة أو إلى ذمه، والثاني أنه لا يبرأ بتصديق القابض قبض إلى أمانة أو إلى ذمة إذا كانت خربة، والثالث أنه يبرأ بتصديق القابض إذا قبض إلى ذمة وإن كانت خربة، ولا يبرأ بتصديقه إذا قبض إلى أمانة، وفي هذا أربع مسائل: دافع من ذمة إلى ذمة، ومن أمانة إلى أمانة، ومن أمانة إلى ذمة، ومن ذمة إلى أمانة، وقد مضى تحصيل هذه المسائل في غير هذا الكتاب وهو كتاب المقدمات.

[دفع إلى رجل سلعة وأمره أن يبيعها بمائة إردب قمح فباعها بدنانير نقدا]
ومن كتاب أوله: أوصى أن ينفق على أمهات أولاده وقال في رجل دفع إلى رجل سلعة وأمره أن يبيعها بمائة إردب قمح، فباعها بدنانير نقدا. قال: يشترى له بالدنانير طعام، فإن كان أقل من المائة كان على المتعدي تمامه، وإن كان أكثر فهو كله له لأنه ثمن سلعته، والطعام بمنزلة الدنانير يريد إذا أمره أن يبيع به فباع بغيره كان عليه ما أمره من ذلك مثل الدنانير، وليس له أن يأخذ غيره إن باع به لأنه بيع الطعام قبل أن يستوفى، ولكن يباع ما باع به إن كانت عروضا ويشترى له على ما فسرت لك في الدنانير إذا باع بها. وقال ابن القاسم في رجل أمر رجلا أن يبيع له سلعة بعشرة أرادب قمح فباعها بسلعة أو بدنانير، قال ابن القاسم. قال مالك له العشرة الأرادب قمح ثابتة، قال ابن القاسم وتباع تلك السلعة ويشترى بثمنها قمحا أو بالدنانير إن كان باعها بدنانير، وإن كانت أكثر من العشرة الأرادب فلصاحب السلعة لأنه من ثمن سلعته، وإن كان أقل من العشرة فعلى المتعدي لأن القمح ههنا بمنزلة الدنانير؛ لأنه إذا أمره أن يبيع بدنانير سماها له فباع

(8/150)


بغيرها أنه ضامن للدنانير التي أمره أن يبيع بها، وإنما يباع بما باع في ذلك إذا كان الذي باع به إلى أجل لمكان الفضل لأنه إذا كان فضلا كان لصاحب السلعة، فالقمح بمنزلة الدنانير والدراهم إذا أمره أن يبيع به سلعته، وليس بمنزلة السلع إذا أمره أن يبيع بها لأنه لو تعدى على طعام له أو دنانير أو دراهم فاستهلكها لكان عليه مثل تلك الدنانير والدراهم ومثل مكيلة الطعام لأن ذلك كله يوجد مثله، ولو تعدى على سلعة له من العروض كلها أو الحيوان فاستهلكها أنه كان يكون عليه قيمتها، فهذا فرق ما بين أن يأمره أن يبيع بالطعام أو بعين فيبيع بغيره، وبين أن يأمره أن يبيع سلعته بسلعة سماها له فيبيع بغيرها، فإذا باع بغير ما أمره به من العين والطعام ضمن ما أمره به من الطعام والعين إلا أن يكون ما باع به نقدا فيكون مخيرا إن شاء أخذ ما باع به سلعته، وإن شاء ضمنه ما سمى له من ذلك وأمره أن يبيع به إلا الطعام وحده فليس له فيه خيار من قبل أنه يكون حينئذ بيع الطعام قبل أن يستوفى، وله المكيلة التي أمره بها، ويصنع في ذلك مثل ما فسرت لك في المسألة الأولى من بيع تلك السلعة التي باع بها ويشترى له ما أمره به. وإذا أمره أن يبيع سلعته بسلعة سماها له فباع بغيرها من السلع أو العين أو الطعام كان مخيرا إن كان ما باع به نقدا، إن شاء الذي باع به سلعته، وإن شاء قيمة سلعته التي دفع إليه يبيعها إلا أن يكون الذي باع به إلى أجل فلا يكون مخيرا في ذلك كان مما أمره به أو مما لم يأمره أن يبيع به، أو كان ما أمره به أن يبيع إلى أجل فباع بغيره إلى ذلك الأجل، قال ابن القاسم من قبل أنه كأنه تحول من دين إلى دين وكأنه تحول من

(8/151)


قليل إلى كثير، مثل أن يأمره أن يبيع بعشرة نقدا فيبيعها بمائة إلى شهر، فإن جعلته في ذلك مخيرا كان إن اختار المائة التي إلى أجل كأنه أعطاه عشرة في مائه إلى أجل لأنه إن شاء أن يأخذ العشرة أخذها، قال ابن القاسم: وكذلك المتعدي إذا تعدى على سلعة ولم يأمره ببيعها فباعها بثمن إلى أجل لم يكن مخيرا في القيمة أو الثمن الذي إلى أجل لأن القيمة قد وجبت له فيكون قد تحول من دين إلى دين ومن عشرة إلى عشرين إلى أجل، فلم ير ابن القاسم أن يكون له خيار في الأمرين جميعا لا في الاغتصاب ولا في التعدي ولا في خلاف ما أمره به والتعدي فيه، وقال ليس له في الاغتصاب والتعدي جميعا إلا قيمة سلعته أو مكيلة طعامه إن كان طعاما إلا أن يرضى أن يأخذ الثمن الذي باع به إن كان نقدا، وأما في التعدي إذا باع بخلاف ما أمره به فتباع تلك السلعة إلى أجل إن كان مما يحل بيعه بما يباع به مثله مما يحل إن كانت عروضا أو حيوانا بيعت بعين أو عرض مخالف لها، وإن كان عينا بيع بعرض ثم بيع العرض بعين، فإن كان أكثر مما أمره من التسمية إن كان سمى له عينا أو طعاما أو كان أكثر من القيمة إن لم يسم له ما بيع به لو أمره أن يبيع سلعة أخرى فذلك سواء، فإن كان في ذلك فضل عن ذلك كان لصاحب السلعة، وإن كان نقصانا كان على المتعدي بما تعدى، وإن كان ما باع به إلى أجل طعاما أخذ منه الساعة ما وجب له عليه مما أمره به من التسمية أو القيمة إن كان الذي يجب له القيمة على ما فسرنا، واستؤني بالطعام حتى يحل أجله فيباع، فإن كان فيه فضل عفا أخذ منه كان الفضل لصاحب السلعة لأنه لا يحل بيع الطعام قبل أن يستوفى وغيره يحل بيعه

(8/152)


قبل أن يستوفى، ولو أمره أن يبيع بطعام نقدا فباع بأكثر منه إلى أجل أخذ منه العدة التي أمره أن يبيع بها الساعة وترك ذلك إلى أجله فيؤخذ فيدفع إليه ما أخذه منه ويكون الفضل لصاحب السلعة. قال ابن القاسم: لو أن رجلا أمر رجلا يبيع له سلعة بعشرة أرادب قمح إلى أجل فباعها بسلعة نقدا، قال هو مخير إن شاء أخذ السلعة التي باع بها، وإن شاء أخذ قيمة سلعته وسقط الطعام الذي أمره أن يبيع به ههنا لأن كل ما أمره أن يبيع به إلى أجل فتعدى فيه وباع بغيره نقدا أو إلى ذلك الأجل فذلك الأجل الذي أمره أن يبيع إليه موضوع ويسقط حين تعدى ويصير كما لو لم يسم له ما يبيع به فباع به بغير ما تباع تلك السلعة به، فإذا كان ذلك أيضا كان رب السلعة مخيرا إن شاء أخذ ما باع به سلعته إن كان نقدا، وإن شاء القيمة، وإن كان أمره أن يبيع سلعته بسلعة سماها إلى شهر فباعها بسلعة غيرها إلى ذلك الأجل فقال: يسقط الأجل الذي أمره أن يبيع إليه وتباع تلك السلعة التي باع بها إلى أجل ويعطاه إلا أن تكون أقل من قيمة سلعته فله القيمة، قلت: أفيخير ههنا؟ قال: لو كان مخيرا لكان حراما ولا يحل لأنه يتحول من دين إلى دين.
قال محمد بن رشد: هذه مسائل [بينة] كلها صحاح على معنى ما في المدونة وغيرها، وقد تقدم في رسم أوله عبد استأذن سيده في تدبير جاريته مسألة من هذا النوع وتكلمنا عليها بما فيه بيان لهذه المسائل. وقوله إنه إذا أمره أن يبيع سلعته بثمن سماه له أو بعرض وما أشبه ذلك فباعها بثمن إلى أجل إنه لا يجوز له أن يجيز البيع ويأخذ الثمن لأنه يتحول من

(8/153)


دين إلى دين، معناه إذا كانت السلعة قد فاتت، ولو كانت السلعة قائمة بيد المشتري لم تفت لكان ذلك جائزا، وكذلك قال في كتاب محمد بن المواز.

[مسألة: دفع كبشا إلى رجل ليبيعه له ولم يسم له ثمنا فذبحه ثم باعه لحما]
مسألة قيل له: فرجل دفع كبشا إلى رجل ليبيعه له ولم يسم له ثمنا فذبحه ثم باعه لحما بعشرة دراهم إلى أجل، قل: تباع تلك العشرة دراهم بسلعة وتكون له القيمة ههنا قيمة الكبش حيا، قلت له: فإن قال له أنا أريد قيمة اللحم، قال: لا أعرف قيمة اللحم ههنا ولا يكون له إلا قيمة الكبش، قيل له: فإن أمره ببيعه بدينار فذبحه، قال: هو مخير إن شاء القيمة وإن شاء الدينار إلا أن تكون القيمة أكثر فله القيمة إن شاء وإن شاء الدينار، وليس هذا بمنزلة ما لو أنه باعه بما أمره به، ذلك ليس له إلا الدينار، وهذا بمنزلة ما لو أعطيته ثوبا يبيعه بدينار فوهبه أو تصدق به فهو مخير إن شاء القيمة وإن شاء الدينار إذا فات الثوب، وهو بمنزلة ما لو اشتراه لنفسه من نفسه فذلك ليس ببيع، وصاحبه يرده إن شاء إن لم يفت، فإذا فات كان مخيرا في الثمن الذي أمره به أو القيمة.
قال محمد بن رشد: إذا لم يسم له ثمنا فسواء باع الكبش بعشرة دراهم إلى أجل أو ذبحه فباع لحمه بعشرة دراهم إلى أجل؛ لأن قيمة الكبش هي التي تجب عليه بالتعدي في البيع وإن لم يذبحه، وإنما لم ير له قيمة اللحم لأن قيمته إذا زادت على قيمة الكبش بعمله فليس له أن يجيزه ذلك كمن تعدى على كبش رجل فذبحه ثم أكله فليس لصاحبه أن يضمنه قيمة لحمه وإنما له قيمة كبشه، ولو وجد اللحم بيده قبل أن يفوته لكان له أن يأخذه مذبوحا إن شاء في المسألتين جميعا، وأما إذا سمى له ثمنا فإنما جعل له الأكثر من الدينار الذي سمى له أو القيمة لأن التعدي في البيع إلى

(8/154)


أجل يوجب عليه الدينار الذي سماه، والعدى في الذبح يوجب عليه قيمة الكبش. وقوله: وليس ذلك بمنزلة ما لو باعه بما أمره به، يريد بعد أن ذبحه لأنه إذا باعه بما أمره به فلم يضره ذبحه إياه، وأما قوله: وهو بمنزلة ما لو اشتراه لنفسه من نفسه فقد مضى القول عليه موعبا في رسم استأذن فلا معنى لإعادته.

[مسألة: أعطاه عشرة أرادب قمح يبيعها له بعشرة دنانير فباعها بسلعة]
مسألة ولو أنه أعطاه عشرة أرادب قمح يبيعها له بعشرة دنانير فباعها بسلعة كان مخيرا إن شاء السلعة التي باع بها وإن شاء مكيلة قمحة، قال ابن القاسم [وكذلك] لو أن رجلا دفع إلى رجل عشرة دنانير يشتري له بها عشرة أرادب قمح فاشترى له بها عدسا فقال: هو مخير إن شاء العدس وإن شاء فدنانيره التي دفع إليه وليس له الطعام ههنا، وليس له في العين تعد لو أنه أعطاه دنانير يشتري له بها دراهم فاشترى له بها غيرها لكان مخيرا إن شاء ما اشترى، وإن شاء الدنانير التي دفع إليه، وليس له الدراهم التي أمره بها أيضا ههنا. ومما يبين لك ما فسرنا أنه ليس على من استهلك طعاما أو دنانير أو عينا لرجل تعدى عليه فاستهلكها إلا مثل ذلك في عدده ومكيلته، وليس ذلك بمنزلة العروض، إنما عليه في العروض كلها القيمة؛ لأن العروض والحيوان لا يوجد مثلها، والدنانير والدراهم والطعام يوجد مثله.
قال محمد بن رشد: قد بين في هذه الرواية وجه الفرق بين أن يأمره أن يبيع طعاما له بدنانير فيبيعه بما لم يأمره به، أو يأمره أن يشتري بدنانير له طعاما فيشتري له بها غير ما أمره، وبين أن يأمره أن يبيع سلعة

(8/155)


بطعام أو بدنانير فيبيعها بغير ما أمره به بما لا مزيد عليه، والفرق بين الدنانير يأمره أن يشتري له بها شيئا فيشتري بها سواه وبين السلعة يأمره أن يبيعها بشيء فيبيعها بسواء أبين من الفرق بين الطعام يأمره ببيعه والسلعة يأمره ببيعها ليتعدى أمره في ذلك؛ لأن الطعام وإن كان يشبه العين في الاستهلاك بوجوب الحكم فيه بالمثل فهو يشبه السلع في أنه يراد بعينه وفي أن البيع ينتقض باستحقاقه، فلو قيل على قياس هذا فيمن أمر رجلا أن يبيع له عشرة أرادب قمح بعشرة دنانير فباعها بسلعة أنه بمنزلة من أمر رجلا أن يبيع له سلعة بعشرة دنانير فباعها بسلعة فيكون مخيرا بين أن يأخذ السلعة التي اشترى بطعامه وبين أن تباع له السلعة فإن كان فيها فضل عن العشرة كان له فيها الفضل، وإن كان فيها نقصان عن العشرة كان ذلك على المتعدي لكان قولا.

[مسألة: أمره أن يبيع سلعة بعشرة دنانير إلى شهر فباعها بسلعة إلى شهر]
مسألة قال ابن القاسم: ولو أمره أن يبيع سلعة بعشرة دنانير إلى شهر فباعها بسلعة إلى شهر، بيعت تلك السلعة وكانت له القيمة، فإن كان فيها فضل عن القيمة كان له، وإن لم يكن فيها فضل فله القيمة إلا أن تكون القيمة أكثر من العشرة التي أمره أن يبيع بها، فلا يكون له إلا العشرة لأنه قد رضي أن يبيع بعشرة إلى أجل، فإذا أعطيناه عشرة نقدا لم نظلمه، وإنما تباع السلعة إذا قال: إن لي فيها فضلا، فإن قال: لا أريد الفضل وأريد القيمة، كان ذلك له إلا أن تكون أكثر من العشرة. وقال في غير هذا الكتاب: إنه لا يلتفت إلى عدد ما سمي له من الثمن وإنما ينظر إلى قيمة سلعته.
قال محمد بن رشد: القول الثاني هو الذي في المدونة، وهو أصح

(8/156)


وأجرى على أصله من القول الأول؛ لأن من حجة صاحب السلعة أن يقول إنما سميت العشرة إلى أجل مخافة أن يبيع بأقل منها فإذا تعدى ما أمرته به فلي قيمة سلعتي ما بلغت؛ كما أنه إذا أمره أن يبيع سلعته بعشرة نقدا فباعها بسلعة تكون له ما باع به السلعة إن بيعت بأكثر من عشرة، ولا يحتج عليه بأنه قد رضي بالعشرة لأن من حجته أن يقول إنما سميت العشرة مخافة أن يبيع بأقل منها فإذا تعدى ما أمرته فلي ثمن السلعة التي باع بها سلعتي.

[مسألة: بعث معه رجل مائة درهم أندلسية يقضيها عنه غريما له بمصر]
مسألة وسئل عن رجل من أهل الأندلس بعث معه رجل مائة درهم أندلسية يقضيها عنه غريما له بمصر ويكتب له منها البراءة فأنفقها المبضع معه واحتاج إليها، فلما قدم مصر لم يجد دراهم أندلسية إلا خمسين درهما فدفعها إليه ثم اشتراها منه بدنانير ثم قضاها إياه تمام المائة وكتب منه البراءة، فقال: أرى أن يعلم صاحبه الذي وكله فيكون في هذا مخيرا إن شاء أسلم له ذلك، وإن شاء دفع إليه مثل الدنانير التي اشترى الدراهم بها وأخذ منه خمسين درهما، ولو كان دفع في ذلك عرضا كان بتلك المنزلة إلا أن له قيمة ذلك العرض الذي دفع، قال عيسى: إن كان أعلمه أنه أرسل إليه معه مائة درهم على حال ما أرسل معه ثم عامله بعد ذلك هذه المعاملة فالمعاملة جائزة، وليس لأحد فيها خيار، قال: وإن كان لم يعلمه وإنما قال إنما أمرني أن أقضيك دينك فهذا الذي وصف ابن القاسم.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة أنه اشترى منه

(8/157)


الخمسين درهما على أن يقضيها إياه تمام المائة، فآل الأمر بينهما إلى أن أعطاه ذهبا عن الخمسين درهما لأنه إذا اشتراها منه على أن يقضيها إياه كان ما فعلاه من ذلك لغوا وصار إنما دفع إليه خمسين درهما وذهبا عن الخمسين الأخرى التي كان استسلفها وصارت دينا عليه للآمر، فمن حقه أن يقول إنما آخذ منك الخمسين درهما التي عليك وأدفع إليك [الذهب] الذي قضيت عني فيها فهو خيار أوجبه الحكم في الصرف دون أن ينعقد عليه، وقد اختلف هل يفسد الصرف بذلك أم لا حسبما مضى القول فيه في رسم تأخير صلاة العشاء من سماع ابن القاسم ورسم البيوع الأول عن سماع أشهب، فجواب ابن القاسم في هذه المسألة على القول بأن الصرف لا يفسد بذلك، وأما قول عيسى بن دينار فلا وجه له عندي إذ ليس معرفة المقتضي الذي له الحق بأن الذي عليه الحق أرسل المائة درهم مع الرسول القاضي بالذي يسقط ما يوجبه الحكم من الخيار للآمر الذي كان عليه الحق ولا جهله بذلك بالذي يوجب خياره، وإنما الذي يوجب خياره هو لأن من حجته أن يقول: لو علمت أنه بعث معك بالمائة درهم لما أخذت منك في الخمسين منها ذهبا، فيلزمه، إذا لم يعلم بذلك أن يعلمه بذلك وأن يعلم الذي وكله بما فعل معه أيضا، فإن أجازاه جميعا جاز، وإن رداه أو رده أحدهما بطل ولم يجز. وأما إذا اشترى منه الخمسين درهما اشتراء صحيحا على غير شرط أن يقضيه إياها ثم قضاه إياها فلا إشكال في أن ذلك جائز؛ إذ لا فرق بين أن يشتري الخمسين درهما منه أو من غيره إذا لم يشترها منه على شرط أن يقضيه إياها.

[مسألة: أبضع معه في سلعة يشتريها له ببلد فاشترى لنفسه سلعة دون ذلك البلد]
مسألة وسمعته يقول: إذا أبضع الرجل مع الرجل في سلعة يشتريها له ببلد فاشترى لنفسه سلعة دون ذلك البلد بتلك البضاعة

(8/158)


فربح فيها، قال الربح له والنقصان عليه، فإذا بلغ البلد فاشترى سلعة غير التي أمر بها لنفسه وضمن ذلك ليقطع عنه الربح وهو يجد السلعة التي أمره بها فصاحب المال بالخيار، إن شاء أخذ ما اشترى بماله، وإن شاء ضمنه ماله، فإن كان باع بربح فالربح لصاحب المال، وإذا لم يجد السلعة التي أمره بها وطلبها فلم يجدها واشترى غيرها فالربح له والنقصان عليه إذا علم ذلك وعرف أنه لم يجدها، ورواها أصبغ في كتاب البيوع وزاد في سماعه قال وذلك أيضا إذا اشترى لنفسه، فإن اشتراها باسم صاحب المال وعليه فالخيار لرب المال والربح له والنقصان والضمان على المأمور بالتعدي على ماله. قال عيسى: قلت لابن القاسم: أرأيت إذا لم يجدها بالبلد واشتراها بغير البلد لصاحب المال أيكون لصاحب المال أن يأخذها إن شاء؟ وكيف إن كان فيها فضل لمن الربح؟ قال: صاحبها بالخيار إن شاء أخذها، وإن شاء تركها، قال عيسى: إذا اشترى له مثل ما وصف له وبالثمن الذي أمره أن يشتري به أو بأدنى فأرى أن يلزمه.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول عليها مستوفى في أول رسم من سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.

[مسألة: اشترى منه طعاما غائبا فقدم وكيل البائع بالطعام بعد الصفقة]
مسألة وقال في رجل اشترى من رجل طعاما بعينه غائبا عنهما ثم إذا الطعام قد قدم به وكيل البائع بعد الصفقة كان قد حمله بعد الصفقة ولا علم له؛ فقال: البيع للبائع لازم، فإن شاء أن يدفعه إليه ههنا دفعه أو رضي المشتري أن يأخذه منه ههنا وإلا

(8/159)


فعليه أن يرده أو يدفع إليه مكانه ثم طعاما آخر.
قال محمد بن رشد: الكلام في هذه المسألة على فصلين: أحدهما شراء الطعام الغائب والحكم في ضمانه ممن يكون؟ والثاني ما يكون للمشترى إذا حمله البائع أو وكيله بأمره دون أن يعلم ببيعه إلى بلد آخر، فأما بيعه فإن كان جزافا فلا يجوز إلا على رؤية متقدمة حسبما مضى القول فيه في تفسير قوله في أول سماع ابن القاسم من كتاب جامع البيوع لا يجوز اشتراء الطعام الغائب على شرط إن أدركته الصفقة مثل الزرع القائم إذا يبس واستحصد ويدخل في ضمانه بالعقد على قولي مالك في شراء الغائب على الصفة، وإن كان على الكيل فيجوز على الصفة وإن لم يتقدم للمبتاع فيه رؤية، وذلك على وجهين: أحدهما أن يكون له طعام غائب فيشتري منه كيلا معلوما، والثاني أن يشتريه كله على الكيل، فأما إذا اشترى من طعامه الغائب كيلا معلوما بعد أن وصفه له أو أراه منه شيئا فالضمان فيه من البائع حتى يكيله على المبتاع قولا واحدا، وكذلك إذا اشتراه كله على الكيل إلا أن يصدقه في الكيل فيدخل في ضمانه بالعقد على أحد القولين في اشتراء الغائب، فإن حمله البائع أو وكيله بأمره دون أن يعلم ببيعه إلى بلد المشتري حيث وقع الشراء أو إلى غيره من البلدان كان الحكم فيه ما ذكر في الرواية من أن على البائع أن يرده إلى البلد الذي باعه فيه أو يأتي المشتري بمثله في ذلك البلد فيكيله عليه فيه إن كان اشتراه على الكيل أو يكيل له المكيلة التي اشترى منه إن كان اشترى كيلا من جملة طعام، وإن كان اشتراه جزافا وأمكن أن يأتيه في مثل ذلك البلد بمثله مثل أن يكون بيتا مملوءا بطعام أو وعاء مملوءا منه حاضرا أتاه بمثله، وإن كان مصيرا لا يمكن معرفة المثل فيه كان عليه مكيلة خرص الصبرة إلا أن يتفقا على أخذ الطعام في البلد الذي حمل إليه فيجوز، وقد قيل إن المبتاع مخير بين أن يلزمه مثل الطعام في البلد الذي اشتراه به وبين أن

(8/160)


يفسخ البيع ويأخذ ثمنه، وهو قول أشهب، ولا يعتبر في شيء من ذلك كله الضمان ممن هو، وإنما يعتبر إذا لم يحمله من موضعه، وأراد أن يعطيه مثله في بلد آخر فلا يجوز إذا كان الضمان من المبتاع باتفاق، ويجوز إذا كان من البائع على اختلاف حسبما مضى بيانه في سماع سحنون من كتاب الغصب.

[مسألة: ادعى وكالة رجل في سلعة فاشتراها منه رجل ثم علم بكذبه]
مسألة وقال ابن القاسم في رجل ادعى وكالة رجل في سلعة فاشتراها منه رجل ثم علم بكذبه فأراد المشتري أن يرد البيع وأبى المدعي الوكالة أن يقيله حتى يرضى الرجل، قال: ليس ذلك له، والمشتري يرد إن شاء، قلت له: فإن رضي صاحب السلعة أن يجيز البيع أيلزم المشتري ذلك؟ قال: لا يلزمه ذلك إذا كان افتات عليه من غير أن يأمره.
قال محمد بن رشد: وقعت هذه المسألة في بعض الروايات، وقوله فيها إن للمشتري أن يرد البيع ولا يلزمه أن ينتظر حتى يعلم إن كان يجيز صاحب السلعة البيع أو لا يجيزه هو نص ما في المدونة، وهو صحيح لأن من حقه أن يقول إن كانت جارية لا أمسكها أطؤها وصاحبها فيها علي بالخيار، وكذلك ما عدل الجارية من السلع. وأما قوله: إن الشراء لا يلزم المشتري إذا أجاز صاحب السلعة البيع فهو خلاف ما في المدونة وما في رسم الصلاة من سماع يحيى من كتاب الاستحقاق، وبعيد أيضا لأن البائع إنما باعها على أنه وكيل لسيدها الذي أجاز البيع فيها، فلا حجة له في ردها، وإنما كانت تكون له الحجة في ردها لو باعها على أنها له ثم استحقها سيدها فأجاز بيعها، فههنا يختلف في ردها، والاختلاف في هذا جار على اختلافهم في انتقال العهدة عن التعدي في البيع إلى صاحب السلعة إذا أجاز البيع، فله أن يرد على القول بأنها تنتقل، وليس له أن يرد على القول بأنها لا تنتقل، وقد فرغنا من بيان هذه المسألة في آخر سماع

(8/161)


أصبغ من كتاب الغصب وفي رسم الصلاة من سماع يحيى من كتاب الاستحقاق فلا معنى لإعادته ههنا، وبالله تعالى التوفيق.

[أعطى رجل ثوبه رجلا أن يبيعه له بعشرة دراهم فباعه بخمسة]
ومن كتاب أوله:
إن خرجت من هذه الدار إلى رأس الحول فأنت طالق وقال ابن القاسم: إذا أعطى رجل ثوبه رجلا أن يبيعه له بعشرة دراهم فباعه بخمسة، قال عليه العشرة دراهم التي أمره أن يبيعه بها، وليس عليه أكثر منها وإن كانت القيمة أكثر من العشرة لأنه لو باعه بعشرة والقيمة أكثر لم يكن عليه شيء، وليس عليه إلا العشرة التي أمره أن يبيع بها.
قال محمد بن رشد: قد قيل عليه القيمة لأن من حجة صاحب السلعة أن يقول إنما سميت العشرة لئلا ينقص منها، فإذا تعدى فلي قيمة سلعتي، والعشرة أعدل، والقولان قائمان من مسألة رسم أوصى في الذي يأمر الرجل أن يبيع سلعته بعشرة إلى أجل وقيمتها أكثر من عشرة فيبيعها بسلعة إلى أجل، وقد مضى القول عليها وبيان وجه الاختلاف فيها فلا معنى لإعادته.

[مسألة: أهدى لرجل ثوبا فأخطأ به الرسول فدفعه إلى غيره فاقتطعه]
مسألة وسئل ابن القاسم عن رجل أهدى لرجل ثوبا فأخطأ به الرسول فدفعه إلى غيره فاقتطعه قباء ثم طلب ذلك فقال: يقال للمبعوث له الثوب اغرم خياطته وخذ ثوبك، فإن أبى قيل للذي هو في يده إن شئت فادفعه إليه مخيطا، وإن شئت فأد قيمته يوم قبضته.

(8/162)


قال محمد بن رشد: قوله فإن أبى قيل للذي هو في يده إن شئت فادفعه إليه مخيطا وإن شئت فأد قيمته يوم قبضته، هو على ما يأتي في أصل المختلطة من كتاب تضمين الصناع من المدونة من أنه لم ير الخياطة عينا قائما يكون بها شريكا فيما كان بوجه شبهة خلاف ما في كتاب الجعل والإجارة من المدونة من أنه رأى الخياطة عينا قائما فأوجب الشركة بذلك، وقياس هذه المسألة قياس الصناع يخطئ بالثوب فيدفعه إلى غير صاحبه فيقطعه الذي قبضه ويخيطه، فالذي يأتي في هذه المسألة على مذهبه في المدونة أنه إن أبى المبعوث إليه الثوب أن يغرم خياطته ويأخذه قيل للذي هو في يده أد قيمته يوم قبضته، فإن أبى من ذلك كانا شريكين فيه الأول المبعوث إليه بقيمته غير مخيط، والثاني الذي خاطه بقيمة خياطته، وسواء كانت الخياطة زادت في قيمة الثوب أو نقصت منه، وإن أراد المبعوث إليه الثوب أن يرجع بقيمة ثوبه على الرسول الذي أخطأ في دفعه كان ذلك له، فإن اختار ذلك بكون الخياطة تنقص الثوب رجع الرسول على الذي دفع إليه الثوب فكان الحكم في رجوعه إليه على ما تقدم من الاختلاف في رجوع المبعوث إليه الثوب عليه، وبالله التوفيق.

[مسألة: قال له لك علي ثلثا دينار مما حاسبتك به فهاك دينارا فاقتص منه الثلثين]
مسألة وسئل ابن القاسم عن رجل قال لرجل: لك علي ثلثا دينار مما حاسبتك به فهاك دينارا فاقتص منه الثلثين واقض فلانا الثلث، فذهب عنه وخرج في سفر فنظر في محاسبته إياه فإذا أنه عليه أكثر من الدينار، فأراد أن يحبس الدينار كله، قال: ليس ذلك له، وليدفع ثلث الدينار إلى من أمره أن يدفعه إليه ثم يكتب إليه فيما بقي له.

(8/163)


قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأنه لما قبض منه الدينار على أن يدفع ثلثه إلى الذي أمره أن يدفعه إليه فقد أقر أنه ليس له عنده إلا ثلثا دينار، فليس له أن يمسك الدينار كله حتى يقر له الذي دفع إليه بصحة ما ذكر من أنه وجده في حسابه.

[مسألة: أبضع الرجل بدنانير مع رجل وأبضع معه آخر بدراهم]
مسألة قال ابن القاسم: إذا أبضع الرجل بدنانير مع رجل وأبضع معه آخر بدراهم يشتري لهما حاجتهما فلا بأس أن يصرف الدراهم بالدنانير بصرف الناس.
قال محمد بن رشد: أجاز أن يصرف دراهم هذا بدنانير هذا بصرف الناس ولم ير بذلك بأسا لأن أمره محمول على أن كل واحد منهما قد فوض إليه أن يصرف ما بعث به معه إن احتاج إلى ذلك، إذ قد لا يجد حاجة الذي دفع إليه الدنانير إلا بدراهم، ولا حاجة الذي دفع إليه الدراهم إلا بدنانير، فصار بمنزلة من دفع إليه رجل دنانير للصرف ودفع إليه آخر دراهم للصرف فأراد أن يصرف من هذا لهذا، فأجاز ذلك مالك في كتاب ابن المواز، وقد أجاز في أحد قوليه حسبما ذكرناه في رسم البيوع الأول من سماع أشهب لمن وكل على الصرف أن يصرف له من نفسه، وهذا أشد من هذا، وقال ابن أبي حازم: لا بأس بذلك إذ لا نظرة فيه، فلا تشددوا على الناس هكذا جدا فليس كما تشددون، وذكرنا [أن] الخلاف في ذلك إنما هو من أجل أنه خيار لم ينعقد عليه الصرف، وإنما أوجبه الحكم، ولم يجز ابن القاسم في سماع أبي زيد من كتاب الصرف أن يصرف من هذا لهذا إن أمره كل واحد منهما أن يصرف له، ومثله لابن القاسم في كتاب ابن المواز خلاف قوله في هذه الرواية، والعلة في ذلك

(8/164)


أن كل واحد منهما إنما وكله على أن يبذل له مجهوده في المكايسة وأن يفعل له في ذلك ما يفعل لنفسه، فإذا صرف لهذا من هذا فقد توخى السداد في ذلك وترك المكايسة التي أرادها كل واحد منهما منه فصار هذا معنى يشبه أن يكون لكل واحد منهما الخيار في فعله، كما إذا صرف لأحدهما من نفسه، ويحتمل أن يفرق بين المسألتين؛ لأن الخيار إذا صرف لأحدهما من نفسه لا اختلاف فيه. فيتحصل في ذلك ثلاثة أقوال: الجواز في المسألتين جميعا، وعدمه فيهما جميعا، والفرق بينهما، وقد ذكر ابن دحون في وجه عدم الجواز في ذلك علة لا تصح قد تكلمنا على إفسادها في سماع أبي زيد من كتاب الصرف، وبالله التوفيق.

[امرأة وكلت وكيلا يطلب خصومة لها في قرية فباع الوكيل القرية]
ومن كتاب أسلم
وله بنون صغار وسئل عن امرأة وكلت وكيلا يطلب خصومة لها في قرية وأشهدت له إني قد فوضت إليه، وأمره جائز فيما يصنع ولم يذكر في وكالتها أو تفويضها لا بيع ولا غير ذلك إلا ما ذكرت لك من التفويض وأمره جائز فيما صنع، فباع الوكيل القرية بعد أن صالح فيها وصارت للمرأة فباعها ولم يستأمرها وهي معه في مدينة أو بينهما أميال، هل يمضي البيع عليها وهي تقول لم آمره بالبيع، وإنما فوضت إليه أمر الخصومة والصلح؟ هل يقبل قولها إنني لم آمره بالبيع؟ أم هل يختلف هذا إذا وكل الرجل وكيلا له على مال له بالمشرق وكتب كتابا أنني قد فوضت إليه الأمر وأمره جائز فيما صنع أو قطع بالخصومة إن كانت فظفر الوكيل وباع ما ظفر به وبينه وبين من وكله مسيرة شهر هل يجوز بيعه إذا أنكر ذلك الذي وكله إذ لم يأمره بالبيع؟ قال ابن القاسم: لا أرى أن يجوز

(8/165)


فيهما جميعا [البيع] إذا أنكر إذا كان بيعه بعد أخذه المال وحوزه له ولم يكن أخذ المال على صلح ولا على مقاطعة.
قال محمد بن رشد: الأصل في الوكالات أن الوكيل ليس له أن يتعدى ما وكل عليه مما سمى له. وإن قال في توكيله إياه إنه وكله وكالة مفوضة أقامه في ذلك مقام نفسه، وأنزله منزلته، وأجاز فعله، وجعل إليه النظر بما يرضاه لأن ذلك كله يحصل على ما سمى ويعاد إليه إلا أن لا يسمي شيئا رأسا يقول إني وكلته وكالة مفوضة فيكون وكيلا مفوضا إليه يجوز عليه فعله في كل شيء من البيع والابتياع والصلح وغيره، فإن قال وكالة مفوضة جامعة لجميع وجوه التوكيل ومعانيه كان أبين في التفويض، فإنما أجاز ابن القاسم في هذه الرواية للوكيل على الخصومة أن يصالح فيها من أجل قول الموكلة قد فوضت إليه في الخصومة وجعلت أمري جائزا فيما يصنع فيها فاقتضى ذلك الصلح إذ ليس له وجه سواه، فليس ذلك بخلاف لقول أصبغ في آخر نوازله إنه إذا وكله على الخصومة ولم يفسر شيئا فهو وكيل على المدافعة وحدها، وليس له صلح ولا إقرار، ولا بخلاف لقول عيسى بن دينار في أول نوازله بعد ذلك أنه إذا وكله على تقاضي ديونه وفوض إليه النظر فيها أنه لا يجوز للوكيل أن يصالح عنه في شيء منها وإن كان الصلح في ذلك نظرا له؛ لأن تفويضه النظر في اقتضاء ديونه لا يقتضي مصالحة؛ لأنه يمكن إعادته على ما وكله عليه من الاقتضاء لديونه ليعجل منها ما يرى النظر في تعجيله ويؤخر منها ما يرى النظر في تأخيره، فقد يكون النظر في بعض الديون تعجيل اقتضائها، وفي بعضها تأخير اقتضائها، وقد ذهب بعض الناس إلى أن قول ابن القاسم هذا خلاف لقول عيسى في نوازله، وليس ذلك عندي بصحيح لما بيناه من وجه الفرق بينهما. وهذا الذي قلناه من أنه إذا سمى في الوكالة شيئا لا يتعدى الوكيل مما سمى له وإن نص على التفويض في الوكالة لأن ذلك يعاد إلى ما سمى هو بين من

(8/166)


قول أصبغ في آخر نوازله، وإنما تكون الوكالة مفوضة في كل شيء إذا لم يسم فيها شيء، وكذلك الوصية إذا قال الرجل فلان وصيي ولم يزد على ذلك كان وصيا له في كل شيء في ماله وبضع بناته وإنكاح بنيه الصغار، وهذا قوله في المدونة، ومثله حكى ابن حبيب في الواضحة أنه إذا قال فلان وصيي ولم يزد ينزل منزلة الموصي في كل شيء إلا في تزويج الصغيرة قبل بلوغها والكبيرة دون مؤامرتها، ولهذا المعنى قالوا في الوكالة إنها إذا طالت قصرت، وإذا قصرت طالت.

[مسألة: قال الرجل للرجل هاك ثلاثين دينارا وابتع لي جارية صفتها كذا وكذا]
مسألة وقال ابن القاسم: إذا قال الرجل للرجل هاك ثلاثين دينارا وابتع لي جارية صفتها كذا وكذا، فيذهب المأمور فيشتري بتلك الثلاثين دينارا جاريتين بتلك الصفة بعينها فأتى بهما إليه: قال: صاحب المال بالخيار إن شاء أخذهما جميعا وإن أحب أخذ واحدة بما يصيبها من الثمن وكان له على المأمور بقية الثلاثين، وكذلك لو أمره أن يشتري له جارية بعينها بثلاثين دينارا فذهب فاشتراها وابنها بثلاثين دينارا إن صاحب المال بالخيار إن شاء أخذ الأم بما يصيبها من الثمن وترك الولد، وكان ما بقي من الثلاثين له على المأمور إلا أن يكون الولد صغيرا ليس مثله يفرق بينه وبين أمه فيلزمه أخذهما جميعا الأم والولد أو يدعهما جميعا إن زعم أنه لم يعرف أن لها ولدا.
قال محمد بن رشد: أما إذا دفع إليه الثلاثين على أن يشتري له بها جارية على صفة وصفها له فاشترى له بالثلاثين جاريتين على الصفة التي أمره بها في صفقة واحدة ففي كتاب ابن المواز أنهما لازمتان له جميعا خلاف قوله ههنا إنه مخير بين أن يأخذهما جميعا وبين أن يأخذ أيتهما شاء

(8/167)


بما يصيبها من الثلاثين وتكون البقية منها عليه، ولو ماتت الواحدة قبل أن يختار كانت المصيبة من المأمور؛ لأنه متعد في الثانية، وليس هو كبيع، قاله ابن دحون، وليس قوله بصحيح إذ لم يشترها واحدة بعد أخرى فيكون متعديا في الثانية كما قال أي في الهالكة، وإنما اشتراهما صفقة واحدة، فهو ما تعدى في إحداهما بعينها دون الأخرى، لكنه لما تعدى في اشترائهما صفقة واحدة لزمت ذمته ما ناب التي لم يختر صاحب البضاعة من الثلاثين، فصار كأنه اشترى على أن صاحب البضاعة بالخيار في أن يأخذ أيتهما شاء بما ينوبها من الثلاثين ويضمن هو بقيتها في ذمته وتكون له الثانية، فيتخرج ضمان الهالكة منهما قبل أن يختار على الاختلاف في الذي يشتري ثوبا من ثوبين على أن يختار أيهما شاء فتلف أحدهما قبل أن يختار فتكون مصيبة التالف منهما جميعا على مذهب ابن القاسم، ومن المبضع معه المتعدي على مذهب سحنون. وأما إذا اشترى الجارتين بالثلاثين في صفقتين واحدة بعد أخرى فالآمر مخير في أخذ الثانية وتركها، قاله في كتاب محمد، ولا خلاف في هذا. وأما إذا أمره أن يشتري له بالثلاثين جارية بعينها فاشتراها وابنها بالثلاثين فكما قال يكون مخيرا بين أن يأخذهما جميعا وبين أن يأخذ الأم بما يصيبها من الثمن، ولو أمره أن يشتري له بالثلاثين جارية موصوفة بغير عينها فاشترى له بالثلاثين جارية على الصفة وابنها لكان مخيرا بين أن يأخذها وولدها أو يتركها وولدها ويضمنه الثلاثين، أو يأخذها دون ولدها بما ينوبها من الثلاثين، وهذا إن كان الولد كبيرا، فأما إن كان الولد صغيرا فكما قال في الرواية إن علم لها ولدا لزمته، وإن كان لم يعلم ردها بولدها، هذا إذا كانت بعينها، وأما إن لم تكن بعينها فله أن يردها بولدها علم أن لها ولدا أو لم يعلم لأن الولد عيب في الجارية، والله تعالى هو الموفق المعين بفضله، لا إله إلا هو، ولا معبود سواه، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وصلى الله على سيدنا ونبينا ومولانا محمد المصطفى الكريم وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
تم الجزء الأول من كتاب البضائع والوكالات بحمد الله وحسن عونه، وصلى الله على محمد نبيه وآله.

(8/168)