البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة

بسم الله الرحمن الرحيم
صلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم
كتاب المرابحة
من سماع ابن القاسم من كتاب الرطب باليابس
قال سحنون: أخبرني ابن القاسم عن مالك في نصراني ابتاع لرجل سلعة ثم احتاج إلى بيعها مرابحة أن عليه أن يبين لمن ابتاعها منه أن نصرانيا ابتاعها له وغاب على أمرها، قال سحنون وعيسى: لا يحل لمسلم أن يوكل نصرانيا يشتري له سلعة ولا يبيعها، وقال مالك: ولا أحب لمسلم أن يبيع سلعة مرابحة اشتراها له مسلم حتى يبين أن غيره اشتراها له.
قال محمد بن رشد: أما إذا ابتاع النصراني للمسلم سلعة وغاب على أمرها [فلا ينبغي له أن يبيعها مرابحة ولا مساومة حتى يبين أن نصرانيا ابتاعها له وغاب على أمرها] لأنه إذا لم يحل للمسلم أن يوكل نصرانيا يشتري له سلعة ولا يبيعها له كما قال سحنون وعيسى وعلى ما في المدونة وغيرها، لقول الله عز وجل: (( وأخذهم الربي وقد نهوا عنه )) فمن حجة

(8/371)


المشتري أن يقول : لا أريد سلعة ابتاعها نصراني فلعله قد اشتراها شراء حراما أربى فيه وأنا لا أستبيح مثل هذا فيكون ذلك له؛ لأن أهل الورع من الناس يجتنبون مثل هذا ويتقونه، ولا يقام من قول مالك إن عليه أن يبين إذا احتاج إلى بيعها مرابحة دليل على أنه ليس عليه أن بين إذا باعها مساومة ويجعل جوابه على أنه خرج على سؤال سائل سأله عن بيع المرابحة فأجاب عليه، ولو سئل عن بيع المساومة لقال أيضا : عليه أن يبين والله أعلم، إلا أن ذلك عليه في بيع المرابحة آكد على قوله : إن عليه أن يبين فيها إذا ابتاعها له مسلم أنه لم يل هو شراءها؛ لأن من حجة المشتري على هذا القول أن يقول له : إنما اشتريتها منك مرابحة بما ذكرت من الثمن لعلمي ببصرك في الشراء ، وأنك لا تخدع فيه، ولو علمت أنها ليست من شرائك لما اشتريتها منك، وقد استخف ذلك في رواية أشهب عنه في هذا الكتاب وفي كتاب البضائع والوكالات فلم ير عليه أن يبين أن غيره اشتراها له [إذا اشتراها له] مسلم، وقال: أرأيت كل من ابتاع شيئا أهو الذي يشتريه لنفسه؟ فلم يجعل على هذه الرواية شراء المشتري مرابحة على أن البائع هو الذي ولي شراء ذلك حتى يشترطه، فإن باع مرابحة أو مساومة ما ابتاعه له نصراني وغاب عليه ولم يبين ذلك أو باع مرابحة ما ابتاعه له مسلم ولم يبين على القول بأن عليه أن يبين، وهو قوله في هذه الرواية، كان المشتري مخيرا ما كانت السلعة قائمة بين أن يمسك أو يرد، فإن فاتت بوجه من وجوه الفوات الذي يفوت به البيع الفاسد رد فيها إلى القيمة إن كانت أقل من الثمن، وهو حكم الغش في البيوع، وبالله التوفيق.
ومن كتاب حلف ألا يبيع سلعة سماها
وسئل مالك : عن الرجل يشتري المتاع فتحول السوق فيريد أن يبيع مرابحة، قال: لا يعجبني ذلك إلا أن يتقارب ذلك، يريد من اختلاف الأسواق، قيل له: أفيبيع مساومة؟ قال : أما إن تطاول

(8/372)


ذلك من شأن شراء المتاع فلا أرى ذلك؛ لأن الرجل قد يأتي في الزمان قد رخص فيه المتاع وقد طال شراؤه وحال عن حاله فيساومه فيظن أنه من شراء ذلك اليوم فلا يعجبني في المساومة ولا في المرابحة إذا كان على ما وصفت لك إلا أن يبين ذلك. قال محمد بن رشد: تحصيل هذا أنه إن كان طال مكث المتاع عنده فلا يبيع مرابحة ولا مساومة حتى يبين ، وإن لم تحل أسواقه، لأن التجارة في الطري أرغب وهم عليه أحرص من أجل أنه إذا طال مكثه لبث وحال عن حاله وتغير، وقد يتشاءمون بها لثقل خروجها، هذا وجه ما ذهب إليه من المدونة، وكرهه ههنا مخافة نقصان قيمتها بتغيرها وحوالة أسواقها؛ لأن البائع إنما يسامح في البيع على قدر رخص السلع عنده، فلو علم المبتاع أن سلعة غالية من شراء غير ذلك الوقت لما اشترى منه شيئا مرابحة ولا مساومة، وهذا بين إن كانت الأسواق حالت بنقصان، وأما كانت حالت بزيادة فلعل زيادة أسواقها لا تفي بتغيرها بطول مقامها، وإن وفت بذلك أو زادت عليه فمنع منه بكل حال للذريعة. وأما إن كان لم يطل مكث المتاع عنده فإنما عليه أن يبين في بيع المرابحة إن كانت الأسواق قد حالت بنقصان، وليس عليه أن يبين فيها إن كانت الأسواق حالت بزيادة ولا في بيع المساومة أصلا، فإن باع مرابحة أو مساومة وقد طال مكث المتاع عنده ولم يبين فهو بيع غش وخديعة يكون المبتاع مخيرا في قيام السلعة بين الرد والإمساك، فإن فاتت رد فيها إلى القيمة إن كانت أقل من الثمن، وإن باع مرابحة وقد حالت الأسواق بنقصان ففي ذلك قولان؛ أحدهما : أنه يخير في القيام بين الرد والإمساك، ويرد في الفوات إلى القيمة إن كانت أقل من الثمن على حكم الخديعة والغش في البيع، وهو مذهب ابن القاسم ، والثاني : أنه يحكم له بحكم من باع وزاد في الثمن وكذب فيه، وتكون القيمة في ذلك يوم البيع كالثمن الصحيح في بيع الكذب، فتكون فيه القيمة إذا فات يوم القبض، إلا أن يكون أقل من قيمتها يوم البيع فلا ينقص من ذلك، أو أكثر من الثمن الذي باع به فلا يزاد عليه، وهو مذهب سحنون.

(8/373)


وفي ذلك من قوله نظر، والقياس فيه إذا حكم له بحكم الكذب أن تقوم السلعة يوم اشتراها البائع وتقوم يوم باعها هذا البائع وينظر ما بين القيمتين فيهما من أكثر القيمتين ويحط ذلك الجزء من الثمن، فما بقي بعد ذلك كان هو الثمن الصحيح، فإن كانت السلعة قائمة كان المبتاع بالخيار بين الرد والإمساك، إلا أن يشاء البائع أن يلزمها إياه بما قلنا فيه إنه هو الثمن الصحيح، وإن كانت قد فاتت وأبى البائع أن يردها إلى الثمن الصحيح كانت فيه القيمة إلا أن تكون القيمة أكثر من الثمن الذي باع به فلا يزاد البائع عليه، أو تكون أقل من الثمن الصحيح فلا ينقص المبتاع منه شيئا، وبالله التوفيق.
ومن كتاب أوله الشريكان يكون لهما مال
وسئل [مالك] عن الرجل يقدم بالمبتاع فيعطي القوم البرنامج فيقول هذا برنامجي ولا أبيعكم مرابحة، قال مالك: لا أحب أن يعطيهم البرنامج إذا كان شأنه ألا يبيعهم مرابحة لأنه يدخل في ذلك الخديعة.
قال محمد بن رشد: الخديعة التي خشي في ذلك هي أنهم يقتدون ببرنامجه فيبلغونه بسببه من الثمن ما لم يكونوا يبلغوه إياه لولاه، ولعل متاعه لا يبلغ تلك القيمة وإنما يفعل ذلك إذا خشي ألا يساوي ما اشتراه به، ولعله أيضا لما عزم أن يبيع مساومة ولا يبيع مرابحة لم يتثبت فيما كتب في برنامجه فزاد أو نقص، فيكون بمنزلة من رقم على ثيابه أكثر من شرائها وباع مساومة، وذلك من الغش والخديعة، فإن أعطاهم البرنامج وباعهم مساومة كان ذلك من البيع المكروه، ولم يجب فيه فسخ ولا خيار، إلا أن يكون البرنامج كتبه على غير صحة فيكون حكم البيع حكم بيع الخديعة والغش، وقد وصفناه في الرسم الذي قبل هذا، وبالله التوفيق.

(8/374)


ومن سماع أشهب وابن نافع من كتاب البيوع
قال سحنون: قال ابن نافع وأشهب : سئل مالك عن الرجل يشتري الثوبين جميعا بثمن في صفقة واحدة، أيجوز أن يبيع أحدهما مرابحة؟ قال: نعم إذا بين ذلك للمبتاع، أرأيت الذي يبتاع العدل كما هو أليس يبيعه ثوبا ثوبا، أيبيعه جميعا؟ فقال : لا بأس به أن يبيعه مرابحة إذا بين ذلك للمبتاع.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال : إنه يجوز أن يبيع أحدهما مرابحة إذا بين ولا يكون للمبتاع في ذلك خيار إلا أن يتبين أنه وضع على أحدهما من الثمن أكثر مما ينوبه منه وباعه على ذلك، فيكون حكمه حكم الكذب في بيع المرابحة في القيام والفوات، ويكون ما نابه من الثمن على صحة هو الثمن الصحيح الذي إذا أراد البائع أن يلزم المبتاع البيع به لزمه ولم يكن له خيار، والذي لا ينقص للمبتاع منه في الفوات إن كانت القيمة أقل، وأما إن لم يبين فيكون الحكم فيه حكم البيع بالغش والخديعة على مذهب ابن القاسم، وحكم الكذب في زيادة الثمن على مذهب سحنون، وتكون قيمته يوم اشتراه البائع هو الثمن الصحيح؛ لأن الجملة قد يزاد فيها، وإن وضع على أحد الثوبين أكثر مما ينوبه من الثمن وباع مرابحة ولم يبين شيئا من ذلك فيجتمع في البيع على هذا الوجه عند ابن القاسم غش وكذب، فإن كانت السلعة قائمة كان مخيرا بين الرد والإمساك، ولم يكن للبائع أن يلزمه إياها بأن يحط عنه الكذب ؛ لأنه يحتج عليه بالغش، وإن فاتت طالب المبتاع البائع بحكم الغش ؛ لأنه أفضل له من المطالبة بحكم الكذب، فترد له السلعة إلى قيمتها إن كانت القيمة أقل من الثمن، وبالله التوفيق.

(8/375)


مسألة
وسئل [مالك] عن الرجل يبضع بالبضاعة يشتري له بها ثم يريد أن يبيع مرابحة، أعليه أن يبين ذلك إذا باع مرابحة؟ فقال : أرأيت كل من ابتاع شيئا أهو الذي يشتري لنفسه؟ لا أرى ذلك عليه إذا كان أمرا صحيحا لا دخل فيه.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة والقول فيها في أول رسم من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
من سماع عيسى بن دينار من ابن القاسم من كتاب استأذن
سيده[في تدبير جاريته]
قال عيسى : سألت ابن القاسم عن رجل اشترى [سلعة] مرابحة للعشرة أحد عشر، وكان أصل [اشتراء] السلعة مائة دينار فصارت مائة وعشرة، فالربح للعشرة أحد عشر، ثم إن بائعها مرابحة استوضع صاحبه فوضع عنه عشرة دنانير، قال: إن شاء بائعها رد عليه العشرة التي وضعت له وثبت البيع؛ لأن السلعة قد صارت بتسعة وتسعين حين وضع عنه عشرة صار رأس ماله تسعين والربح تسعة، للعشرة أحد عشر، فإن أبى أن يرد عليه أحد عشر ، وقال : لا أرد عليه شيئا ولو كنت أعلم أن صاحبي يضع عني عشرة لم أرض أن أبيعها للعشرة أحد عشر، قيل للمشتري : إن شئت

(8/376)


فأمسك ولا شيء لك، وإن شئت فرد السلعة وخذ رأس مالك دنانيرك ، قلت: فإن كانت السلعة فاتت من يد المشتري؟ قال: يقال للبائع : رد الأحد عشر التي وضعت لك، فإن أبى وقال : لا أفعل ولم أكن أرضى أن أبيع سلعتي للعشرة أحد عشر لو علمت أن عشرة توضع عني، قيل له : فلا بد إذا من القيمة فتقوم السلعة، فإن كانت قيمتها عشرة ومائة فلا شيء له، وان كانت قيمتها خمسة ومائة رد عليه خمسة، وإن كانت قيمتها مائة رد عليه عشرة، وإن كانت قيمتها تسعة وتسعين رد عليه أحد عشر، وإن كانت قيمتها أدنى من تسعة وتسعين ما كان ليرد عليه إلا أحد عشر؛ لأنه قد رضي أولا أن يأخذها للعشرة أحد عشر، وهو لو رد عليه في أول أحد عشر لزمه البيع ولم يكن عليه غيرها.
قال محمد بن رشد: قوله : إن وضع البائع عن [المبتاع] عشرة وما ينوبها من الربح لزمت المشتري، وإن أبى كان له أن يردها، وكذلك إن فاتت فأبى أن يضع عنه العشرة التي وضعت له وما ينوبها من الربح، وإلا كانت فيه القيمة إلا أن تكون أقل من تسعة وتسعين فلا ينقص المبتاع أكثر من أحد عشر، أو تكون أكثر من مائة وعشرة فلا يزاد، خلاف ظاهر ما في المدونة، لا يلزم البائع على ظاهر ما في المدونة أن يضع عن المبتاع إلا ما وضع عنه خاصة، وهو عشرة، فإن فعل لزم المبتاع البيع، فإن أبى كان له الرد، وإن فاتت وأبى البائع أن يضع عنه العشرة كانت فيها القيمة ما بين مائة وعشرة ومائة، ولا يزاد البائع على عشرة ومائة إن كانت القيمة أكثر، ولا ينقص المبتاع من مائة إن كانت القيمة أقل، وقد حكى ابن المواز القولين جميعا عن ابن القاسم واختار ما في المدونة، وقال : إن القول الآخر إغراق، وإياه اختار ابن سحنون عن أبيه، واختار ابن حبيب قوله في

(8/377)


هذه الرواية، ولم يبين فيها متى تكون القيمة ولا بما تفوت السلعة، ومذهب ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة أنها تفوت بما يفوت به البيع الفاسد من حوالة الأسواق فما فوقه، وتكون فيها القيمة يوم القبض. وقوله في رواية علي بن زياد عن مالك فيها : إنها تفوت بالنماء والنقصان، وتكون القيمة فيها يوم البيع ، وهذا إذا كان الذي وضع عن البائع ما يحط مثله في البيوع، وأما إن حط عنه ما لا يحط في البيوع مثله فهي هبة له لا يلزمه فيها للمبتاع شيء، قاله في المدونة، ولا اختلاف في ذلك، وبالله التوفيق.
ومن كتاب العتق
قال عيسى: سمعت ابن القاسم يقول : اشترى جرار سمن أو زيت موازنة فوزنت له ثم أراد أن يبيعها مرابحة أو غيرها قبل أن تفرغ وتوزن ظروفها فذلك حلال لا بأس به؛ لأن ضمانها منه، ولأنه قد قبضها ووزنها وزن قبض ليس في هذا شك، فإن انكسر منها ظرف فضمان ما فيه منه، إلا إن وزن الظروف بوزن فخارها فيطرح ذلك منه فلا بأس أن يبيعها مرابحة أو غيرها، وهي على الوزن في ذلك كله إن باعها يزنها للمشتري منه أيضا ذلك عليه إلا أن يكون بيعه على أن يأخذها بوزنها الأول ويصدقه في ذلك، وقال أصبغ عن ابن القاسم مثله.
قال محمد بن رشد: قوله : اشترى جرار سمن أو زيت موازنة معناه أنه اشترى سمن الجرار [كل رطل بكذا، فهذا جائز مثل شراء الصبرة على الكيل كل قفيز بكذا، فإن شاء إذا اشترى سمن جرار] على هذا أن

(8/378)


يفرغ السمن ويزنه، وإن شاء أن يزنه بجراره ثم يزن الجرار فيطرح وزنها من وزن الجميع فيعلم بذلك وزن السمن كل ذلك جائز، وهو مثل ما في كتاب الغرر من المدونة.
وقوله : إنه إن وزن السمن بجراره على أن يزن الجرار فيطرح وزنها من وزن الجميع جاز أن يبيعه مرابحة أو غير مرابحة قبل أن يزن الظروف، يريد ولا يكون ذلك بيعا له قبل استيفائه؛ لأنه قد استوفاه بوزنه بظروفه وصار ضمانه منه.
وقوله: إن ضمانه منه وإن لم يعلم وزنه حتى توزن الظروف بعد ذلك يأتي على ما في سماع أبي زيد من كتاب جامع البيوع في الذي باع عشرة فدادين من قمح زمن زرعه وواجبه، فذهب إلى غد ليقيسه له فأصيب الزرع بنار فاحترق أن المصيبة منهما، وعلى ما روى ابن أبي أويس عن مالك في الذي يبتاع الزرع وقد استحصد مزارعة وهو قائم كذا وكذا ذراعا بدينار، وإنما يذارعه بعد أن يحصده، ثم يخلي بينه وبينه فتصيبه جائحة قبل أن يحصده أن المصيبة من المشتري، قال: وكذلك روايا الزيت يبتاعها الرجل وزنا فيفرغها حتى يزن الظرف بعد ذلك فيطرح وزنها من وزن الزيت بظروفه، وهو خلاف ما في رسم البيوع الأول من سماع أشهب من كتاب جامع البيوع في الذي يشتري الحائط على عدد نخل تعدله أو الدار على أدرع مسماة تدرع له أن ضمانها من البائع، وقعت هذه المسألة على نصها من هذا الرسم بعينها من سماع عيسى من كتاب جامع البيوع، وزاد فيها قال أصبغ : ويحلفان جميعا. ومعنى قوله : إنه يحلف المشتري الأول والمشتري من المشتري إذا انكسرت الظروف عنده أن الظروف ظروف البائع إذا أنكرها ، وقال : إنها ظروفه على ما في المدونة أنهما إن اختلفا في الظروف أن القول قول من كانت الظروف عنده، وإذا لم يفت السمن أعيد وزنه على المشتري إن كانت الظروف عند البائع، وعلى البائع إن كانت الظروف عند المشتري، لأن من كانت عنده الظروف منهما يقول : أنا مصدق أن هذه هي الظروف، فإن كنت تقول أنت إني ابتدلتها فأعد وزن السمن،

(8/379)


فإن أعاد وزنه ثم انكشف أن الآخر كان أبدل الظروف رجع عليه بإجارة إعادة وزنه إن احتاج في ذلك إلى استئجار؛ لأنه أوجب عليه ببدل الظروف ما لم يكن واجبا عليه.
وقوله : إنها على الوزن في ذلك كله صحيح، لأن من اشترى طعاما فاكتاله أو وزنه فباعه فعليه أن يكيله على المشتري أو يزنه، إلا أن يصدقه في كيله أو وزنه، فيجوز ذلك إن باعه بالنقد ولم يبعه بالدين، قاله في كتاب بيوع الآجال من المدونة. فإن أراد أن يرجع إلى الكيل بعد أن اشتراه على التصديق لم يكن ذلك له، واختلف إن اشتراه على التصديق هل يبيعه على التصديق أو على الكيل؟ حكى الاختلاف في ذلك ابن حبيب، وقد مضى القول على ذلك في هذا الرسم من كتاب جامع البيوع بما يغني عن إعادته، ولو اشترى السمن أو الزيت وظروفه معه في الوزن جاز ذلك في الزقاق ولم يجز في الجرار؛ لأنها قد تختلف في الرقة والخشانة اختلافا متباينا، قاله في رسم باع غلاما من سماع ابن القاسم من كتاب جامع البيوع، وبالله التوفيق.
ومن كتاب حبل حبلة
قال ابن القاسم: ما اشتريت من جميع الأشياء مما لا يوزن أو يكال فبعت بعضه فلا تبع ما بقي منه ولا جزءا مما بقي منه مرابحة حتى تبين أنك قد بعت منه، فإن لم تفعل وبعت مرابحة وكتمت للمشتري أنك قد بعت منه كان بيعا مردودا يرده إن أحب، وإن فات كانت فيه القيمة، وما اشتريت من جميع الأشياء مما يكال أو يوزن من الطعام أو غيره كيلا أو وزنا فبعت بعضه فلا

(8/380)


بأس أن تبيع ما بقي مرابحة ولا تبين أنك قد بعت منه شيئا وليس عليك أن تبين.
قال محمد بن رشد: قوله : إنه إذا اشترى ما لا يكال ولا يوزن فباع بعضه إنه لا يجوز له أن يبيع الباقي مرابحة حتى يبين صحيح؛ لأنه في معنى من اشترى سلعتين في صفقة واحدة، أنه لا يجوز له أن يبيع إحداهما بما ينويها من الثمن إلا أن بين، وقد مضى [ذلك] في سماع أشهب فلا معنى لإعادة القول فيه، وأما قوله : إن من اشترى ما يكال أو يوزن فباع بعضه إنه لا بأس أن يبيع ما بقي مرابحة ولا يبين، فهو مثل ما في المدونة، وعلى ما ذهب إليه ابن عبدوس من أن الجملة قد يزاد فيها لا يجوز بيع الباقي أيضا إلا أن يبين، وبالله التوفيق.
ومن كتاب باع شاة
وسألته : عن الرجل يستولي الرجل السلعة فيقول : قد وليتك فيقول كم رأس مالك؟ فيقول ديناران فيعطيه دينارين ويأخذ السلعة، ثم يعثر عليه أنه ما أخذها إلا بدينار وقد فاتت السلعة أو لم تفت، أو قال له: قد وليتكها بدينارين، أذلك كله سواء، افترق الكلام فيه أو لم يفترق؟ أو الرجل يبيع مرابحة فيزيد في رأس ماله أو يقول : أبيعك كما بعت فلانا فيبيعه على ذلك فيجده قد كذب وقد فاتت السلعة أو لم تفت؟ قال ابن القاسم : إن لم تفت السلعة فهو بالخيار إن شاء حبسها بالدينارين وإن شاء ردها وإن فاتت نظر إلى قيمتها، فإن كانت قيمتها أدنى من دينارين

(8/381)


رد عليه ما بين قيمتها والدينارين، وإن كانت قيمتها دينارين فأكثر فلا شيء عليه، وسواء قال : وليتك ثم سأله بعد ذلك عن رأس ماله فأخبره أو قال له : قد وليتك بدينارين في كلمة واحدة، والكذب وبيع المرابحة كله سواء مثل هذا من أجل أنه لو قال : قد وليتك وقد وجبت عليك لم يحل ولم تلزمه التولية حتى يخبره برأس ماله ويرضى، فإنما كان البيع والوجوب حين أخبره برأس ماله، فسواء عليه قدم القول أو أخر.
قال مجمد بن رشد: هذا بين على ما قال، لا فرق بين أن يبيع السلعة مرابحة على أكثر من شرائها، أو يوليها على أكثر من شرائها، أو يقول : أبيعك كما بعت فلانا فيبيعه بأكثر من ذلك، إن الحكم في ذلك كله حكم من زاد في الثمن في بيع المرابحة بخط أو عمد، إن كانت السلعة قائمة كان المشتري بالخيار بين أن يرد أو يمسك إلا أن يحط عنه البائع الكذب وما ينوبه من الربح في المرابحة، أو ما زاد على الثمن في التولية، أو ما زاد على ما كان باع به من فلان، فيلزمه البيع؛ فإن فاتت أو أبى أن يحط ذلك كانت فيها القيمة ما بين الأمرين، لا يزاد البائع على ما باع ولا ينقص المبتاع من الثمن الصحيح، وبالله التوفيق.
من سماع يحيى بن يحيى [من ابن القاسم]، من كتاب الصلاة
قال يحيى: قال ابن القاسم : لا يجوز للرجل إذا اشترى طعاما بعينه غائبا عنه غيبة قريبة أن يولي منه أخر، وإنما تجوز التولية في الطعام الحاضر يراه المولي أو من تسليف مضمون إلى

(8/382)


أجل. قلت له: أرأيت إن كان المتولي قد رأى الطعام الغائب كما رآه المشتري المولي أو وصف له كما وصف للمشتري، أذلك عندك في الكراهة مثل الذي لم يره ولم يوصف له إلا أنه يتولاه من المشتري على معرفة المشتري به؟ قال: ذلك عندنا سواء، لا تجوز التولية من الطعام الغائب.
قال محمد بن رشد: إنما لم تجز التولية في الطعام الغائب المشترى في الصفة لاختلاف الذمم ؛ لأن المشتري لم ينقد، إذ لا يجوز له النقد لغيبة الطعام ؛ لأن معنى قوله غيبة قريبة مما [لا] يجوز النقد فيه. وكذلك ذكر ابن حبيب في الواضحة أنه لا يجوز التولية إذا كانت غيبة بعيدة لا يصلح فيها النقد، أو يكون إنما تكلم في هذه الرواية على أن النقد لا يجوز في الغائب وإن قربت غيبته، وهذا التأويل أشبه بظاهر الكتاب، ثم لما ولاه رجلا لم ينتقد الثمن، والاختلاف الذي في مسألة من اشترى طعاما بثمن إلى أجل فولاه رجلا قبل استيفائه داخل في هذه المسألة، والله أعلم، وقد وقع في التفسير الأول.
مسألة
قال : وسألت ابن القاسم عما كره مالك من تولية الطعام الغائب الذي اشتري بعينه لم كرهه؟ فقال: لأن الدين بالدين يدخله، ألا ترى أنه قد وجب للمشتري وصار أحق به من البائع إن سلم، فهو بمنزلة دين له قد وجب، فإذا ولاه رجلا لم يجز النقد فيه ؛ لأنه غائب بعينه، واشتراء الغائب لا يصلح فيه النقد، فإذا صار يبيع غائبا قد وجب له بثمن لا يتعجل قبضه فقد صار

(8/383)


بيعمها دينا بدين ، قال: وكذلك لو استقال منه يدخله الدين بالدين، لأنه قد وضع عن نفسه ثمنا قد وجب عليه بسلعة قد وجبت له غائبة لم يقبضها، فإذا لم يجز له أن يقبل منه ودخله الدين بالدين، فالتولية أحرى أن يدخلها الدين بالدين، وكذلك البيع قال فلا يجوز بين البائع والمشتري في ذلك إقالة ولا بيع في العروض ولا في الطعام لما يدخله من الدين بالدين وبيع الطعام قبل أن يستوفى في الطعام؛ قال: ولا بأس في العروض أن يبيعها المشتري أو يوليها أو يشرك فيها، وإنما يكره ذلك في الطعام لما يدخله من بيع الطعام قبل أن يستوفى.
قال محمد بن رشد: هذا الذي وقع في التفسير متناقض غير صحيح: قال أولا : إن تولية الطعام الغائب المشترى على الصفة يدخله الدين بالدين من أجل أن الطعام قد وجب للمشتري وهو غائب فصار دينا له باعه من الذي ولاه إياه بدين، إذا لم ينتقد من أجل أن النقد لا يجوز فيه ؛ لأنه غائب. ولو كان هذا دينا بدين لكان بيع الرجل سلعته الغائبة دينا بدين، فلم يجز بيع الشيء الغائب الذي لا يجوز النقد فيه بحال، ولو كان دينا بدين لوجب ألا يجوز ذلك في العروض، وقد أجاز ذلك فيها في آخر قوله، وأجاز فيها الشركة والبيع أيضا، قال: وإنما لم يجز ذلك في الطعام لما يدخله من بيع الطعام قبل أن يستوفى، وهذا تناقض بين لا خفاء فيه: قال أولا: إنه يدخله الدين بالدين، وقال أخرا : إنه لا يدخله إلا بيع الطعام قبل أن يستوفى، ولا يتصور دخول بيع الطعام قبل أن يستوفي فيها إلا على الوجه الذي ذكرناه من اختلاف الذمم، وقوله : إذا لم تجز الإقالة فأحرى ألا تجوز التولية وهم بين ؛ لأن الإقالة يدخلها فسخ الدين بالدين من أجل أن الثمن قد وجب للبائع على المبتاع إن كانت السلعة سليمة يوم البيع، فإذا أقاله منها فقد قبض البائع فيما وجب له على المبتاع من الثمن سلعة غائبة لم يتنجز قبضها، وهذا بين لا إشكال فيه على القول بأن السلعة الغائبة

(8/384)


تدخل في ضمان المشتري بالعقد إن كانت سليمة يوم وقوعه ، وأما على القول بأنها في ضمان البائع حتى يقبضها المبتاع ، فسحنون يجيز الإقالة فيها ؛ لأن البائع لم يتحول من الثمن الذي وجب له على المبتاع إلا إلى سلعة هي في ضمانه بعد ، فقد تنجز قبضها ، وابن القاسم لا يجيز ذلك ؛ إذ ليس في ضمانه باتفاق ، فهو يراعي في ذلك الاختلاف ، والتولية لا يدخلها شيء من ذلك ؛ لأنها إنما هي بيع من غير الذي اشترى منه بالثمن الذي اشترى به ، فكما يجوز له أن يبيع العرض الغائب من غير الذي اشتراه منه قبل أن يقبضه ، فكذلك يجوز له أن يولي الطعام الغائب قبل أن يقبضه إذا انتقد من الذي ولاه مثل ما نقد ، فلا وجه لما كره مالك من تولية الطعام الغائب سوى ما ذكرناه ، وبالله التوفيق .
من نوازل سئل عنها سحنون
وسئل سحنون عن رجل أراد أن يشتري سلعة مرابحة ، فقال للبائع : بكم اشتريتها ؟ فقال : اشتريتها بستة عشر ، ولم يقل : قامت علي ، وإنما كان اشتراها بثمانية ، وصبغها بثمانية ، ثم علم بذلك المشتري ، فقال : إن كانت السلعة لم تفت ، فإن المشتري بالخيار أن يأخذها ويضرب له الربح على ستة عشر فيها وبين أن يردها ، فإن كانت قد فاتت فلا بد من أن يضرب له الربح على ستة عشر درهما .
قال محمد بن رشد : هذه مسألة لم يجر فيها سحنون على أصل ؛ لأنه إذا أوجب عليه أن يبين ذلك ورآه إن لم يفعل غاشا من أجل أن السلعة قد تشترى مقامة تامة بما لا تقام به ، فأوجب للمبتاع الخيار بين الرد والإمساك في القيام ، وجب على قياس ذلك إذا فاتت السلعة أن

(8/385)


يرد المبتاع فيها إلى القيمة إن كانت أقل من الثمن . وفي قوله : ولم يقل : قامت علي ؛ دليل على أنه لو قال قامت علي لم يكن للمشتري حجة وعمل فيه على ما يجب من ألا يحسب رأسا أو يحسب ولا يحسب له ربح ، أو يحسب ويحسب له ربح على ما في كتاب ابن المواز ، والصواب أن العقد يكون فاسدا إذا أبهم ولم يبين ، وبالله التوفيق .
من سماع أصبغ بن الفرج من ابن القاسم من كتاب الوصايا والأقضية
قال أصبغ : سمعت ابن القاسم يقول : وسئل مالك عيب رجل اشترى بدينار قائم قمحا ، فلما وجب البيع لم يجد إلا دينارا ناقصا ، فأراد أن يضع بقدر النقصان ، ويأخذ منه دينارا ناقصا ، فكره ذلك .
قال محمد بن رشد : هذه مسألة قد مضت في مواضع من كتاب الصرف ، قال فيها في رسم القبلة ، من سماع ابن القاسم : لا ينبغي ذلك ، وقال في رسم المحرم منه : لا خير في ذلك ، وقال في رسم إن خرجت ، من سماع عيسى : هذا حرام لا خير فيه ، وقال هاهنا : أكره ذلك ، والمكروه فيها بين ، وقد يتجوز في العبارة فيعبر عما لا يجوز والتحريم فيه بين بالكراهة . وقال ابن حبيب : إنه يدخل ذلك أربعة أوجه : التفاضل بين الذهبين ، والتفاضل بين الطعامين ، وبيع الطعام قبل أن يستوفى ، والأخذ من ثمن الطعام طعاما ، يريد إن كان الطعام قد قبضه المبتاع وافترقا .
وأما إن قبضه ولم يفترقا فلا يدخله الأخذ من ثمن الطعام طعاما ، ولا بيع الطعام قبل أن يستوفى . والعلتان الثابتتان إنما هو التفاضل بين الذهبين وبين الطعامين ، وأما الاقتضاء من ثمن الطعام طعاما ، والبيع قبل الاستيفاء ، فلا

(8/386)


يجتمعان ؛ لأن الطعام إن كان قبض ، فلا يدخله البيع قبل الاستيفاء ، وإن كان لم يقبض ، فلا يدخله الاقتضاء من ثمن الطعام طعاما ، وإن كان قد قبض ولم يفترقا فلا يدخله واحدة منهما ، وقد ذكرنا ذلك كله في رسم القبلة ، من سماع ابن القاسم ، من كتاب الصرف ، بزيادات تتعلق بالمسألة لمن أحب الوقوف عليها ، وبالله التوفيق .
من سماع أبي زيد بن
أبي الغمر من ابن القاسم
قال أبو زيد : قال ابن القاسم في رجل اشترى من عبده جاريه ، أترى أن يبيعها مرابحة ؟ قال : إن كان العبد يعمل بمال نفسه فلا بأس به ، وإن كان يعمل بمال سيده ، فلا خير فيه .
قال محمد بن رشد : أما إذا كان العبد يعمل بمال سيده ، فبين أنه لا يجوز له أن يبيعها مرابحة ؛ لأن شراءها منه ليس بشراء ، فهو كمن ورث سلعة ، ثم باعها مرابحة بثمن سماه فيها ، فإن فعل ذلك وكانت السلعة قائمة خير المشتري بين الرد أو التماسك ، وإن فاتت رد فيها إلى القيمة إن كانت أقل من الثمن ؛ لأنه غش وخديعة في البيع ، وأما إذا كان العبد يعمل بمال نفسه فقال : إنه لا بأس أن يبيعها مرابحة على أصل المذهب في أن العبد يملك ، وفي ذلك نظر ؛ لأنه لا يملك ملكا مستقرا ، ولسيده انتزاع ماله إذا شاء ، فقد لا يبالي السيد بما يشتري منه الجارية من أجل أن له أن ينتزع منه ماله متى شاء ، فكان الأظهر أن يكون عليه أن يبين ، والله أعلم .
مسألة
وسئل ابن القاسم عن رجل قامت عليه سلعة بعشرة

(8/387)


دنانير فقال له رجل : أربحك فيها دينارا ، قال : لا إلا أن تشرك فلانا يكون معك فيها شريكا ، كم يأخذ من هذا ؟ قال : يأخذ من كل واحد منهما خمسة ونصفا .
قال محمد بن رشد : هذا بين على ما قال ؛ لأنه لما شرط عليه أن يشركه قبل البيع فكأنه إنما باع منهما جميعا ، فيأخذ من كل واحد منها نصف الثمن .
تم كتاب المرابحة والحمد لله .

(8/388)