البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة

 [كتاب البضائع والوكالات الثاني] [يوكل رجلا على تقاضي ديونه فيقوم على رجل بذكر حق له عليه بمائة دينار]

(8/169)


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد
وآله وسلم تسليما.
من سماع عيسى بن دينار من ابن القاسم
من كتاب أوله حمل صبيا على دابة
قلت أرأيت الرجل يوكل رجلا على تقاضي ديونه فيقوم على رجل بذكر حق له عليه بمائة دينار فيقول المطلوب للوكيل قد قضيت صاحبك منها خمسين وليست له على ذلك بينة. قال: لا ينفعه ما ادعى من الدفع إلا أن يأتي بالبينة وإلا غرم ولم يؤخر إلى لقي صاحبه. فقلت: أرأيت لو لم تكن له بينة فقضي عليه بالغرم فغرم المائة كلها ثم قدم صاحب الحق فأقر أنه قد تقاضى منه خمسين والوكيل معدم، على من يرجع هذا بالخمسين على صاحب الحق أو على الوكيل؟ قال: بل على الذي له أصل الحق لأنه هو الذي فرط حين لم يعلم وكيله أنه قد تقاضى منه خمسين. قلت: فلو كان الوكيل معدما أو موسرا؟ قال: هو سواء لا يرجع عليه بشيء. قلت: وإنما يرجع على صاحب الحق؟ قال نعم.
قال محمد بن رشد: قال في الوكيل يتقاضى الدين من الغريم والموكل غائب فيدعي أنه قد دفع إليه الحق أو بعضه إنه لا ينفعه ذلك إلا

(8/171)


أن تكون له بينة ويغرم ولا يؤخر إلى لقي صاحبه. ولم يفرق بين أن يكون الوكيل قريبا أو بعيدا. وفرق محمد بن عبد الحكم بين أن يكون الموكل قريب الغيبة أو بعيدها. وقوله عندي تفسير لهذه الرواية ولقول أصبغ في نوازله بعد هذا. وقد قيل إنه لا يقضى للوكيل بالدين حتى يكتب إلى الموكل فيحلف وإن كان بعيدا على مسألة نوازل عيسى في يمين الاستحقاق. وقد فرق بعض أهل النظر بين يمين الاستحقاق وبين يمين دعوى القضاء. وقد قيل إن الوكيل يحلف على العلم وحينئذ يقتضي.
فيتحصل في المسألة أربعة أقوال إذا بعدت غيبة الموكل. وقد مضى بيان هذا كله وتحصيله في رسم العتق من سماع عيسى من كتاب الأقضية أنه يستحلفه في الوجهين جميعا. وظاهر هذه الرواية وما في نوازل أصبغ بعد هذا أنه ليس على الإمام أن يستحلف الموكل على قبض ديونه الغائبة أنه ما قبض منها شيئا، ويكتب له دون يمين خرج أو وكل، خلاف ما في رسم العتق من سماع عيسى من كتاب الأقضية أنه يستحلفه في الوجهين جميعا خرج أو وكل ما اقتضى ولا أحال ولا قبض ثم يكتب له. وعلى ظاهر هذه الرواية جرى العمل؛ لأنه يقول للإمام لا تحلفني فلعله لا يقضى على أنه قضاني منه شيئا. وقد قيل إنه يستحلفه إذا وكل ولا يستحلفه إذا خرج، وهو أقوى الأقوال وأعد لها.
وأما قوله إذا لم يكن للمطلوب بينة على ما ادعى من دفع الخمسين إلى صاحب المال فغرم المائة كلها ثم قدم صاحب الحق فأقر بقبض الخمسين إن الغريم لا يرجع على الوكيل وإنما يرجع على صاحب الحق لأنه هو الذي فرط، فمعناه أنه لا يلزمه أن يرجع عليه ويترك الرجوع على صاحب الحق، بل له أن يرجع عليه إن أحب، فإن رجع على صاحب الحق رجع صاحب الحق على الوكيل، إلا أن يدعي أنه دفع المائة كلها إليه ويقيم على ذلك البينة، وبالله التوفيق.

(8/172)


[أمر رجلا أن يبتاع له جارية فاشتراها وأتاه بها فجحد أن يكون أمره بها]
ومن كتاب العشور وسألته عن رجل أمر رجلا أن يبتاع له جارية فاشتراها وأتاه بها فجحد أن يكون أمره بها، فقال لا يطؤها هذا المأمور ولكن يبيعها، فإن كان فيها فضل رده إليه، إلا أن يخرجها إلى السوق فينظر ما يعطى فيها ويستقصي فيها ذلك ثم يأخذها لنفسه ويعطيه الفضل ويطؤها. قال أرجو أن يكون ذلك خفيفا. قلت: فإن لم يرد بيعها وأراد حبسها؟ فقال: ما أرى ذلك إلا أن تكون ليس فيها فضل إن بيعت ولا زيادة يعلم ذلك ويستيقنه. قلت: ولا يرى جحوده إياه إسلاما أسلمها إليه؟ قال: لا إنما دفع عن نفسه شيئا لا يدري كيف يكون عليه أفيه فضل أم لا، أو قال شيئا خافه. أرأيت لو أعتقها وجحد أن يكون أمره قلت تكون حرة وإنما هو رجل جحده حينئذ الثمن، فهذا مثله.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال إنه إذا جحد أن يكون أمره باشترائها فلا يجوز له أن يطأها حتى يعلم أنه راض بتركها له فيما له عليه من ثمنها، إذ لا يسقط حقه فيها بجحوده، بدليل أنه لو رجع إلى قوله وكذب نفسه فيما جحد وأقر بما ادعاه من أنه أمره بشرائها لكان له أن يأخذها، ولو أعتقها لجاز عتقه فيها. فاستدلال ابن القاسم بالعتق في هذه المسألة استدلال ظاهر.
وفي قوله إنه يخرجها إلى السوق وينظر ما يعطى فيها ويستقصي ذلك ثم يأخذها لنفسه ويعطيه الفضل نظر؛ لأنه إذا فعل ذلك يكون هو الحاكم لنفسه يأخذ جاريته فيما له عليه مما جحده إياه من ثمنها، وذلك لا يلزمه لو أقر بما قال بعد أن فعل ذلك وأراد أخذ الجارية لكان ذلك له، فلذلك لم يقل إنه يجوز له أن يطأها إذا فعل ذلك، وإنما قال أرجو أن يكون خفيفا. وإجازة أخذ الجارية له بما يعطى فيها ينحو إلى قول من يرى أن للرجل إذا جحد الرجل حقا له عليه فظفر له بمال أن يأخذه لنفسه ويقطعه من تحت

(8/173)


يده، خلاف قول ابن القاسم. والذي يصح له به ملكها ويجوز له وطؤها أن يرفع الأمر إلى السلطان فيبيعها فيما يدعيه من الثمن الذي اشتراها له به منه أو من غيره ويوقف فيها الفضل إن كان فيها فضل للذي جحد، فإذا باعها السلطان منه فيما يدعيه من الثمن على قوله صح له ملكها وجاز له وطؤها. ألا ترى أنه لو أقر بما قال بعد أن باعها السلطان منه في الثمن الذي اشتراها له يكن له إلى أخذها سبيل. وإنما كان يكون له الفضل الذي وقف له إن كان فيها فضل. وفي حكم السلطان بيع الجارية التي يقر بها الرجل للرجل فيما يدعيه قبله من الثمن اختلاف قد ذكرته في مسألة القدح والكساء من آخر سماع أصبغ من كتاب السلطان، والحمد لله.

[أمره أن يبيع له سلعة بعشرة دنانير نقدا فباعها بخمسة عشر إلى أجل]
ومن كتاب أوله حبل حبلة قال ابن القاسم: إذا أمر الرجل الرجل أن يبيع له سلعة بعشرة دنانير نقدا فباعها بخمسة عشر إلى أجل. قال ابن القاسم: تباع الخمسة عشر إلى أجل بعرض نقدا ثم يباع العرض، فإن بيع العرض بأكثر من عشرة كانت الزيادة لصاحب السلعة، وإن نقص ثمن السلعة من العشرة كان تمام العشرة على بائعها لأنه متعد. قلت: فإن قال بائع السلعة لصاحب السلعة أنا أعطيك عشرة الآن نقدا وأنظر بالخمسة عشر إلى أجلها. قال: إن رضي بذلك صاحب السلعة نظر إلى تمام الخمسة عشر الآن نقدا، فإن كان ثمنها عشرة وأدنى جاز ذلك إذا عجل له العشرة، وإن كان ثمنها أحد عشر واثني عشر لم يحل؛ لأنه يصير كأنه باع اثني عشر نقدا بخمسة عشر إلى أجل. قال ابن القاسم: ولو كان يجوز له أن يؤخر الدينارين في خمسة إلى أجل إذا كان ثمن الخمسة عشر نقدا اثني عشر لجاز له أن يؤخر الخمسة عشر كلها ويأخذها عند الأجل. قال عيسى: وأشهب يقول لا يجوز إذا كان ثمن الخمسة

(8/174)


عشر إذا بيعت بعرض لم يبع العرض إلا بأدنى من عشرة؛ لأنه إذا كان أدنى فهو سلف جر منفعة.
قال محمد بن رشد: الحكم في هذه المسألة ما ذكره من أن يباع الخمسة عشر بعرض ثم يباع العرض بعين، فإن بيع بعشرة فأكثر كان ذلك لصاحب السمعة، وإن بيع بأقل من عشرة غرم بائع السلعة تمام العشرة، فإن رضي أن يعطي العشرة وينتظر بالخمسة عشر إلى أجلها فيأخذ منه العشرة التي أعطى وتكون الخمسة لصاحب السلعة ففي ذلك أربعة أقوال: أحدها أن ذلك لا يكون له إلا أن يرضى رب السلعة وتكون الخمسة عشر لو بيعت لم يكن فيها أكثر من عشرة؛ لأنه إذا كان فيها أكثر من عشرة دخله الدين بالدين، وهو قول ابن القاسم في هذه الرواية، والثاني أن ذلك لا يكون له إلا أن يرضى بذلك رب السلعة أيضا أو تكون الخمسة عشر لو بيعت كان فيها عشرة فأكثر؛ لأنه إن لم يكن فيها إلا أقل من عشرة دخله سلف جر منفعة، وهو قول أشهب، والثالث أن ذلك لا يكون له أيضا إلا أن يرضى بذلك رب السلعة أيضا وتكون الخمسة عشر إن بيعت لم تبع إلا بعشرة لا أدنى ولا أكثر؛ لأنها إن كانت لو بيعت بيعت بأكثر من عشرة دخله الدين بالدين على ما قاله ابن القاسم، وإن كانت لو بيعت بيعت بأقل من عشرة دخله سلف جر منفعة على ما قاله أشهب، والرابع أنه إذا أراد بائع السلعة أن يعطي العشرة وينظر بالخمسة عشر إلى أجلها كان ذلك له وجاز، كانت الخمسة عشر إن بيعت قام فيها أكثر من العشرة أو لم يقم فيها إلا أقل من العشرة. وأما إن أراد صاحب السلعة أن يباع له من الخمسة عشر بعشرة فأكثر ويترك البقية إلى أجلها كان ذلك له على ما قاله في سماع أبي زيد من كتاب جامع البيوع. ولو أراد أن يباع له منها بأقل من عشرة لم يجز؛ لأنه يدخله دنانير في أكثر منها إلى أجل. وقد مضى هذا كله في سماع أبي زيد من الكتاب المذكور.

[مسألة: أعطى رجلا دنانير يشتري له بها طعاما فاشترى سلعة]
مسألة قال ابن القاسم: ومن أعطى رجلا دنانير يشتري له بها

(8/175)


طعاما فاشترى سلعة، فصاحب الدنانير مخير إن شاء السلعة وإن شاء الدنانير. وإن أعطاه قمحا يبيعه بدنانير فاشترى به سلعة فهو مخير إن شاء السلعة وإن شاء القمح؛ لأن القمح بمنزلة الدنانير.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضت في رسم أوصى متكررة ومضى القول عليها فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.

[مسألة: بعثت ببضاعة مع رجل وقلت له لا تفارق حقويك فجعلها في عيبته]
مسألة [قال عيسى] : قال أبو محمد المخزومي سألت مالكا فقلت له: إني بعثت ببضاعة مع رجل وقلت له لا تفارق حقويك فجعلها في عيبته فذهبت، فقال لي: هو ضامن.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأن كون البضاعة مشدودة على حقويه أحصن لها من كونها في عيبته. فإذا دفعها إليه على ألا تفارق حقويه فجعلها في عيبته وجب عليه ضمانها إن تلفت لأنه لم يرض أن تكون في عيبته. ولو أعطاها له على أن يجعلها في عيبته فشدها على حقويه فتلفت لم يلزمه ضمانها؛ ولو لم يشترط عليه في أمرها شيئا فشدها على حقويه لم يضمن، ولو جعلها في عيبته لضمن إن كانت البضاعة يسيرة مثلها يشد على الحقوين ولا يجعل في العيبة.

[الرجل والمرأة يوكلان وكيلا يخاصم عنهما]
ومن كتاب الجواب وسأله عن الرجل والمرأة يوكلان وكيلا يخاصم عنهما فإذا وجه القضاء عليه ذكر أو ذكرت أنه لم يخاصم بحجتهما أو أن حجتهما غير ما كان يخاصم به ولا يعلم أنهما علما بما كان يخاصم به أو لعلهما غائبان.

(8/176)


قال ابن القاسم: لا يقبل ذلك عنهما ولا ينظر إلى قولهما ولا حجة لهما إلا أن يأتيا بحجة يذكران أنها بقيت لهما بما يرى أن لذلك وجها. وإنما ذلك بمنزلة أن لو كانا هما يخاصمان لأنفسهما فلما أراد القاضي توجيه القضاء عليهما ذكرا حجة بقيت لهما، فإن أتيا بشيء يشبه أو شيء يرى له وجه يعرف وجه ما يذكران ويعتذران به ويحتجان قبل ذلك منهما، وإلا لم يلتفت إليهما ووجه القضاء عليهما، ووكيلهما بمنزلتهما في ذلك سواء، ويجري مجراهما، وإن زعما أنهما لم يعلما بما كان يخاصم به لم يكن لهما في ذلك حجة ولا كلام؛ لأنهما قد وكلاه ورضيا به، فإذا رضيا بوكالته فقد رضيا بكل ما يخاصم به فكأنهما اللذان يخاصمان لأنفسهما.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة لا إشكال فيها ولا وجه للقول، إذ قد بين ابن القاسم وجه الحجة لما قاله بما لا مزيد عليه، والله الموفق.

[عبد بين ثلاثة نفر غاب أحدهم فباع الاثنان من رجل وزعما أن صاحبهما وكلهما]
ومن كتاب أوله إن امكنتني من حلق رأسك
وسئل عن عبد بين ثلاثة نفر فيغيب أحدهم فبيع الاثنان من رجل ويزعمان له أن صاحبهما وكلهما، ثم يجيء صاحبهما فينكر البيع ويقول لم آمركما، فقال: يخير المشتري، فإن شاء رده كله ولم يلزمه شيء، وإن شاء أمسك حظ الاثنين اللذين باعاه ورد سهم الغائب، وهو في ذلك مخير. قلت: فلو أن رجلا ادعى على أن الغائب استخلفه على البيع فباع من الاثنين ثم قدم الغائب فأنكر أن يكون استخلفه. فقال: يلزمه اشتراؤه حظ الاثنين ويرد حظ الغائب وليس له في ذلك خيار، وكذلك قال مالك.
قال محمد بن رشد: تفرقته بين أن يدعي الشريكان وكالة شريكهما

(8/177)


الغائب على بيع حصته فيبيعان جميع العبد، وبين أن يدعي وكالته رجل آخر فيبيع معهما جميع العبد في لزوم حط الشريكين من العبد المشترى إذا جاء الغائب فأنكر الوكالة واستحق نصيبه من العبد صحيحة بينة مفسرة لما تقدم في رسم باع غلاما من سماع ابن القاسم حسبما بيناه فيه، ومفسرة أيضا لما في سماع يحيى من كتاب الاستحقاق والحمد لله.

[أعطاه مائة دينار يشتري بها جارية فاشتراها وأشهد أنه إنما اشتراها لفلان]
ومن كتاب القطعان قال مالك في رجل أعطى رجلا مائة دينار يشتري بها جارية فاشتراها له بها وأشهد أنه إنما اشتراها لفلان، ثم إنه وطئها وأعطاه مكانها غيرها فوطئها الآخر أيضا فحملتا جميعا. قال ابن القاسم: إن كان المأمور ممن يعذر بالجهالة درئ عنه الحد وخير صاحب الجارية في جاريته وقيمة ولدها أو في قيمتها وقيمته إن شاء، وخير أيضا في الجارية التي في يديه التي حملت منه، إن شاء دفعها إليه بعينها ولا شيء عليه في ولده منها، وإن شاء دفع قيمتها فذلك له. قال: وإن كان المأمور ممن لا يعذر بالجهالة أقيم عليه الحد وأخذ الرجل جاريته وولدها وكانوا عبيدا له، ولم يلحق بالواطئ الولد.
قال محمد بن رشد: قوله إذا كان المبضع معه ممن يعذر بالجهالة إن صاحب الجارية مخير بين أن يأخذ جاريته وقيمة ولدها وبين أن يأخذ قيمتها، يريد يوم الحكم، وقيمة ولدها، هو قول مالك القديم واختيار ابن القاسم في الجارية المستحقة من يد المشتري وقد ولدت منه لسيدها أن يأخذها وقيمة ولدها، وأن يأخذ قيمتها يوم الحكم وقيمة ولدها مخير في ذلك. وله على هذا القول أيضا أن يسلمها إليه بقيمتها يوم وطئها

(8/178)


ولا يكون له في ولدها شيء على معنى ما قاله في رسم العتق بعد هذا ونص عليه فيما يأتي في سماع سحنون. فهو مخير على قول مالك الأول بين هذه الأوجه الثلاثة؛ وعلى قوله الثاني بين الوجهين، وهما أن يأخذ قيمتها يوم الحكم وقيمة ولدها، وأن يأخذ قيمتها يوم وطئها ولا يكون له في ولدها شيء؛ وعلى قوله الثالث ليس له إلا قيمتها يوم وطئها ولا شيء له في ولدها. وقد قال في رسم العتق بعد هذا إنه بالخيار بين أن يأخذها وقيمة الولد أو يسلمها إليه بقيمتها، يريد يوم وطئها ولا شيء له في ولدها على ما نص عليه في سماع سحنون بعد هذا، يريد وبين أن يأخذ قيمتها يوم الحكم وقيمة ولدها على ما قاله في هذا الرسم؛ لأنه سكت في رسم العتق عن التخيير في هذا الوجه، كما سكت في هذا الرسم عن التخيير في أن يضمنه قيمتها يوم وطئها ولا يكون له في ولدها شيء بما زاد في كل رسم منهما على الآخر مفسرا له ومبينا لمراده فيه. وقد كان من أدركنا من الشيوخ يحملون الكلام على ظاهره من أنه اختلاف من القول، فيقولون ليس له على ما في هذا الرسم أن يسلمها إليه بقيمتها يوم وطئها دون أن يكون له في ولدها شيء. ولا له على ما في رسم العتق أن يأخذ قيمتها يوم الحكم وقيمة ولدها. وليس ذلك عندي بصحيح، بل الروايات في هذا تفسر بعضها بعضا.
وأما قوله في هذا الرسم إنه يخير في الجارية التي في يديه التي حملت منه إن شاء دفعها إليه بعينها ولا شيء عليه في ولده منها، وإن شاء دفع قيمتها يريد يوم الحكم فذلك له، فإنه خلاف نص ما في رسم العتق بعد هذا أن الذي بعث بها بالخيار إن شاء ردها وقيمة ولدها، وإن شاء أخذها بقيمتها، يريد ويؤدي مع ذلك قيمة ولدها. فوجه إسقاط قيمة الولد عن المبعوث إليه الجارية ردها أو رد قيمتها على ما في هذا الرسم هو أن صاحبها لما بعث بها إليه وسلطه على وطئها فقد رضي بإسقاط حقه فيما يكون في وطئه إياها من ولد. ووجه ما في رسم العتق من أن على المبعوث إليه الجارية قيمة ولدها ردها أو رد قيمتها هو أن الباعث لها مستحق لها أيضا من عند المبعوث إليه، فوجب أن يكون له قيمة ولدها

(8/179)


على قول مالك الأول، واختيار ابن القاسم الذي بنى جوابه عليه في الجارية الثانية التي أمسكها المشتري لها عن صاحبها، غير أنه لما كان هو الباعث لها جعل الخيار إلى المبعوث إليه المستحقة من يده بين أن يردها وقيمة ولدها أو يعطي قيمتها وقيمة ولدها. فهذا هو وجه القول في هذه المسألة على ما في الرسمين، وبالله التوفيق.

[مسألة: أبضع معه دينارا فأنفقه ثم سلم بالذي أمره أن يشتريه فاستوجبه بدينار]
مسألة وسمعت ابن وهب وسئل عن رجل أبضع معه دينارا فأنفقه ثم سلم بالذي أمره أن يشتريه فاستوجبه بدينار ثم جعل مكان ذلك الدينار من عنده دراهم. قال: لا بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال إنه لا بأس بذلك لأنه استوجب ذلك الشيء الذي أبضع الدينار معه فيه بالدينار الذي لرب البضاعة، ثم صار فيه بائع ذلك الشيء لنفسه فلم يجب لصاحب البضاعة في ذلك خيار. ولو اشترى ذلك الشيء بدراهم وهي صرف دينار ليعود ذلك في الدينار الذي عليه لصاحب البضاعة لوجب عليه أن يعلم صاحب البضاعة بذلك، فإن أجاز ذلك له وإلا دفع إليه الدراهم التي اشترى بها ذلك الشيء وأخذ منه ديناره الذي أنفقه، على الاختلاف الذي ذكرناه في أول رسم من سماع أشهب في فساد الصرف بالخيار الذي يوجبه الحكم، وبالله تعالى التوفيق.

[يكون له عليه دينار فيخرج غريمه فيقول له رب الحق ابتع لي بمالي عليك عبدا]
ومن كتاب أوله باع شاة واستثنى جلدها. قال: وسألته عن الرجل يكون له على الرجل دينار فيخرج غريمه ذلك إلى مكان فيقول له رب الحق ابتع لي بمالي عليك عبدا فيقوم عليه فيقول قد ابتعته لك وهلك عندي أو أبق، ممن تكون مصيبته؟ قال: مصيبته من الآمر، ويكون سبيله فيما ادعى سبيل التي قبلها.

(8/180)


قال محمد بن رشد: صدقه في دعواه شراء العبد وأنه هلك عنده أو أبق وإن كان الشراء بغير البلد حيث لا يجوز له الشراء، خلاف رواية ابن أبي جعفر الدمياطي عن ابن القاسم في أنه إنما يصدق في دعواه الشراء والتلف إذا كان حاضرا بالبلد حيث يجوز له الشراء، فلا يصدق في دعواه التلف حتى يقيم البينة على الشراء، ولا يصدق في أحد قولي ابن القاسم في المدونة، أعني مسألة الغراير وشبهها وإن كان في الموضع الذي يجوز له فيه الشراء، فهي قولان متضادان لا تفرقة. وإنما يصدق في دعواه هلاك العبد إذا لم يتبين كذبه مثل أن يكون في حاضرة وحيث الناس فلا يعرف أحد من أهل ذلك المكان صدق ما يدعي من ذلك. وقد مضى بيان هذا مستوفى غاية الاستيفاء في هذا الرسم من هذا السماع من كتاب جامع البيوع فلا معنى لإعادته، ومضت هذه المسألة والتكلم عليها أيضا في رسم سن من سماع ابن القاسم من كتاب السلم والآجال.

[مسألة: أبضع إليه بدنانير يبتاع له بها جارية فقال له بائعها انقدني الثمن]
مسألة وسئل ابن القاسم عن رجل أبضع إلى رجل من أهل طرابلس بدنانير يبتاع له بها جارية فابتاعها، فقال له بائعها انقدني الثمن، فقال له المشتري هذا رجل خارج إلى الرجل الذي اشتريتها له والدنانير في البيت فادفع إلي الجارية أسيرها الآن لا يفوتني من أحب أن أسيرها معه ثم أرجع فأقضيك، فدفع إليه البائع الجارية فسيرها إلى صاحبها ثم رجع إلى البيت ليقضي بائعها الثمن فوجد الثمن قد ضاع. قال: إن كان رجوعه في طلب الذهب عندما ابتاع نظر، فإن كانت الجارية لم تفت بحمل خير المبضع فإن أحب أن يأخذ الجارية ويغرم الثمن فذلك له، وإن أحب أن يردها ردها لأنه لم يأمره أن يشتري له على الدين ولا يضمنه ثمنين فذلك له. وإن كانت الجارية قد فاتت بحمل لم يكن للمأمور على الآمر شيء، وكان ضمان الذهب على المأمور

(8/181)


ولا يضمنه ثمنين لأنه فرط. وذلك أن مالكا سئل عن رجل أبضع مع رجل في جارية بخمسين فاشتراها بستين دينارا ثم قدم فبعث بها إلى صاحبها ولم يعلمه بالزيادة، فأخذها صاحبها فوطئها فحملت منه أو لم تحمل. قال مالك: إن لم تحمل خير الآمر فإن أحب أن يدفع العشرة وتكون له الجارية فذلك له، وإن أحب أن يردها ردها وأخذ دنانيره، وإن حملت لم يكن للمبضع معه المأمور على الآمر شيء لأنه فرط. وكذلك هذه المسألة على قياس مالك. ولو أن المأمور فرط في دفع الذهب الشيء الكثير الذي يعرضه في مثله للتلف فأصيب في ذلك كان متعديا وكانت المصيبة منه ولم يكن له على الآمر قليل ولا كثير، وكانت السلعة لصاحبها؛ لأن مالكا سئل عن رجل دفع إليه مال ليدفعه إلى رجل فقدم فلم يدفعه إليه ثم زعم أنه هلك عند قدومه بما لم يكن له فيه تفريط فلا ضمان عليه، وإن كان حبسه عنده وأطال حبسه بما عرضه فيه للتلف فهو ضامن حين لم يدفعه إلى صاحبه، فكذلك مسألتك: فإذا فرط كانت المصيبة على المأمور حملت الجارية أو لم تحمل، وإذا لم يفرط خير الآمر إلا أن تفوت بحمل كما وصفت لك عن مالك في الجارية وقد فسرت لك ذلك.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة بينة صحيحة على قياس قول مالك في المسائل التي ذكرها ابن القاسم، وقد بين ذلك وأوضحه بما لا مزيد عليه. وهو بين أيضا مذهب مالك في المدونة لأنه ذكر فيها أن الثمن إذا ضاع بعد الشراء من المأمور كان الآمر بالخيار بين أن يؤدي الثمن ويأخذ السلعة، وبين أن يتركها للمأمور؛ لأنه إنما أمره أن يشتري له بذلك المال بعينه. وسكت عن ذكر التفريط في المال حتى تلف وعن ذكر التفريط بإعلام الآمر بتلف المال حتى فاتت السلعة عنده بحمل إن كانت جارية، وبالله تعالى التوفيق.

(8/182)


[مسألة: يبضع بالمال مع الرجل في اشتراء رأس فيأتيه بجارية]
مسألة وعن الرجل يبضع بالمال مع الرجل في اشتراء رأس فيأتيه بجارية فيقول إنما أمرتك أن تشتري لي غلاما ويقول المبضع معه إنما أمرتني بجارية، فالقول قول من؟ قال ابن القاسم: القول قول المبضع معه ويحلف.
قال محمد بن رشد: مثل هذا في المدونة من قول ابن القاسم وروايته عن مالك، وقد روي أيضا عن مالك أن القول قول الآمر. واختلف في ذلك أيضا قول ابن القاسم، ذكر اختلاف قوله في ذلك أصبغ في نوازله بعد هذا، وأن قوله الأول كان القول قول الآمر، ثم رجع وقال بقول أشهب إن القول قول المأمور، واختار أصبغ قوله الأول. وسواء كان اختلافهما في صفة السلعة التي أمره بشرائها أو في صنفها ونوعها وجنسها. وكذلك لو دفع إليه سلعة يبيعها له فباعها بما يشبه من الثمن وادعى صاحب السلعة أنه أمره أن يبيعها بأكثر من ذلك مما يشبه أيضا كان القول قول المأمور إذا فاتت السلعة، وفواتها ذهاب عينها، كذلك روى يحيى عن ابن القاسم في العشرة. وإن كانت السلعة قائمة لم تفت فالقول قول الآمر. وكذلك إذا لم تفت الدنانير فاختلفا فيما أمره أن يشتري له بها كان القول قول الآمر، إلا أن فوات العين لا يتعين. وأما على القول بأنه يتعين فالقياس أن يكون القول قول الآمر إذا عرفت الدنانير بأعيانها وإن كان قد عقد بها البيع أو قبضها البائع، وسواء على مذهب ابن القاسم كان اختلافهما فيما أمره به من الشراء أو فيمن أمره أن يدفع إليه، أو ادعى المأمور أنه أمره بالشراء وقال الآمر إنما أمرته أن يدفعه إلى فلان، بدليل رواية عيسى عن ابن القاسم في المدنية أنهما إذا اختلفا فقال الآمر أمرتك بدفع البضاعة إلى فلان وقال المبضع معه بل إلى فلان، أن القول قول المبضع معه. وفرق ابن كنانة بين الوجهين فقال: إذا قال الآمر أمرته أن

(8/183)


يدفع إلى فلان وقال المأمور بل أمرتني أن أدفع إلى فلان كان القول قول الآمر؛ لأن المأمور ادعى ولاية على مال. وإذا قال أمرته بشراء سلعة كذا وكذا وقال المأمور بل أمرتني بشراء كذا وكذا كان القول قول المأمور. ومثل ابن كنانة في كتاب الجرار وانظر لو قال صاحب المال أمرتك أن تشتري لي به كذا وكذا وقال المأمور بل أمرتني أن أدفعه إلى فلان فإن هذا ينبغي أن يكون القول فيه قول الآمر لأنه لم يقر أنه أمره أن يدفعه إلى أحد، فالمأمور مدع عليه في ذلك. وقد قال في رسم لم يدرك بعد هذا إنه إذا قال صاحب المال أمرتك أن تبلغه إلى أهلي وقال المأمور بل أمرتني أن أرسل به وقد فعلت، إنه يحلف على ذلك ولا يكون عليه شيء. وهو قول فيه نظر لأن الآمر لم يقر أنه أمره أن يدفعه إلى أحد، فكان القياس أن يكون القول قول الآمر مع يمينه، يحلف أنه ما أمره إلا أن يوصله هو ويضمن المأمور إن أرسل به فتلف، وبالله تعالى التوفيق.

[دفع إلى رجل مالا ليشتري له به جارية فاشتراها ثم اتخذها لنفسه]
ومن كتاب العتق وسئل عن رجل دفع إلى رجل مالا ليشتري له به جارية فاشتراها ثم اتخذها لنفسه ودفع إليه جارية أخرى فاتخذها الباعث لنفسه وأولدها، ثم تبين له بعد ذلك، شهد عليه بذلك قوم أو أقر. قال: إن كان تأول فرأى أن يأخذها لنفسه ويعطيه غيرها ولم يطأها على وجه الزنا درئ عنه الحد ولحق به الولد، وكان الذي اشتريت له مخيرا بين أن يأخذ جاريته وقيمة الولد أو يسلمها إليه بقيمتها. وأرى في الجارية التي بعثها إليه أن الذي بعثها إليه بالخيار إن شاء أخذها بقيمتها وإن شاء ردها ورد قيمة ولدها، وذلك إذا ثبت على ذلك كله في الأول والآخر بينة فإن لم يكن له بينة لم يقبل قوله على شيء من ذلك وكانتا أمي ولد للأول والآخر، إلا أن الأول يغرم فضلا إن كان فيها على قيمة ما دفع. قلت: أرأيت إن كانت هذه الذي بعث بها لم تحمل، أيخير أيضا

(8/184)


أو كانت أكثر ثمنا من الأخرى؟ قال: نعم. وقد قال في كتاب القطعان إنه يخير في جاريته وقيمة ولدها أو قيمتها وقيمة ولدها. وأما الجارية التي أعطاه فإن شاء ردها بعينها ولا شيء عليه في ولدها منه، وإن شاء دفع إليه قيمتها فقط.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول على هذه المسألة في رسم القطعان لتكررها فيه وبينا هناك أن الخلاف في المسألة فيما بين الرسمين إنما هو في الجارية التي بعثها المبضع معه إلى صاحب البضاعة فاتخذها وولدت منه، هل يكون مخيرا بين أن يردها وقيمة ولدها أو يعطيه قيمتها وقيمة ولدها؟ أو هل يكون مخيرا بين أن يردها عليه ولا يكون عليه شيء في ولدها أو يعطيه قيمتها ولا يكون عليه شيء في ولدها أيضا؟ وأما الجارية التي أمسكها المبضع معه فاتخذها وولدت منه فصاحبها مخير بين أن يأخذها وقيمة ولدها وبين أن يأخذ قيمتها وقيمة ولدها وبين أن يسلمها إليه بقيمتها يوم وطئها ولا يكون له شيء في ولدها على ما في الرسمين جميعا بالتأويل الصحيح الذي قد بينا وجهه، خلاف ما كان يذهب إليه من لقينا من الشيوخ من حمل هاتين الروايتين على ظاهرهما من الخلاف، وذلك ما لا وجه له يصح على ما بيناه في رسم القطعان، وبالله تعالى التوفيق.

[بعث معه ببضاعة يبلغها إلى أهله وقال المدفوع إليه إنما دفعها لأرسلها]
ومن كتاب أوله لم يدرك من صلاة الإمام وقال في رجل ادعى قبل رجل أنه بعث معه ببضاعة يبلغها إلى أهله فزعم المدفوع إليه أنه إنما دفعها إليه ليرسلها وقد أرسلها. قال: يحلف بالله أنه على ذلك أخذها وقد أرسلها ولا شيء عليه.
قال محمد بن أحمد: هذه مسألة فيها نظر، والقياس الذي يوجبه النظر فيها أن يكون القول قول الباعث لأنه لم يقر للمدفوع إليه بما ادعى

(8/185)


عليه من أنه دفعها إليه ليرسل بها. وقد مضى هذا في رسم باع شاة، وبالله تعالى التوفيق.

[بعث إلى أخ له يشتري له جارية فاشتراها ثم بعث بها إليه]
ومن كتاب أوله سلف دينارا في ثوب وقال في رجل بعث إلى أخ له يشتري له جارية فاشتراها ثم بعث بها إليه إنها إن كانت مع ثقة فلا بأس أن يطأها إذا جاء بها إن كانت قد حاضت. قال: وإن لم تكن مع ثقة فلا يطؤها حتى يستبرئها. قال عيسى: وهذا إذا لم تحض بعد الاشتراء، فأما إذا حاضت بعد الاشتراء فلا استبراء عليه. وقد قال في كتاب أسد: لا يطؤها صاحبها إلا بعد الاستبراء.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة فيها إشكال والتباس. والذي يتحصل عندي فيها أن الجارية إن كانت حاضت عند الذي اشتراها قبل أن بعث بها إلى صاحبها ففي ذلك ثلاثة أقوال: أحدها، أنه لا استبراء على صاحبها بحال، وهو قول عيسى: والثاني، أن عليه الاستبراء على كل حال، وهو الذي في كتاب أسد؛ والثالث، الفرق بين أن يكون المبعوث معه ثقة أو غير ثقة. وأما إن لم تحض إلا في الطريق ففي ذلك قولان: أحدهما، أن عليه الاستبراء على كل حال، والثاني، الفرق بين أن يكون المبعوث معه ثقة أو غير ثقة، وبالله التوفيق.

[مسألة: يبضع مع الرجل في جارية بمائة دينار فيطأها]
مسألة وقال في الرجل يبضع مع الرجل في جارية بمائة دينار فيزيد من عنده ثم يبعث بها إليه أو يدفعها إليه فوطئها، إنه إن كانت الجارية لم تفت فهو بالخيار إن شاء رد وإن شاء غرم الذي زاد إلا أن يكون الذي زاد الشيء اليسير فيلزمه ذلك، وإن فاتت لم يكن للمشتري على صاحب الجارية قليل ولا كثير. قلت: فيصدق في

(8/186)


الزيادة بقوله أم ببينة؟ قال: يصدق بقوله.
قال محمد بن رشد: قوله: فإن فاتت لم يكن للمشتري على صاحب الجارية قليل ولا كثير، يريد أن الجارية إن فاتت عند صاحبها بحمل أو عتق لم يكن للمشتري عليه من الزيادة الكثيرة التي زادها على ما أمره به قليلا ولا كثير. وأما الزيادة اليسيرة فهي للمشتري واجبة عليه وإن فاتت بموت على ما في المدونة وعلى ما تقدم في رسم العرية من سماع عيسى، خلاف ما في المدنية. وقد أبعد من قال إن ظاهر هذه الرواية مثل ما في المدنية من أن الزيادة اليسيرة لا تكون للمشتري إلا إذا أصيب الرأس فتلف: وحسب الآمر أن يخسر ما أعطى، وحسب المأمور أن ينجو من الضمان، وهو استحسان. والذي في المدونة والعتبية هو القياس الذي يوجبه النظر.
وقوله: إنه يصدق في الزيادة بقوله هو مثل ما تقدم في رسم العرية، قيل بيمين وقيل بغير بيمين. وقد مضى هناك وجه الاختلاف في ذلك. وسواء كانت الزيادة قليلة أو كثيرة هو يصدق فيها، فإن كانت يسيرة أخذها بقوله، وإن كانت كثيرة كان صاحب البضاعة بالخيار بين أن يأخذ الجارية بالزيادة أو يدعها كما لو قامت بها بينة سواء.

[مسألة: أبضع معه ببضاعة مائة دينار في سلعة فاشتراها ثم باعها بعشرين ومائة]
مسألة وقال في رجل أبضع معه ببضاعة مائة دينار في سلعة فاشتراها ثم باعها بعشرين ومائة ثم اشترى بالعشرين ومائة سلعة فباعها فنقص. قال: هو ضامن للعشرين ومائة.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن العشرين ومائة ثمن سلعة صاحب البضاعة فله أن يأخذها، والمبضع معه متعد في اشتراء السلعة

(8/187)


الأخرى بالعشرين ومائة، فوجب أن يكون ضامنا لما نقص فيها، وبالله التوفيق.

[يوكل وكيلا على تقاضي ديونه ويفوض إليه النظر فيها]
من نوازل سئل عنها عيسى بن دينار وسئل [عيسى] عن الرجل يوكل وكيلا على تقاضي ديونه ويفوض إليه النظر فيها، هل يجوز للوكيل أن يصالح فيها عنه إن كان الصلح من النظر له؟ فقال: لا، حتى يفوض إليه المصالحة، فعند ذلك تجوز مصالحته ووضيعته عن الغرماء إذا كان ذلك من النظر. قيل: فإن لم يفوض المصالحة فوجد الوكيل غريما من غرماء الموكل عديما فيدعوه إلى المصالحة ببعض ما عليه ويضع عنه [ما بقي. فيفعل ذلك الوكيل، أو يصالح عن الغريم بعد موته ببعض ما كان عليه ويضع عنه] سائر ذلك. قال: كل ذلك لا يلزم الموكل إلا إن شاء، فإن أبى جاز له ما أخذ واتبع ذمة الغريم فيما بقي.
قيل له: فلو كان الذين صالحوا الوكيل عن الغريم إنما صالحوه بأموالهم على أن يبرأ الغريم مما عليه، فلما أبى ذلك الموكل ولم يجزه أرادوا أن يرجعوا بما أعطوه من أموالهم في الصلح؟ قال: ذلك لهم إلا أن يشاء الموكل أن يمضي ذلك الصلح، فإن أبى رد إليهم ما أعطوا واتبع ذمة غريمه بجميع حقه.
قيل: فلو كانوا حين صالحوا الوكيل بأموالهم شرطوا عليه

(8/188)


أنه إن لم يمض ذلك الذي وكله فنحن راجعون في أموالنا؟ قال؛ هذا لا يجوز؛ لأنه يعد سلفا يجر منفعة إذا عجلوا للوكيل ما صالحوه به من أموالهم ونقدوه إياه؛ لأنهم كأنهم قالوا له: خذ من أموالنا سلفا تنتفع به وأخر صاحبنا بما عليه إن كان حيا واترك كشف ورثته عما ورثوا عنه إن كان ميتا حتى يقدم صاحبك، فإن جوز الصلح مضى ذلك لنا، وإن لم يجوزه رددت إلينا أموالنا، فذلك لا يجوز؛ لأنه سلف جر منفعة. وهذا الصلح يفسخ على كل حال ويرد إلى القوم ما لهم يبتدئون الصلح صحيحا إن شاءوا.
قال محمد بن رشد: قوله: إن الوكيل على اقتضاء الدين وإن فوض إليه النظر في ذلك لا يجوز له مصالحة غريم من الغرماء وإن كان ذلك من النظر للموكل حتى يفوض إليه المصالحة صحيح؛ إذ لا يقتضي تفويض النظر إليه فيما وكل عليه من اقتضاء الديون المصالحة فيها وإن كان ذلك من النظر له؛ إذ ليس للوكيل أن يتعدى في وكالته ما سمي له ويتجاوز ذلك إلى ما لم يسم له. وقد مضى بيان هذا في رسم أسلم من سماع عيسى، وأن هذا ليس بخلاف له كما زعم بعض الناس بما لا مزيد عليه.
وفي قوله: قيل: فإذا لم يفوض إليه المصالحة فوجد الوكيل غريما من غرماء الموكل عديما فيدعوه إلى المصالحة ببعض ما عليه ويضع عنه ما بقي فيفعل ذلك الوكيل أو يصالح عن الغريم بعد موته ببعض ما كان عليه ويضع عنه سائر ذلك، قال: ذلك لا يلزم الموكل إلا إن شاء نظر؛ لأن هذا لا ينبغي أن يلزم الموكل وإن فوض إليه المصالحة؛ لأن المصالحة لا تجوز عليه وإن فوض أمرها إليه إلا على وجه النظر، ولا نظر في ذلك للموكل، إذ لا حاجة له إذا وجده عديما إلى أن يقتضي منه بعض ما عليه ويضع عنه بقيته؛ لأنه قادر على أن يقتضي منه ما وجد عنده ويؤخر ببقيته، اللهم

(8/189)


إلا أن يخفي ما له أو يدعي العدم فيكون لمصالحته وجه من النظر. وقد يكون له أمهات أولاد ومدبرون لهم أموال وهو غريم فيصالحه على أن ينتزع من أموالهم ما يصالح به عن نفسه على حط بعض دينه فيكون لذلك أيضا وجه من النظر. فإن صالحه الوكيل على وجه من هذه الوجوه ولم يجعل إليه الصلح لم يلزم الموكل ذلك إلا إن شاء، فإن أبى جاز له ما أخذ واتبع ذمة الغريم بما بقي له من حقه عليه كما قال. وأما إذا صالح الوكيل أحد عن الغريم من ماله فلم يجز الموكل الصلح فله أن يرجع بما دفع من ماله؛ لأنه إنما رضي بدفعه على أن يحط عن الغريم ما وقع الصلح على حطه، فإذا لم يحط عنه كان له الرجوع فيما صالح به من ماله. ولهذا نظائر كثيرة، منها مسألة كتاب المكاتب من المدونة في القوم يعينون المكاتب في كتابته ليفكوا جميعه من الرق فلا يكون فيما أعانوه به وفاء لكتابته أن لهم أن يرجعوا فيما أعانوه به، إلا أن يجعلوا المكاتب من ذلك في حل؛ ومن ذلك مسألة الرجل يقتل الرجلين عمدا فيصالح أولياء أحد القتيلين ويعفو عن دمه ويأبى أولياء القتيل الآخر إلا الاستقادة منه أن له أن يرجع فيما صالح به؛ لأنه إنما صالحهم للنجاة من القتل، فإذا لم يتم له ما بذل عليه ماله كان له الرجوع فيه. روى ذلك يحيى عن ابن القاسم في كتاب الدعوى والصلح وكتاب الديات. وأما إن شرط الذين صالحوا الوكيل عن الغريم من أموالهم أن يرجعوا بما صالحوا به إن لم يجز ذلك الموكل فهو صلح فاسد كما قال؛ لأنه سلف يجر منفعة، فلا يجوز باتفاق، ويفسخ وإن جاء الموكل فأمضاه؛ لأنه انعقد على فساد. وأما إن صالحوا الوكيل وهم يظنون أنه قد فوض إليه الصلح فالصلح جائز باتفاق، فإن جاء الموكل فأنكر أن يكون فوض إليه الصلح فرده ولم يجزه رجعوا في أموالهم. وأما إن صالحوه ولم يشترطوا شيئا وقد علموا أنه لم يفوض إليه أمر الصلح، فظاهر الرواية أن الصلح جائز إلا أن يرده الموكل فيرجعوا بما صالحوا به من أموالهم، وفي جوازه اختلاف لأنه صلح انعقد وللوكيل الخيار في إبطاله، إلا أنه خيار يوجبه الحكم لم ينعقد عليه الصلح، فيجوز ذلك على الاختلاف في فساد الصرف بالخيار الذي يوجبه

(8/190)


الحكم دون أن ينعقد عليه. وقد مضى ذلك في أول رسم من سماع أشهب وغيره [وبالله التوفيق] .

[مسألة: يوكل وكيلا على طلب عبد له أبق أو مستألف له فأدركه في يد مشتري]
مسألة وسئل عن رجل يوكل وكيلا على طلب عبد له أبق أو مستألف له فأدركه في يد مشتري، فأراد أن يقيم البينة أنه للذي وكله، أيمكن من ذلك ويقضى له؟ قال: لا يمكن من ذلك حتى يشهد الذين شهدوا له بالوكالة بطلبه أو غيرهم أنه وكل على الخصومة فيه أيضا؛ لأن الرجل قد يوكل على طلب العبد الآبق ولا يوكل على الخصومة فيه.
قيل: فإن أقام البينة على أنه موكل على الخصومة فيه، أيمكن من إيقاع البينة على أنه للذي وكله لا يعلمونه باع ولا وهب؟ قال: لا يمكن من ذلك حتى تشهد البينة أنه وكله على طلب هذا العبد والخصومة فيه وأنه هو العبد بعينه، فحينئذ ينتفع بمن شهد له على أن العبد للذي وكله وأنهم لا يعلمونه باع ولا وهب ولا خرج من يده بما تخرج به الأشياء من أيدي أهلها؛ لأنه قد يكون للرجل العبد فيبيعه ثم يكون له الآخر فيأبق، فلعل هذا العبد قد باعه سيده وليس هذا الذي أبق منه.
قيل: فإذا شهدوا على الذي ذكرت، أيحلف الوكيل كما يحلف السيد أنه ما باع ولا وهب؟ قال: لا يحلف الوكيل ولكن ينظر السلطان في غيبة الموكل، فإن كانت غيبته قريبة أمر أن يؤتى به حتى يحلف، وإن كانت غيبته بعيدة كتب إلى إمام بلده

(8/191)


بالذي عنده لصاحب العبد، وأمره في كتابه أن يحلفه عنده أنه ما باع ولا وهب. فإذا أتاه جواب كتابه قضى به للوكيل.
قيل له: فإن كان الموكل قد مات؟ قال: قد انفسخت وكالة الوكيل. قيل له: فإن كان وكله الورثة أيضا؟ قال: فعليهم أن يحلفوا بالله أنهم لا يعلمون صاحبهم باع ولا وهب إن كانوا قد بلغوا الحلم أو من بلغه منهم.
قال محمد بن رشد: قوله: إذا وكل الوكيل على طلب عبد له أبق فأدركه في يد مشتري إنه لا يمكن من إيقاع البينة على أنه للذي وكله حتى يقيم البينة أنه وكل على الخصومة فيه صحيح على ما تقدم في المسألة قبلها من أنه ليس للموكل أن يتعدى ما وكل عليه ويتجاوزه إلى غيره. وأما قوله: إنه لا يمكن من ذلك حتى يقيم البينة على أنه وكل على طلب هذا العبد بعينه والخصومة فيه، فإن هذا قد يتعذر، إذ لا يمكن أن يمشي لطلب العبد بالشهود الذين يعرفون العبد بعينه وأشهدهم السيد على أنه وكله على طلبه والخصومة فيه ليشهدوا له على عينه حيثما وجده. وإن اتفق أن يجدهم حيث وجد العبد فنادر لا يبنى عليه. فوجه العمل في ذلك أن يكتفى فيه بالصفة. وسيأتي بيان هذا في آخر سماع سحنون بعد هذا. فإذا أشهد له أنه قد وكله على طلب العبد الذي من صفته كذا وكذا والخصومة فيه أثبت ذلك عند قاضي بلده وخاطب له بذلك إلى حيث يرجو وجود العبد فيه من البلاد، فإذا ألفى العبد على الصفة الموصوفة يمكن من إيقاع البينة عليه أنه للذي وكله ولا يعلمونه باع ولا وهب. فإذا أثبت ذلك قضي له به بعد يمين سيده الموكل له على ما ذكر. وقال عيسى في هذه الرواية: إنه لا يقضى له به حتى يحلف وإن كان بعيد الغيبة، خلاف قوله في رسم حمل صبيا من سماع عيسى في الوكيل على قبض الدين يدعي الذي عليه الدين أنه قد قضى صاحب الحق بعض الدين إنه يقضى له بجميع الدين عليه إلا أن تكون له بينة على ما ادعى من القضاء ولم يؤخر إلى لقي صاحبه. ففرق بعض الناس بين المسألتين، وهو الأظهر الذي يعزى إلى

(8/192)


ابن القاسم؛ لأن اليمين في الاستحقاق من تمام الشهادة لا يتم الحكم إلا بها. ويمين صاحب الدين ما اقتضى من ديونه شيئا لا يجب إلا بدعوى الغريم أنه قد قضى. وذهب ابن أبي زيد إلى أنه يقضى في استحقاق الحيوان لوكيل الغائب إذا بعدت غيبته وترجا يمينه إلى أن يقدم أو يكتب القاضي إلى قاضي موضعه فيحلفه، وهو قول أصبغ في الواضحة، وإليه ذهب ابن كنانة.
فيتحصل في المسألة ثلاثة أقوال: أحدها، أنه لا يقضى له في المسألتين جميعا حتى يحلف، والثاني، أنه يقضى له فيهما جميعا ويؤخر يمينه حتى يكتب إلى قاضي موضعه يحلفه، والثالث، الفرق بين المسألتين. وفي المسألة قول رابع أن الوكيل يحلف في المسألتين ما علمه باع ولا وهب ولا اقتضى من حقه شيئا ويقضى له. وقد مضى هذا في رسم حمل صبيا من سماع عيسى من هذا الكتاب وفي رسم العتق من سماع عيسى من كتاب الأقضية، [وبالله التوفيق] .

[مسألة: يوكل وكيلا على خصومة أو قيام بضيعة أو تقاضي دين]
مسألة وسئل عيسى عن رجل يوكل وكيلا على خصومة أو قيام بضيعة أو تقاضي دين أو على وجه من الوجوه كلها، فيريد الوكيل أن يوكل غيره على ما وكل عليه هو من ذلك في حياة الوكيل أو عند موته، أيجوز هذا؟ قال: لا يوكل وكيل الأحياء على مثل ما وكل عليه أحدا غيره، وإنما يجوز ذلك للوصي أن يوكل في حياته وعند موته.
قال محمد بن رشد: قوله: إن من وكل على خصومة أو قيام بضيعة أو تقاضي دين أو وجه من الوجوه كلها فليس له أن يوكل على

(8/193)


ذلك أحدا في حياته ولا عند وفاته صحيح، لا اختلاف فيه أحفظه في أن الوكيل على شيء مخصوص لا يجوز له أن يوكل، وهو قوله في السلم الثاني من المدونة وفي رسم الأقضية من سماع يحيى بعد هذا وفي غير ما موضع. واختلف إن فعل هل يضمن أم لا؟ فقال في رسم الصبرة من سماع يحيى بعد هذا إنه ضامن إن خرج المال من يده إلى من وكله إلا أن يكون ممن لا يلي مثل ذلك بنفسه وقد عرف بذلك الذي وكله فلا ضمان عليه. وأما إن لم يعرف بذلك الذي وكله فهو ضامن وإن كان ممن لا يلي ذلك بنفسه. وهذا في غير المشهور أنه ممن لا يلي مثل ذلك بنفسه؛ لأن رضاه بالوكالة يدل على أنه المتولي حتى يعلم رب المال أنه لا يتولى. وهو في غير المشهور محمول على أنه لم يعلم حتى يعلم أنه قد علم. وأما المشهور بأنه لا يتولى ذلك بنفسه فلا ينبغي أن يضمن؛ لأن الموكل يحمل على أنه قد علم ولا يصدق أنه لم يعلم. وقد قال بعض العلماء: إن وكيل الوكيل إذا صنع ما يصنع الوكيل ولم يتعد في شيء إن ذلك جائز، يريد ولا يضمن الذي وكله. وقال أشهب: إذا كان مثله في الكفاية فلا ضمان عليه. وأما الوكيل المفوض إليه في جميع الأشياء فلا أحفظ في هل له أن يوكل أم لا قولا منصوصا عند العلماء المتقدمين، وقد كان الشيوخ المتأخرون يختلفون في ذلك، والأظهر أن له أن يوكل؛ لأن الموكل قد أنزله منزلته وجعله بمثابته.
وقوله: وإنما يجوز ذلك للوصي أن يوكل في حياته وعند موته هو نص قول مالك وجميع أصحابه لا اختلاف بينهم فيه. وإنما اختلفوا في الوصيين أو الأوصياء المشترك بينهم في الإيصاء، هل لأحدهم أن يوصي بما إليه من الوصية أم لا على ثلاثة أقوال، أحدها، أن له أن يوصي إلى من معه في الوصية وإلى من ليس معه في الوصية. وقد أتت بذلك الرواية عن مالك، وهو ظاهر قوله في المدونة لأنه أطلق القول بأن له أن يوصي

(8/194)


ولم يخص موضعا من موضع ولا حالا من حال، وهو ظاهر قول عيسى هذا وقول يحيى بن سعيد في الوصايا الأول من المدونة، والثاني، أنه ليس له أن يوصي إلى من معه في الوصية ولا إلى من ليس معه في الوصية، وهو ظاهر قول سحنون في رسم المكاتب من سماع يحيى بعد هذا. ووجه القول أن الوصيين لا يجوز لأحدهما أن ينفرد بفعل شيء من الأشياء دون صاحبه؛ والقول الثالث، أنه ليس له أن يوصي إلا إلى شريكه في الإيصاء، وهو الذي كان الشيوخ يتأولونه على سحنون في قوله في المدونة. ووجه ذلك أنه إذا أوصى لشريكه في النظر فقد شاركه في فعله، وهذا أضعف الأقوال. وأصحها وأولاها بالصواب قول مالك وقول يحيى بن سعيد في إجازة ذلك إجازة مطلقة، وبالله تعالى التوفيق.

[مسألة: وكل على اشتراء سلعة فاشتراها فقال الموكل اشتريتها بشرط كذا وكذا وهو مما يفسخ البيع]
مسألة قيل لعيسى: أرأيت من وكل على اشتراء سلعة فاشتراها، فقال الموكل: اشتريتها بشرط كذا وكذا، وهو مما يفسخ البيع، فيقول الموكل: ما أمرتك بذلك وأنت كاذب فيما تقول، وإنما تريد فسخ ما ثبت لي شراؤه، ويدعي ذلك البائع مع الوكيل وليس على الشرط بينة. قال: أرى على الوكيل اليمين بالله أنه على ذلك اشتراها ويكون القول قوله ثم يفسخ البيع بينهما إن كان حراما، وإن كان مكروها قيل للبائع: إن شئت فافسخ الشرط وأجز البيع، وإن شئت فارتجع سلعتك، وذلك ما لم تفت، فإن فاتت كان العمل فيها كما وصفت.
قيل: أرأيت لو كان هذا الوكيل ادعى اشتراء هذه السلعة لنفسه وأنه قد كان فسخ وكالة الموكل عن نفسه وأقر بهذا الشرط. قال: سبيلها سبيل الأول إذا أقر بهذا الشرط عند ادعائه اشتراءها لنفسه. فأما لو ادعى اشتراءها لنفسه ولم يذكر الشرط فلما لم يجز

(8/195)


اشتراؤها لنفسه وصارت للذي وكله زعم أنه اشتراها بشرط يفسخ البيع فقوله باطل والسلعة للموكل بلا شرط، ولا يحلف الوكيل ويكون القول قوله في الشرط كما حلف في التي فوق هذا؛ لأنه ههنا قد أراب واتهم على الكذب حين ادعاها لنفسه.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة أن الوكيل أقر للبائع بما ادعاه من فساد البيع عند دفع السلعة إلى الموكل أو بعد دفعها إليه، أو ذكر ذلك حينئذ وصدقه البائع. وأما لو أنكر ذلك البائع وادعى صحة البيع لوجب أن يكون القول قوله، وذلك بين في الرواية من قوله ويدعي ذلك البائع. فإذا أقر الوكيل بفساد البيع للبائع عند دفع السلعة إلى الآمر أو بعد دفعها إليه على ما ذكرناه لم أر أن يفسخ البيع إلا بعد يمين الوكيل أنه اشتراها شراء فاسدا؛ لأنه يتهم على إبطال البيع لما تعلق بذلك من حق الآمر، فإن نكل عن اليمين لم يكن للبائع سبيل إلى نقض البيع بما ادعاه من فساده إلا أن يقيم البينة على ذلك، وينظر إلى قيمة السلعة، فإن كانت أكثر من الثمن غرم ذلك الوكيل للبائع؛ لأنه أتلف عليه السلعة بنكوله عن اليمين. ورأيت لبعض أهل النظر أنه قال: يمين الوكيل ههنا ضعيفة، واليمين على البائع أقوى أنه باع بيعا فاسدا. ولعمري إن لقوله وجها من النظر؛ لأنهما قد تقارا جميعا على فساد البيع فوجب نقضه بعد أن يستظهر على البائع باليمين من أجل اتهام الوكيل في تصديقه لما تعلق بذلك من حق الآمر، فإذا حلف البائع على هذا وفسخ البيع كان للآمر أن يحلف الوكيل على إقراره للبائع بفساد البيع؛ لأنه يقول له: أتلفت علي السلعة بذلك. فإن حلف برئ، وإن نكل عن اليمين غرم له ما زادت قيمة السلعة على الثمن، فإن لم يكن في ذلك فضل لم يجب له عليه يمين.
ولو قال قائل: إن البيع يفسخ دون أن يحلف واحد منهما لتقاررهما على فساده، ثم يحلف الوكيل للآمر إن كان في قيمة السلعة فضل عن الثمن لكان وجه القياس والنظر. وقال مطرف وابن الماجشون في الواضحة مثل قول عيسى بن دينار إذا ادعى الوكيل ذلك عند دفع السلعة، وأما إذا

(8/196)


ادعاه بعد دفع السلعة فلا يقبل قوله في نقض البيع ويغرم تمام القيمة للبائع.
وقوله: وإن كان مكروها قيل للبائع: إن شئت فافسخ الشرط وأجز البيع، وإن شئت فارتجع سلعتك وذلك ما لم تفت، يريد بالمكروه مثل أن يبيع على أن تتخذ أم ولد أو على ألا يخرج بها من البلد، أو على ألا يبيع ولا يهب وما أشبه ذلك من الشروط التي تقضي التحجير على المشتري فيما اشترى، وهي البيوع التي يسمونها بيوع الثنيا، فهذه البيوع هي التي يكون الحكم فيها على ما ذكره في المشهور في المذهب من أن البيع يفسخ إلا أن يرضى البائع بترك الشرط وتسليم البيع للمبتاع بغير شرط، فإذا أبى البائع إلا ارتجاع سلعته حلف الوكيل أنه اشتراها على هذا الشرط، فإن حلف أخذ البائع سلعته، وإن نكل عن اليمين لم يكن للبائع إلى أخذ السلعة سبيل إلا أن يقيم البينة على ما ذكره من الشرط، وغرم له الوكيل ما زادت القيمة على الثمن، وذلك بين على ما قاله في البيع الحرام. وقوله: فإذا فاتت كان العمل فيها كما وصفت، يريد كان العمل فيها على قياس ما وصفت. والذي يوجبه الحكم فيها على قياس ما وصف أن ينظر، فإن كانت قيمتهما أكثر من الثمن حلف الوكيل وكان على الموكل تمام القيمة، وإن نكل عن اليمين غرم هو للوكيل تمام القيمة للبائع. واختلف بما تفوت هذه البيوع، فقيل: إنها تفوت بما يفوت به البيع الفاسد من حوالة الأسواق فما فوق ذلك، وقيل بالنماء والنقصان. وقد قيل في البيع على شيء من هذه الشروط إنه بيع فاسد يفسخ على كل حال في القيام، وتكون فيه القيمة بالغة ما بلغت في الفوات؛ وقيل: إن البيع لا يفسخ إلا أن يأبى البائع ترك الشرط، فإن فاتت رجع البائع على المبتاع بقدر ما نقص من الثمن بسبب الشرط.
وقوله: قيل: أرأيت لو كان هذا الوكيل ادعى اشتراء هذه السلعة لنفسه إلى آخر قوله بين لا إشكال فيه. وفي قوله فيه: فلما لم يجز له

(8/197)


اشتراؤها لنفسه دليل على أنه ليس له أن يفسخ الوكالة عن نفسه، وهو قول ابن القاسم وأصبغ في الثمانية إنه من وكل على شراء سلعة فاشتراها وقال: إنما اشتريتها لنفسي بعد أن فسخت الوكالة عني لم يكن ذلك له وكانت السلعة للآمر إلا أن يعلمه قبل أن يشتريها أنه لا يشتريها له وإنما يشتريها لنفسه. وقد قيل: إن السلعة تكون له وإن لم يتبرأ إليه من وكالته إياه إذا أشهد قبل شرائها أنه يشتريها لنفسه. وقع هذا القول في الثمانية. وروى محمد بن يحيى السبائي عن مالك أن السلعة تكون له إذا زعم أنه اشتراها لنفسه وإن لم يشهد على ذلك قبل الشراء، ويحلف على ذلك إذا اتهم. وبالله التوفيق.

[مسألة: يبيع لامرأته متاعا بإذنها ووكالتها ثم يموت فتدعي عدم قبض الثمن]
مسألة وقال في رجل يبيع لامرأته متاعا بإذنها ووكالتها يعرف ذلك ثم يموت فتدعي بعد موته أنها لم تقبض منه ثمن ما باع، فقال: لا أرى لها شيئا إلا أن يكون في ورثته من قد بلغ فيحلف أنها ليست باقية.
قال محمد بن رشد: قوله لا أرى لها شيئا هو على القول بأن القول قوله مع يمينه لقد دفع إليها إذا ادعت أنه لم يدفع إليها؛ لأن اليمين اللازمة له تسقط بموته. ومعناه عندي إذا لم يكن ذلك بحدثان ما قبض إذ لم يعلم دعواه الدفع فيسقط اليمين بموته. وقوله إلا أن يكون في ورثته من قد بلغ فيحلف أنها ليست باقية، يريد في علمهم، إذ ليس تلزمهم اليمين في ذلك إلا على العلم. وقد مضى تفصيل الخلاف في هذه المسألة في رسم حلف من سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.

[امرأة بكر وكلت رجلا على خصومة حتى قضي له فتصدقت عليه أترجع في صدقتها]
من سماع يحيى بن يحيى
من ابن القاسم من كتاب الكبش
قال يحيى: وسألت ابن القاسم عن امرأة بكر وكلت رجلا

(8/198)


على الخصومة لها في منزل لها ولأشراك لها، فخاصم حتى قضي له، فتصدقت البكر عليه بناحية من حظها من المنزل ثم بدا لها في الصدقة وقالت صنعت ما لا يجوز لي وما عرفت الذي تصدقت به، أيجوز لها الرجوع في الصدقة؟ قال نعم، أرى أن صدقتها غير جائزة، وتوكيلها إياه كان غير جائز؛ لأن البكر لا تلي مثل هذا من أمرها، إنما يليه عليها وصي أو من يوكله السلطان بالنظر لها. قلت: أرأيت إذا فسخت صدقاتها إن أراد الوكيل أن يأخذها بأجرته فيما قام لها به وسعى لها من الخصومة عنها، أيكون له أجرة مثله عليها في جميع شخوصه؟ وذلك أنه يقول لم أقدر على الخصومة لك دون أشراكك، وإنما خاصمت بأمرك ولما رجوت من فضلك فلا آخذ لجميع أجرتي غيرك إذا رجعت في صدقاتك. قال: لا أجرة له عليها فيما استخرج من غير حقها، وإنما يقضى له عليها بقدر ما يصير على حظها من أجرته إذا قسم ذلك على جميع الورثة بقدر ما لكل وارث من الميراث، فيعطيه من أجرته على الخصومة عنهم أجمعين بقدر ما أدخل عليها من الرفق دونهم، ولا شيء عليها فيما كان ينوبهم من الأجرة، مثل ما لو كانوا آجروه معها، ولا شيء له عليهم أيضا لأنهم لم يستأجروه. فإن كانوا وكلوه معها فكان قيامه لها ولهم بأمرهم أجمعين فالأجرة له عليها وعليهم تقسم عليهم على قدر مواريثهم من القرية التي استحق لهم.
قلت: ولم ألزمتها غرم الأجرة على قدر حظها وأنت لا ترى توكيلها إياه جائزا؟ قال: على وجه الاستحسان لذلك لما أدخل عليها من المرفق، ولو لم يقض له بشيء ما رأيت له عليها شيئا ولا يطلب عناه لأن مثلها لا يجوز توكيلها.

(8/199)


قلت: فلم لا يلزمها أجرته فيما استخرج من حظوظ اشراكها وقد أدخل عليهم من المرفق مثل الذي أدخل عليها؟ قال: لأن توكيلها لا يجوز عليهم، وهم لم يوكلوها فيلزم ذلك في أموالهم، فلا أرى أن يلزمها من الأجرة إلا قدر ما أدخل عليها من المرفق.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة أنها وكلته على أن يخاصم عنها وعن أشراكها في المنزل الذي بينهم ولم يواجبها في ذلك على جعل معلوم ولا على أجرة، فخاصم بوكالتها إياه على ذلك رجاء ثوابها عليه. فلما خاصم إلى أن قضي له بالمنزل تصدقت عليه بناحية من حظها ثوابا له على خصامه عنها، ثم قامت وأرادت الرجوع في ذلك، فرأى لها الرجوع في الصدقة من أجل أنها مولى عليها، وأوجب له عليها مقدار حظها من أجرة مثله على قدر عنائه وشخوصه استحسانا، إذ كان القياس أن لا يكون له عليها شيء من أجل أنها لا تلي مثل هذا من أمورها، وأن ما ولته من ذلك موقوف على نظر وليها إن كان لها ولي أو نظر السلطان إن لم يكن لها ولي، فإن وأي في ذلك وجه نظر لها أجازه، وإن لم ير لها في ذلك وجه نظر رده. وهذا في العقد الجائز. وأما في هذه المسألة فليس فيها إلا الرد؛ لأنه عقد فاسد. وإذا بطل الجعل عنها وكان له الحظ إذ قد وجب لها. ووجه الاستحسان في ذلك أنها لما خاصم عنها رجاء ثوابها بعد أن وكلته على ذلك أشبه الجعل الصحيح أو الإجارة الصحيحة؛ لأن المنحة على الثواب بيع من البيوع، فوجب أن يكون له ثواب عمله وهو قيمته. ولو جاعلته على استخراج حظها بجعل معلوم على مذهب من يجيز الجعل في الخصام على أنه إن أفلح استحق جعله وإن لم يفلح لم يكن له شيء، فخاصم حتى قضي له فأراد وليها رد ذلك من فعلها لتخرج ذلك على قولين: أحدهما أنه ليس له أن يرده بعد أن قضي له، كما ليس له أن يرده قبل أن يقضى له؛ لأنها فعلت من ذلك ما هو وجه نظر وما لو لم تفعله لفعله الولي. والثاني أن له أن يرده بعد أن قضي له وإن

(8/200)


كان له أن يرده قبل أن يقضى له؛ لأن حظها من المنزل قد استوجبته بالقضاء رد الولي ذلك من فعله أو أمضاه. فإسقاط الجعل عنها بالرد خير لها من إمضائه عليها بالإجارة. وهذا مبني على الاختلاف في السفيه يفعل ما هو وجه نظر فلا ينظر فيه الوصي حتى يكون رده هو وجه النظر هل له أن يرده أم لا؟ وقد مضى الاختلاف في هذا في رسم الصبرة من سماع يحيى من كتاب التخيير والتمليك وفي نوازل أصبغ من كتاب المديان والتفليس. ولو استأجرته على الخصام عنها في ذلك الحظ من المنزل أمدا معلوما بأجر معلوم لكان لوليها أن يرد ذلك من فعلها قبل أن يقضى له به وبعد أن يقضى له؛ لأن من حجته أن يقول قبل القضاء أنا لا أجيز لها الاستئجار على ذلك لأن المجاعلة خير لها، وهذا على القول بإجازة المجاعلة على الخصام؛ وأما على القول بأن المجاعلة على الخصام لا تجوز فليس له أن يرد استئجارها قبل أن يقضى له، وإنما له ذلك بعد أن يقضى له على الاختلاف الذي ذكرناه في ذلك.
وقول: إنه لا أجرة له عليها فيما استخرج من حق غيرها صحيح، إذ لم تستأجره على أن يخاصم عنها وعنهم بإجارة معلومة ولا هي مالكة أمر نفسها، وإنما وكلته على المخاصمة عنها وعنهم وهي مالكة أمر نفسها فخاصم رجاء ثوابها على ذلك، وذلك بين من قوله فإنما خاصمت بأمرك ولما رجوت من فضلك. ولو استأجرته على الخصام عنها وعنهم وهي مالكة أمر نفسها استئجارا صحيحا بأجرة معلومة أو جاعلته على ذلك مجاعلة صحيحة لكان من حقه أن يأخذها بجميع أجرته أو جعله، لمجاعلتها إياه على ذلك واستئجارها إياه عليهم، ثم ترجع هي عليهم على الاختلاف الذي نذكره في ذلك آنفا.
وقوله: وإنما يقضى عليها بقدر ما يصير على حظها من أجرته إذا قسم ذلك على جميع الورثة بقدر ما لكل وارث من الميراث. وقوله أيضا

(8/201)


ولو كانوا وكلوه معها لكانت الأجرة له عليها وعليهم على قدر مواريثهم من القرية خلاف المعروف من قوله في المدونة وغيرها في أن أجرة المقسم على عدد الرؤوس لا على قدر الأنصباء؛ لأن العمل والمئونة في القسمة والخصام سواء في قلة النصيب وكثرته، فلا فرق بين المسألتين. والذي ههنا في أن أجرة الخصام على قدر الأنصباء هو مثل قول أصبغ في نوازله من كتاب السداد والأنهار في أن أجرة الخصام على قدر الأنصباء لا على عدد الرؤوس، وهو القياس، وإياه اختار محمد بن عبد الحكم، إذ قد يصير على الحظ اليسير من الأجرة إذا كانت على عدد الرؤوس أكثر من قيمته فيذهب حقه في القسمة وهو بعيد أن يلزم أحد مثل هذا أو يحكم عليه به.
وأما قوله: ولا شيء له عليهم أيضا لأنهم لم يستأجروه، فقيل معناه إذا كان ممن يخاصم بنفسه أو له من يخاصم عنه من عبيده حتى لا يحتاج إلى الاستئجار على ذلك على ما قال في سماع أبي زيد من كتاب الجعل والإجارة فيمن أخطأ فحصد زرعا لغيره إن له عليه قيمة عمله إذا لم يكن له عبيد وأجراء يحصدونه له ولم يكن له بد من الاستئجار عليه. وقد قال في سماع أبي زيد المذكور أيضا في الرجل يستأجر الأجراء يحرثون له أرضا فيحرثون أرضا لغيره إلى جنبها إن على صاحب الأرض الذي حرث أجرة حرثها إن زرعها وانتفع بذلك الحرث، فقيل أيضا معناه إذا لم يكن له عبيد يحرثونها له ولم يكن له بد من الاستئجار على حرثها. فعلى هذا تتفق الروايات كلها ولا يخالف بعضها بعضا. ومن الناس من حملها على ظاهرها ولم يفسر بعضها ببعض فقال إن في المسألة ثلاثة أقوال: إيجاب الأجرة على كل حال على ظاهر مسألة الحرث المذكورة، وسقوطها على كل حال على ظاهر مسألة الخصام هذه؛ والفرق بين أن يكون له عبيد فلا يحتاج إلى الاستئجار على ذلك أو لا يكون له عبيد فيحتاج إلى الاستئجار على ظاهر مسألة الحصاد من سماع أبي زيد المذكور.

[مسألة: أبضع مع رجل بمال يشتري له به رأسا فابتاع له بماله]
مسألة قال: وسألت ابن القاسم عن رجل أبضع مع رجل بمال

(8/202)


يشتري له به رأسا فابتاع له بماله ذلك ثم باعه لصاحبه نقدا أو إلى أجل وفات العبد. قال: إذا تعدى فقد ضمن. فإذا باع بغير أمره وفات العبد فقد لزمته القيمة، فإن كان باع بالنقد فالمبضع بالخيار إن شاء أغرمه القيمة وبرئ من الثمن، وإن شاء قبض الثمن معجلا. فإن أحب المبضع إن كان باع المبضع معه بالدين أن يأخذ الثمن إلى أجل لم يصلح له ذلك إذا كان الذي باع به أكثر من القيمة؛ لأن الدين بالدين يدخله. ألا ترى أن القيمة قد وجبت له فهو يتحول عنها إلى شيء لا يتعجل قبضه لزيادة يزدادها. قال: وإن كان الذي باع به والقيمة سواء فلا بأس أن يتحول على المشتري؛ لأن ذلك مرفق أدخله على المتعدي ولم يزدد به شيئا، وليس ذلك ذمة بذمة، وإن كان الثمن أكثر من القيمة فإنه يباع الذي بيعت به السلعة إن كان باعها بغير الطعام فإنه يباع بالنقد، فإن كان في ذلك قدر قيمة السلعة فأكثر فهو للمبضع لأنه ثمن سلعته، وإن بيع نقدا بأقل من القيمة التي لزمت المتعدي غرم تمام القيمة لتعديه. قال: وإن كان باعها بطعام غرم القيمة معجلة وانتظر بالطعام استيفاؤه، فإذا قبض بيع فإن أخرج أكثر من القيمة التي غرم المتعدي فالزيادة لرب السلعة، وإن لم يخرج إلا القيمة فأدنى فهو للمتعدي لأنه قد غرم القيمة.
قلت: أرأيت إن كان باعها بأكثر من القيمة فرضي المتعدي أن تجعل لرب السلعة التي لزمه غرمها ويقبض ذلك لنفسه من مشتري السلعة إلى أجل ويكون ما زاد الثمن على القيمة لرب السلعة عند الأجل للذي يخاف من انكسار الثمن إن بيع بالنقد لأنه يضمن ما نقص من القيمة، أيجبر رب السلعة على ما دعا إليه المتعدي من هذا الوجه؟ فقال: إذا أعطى القيمة التي كانت

(8/203)


تباع به لم يجب صاحب السلعة إلى بيع الدين لأنه لا منفعة له حينئذ في بيعها، وذلك أنه يريد الضرر، وفي تأخيرها منفعة له وللمتعدي.
قال محمد بن رشد: قوله في المبضع معه إذا تعدى فباع السلعة التي اشترى للمبضع ببضاعة وفاتت إن القيمة قد وجبت عليه للمبضع، فإن كان باع بالنقد فالمبضع بالخيار إن شاء أغرمه القيمة وبرئ من الثمن وإن شاء قبض الثمن معجلا إنما شرط أن يكون قبض الثمن معجلا إذا كان أكثر من القيمة لأنه يكون قد تحول إلى أكثر مما وجب له دون انتجاز، فدخله فسخ دراهم أو دنانير في أكثر منها. ولو كان الثمن مثل القيمة التي وجبت له على المتعدي أو أقل لكان بالخيار في أن يختار أخذ الثمن وإن لم ينجز قبضه، بل لو كان الثمن إلى أجل وهو مثل القيمة فأدنى لكان له أن يختاره ولم يدخله شيء لأنه لم يتحول من قليل إلى كثير، وإنما تحول في مثل ما وجب له أو في أقل منه على أن يترك الزائد للمتعدي أو يتبعه به، ذلك كله جائز؛ لأنه إن تركه له فقد رضي بأخذ ثمن سلعته وأسقط عنه ما وجب له عليه من القيمة بحكم الفداء، وإن اتبعه به فقد اختال من دينه ببعضه، وذلك جائز لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ومن أتبع على مليء فليتبع» وكذلك لو كان الثمن إلى أجل وهو أقل من القيمة لجاز أن يتحول إليه على أن يتبعه بما نقص من القيمة، فيأخذ ذلك منه معجلا أو مؤخرا أو على أن يترك ذلك كله له. وأما إن كان الثمن مؤجلا وهو أكثر من القيمة التي وجبت له على المتعدي فلا يجوز له أن يختاره؛ لأنه يدخله فسخ دنانير في أكثر منها إلى أجل. وكذلك لو كان الثمن عرضا مؤجلا لما جاز أن يتحول إليه بالقيمة التي وجبت له؛ لأنه يدخله فسخ الدين في الدين. وقد يباع العرض المؤجل بأكثر من القيمة التي وجبت له فيكون قد باع القيمة التي

(8/204)


وجبت له بأكثر منها إلى أجل، وذلك مما لا خفاء في تحريمه.
وأما قوله إذا كان الثمن إلى أجل فرضي المتعدي أن يعجل القيمة التي لزمته ويترك الثمن ولا يباع حتى يحل ويقبض فيأخذ منه المتعدي القيمة التي عجل ويكون الفضل لصاحب السلعة إن ذلك من حق المتعدي الذي يخاف من انكسار الثمن إن بيع بالنقد لأنه يضمن النقص. ولا يجاب رب السلعة إلى بيع الدين لأن في تأخيره منفعة له وللمتعدي، فإنه خلاف ما مضى في رسم حبل حبلة من سماع عيسى. وقد مضى الكلام على ذلك هنالك وأنها مسألة يتحصل فيها أربعة أقوال: قول ابن القاسم في هذه الرواية أحدها، فلا معنى لإعادتها، والله تعالى هو الموفق بفضله.

[يعطي الرجل من التجار أو غيرهم أو يبعث إليه بالنفقة يشتري له متاعا]
ومن كتاب الصبرة وسألته عن الرجل يعطي الرجل من التجار أو غيرهم أو يبعث إليه بالنفقة يشتري له متاعا فيدفعه المرسل به إليه إلى بعض غلمانه أو من يلي اشتراء جهاز متاعه ليشتري للمبضع فتلف. فقال: إن كان الذي أرسل بالنفقة قد علم أن هذا الرجل الذي أرسل إليه ماله ممن لا يلي اشتراء مثل هذا المبتاع الذي أمر أن يشتري له ولا يباشره وإنما يشتريه له بعض من يفوض إليه ذلك فلا ضمان عليه إذا دفع إلى من عرف بالاشتراء له والقيام في مثل ذلك من أموره وفي خاصته، وإن كان المرسل لا يعرفه بشيء من هذا فخرج المال من يديه الذي بعث إليه ضمنه، كان ممن يلي اشتراء مثل ذلك أو ممن لا يليه.
قال محمد بن رشد: طرد ابن القاسم القياس في هذه المسألة على أصله في أنه ليس للوكيل أن يوكل غيره إلا بإذن الموكل له، فأوجب عليه الضمان إذا دفع المال إلى من وكله فتلف إن كان ممن لا يلي بنفسه اشتراء ما وكل على اشترائه، إلا أن يعلم بذلك الذي وكله. والأظهر ألا يلزمه

(8/205)


الضمان إذا كان ممن لا يلي بنفسه اشتراء مثل ذلك المبتاع وإن لم يعلم الذي وكله بذلك من حاله لأنه فرط إذ لم يتحسس عنه حتى يعلم إن كان ممن يلي بنفسه اشتراء ما وكله على اشترائه أم لا، لا سيما في المشهور حاله، فهو يقول لم أقبض المال على أن أتولى الشراء بنفسي، وذلك معلوم من حالي، وليس جهل الذي بعث إلي بالمال بحالي مما يوجب علي الضمان. وهو قول له وجه يمنع من طرد القياس على مقتضاه؛ لأن طرد القياس إذا كان يقتضي يؤدي إلى غلو ومبالغة في الحكم كان العدول عنه في موضع لمعنى يختص به ذلك الموضع أولى. وهذا عندهم من الاستحسان الذي هو أغلب من القياس. فقد روي عن مالك أنه قال: تسعة أعشار العلم الاستحسان. وقد مضى من الكلام على هذه المسألة من نوازل عيسى فلا معنى لإعادته، وبالله تعالى التوفيق.

[يبضع معه بالبضاعة ويخبره أن ذلك المال مما تقاضاه من غرماء المرسل إليه]
ومن كتاب الصلاة
وسئل عن الرجل يبضع معه الرجل بالبضاعة يأمره بدفعها إلى رجل ويخبره أن ذلك المال مما تقاضاه المرسل من غرماء المرسل إليه، فلما قدم به على المرسل إليه بالمال قام غرماء الذي أرسل به وقالوا هذا مال لغريمنا، فقال الرجل إنما أمرني أن أدفعه إلى فلان وأخبرني أنه ماله تقاضاه من غرمائه. فقال: سمعت مالكا يقول في رجل دفع إليه رجل مالا وهو متوجه إلى سفر ثم لحقه في البلد الذي توجه إليه فقال له: أين مالي الذي دفعته إليك؟ فقال: هو ذا وقد كنت أمرتني أن أدفعه إلى فلان وأخبرتني أنه صدقة منك عليه، فقال مالك إن كان الذي زعم أنه صدقة عليه حاضرا حلف مع شاهده الذي المال عنده وأخذ المال، وإن كان غائبا لم تجز شهادته ورد المال إلى الذي دفعه إليه. فأنا أرى الذي سألت عنه من أمر الغرماء والمرسل إليه

(8/206)


بالمال مثل ما قال لمالك: إن كان الذي زعم الرسول أنه أرسل إليه بالمال أو أنه سمع المرسل يقول هو ماله تقاضيته من غرمائه حاضرا حلف مع شهادته وكان أحق به من الغرماء. وإن كان غائبا أسلم إلى الغرماء؛ لأنه يتهم أن تكون شهادته ليقر المال في يده. وإذا علم الناس أن مثل هذا يقبل منهم نسبوه إلى رجل بعيد الغيبة فدفع بذلك القول أهل الحق عن أموال غرمائهم.
قال محمد بن رشد: مثل هذا في الشهادات من المدونة في مسألة الصدقة، وزاد فيها: وذلك إذا كان المشهود له غائبا هي الغيبة التي يدفع بها بالمال. وقياسه المسألة التي سئل عنها عليها صحيح لأنها مثلها في المعنى. ولا اختلاف في إجازة شهادته له ما لم يدفع المال. واختلف إن دفع المال، فظاهر ما في كتاب الوديعة من المدونة أن شهادته له جائزة بالصدقة وإن كان قد دفع إليه المال أن يحلف القابض مع شهادته ويستحقه، وهو قول مالك في رواية ابن وهب عنه. قال في كتاب ابن المواز: وهذا إذا ثبت دفع الرسول ببينة، يريد أو إقرار بالقبض وهو مليء لا يكون الرسول مطلوبا بشيء. وقال سحنون: إنما يحلف مع شهادته إذا كان المال بيديه، فأما إن دفعه إليه فهو ضامن ولا يكون مقام شاهد لأنه غارم، وهو قول أشهب، وقاله ابن الماجشون وأصبغ، ورواه مطرف عن مالك، وقال فضل: وهو أصح من قول ابن القاسم. وعلى هذا حمل حمدين مسألة كتاب الوديعة من المدونة فقال: معناها أن الآمر والمأمور والمدعي للصدقة حضور ولم يدفع الرسول المال؛ لأنه إذا دفعه إليه فإنما يشهد على إجازة فعل نفسه، وإن كان غائبا اتهم في شهادته لانتفاعه بالمال إلى قدومه. وقد اختلف إذا لم يجد شهادة الرسول لأنه غير معروف العدالة أو لأنه قد دفع على القول بأن شهادته لا تجوز إذا دفع المال فأغرم المال هل له أن يرجع على الذي دفعه إليه أم لا، فاضطرب في ذلك قول أشهب: مرة رأى أنه يرجع على الذي دفعه إليه لأنه يقول له بسببك وصل إلى تغريمي، ومرة لم ير له أن يرجع عليه لأنه يقر له أنه مظلوم، وهو مذهب

(8/207)


ابن القاسم؛ لأنه يقول فيمن استحقت من يده دابة وهو يقر أنها نتجت عند بائعها منه وأن بينة مستحقها زور إنه لا رجوع له عليه لأنه يعلم أنه مظلوم، وبالله تعالى التوفيق.

[وكل وكيلا أن يقتضي من رجل دنانير كانت له عليه فصارفه فيها]
ومن كتاب أوله:
يشتري الدير والمزارع وسألته عن رجل وكل وكيلا أن يقتضي من رجل دنانير كانت له عليه فصارفه فيها أو أخذ منه عرضا لرب المال. قال: إن رضي رب المال فذلك جائز، وإلا فهو مفسوخ. قلت: ولا يضمن الوكيل الدنانير ويجوز الصرف واشتراء العرض بينه وبين الغريم؟ قال: ليس ذلك له عليه؛ لأنه إنما قبض ذلك لصاحبه ولم يشتر منه شيئا لنفسه. قلت: فإن صارفه لنفسه فقال أنا أقضي صاحبي دنانيره أيجوز ذلك؟ فقال: لا؛ لأنه يصير صرفا إلى أجل.
قال محمد بن رشد: قوله إنه إذا صارف في الدنانير لرب المال أو أخذ منه فيها عرضا له إن رب المال بالخيار في ذلك، فإن أجازه جاز وإلا فهو مفسوخ، هو مثل ما مضى في سماع أشهب من هذا الكتاب؛ لأنه لم ير الخيار الذي يوجبه الحكم لصاحب الدنانير يبطل الصرف إذا لم تنعقد المصارفة بينهما عليه، فلم ير ذلك نظرة عليه. وقال ابن أبي حازم فيه فلا بأس به، فلا تشددوا على الناس، هكذا جرى فليس كما تشددون، خلاف ما في سماع أشهب من كتاب الصرف من أنه صرف فيه نظرة فلا يجوز. ولو صارفه في الدنانير على أن رب المال في ذلك بالخيار لما جاز باتفاق. وقد مضى القول على هذا في رسم تأخير صلاة العشاء من سماع ابن القاسم وفي أول رسم من سماع أشهب أيضا.
وقوله في الرواية: ولا يضمن الوكيل الدنانير ويجوز الصرف واشتراء العرض بينه وبين الغريم، قال ليس ذلك عليه لأنه إنما قبض ذلك لصاحبه

(8/208)


ولم يشتر منه شيئا لنفسه، معناه أنه لا يضمن المصارفة لمن صارفه إذ لم يرض الموكل بالصرف فيضمن الدنانير لصاحبها. ويجوز الصرف واشتراء العرض بينه وبين الغريم، والوكيل ضامن لما أخذ في المصارفة لأنه متعد، فإن ضاع المال ضمنه. قال ذلك ابن دحون وهو صحيح.
وفي قوله في الرواية ليس ذلك عليه لأنه إنما قبض ذلك لصاحبه ولم يشتر منه شيئا لنفسه دليل بين على أنه لو صارفه لنفسه أو أخذ منه بالدنانير عرضا لنفسه لضمن الدنانير لصاحبها ولم يكن له أخذ الدراهم ولا العرض، وهو خلاف قوله بعد ذلك إنه إن صارفه لنفسه لم يجز لأنه يصرف صرفا إلى أجل. ولا فرق في القياس بين أن يصارفه في الدنانير لنفسه أو لصاحبها. لأن الحكم يوجب الخيار له في المسألتين جميعا، فينبغي أن يدخل فيهما الاختلاف دخولا واحدا. ويحتمل أن يكون فرق بينهما بأنه إذا صارفه فيها لصاحبها فقد فعل ذلك نظرا له فكان الأظهر في فعله أنه يرضى به، فلم يراع الخيار الذي أوجبه الحكم له؛ وإذا صارف فيها لنفسه فإنما فعل ذلك له لا لصاحبها فكان الأظهر في فعله أنه لا يرضى به فراعى فيه الخيار الذي أوجبه الحكم له وفسخ الصرف به، والله تعالى هو الموفق المعين.

[يوكل رجلين على تقاضي دين فيموت أحدهما]
ومن كتاب المكاتب قال: وسألته عن الرجل يوكل رجلين على تقاضي دين فيموت أحدهما فيقوم الآخر، أيتقاضى جميع الدين أم يتقاضى نصفه؟ قال: لا أرى ذلك له دون رأي القاضي. قلت: وما ترى للقاضي أن يأمره به؟ فقال: كنت أحب أن يوكل رجلا مرضيا مأمونا يتقاضى معه مكان الميت إن وجد رضى في حاله وأمانته من أهل بلد المستخلف إن خاف القاضي أن يتلف ماله ورأى التوكيل له وجها. وإن كان مكان المستخلف قريبا وديونه مأمونة أمر الباقي من الوكيلين أن يستوثق من الغرماء حتى يأمن على

(8/209)


الدين التلف ثم يستأنى به حتى يحدث وكالة يجددها.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة حسنة لا وجه للاجتهاد فيها للغائب سوى ما ذكره، فلا تفتقر إلى تفسير ولا تحتاج إلى شرح وتبيين.

[مسألة: أوصى إلى رجلين فمات أحد الوصيين]
مسألة وقال سحنون: وكذلك لو أن رجلا أوصى إلى رجلين فمات أحد الوصيين إنه لا يجوز لمن مات منهما أن يوصي بما جعل إليه من تلك الوصية إلى غيره يقوم في ذلك مقامه، وتنفسخ في ذلك وكالته بموته، ولا يجوز للباقي النظر إلا أن ينظر السلطان، إن رأى أن يقره وحده أقره، وإن رأى أن يستخلف معه غيره كان ذلك له.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول عليها في نوازل عيسى بن دينار ولا معنى لإعادته، وبالله تعالى التوفيق.

[يكون وكيلا لقوم على قبض حقوقهم ثم يموت]
ومن كتاب الأقضية قال يحيى: وسألت ابن وهب عن الرجل يكون وكيلا لقوم على قبض حقوقهم أو النظر لهم في رباعهم والقيام لهم فيها ثم يموت الوكيل ويترك ولدا، أيكون ولده على مثل ما كان عليه أبوه من الوكالة حتى ينقضها الذين وكلوا أباه؟ وقلت: هل يكون لولد الوصي أن يقوم مقامه فيما أوصي به إلى أبيه؟ فقال: إن الوكالة والوصية لا يورثان عمن أوصي إليه ووكل، وليس للوكيل أن يوكل ما جعل إليه أحدا غيره حيي أو مات، ولا أن يوصي بها إلى أحد إلا أن يكون فوض إليه، فإن كان مفوضا إليه أن يوكل غيره في " حياته أو أن يوصي بما جعل إليه إن حدث به حادث فذلك جائز

(8/210)


له لما جعل إليه من التفويض. فأما من لم يفوض إليه ذلك من الوكلاء فليس لهم أن يوكلوا أحدا ما حيوا ولا أن يوصوا بذلك إلى أحد عند موتهم، ولا يورث عنهم ذلك. فمن مات عن شيء بيده وكل عليه فأمر ذلك الشيء إلى الإمام العدل يوكل عليه من رضي نظره ووثق بحسن حاله فيما يوليه من ذلك فيليه الغائب حتى يرى فيه رأيه. قال: وأما الوصي فإنما نقول إن له أن يوصي بما أوصي إليه إلى من رضيه واختاره، فيكون أمر وصي الوصي جائزا فيما كان بيد الوصي على مثل ما كان يجوز فيه للوصي، فيكون في ذلك بمنزلته. فإن لم يوص إلى أحد لم تورث تلك الوصية عنه ولم يكن ولده أحق بالقيام فيما كان يلي أبوهم من أحد إلا بأمر السلطان.
قال محمد بن رشد: قول ابن وهب هذا في أن الوصية والوكالة لا يورثان عمن أوصي إليه أو وكل، وأن للوصي أن يوصي بما أوصي إليه في حياته وعند وفاته، وأن الوكيل ليس ذلك له لا في حياته ولا عند وفاته صحيح " لا اختلاف في شيء منه أحفظه في المذهب، إلا في الوصيين المشتركين في النظر، فإنه اختلف هل لأحدهما أن يوصي بما كان إليه من الإيصاء حسبما مضى القول عليه في نوازل عيسى بن دينار، فلا معنى لإعادته، وبالله تعالى التوفيق.

[المتفاوضين إذا باع أحدهما سلعة من رجل بدين إلى أجل ثم افترقا]
من سماع سحنون وسؤاله ابن القاسم وأشهب قال سحنون: وسألت أشهب عن الشريكين المتفاوضين إذا باع أحدهما سلعة من رجل بدين إلى أجل ثم افترقا قبل حلول أجل الدين فعلم الغريم بافتراقهما فقضي الذي باع منه السلعة. قال: لا شيء عليه للآخر؛ لأن البائع باع على أنه وكيل الشريك، وهو على ذلك حتى يؤمر ألا يتقاضى.

(8/211)


قيل لأشهب: فإن أمره بأن لا يتقاضى إلا نصيبه ولم يعلم الذي عليه الدين بما أمره به؟ فقال: إن كان قضى الذي عليه الدين الذي باع منه بعد ما نهي الذي باع أن يقتضي من الذي عليه الدين فعليه غرم نصيب الشريك الآخر؛ لأن البائع هنا متعد في القبض.
قيل لأشهب: فإن قضى الذي لم يبعه وقد علم الذي عليه الدين بافتراقهما أو لم يعلم؟ فقال: هو ضامن لنصيب الذي باعه؛ لأن الذي لم يبع إنما كان وكيلا لصاحبه في أن يقبض نصيبه إذا كانا شريكين، فإذا افترقا فقد سقطت الوكالة، فليس له أن يقتضي، فإذا اقتضى فهو متعد ولا يبرئ الذي عليه الدين.
قلت لأشهب: وكذلك الرجل يوكل الرجل على تقاضي دينه وقبضه ثم يفسخ وكالة الوكيل ولا يعلم الذين عليهم الدين، ويعلم الوكيل بفسخ وكالته ثم يقتضي بعد ذلك. قال: إذا علم الوكيل أنه قد فسخ وكالته ثم يقتضي فإن ذلك لا ينجي الذين عليهم الدين من أن يقضوا ما عليهم؛ لأن الوكيل متعد. وهذا إذا قامت البينة على أنه قد فسخت وكالته وعلم ذلك الوكيل.
قيل لأشهب: وإن لم يعلم الوكيل أنه قد فسخت وكالته ولم يعلم الذين عليهم الدين أو علموا؟ فقال أما الذين لم يعلموا فلا شيء عليهم وقد أجزأهم ما أعطوا، وأما الذين علموا أن وكالته قد فسخت فعليهم القضاء ثانية. وكذلك الرجل يوكل الرجل يبيع عبده فيذهب ثم يفسخ وكالته قبل أن يبيعه ثم يبيعه الوكيل، إن الوكيل إن علم بفسخ الوكالة فهو بمنزلة من تعدى على عبد رجل فباعه بغير أمره، وإن لم يعلم الوكيل بفسخ وكالته

(8/212)


ولا الذي اشتراه أنها فسخت فالبيع جائز للمشتري وليس له إلى العبد سبيل وإن لم يفت العبد.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة تشتمل على مسألتين: إحداهما انعزال الشريك عن وكالة شريكه بانفصالهما عن الشركة، والثانية عزل الموكل وكيله عن الوكالة. فأما مسألة انعزال الشريك عن وكالة شريكه بانفصالهما عن الشركة فقول أشهب في هذه الرواية أنه ينعزل بانفصالهما عن الشركة عن الوكالة فيما باعه شريكه، ولا ينعزل عنها فيما باعه هو حتى يؤمر بألا يتقاضى، هو نحو قول أصبغ من رواية رأيه في أول رسم من سماعه بعد هذا أن الوكيل لا يعزل عن الوكالة بموت الموكل فيما باعه هو، وينعزل بموته فيما باعه الموكل، وذلك خلاف مذهب ابن القاسم في المسألتين جميعا؛ لأن من مذهبه أنه ينعزل عن الوكالة بموت الموكل فيما باعه هو وفيما باعه الموكل على ما قال له في السماع المذكور، وينعزل عنها بانفصالهما عن الشركة فيما باعه هو أيضا وفيما باعه الشريك على ما قاله في كتاب الشركة من المدونة، غير أنه لم ير على الغريم ضمانا فيما دفع إلى أحدهما إذا لم يعلم بانفصالهما عن الشركة. فقوله مخالف لقول أشهب في موضعين: أحدهما قوله إن الغريم لا يضمن ما دفع إلى الذي باع منه وإن علم بافتراقهما من الشركة إلا أن يدفع إليه بعد أن أمره شريكه ألا يتقاضى؛ والثاني أنه يضمن ما دفع إلى الذي لم يبع منه علم بافتراقهما أو لم يعلم؛ لأن ابن القاسم لا يرى عليه ضمانا إذا لم يعلم بانفصالهما عن الشركة، دفع إلى الذي باع منه أو إلى الذي لم يبع منه. فقول أشهب في مسألة الشريكين على أصله في أن الوكالة لا تنفسخ بنفس العزل حتى يعلم الوكيل بعزله، فإذا علم بذلك انفسخت الوكالة في حقه وحق من دفع إليه، ولذلك قال إن الغريم إن قضى الذي لم يبعه فهو ضامن لنصيب الذي باعه، إذ قد انفسخت وكالته بمفاصلة شريكه في الشركة. وكذلك إن قضى الذي باعه بعد أن أمره الذي لم يبع منه ألا يتقاضى فهو ضامن لنصيبه.

(8/213)


وقول ابن القاسم في مسألة الشريكين على أن الوكالة تنفسخ بالعزل في حق الوكيل بوصول العلم إليه، وفي حق الغريم الدافع بوصول العلم إليه أيضا، ولذلك قال إن الغريم إذا لم يعلم بانفصالهما من الشركة فلا ضمان عليه في الدفع، دفع إلى الذي بايعه أو إلى الذي لم يبايعه.
وأما مسألة عزل الوكيل عن الوكالة فقول أشهب فيها في هذه الرواية وفي المدونة على أصله. في أن الوكالة لا تنفسخ بنفس العزل حتى يعلم الوكيل بذلك، فإذا علم بذلك انفسخت في حقه وحق من دفع إليه من الغرماء، وكان صاحب الحق بالخيار في الرجوع على من شاء منهما. فإن رجع على الوكيل برئ الغريم، وإن رجع على الغريم كان للغريم أن يرجع على الوكيل. وظاهر مذهب ابن القاسم في المدونة أن الوكالة منفسخة بنفس العزل وإن لم يعلم الوكيل بذلك فيضمن من دفع من الغرماء إلى الوكيل بعد عزله وإن لم يعلم واحد منهما بعزله لأنه أخطأ في دفع مال الرجل إلى غير وكيل.
فيأتي على هذا في عزل الوكيل عن وكالته ثلاثة أقوال: أحدها أنه لا يكون معزولا بنفس العزل حتى يصل العلم بذلك إلى الوكيل، وهو قول أشهب، والثاني أنه لا يكون معزولا إلا بوصول العلم بعزله فيكون معزولا في حق الوكيل بوصول العلم بعزله إليه أيضا، وهو قول ابن القاسم في مسألة الشريكين أيضا في كتاب الشركة من المدونة على ما ذكرناه؛ والثالث أنه يكون معزولا بنفس العزل وإن لم يصل العلم بذلك إلى الوكيل ولا إلى الغريم الدافع، وهو ظاهر قول ابن القاسم في كتاب الشركة من المدونة حسبما وصفناه.
ومن الناس من تأول قول ابن القاسم في كتاب الشركة من المدونة في مسألة عزل الوكيل فصرفه بالتأويل إلى مذهب أشهب فقال: معناه أن الوكيل علم بعزله، ولذلك قال إن الغريم ضامن لما دفع إليه، وهو فيه محتمل والأول هو الظاهر من قوله، وعلى ذلك حمله الأكثر من أهل النظر، إلا أنه بعيد في المعنى. وقد أجمعوا في الرجل يوكل الرجل على بيع

(8/214)


سلعته ثم يبيعها هو ويبيعها الوكيل بعده وهو لا يعلم بيع صاحبها أنها تكون للثاني إذا قبضها. وفي إجماعهم على هذا دليل على أن الوكالة لا تنفسخ بنفس الفسخ حتى يعلم الوكيل بفسخه إياها أو يعلم بذلك المشتري. وكذلك اختلف أيضا في تأويل قول مالك وابن القاسم في مسألة موت الموكل الواقعة في أول كتاب الوكالة من المدونة، فقيل: إن قولهما فيها مثل قول أشهب تنفسخ الوكالة في حقهما جميعا بمعرفة الوكيل بموت موكله، وقيل إن قولهما فيها مثل قول ابن القاسم في مسألة انفصال الشريكين عن الشركة الواقعة في كتاب الشركة من المدونة تنفسخ الوكالة في حق الوكيل بمعرفته بموت موكله، وفي حق من بايعه أو دفع إليه بمعرفته بموت الموكل أيضا. فالثلاثة الأقوال كلها التي ذكرناها في عزل الوكيل عن الوكالة داخلة في انفصال الشريكين عن الشركة؛ لأن الانفصال عنها يقتضي فسخ الوكالة، وفي مسألة موت الموكل على القول بأن الوكالة تنفسخ بموته؛ إذ قيل إنها لا تنفسخ بموته وهي باقية حتى يفسخها الورثة، وهو قول مطرف وابن الماجشون؛ وقيل إنها تفسخ فيما وليه الموكل من البيع ولا تنفسخ فيما وليه الوكيل وله قبض ثمن ما باعه ما لم يفسخ الورثة وكالته، وهو قول أصبغ في سماعه بعد هذا من هذا الكتاب. ومن الدليل على هذا أن محمد بن المواز قد ساوى بين عزل الوكيل وموت الموكل فقال: أجمع أصحاب مالك أن ما فعله الوكيل بعد علمه بموت الآمر أو عزله إياه أنه ضامن لما قبض، ولا يبرأ من دفع إليه إذا علم بعزله أو بموت الآمر. وإن دفع قبل علمه بموت الآمر أو عزله فمذهب ابن القاسم أنه لا يبرأ من دفع إليه. قال محمد: وهذا لا يصلح، إذ لا يشاء أحد أن يوكل على تقاضي حقه ببلد آخر ثم يشهد بعزله بعد خروجه، أو بدفعه إليه مالا يدفعه إلى رجل صدقة أو غير صدقة ثم يفسخ وكالته ولا علم له، فهذا غير معتدل. وقال ابن القاسم من رأيه إنه إذا ولي الوكيل البيع ثم فسخ الآمر وكالته فقبض الثمن قبل علمه وعلم المشتري، قال لا يبرأ المشتري وأبى ذلك أصحاب ابن القاسم ولم يروه، وخالفه ابن عبد الحكم وقال نحو ما قلنا. وما حكى ابن المواز من الإجماع فيه لا يصلح؛ إذ قد قيل إن الوكالة لا تنفسخ

(8/215)


بموت الموكل، وهو قول مطرف وابن الماجشون. ومن الناس من فرق على مذهب ابن القاسم في المدونة وروايته عن مالك بين موت الموكل وعزل الوكيل فقال إن الوكالة تنفسخ بنفس العزل وإذا لم يعلم الوكيل بذلك على مذهب، ولا تنفسخ بموت الموكل إلا أن يعلم الوكيل بذلك، إذ قد قيل إن الوكالة لا تنفسخ بموته وإنها باقية حتى يفسخها الورثة، وهو قول مطرف وابن الماجشون على ما ذكرناه.

[مسألة: قال له اشتر لي دابة فلان بغلامي هذا]
مسألة وسمعته يقول: إذا قال الرجل للرجل اشتر لي دابة فلان بغلامي هذا أو اشتر لي دابة موصوفة بغلامي هذا، فباع الغلام ثم اشترى به حمارا ثم اشترى بالحمار الدابة التي أمر بها دابة فلان أو الدابة التي وصفت له فإنه متعد والذي أمره بالخيار إن شاء أخذ قيمة غلامه وإن شاء أخذ منه الذي باعه به، وإن شاء أخذ منه قيمة الحمار، وإن شاء أخذ الدابة التي اشترى له دابة فلان أو الدابة التي وصفت.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال إنه متعد لأنه باع غلامه بما باعه من الثمن وهو لم يأمره إلا أن يشتري له به ما أمره بشرائه. فقوله إن الذي أمره بالخيار إن شاء أخذ قيمة غلامه، وإن شاء أخذ ثمنه الذي باعه به، معناه إن كان الغلام قد فات. ولو وجد غلامه عند المشتري لم يكن له إلا أن يأخذ غلامه أو الثمن الذي باعه به، كمن تعدى على غلام رجل فباعه فوجده صاحبه عند المشتري قائما لم يفت. وقوله: وإن شاء أخذ منه قيمة الحمار، وإن شاء أخذ الدابة التي اشترى له، معناه أنه اشترى الحمار لرب

(8/216)


البضاعة وكان قد فات. ولو كان اشتراه لرب البضاعة ووجده عند المشتري له بالدابة التي وصفت له أوامره بشرائها بعينها لم يكن له أن يضمنه قيمة الحمار، وإنما له أن يأخذ حماره بعينه أو الدابة التي اشترى له. وهذا إذا علم أنه اشتراه له. وأما لو لم يعلم ذلك إلا بقوله بعد أن اشترى به الحمار لكان بمنزلة إذا فات، فلا يكون له إلى أخذ الحمار سبيل، وإنما له قيمته أو الدابة التي اشترى به لما تعلق بذلك من حق المشتري له. ولو كان اشترى الحمار لنفسه وباعه ثم قدم لم يكن لرب البضاعة في الحمار شيء إلا أن يقدم به فيكون رب البضاعة مخيرا، فإن شاء أخذ الحمار، وإن شاء ضمنه ما دفع إليه. وقد مضى في أول رسم من سماع ابن القاسم ما فيه بيان لهذه المسألة، وبالله التوفيق.

[مسألة: يبضع مع الرجل ببضاعة يشتري له جارية فاشتراها ثم وطئها فحملت]
مسألة وسألت ابن القاسم عن الرجل يبضع مع الرجل ببضاعة يشتري له جارية فاشتراها ثم وطئها فحملت. فقال: إن وطئها على أنه يأخذها ويشتري له غيرها احتج بذلك وكان هو الذي أراد ولم يطأها على وجه الفسق منه بها، فسيدها مخير. إن شاء أخذها ويأخذ قيمة ولدها ويدرأ عنه الحد، وإن أحب أخذ قيمتها يوم وطئها ولا شيء له في ولدها. قلت له: فإن لم تحمل؟ قال: إن أحب أخذها ولا شيء له في النقصان، وإن شاء ضمنه قيمتها.
قال محمد بن رشد: قد تقدمت هذه المسألة في رسم القطعان ورسم العتق من سماع عيسى ومضى القول عليها هناك بما لا مزيد عليه، وبينا أن ما في هذه الرواية من قوله وإن أحب أخذ قيمتها يوم وطئها فلا شيء له في ولدها مفسر لقوله في رسم العتق وإن شاء أسلمها إليه بقيمتها، وأن ما زاده في كل واحد من الرسميين على ما في الآخر وعلى ما في هذه

(8/217)


الرواية في حكم الجارية التي أمسكها المبضع معه ووطئها مفسر له، وأن الخلاف فيما بين الرسميين إنما هو في حكم الجارية التي بعث بها المبضع معه إلى المبضع.
وقوله في هذه الرواية في الجارية التي أمسكها المبضع معه ووطئها إنها إن لم تحمل فسيدها بالخيار، إن أحب أخذها ولا شيء له في النقصان، وإن شاء ضمنه قيمتها، هو القول بأن الغاصب يضمن قيمة الجارية بالغيبة عليها، خلاف المعلوم من مذهب ابن القاسم. وقد ذكرنا الاختلاف في ذلك في نوازل عيسى بن دينار من كتاب الغصب، وبالله التوفيق.

[مسألة: يبضع مع الرجل يشتري له سلعة فلا يجدها فيشتري له شيئا آخر]
مسألة قال وسألت ابن القاسم عن الذي يبضع مع الرجل يشتري له سلعة فلا توجد السلعة ويشتري له بها شيئا آخر. قال: هو بمنزلة المتعدي في الوديعة. ولو كان يوجد تلك السلعة فتركها واشترى غيرها كان المبضع بالخيار: إن أحب أخذ المال الذي بعث به، وإن أحب أخذ منه ما اشترى بالدنانير.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول فيها مستوفى في أول رسم من سماع ابن القاسم، ومضت المسألة أيضا في آخر رسم أوصى من سماع عيسى.
وقوله في هذه الرواية إن المبضع معه إذا لم يجد السلعة التي أبضع معه فاشترى غيرها إنه بمنزلة المتعدي في الوديعة، هو مثل قول أصبغ في رسم الكراء والأقضية من سماعه، خلاف ما تأول على ابن القاسم؛ لأن الحكم فيمن تعدى على وديعة رجل فاشترى بها سلعة فإن كان اشتراها لنفسه فليس لرب الوديعة أخذها، وإن كان اشتراها لرب الوديعة فهو بالخيار بين أن يأخذ أو يضمنه وديعته. وأما إذا وجد السلعة التي أمره بها فاشترى

(8/218)


غيرها لنفسه فصاحب البضاعة بالخيار بين أن يأخذها أو يتركها أو يضمنه ماله بمنزلة ما لو اشتراها له.

[مسألة: يقول له ابتع لي هذه السلعة بعشرة دنانير وهي لي باثني عشر دينارا]
مسألة قال سحنون قال ابن القاسم: سمعت مالكا يقول وسئل عن الرجل يقول للرجل ابتع لي هذه السلعة بعشرة دنانير وهي لي باثني عشر دينارا. قال مالك: إن كان استوجبها للآمر والثمن من عنده نقدا فلا بأس به؛ لأن الربح كان جعلا له، وأنا أرى ذلك إذا كان لم ينقد هو الثمن من عنده. فإن نقد الثمن من عنده من غير شرط فهو مثله، وإن نقده بشرط رد إلى أجر مثله في ابتياعه السلعة له بغير سلف، إلا أن تكون أجرته أكثر مما سأله من الربح. كذلك قال ابن القاسم في البيع والسلف إذا وقع والأجرة في السلف مثله. قال: وإن كان قال له اشترها لي إيجابا على الآمر على أن يكون ثمنها إلى أجل باثني عشر ففعل فإنما هو رجل ازداد في سلفه، فإن لم تفت السلعة فسخ البيع، وإن فاتت كانت للآمر لازمة بالعشرة ويلزم مكانه ردها ولا يؤخر عنه إلى أجل ويطرح عنه ما أربى؛ لأنه كان ضامنا لها حين قال اشترها لي وازداد على الأمر فيما أسلفه. وإن كان قال له اشترها لي بخمسة عشر إلى أجل على أن أدفع إليك عشرة نقدا لم يكن في ذلك خير ولزمت الآمر خمسة عشر إلى أجل ولم يتعجل منه العشرة النقد ولم يلزمه ذلك. وإن قال اشتر سلعة كذا وكذا أو سلعة فلان بعشرة دنانير وأنا أشتريها منك باثني عشر دينارا إلى سنة ففعل فاشتراها منه لزمه الثمن إلى الأجل؛ لأن المشتري المأمور كان ضامنا لها لو تلفت في يديه قبل أن يشتريها منه الآمر.

(8/219)


وقد نزلت بمالك وأنا عنده قاعد واستأثره السلطان فيها فأمره أن يلزمه الثمن، ثم أتى بعد ذلك المشتري وكلمه إرادة أن يطرح عنه ما ازداد علية فلم ير ذلك وألزمه الثمن قال أن يلزمه الثمن وأحب إلى التورع له ألا يأخذ منه إلا ما نقد في سلعته، ولست أقضي به عليه إن أبى وأنا أقضي له بالحق كله، وكذلك سمعت مالكا قضى به.
ولو أن رجلا سأل رجلا أن يبتاع طعاما أو متاعا بعينه إلا أنه لم يسم له ما اشترى به ولم يسم له ما يربحه فيه، فإني سمعت مالكا أيضا يقول فيها إني أكره أن يعمل به، فأما أن أبلغ به الفسخ فلا، وأمضاه. قال: هو رأي على مثل قول مالك. قال: ولو كان رجلا قال لرجل اشتر لي بعير فلان بخمسة عشر دينارا إلى أجل عليه، أن أدفع إليك عشرة نقدا لم يكن في ذلك خير، ولزمت الآمر خمسة عشر دينارا إلى أجل ولم يتعجل منه العشرة النقد، ولم يلزمه إذا قال اشترها لي وكان استيجابها له ولزمته الخمسة عشر التي إلى الأجل لأن ضمانها كان منه. ولو قال: اشترها بخمسة عشر إلى أجل وأنا أشتريها منك بعشرة نقدا أو كان وجوبها للمشتري الأول ففات ذلك لم أرده ولم يكن عليه أكثر من العشرة، وأحب إلي أن لو أرده الخمسة الباقية، فإن أبى لم أضمنه الخمسة عشر؛ لأن المشتري إنما اشترى لنفسه وضمن، ولو هلكت قبل أن يشتريها منه الآمر لكانت للمأمور، فلذلك أنفذت البيع بينهما بمنزلة ما أنفذه مالك حين اشترى المأمور بعشرة نقدا وباعها من الآمر باثني عشر إلى أجل لأن العقدة الأولى كانت للمأمور، ولو شاء المشتري لم يشتر، فكذلك إذا أمره أن يشتري لنفسه بدين فيشتري منه بنقد لم يكن على صاحب

(8/220)


النقد الآمر إلا ما نقد في وجه القضاء، فهذا تفسير ما سمعت من مالك، ورأيي، وما يستحسن، والله أعلم.
قال محمد بن رشد: هذه المسألة من مسائل العينة المحظورة تتفرع إلى ست مسائل: ثلاث في قوله اشتر لي: أحدها أن يقول له اشتر لي سلعة كذا وكذا نقدا بعشرة وأنا أشتريها منك باثني عشر نقدا، والثانية أن يقول له اشتر لي سلعة كذا وكذا بعشرة نقدا وأنا أشتريها منك باثني عشر إلى أجل، والثالثة عكسها وهي أن يقول له اشتر لي سلعة كذا وكذا باثني عشر إلى أجل وأنا أشتريها منك بعشرة نقدا، وثلاث في قوله اشتر لنفسك أو يقول اشتر ولا يقول لي ولا لنفسك وذلك سواء: إحداها أن يقول اشتر سلعة كذا وكذا بعشرة نقدا وأنا أشتريها منك بعشرة نقدا، والثانية أن يقول اشتر سلعة كذا وكذا بعشرة نقدا وأنا أشتريها منك باثني عشر إلى أجل، والثالثة عكسها وهي أن يقول له اشتر سلعة كذا وكذا باثني عشر إلى أجل وأنا أشتريها منك بعشرة نقدا. وقد مضى شرحها وبيان الحكم فيها إذا وقعت مستوفى في رسم حلف ألا يبيع رجلا سلعة سماها من سماع ابن القاسم من كتاب السلم والآجال، فمن أحب الوقوف على ذلك تأملها هناك. ومن العينة جائزة ومكروهة: فالجائزة أن يمر الرجل بالرجل فيقول له هل عندك سلعة كذا تبيعها مني بدين؟ فيقول له: لا، فيذهب عنه على غير موعد، فيبتاع لنفسه تلك السلعة ثم يلقاه فيقول عندي ما سألت فيبيع ذلك منه بدين. والمكروهة التي إذا وقعت مضت على ما وقعت هي أن يقول الرجل للرجل عندك سلعة كذا تبيعها مني بدين؟ فيقول له لا، فيقول له اشترها وأنا أشتريها منك إلى أجل وأربحك فيها. وقد مضى ذلك أيضا في الرسم المذكور من الكتاب المذكور.

[مسألة: وكل رجلا على طلب غلامه فلان أو على أمته]
مسألة وسئل عن رجل وكل رجلا على طلب غلامه فلان أو على أمته، فإذا لم يشهدوا على الصفة لم تجز الوكالة. قلت:

(8/221)


وكذلك لو وكله على طلب دابة؟ قال: نعم، هو كذلك في جميع الأشياء.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأن الشهادة على الصفة في التوكيل على طلب العبد الآبق والجمل الشارد والدابة الضالة والمسروقة أو السلعة المسروقة تنوب مناب الشهادة على العين لتعذر الشهادة على العين حسبما ذكرناه في نوازل عيسى بيانا لقوله فيها إن الوكيل على طلب العبد الآبق والخصومة فيه لا يمكن من إيقاع البينة عليه أنه للذي وكله حتى يشهد له الشهود إنه وكل على طلب هذا العبد بعينه والخصومة فيه.

[مسألة: أبضع مع رجل مالا فخرج إليه اللصوص فلما رمقوه ألقى البضاعة]
مسألة وسئل سحنون عن رجل أبضع مع رجل مالا فخرج إليه اللصوص فلما رمقوه ألقى البضاعة في شجرة ليحرزها على صاحبها فذهبت. قال: لا ضمان عليه. قيل: فإن دفعها المستودع إلى فارس ينجو بها ويحرزها حين رأى اللصوص هل يكون ضامنا؟ قال: إذا كان هكذا فلا ضمان عليه.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأن خروج اللصوص إليه في السفر كخراب منزله في الحضر. وقد مضى هذا المعنى في رسم شك في طوافه من سماع ابن القاسم، وبالله سبحانه التوفيق.

[المبضوع معه إذا أراد الإقامة فاشترى له ما أمره به ثم سيره مع من يثق به]
من سماع محمد بن خالد من ابن القاسم قال محمد بن خالد: سألت ابن القاسم فقلت له: أرأيت المبضوع معه إذا بدا له في الإقامة سنته تلك فاشترى له ما أمره به ثم سيره مع من يثق به من أهل الأمانة فذهب ذلك الشيء من يديه؟ قال لا ضمان على واحد منهما، ورواه عيسى عن ابن القاسم في كتاب أسلم وله بنون صغار.

(8/222)


قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول عليها مستوفى في رسم شك في طوافة من سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادته.

[يبضع معه البضاعة هل يستسلف منها]
من سماع عبد الملك بن الحسن وسؤاله القاسم وأشهب قال عبد المالك: سألت ابن وهب عن الرجل يبضع معه البضاعة، هل ترى بأسا أن يستسلف منها؟ قال: إن كان مليا فلا بأس به، وإن كان غير ملي فلا يستسلف منها.
محمد بن أحمد: قوله في الملي لا بأس أن يستسلف من البضاعة التي عنده، يريد مع أن يشهد مع ذلك، قاله في سماع أشهب من كتاب الوديعة بعد أن روجع في ذلك لما سئل عنه فقال: ترك ذلك أحب إلي. وأما غير الملي الذي لا وفاء عنده فلا إشكال في أنه لا يجوز أن يستسلف منها. واختلف إن استسلف منها هل يصدق في أنه ردها على أربعة أقوال قد ذكرناها في سماع أشهب من كتاب الوديعة، إلا أن يقول له صاحبها إن احتجت إلى شيء منها فتسلفه فلا يصدق في ردها قولا واحدا.

[يكون له الوكيل في البلد يبيع له متاعه فيموت صاحب المتاع قبل قبض الثمن]
من سماع أصبغ من ابن القاسم من كتاب البيوع والعيوب قال أصبغ: سمعت ابن القاسم يقول في الرجل يكون له الوكيل في البلد يبيع له متاعه فيبيع له ثم يأتي موت صاحب المتاع قبل أن يقبض الثمن إنه لا يدفع إليه ذلك الثمن إلا بوكالة تثبت له بعد ذلك من الورثة وإن كان هو البائع؛ لأن المال قد صار مال الورثة. قال ولأن مالكا قد قال فيمن وكل رجلا لاقتضاء دين له وثبتت له الوكالة ثم مات الذي وكل وهو صاحب المال قبل أن يقبض هذا الوكيل الدين إن وكالته تفسخ ولا يمكن من شيء؛ لأن المال قد صار للورثة. قال أصبغ: مسألة مالك صواب، والتي ناظر ليست لها بنظير، والمسألتان مفترقتان: الأول

(8/223)


هو العامل للمشتري وإليه يدفع المشتري وإن دفع إلى غيره لم يبرئه لأنه هو مبايعه ولا يدري المشتري باعه له أو لغيره. وليس عليه كشف ذلك ولا له علة تنجيه، إذا لذهبت أموال الناس وتبطل وتحبس عن أربابها بالعلل، والثانية الميت هو العامل فهي وكالة بالقبض فقط فهو ما لم يتم حتى صار لغيره وانتقض قضاؤه، ووكالته فيه قضاء من قضائه ينقض إذا صار لغيره إن شاء الله. فهما مفترقتان، وليس للمشتري حبس ذلك عن البائع وهو القابض ما لم يوكل غيره يقبضه بعد موت الميت، ثم السلطان الناظر فيه بعد قبضه إياه لأهله يحسن النظر فيه والتوثيق.
قال محمد بن رشد: في الواضحة لمطرف وابن الماجشون أن الوكالة لا تنفسخ بموت الموكل، وأنه على وكالته ويجوز قبضه وخصومته ودفعه حتى يعزله الوارث أو يوكل غيره. وقال أصبغ تنفسخ الوكالة بموت الآمر ولا يجوز خصومته ولا القيام بضيعته حتى يوكله الوارث، إلا أن يموت عندما أشرف الوكيل على تمام الخصومة بالحكم له أو عليه بحيث لو أراد الميت فسخ وكالته ويخاصم هو أو يوكل غيره لم يكن له ذلك. وما كان من يمين كانت تجب على الميت حلفها الوارث إن كان فيهم من قد بلغ علم ذلك، وبقول أصبغ قال ابن حبيب، وهو مثل قول ابن القاسم في هذه الرواية. تفرقة أصبغ فيها قول ثالث في المسألة، وهي تفرقة ضعيفة إذا ثبت أن المال للميت أو علم بذلك الوكيل، وهي نحو قول أشهب المتقدم في سماع سحنون في انفصال الشريكين عن الشركة إن وكالة البائع منهما لا تنفسخ بالانفصال عنها. فإن قضى غريم من الغرماء الوكيل بعد موت الموكل على القول بأن الوكالة تنفسخ بموته وهو عالم بموته ضمن باتفاق؛ لأنه متعلم بالدفع إلى من علم أنه غير وكيل. وأما إن لم يعلم بموته ففي ذلك ثلاثة أقوال: أحدها أنه يضمن علم الوكيل بموته أو لم يعلم، وهو الذي يأتي على قياس ظاهر قول ابن القاسم في كتاب الشركة من المدونة وفي عزل الوكيل؛ والثاني أنه لا يضمن علم الوكيل بموته أو لم

(8/224)


يعلم، وهو الذي يأتي على قول ابن القاسم في كتاب الشركة في مسألة انفصال الشريكين عن الشركة؛ والثالث أنه يضمن إن علم الوكيل بموت الموكل ولا يضمن إن لم يعلم بموته، وهو قول أشهب. وقد تأول ذلك على ابن القاسم في مسألة عزل الوكيل في المدونة. وقد مضى تحصيل هذا الخلاف وتوجيهه في سماع سحنون فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.

[مسألة: دفع إلى رجل ثوبا يبيعه له بعشرة فقطعه على نفسه]
مسألة قال أصبغ: وسألت ابن القاسم عن رجل دفع إلى رجل ثوبا يبيعه له بعشرة فقطعه على نفسه. قال: يغرم قيمته إن كان أكثر من العشرة وإلا فالعشرة.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضت والقول عليها مستوفى في رسم استأذن من سماع عيسى فلا معنى لإعادته.

[مسألة: يدفع إلى الرجل السلعة يبيعها له ولا يسمي له شيئا فيبيعها له بدراهم]
مسألة قال أصبغ وسئل أشهب عن الرجل يدفع إلى الرجل السلعة يبيعها له ولا يسمي له شيئا فيبيعها له بدراهم قال: ذلك جائز. قلت: فإن كانت السلعة نقد مثلها والذي تباع به الدنانير؟ قال لا بأس به، أي لا ضمان عليه. قال أصبغ: مثله إذا باع من الدراهم بصرف ما يباع مثله من الدنانير استحسانا لأن الدراهم عين كالدنانير.
قال محمد بن رشد: أجاز أشهب بيعه السلعة بالدراهم ولم يشترط ما اشترط أصبغ من أن يكون باعها من الدراهم بصرف ما تباع به من الدنانير، فظاهره خلاف لقوله وأنه إذا باعها بقيمتها من الدراهم أو بأقل من قيمتها بما يتغابن الناس فيه في البيوع لم يكن عليه ضمان وإن كان ذلك أقل من صرف ما يباع به من الدنانير، ولم يجزه أصبغ أيضا وإن باعها من

(8/225)


الدراهم بصرف ما تباع به من الدنانير إلا استحسانا من أجل أن الدنانير والدراهم عين، والقياس عنده ألا يجوز ذلك إذا كان البلد لا تباع السلع فيه إلا بالدنانير أو كانت السلعة لا يباع مثلها إلا بالدنانير. وقد رأيت لابن دحون أنه قال في هذه المسألة معناها إذا كان ببلد تباع فيه السلع بالدراهم، فأما إن كان البلد لا تباع فيه السلع بالدراهم فلا يجوز ذلك على الآمر. وليس قوله عندي بصحيح؛ لأن الكلام وموضع السؤال إنما هو إذا كان البلد لا تباع السلع فيه بالدراهم أو كانت السلع لا تباع مثلها إلا بالدنانير، فأجاز ذلك أشهب لوجهين: أحدهما أن الدنانير والدراهم عين، والعين هو الثمن، فإذا باع سلعته بما تباع به من العين لم يكن عليه ضمان، والثاني أن صرف الدراهم ليس مما يغبن فيه، وقد كان يقول مالك إنه إذا باع الرجل سلعة الرجل بما يشبه الذهب والورق من العرض التي لا يعنى في بيعها نفذ البيع ولم يرد. وقد قال إنه إذا كان الذي باع به مما يعنى في بيعه فعلى المتعدي بيعه، ثم رجع مالك بعد ذلك فقال إنه لا ينفذ بيعه إذا باع بغير الذهب والورق. وقع هذا الاختلاف في رسم العتق من سماع عيسى من كتاب جامع البيوع في بعض الروايات. وأما إذا كانت البلد تباع فيه السلع بالدراهم فلم يتعد المأمور إذا باع بالدراهم.
ويتخرج على ما ذكرناه في بيع السلعة بالدراهم في البلد الذي لا تباع فيه إلا بالدنانير ثلاثة أقوال: أحدها أن ذلك لا يلزم رب السلعة ويأخذ سلعته إن لم يرد أن يجيز البيع إلا أن يفوت فيكون له على المتعدي قيمتها من الدنانير؛ والثاني أن البيع يلزمه وينفذ عليه ويكون من حقه على المتعدي أن يصرف له الدراهم بدنانير، والثالث أن البيع يلزمه وينفذ عليه ولا يكون له فيه كلام؛ لأن الدراهم عين كالدنانير، وبالله التوفيق.

[مسألة: يأمر الرجل يشتري له سلعة فلان بخمسة عشر فيشتريها بستة عشر]
مسألة وسئل أشهب عن الرجل يأمر الرجل يشتري له سلعة فلان بخمسة عشر فيشتريها بستة عشر ويقول أبى البائع أن يبيع بخمسة

(8/226)


عشر فاشتريتها لنفسي بستة عشر وتركتك. قال: القول قوله وهي له. قال أصبغ: أرى أن يحلف ويكون القول قوله، واستحسن أن يكون الأمر عليه بالخيار إن شاء زاده الدينار وأخذها ولم يصدقه أنه اشتراها لنفسه كما لا يصدق إذا اشتراها بالذي أمره، وإن شاء تركها وضمنه ماله.
قال محمد بن رشد: قول أصبغ وأرى أن يحلف خلاف ظاهر وقول أشهب، وهي يمين تهمة، فالاختلاف فيها على الاختلاف المعلوم في لحوق يمين التهمة. وأما استحسانه أن يكون الأمر عليه فيها بالخيار، إن شاء زاده الدينار وأخذها فهو بعيد، إذ لا يلزمه أن يشتريها له بأكثر مما أمره به ويزيد عنه من ماله، وإنما له أن يفعل ذلك إن شاء فلا يكون من حق الآمر أن يلزم المأمور فعل معروف لم يطع به ولا أقر أنه فعله. وقد اختلف إن اشتراها بالذي أمره أن يشتريها به دون زيادة فقال اشتريتها لنفسي وفسخت وكالتك عني، فقيل ليس ذلك له وتكون السلعة للآمر إلا أن يعلمه قبل أن يشتريها أنه لا يشتريها له وإنما يشتريها لنفسه، وهو قول ابن القاسم وأصبغ في الثمانية، وقيل إن السلعة تكون له وإن لم يتبرأ إليه من وكالته إياه إذا أشهد قبل الشراء أنه إنما يشتريها لنفسه. وقع هذا القول في الثمانية أيضا. وروى محمد بن يحيى السبائي عن مالك أن السلعة تكون له إذا زعم أنه اشتراها لنفسه وإن لم يشهد على ذلك قبل الشراء، ويحلف على ذلك إن اتهم. وقد ذكرنا هذا الاختلاف في نوازل عيسى، وبالله تعالى التوفيق.

[وكل وكيلا يقبض ثمن طعام له فلما حل الأجل قبض الوكيل الثمن وأنفقه]
من كتاب البيع والصرف وسمعته يقول فيمن وكل وكيلا يقبض ثمن طعام له باعه إلى أجل فلما حل الأجل قبض الوكيل الثمن أنفقه، فلما اقتضاه إياه الموكل دعاه الوكيل إلى أن يدفع إليه فيما قبض طعاما أو إداما.

(8/227)


قال: لا بأس بذلك، قد كان يجوز له أن يشتري من الوكيل أو من غيره بثمن ذلك الطعام طعاما وإداما.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله، لا إشكال في جوازه؛ لأنه إنما أخذ الطعام من غير الذي باعه منه بالثمن الذي قبضه له من الطعام الذي باعه، فلا يدخل ذلك وجه من وجوه المكروه في بيوع الآجال، وبالله تعالى التوفيق.

[وكيل لرجل في ضياعه يكرى ويبيع قدم عليه وكيل آخر بعزله فأراد محاسبته]
ومن كتاب الكراء والأقضية أصبغ: سمعت ابن القاسم وسئل عن وكيل لرجل في ضياعه له المساكن والمزارع والضياع يكرى ويبيع قدم عليه وكيل آخر بعزله فأراد محاسبته وأخذ ما بقي في يديه من ذلك المال. قال: ذلك له، فزعم الوكيل الأول أن ناسا ممن يقبل منه ادعوا فسخ ما تقبلوا منه وأنهم تقبلوا حراما ويريدون خصومته، وقال: لا أدفع ما بيدي من المال الناض حتى يناقدني القوم. قال: ينظر فإن كان إن خاصموا كانت لهم التباعة فيما في يديه فالقول قوله وذلك له، وإن كان إن خاصموه كانت التباعة له قبلهم أو كانوا كفافا لا فضل لهم عنده كان عليه أن يعطي الوكيل القادم ما في يديه من المال إن شاء وإن أبى ويحمله على ما بقي قبل الناس السكان والمزارعين ويجمع بينهم، فإن أقروا له برئ، وإن لم يقروا له كان على الوكيل الأول البينة. فإن أقام البينة عليهم برئ أيضا وإلا ضمن؛ لأنه أتلف مال الرجل وقد أقر به أنه قبل هؤلاء وهؤلاء يجحدون، فهو ضامن لأنه أتلف حين لم يشهد، بمنزله سلعة دفعها إليه يبيعها له فقال بعتها من فلان بكذا وكذا أو جحد فلان.

(8/228)


قال محمد بن رشد: هذه مسألة حسنة بينة لا إشكال فيها ولا لبس في شيء من معانيها يفتقر إلى بيان وتفسير.

[مسألة: أبضع من رجل بعشرة دنانير يشتري له بها قمحا فاشترى شعيرا]
مسألة وسألت ابن القاسم وسئل عن رجل أبضع من رجل بعشرة دنانير يشري له بها قمحا فاشترى شعيرا وقدم به وقال اشتريته لنفسي وضمنت الدنانير إن صاحب الدنانير إن شاء أن يأخذ الشعير أخذه لأنه اشتراه بدنانيره. قال أصبغ: هذا خطأ، إنما يكون ذلك لو اشتراه لصاحب الدنانير على النظر له والتعدي منه والقمح موجود حيث أمره بالاشتراء أو غير موجود. فأما إن اشتراه لنفسه والقمح موجود فهو له؛ لأنه إنما تعدى على دنانير غيره ولم يخالف وهو لحد فيستغل ماله عليه لنفسه دونه.
قال محمد بن رشد: ظاهر قول ابن القاسم أنه اشترى الشعير لنفسه وهو يجد القمح الذي أبضع معه فيه، ولذلك قال: إن صاحب البضاعة إن شاء أن يأخذ الشعير أخذه. ولو لم يجد القمح فاشترى بالبضاعة الشعير لنفسه لم يكن لصاحب البضاعة أن يأخذه؛ لأنه كالمعتدي على الوديعة. وقد نص على ذلك ابن القاسم في سماع سحنون، فليس قوله في هذه المسألة بخلاف لقول أصبغ إلا بما تأول عليه لا بما ظهر من قوله ولا هو معلوم من مذهبه، بل المنصوص له مثل قول أصبغ فلا يلزمه تخطيئة أصبغ له، وبالله التوفيق.

[تحاكم الواضع والمشتري إلى بعض أهل المشرق فألزم الواضع الوضيعة]
ومن كتاب محض القضاء قال أصبغ: سمعت أشهب يقول في الذي يبعث إلى الرجل وقول أشهب في الرواية ولو تحاكم الواضع والمشتري إلى بعض أهل المشرق فألزم الواضع الوضيعة في ماله لأنفذت له الوضيعة على البائع كما

(8/229)


بالسلعة ليبيعها فيبيعها ثم يستوضعه المشتري فيضع له إن الوضيعة باطلة، وإن ربها بالخيار: إن شاء أجاز وإن شاء رجع على المشتري بماوضع له ولم يرجع على البائع الواضع بشيء. ويقول: ولو تحاكما الواضع والمشتري إلى بعض أهل المشرق فألزم الواضع الوضيعة في ماله لأنفذت له الوضيعة على البائع كما حكم ولم أرد حكمه ولم أر لربها على المشتري شيئا. ونزلت هذه به في نفسه وهو المشتري فتحاكما فحكم له على ما وصفنا ثم قدم ربها فتورع أشهب فيها بعد حين فصالح ربها بنصف الوضيعة أو أكثر قليلا وقال تخلج في نفسي شيء منها وإن كنت أراها لازمة للبائع الواضع كما حكم لي، وأعطى صاحبها ما صالحه به بحضرتنا وتحلله وأشهدنا عليه.
قال محمد بن رشد: قول أشهب في هذه المسألة إن الوضيعة باطلة وإن ربها بالخيار إن شاء أجاز وإن شاء رجع على المشتري بما وضع له ولم يرجع على البائع الواضع بشيء، يريد إلا يجد عند المشتري فاتبعه به، هو مثل قول غير ابن القاسم في مسألة المحاباة في الكراء إن الأخ يرجع على المحابى مال فيرجع على الأخ المحابي، يريد فيغرم ويتبع بما غرم المحابي، فهو قول أشهب بدليل قوله هذا والله أعلم. ومثل قول ابن القاسم في كتاب الشركة خلاف المشهور المعلوم من مذهبه في كتاب الاستحقاق وكتاب الخصب من المدونة وكتاب كراء الدور منها. وفي رسم العرية من سماع عيسى في الغاصب يغصب الشاة يهديها لقوم ويقوم صاحبها وقد أكلها الذين أهديت إليهم أن الغاصب إن كان بها مليا فهي عليه غرم وليس على الذين أهديت إليهم شيء، يريد وإن كان الغاصب معدما يرجع على الذين أهديت إليهم اتبع الذين أهديت إليهم بذلك الغاصب.

(8/230)


حكم ولم أرد حكمه ولم أر لربها على المشتري شيئا صحيح لأنه حكم باجتهاد فيما لا نص فيه. وهذا الذي حكى عن بعض أهل المشرق من الحكم على الواضع بالوضيعة هو المشهور من مذهب ابن القاسم الذي حكيناه. وفي قول أشهب وإن كنت أراها لازمة للبائع الواضع كما حكم لي وإن كان مذهبه خلاف ذلك دليل واضح على اعتقاده لتصويب المجتهدين فيما اختلفوا فيه باجتهادهم.

[يوكل الرجل على حق له ببلد فيذهب إليه يخاصم له فيه الذي هو عليه]
من مسائل نوازل سئل عنها أصبغ وقال أصبغ في الرجل يوكل الرجل على حق له ببلد فذهب إليه يخاصم له فيه الذي هو عليه، فخاصمه وثبت عليه الحق، فقال الذي عليه الحق إني قد قضيته الحق وليس له قبلي شيء فاكتب إلى البلد الذي هو فيه ليوقفه السلطان فيحلفه ما اقتضى مني شيئا، فإن حلف أخذ مني وإن نكل سقط الحق عني. قال أصبغ: ليس ذلك له وأرى أن يقضي عليه الحق وترجأ له اليمين يحلفها إياه إذا شاء ويقضي عليه الساعة بغرم ما ثبت عليه.
قلت: فإذا قضيت عليه الساعة بالغرم ثم وجد صاحبه بعد ذلك أيحلف له؟ قال نعم. قيل: فإن نكل عن اليمين؟ قال: إن نكل حلف المطلوب الذي غرم ويبرأه من الحق ويعدى عليه بالذي كان قبض منه وكيله. وإن حلف تم حقه وكان قضاء قد مضى.
قيل له: فإن مات الذي كان له الحق قبل أن يحلفه المطلوب الذي غرم وقد كان له أن يحلفه ففاته بالموت؟ قال: يحلف ورثته على علمهم أنهم ما علموه قضاه.
قال محمد بن رشد: قوله فخاصمه وثبت عليه الحق يدل على أنه كان منكرا حتى ثبت عليه. وإيجاب اليمين على الطالب له في دعوى

(8/231)


القضاء بعد إنكار الدين أصل قد اختلف فيه قول مالك، من ذلك مسألة رسم كتب عليه ذكر حق من سماع ابن القاسم من كتاب التخيير والتمليك في الذي يقول لامرأته أمرك بيدك فتقول قد طلقت نفسي ثلاثا فيقول لم أرد الطلاق ثم يقول بعد ذلك أردت واحدة إنه يحلف على نيته ويلزمه تطلقة واحدة. وأنكر ذلك هناك أصبغ فقال: هذا عندنا وهم من السماع، ولا تقبل منه نيته بعد أن قال لم أرد شيئا، والقضاء ما قضت المرأة من البتات. فإيجابه اليمين على الطالب في هذه المسألة بقوله ويرجأ له اليمين يحلفها إياه إن شاء اختلاف من قوله في هذا الأصل، وهو أصل قد اختلف فيه قول مالك. من ذلك الذي يدعي عليه الوديعة فيجحدها فتقوم عليه البينة بها فيدعي ضياعها أو ردها. والقولان قائمان من المدونة من كتاب اللعان وكتاب العتق الأول.
وقوله إنه يقضي عليه بالحق وترجأ له اليمين يحلفها إياه معناه في البعيد الغيبة على ما قاله محمد بن عبد الحكم، فإنه فرق في ذلك بين قريب الغيبة وبعيدها. ولا اختلاف عندي في القريب الغيبة. وأما البعيد الغيبة فيتحصل فيها أربعة أقوال حسبما مضى القول فيه في رسم حمل صبيا من سماع عيسى قبل هذا، ومضى بيان ذلك أيضا في رسم العتق من سماع عيسى من كتاب الأقضية، فلا معنى لإعادة شيء من ذلك.
وقوله: وإن نكل الطالب حلف المطلوب الذي غرم وبرئ من الحق ويعدى عليه بالذي كان قبض وكيله إن كان قد دفعه إليه، وأما إن كان لم يدفعه إليه فقال في رسم حمل صبيا من سماع عيسى: ولا يرجع على الوكيل بشيء مليا كان أو معدما. ومعناه لا يلزمه أن يرجع عليه ويترك الرجوع على صاحب الحق، بل له أن يرجع عليه إن أحب، فإن رجع على صاحب الحق رجع صاحب الحق على الوكيل.
أما قوله إذا مات الطالب قبل أن يحلف فإن له أن يحلف ورثته على علمهم أنهم ما علموه قضاه، قيل وإن لم يدع المطلوب عليهم العلم، وهو ظاهر قول أصبغ في هذه الرواية وقول مالك في رسم الطلاق من سماع

(8/232)


أشهب من كتاب الطلاق؛ وقيل بل إذا ادعى عليهم العلم على ما في كتاب النكاح الثاني وكتاب بيع الغرر من المدونة. وإنما يجب عليهم اليمين إذا كانوا ممن يظن بهم العلم على ما قال في كتاب العيوب والأقضية من المدونة، فإن نكلوا عن اليمين حلف المطلوب على ما يدعي معرفته من أنه قد دفعه لا على أن الورثة يعلمون أنه قد دفع، فهذه اليمين ترجع على غير الصفة التي نكل عنها الورثة. ولها نظائر كثيرة، فيختلف في لحوق هذه اليمين إذا لم يدع المطلوب عليهم العلم لأنها يمين تهمة، ولا يختلف في رجوعها على المطلوب لعلمه بما يحلف عليه كما يختلف في رجوع يمين التهمة، وبالله التوفيق.

[مسألة: أبضع مع رجل دنانير فضاعت بعد بلوغه]
مسألة وسئل أصبغ عن رجل أبضع مع رجل دنانير فضاعت بعد بلوغه، فقال المبضع إنما أرسلتها معك تدفعها إلى فلان فلم تدفعها إليه، وفلان ذلك معروف هناك قائم، وقال المبضع معه إنما أرسلتها معي أشتري لك بها ثوبا فضاعت قبل أن أشتري بها أو اشتريت بها فعطب أو غرق. قال أصبغ: أرى القول قول رب الدنانير مع يمينه، وأرى الرسول ضامنا إن لم تكن له بينة، وأرى البينة عليه، وأراه هو المدعي لأنه قد أقر بوصول الدنانير وقبضها منه ودفعه إليه إياها وأنها له، وادعى ما أتلفها عليه، فهو المدعي، والسنة أن البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه. فأرى المدعى عليه صاحب الدنانير لأنه قد ثبتها قبل الدعوة بالإقرار بها. وهذا رأيي فيما فسرت، وقياس على قول كان يقوله ابن القاسم فيمن دفع إلى رجل دنانير يشتري له بها طعاما فاشترى له شعيرا وقال بهذا أمرتني وقال الآخر بالقمح أمرتك. وكنت أعرفه دهره يقول القول قول رب الدنانير لأن هذا قد أقر له بها

(8/233)


وادعى عليه فيه ما ينقضه وما يضره، وادعى حين تعدى ما لم يأمره فهو المدعي، ثم رجع عنه بعد حين وقال بقول أشهب إن القول قول المأمور ولا يكون القول قول الآمر. ولا يعجبني أنا ذلك، وقوله الأول به أقول: القول قول الآمر وعليه أقيس.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول عليها مستوفى في رسم باع شاة من سماع عيسى فلا معنى لإعادته.

[مسألة: يبضع مع الرجل بالبضاعة من العروض ليبلغها إلى موضع أمره به]
مسألة وسئل عن الرجل يبضع مع الرجل بالبضاعة من العروض ليبلغها إلى موضع أمره به، فيقدم على الموضع فيسأل عن البضاعة فيزعم أنه تركها بموضع سماه في بعض الطريق مع متاع له أيضا، ويزعم أنه خاف عليها وعلى متاعه فتركها وترك بعض متاعه أو متاعه كله وتخلص ببدنه، وذلك بقوله لا يعرف مما قال منه شي، هل ترى عليه يمينا فيما صنع وتراه مصدقا في قوله؟
وأرأيت إن أمره المبضع أن يبيع البضاعة في بعض الطريق بموضع سماه له ويبلغ بالثمن إلى أهله، فلما أتى الموضع لم يعط بها ثمنا يرضيه فجعلها في الموضع نفسه عند رجل أمره ببيعها ومضى إلى بلده، وهذا كله بقوله، أتراه ضامنا في تركه البيع وتركه البضاعة ولم يؤمر بذلك فضاعت؟ وكيف لو لم يتركها ومضى إلى بلده، وهذا كله بقوله، أتراه ضامنا في تركه البيع وتركه البضاعة ولم يؤمر بذلك فضاعت؟ وكيف لو لم يتركها ومضى إلى بلده حيث أمره بدفع المال فأصيب في الطريق فذهبت منه، أتراه ضامنا أم لا ترى عليه شيئا إذا زعم، أنه إنما أراد النظر لصاحب البضاعة والتوفير عليه إذ لم يجد ثمنا يرضاه؟ وكيف إن

(8/234)


أمره بثمن معلوم فلم يجد لها ذلك الثمن فخرج بها إلى بلده كما أعلمتك؟ وما الذي ترى له أن يصنع إن أتى الموضع الذي أمره بالبيع فيه فلم يجد فيه ثمنا يرضاه أو لم يجد الثمن الذي أمره به إن أمره بثمن؟ وكيف إن أشهد على جميع ما ذكرت لك وكان ما قال معروفا؟ قال أصبغ: أما الأمر الأول في تخليفه إياها ببعض الطريق كما ذكر من عجز أو خوف فلا أرى عليه شيئا، وأرى القول قوله إذا حلف على ذلك وخلفها عند مستودع اختيارا منه وحرزا عنده واجتهادا مع شيته أو غير شيته، كل ذلك سواء، وأراه بريئا على هذا هنا إن شاء الله، وخيرها لصاحبها وشرها عليه. وأما الذي أمره ببيعها فلم يبعها فأرى إن كان سأله ثمنا فلم يجده فلا شيء عليه، وهو مثل الأول إذا عجز وخلفها عن عجز أو عن أمر من صاحبها ألا يتجاوز بها؛ وإن كان لم يسم له ثمنا وقد أمره بالبيع ولا يجاوزه فترك ذلك وجاوزه بالسلعة إلى موضع آخر فأراه ضامنا وإن كان ذلك منه نظرا فيما يقول فلا يصدق. وإن كان لما ترك البيع أقرها بمكانها نظرا ليعاود البيع به ولم يجاوزها لما يرجوه فيما بعد ذلك، فقد لا يبيع الرجل عند أول سوم ويرجو غيره ويترك البيع به ثم لا يجد بعد ذلك بيعا فلا ضمان على هذا إذا كان على هذا هكذا وإنما خلفها لهذا وشبهه. وإن كان إنما أمره بالبيع به ولم يأمره بالتخلف وأهمل له المضي به إن لم يستبع له هناك فخلفها من غير عجز عنها ولا خوف لوجه بين لا يقدر معه على المضي بها وعذر بين فأراه ضامنا أيضا؟
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة تشتمل على ثلاث مسائل: أحدها أن يبضع معه البضاعة من العروض ليبلغها إلى موضع سماه فيقدم الموضع دونها ويزعم أنه خاف عليها فتركها في الطريق مع متاعه أو بعض

(8/235)


متاعه فخلص ببدنه، ولا يعلم ذلك إلا بقوله، فهذه المسألة جوابه فيها أنه مصدق مع يمينه أنه خلفها ببعض الطريق كما ذكر من عجزه أو خوف عند مستودع اختيارا منه وحرزا عنده واجتهادا مع شية أو غير شية ولا شيء عليه. فأما تصديقه أنه خاف عليها فاستودعها في الطريق نظرا لصاحبها فصواب لا اعتراض فيه، واليمين في ذلك إذا لم يكذبه صاحبه يمين تهمة يجري الأمر فيها على الاختلاف المعلوم في لحوقها من غير تحقيق الدعوى. وأما تصديقه أنه تركها في الطريق لعجزه عن حملها أو إسقاطه عنه الضمان بذلك فهو مثل قول ابن القاسم في رسم شك في طوافة من سماع ابن القاسم في الذي يبضع معه البضاعة إلى بلد آخر فلا يجد لها محملا معه فيعطيها لبعض من يثق به معه أنه لا ضمان عليه، وفيه نظر لأنه شبهه بالحاضر يستودع الوديعة فيستودعها غيره من خراب منزل أو عورة بيت أو ليس عنده من يحفظ منزله أنه لا ضمان عليه، وهي لمسألة المسافر أشبه؛ لأنه إذا دفعها إليه في السفر إنما دفعها إليه لتكون عنده ولا يستودعها غيره. فالذي يأتي فيها على مذهب مالك قياسا على قوله في المدونة في المسافر إنه ضامن للبضاعة إذا دفعها إلى غيره ليحملها وإن لم يجد هو لها محملا. ولهذا الذي ذكرناه لم ير سحنون قول ابن القاسم حسنا على ما قاله في الرسم المذكور. وكذلك يأتي على مذهبه في هذه المسألة أنه إن كان أخذها ليحملها فعجز عن حملها واستودعها في الطريق فتلفت له أنه ضامن لها.
وأما المسألة الثانية وهي أن يأمره أن يبيع البضاعة بالطريق بثمن سماه ويبلغ بالثمن إلى أهله فلم يجد الثمن الذي سماه له في ذلك الموضع، فجوابه فيها أنه لا شيء عليه إذا تركها في ذلك الموضع عن عجز أو عن أمر من صاحبها ألا يجاوز بها ذلك المكان، يريد بعد يمينه أنه لم يجد بها في ذلك الموضع ذلك الثمن الذي سماه له، فإن لم يأمره صاحبها ألا يجاوز بها ذلك المكان فتركها فيه وهو غير عاجز عن حملها فتلفت ضمنها، فسواء قال له إن لم تستبع فاحملها أو سكت عن ذلك هو ضامن لها إن تركها في ذلك الموضع وهو قادر على حملها، إلا أن يخاف عليها

(8/236)


في حملها. وإنما ذلك من أجل أنه أمره إن باعها أن يحمل الثمن، فدل ذلك من أمره على أنه أراد إن لم يبعها أن يحملها. ولو أمره أن يبيعها في الطريق ويدفع الثمن هناك إلى من سماه له لوجب أن يكون ضامنا لها إن لم تستبع فحملها مع نفسه إلا ألا يجد من يودعها عنده في ذلك الموضع فيكون ذلك عذرا يسقط عنه الضمان في حملها.
وأما المسألة الثالثة وهي أن يأمره أن يبيع البضاعة بالطريق ويحمل الثمن مع نفسه إلى أهله ولا يسمى ما يبيعها به، فهذا جوابه فيها أنه لا شيء عليه في تركه إياها في ذلك الموضع ليعاود بها البيع إذ قد لا يبيع الرجل في أول سوم لما يرجوه من الزيادة وإن كان قد لا يجد فيها ذلك الثمن الذي تركه، وإن كان قال له إن لم تستبع فاحملها مع نفسك أو سكت عن ذلك. وأما إن قال له لا تحملها إن لم تستبع واتركها هناك فحملها فتلفت فهو ضامن لها. ولم يجب على ما سأله عنه إذا لم يجد بها ما يرضاه من الثمن فتركها عند رجل أمره ببيعها ومضى إلى بلده. والجواب في ذلك أنه ضامن لها إن تلفت؛ لأن الوكيل على البيع ليس له أن يوكل غيره عليه. وقد مضى الكلام على هذا في رسم الصرف من سماع يحيى. وقد مضى الكلام إذا لم يستبع فتركها في ذلك الموضع مودعة وأن الحكم في ذلك أن يكون ضامنا لها إن تلفت إلا أن يكون أمره ألا يحملها ولا يتجاوز بها ذلك الموضع أو خاف عليها في حملها. فهذا تفسير قول أصبغ في هذه المسألة، وهو كله صحيح على أصولهم لا اعتراض فيه، إلا فيما ذكرناه في المسألة الأولى.

[مسألة: يوكله على مخاصمة ويشهد أنه جعله فيما أقر به عليه لخصمه كنفسه]
مسألة قيل لأصبغ: أرأيت الرجل يوكل وكيلا على مخاصمة ويشهد أنه جعله فيما أقر به عليه لخصمه كنفسه، فيقر الوكيل بأشياء. قال أصبغ: إن وكله على خصومة ولم يفسر شيئا فهو وكيل على المرافعة وحدها، وليس له صلح ولا إقرار، وهو وجه

(8/237)


الوكالة أبدأ إذا أبهمت حتى يستثني فيها، فإذا استثنى فيها وكان الاستثناء أن جعل له الصلح أو الإقرار وجعل بمثابة نفسه في الصلح، أو الإقرار إفصاحا كان كذلك، وإلا لم تعد الخصومة إلى الصلح ولا إلى الإقرار لم يجز ذلك عليه ولا يلزمه ذلك إن فعل، كتب في ذلك أنه بمثابته أو لم يكتب، فيحمل مثابته ومحمل نفسه إن جعله في مثابته محمل الخصومة وحدها لا يعدوه ذلك كذلك يكون القضاء وكذلك يعمل عليه الحاكم ويقبل الوكالة ولا يردها ثم ينظر في أمورهم لصاحب الوكالة وعليه كما يكون لخصمه وعليه من جميع وجوه الخصومات والدفاع والثبت والاستحقاق والحكومات والفصل ما عدا الإقرار والمصالحة فلا تلحق الموكل.
قال محمد بن رشد: قوله إنه إن وكله على الخصومة ولم يفسر شيئا فهو وكيل على المدافعة وحدها وليس له صلح ولا إقرار وهو وجه الوكالة إذا أبهمت، يريد إذا أبهمت في الخصومة فلم ينص فيها على ما سواها من صلح ولا إقرار.
وقوله حتى يستثني فيها، يريد حتى يتبين فيها أنه جعل إليه مع الخصومة ما سوى المرافعة من الصلح أو الإقرار أو غير ذلك، فعبر عن التسمية بالاستثناء على سبيل التجوز في الكلام. وكذلك قوله في آخر المسألة ما عدا الإقرار والمصالحة فلا يلحق الموكل، معناه ولا يلحق الموكل الإقرار المصالحة فعبر عن ذلك بلفظ الاستثناء تجوزا.
وقوله إن الحاكم يقبل الوكالة ولا يردها وإن لم يجعل إليه فيها إلا المرافعة فهو خلاف ما ذهب إليه ابن العطار في وثائقه من أن الوكالة لا تقبل منه على الخصام حتى يجعل إليه فيها مع الإنكار والإقرار. ونزلت فقضى فيها لا يقبل منه الوكالة على ذلك إلا أن يحضر مع وكيله ليقر بما وقعه عليه حكمه أو يكون في وقت الحكم قريبا من مجلس القاضي. وقد

(8/238)


مضى في نوازل عيسى ورسم أسلم من سماعه ما فيه بيان لهذه المسألة، وبالله تعالى التوفيق، لا إله إلا هو ولا معبود سواه.
تم الجزء الثاني من البضائع والوكالات والحمد لله، وصلى الله على سيدنا ونبينا ومولانا محمد المصطفى وعلى آله وصحبه وسلم.

(8/239)