البيان
والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة
كتاب بيع الخيار
(8/389)
بسم الله
الرحمن الرحيم
صلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم
من سماع ابن القاسم من كتاب
الرطب باليابس
قال سحنون : أخبرني ابن القاسم عن مالك أنه
قال في الرجل يشتري من الرجل ثوبا ، ثم يشتري
من رجل آخر ثوبا ، ثم يشترط عليهما أن ينظر
منهما فينقلب بثوبيهما فيخلطهما ، فلا يعرف
ثوب هذا من ثوب هذا ، وينكر أحدهما أو كلاهما
، قال : أرى أن يلزماه بالثمن إلا أن يعرف ثوب
كل واحد منهما بعينه ، فيحلف ويرده ، أو يعرفه
غيره .
قال محمد بن رشد : قوله : وينكر أحدهما ؛
معناه أن يقول أحدهما : ليس ثوبي واحدا من
هذين الثوبين ، ويدعي الآخر أحدهما ، وقوله :
أو كلاهما ؛ معناه أن يقول كل واحد منهما :
ليس ثوبي واحدا من هذين الثوبين اللذين جئت
بهما . فأما إذا أنكر كل واحد منهما أن يكون
له واحد من هذين الثوبين ، فعليه أجاب بقوله :
أرى أن يلزماه بالثمن ، يريد بعد أن يحلف كل
واحد منهما أن ثوبه ليس واحدا من هذين الثوبين
، فإن حلفا أخذ
(8/391)
الثوبين وأدى
إلى كل واحد منهما الثمن الذي أخذ به ثوبه ،
وإن نكلا عن اليمين حلف هو أن الثوبين هما
اللذان أخذ منها إلا أنه لا يعرف أيهما لهذا ،
ولا أيهما لهذا ، وبرئ لهما من الثوبين ،
فكانا فيهما شريكين بقدر أثمان ثيابهما ، فإن
حلف أحدهما ونكل الآخر عن اليمين ، دفع إلى
الذي حلف الثمن الذي أخذ به ثوبه ، وحلف أن
هذين الثوبين هما اللذان أخذ منهما ، وقيل
للذي نكل عن اليمين : ليس لك إلا أن تأخذ
أيهما شئت .
وأما إذا أنكر أحدهما أن يكون ثوبه واحدا من
هذين الثوبين ، وادعى الآخر أحدهما ، فلم يجب
في الرواية على ذلك ، والجواب في ذلك أن يغرم
للذي أنكر الثمن الذي أخذ به ثوبه ، ويأخذ
الذي ادعى أحد الثوبين الثوب الذي ادعاه ، ولا
يمين على واحد منهم .
هذا تمام جواب ما وقع عنه في المسألة ، وسيأتي
في رسم يشتري الدور والمزارع ، من سماع يحيى
إذا تداعيا جميعا في أحدهما ، وأما إن قال كل
واحد منهما : لا أدري أيهما ثوبي ؛ لأنك
خلطتهما ، فيحلف كل واحد منهما أنه ما يدري
أيهما ثوبه ، ويأخذ منه الثمن الذي دفع إليه
به ثوبه ، وأما إن قال أحدهما : هذا ثوبي
لأحدهما ، وقال الآخر : لا أدري أيهما ثوبي ،
أخذ الذي عرف ثوبه ثوبه ، وحلف الآخر أنه لا
يدري أيهما ثوبه ، وأخذ منه الثمن الذي دفعه
به إليه ، وبالله التوفيق .
من سماع عيسى بن دينار من كتاب العرية
قال عيسى : وسألته عن الذي يأتي البزاز في
ابتياع ثوب بدينار ، فيخرج إليه ثيابا ، فيأخذ
ثوبين ؛ كلاهما بدينار دينار ، فيقول البزاز :
اذهب بهما وقد وجب عليك أحدهما ، فيذهب بهما
فيضيع الثوب الواحد ، ويزعم أنه قد كان اختار
هذا الباقي ورضيه ، أو قال : لم أكن اخترت
شيئا . قال : إن قال : قد كنت اخترت هذا
الباقي ورضيته ، أحلف بالله على ما قال ، وسقط
عنه ضمان الذاهب ؛
(8/392)
لأنه كان أمينا
.
وإن قال : لم أكن اخترت شيئا ؛ فإنه يتهم ولا
يقبل قوله ، فأرى أن يغرم نصف الثوب الذاهب ؛
لأنه لو ذهب الثوبان جميعا ، وادعى أنه لم
يختر ؛ لم يصدق ، وكان ضامنا لنصف كل ثوب ؛
لأنه كان أمينا في نصف كل ثوب ؛ فكل من اشترى
على أن يستشير ، أو على أنه بالخيار ، فغاب
عليه ، فذهب فهو ضامن ، قلت : فلو كان أخذ
ثوبين بيعا حراما أحدهما بدينار ، والآخر
بدينارين ، قد وجب عليه أحدهما ، فضاع أحد
الثوبين ، قال : العمل فيهما أيضا كذلك ؛ لأن
كل من اشترى بيعا حراما فهو ضامن له حتى يرده
، إنما يضمن في ذلك أيضا واحدا .
قال محمد بن رشد : مذهب ابن القاسم فيمن أخذ
ثوبين على أن يختار أحدهما ، قد وجب عليه بثمن
سماه ، ويرد الآخر أنه ضامن لأحدهما بالثمن
الذي سماه إن تلفا جميعا قبل أن يختار أحدهما
، وضامن لنصف التالف منهما إن تلف أحدهما قبل
أن يختار أيضا ، وسواء قامت بينة على ما تلف ،
أو لم تقم هو مصدق في ذلك ؛ لأنه أخذ واحدا
منهما على الشراء ، والآخر على الأمانة ، إلا
أن يقر على نفسه أنه كان اختار الذي تلف ، وإن
أشهد أنه قد اختار أحدهما ثم تلف الآخر بعد
ذلك ، فلا ضمان عليه فيه .
وقول ابن القاسم في هذه الرواية : إنه مصدق مع
يمينه ؛ على أنه قد كان اختار هذا الثاني قبل
تلف الآخر ، هو مثل قوله وروايته عن مالك في
الرجل يملك امرأته أمرها ؛ فتقول : قضيت فيما
ملكتني ، ويناكرها ذلك : إن القول قولها خلاف
قول أشهب ، وقد ذكر في المدونة أنها نزلت
فاختلف فيها أهل المدينة ، ومن هذا المعنى هو
تصديق المأمور فيما أمره به الآمر من إخلاء
ذمته ، أو تعمير ذمة الآمر ، فذهب أشهب إلى أن
المأمور لا يصدق في ذلك ، وجوابه في مسألة
المرأة تدعي أنها قضت فيما ملكت فيه على أصله
.
واختلف قول ابن القاسم في ذلك ، فجوابه في
مسألة المرأة المملكة ؛ تدعي
(8/393)
القضاء ، وفي
هذه المسألة على أحد قوليه في هذا الأصل ، من
ذلك قوله في كتاب السلم الثاني ، من المدونة ،
فيمن له على رجل طعام من سلم ، فقال له : كله
واجعله في غرائرك ، أو في ناحية من بيتك ،
فقال : قد فعلت وضاع : إنه لا يصدق على أنه قد
كاله ، حتى يقيم البينة على ذلك ؛ وقال فيمن
كان له على رجل دين فقال : ابتع لي به حيوانا
أو سلعة فقال : قد فعلت وتلف ذلك : إنه مصدق
في ذلك ، وذلك مثل قوله في مسألة اللؤلؤ ، من
كتاب الوكالات من المدونة ، ومثل قوله في
مسألة الرسول ، من كتاب الرواحل والدواب ،
ومثل قوله في مسألة البنيان ، من آخر كتاب
الدور خلاف قول أشهب فيهما .
وأما قوله : وإن قال : لم أكن اخترت شيئا ،
فإنه يتهم ولا يقبل قوله ، فأرى أن يغرم نصف
الثوب الذاهب ؛ لأنه لو ذهب الثوبان جميعا
وادعى أنه لم يختر لم يصدق ، وكان ضامنا لنصف
ثوب كل واحد منهما ؛ لأنه كان أمينا في نصف كل
ثوب ، فإنه وهم منه ؛ لأنه إنما يضمن الواحد
إذا تلفا جميعا ، ونصف التالف إن تلف أحدهما
على مذهبه ، من أجل أنه أخذ الثوب الواحد على
الشراء والضمان ، والآخر على الأمانة ؛ فلا
معنى للتهمة في هذا الموضع عنده ، وإنما ذهب
وهمه إلى مسألة الذي يشتري الثوب من الثوبين ،
على أن يختار أحدهما ، وهو فيه بالخيار يردهما
جميعا إن شاء ، فهاهنا يضمن بالتهمة ، ولا
يصدق أن التلف كان بعد أن لم يختر واحدا منهما
، وكان على صرفهما ، ولو كان الضمان ساقطا عنه
فيما تلف قبل أن يختار ؛ لوجب أن يصدق في ذلك
، وسقط عنه الضمان على قياس قوله في أنه يصدق
إذا ادعى أنه قد كان اختار هذا الباقي ، فهذا
ما لا إشكال فيه .
وسحنون يذهب إلى أن ما تلف في هذه المسألة قبل
الاختيار ، وقامت على تلفه بينة ، فالمصيبة
فيه من البائع ، بمنزلة الثوب المشترى بالخيار
يضيع في أيام الخيار ؛ لأنه جعل ذلك ، وإن كان
قد وجب على المبتاع أحدهما بمنزلة من اشترى
شيئا على الكيل ، فتلف قبل الكيل ، يقوم ذلك
من قوله في المدونة ؛
(8/394)
ومعناه إن تلف
الدينار لم يعلم إلا بقوله في مسألة الذي أخذ
ثلاثة دنانير ليقتضي واحدا منها ، ويرد
الاثنين ، فتلف أحدهما : إنهما شريكان ، وسواء
- على مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك - علم
تلف الدينار ببينة قامت على التلف ، أو لم
يعلم ذلك إلا بقوله ، وبالله التوفيق .
ومن كتاب جاع فباع امرأته
وسألته عن رجل باع سلعة ، وادعى البائع أو
المبتاع فيها الخيار ، قال : يلزمهما البيع ،
وقولهما باطل ، وقال أصبغ عن ابن القاسم مثله
.
قال محمد بن رشد : هكذا وقع في هذه الرواية ،
وادعى البائع أو المبتاع ، وسقط الألف في أصل
السماع ، وكذلك هي ساقطة في سماع أصبغ ، وفي
سماع أبي زيد ، وثبوتها وهم ؛ إذ لا يأتي على
ثبوتها الجواب ، وذيل أصبغ في سماعه بعد هذا
روايته هذه ، عن ابن القاسم بكلام فيه إشكال ،
وسيأتي الكلام على هذه المسألة في ذلك الموضع
إن شاء الله ، وبالله التوفيق .
من سماع يحيى بن يحيى من
ابن القاسم من كتاب يشتري الدور للتجارة
قال : وسئل ابن القاسم عن الرجل يأخذ الثوبين
من الرجلين ؛ ثوب أحدهما بعشرة ، والآخر بخمسة
، على أنه فيهما
(8/395)
بالخيار ،
فردهما وقد خلطهما ، فتداعيا في الأجود ، فقال
: إن نص لكل واحد منهما ثوبه حلف وبرئ إليه
منه ، وإن قال : لا أدري أيهما لهذا ، ولا
أيهما لهذا ، غير أن هذا لأحدهما ، إنما أخذت
ثوب هذا بعشرة ، وثوب الآخر بخمسة ، نصهما نصا
، ولست أدري أي الثوبين ثوب هذا من ثوب هذا ،
فإنه يقال له : قد ضمنتهما جميعا بخمسة عشر
دينارا ، فإن شئت فادفع إلى أحدهما أيهما شئت
الثوب الرفيع ، وأعط الآخر ثمن الثوب الذي
أقررت به ، فإن أعطى الثوب الرفيع الذي كان
يزعم أنه أخذ منه ثوبه بعشرة ، دفع إلى الآخر
خمسة دنانير وبرئ ، فإن أعطى الثوب الرفيع
الذي أخذ ثوبه بخمسة احتياطا على نفسه ، وخوفا
من أن يكون ثوبه ، غرم لصاحب الثوب الآخر
العشرة التي أقر أنه أخذ ثوبه بها . قال : وإن
قال : لا أدري أيهما ثوب هذا ، ولا ثوب هذا ،
ولا أدري أيهما أخذت ثوبه بخمسة ، قيل له :
اغرم إلى كل واحد منهما عشرة ، وشأنك بثوبيك ؛
لأنك قد أقررت أنك قد أخذت من أحدهما ثوبا
بعشرة ، فلما ادعياه جميعا ، ولم تنص لأحد
منهما ثوبه ، فتبرأ بذلك من ضمانه باليمين ،
ولا أنت نصصت كل واحد منهما في دعواهما حتى
يجعل صاحب الخمسة أحدهما ، فتبرا مما ادعى
عليك من الفضل مع يمينك ، فكلا دعواهما في
عشرة عشرةٍ ، وأنت غير مكذب لهما ؛ إذ لا تنص
أيهما ادعى أكثر من حقه فتحلف وتبرأ .
قال محمد بن رشد : قوله : إنه إذا نص لكل واحد
منهما ثوبه ، يحلف ويبرأ إليه منه صحيح ؛ لأنه
مؤتمن لكل واحد منهما ، فالقول
(8/396)
قوله فيما يقر
أنه قبض منه ، فإن نكل عن اليمين حلف كل واحد
منهما ، وأخذ منه ما دفع إليه به ثوبه ، وأما
إذا تداعيا في الأجود ، ولم يعلم المشتري لمن
هو منهما ، وعلم بما دفع إليه كل واحد منهما
ثوبه ، فقال : إنه يضمن الثوبين بالثمنين ،
ويكون له أن يعطي الثوب الأجود لمن شاء منهما
، ويعطي الآخر ما أقر أنه دفع إليه به ثوبه
بعد يمينه ، وإن نكل عن يمينه حلف الآخر وأخذ
منه عشرة .
وقال : إنه إذا لم يعلم لمن هو منهما ، ولا
علم ثوب من كان منهما أكثر ثمنا من ثوب الآخر
؛ أنه يضمنهما جميعا ، ويعطي لكل واحد منهما
أكثر الثمنين ، ولم يقل : إن له أن يعطي الثوب
الأجود لمن شاء منهما ، كما قال في المسألة
الأولى ، ولا فرق بين المسألتين .
له أيضا إن شاء أن يعطي الثوب الجيد لمن شاء
منهما ، ويعطي الآخر الأكثر من الثمنين ، ولا
حجة لواحد منهما في ذلك عليه ؛ لأن كل واحد
منهما يدعي أن الثوب الجيد ثوبه ، فإذا أعطاه
إياه لزمه ، وإن أعطى الآخر أكثر الثمنين لزمه
أيضا ، ولم يكن له كلام .
ولابن كنانة في المدنية أنهما إذا تداعيا في
أحدهما ، وجهل لمن هو منهما ، يحلفان جميعا
على الثوب الذي تداعيا فيه ، ويقتسمانه فيما
بينهما ، فإن حلف أحدهما ونكل الآخر ؛ كان
الثوب لمن حلف منهما ، وقد برياه من الثوب
الآخر ، فليذهب به حتى يطلب على وجهه .
وسحنون في نوازله من كتاب القراض ، في الذي
يأخذ من الرجلين مالا قراضا ، ويشتري بمال كل
واحد منهما سلعة في إحداهما ربح ، وفي الثانية
وضيعة ، فتداعى صاحبا المال في السلعة التي
فيها الربح ، وجهل هو بمال من اشتراها منهما ،
أنه لا ضمان عليه لهما ، وتكون السلعة التي
تداعيا فيها بينهما بعد أيمانهما ، وذلك نحو
قول ابن كنانة ، وقول ابن القاسم في سماع أبي
زيد ، من الكتاب المذكور : إنهما إن شاءا أن
يضمناه أموالهما ، ويتركا له السلعتين ؛ فعلا
، وإن شاءا أن يأخذا السلعتين جميعا ، ويعطي
كل
(8/397)
واحد منهما رأس
ماله ، ويعطي المقارض ربحه ، وهذا على أصله في
هذه المسألة ، وسنتكلم على مسألتي القراض
المذكور في موضعهما إن أعاننا الله على الوصول
إليهما برحمته وفسحته في الأجل ، وهو الموفق .
ومن كتاب المكاتب
قال يحيى : وسئل ابن القاسم عن الرجل يشتري
الغنم ، وفيها شاة بها علة ، فيقول المشتري :
أنا بالخيار في هذه العليلة عشرة أيام ، فإن
صحت فهي لي ، وإن لم تصح رددتها بما يصيبها من
الثمن ، فقال : هذا بيع غير جائز ؛ فقلت له :
ولم ؟ قال : لأنه لو اشترى شاة واحدة عليلة
على أنها له إن صحت إلى عشرة أيام ، وإن لم
تصح ردها لكان بيعا مفسوخا غير جائز . قيل له
: فإنها غير عليلة ، إلا أنه استثنى الخيار في
شاة منها أياما ، فقال : وهذا أيضا غير جائز .
قلت : ولم كرهت هذا ؟ قال : لأنه لو اشترى شاة
، إن حبسها تم البيع بجميع الثمن الذي اشتريت
به الغنم كلها ، وإن ردها بالقيمة ، والقيمة
لا تعرف حتى تقوم الشاة والغنم ، فكأنه لا
يدري إن رد الشاة بكم تبقى عليه الغنم الباقية
، فهي أحيانا بجميع الثمن ، وأحيانا بثمن لا
يدري كم هو .
قال محمد بن رشد : قد بين ابن القاسم وجه فساد
البيع عنده بما لا مزيد عليه من أن المبتاع لا
يدري بكم تبقى عليه الغنم بعد رد الشاة
العليلة بما يصيبها من الثمن إن ردت ، وبأن
الشاة العليلة لا يجوز شراؤها
(8/398)
على أنها إن
صحت إلى عشرة أيام لزمه البيع فيها ، ولا على
أنه فيها بالخيار عشرة أيام ، وإن كانت صحيحة
، يريد من أجل أن الخيار في الشاة لا يجوز إلى
هذا الأمد ، وأحسب أن أبا إسحاق التونسي ذهب
إلى أنه بيع جائز على القول بأن جمع الرجلين
سلعتيهما في البيع جائز ؛ لأن جملة الثمن
معلوم ، وما ينوب كل واحد منهما مجهول ، وكذلك
هذه المسألة ، جملة الثمن فيها معلوم ، وما
ينوب باقي الغنم إن ردت الشاة مجهول ، وليس
ذلك عندي بصحيح ؛ لأن الفساد فيها من وجهين ؛
أحدهما : الجهل بما تبقى به الغنم عليه من
الثمن إن ردت الشاة ، والثاني : هو شراؤه هذه
الشاة العليلة على أنها إن صحت إلى عشرة أيام
لزمه البيع فيها ، وهذا لا اختلاف في أنه لا
يجوز ، وإذا جمعت الصفقة الواحدة ما يجوز وما
لا يجوز لم تجز ، فكيف إذا جمعت ما لا يجوز ،
وما يختلف في جوازه ؟ وإنما كان يجوز هذا
البيع على ذلك المذهب لو اشترى الغنم على أنه
بالخيار في شاة منها اليوم واليومين ، بين أن
يأخذها أو يردها بما ينوبها من الثمن ، أو على
أن البائع يأخذ منها شاة بما ينوبها من الثمن
، وبالله التوفيق .
من سماع سحنون من ابن القاسم
قال سحنون : وقال ابن القاسم : إذا اشترى
الرجل السلعة في الحيوان أو غيره على أنه
بالخيار إلى أربعة أشهر وقبضها ، واشترط عليه
النقد أو لم يشترط عليه فيها نقدا ، فماتت بعد
، فمصيبها من البائع ؛ لأنه وإن كان فاسدا ،
فإن البيع لم يكن تم فيه .
قال محمد بن رشد : هذا بين على ما قال ؛ لأن
البيع الفاسد إنما يدخل في ضمان المشتري
بالقبض إذا لم يكن فيه خيار ، والضمان من
البائع في بيع الخيار إذا كان صحيحا ، فكيف إن
كان فاسدا ، وبالله التوفيق .
(8/399)
ومن كتاب نوازل
سئل عنها سحنون
وعن الرجل يشتري قرية أو دارا ، يشترط البائع
الخيار للمشتري ثلاث سنين أو أربعا مما لا
يجوز فيه الخيار من طول الوقت ، فبنى المشتري
وغير ببناء ، أو غرس في هذه السنين التي جعلا
فيها الخيار ، هل يكون في ذلك فوت ؟ فقال :
إذا كان الخيار للبائع على المشتري ، فلا يكون
ما بنى في الخيار فوتا ولا ما هدم ، والبائع
يرتجعها ، والبيع فيها منقوض . قيل له : فهل
يرجع عليه المشتري بقيمة ما بنى ؟ فقال : لا
يرجع عليه بشيء ؛ لأنه فعل ما لا يجوز له ؛
لأنه لم يكن له ليبني فيها حتى يمضي أمد
الخيار الذي جعلاه بينهما ، ولا يأخذه إلا
منقوضا .
قيل له : فإن بنى بعدما خرج أمد الثلاث التي
جعلا إليها الخيار ؟ قال : يكون هذا الذي بنى
فوتا ، ويرجعان جميعا إلى القيمة يوم خرج وقت
الخيار ، وقال : وكذلك إن اشترى جارية بالخيار
أياما ، يجوز له ، واشترط النقد ثم لم يعلم
بمكروه ذلك حتى خرجت أيام الخيار ، وحتى فاتت
الجارية بنماء أو نقصان ، إنما يرجعان إلى
قيمتها يوم خرجت أيام الخيار ؛ لأنه كان له
حينئذ صار ضامنا ، وكذلك تكون المصيبة من
البائع حتى تمضي أيام الخيار ؛ لأنه أدخل في
الخيار شرطا يفسد البيع باشتراط النقد .
قال محمد بن رشد : هذا كله صحيح بين على ما
قال في المدونة وغيرها : إن الخيار إذا كان
للبائع والبيع فاسد إما بشرط النقد فيه ، وإما
بأن
(8/400)
يكون أمده
بعيدا ، لا يجوز الخيار إليه ، أو بما سوى ذلك
مما يفسد البيع ، فلا يكون ما أحدثه المشتري
في أيام الخيار فوتا في البيع الفاسد ، كما لا
يكون إذا لم يكن في البيع فساد اختيارا منه
للبيع ، ولا يكون له فيما بنى
إلا قيمته منقوضا ؛ لأنه متعد بالبناء فيما لا
خيار له فيه ، وقد قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم : "ليس لعرق ظالم حق" ، وإنما يكون
ذلك تفويتا له إذا فعله بعد انقضاء أيام
الخيار ، وتكون القيمة فيه يوم انقضت أيام
الخيار ؛ لأن بيع الخيار إنما يتم حين يمضي لا
حين يعقد ، وبالله التوفيق .
مسألة
وسئل عن رجل باع من رجل جارية ، فلم يقبض منه
الثمن ، وخرج في سفر ، وقد كان المشتري
بالخيار ثلاثا ، فمرضت الجارية فلم يأت
السلطان ، ولم يشهد أنه لا يريد أخذ الجارية
حتى ماتت بعد عشرة أيام ، قال ابن القاسم :
إذا قبض المشتري الجارية والخيار له ، ثم
أقامت في يديه بعد وقت الخيار ، ولم يشهد على
القبول ولا الرد ؛ أن كونها في يديه رضا منه
بها . قال سحنون : وهذا في وخش الرقيق .
قال محمد بن رشد : هذا مثل ما في المدونة
وغيرها من أن السلع المبيعة بالخيار إذا كانت
بيد المبتاع والخيار له ، فلم يردها حتى مضت
أيام الخيار ، ولا أشهد على ردها ، فقد لزمته
ودخلت في ضمانه بانقضاء أيام الخيار ، كما
أنها إذا كانت بيد البائع والخيار له حتى
انقضت أيام الخيار ، ولم يشهد على إمضائها ،
فقد بطل البيع وبقيت ملكا له ، وقول سحنون :
وهذا في وخش الرقيق صحيح ، يريد إذ لا مواضعة
فيها بعد زوال الخيار ، فيكون الضمان فيها من
البائع ، وبالله التوفيق .
(8/401)
من سماع أصبغ
بن الفرج
من عبد الرحمن بن القاسم
من كتاب القضاء العاشر
قال أصبغ : وسئل ابن القاسم عمن اشترى سلعة ،
فادعى البائع أنه شرط الخيار حين باع ، وادعى
المشتري أنه شرط الخيار حين اشترى ، قال :
البيع بينهما ثابت لازم لهما ، والخيار ساقط
عنهما . قال أصبغ : ويحلفان جميعا ، فإن حلفا
جميعا أو نكلا جميعا فهو ذلك ، فإن حلف واحد
ونكل الآخر ، فالقول قول الحالف مع يمينه ،
ولا أبالي بأيهما بدأ في الحكم باليمين ،
وأعجب إلي أن يبدأ المشتري هاهنا ؛ لأنه كأنه
أوكد في الدعوى ، وكلاهما مدع ، فإن حلف تم له
الأخذ ، وكان البائع بالخيار أن يحلف ويسقط ،
أو لا يحلف فيسلمه ، كما لو تداعيا في الثمن ،
وكان البائع هو المدعى عليه أولا ؛ لأن البيع
قد ثبت ووجب له الأخذ ، فهو يحلف ويتم له حتى
يحلف صاحبه فيسقط ، أو لا يحلف فيعطيه الثمن .
قال محمد بن رشد : قول ابن القاسم البيع
بنيهما ثابت لازم لهما ، والخيار ساقط عنهما ،
معناه بعد يمين الذي أراد إمضاء البيع منهما
أن الخيار كان له دون صاحبه ؛ لأنهما إن
اجتمعا على رد أو إجازة ، فلا تنازع بينهما ،
ولا موضع لليمين ، فإن اختلفا فأراد أحدهما
إمضاء البيع ، وأراد الآخر رده ، فالذي أراد
منهما إمضاء البيع مسقط لدعواه الخيار ؛ إذ لا
يريد الرد به ،
(8/402)
والذي أراد رد
البيع منهما متمسك بدعواه الخيار ؛ لأنه يريد
الرد به ، فرجعت المسألة إلى أنها بمنزلة إذا
ادعى أحدهما أن البيع بت ، وقال الآخر : بل
كان على أن الخيار لي . ومذهب ابن القاسم في
ذلك أن القول قول مدعي البت ؛ لأن الآخر يريد
رد البيع بما يدعي من أن له فيه الخيار ،
فعليه يأتي قوله في رواية أصبغ هذه .
وروى أبو زيد بعد هذا في هذا الكتاب ، ومثله
في سماعه ، من جامع البيوع : أن البيع ينتقض
ولا يقبل دعوى البائع ولا المشتري ، ومعناه
أيضا بعد يمين الذي أراد الرد منهما أن الخيار
كان له دون صاحبه ؛ لأنهما إن اجتمعا أيضا على
رد أو إجازة ، فلا تنازع بينهما ، وإن أراد
أحدهما الرد ، والآخر الإجازة ، فقد رجعت
المسألة إلى أنها بمنزلة إذا ادعى أحدهما أن
البيع كان بيع بت ، وقال الآخر : بل كان على
أن لي الخيار حسبما بيناه ، ومذهب أشهب في ذلك
أن القول قول مدعي الخيار ، فرواية أبي زيد
هذه على قول أشهب في هذه المسألة ، ورواية
أصبغ وعيسى المتقدمة على قول ابن القاسم فيها
، فهي أصلها .
وقول أصبغ : ويحلفان جميعا إنما معناه إذا لم
تنقض أيام الخيار ، وأراد كل واحد منهما أن
يوجب لنفسه الرأي والنظر إلى انقضاء أيام
الخيار دون صاحبه ، فإن حلفا جميعا ، أو نكلا
جميعا سقط خيار كل واحد منهما ، ولزمه البيع
على مذهب ابن القاسم في المسألة التي ذكرنا
أنها أصل هذه المسألة ، وثبت الخيار لكل واحد
منهما على مذهب أشهب فيها . ورواية أبي زيد في
هذه المسألة أن البيع ينتقض حسبما بيناه ، وإن
حلف أحدهما ونكل الآخر ثبت الخيار للحالف
منهما دون صاحبه ، وكان له الارتياء والنظر
إلى انقضاء أيام الخيار .
وأما إذا انقضت أيام الخيار ، فإنما يحلف
أحدهما ، إما الذي يريد إمضاء البيع على رواية
أصبغ ، وهي رواية عيسى المتقدمة ؛ لأن الألف
فيها وهم حسبما ذكرناه ؛ وإما الذي يريد رده
على رواية أبي زيد التي ذكرنا على أصل مذهب
أشهب ، فإن نكل
(8/403)
حلف الآخر على
حكم المدعي والمدعى عليه ، ولا يتصور أن يحلفا
جميعا على حكم المتداعيين ، إلا إذا كانت أيام
الخيار لم تنقض حسبما بيناه ، فهو وجه القول
في هذه المسألة ، ومعنى قول أصبغ فيها ، وقد
كان الشيوخ يعترضونه ويقولون : إنه لا وجه له
يصح ، وإن تنظيره هذه المسألة باختلاف
المتبايعين تنظير فاسد ، وبالله تعالى التوفيق
.
من سماع أبي زيد بن أبي الغمر من ابن القاسم
قال أبو زيد : قال عبد الرحمن بن القاسم في
رجل باع سلعة ، فقال البائع : بعتك وأنا
بالخيار ، ولست أنت بالخيار ، وقال المشتري :
اشتريت منك بالخيار ، ولست أنت بالخيار ، قال
: ينتقض البيع ، ولا أقبل دعوى البائع ولا
المشتري .
قال محمد بن رشد : قوله : ينتقض البيع ؛ معناه
بعد يمين الذي أراد الرد إذا لم يتفقا على رد
ولا إجازة ، حسبما ذكرناه قبل هذا في سماع
أصبغ ، وبينا أنه يأتي على مذهب أشهب . وقوله
: ولا يقبل دعوى البائع ، ولا المشتري ؛ صحيح
لأن أيام الخيار إذا كانت لم تنقض ، فليس
أحدهما أحق من صاحبه بأن يكون القول قوله ،
والحكم في ذلك أن يحلفا جميعا ، ويثبت الخيار
لكل واحد منهما على قوله في هذه الرواية ،
وقياس قول أشهب . وإن كانت قد انقضت ، ولم
يتفقا على رد ولا إجازة ، حلف الذي أراد الرد
، ورد على هذه الرواية خلاف رواية أصبغ
المتقدمة .
مسألة
قال : ولا بأس بالفقع بالقمح .
قال محمد بن رشد : يحتمل أن يريد بالفقع شراب
الفقع الذي
(8/404)
كان يعمل في
الأعراس ، وروي عن مالك : أنه كره شربه ، إلا
أن يكون الذي يعمله مأمونا في دينه . وقال ابن
وهب : هو حلال لا بأس به ، قد شربه السلف
وأجازوه ، ورأيت الليث بن سعيد يشربه كثيرا
ويجيزه ، ويقول : ليس من الخليطين في شيء ،
ولا يدخل تحت النهي .
وقال سحنون وأصبغ : لا بأس به ، ومن كرهه إنما
كرهه من جهة الطب ، لا من جهة العلم ، وهو
عندي من الحلال البين ، وهو شراب أصله من
العسل ، ويجعل فيه خمير القمح وأفاوه من الطيب
، وأجاز بيعه بالقمح يدا بيد ، ولم يعتبر بما
فيه من خمير القمح ؛ لكونه يسيرا فيه ،
مستهلكا في حيز اللغو والتبع ، ويحتمل أن يريد
بذلك الذي يتولد في زمان الربيع في أصول الشجر
والمواضع الرطبة ، ويأكله النساء وبعض الناس
نيئا ومشويا ، وإن كان أراد ذلك فمعناه أنه لا
بأس به بالقمح يدا بيد أو إلى أجل ؛ لأنه وإن
كان يوكل فأكلا ضعيفا لا يحكم له بحكم الطعام
، والأول أظهر ، والله أعلم ، وبه التوفيق .
تم كتاب الخيار ، والحمد لله .
(8/405)
|