البيان
والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة
كتاب الجعل والإجارة
(8/407)
بسم الله
الرحمن الرحيم
صلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم
من سماع ابن القاسم من مالك
رواية سحنون
من كتاب الرطب باليابس
قال سحنون : حدثني ابن القاسم قال : سمعت
مالكا يقول فيمن استأجر عاملا من العمال : إما
نساجا ، وإما خياطا ، أو ما يشبه ذلك من
الأعمال ، وقد عرف أنه يعمله بيده ، أو اشرط
عليه أنه يعمله بيده ، فسأله أن يقدم له أجرة
، وهو يقول : لا أعمل في عمله إلى شهر ، قال :
إذا كان إنما يعمل بيده فيما يعرف منه ، أو
اشترط ذلك عليه ، فلا يصلح له أن يقدم إليه
أجرة حتى يبدأ في عمله ، فإن بدأ في عمله
فليقدم إليه أجرة إن شاء ، فإن مات قبل أن
يفرغ من عمله أخذ منه بقية رأس ماله على حساب
ما عمل وما استأجره عليه ، ولم يكن له في مال
العامل تمام ذلك العمل استأجره عليه أياما
مسماة ، أو قاطعه عليه مقاطعة .
قال محمد بن رشد : الإجارة على عمل شيء بعينه
، كنسج الغزل وخياطة الثوب تنقسم على قسمين ؛
أحدهما : أن يكون العمل مضمونا في
(8/409)
ذمة الأجير .
والثاني : متعينا في عينه .
فأما إذا كان مضمونا في ذمته ، فلا يجوز إلا
بتعجيل الأجر أو الشروع في العمل ؛ لأنه متى
تأخرا جميعا كان الدين بالدين ، فلا يجوز إلا
تعجيل أحد الطرفين أو تعجيلهما جميعا ، وأما
إذا كان متعينا في عينه ، فيجوز تعجيل الأجر
وتأخيره ، على أن يشرع في العمل ، وإن لم يشرع
في العمل إلى أجل لم يجز النقد إلا عند الشروع
في العمل .
فإن وقعت الإجارة بتصريح على أن العمل في ذمة
الأجير مضمونا عليه مثل أن يقول له : أستأجرك
على خياطة هذا الثوب أو نسج هذا الغزل إجارة
ثابتة في ذمتك ، إن شئت عملته بيدك ، وإن شئت
استعملته غيرك ، وما أشبه ذلك من صريح الألفاظ
، أو متعينا في عينه مثل أن يقول له : أستأجرك
على أن تخيط لي هذا الثوب ، أو تنسج لي هذا
الغزل بنفسك ، وما أشبه ذلك من صريح الألفاظ ؛
كان للمضمون حكم المضمون ، وللمعين حكم المعين
، على ما وصفناه .
وإن لم يقع على تصريح ، وكان اللفظ الذي وقعت
به ظاهره المضمون ، مثل أن يقول له : أعطيك
كذا وكذا على خياطة هذا الثوب ، فلا اختلاف في
أنه يحمل على المضمون ، إلا أن يكون قد عرف
منه أنه يعمله بيده ، أو يكون إنما قصده
بالعمل لرفقه وإحكامه . وأما إن لم يقع على
تصريح ، وكان اللفظ الذي وقعت به ظاهره
التعيين ، مثل أن يقول له : أستأجرك على خياطة
هذا الثوب ، أو على أن تخيطه ، ولا يقول : أنت
، ففي ذلك قولان ؛ أحدهما : أنه محمول على
المضمون ، إلا أن يعلم أنه يعمله بيده ، أو
يكون إنما قصد بالعمل لرفقه وإحكامه ، وهو
ظاهر قول مالك في هذه الرواية ، وحكاه ابن
حبيب في الواضحة ، عن أصبغ ، وقال : إنه مذهب
مالك ، وهو المشهور في المذهب على الذي يأتي
على ما في النذور من المدونة ، وعلى ما في
سماع يحيى ، من كتاب الأيمان بالطلاق ، وعلى
ما في رسم القبلة ، من سماع ابن القاسم ، من
كتاب الرواحل والدواب ، والثاني : أنه محمول
على ظاهر اللفظ من التعيين ، وهو الذي يأتي
على ما في رسم لم يدرك ، من سماع عيسى ، من
كتاب الأيمان بالطلاق .
وتنفسخ الإجارة في المعين بموت الأجير ، ولا
تنفسخ في المضمون بموته ، ويكون العمل في ماله
، أو ما بقي منه ، واختلف هل ينفسخ في الوجهين
جميعا بهلاك المتاع
(8/410)
المستأجر عليه
أم لا ؟ فالمشهور أنها تنفسخ على ما يأتي في
هذا الكتاب ، في رسم المحرم ، من هذا السماع ،
خلاف ما في رسم يشتري الدور والمزارع ، من
سماع يحيى منه .
وقوله : فإن بدأ في عمله ، فليقدم إليه أجره
إن شاء ، يدل على أنه لا يجب عليه تقديم
الأجرة إلا بشرط أو عرف ، فإن لم يكن شرط ولا
عرف لم يلزمه دفع الأجرة إلا بعد تمام العمل ،
قاله في كتاب الجعل والإجارة من المدونة ،
وذلك بخلاف الأكرية .
وقوله : إنه إذا لم يعمل في عمله إلى شهر ،
فلا يجوز أن يقدم إليه إجارته يدل على جواز
الإجارة ، إذا لم يقدم الإجارة ، وهو نحو ما
في كتاب الرواحل والدواب من المدونة ، من أنه
يجوز كراء الراحلة بعينها على أن يركبها إلى
شهر إذا لم ينقد ، وقد قال ابن حبيب : إن من
استأجر أجيرا حرا أو عبدا على أن يشرع في عمله
إلى أيام ، فلا يجوز من ذلك إلا الأيام
القلائل ، مثل الجمعة وما لا يطول ، فيحتمل أن
يكون معنى ذلك مع النقد ، فتتفق الأقوال .
وفي قوله : استأجره عليه أياما مسماة ، أو
قاطعه عليه مقاطعة نظر ؛ لأن من استأجر أجيرا
على شيء بعينه كخياطة ثوب أو نسج غزل أو طحن
قمح وما أشبه ذلك ، مما الفراغ منه معلوم ؛
فلا يجوز أن يستأجره عليه إلى أجل معلوم خوفا
أن ينقضي الأجل قبل تمام العمل ، فإن كان
الأمر في ذلك مشكلا ، فلا اختلاف في أن ذلك لا
يجوز ، وإن كان لا إشكال في أن العمل يمكن
تمامه قبل انقضاء الأجل ، فقد قيل : إن ذلك
جائز ، وهو ظاهر قوله في هذا اللفظ الواقع
هاهنا ، وقول ابن القاسم في سماع عيسى بعد هذا
، في رسم العرية ، ودليل قوله في المدونة في
الذي استأجر ثورا على أن يطحن له كل يوم
إردبين ، فوجده لا يطحن إلا إردبا ، أن له أن
يرده ؛ لأنه جعل له في الإردب الذي طحن ما
ينوبه ، ولم تنفسخ الإجارة ، وهو قول ابن حبيب
في الواضحة ؛ لأنه أجاز فيها أن يشارط المعلم
في تعليم الغلام القرآن على الحدقة ، نظرا أو
ظاهرا ، سميا في ذلك أجلا أو لم يسمياه ،
وعزاه إلى مالك
(8/411)
وحكاه عن أصبغ
، والمشهور أن ذلك لا يجوز كذلك ، قال : وهذا
في هذا السماع ، في رسم سلف ، ورسم المحرم ،
وفي أول سماع أشهب ، وفي غير ما موضع ، ويحتمل
أن يريد بقوله : استأجره عليه أياما مسماة ،
أي استأجره فيه ، وأن يريد به أنه استأجره به
عليه أياما مسماة ، ولا يريد به التعيين له ،
وإنما يريد أنه ضمنها بعمله الأيام المسماة ،
فإن أكمله قبل تمام الأيام استعمله في مثله ،
وبالله التوفيق .
مسألة
وقال مالك فيمن تكارى غلمانا يخيطون الثياب في
كل شهر بشيء مسمى ، وهو يقاضي عليها الناس ،
ويقطعها وهم يخيطون ، فربما طرح على إنسان
منهم شيئا من الثياب ليخيطها في يوم على إن
فرغ منها في يوم أو بعض يوم ، فله بقية يومه
ذلك ، وإن لم يفرغ منها في يومه كان عليه في
يوم آخر لا يحسبه في شهوره . قال : إن كان ذلك
شيئا يسيرا يوما ، وما أشبهه والعمل يعرف أنه
إن اجتهد فيه فرغ منه في يوم ، وإن فرط لم
يفرغ من ذلك ، لم أر بذلك بأسا ، وإن كثر ذلك
، فإني أكرهه .
قال محمد بن رشد : هذا كما قال : إن ذلك خفيف
لا بأس به في اليسير ، ومكروه في الكثير .
والكراهية فيه بينة ؛ لأنه إذا استأجره في
الشهر مثلا بثلاثين درهما ، ثم أعطاه ثيابا
فقال له : إن خطتها في أقل من عشرة أيام
فبقيتها لك ، وإن خطتها في أكثر من عشرة أيام
لم يحسب له في شهوره ما زاد على العشرة الأيام
، كان ذلك غررا بينا ؛ لأنه إن خاطها في خمسة
أيام استوجب ثلاثين درهما في عمل خمسة وعشرين
يوما ، وإن خاطها في خمسة عشر يوما لم يستوجب
ثلاثين درهما ، إلا في خمسة وثلاثين يوما ،
فعادت أجرته مجهولة ؛ إذ لا يدرى في كم من يوم
يستوجب الثلاثين درهما .
(8/412)
فإن وقع ذلك
وخاطها في أقل من عشرة أيام ، لم يلزمه أن
يعمل بقيتها للمستأجر ؛ لأنه يقول : إنما
أتممتها في أقل من عشرة أيام ؛ لأني أجهدت
نفسي ما لم يكن يلزمني لك في استئجارك إياي ،
وبكرت في الابتداء ، وأخرت في الانتهاء ،
وكذلك إن خاطها في أكثر من عشرة أيام ، لم
يلزم المستأجر أن يحسب له تلك الأيام الزائدة
على العشرة الأيام ؛ لأنه يقول له : فرطت
وتوانيت ، ولذلك لم تتمها في العشرة الأيام ،
ولو اجتهدت الاجتهاد الذي كان يلزمك لي في
إجارتك لفرغت منها في أقل من عشرة أيام ، وكان
وجه الحكم في ذلك أن ينظر إلى تلك الأثواب ،
فإن قال أهل البصر والمعرفة بالعمل : إنها تتم
على الاجتهاد المعروف في خمسة أيام ؛ لزم
الأجير أن يعمل لرب العمل بقيمة العشرة الأيام
، وإن قالوا : إنها لا تتم في أقل من عشرة
أيام على الاجتهاد المعروف ، لم يلزمه أن يعمل
له ما بقي منها ؛ وكذلك إن عملها في أكثر من
عشرة أيام ، فقال أهل البصر والمعرفة : إنها
لا تتم في أقل مما خاطها فيه على الاجتهاد
المعروف ، لزم المستأجر أن يحسب له تلك الأيام
الزائدة على العشرة الأيام ، وإن قالوا : إنها
تتم في العشرة الأيام ، أو في أقل منها لم
يلزمه أن يحسب له تلك الأيام في شهوره .
ولو أعطاه الثياب فقال له : إن خطتها في أقل
من عشرة أيام ، فبقيتها لك ، وإن لم تتمها في
عشرة أيام ، لم يلزمك شيء ، لجرى ذلك على
الاختلاف في الرسول يزاد بعد عقد الإجارة على
الإسراع في السير والبلوغ إلى البلد في وقت
كذا وكذا حسبما يأتي القول فيه في رسم سلف من
هذا السماع بعد هذا .
ووجه تخفيف ذلك اليسير اليوم ونحوه الذي يعلم
أنه إن اجتهد فيه فرغ منه بين ؛ لأنه إن لم
يفرغ منه علم أنه فرط ، ولم يجتهد الاجتهاد
الذي كان يلزمه ، فكان من حق المستأجر ألا
يحسب له من اليوم الآخر ما أتمه فيه ، وإن فرغ
قبل تمامه علم أنه كان لإجهاده نفسه ، فكان له
بقية يومه ، وبالله التوفيق .
(8/413)
مسألة
قال ابن القاسم : وسمعت مالكا قال في رجل بعث
رجلا ، ليقتضي له دينا على أن له من كل شيء
اقتضاه منه نصفه أو ثلثه ، قال : لا بأس بذلك
على وجه الجعل ، ومثل ذلك الرجل يقول للرجل :
اخرج في طلب عبيد لي أبقوا ، أو إبل لي ضلت ،
فما جئتني به من عبد أو بعير فلك فيه دينار ،
وليس يشبه قوله : ما جئتني به من عبد أو بعير
فلك نصفه ؛ لأن العبد والبعير يزيدان وينقصان
، وأن الدنانير لا تزيد ولا تنقص ما اقتضى من
دينار فله نصفه أو ثلثه ، فهذا باب لا يزول .
قال محمد بن رشد : قوله في الذي بعث رجلا
ليقتضي له دينا ، على أن له من كل شيء اقتضاه
منه نصفه أو ثلثه : إن ذلك لا بأس به على وجه
الجعل ؛ صحيح لأن المعاملة على اقتضاء الدين
بجزء منه إذا لم يسم له عدده لا يجوز إلا على
وجه الجعل .
وقوله : اقبض مالي على فلان ، ولك من كل شيء
تقتضي منه نصفه أو ثلثه محمول على الجعل ، وإن
لم يصرحا بذلك لا يلزم المجعول له ، وإن شرع
في التقاضي ، وله أن يترك متى شاء ، ويلزم
الجاعل قيل بالعقد ، وقيل بشروع المجعول له في
الاقتضاء على ما سيأتي القول فيه في رسم العتق
، من سماع عيسى ، وأما إذا سمى عدده ، فتجوز
المعاملة على اقتضائه بجزء منه على وجه
الإجارة ، بأن يقول : أستأجرك على اقتضاء مائة
دينار لي على فلان بنصفها أو بثلثها ؛ فتكون
إجارة لازمة لهما ، ليس لأحدهما أن يرجع عنها
بعد العقد ، إلا أن يشترط أن يترك متى شاء ،
فتكون إجارة له فيها الخيار .
وهذا إذا كان قدر العمل في اقتضائها معروفا ،
وأما إن لم يكن معروفا ، فلا تجوز الإجارة في
ذلك إلا بضرب الأجل : يقول أستأجرك شهرا على
أن تقتضي لي مائة دينار لي على فلان بنصفها ،
أو بكذا وكذا ، فإن مضى الشهر وجب له أجره
اقتضى الجميع أو بعضه ، أو لم يقتض شيئا ، وإن
(8/414)
اقتضاها قبل
الأجل ، كان له من أجره بحساب ما مضى منه على
حكم الاستئجار ، على بيع السلعة سواء في جميع
الوجوه .
ويجوز أيضا على وجه الجعل بأن يقول : أجاعلك
على أن تقتضي لي مائة دينار لي على فلان
بنصفها أو بثلثها ، وما اقتضيت من شيء فبحساب
ذلك ، فإن لم يقل : فما اقتضيت من شيء فبحساب
ذلك لم يجز ، وكان جعلا فاسدا . واختلف إذا لم
يصرح بذكر الإجارة ولا الجعل ، وقال : اقتض لي
مائة دينار على فلان ، ولك نصفها ، فقيل : إن
ذلك محمول على الإجارة ، وقيل : إنه محمول على
الجعل ، فمن حمله على الإجارة قال : ذلك جائز
؛ لأنه يجوز للرجل أن يستأجر الرجل على أن
يقتضي له مائة دينار له على فلان بنصفها أو
بجزء منها ، وهو معنى قول ابن القاسم في أول
رسم ، من سماع أصبغ ، ودليل قول ابن وهب فيه ؟
ومن حمله على الجعل قال : ذلك غير جائز ، قيل
: لأنه جعل فاسد ؛ إذ لم يقل فيه : وما اقتضيت
من شيء فبحسابه ، وقيل : لأن الجعل على اقتضاء
الديون بالجزء منها ، لا يجوز على حال ، وهو
قول أشهب في سماع أصبغ ، وأما إن قال : اقتض
لي مائة على فلان ، ولك نصفها ، وما اقتضيت من
شيء منها فعلى حسابه ، فلا اختلاف بينهم في أن
ذلك محمول على الجعل ، وأن ذلك جائز إلا على
مذهب أشهب الذي لا يرى المجاعلة على اقتضاء
الديون جائزة ، وإن سمى عددها ، وشرط أن له
مما يقتضي منها بحساب ذلك .
وقوله : إنه يجوز أن يقول الرجل للرجل : اخرج
في طلب عبيد لي أبقوا ، أو إبل لي ضلت ، فما
جئتني به من ذلك فلك نصفه بين لا إشكال فيه ،
ولا اختلاف ؛ لأن الجعل في المجاعلة لا يكون
مجهولا ، وإنما يجوز المجهول فيها في العمل ،
وفي إجازتهم المجاعلة على حصاد الزرع وجذاذ
النخل واقتضاء الديون ، ولقط الزيتون على أن
له من كل ما يحصد ، أو يجذ ، أو
(8/415)
يقتضي ، أو
يلتقط جزءا نصفا أو ثلثا نظر ، فقد رأيت في
مسائل منتخبة لابن لبابة ، قال ابن القاسم :
كل ما جاز بيعه جاز الاستئجار به ، وجاز أن
يجعل جعلا ، وما لم يجز بيعه ، لم يجز
الاستئجار به ، ولا أن يجعل جعلا لرجل إلا
خصلتان في الذي يجعل لرجل على أن يغرس له
أصولا ، حتى تبلغ حد كذا ، ثم هي والأصل
بينهما ، فإن نصف هذا لا يجوز بيعه ؛ وفي الذي
يقول : القط زيتوني ، فما لقطت من شيء فلك
نصفه ، فإن هذا يجوز ، يريد وبيعه لا يجوز .
قال : وقد روي عن مالك : أنه لا يجوز ، ولم
يختلف قوله في الرجل يكون له على الرجل مائة
دينار ، فيقول : ما اقتضيت من شيء من ديني فلك
نصفه ، وهما سواء .
قال محمد بن رشد : ما هما سواء ، والفرق
بينهما أن اللقط أوله أسهل وأيسر من آخره ؛
لأنه كلما خف وقر الزيتون قل ما يلتقط منه في
اليوم ، ألا ترى أنه إذا كان كثير الوقر لقط
على العشر وأقل من ذلك ، وإذا كان خفيف الوقر
لقط على النصف وأكثر من ذلك ، فإذا جاعله على
أن يلقط منه ما شاء بالثلث أو الربع كان غررا
؛ لأنه لا يدري إن كان يستوفي لقط جميعه ، أو
يترك له منه بعضه ، وهو إن ترك له منه اليسير
لم يستأجر على لقطه إلا بالكثير ، ولعل
الإجارة على لقطه تستغرقه ، فالأظهر من
القولين ألا تجوز المجاعلة على لقطه بالجزء
منه على حال ، ولا تجوز في ذلك إلا الإجارة
على جميعه بأن يقول : القطه كله ولك نصفه أو
ثلثه .
وأما المجاعلة على اقتضاء الدين بجزء مما
يقتضي منه ، فأشهب لا يجيزه ، والأظهر أنه
جائز ؛ إذ لا فرق بين أوله وآخره في العناء في
اقتضائه .
وأما الحصاد والجذاذ ، فلا خلاف بينهم في جواز
المجاعلة فيه على الجزء منه ، بأن يقول له :
جذ من نخلي ما شئت ، أو احصد من زرعي ما شئت
على أن لك من كل ما تحصد أو تجذ جزءا كذا لجزء
يسميه ، ووجه جواز ذلك باتفاق هو أن الحكم فيه
أن الجعل عليه لا يلزم واحدا منهما ، للمجعول
له أن يخرج متى شاء ، وللجاعل أن يخرجه متى
شاء ؛ إذ لو كان الحكم فيه أن يلزم الجاعل ،
ولا يلزم المجعول له لما جاز ؛ لأن الجعل كان
(8/416)
يكون فيه ما لا
يجوز بيعه ، وذلك غرر لو أراد رجل أن يبيع نصف
ما يحصد رجل في يوم أو يومين ، أو نصف ما يجذ
في ذلك ، لم يجز . وكذلك الحكم في قوله : القط
زيتوني هذا ، فما لقطت منه من شيء فلك نصفه ،
فإنما لم يجز على القول بأنه لا يجوز لما
ذكرناه من أنه لما كان للمجعول له أن يترك متى
شاء ، وأوله أيسر في اللقط من آخره ، دخله
الغرر ؛ إذ لا يدري الجاعل هل يستوفي المجعول
له لقط جميعه ، أو يترك منه بعضه ، فيلزم على
ما قلناه في المجاعلة على اقتضاء الديون
بالجزء مما يقتضي منها ، إذا كان الحكم فيها
أن يلزم الجعل للجاعل بشروع المجعول له ، ألا
يجوز الجعل في ذلك ؛ لأن الجعل فيه يكون غررا
؛ ألا ترى أنه لو أراد بيع ما يقتضي المجعول
له في يوم أو يومين لم يجز ، ولهذه العلة لم
يجز ذلك أشهب ، والله أعلم ، لا لما قاله أصبغ
من أنه رآه من باب الجعل في الخصام ؛ إذ قد
يكون مقرا بالديون ، فلا يكون فيه خصام ، وإن
كان الحكم في ذلك ألا يلزم واحدا منهما
كالحصاد واللقط ، وإنما لم يجز ذلك أشهب ؛
لأنه رأى اقتضاء أول الدين أيسر من آخره ،
فأشبه اللقط عنده ، ولذلك لم يجزه ، وهذا أظهر
من التأويل الأول ، وبالله التوفيق .
مسألة
قال ابن القاسم ، وقال مالك رحمه الله : من
جعل لرجل في عبد له أبق جعلا إن جاء به ، وقد
أنفق عليه نفقة ، فالنفقة من الذي جاء به ،
والجعل له فقط ، وإن أرسله بعد أن أخذه تعمدا
ضمن العبد .
قال محمد بن رشد : هذا بين على ما قال ؛ لأن
الجعل إنما جعله
(8/417)
له على أن
يأتيه به ويوصله إليه ، فلا يلزم الجاعل
للمجعول له إذا أتاه بعبده سوى الجعل الذي جعل
له فيه ، وإن وجده في مكان بعيد من سيده
يستغرق الإنفاق عليه إلى أن يصل إلى سيده
الجعل الذي جعل له فيه ، أو لعله يزيد على ذلك
، فليرفع ذلك إلى قاضي ذلك الموضع ينظر فيه
لسيده بما يراه من سجنه أو بيعه ، ويحكم له
بجعله ، فإن لم يفعل وأرسله بعد أن أخذه ضمن
كما قال ؛ لأنه قد أتلفه عليه ، وبالله
التوفيق .
مسألة
قال ابن القاسم : قال مالك فيمن أعطى رجلا
متاعا يذهب به إلى بلد آخر يبيعه فيها على أنه
إن باعه فله جعل قد سماه ، وإن لم يبع فلا شيء
له ، قال : لا خير في هذا إلا بأجر معلوم ،
ولا يشبه هذا أن يدفع رجل متاعا إلى رجل معه
في بلد واحد ، فيتعرض به في السوق ، فإن باعه
فله جعل مسمى ، وإن لم يبع فلا شيء له ، فهذا
لا بأس به ؛ لأن هذا متى ما شاء أن يرد السلعة
ردها ، ولا يلزمه بيعها ، ولم يدخل عليه في
ردها مئونة ، وأن الذي يخرج بالبز أو الطعام
أو الدواب إلى بلد آخر ، إن بدا له في تركها
لم يخرج منها إلا بمئونة وعلاج حتى يردها إلى
صاحبها أو إلى من أمره ، فلا أحب هذا إلا بأجر
معلوم ثابت ، ولا يجوز في الحاضر في الثياب
الكثيرة مثل العكام وما أشبهه ، وأما الثوبان
أو الثلاثة وما أشبه ذلك ، فلا بأس به .
قال محمد بن رشد : إنما لم يجز الجعل على بيع
الثياب في بلد
(8/418)
آخر ؛ لأن حكم
الجعل ألا يلزم المجعول له التمادي على العمل
، وإن شرع فيه من أجل أنه غرر ، ومن شروطه ألا
يجوز فيما يكون للجاعل فيه منفعة قبل تمام
العمل ، فإن خرج بالثياب إلى ذلك البلد ، ثم
أراد ترك بيعها انتفع الجاعل بحمله إياها إلى
ذلك البلد ، وإن ردها لزمه في ردها مئونة
وعلاج فيما لا منفعة له فيه ، فكان الغرر
والفساد حاصلا على أي وجه كان من الوجهين ،
فوجب ألا يجوز ، وإنما لم يجز الجعل على بيع
الثياب الكثيرة في البلد ؛ لأنه إن بدا له في
بيعها وردها إلى صاحبها كان قد انتفع بحفظه
لها طول كونها في يديه ، ليس من أجل أن الجعل
لا يجوز في الكثير ، وإن كان قد قال ذلك عبد
الوهاب وغيره ، فليس بصحيح ، والصحيح أن الجعل
يجوز في الكثير من الأعمال التي لا يكون
للجاعل فيها منفعة إلا بتمام العمل ، كطلب
الإباق وحفر الآبار ، ولذلك قال ابن المواز :
إن المجاعلة على حفر الآبار لا تكون إلا فيما
لا يملك من الأرضين ، ولا يجوز في القليل منها
التي يكون للجاعل فيها منفعة قبل تمام العمل ،
فهذا هو الأصل الذي يطرد ولا ينخرم ، ألا ترى
أنه لا تجوز المجاعلة على خياطة الثوب ، ولا
عمل اليوم ، ولا على اقتضاء الدين اليسير بجزء
منه إذا لم يكن له من كل ما يقتضيه بحسابه ،
من أجل أنه إذا لم يتم العمل انتفع الجاعل بما
مضى منه ، وبالله التوفيق .
مسألة
وقال مالك : من استؤجر على رقيق يأتي بهم ،
فلم يجدهم فقد وجب حقه ، وإن وجدهم ببعض
الطريق ، فللذي استأجره أن يبعثه إلى ذلك
المكان أو يستأجره في مثله . قال مالك : وكذلك
الرجل يتكارى الدابة إلى حاجة ، فتأتيه الحاجة
، فيلزمه
(8/419)
الكراء ، وتكون
له الدابة يكريها إلى الموضع الذي تكاراها
إليه إن شاء الله .
قال ابن القاسم : ومن استؤجر على مثل هذا ،
واشترط عليه النقد على أن يحاسبه إن جاء
برقيقه ، أو وجد متاعه ببعض الطريق ، فلا خير
فيه . قال ابن القاسم : وإن لم يشترط شيئا من
ذلك فالكراء لهما جميعا لازم إلى ذلك الموضع .
قال محمد بن رشد : قوله فيمن استأجر على رقيق
يأتي بهم فلم يجدهم إن حقه وجب ، معناه إن كان
استؤجر على أن يأتي بهم مشاة أو على دواب
المستأجر ، وأما إن كان استؤجر على أن يأتي
بهم على دوابه ، فلم يجدهم فالحكم في ذلك حكم
من أكرى دابة على أن يسوق له طعاما من بلد آخر
وسيره إلى وكيله ، فذهب الكري فلم يجد الوكيل
. وفي وجه الحكم في ذلك تفصيل سيأتي القول
عليه إن شاء الله في موضعه ، وهو أول رسم من
سماع ابن القاسم ، من كتاب الرواحل والدواب .
وأما قوله : إنه إن وجدهم ببعض الطريق ، فللذي
استأجره أن يبعثه إلى ذلك المكان ، أو يواجره
في مثله ، فمساواته فيه بين أن يبعثه إلى ذلك
المكان أو يواجره في مثله ؛ خلاف أصله في
المدونة ، في أن من أكرى دابة إلى موضع ، فليس
له أن يركبها إلى غيره إلا برضا المكتري ،
فعلى قوله في المدونة ، ليس له أن يواجره في
مثله إلا برضاه ، فإن لم يرض بذلك ولم يبعثه
إلى ذلك المكان بعينه رجع ، وكان له كراؤه
كاملا ، وعلى قول غيره في المدونة : لا يجوز
أن يواجره في غيره ، وإن رضي بذلك ؛ لأنه فسخ
دين في دين ، فإما أن يبعثه إلى ذلك الموضع
بعينه ، وإلا رجع وكان له كراؤه كاملا ، وعلى
هذا
(8/420)
اختلفوا فيمن
اكترى دابة إلى بلد ، فرجع من الطريق ، هل له
أن يركبها في مثل ما بقي منه ، فقال ابن نافع
: ليس ذلك له ، وعليه الكراء كاملا ، وقال ابن
القاسم : إن كان إنما سار البريد والبريدين
وما أشبههما ، فله أن يركبها أو يكريها إلى
مثل ما قصر عنه من سفره ، إلا أن يتراضيا على
شيء معلوم ، وإن كان سار جل الطريق ، ثم ردها
رأيت جميع الكراء لصاحبها .
وقع قول ابن نافع ، وابن القاسم هذا ، في آخر
سماع عيسى ، من كتاب كراء الرواحل والدواب في
بعض الروايات ، وقد اختلفوا على هذا الأصل
فيمن استعار دابة إلى موضع ، فركبها إلى موضع
غيره مثله في الحزونة والسهولة والبعد فهلكت ،
روى علي بن زياد ، عن مالك ، في سماع سحنون ،
من كتاب العارية ، أنه لا ضمان عليه ، وقاله
عيسى بن دينار في المبسوطة ، وقال ابن القاسم
فيها : إنه ضامن ، وقوله : إنه إن اشترط عليه
النقد على أن يحاسبه إن جاء برقيقه أو وجد
حاجته في بعض الطريق ؛ أنه لا خير فيه بين لا
إشكال فيه على أصولهم ؛ لأنه يدخله الأجرة
والسلف ، ولو اشترط عليه النقد ، ولم يشترط
المحاسبة سكت عنها لجاز على كلا القولين ؛ لأن
ما يوجبه الحكم من المحاسبة على أحد القولين ،
إذا لم يشترطاه لا يتهمان عليه ، وبالله
التوفيق .
مسألة
وقال مالك : من أوصى أخا له أن يشتري له شيئا
بالمديونة ، فابتاعه بدرهم ونصف ، وأعطى في
النصف حنطة ، قال : يأخذ منه في النصف درهم
فلوسا أو عروضا ، فإن أخذ حنطة ، فلا يأخذ إلا
مثل كيل طعامه الذي أعطى .
(8/421)
قال محمد بن
رشد : هذا بين على ما قال ؛ لأن الحنطة التي
أعطى في نصف الدرهم إنما هي سلف منه له ، فهو
يجوز له أن يأخذ منه فيها ما شاء من الفلوس أو
العروض أو الطعام المخالف للحنطة ، فإن أخذ
منه طعاما من صنف الحنطة ، فلا يأخذ إلا مثل
كيلها ، وبالله التوفيق .
ومن كتاب قطع الشجر
وسئل عن الخلالة تجمع على النصف ، فكره ذلك ،
ونهى عنه وقال : هذا غرر لا يدري كم ذلك ، ولا
ما هو ؛ لأنه لا يراه ولا يعرفه ، وليس هذا
مثل الزرع والثمر الذي ينظر إليه ، فيقول : ما
حصدت من شيء أو جنيته فلك ربعه . والخلالة ما
سقط من التمر ، ووجد بين الكرانيف والسعف ،
فهو يخرج ويجمع ويسقط فيه تمر ، وهذا الباب
والباب الأول مختلف .
قال محمد بن رشد : هذا بين على ما قال ؛ لأن
ما لا يجوز بيعه فلا يجوز الاستئجار عليه
بالجزء منه ، ولا المجاعلة عليه بجزء منه ،
ولا إشكال في أن بيعه لا يجوز ؛ إذ لا يحاط
بقدره لاختفائه بين الكرانيف والسعف ، فهو من
بيع الغرر ، فكذلك الاستئجار عليه بجزء منه ،
والمجاعلة عليه بجزء منه ؛ إذ من شرط صحة
المجاعلة أن يكون الجعل فيها معلوما .
فإن قيل : أليس يجوز أن يقول الرجل للرجل ما
اقتضيت من مالي الذي لي على فلان ، فلك نصفه
أو ثلثه ، ولا يسمي مبلغه ؟ فإذا جاز أن يقتضي
الدين على جزء منه مع الجهل بمبلغه جاز أن
تجمع الخلالة على الجزء منها مع الجهل بمبلغها
. قيل له : الدين وإن لم يعلم مبلغه عند
المجاعلة على اقتضائه بجزء منه لغيبة ذكر الحق
عنهما حينئذ ، وما أشبه ذلك ، فهو لا
(8/422)
يعمل في
الاقتضاء حتى يعلم مبلغه ؛ إذ لا يصح أن يقتضي
مجهولا ، والخلالة مجهولة أبدا ، فهو لا يعمل
فيها إلا على مجهول يطبه أبدا فافترقا ،
وبالله التوفيق .
مسألة
وسئل مالك عن قوم اشتروا سلعة ، ثم أرادوا
يتبايعونها ، فأرادوا أن يكتبوا من حضرهم ،
فقال رجل منهم : اجعلوا لي حظا مثل حظي ، أو
مثل حظ رجل من الربح ، وأنا أكتب لكم الناس ،
فقال : هذا مكروه بين ، وذلك أنه يصير أجيرا
بشيء لا يدري ما هو بربح ، إن كان في السلعة
ربح ، وإن لم يكن ربح ، فليس له شيء ، وذلك أن
الربح أيضا يقل ويكثر ، فهذا غرر لا يصلح .
قال محمد بن رشد : هذا بين على ما قال : لا
إشكال فيه ولا وجه للقول ، وبالله التوفيق .
ومن كتاب سلعة سماها
وسئل مالك عن الخياط الذي بيني وبينه الخلطة ،
ولا يكاد يخالفني أستخيطه الثوب ، فإذا فرغ
منه وجاء به أراضيه على شيء أدفعه إليه ، قال
: لا بأس به .
قال محمد بن رشد : وهذا كما قال ؛ لأنه مما قد
استجازه الناس ومضوا عليه ، وهو من نحو ما
يعطى الحجام من غير أن يشارط على عمل قبل أن
يعمله ، وما يعطى في الحمام ، والمنع من مثل
هذا وشبهه تضييق على الناس ، وحرج في الدين
وغلو فيه ؛ قال الله عز وجل : (( مَا جَعَلَ
عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ))
(8/423)
، وقال : ((
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي
دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ )) ، ومما يدل على
جوازه من السنة ما ثبت من أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم حجمه أبو طيبة ، فأمر له بصاع
من تمر ، وأمر أهله أن يخففوا عنه من خراجه .
وقد كره النخعي أن يستعمل الصانع حتى يقاطع
على عمله بشيء مسمى ، وكره ذلك ابن حبيب أيضا
، وقال : إنه لا يبلغ به التحريم ، والأمر في
ذلك واسع إن شاء الله ، وبه التوفيق .
ومن كتاب أوله شك في طوافه
وسئل مالك عن رجل يهلك ويترك ميراثا فيشارط
رجل على بيعه وتقاضيه ، ويجعل لي فيه جعل ،
قال : إني لأكره ذلك ، ولعل ثمنه يكثر ، وليس
تقاضي ما كثر منه مثل تقاضي ما يقل ، ولا
يعجبني أن يعمل به وكرهه .
قال محمد بن رشد : المكروه في هذه المجاعلة
بين ، والفساد فيها ظاهر ، والمنع منها واجب .
وقوله فيها : أكره ذلك ، ولا يعجبني أن يعمل
به ، تجوز منه في العبارة على عادته في قوله ،
في كثير من مسائله ، أكره هذا ، ولا أحبه ،
ولا يعجبني فيما لا يجوز عنده ولا يحل .
والعلة في أن ذلك لا يجوز ما مضى القول فيه في
أول رسم من أن الجعل لا يجوز فيما يكون للجاعل
فيه منفعة قبل تمام العمل الذي يجب به الجعل
للمجعول له ؛ لأن المجعول له لا يلزمه التمادي
على العمل من أجل أنه لا يدري ، هل يتم له
(8/424)
أم لا يتم ،
فإذا لم يلزمه وتركه أخذ الجاعل ما مضى من
عمله باطلا بغير شيء ، وذلك من أعظم الغرر ،
وبيان ذلك أنه إذا شارطه على بيع جميع الميراث
، وتقاضى ثمنه ، وهو غير ما شيء من عروض وأثاث
وأصول ، وما أشبه ذلك بجعل يسميه له على ذلك ،
قد يبيع الأكثر ويتقاضى ثمنه ، ثم يكره بيع
الباقي ، أو يعجز عنه ، أو يموت فيذهب عناؤه
باطلا ، ويحصل الورثة عليه دون شيء يلزمهم ؛
إذ لا شيء للمجعول له من الجعل إلا بتمام
العمل ، فهذه العلة في أن ذلك لا يجوز .
وقوله : ولعل ثمنه يكثر ، وليس تقاضي ما كثر
منه مثل تقاضي ما يقل ، معناه أن الغرر في
الكثير من ذلك أكثر من الغرر في القليل ، لا
أن ذلك يجوز في القليل ، بل لو جاعله على بيع
أشياء كثيرة يسيرة الثمن لا تباع صفقة واحدة
بجعل واحد لما جاز ؛ لأنه إن باع الأكثر ،
وعجز عن الأقل لم يكن له شيء ، وحصل الجاعل
على ما مضى من عمل باطلا بغير شيء .
وإنما يجوز الجعل على أشياء كثيرة إذا سمى في
كل شيء منها جعلا معلوما ، وكذلك لو جاعله على
بيع أشياء كثيرة ، وسمى لكل شيء بيع منها جعلا
مسمى ؛ لجاز إن لم تكن عنده ، فكان يستقل بها
عن حوائجه ، ويكفي ربها مؤنتها ، وكانت عند
ربها كلما باع منها شيئا بما سمى له فيه من
الثمن ، أو بما رآه استوجب فيه جعله ، وأخذ
سواه فعرضه للبيع ، فإن باعه استوجب فيه جعله
أيضا حتى يأتي على آخرها ، إلا أن يشاء أن
يترك فيكون ذلك له ، وبالله التوفيق .
ومن كتاب أوله حلف ليرفعن أمرا إلى السلطان
وسئل مالك عن الرجل يجعل للرجل يصيح على
الرقيق يبيعهم فيمن يزيد ، فما باع فله في كل
رأس درهم ، قال : أرأيت إن لم يبع فهل له شيء
؟ قيل : لا ، قال : فهذا لا يصلح إلا أن يجعل
له شيئا معلوما باع أو لم يبع في ساعة أو يوم
أو يومين . قيل له : أفرأيت الثوب يبيعه على
أن له درهما ؟ قال : ليس الثوب
(8/425)
مثله ، هو
ينتفع بمنافع غيره عسى أن يكون معه أثواب
غيرها يبيعها وينتفع بغير ذلك ، وإن هذا لا
ينتفع بشيء وهو يشغله عن حوائجه كلها ، فلا
يصلح إلا بإجارة معلومة باع أو لم يبع إلى أجل
معلوم يبيعه في ساعة أو يوم أو يومين ، ولم
يره مثل الدابة والثوب يقول الرجل للرجل : صح
عليه وإن بعته فلك درهم ، قال : لا بأس بهذا ،
قال سحنون جيدة جدا .
قال محمد بن رشد : إنما لم يجز أن يجعل الرجل
للرجل الجعل في الصياح على الرقيق ، فيمن يزيد
على أن له في كل رأس يبيعه درهما لوجهين ؛
أحدهما : أن الرقيق الكثير يشتغل بحفظها
فتمنعه من حوائجه ، ويكون قد كفى صاحبها
مئونتها في ذلك ، فإن ردها ولم يبعها كان
صاحبها قد انتفع بذلك ، والجعل لا يجوز فيما
يكون للجاعل فيه منفعة قبل تمام العمل الذي
يجب به الجعل للمجعول له ؛ والثاني أنه لم يسم
له ثمنا ، ولا فوض ذلك إلى اجتهاده ، فهو يصيح
عليها في مناداتها ، ولا يدري هل يعطى فيها ما
يرضى به ربها أم لا ، فلذلك قال : إن ذلك لا
يجوز إلا على الإجارة في ساعة أو ساعتين ، أو
يوم أو يومين ، باع أو لم يبع ، وأجاز أن
يعطيه الدابة أو الثوب ، فيقول له : صح عليه ،
فإن بعته فلك درهم ، ومعناه إذا سمى له ثمنا
أو فوض إليه الاجتهاد في ذلك ، ولم يكن على
يقين من إمكان بيعه في الحين ، وأما إن كان
على يقين من وجود الثمن فيه ، وبيعه في الحين
فلا يجوز في ذلك الجعل ؛ لأن الجعل لا يكون
إلا في المجهول من الأعمال ، أو ما طال منها
مما لا منفعة للجاعل فيها إلا بتمامها ،
وسيأتي هذا من قول ابن القاسم ، في سماع محمد
بن خلد ، وبالله التوفيق .
(8/426)
ومن المدنية من
كتاب أوله الرجل يحلف بطلاق امرأته
قلت : عندنا ربما واجرنا الصياح على رأس يبيعه
على جعل معلوم ، يقال له : صح حتى أرضى بالبيع
، وأبيع فردده أياما ، قال : لا خير في هذا ،
يقوله ابن القاسم .
قال محمد بن رشد : هذا الرسم والمسألة الواقعة
فيه وقعت في بعض الروايات ، والمعنى فيها صحيح
، وهي تدل على صحة تأويلنا في المسألة التي
قبلها ، فإن وقع ذلك كان له أجر مثله باع أو
لم يبع ، وبالله التوفيق .
من كتاب حديث طلق بن حبيب
وسئل مالك عن الآبق يجعل فيه الرجل الجعل ،
يقول : إن وجدته فلك كذا وكذا ، وإن لم تجده
فلك نفقتك وطعامك وكسوتك ، فقال : لا خير في
هذا . قال ابن القاسم : فإن وقع هذا رأيت أن
يعطى جعل مثله إذا وجده . قال ابن القاسم :
وإن لم يجده فله أجر مثله ، أصبغ عن ابن
القاسم : لا أجرة فيه .
قال محمد بن رشد : اختلف في الجعل الفاسد إذا
وقع على ثلاثة أقوال ؛ أحدها : أنه يرد إلى
حكم نفسه فيكون له جعل مثله إن أتى به ، ولا
يكون له شيء إن لم يأت به ، وهي رواية أصبغ ،
عن ابن القاسم هذه . والثاني : أنه يرد إلى
حكم غيره ، وهي الإجارة التي هي الأصل ، فيكون
له أجر مثله أتى به أو لم يأت به ؛ والثالث :
أنه إن كان لم يخيبه إن لم يأت به كنحو هذه
المسألة التي قال له فيها ، فإن لم تجده فلك
نفقتك ، وإن وجدته
(8/427)
فلك كذا وكذا ،
كان له إجارة مثله أتى به أو لم يأت به ، وإن
كان لم يسم له شيئا إلا في الإتيان به ، كان
له جعل مثله إن أتى به ، ولم يكن له شيء إن لم
يأت به .
وجه القول الأول : أن الجعل لما جوزته السنة
صار أصلا في نفسه ، فوجب أن يرد فاسده إلى
صحيحه قياسا على سائر العقود الجائزة من البيع
والإجارة .
ووجه القول الثاني : أن الجعل إجارة بغرر
جوزته السنة ، ويخصص من أصله إذا وقع على
الشروط التي أجازته بها ، فإذا لم يقع عليها
رجع إلى أصله ، فكان إجارة فاسدة ، يحكم فيها
بحكم الإجارة الفاسدة .
ووجه القول الثالث : أنه إنما هو جعل إذا جعل
له الجعل على الإتيان به خاصة ، وأما إن جعل
له في الوجهين ، فليس بجعل ، وإن سمياه جعلا ،
وإنما هو إجارة ، فيحكم له بحكم الإجارة
الفاسدة ، وهذا القول أظهر الأقوال ، وإياه
اختار ابن حبيب ، وحكاه عن مالك ، وعن مطرف ،
وابن الماجشون .
وهذه الثلاثة الأقوال راجعة على الأصل ،
وجارية على قياس ، وأما قول ابن القاسم في هذه
الرواية : إن له جعل مثله إذا لم يجده ، فليس
يرجع إلى أصل ، ولا يجري على قياس ، وكذلك
قوله في المدونة في الذي يقول للرجل : إن
جئتني بعبدي الأبق فلك نصفه أنه يكون له إجارة
مثله إن أتى به ، وإن لم يأت به ، فلا جعل له
ولا إجارة لا حظ له في القياس والنظر ، وبالله
التوفيق .
مسألة
وسئل مالك عن الرجل يبعث مع الرجل بالخادم
يبلغها إلى موضع ، ويجعل له في ذلك جعلا ،
فينام في بعض الطريق فتهرب فتأبق منه ، أترى
عليه ضمانا ؟ قال : لا ضمان عليه . قيل له :
أتكون له أجرة ؟ قال : يكون له بحساب ما بلغ .
قال محمد بن رشد : المعنى في هذه المسألة أنها
إجارة ، ولذلك أوجب له من أجرته بحساب ما بلغ
؛ لأن الجعل في ذلك لا يجوز على ما مضى في أول
رسم من السماع ، ولو كانت جعلا لم يجب له فيما
سار
(8/428)
شيء إلا على
القول بأن الجعل الفاسد ، إذا فات يرد فيه إلى
إجارة مثله . وكذلك من استأجر رجلا على تبليغ
كتاب ، فسقط منه في الطريق يكون له من أجرته
بحساب ما سار ، ولو كان جعلا لم يكن له فيما
سار شيء ، ولو قال له : إن بلغته في يوم كذا
وكذا ، فلك كذا وكذا ، فهذا إن بلغه في ذلك
اليوم وجب له جعله ، وإن قصر عنه لم يكن له
شيء .
قال ابن حبيب : إلا أن يكون تقصيره عنه بالأمر
القريب الذي لا ينقطع فيه انتفاع الجاعل
بالتبليغ ، فتكون له إجارة مثله . قاله ابن
حبيب ، وهو على أحد الأقوال في الذي يجعل
للرجل في حفر بئر ، فيحفر بعضها ثم يتركها ،
فيتم صاحبها حفرها بإجارة أو مجاعلة حسبما
يأتي القول فيه في الرسم الذي بعد هذا . ولو
وقع الجعل على هذا أي الإجارة ، فنام في بعض
الطريق ، فذهبت الخادم لم يكن له شيء فيما مضى
من الطريق ؛ لأن له سببا في ذهابها ، ولو ماتت
في بعض الطريق لوجب له من جعله بحساب ما مضى
منه ؛ إذ لا سبب له في موتها ، فمعنى قوله في
المسألة : ويجعل له في ذلك جعلا ؛ أي ويسمي له
في ذلك أجرا ؛ لأنها إجارة على ما ذكرناه .
وقوله : إنه لا ضمان عليه في إباقها منه صحيح
لا اختلاف فيه ؛ لأن الأجير لا يضمن ما تلف
مما استؤجر عليه ، إلا أن يضيع أو يفرط ، وهو
محمول على غير التفريط حتى يثبت عليه التفريط
والتضييع ، فإن لم يثبت ذلك عليه فالقول قوله
مع يمينه أنه ما ضيع ولا فرط .
وأما قوله : إنه يكون له من أجره بحساب ما بلغ
؛ ففيه ثلاثة أقوال ؛ أحدها : أن له الأجرة
كلها ماتت أو أبقت ، ويستعمله المستأجر في مثل
ما بقي من الطريق ، وهو قول ابن القاسم وأصبغ
في أول رسم من سماع أصبغ بعد هذا ؛ والثاني :
أن الإجارة تنفسخ ماتت أو أبقت ، ويكون له من
إجارته بقدر ما سار من الطريق ، وهو قول ابن
وهب في أول رسم من سماع أصبغ بعد هذا ، وقول
ابن القاسم وأصبغ في رسم الكراء والأقضية من
سماع أصبغ ، من كتاب الرواحل والدواب ؛ لأنهما
قالا فيها : إن الإجارة تنفسخ بتلف الشيء
المستأجر على حمله ، وإن لم يكن للأجير في
تلفه
(8/429)
سبب ، فهو إذا
كان له في تلفها سبب من نوم أو غفلة أحرى أن
ينفسخ . والثالث : الفرق بين أن تموت أو تأبق
، وهو قول مالك في أول رسم من سماع أصبغ بعد
هذا ، وينبغي أن يحمل على التفسير ؛ لقوله في
هذه الرواية ؛ لأنه تكلم فيها على الإباق وسكت
عن الموت ، وهذه التفرقة نحو تفرقته في
المدونة بين أن يأتي تلف الحمل الذي استؤجر
على حملانه من قبل الله تعالى ، أو من قبل ما
عليه استعمل ، إلا أنه قال : لا ضمان عليه ولا
كراء له ، فهو قول رابع في المسألة ، وبالله
التوفيق .
مسألة
وسئل مالك عن الرجل يستأجر الرجل يحرس له بيتا
، فينام فيسرق من البيت شيء ، أترى عليه ضمانا
؟ قال : لا . قيل له : أفترى له إجارة ؟ قال :
نعم . وكذلك الذي يستأجر يحرس النخل والغنم
والإبل ، ليس عليه ضمان وله أجرته . قيل لابن
القاسم : فما الذي يضمن الأجير ؟ قال : لا
يضمن إلا ما ضيع أو فرط أو تعدى . قيل له :
فما ترى الضيعة ؟ قال : من الضيعة أن يترك ما
وكل به ويذهب إلى غير ذلك حتى يذهب ما وكل به
ونحو هذا من الضيعة ، وأما الرقاد يغلبه أو
الغفلة يغفلها ، فليس هذا من الضيعة .
قال محمد بن رشد : قوله : إن الأجير لا يضمن
إلا أن يفرط أو يضيع أو يتعدى صحيح لا اختلاف
فيه ، وهو محمول على غير التضييع حتى يثبت
عليه التضييع حسبما ذكرناه في المسألة التي
قبل هذه . وأما قوله : إن له أجرته فمعناه أن
له أجرته كلها ، ويستعمله المستأجر بقية المدة
في مثل ما استأجره عليه ، ولا اختلاف في هذا ،
بخلاف المسألة التي قبلها ؛ لأن
(8/430)
الاستئجار على
الحمل بخلاف الاستئجار على الحراسة والرعي ،
يختلف في الإجارة على الحمل في انتقاض الإجارة
بتلف الشيء المستأجر على حمله ، ولا يختلف في
أنه لا يحتاج في شيء من ذلك إلى اشتراط الخلف
، ولا يختلف في الاستئجار على الحراسة والرعي
في انتقاض الإجارة بتلف الشيء المستأجر على
حراسته ورعيه ، ويختلف في وجوب اشتراط الخلف
في عقد الإجارة على ذلك إذا عين ، ولم يتكلم
في هذه الرواية على ذلك ، فيحتمل أن يكون تكلم
فيها على غير التعيين . وأما إن كان متاع
البيت أو الغنم أو النحل - بالحاء غير المعجمة
- معينا فلا تجوز الإجارة على حراسة شيء من
ذلك على مذهب ابن القاسم في المدونة إلا بشرط
الخلف ، خلاف قول سحنون وابن حبيب ، وقول أشهب
في سماع أصبغ ، وأما الاستئجار على حراسة أصول
النخل ، فلا يحتاج فيها إلى شرط ؛ لأنها
مأمونة لا يخشى عليها التلف ، وبالله التوفيق
.
ومن كتاب الشريكين
وسئل مالك عن الرجل يستأجر الرجل بدينار في
السنة ، ويقدم إليه الدينار ثم لا يتفقان ،
وقد عمل عنده الشهر فيتحاسبان ، ويرد إليه
بقية ما عليه دراهم ، قال : لا يعجبني مثل هذا
، ثم قال بعد ذلك : أرجو أن يكون خفيفا إذا صح
أمرهما . وقال ابن القاسم : وهذا الآخر أحب
إلي .
قال محمد بن رشد : اختلف قول ابن القاسم في
استئجار الرجل بعينه وكراء الراحلة بعينها ،
والدار والأرض وما أشبه ذلك ، فمرة حمله محمل
السلم الثابت في الذمة ، ومحمل الإجارة
المضمونة من أجل أن المنافع تقتضي شيئا بعد
شيء ، فهي غير معينة في أن الإقالة فيها لا
تجوز ، وإن لم يكن فيها بمجردها فساد إذا ظهر
المكروه فيها بإضافتها إلى الصفقة الأولى ؛
لأنه اتهمهما على القصد إلى ذلك ، والعمل عليه
، فمنع من ذلك حماية للذرائع . وعلى هذا يأتي
قوله الأول في الرجل يستأجر الرجل بدينار في
(8/431)
السنة ، ويقدم
إليه الدينار ثم لا يتفقان ، وقد عمل عنده
الشهر فيتحاسبان ، ويرد إليه بقية ما عليه
دراهم ؛ أن ذلك لا يعجبه ؛ لأن الأمر آل
بينهما إلى أن دفع المستأجر إلى الأجير دينارا
، وأخذ منه فيه عمل شهر ودراهم ، فيتهمان على
القصد إلى ذلك والعمل عليه ، ومرة حمله محمل
العروض المعينات في أن الإقالة فيها جائزة إلا
أن تنعقد بمجردها على ما لا يجوز ، وعلى هذا
يأتي قوله الآخر بعد ذلك في المسألة المذكورة
أرجو أن يكون خفيفا ؛ إذ لا فساد في الإقالة
بمجردها ، وإنما يوجد المكروه فيها باجتماع
الصفقتين على ما بيناه ، فلم يتهمهما في هذا
القول على القصد إلى ذلك من أجل أنه أجير
بعينه ، كما لا يتهمهما في ذلك في السلعة
المعينة .
وفي قوله : إذا صح أمرهما نظر ؛ لأن الأمر إذا
صح منهما ، ولم يقصدا إلى ذلك ، ولا عملا عليه
، فلا اختلاف في أنه لا حرج عليهما في ذلك
فيما بينهما وبين خالقهما ، وكذلك إذا ظهر من
أمرهما ما يدل على صحة فعلهما ؛ لا ينبغي أن
يختلف في أن ذلك لا يفسخ ، مثل أن يظهر من
الأجير خيانة وما أشبه ذلك ، فيعلم أن
تقايلهما إنما كان بسبب ما ظهر منه على ما
قاله بعد هذه في رسم العرية ، من سماع عيسى ،
وقد ذكرنا في غير هذا الكتاب ما يجوز الإقالة
في ذلك مما لا يجوز ملخصا مستوفيا ، وبالله
التوفيق .
ومن كتاب أوله
أخذ يشرب خمرا
وسئل مالك عن رجل شارط رجلا على عين يحفرها
على خمسة آلاف ذراع ، وما وجد في الأرض من صفا
، فعلى صاحب العين أن يشقه ، فعمل فيها فوجد
في الأرض نحو مائة ذراع فشقها
(8/432)
الرجل ، فلما
فرغ قال له الرجل : اعمل لي بدلها ، وموضعه
الذي يعمل هو أكثر عملا من الموضع الذي وجد
فيه الصفا ، فقال : لقد دخلت في أمر لا خير
فيه ، فأرى عليك قدر ذلك الموضع الذي شقه ذلك
الرجل تغرمه ، وليس عليك أن تعمل له بذلك ،
يريد أن ينظر إلى قدركم ذلك من الأرض من قدر
العمل ، فيرد منه بقدر ذلك مما أخذ . قال ابن
القاسم : لست آخذ فيه بقول مالك ، فأرى أن
يعطى أجرة مثله . قال سحنون : وهو رأيي ،
وقوله فيها أفضل وأجود .
قال محمد بن رشد : هذه مسألة مشكلة ، وقد
التبس على كثير من الناس معناها ، فوهم في
تأويلها منهم ابن لبابة ، فإنه ذهب إلى أن ابن
القاسم أخطأ على مالك في تفسيره بجوابه لقوله
يريد أن ينظر إلى قدركم ذلك من الأرض من قدر
العمل ، فيرد منه بقدر ذلك مما أخذ . قال :
لأن مالكا إنما أجاب على أن رب العين جعل
للرجل جعلا على حفر خمسة آلاف ذراع في التراب
، وما خرج في الأرض من صفا شقه رب العين ،
فخرج في الأرض مائة ذراع من صفا فشقها العامل
، فأوجب له مالك على رب العين قيمة عمله في شق
الصفا ، إذ لم يكن ذلك عليه ، ولم يوجب له
عليه أن يعمل له مثله في التراب ، وسكت عما
يجب للعامل في بقية عمله ، وإن كان يجب عليه
حفر بقية الخمسة آلاف ذراع في تراب أم لا .
قال : فتأول ابن القاسم على مالك أنه أجاب على
أن صاحب الأرض هو الذي حفر الصفا ، وأن حفرها
كان مشترطا على العامل ، فلما عمل ذلك صاحب
العين وجب أن يحط من الجعل قدره ، ولذلك قال :
يريد أن ينظر إلى قدركم ذلك من الأرض من قدر
العمل ، فيرد منه بقدر ذلك مما أخذ . قال :
وهذا محال من التأويل ، إنما كان شق الصفا على
رب الأرض ، وذلك فسر في السؤال
(8/433)
قوله فيه ، فشق
ذلك العامل ، وليس هو عليه ، فطلب من رب الأرض
أن يشق له من الأرض بعد الصفا مثل الذي شق
العامل .
قال محمد بن رشد : وإنما المحال ما تأول هو
على ابن القاسم ، من أنه حمل عليه قول مالك ؛
إذ يبعد في القلوب أن يكون مالك أجاب على غير
ما سئل عنه ، وأن يكون ابن القاسم تأول ذلك
عليه ، إذ قد بين في السؤال أن المعاملة إنما
وقعت بينهما على أن يشق رب الأرض ما وجد فيها
من صفا ، وأن العامل هو شقها ، بدليل قوله :
فلما فرغ قال : اعمل لي بدلها ؛ إذ لو كان رب
الأرض هو الذي شقها على ما اشترط على نفسه ،
لم يكن له في شقها شيء على أحد .
ووجه جواب مالك على السؤال ، وتفسير ابن
القاسم له بين ، وذلك أن المعنى في المسألة
أنها إجارة لا جعل ، وأن معنى قوله شارط رجلا
على عين يحفرها على خمسة آلاف ذراع : استأجر
رجلا على عين يحفرها على خمسة آلاف ذراع ،
وشرط له على نفسه أنه ما وجد فيها من صفا شقه
، ولم يبين في عقد الإجارة إن كان أراد أن يشق
رب الأرض ما وجد في الأرض من صفا ، وتكون
للعامل أجرته كاملة ، وإن كان أراد أن يشقها ،
ويحط عنه من الإجارة بحسابها من الخمسة آلاف
ذراع ، فكره مالك الإجارة ابتداء لما وقعت
عليه من إبهام ، ومراعاة لقول من يرى الإجارة
فاسدة ، وإن وقعت ببيان أن يحط عنه من الإجارة
بقدر ما يقع الصفا الموجودة فيها إن وجدت من
الخمسة آلاف ذراع من أجل الجهل بما انعقدت
عليه الإجارة من عدد الأذرع ؛ إذ لا يدري ما
يجد فيها من الصفا التي لم تقع عليه الإجارة ،
فصار ذلك كشراء الصبرة جزافا على الكيل ، وعبد
العزيز بن أبي سلمة لا يجيز ذلك ، وكالذي
يتكارى الكري على بز يسوقه له من بلد كذا على
أنه إن وجده في الطريق رجع ، وكان له من
إجارته بحسابه ما سار من الطريق ، وسحنون لا
يجيز ذلك وإن لم ينقد ، وقال لهما : لقد
دخلتما في أمر لا خير فيه ، وحملهما لما وقعت
وفاتت بالعمل على أنهما أرادا أن يشق رب الأرض
ما وجد فيها من صفا ، ويحط عنه من الإجارة
بحسابها ، فأمضاها
(8/434)
على أصله في
جواز شراء الصبرة على الكيل وما أشبه ذلك ،
وقال : أرى عليك - يريد على رب الأرض - قدر
ذلك الموضع ، يريد قيمة عمل ذلك الموضع الذي
شقه ذلك الرجل ، يريد الذي شقه العامل يغرمه
له ، ولم ير عليه أن يعمل له بدله ، ولو رضي
بذلك لما جاز ؛ لأنه إنما وجبت له عليه القيمة
، فلا يجوز له أن يأخذ منه فيها عملا ؛ لأنه
فسخ الدين في الدين .
وسكت مالك رحمه الله عن تمام الحكم في المسألة
، وفسره ابن القاسم على ما فهم من مذهبه في
إمضاء الإجارة إذا فاتت فقال : يريد أن ينظر
إلى قدركم ذلك الموضع من قدر العمل ، فيرد منه
بقدر ذلك مما أخذ ، ومعنى ذلك أن ينظر ما تقع
الصفا التي شقها العامل من جملة الخمسة الآلاف
ذراع ، فيرد من الأجرة التي قبض ذلك الجزء ؛
إذ لا فرق بين أن يشق صاحب العين الصفا على ما
شرطه على نفسه أو يشقها العامل فيأخذ حقه في
شقها .
وإن كان ما وجب للعامل في شقه الصفا من جنس
الأجرة التي قبض قاصه بذلك فيما يجب عليه رده
منها ، فمن كان له منهما في ذلك فضل رجع به
على صاحبه . وحمل ابن القاسم وسحنون الإجارة
لما وقعت مبهمة على ظاهرها من أنهما أرادا أن
يشق رب الأرض ما وجد في الأرض من صفا ، ولا
يحط عنه بذلك من الإجارة شيء فقالا : إن
الإجارة فاسدة ، والفساد فيها إذا حملت على
هذا الوجه بين ، وقد تحتمل المسألة وجوها من
التأويل غير هذا قد ذكرته في غير هذا الكتاب ،
وهذا أولى ما حملت عليه .
وأما ما ذهب إليه ابن لبابة ، فهو بعيد على ما
قد بينته ، وكذلك قوله : إنها جعل لا يصح ؛ إذ
لو كان جعلا لما أمضاه مالك إذا وقع ؛ لأنه
جعل فاسد من وجهين : أحدهما أن الجعل لا يكون
فيما يملك من الأرضين ، وذلك غير جائز على
المشهور في المذهب ، وقد نص على ذلك ابن
المواز قال : لا يكون الجعل في شيء إذا أراد
المجعول له ترك العمل بعد أن شرع فيه يبقى من
عمله شيء ينتفع به الجاعل ، مثل البناء والحفر
فيما
(8/435)
يملك من
الأرضين . وقد وقع في كتاب ابن حبيب ما يدل
على إجازة الجعل على حفر البئر فيما يملك من
الأرضين . والثاني : الغرر المقصود إليه فيه ؛
لأن معناه إن حفرت لي ما وجدت من تراب في هذه
الخمسة آلاف ذراع فلك كذا وكذا ، وذلك ما لا
يجوز في الجعل . وقد يحتمل أن يكون ابن القاسم
وسحنون حملا المسألة على هذا ، ولذلك قالا :
إن له أجرة مثله . ولولا تأويل ابن القاسم على
مالك ؛ لكان الأظهر من قوله قد دخلتما في أمر
لا خير فيه أن العقد فاسد ، ويكون للعامل أجرة
مثله في شق الصفا ، وفي سائر عمله ، ويرد جميع
الأجرة إن كان قبضها ، وتسقط عنه إن كان لم
يقبضها ؛ لأنه إنما تكلم على ما يجب للعامل في
شق الصفا وسكت عن تمام الحكم في المسألة ، إلا
أن ابن القاسم أحق بتبيين إرادة مالك في
المسألة لمشافهته إياه فيها ، وقد بينا وجه
قوله على ما فهم ابن القاسم من إرادته ،
وبالله التوفيق .
مسألة
وسئل مالك عن الرجل يقول للرجل : احفر لي
هاهنا بئرا حتى أدرك الماء ، ولك كذا وكذا ،
فيعمل فيها ما شاء الله ، ثم يبدو له فيترك
العمل ، ثم يستأجر عليه صاحب البئر آخر ، أترى
للأول شيئا فيما عمل ؟ قال : إن انتفع الآخر
بها حتى يخرج الماء رأيت أن يعطى في ذلك .
فقيل له : ما الذي يعطى في ذلك ؟ قال : على
قدر ما يرى مما انتفع به ، يجتهد في ذلك ،
وليس لذلك حد ؛ رب أرض شديدة تكون حجرا ،
وأخرى رخوة فيكون ربما يحفر الحجر أولا ،
والذي احتفر يعد ذلك رخوة ، أو يكون حفر رخوا
والذي حفر بعده حجرا ، فإنما يعطى في ذلك على
قدر ما انتفع به فيما يجتهد له من ذلك
(8/436)
من سماع عيسى
بن دينار ، من كتاب المكاتب
وسألت ابن القاسم عن الرجل يجعل للرجل على حفر
بئر ، فيحفر فيها أذرعا ، ثم يعجز عنها ، ثم
يحفرها آخر بعد ذلك حتى يخرج الماء ، قال مالك
: يكون للآخر جعله كله ، ويكون للأول الجعل
بقدر ما انتفع بحفره في البئر ، ولقد كنت قلت
أنا : يكون له قيمة ما عمل يوم عمل . وقال ابن
كنانة : بل قيمة ما عمل اليوم ، فدخلنا على
مالك فقال : بل يعطى على قدر ما انتفع بحفره .
قلت : أرأيت جعلهما جميعا في الجعل الأول ؟
قال : بل يعطى الآخر جميع ما جعل له ، وينظر
قيمة ما انتفع به من عمل الأول فيعطاه ، ولا
يلتفت إلى الجعل الأول . قلت : أرأيت إن كان
الجعل الأول عشرة دنانير ، فلما نظرنا إلى ما
انتفع به من عمله كانت قيمته خمسة عشر دينارا
؟ قال : فله ذلك ، زاد الجعل الأول أو نقص ،
ولا يلتفت إلى الجعل الأول .
قال محمد بن رشد : معنى قول مالك ينظر إلى
قيمة ما انتفع به من عمل الأول فيعطاه ، هو أن
ينظر إلى ما جعل على تمامها للثاني ، وإلى ما
كان يجعل على حفرها كلها لو لم يتقدم فيها حفر
لأحد يؤخذ ذلك ، فيكون للأول ما زاد على ما
جعل على تمامها للثاني ؛ لأن ذلك هو الذي انحط
عنه بعمل الأول فانتفع به .
وكذلك إن استأجر على تمامها ، ولم يجاعل على
ذلك ، فينظر إلى ما استأجر به على تمامها ،
وإلى ما كان يستأجر به على جميعها ، فيكون
للأول ما زاد الاستئجار على جميعها على
الاستئجار على بقيتها ؛ لأن ذلك هو الذي انتفع
به ، قل ذلك أو كثر ، وإن كان أكثر
(8/437)
من الجعل الأول
، وهو أظهر من قول ابن القاسم وابن كنانة ؛
لأنه لما كان لا يجب عليه شيء إذا لم ينتفع
وجب ألا يكون عليه إذا انتفع إلا قدر ما انتفع
، وإنما يشبه أن يكون عليه قيمة عمله يوم
انتفع به أو يوم عمله ، إذ انتفع به كما هو
دون أن يتمه بإجارة أو مجاعلة في وجه من وجوه
المنافع ؛ من كنيف يحدثه فيه أو ما أشبه ذلك .
والقياس أن يكون له في هذا الحساب ما عمل من
جعله الذي كان جعل له فيه ، ومما يشبه هذا
الدلال يجعل له الجعل على بيع الرأس من الرقيق
فيسوقه ، ثم يبيعه صاحبه بغير حضرته ، ولو
باعه له دلال آخر بجعل أخذه منه ؛ لوجب أن
يكون الجعل بين الدلال الأول والثاني على قدر
عنائهما ؛ لأن الدلال الثاني هو المنتفع
بتسويق الأول دون صاحب السلعة ؛ إذ قد أدى إلى
الثاني جعلا كاملا ، لم ينحط عنه منه شيء بسبب
الأول ، وذلك على قياس ما وقع في سماع عيسى ،
من كتاب اللقطة ، في الرجل يجعل للرجل الجعل
في طلب عبد أبق فيجده ، ثم يأتي به فينفلت منه
ويذهب ويجعل صاحبه عليه جعلا آخر لرجل آخر
فيأتي به ، أنه إن كان أفلت بعيدا من مكان
سيده ، فالجعل كله للثاني ولا شيء للأول ، وإن
كان أفلت قريبا من مكان سيده ، فالجعل بينهما
على قدر شخوص كل واحد منهما بما يرى ، وبالله
التوفيق .
ومن كتاب أوله سلف في المتاع والحيوان
وسئل مالك عن الرجل يستخيط الثوب بدرهم ، ثم
يقول له بعد ذلك : هل لك أن تعجل لي ثوبي
اليوم وأزيدك نصف درهم ؟ قال مالك : لا أرى به
بأسا ، وأرجو أن يكون خفيفا ، ولم يره مثل
الرسول يزاد لسرعة السير بعد إيجاب أجرته .
وسئل مالك عن الرجل يتكارى الرجل على أن يسير
له
(8/438)
بكتاب إلى في
المروة على أن يسير له في يومين ، ويدفع إليه
دينارين ، فكره ذلك وقال : لا يعجبني هذا
الكراء ، أرأيت إن تأخر كيف يصنع ؟ ما يعجبني
هذا . قال ابن القاسم : ويعطيه على اجتهاده .
وكذلك الإبل تتكارى والدواب ليس يضرب في ذلك
أجل .
وسألته عن الرجل يتكارى الرجل بدينار على أن
يبلغ له كتابا إلى بلد ، فيقول : أما الدينار
فلك ثابت ، وإن بلغته يوم كذا وكذا فلك زيادة
نصف دينار ، قال : لا أحب ذلك وكرهه . قال
سحنون : لا بأس بذلك بعد وجوب الكراء .
قال محمد بن رشد : أما الذي يستخيط الرجل
الثوب بأجر مسمى ثم يزيده بعد ذلك على أن
يعجله له ، فلا إشكال في أن ذلك جائز ؛ لأن
تعجيله ممكن له ، ولا ينبغي له أن يتعمد
تأخيره ومطله إضرارا به لغير سبب ، وله أن
يتسع في عمله ويؤخره لعمل غيره قبله ، أو
للاشتغال بما يحتاج إليه من حوائجه على ما جرى
من عرف الصناع في التراخي في أعمالهم ، فإذا
زاده على أن يتفرغ له ويعجله جاز ؛ لأنه أخذ
ما زاده على فعل ما يقدر عليه ويجوز له ، ولا
يلزمه .
وأما الذي يزيد الأجير على تبليغ الكتاب بعد
عقد الإجارة زيادة على أن يسرع السير ، فيبلغه
في يوم كذا وكذا ، فكرهه مالك ورآه بخلاف
الزيادة على تعجيل الثوب ، ومعناه إذا لم يكن
على يقين من أنه يدرك الوصول به ذلك اليوم إذا
أسرع السير ؛ لأنه يجهد نفسه في الإسراع ما لا
يلزمه على غير يقين من حصول الزيادة له في ذلك
، وهو غرر ، ولو كان على يقين من أنه يدرك إذا
أسرع لجاز بمنزلة الثوب . ولو قال له في الثوب
: إن أتممت خياطته اليوم فلك زيادة نصف درهم ،
وهو لا يدري إذا أجهد نفسه في
(8/439)
إتمامه هل يتم
أم لا ؛ لكان ذلك مكروها على ما قاله في
الرسول ، وبين ذلك قوله في التفسير ليحيى : إن
ذلك مكروه إذا كانت الثياب كثيرة ؛ إذ لا فرق
في الثياب الكثيرة والثوب الواحد إلا أن
الثياب الكثيرة لا يدري إذا اجتهد فيها هل
يفرغ منها قبل الوقت الذي وقته له في الأغلب
من الأحوال ، بخلاف الثوب الواحد ، فالمسألتان
، تحمل كل واحدة منهما على صاحبتها ، وإجازة
سحنون ذلك في الرسول معناه ، والله أعلم ، إذا
كان على يقين من أنه يدرك الموضع في ذلك اليوم
إذا أسرع ، فعلى هذا ينبغي أن تحمل أقوالهما ،
ولا يجعل ذلك اختلافا من القول .
وأما قوله في استئجار الرسول على أن يسير له
بالكتاب إلى ذي المروة في يومين ويدفع إليه
دينارين : إن ذلك لا يعجبه وهو مكروه ، وكذلك
ضرب الأجل في اكتراء الدواب إلى البلدان ، فهو
المشهور في المذهب ، وقد مضى القول فيه في أول
رسم ، وبالله التوفيق .
ومن كتاب البز
قال ابن القاسم : قال مالك : من قال : دل على
من يشتري مني جاريتي ولك كذا وكذا ، فدل عليه
، فذلك لازم له . ولو قال : دلني على من
أواجره نفسي ولك كذا وكذا فذلك له . ومن قال :
دلني على امرأة أتزوجها ولك كذا وكذا ، فلا
شيء له . قال سحنون : كل ذلك عندي واحد ليس
بينها فرق ، وأرى أن يلزمه في النكاح مثل ما
يلزمه في البيع والأجرة ، وقال أصبغ في كتاب
البيع والصرف من سماعه ، مثل قول سحنون .
قال محمد بن رشد : إنما فرق مالك بين أن يجعل
الرجل
(8/440)
للرجل جعلا على
أن يدل عليه من يشتري منه سلعة أو يبيعها منه
أو يواجره نفسه ، وبين أن يجعل له جعلا على أن
يدله على امرأة يتزوجها من أجل أنه لا يلزمه
أن يدل عليه من يشتري منه ، ولا من يبيع منه ،
ولا من يواجره نفسه ولا شيئا من الأشياء ،
ويلزمه هو أن يدله على امرأة تصلح له ؛ لأن
معنى قوله : دلني على امرأة أتزوجها ، أي أشر
علي بامرأة تعلم أنها تصلح لي وانصح لي في ذلك
، وهذا لو سأله إياه دون جعل للزمه أن يفعله ؛
لقول النبي صلى الله عليه وسلم : "الدين
النصيحة ؛ قيل : لمن يا رسول الله ؟ قال : لله
ولرسوله ولأيمة المسلمين وعامتهم" ، ألا ترى
أنه لو قال رجل لرجل : دلني على امرأة تصلح لي
أتزوجها ، فإني محتاج إلى النكاح ، فقال له :
أنا أعلمها ، ولكن لا أعلمك بها ، ولا أدلك
عليها إلا أن تعطيني كذا وكذا لما حل ذلك له .
ولو قال له : دل علي امرأة أتزوجها ، أو دل
علي رجلا أزوجه ابنتي ، ولك كذا وكذا ، فدل
عليه لكان له الجعل ، فالأصل في هذا أن الجعل
لا يجوز فيما يلزم الرجل أن يفعله ، وإنما
يجوز فيما لا يلزمه أن يفعله ، مثل أن يقول :
دلني على امرأة أتزوجها واسع لي في نكاحها على
ما يأتي في رسم البراءة من سماع عيسى ، وإنما
قال سحنون وأصبغ : إن الجعل يلزم في قوله :
دلني على امرأة أتزوجها ، كما يلزم في قوله :
دل على من يشتري مني جاريتي أو أواجره نفسي ؛
لأنهما حملا قوله ، والله أعلم ، دلني على
امرأة أتزوجها أنه أراد بذلك ابحث لي على
امرأة تصلح لي ، ودلني عليها ، ولك كذا وكذا ،
فأوجبا له الجعل ؛ إذ لا يلزم الرجل أن يبحث
للرجل على من يصلح له من النساء فيدوله عليها
، ويلزمه إذا استرشده في أمر قد علمه أن يدله
وينصح له ولا يكتمه . ولو قال له : دلني على
من أبيع منه سلعتي ، أو أواجره نفسي ، ولك كذا
وكذا لكان له الجعل ، بخلاف قوله : دلني على
امرأة أتزوجها ، ففي هذا يفترق البيع من
النكاح ؛ إذ لا يلزم الرجل أن يدل الرجل على
من يشتري منه سلعة إذا سأله ذلك ، وإن كان
عالما بمن يصلح له ، ويمكن أن يشتريها منه ،
ويلزمه أن يدله على امرأة يتزوجها إذا سأله
ذلك ، وكان عالما بامرأة
(8/441)
تصلح له ويمكن
أن تتزوجه . والفرق في هذا بين النكاح والبيع
أن البيع مباح ، والنكاح مندوب إليه ، وقد
يكون واجبا . ولو اضطر الرجل الغريب في موضع
لا سوق فيه إلى بيع سلعة في أمر لا بد له منه
، فقال لرجل : دلني على من يشتري مني سلعتي ،
وهو يعلم من يمكن أن يشتريها منه لما حل له أن
يقول : لا أدلك إلا أن تعطيني كذا وكذا لوجوب
ذلك ، فهذا وجه القول في هذه المسألة ، وعلى
هذا تتفق الروايات ولا يكون بين النكاح والبيع
فرق ، وإن كان ابن حبيب قد حكى من قول ابن
القاسم ، وروايته عن مالك أن الجعل في الدلالة
على النكاح لا يلزم ، وحكى عن غير واحد من
أصحاب مالك إجازته ، وأنه سمع ابن الماجشون
يجيزه ، ويروي إجازته عن مالك ، فذلك تأويل
منه في أن ذلك اختلاف من القول ، وتأويلنا
أظهر ، والله أعلم ، وبه التوفيق .
ومن كتاب أوله المحرم يتخذ الخرقة لفرجه
وسئل مالك عن البناء يستأجر على البناء مقاطعة
، قال : لا بأس بذلك ، لم يزل بذلك عمل الناس
، فإن طال لك ضرب له أجل أيام .
قال محمد بن رشد : قوله : إنه لا بأس
بالاستئجار على البناء مقاطعة صحيح ، ولا يصح
فيما قل ، وكان يفرغ منه في بعض اليوم إلا
مقاطعة ، وأما فيما كثر فيجوز مقاطعة إذا وصف
العمل بغير النقد ، وبالنقد إذا شرع في العمل
على ما مضى في أول السماع ، ويجوز أن يستأجره
فيه بالأيام . فمعنى قوله فإن طال ذلك ضرب له
أجل أيام ، أي فإن طال ذلك ، جاز أن يستأجره
فيه بالأيام ، لا أنه إذا طال يجوز أن يستأجره
على عمله إلى تمامه ويضرب له في ذلك أجل أيام
؛ لأنه قد منع من ذلك في
(8/442)
المسألة التي
بعدها ، وفيما مضى في رسم سلف ، وفي ذلك
اختلاف قد مضى القول فيه في أول السماع ،
وبالله التوفيق .
مسألة
قال : ومن استأجر أجيرا على عمل بعينه ، فلا
يجوز فيه الأجل ؛ لأن الفراغ من العمل هو
الأجل ، فلا يستقيم أن يستأجره إلى أجلين بشيء
واحد ، وإن تلف ما استأجره عليه لم يجبر
الأجير على أن يعمل مثله ، ولم يلزم رب العمل
أن يأتي بمثله ، ولا بأس بالنقد في مثل هذا .
قال محمد بن رشد : قوله : إنه من استأجر أجيرا
على عمل بعينه ، فلا يجوز فيه الأجل هو
المشهور في المذهب ، وقد مضى في أول مسألة من
السماع ما فيه من الخلاف ، فلا معنى لإعادته .
وقوله : إنه إن تلف ما استأجره عليه لم يجبر
الأجير على أن يعمل مثله ، ولم يلزم رب العمل
أن يأتي بمثله ، يدل على أنهما إن رضيا بذلك
جاز ، ومعناه إذا لم يكن نقد ؛ لأنه يدخله فسخ
الدين في الدين إن كان نقدا ، وهذا هو المشهور
في المذهب ، وقد قيل : إنه يستعمله في مثل ما
استأجره فيه ولا تنفسخ الإجارة ، وهو قول ابن
القاسم في رسم يشتري الدور والمزارع من سماع
يحيى بعد هذا ، وبالله التوفيق ، اللهم عونك .
ومن كتاب أوله سن رسول الله صلى الله عليه
وسلم
وسئل مالك عن الرجل يتكارى الخياط على أن يخيط
له ثيابا يسميهما ، فقال مالك : أما الملاحف
وما أشبهها فإنه يعرف نحوها ، وأما الخز فإنه
يكون فيها المرتفع ثمن الخمسة عشر ،
(8/443)
فأحب إلي أن
يريه ثوبا يخيط عليه ، إلا أن يكون صفة قد
عرفها ، فلا بأس بذلك .
قال محمد بن رشد : وهذا كما قال : إنه لا يجوز
أن يستأجره على أن يخيط له صنفا من الثياب
يسميه إذا كان الصنف يختلف فتكون خياطة بعضه
أسهل من خياطة بعض ؛ إذ لا بد في الاستئجار
على الأعمال من وصف العمل أو عرف يقوم مقام
الوصف ، وإن أراه ثوبا يخيط عليه فهو أبلغ من
الوصف وأتم ، والدليل على أن العرف يقوم مقام
الوصف ؛ ظاهر قول الله تعالى : (( إِنِّي
أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ
هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ
حِجَجٍ )) ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم :
"من استأجر أجيرا فليواجره بأجر معلوم إلى أجل
مسمى" ، فذكر الأجرة والأجل وسكت عن وصف العمل
؛ إذ قد يستغني عنه بالعرف المعهود فيه ،
وبالله التوفيق .
من سماع أشهب وابن نافع من مالك رواية سحنون
من كتاب البيوع الأول
قال سحنون : أخبرني أشهب وابن نافع قالا : سئل
مالك عن الرجل يقول للرجل : اعمل لي في هذا
التراب لبنا بيني وبينك ، فقال : ما يعجبني
ذلك . قال أشهب : رأيت السائل يسأله ، وسمعت
من مالك الجواب ، ولم أفهم ما سأل السائل عنه
؛ لأنه أخفى من صوته ، فسألت عما سأل ، فقيل
لي عن هذا .
(8/444)
قال محمد بن
رشد : إنما كره مالك هذه الإجارة في هذه
الرواية من أجل أنه لا يدري كيف يخرج اللبن ،
فكأنه استأجره بشيء لا يدري ما هو ، وقد قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من استأجر
أجيرا فليعلمه أجره " ، وقال : " من استأجر
أجيرا فليواجره بأجر معلوم إلى أجل معلوم " ،
فلا يجوز للرجل أن يستأجر الرجل إلا بما يجوز
بيعه ، ولا يجوز على هذه الرواية بيع اللبن
قبل أن يعمل ، كما لا يجوز بيع الثوب قبل أن
ينسج ، ولا أن يستأجر على عملها بنصفها ، كما
أنه لا يجوز أن يستأجر الرجل الرجل على دباغ
الجلود بنصفها ، ولا على نسج الغزل بنصفه .
وسواء قال له : اعمل هذا التراب لبنا يكون
بيني وبينك ، أو قال له : اعمل فيه لبنا ، فما
عملت فهو بيني وبينك ؛ لأن الأول إجارة وهذا
جعل ، والجعل في المجاعلة لا يكون إلا معلوما
، كما أن الأجرة في الإجارة لا تكون إلا
معلومة ، فإن وقع ذلك وفات بالعمل كانت اللبن
لصاحب التراب ، وكان عليه للعامل أجر مثله في
عمله ، وإن لم يعثر على ذلك حتى قبض الأجير
نصفها ، وفاتت في يديه بما يفوت به البيع
الفاسد ؛ لزمته قيمته يوم خروجها من العمل ؛
لأنه حينئذ كان قابضا لنصفها ، ويكون له أجر
مثله في عملها كلها .
وكراهية مالك في هذه الرواية لهذه الإجارة
خلاف أصل ابن القاسم في أن ما لا يعرف وجه
خروجه ، ويمكن إعادته للعمل بمنزلة ما يعرف
وجه خروجه في أنه يجوز بيعه قبل أن يعمل على
أن يعمله البائع ، وفي أنه يجوز الاستئجار على
عمله بالجزء منه ، فقد أجاز في رسم أسلم ، من
سماع عيسى : أن يستأجر الرجل الرجلَ على بناء
البقعة بنصفها ؛ لأن البناء تمكن إعادته إن لم
يخرج على الصفة ، وذلك لا يجوز على قياس قول
مالك في هذه الرواية ، وعلى قياس قول مالك في
هذه الرواية يأتي قول سحنون أن كل بيع وأجرة
تكون الأجر فيه في نفس المبيع لا يجوز ،
وبالله التوفيق .
(8/445)
مسألة
وسئل مالك عن الحجام أيشارط على عمله ؟ قال :
لا بأس بذلك أن يشارط ، فيقول : أحجمك بدرهم ،
أحجمك بنصف درهم .
قال محمد بن رشد : قوله : لا بأس بذلك ، أي لا
بأس بالأجرة المأخوذة في ذلك ؛ لأن السؤال
إنما وقع عن ذلك ؛ لما جاء في كسب الحجام ،
فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم : " أنه
سحت وأنه خبيث ، وأنه حرام" والمعنى فيه فيما
روي عنه من ذلك أنه كسب دنيء ينبغي التنزه عنه
في مكارم الأخلاق ، بدليل ما ثبت من أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم "احتجم وأعطى الحجام
أجرة" ، ولو كان حراما لما أعطاه إياه .
وقد قيل : إن ما روي عن النبي صلى الله عليه
وسلم من ذلك منسوخ بما روي عن محيصة بن مسعود
الأنصاري ، أحد بني حارثة أنه استأذن رسول
الله صلى الله عليه وسلم في إجارة الحجام
فنهاه عنها ، فلم يزل يسأله ويستأذنه حتى قال
: أعلفه نضاحك يعنى رقيقك ، والأول أظهر أنه
إنما نهاه أولا عنها على سبيل التنزيه له عنها
لدناءتها ، لا لأنها حرام ، فلما ألح عليه في
الاستئذان أذن له في أن يطعمه رقيقه ونضاحه .
وفي إذن النبي صلى الله عليه وسلم أن يطعمه
نضاحه ورقيقه ، دليل بين على أنها ليست بحرام
؛ لأن ما لا يحل للرجل أكله لا يحل له أن
يطعمه رقيقه ولا نضاحه . فقول مالك : لا بأس
به ؛ معناه أنه لا إثم عليه ، ولا حرج في أكله
، وإن كان التنزه عنه أفضل ؛ لحض النبي صلى
الله عليه وسلم على ذلك ، ولم يرد أنه لا بأس
باستئجار الحجام على هذا الوجه ؛ إذ لا وجه
لاستئجاره على الحجامة سواه ، وبالله التوفيق
.
مسألة
وسئل مالك عن الذي يستخيط الخياط الثوب ، يقول
له : إن
(8/446)
أعطيتنيه بعد
غد ، فلك فيه ثلاثة دراهم ، فقال : لا خير فيه
، وليس هذا من بيوع الناس . فقل له : إن هذا
من عمل الناس ، فقال : لا والله إلا أن يكونوا
بالإسكندرية ، وما هذا من بيوع الناس ، وهذا
باب عظيم يأتيه فيقول له : خط لي ثوبي هذا
بثلاثة دراهم ، وتعطينيه غدا ، فلا يعطيه إياه
غدا ، فكيف يصنع إذا لم يعطه إياه غدا ؟ فليس
هذا من بيوع الناس .
قال محمد بن رشد : هذا هو المشهور أن الإجارة
على هذا غير جائزة ، هو قوله في رسم المحرم ،
ورسم سلف ، من سماع ابن القاسم ، وقد قيل : إن
ذلك جائز إذا كان لا إشكال في أن العمل يمكن
تمامه قبل الأجل ، وقد ذكرنا ذلك في أول مسألة
من سماع ابن القاسم ، فعلى القول بأن ذلك لا
يجوز يكون للأجير إن فاتت الإجارة بالعمل
إجارة مثله بالغة ما بلغت على تعجيلها أو
تأخيرها .
وأما على القول بأن ذلك جائز ، فإن فرغ منه في
اليوم الذي سمى كانت له الإجارة المسماة ، وإن
لم يفرغ منه إلا بعد ذلك كانت له إجارته على
غير التعجيل ؛ لأن المستأجر إنما رضي بما رضي
به من الأجرة على التعجيل ، فإذا أخطأه ذلك لم
ينبغ أن يؤخذ ماله باطلا ، قال ذلك أصبغ في
الواضحة ، وقال : إنه ليست الإجارة على هذا من
شرطين في شرط ، إذ لم يعاقده على أنه إن أعطاه
إياه غدا ، فإجارته كذا ، وإن لم يعطه إياه
غدا فله إجارة مثله .
وقد تحدث في الإجارات والبيوع أحداث كثيرة
تردهما إلى غير الثمن الأول والأجرة الأولى .
إنما أراد بقوله : لا والله إلا أن يكونوا
بالإسكندرية استنقاص أهل الإسكندرية ؛ لأنها
محرس تشبه البادية ، وبالله التوفيق .
(8/447)
مسألة
وسئل مالك عن العامل بيده يقول للرجل العامل
مثله : أعني خمسة أيام ، وأعينك خمسة أيام ،
قال : لا بأس بذلك ؛ لأن الناس يسألون عن مثل
هذا كثيرا ، يأتي الرجل إلى أخيه فيقول له :
أعني على حصاد زرعي وعمله أياما ، وأعينك مثل
ذلك على حصاد زرعك ودراسه وعمله ، فلا أرى
بذلك بأسا تستعينه في أيام شغلك حتى يفرغ ، ثم
تعينه بعد فراغك في أيام شغل هذا الآخر أيضا ،
فلا أرى بهذا بأسا ، والناس يتعاونون على
الأعمال ، إذا كثر عمل هذا أعانه هذا ، وإذا
كثر عمل هذا أعانه هذا .
قال محمد بن رشد : وهذا كما قال : إنه جائز لا
بأس به ؛ لما في ذلك من الرفق بالناس للتعاون
على أعمالهم ، وقد يكون العمل مما لا يقدر
الواحد على عمله منفردا ، فلو منع من هذا لأضر
ذلك بالناس ، وتعطلت عليهم أعمالهم إذا كان
الكثير منهم لا يقدر على الاستئجار على عمله ،
وإن قدر مما استغرقته الإجارة ، فكانت هذه
ضرورة تبيح ذلك ، وإنما يجوز ذلك فيما قل وقرب
من الأيام ، وإن اختلفت الأعمال ، ففي رسم
البيع والصرف من سماع أصبغ عن أشهب أنه قال :
لا بأس أن يقول الرجل للرجل : أعطني عبدك
النجار يعمل لي اليوم ، وأعطيك عبدي الخياط
يخيط لك غدا .
وقد سئل سحنون عن الرجل يقول للرجل : احرث لي
اليوم ، وأحرث لك غدا ، قال : لا بأس بذلك .
قيل له : فإن قال له : احرث لي في الصيف وأحرث
لك في الشتاء ؟ قال : لا خير فيه . قيل له :
فالمرأة تقول للمرأة : انسج لي اليوم ، وأنسج
لك غدا ، قال : لا بأس به ، وإن قالت : انسج
لي اليوم ، وأغزل لك غدا . قال : إذا وصفت
المغزل الذي تغزل به فلا بأس بذلك ، وإلا لم
يجز ، وبالله التوفيق .
(8/448)
مسألة
وسئل مالك عن الرجل يكون له الزرع قد طاب وحل
بيعه ، يأتيه الرجل فيقول له : احصده لي
وادرسه على النصف ، قال : لا بأس بذلك .
قال محمد بن رشد : هذا خلاف ما في الجعل
والإجارة من المدونة ، وفي رسم يشتري الدور
والمزارع ، من سماع يحيى بعد هذا ، من أنه لا
يجوز أن يقول الرجل للرجل : احصد زرعي هذا ،
وادرسه واذره ، ولك نصفه ، وإنما يجوز إذا قال
له : احصده ولك نصفه ، وعلى رواية أشهب هذه
يأتي ما ذهب إليه أصبغ في آخر رسم البيع
والصرف من سماعه ، من كتاب جامع البيوع ، وقد
تكلمنا على ذلك هنالك .
وقد ذهب ابن لبابة إلى أن الخلاف إنما هو إذا
قال له : احصده وادرسه ولك نصفه ، وأنه لا
خلاف إذا قال له : احصده وادرسه واذره ، في أن
ذلك لا يجوز ، كما أنه لا خلاف إذا قال له :
احصد ولك نصفه ، في أن ذلك جائز ، وليس ذلك
بصحيح ، لا فرق بين أن يشترط عليه الذر مع
الدرس ، أو لا يشرط عليه معه ، والجواز في ذلك
أظهر ؛ لأن نصف الزرع يجب له بعقد الإجارة
بعمل النصف الآخر ، فسواء كان الحصاد وحده ،
أو الحصاد والدرس ، أو الحصاد والدرس والذرو ؛
لأن ذلك كله معلوم ، لو استأجر عليه بالدنانير
والدراهم لجاز ، فكذلك إذا استأجر عليه بنصف
الزرع .
فإن قيل : إنه إذا اشترط عليه الدرس والذرو
صار كأنه استأجره بما يخرج منه ، وذلك غرر .
قيل له : لا يلزم هذا ؛ إذ لو لزم لما جاز ،
وإن لم يشترط عليه إلا الحصاد وحده ؛ إذ قد
علم أنه لا يأخذ أجرته إلا حبا ؛ إذ لا يصح
قسمة الزرع محصودا حتى يدرس ويذرى ويصفى ،
وهذا لو وعى ، ويتبع لما جاز بيع نصف الزرع
بالدنانير والدراهم ؛ إذ قد علم أنه لا يأخذه
إلا حبا بعد التصفية ، ولكنه جاز ذلك ؛ لأنه
بنفس الشراء يجعلان فيه شريكين كما لو
(8/449)
ورعاه أو وهب
لهما ، فكذلك يحصلان فيه شريكين بعقد الإجارة
بالعمل ، كان الحصاد وحده أو الحصاد والدرس
والذرو .
ولا اختلاف بينهم في أنه لا يجوز أن يبيع
الرجل زرعه على أن عليه حصاده ودرسه أو حصاده
ودرسه وذروه . وقد ذهب أبو إسحاق التونسي إلى
ما يتخرج عليه جواز ذلك ، وذلك أنه قال : قد
أجازوا أن يبيع الرجل زرعه على أن عليه حصاده
، ومن قولهم : إنه لا يجوز أن يباع القمح بعد
أن يحصد في سنبله ، فإن قيل : إن ذلك جائز من
أجل أنه قد رآه قائما قبل أن يحصد ، قيل له :
يلزم على هذا أن يجوز بيعه على أن على البائع
حصاده ودرسه وذروه ، وهذا الذي قال أبو إسحاق
التونسي غير صحيح ؛ لأن بيع القمح بعد أن يحصد
في سنبله جائز ؛ لأنه إذا جاز بيعه وهو قائم
قبل أن يحصد ، فأحرى أن يجوز بيعه وهو في
سنبله بعد أن حصد ، وإنما الذي لا يجوز أن
يباع بعد أن يحصد ويدرس ، وبالله التوفيق .
مسألة
وسئل مالك عمن استأجر أجيرا خمسة عشر عاما ،
فقال : هذا كثير ، فلا أرى هذا يصلح ، ولكن لا
بأس أن يستأجره سنة وينقده إجارته .
قال محمد بن رشد : قوله : ولكن لا بأس أن
يستأجره سنة ، وينقده إجارته ، دليل على أنه
إنما كره الخمسة عشر عاما مع النقد ، وظاهر ما
في كتاب الجعل والإجارة من المدونة ، من قوله
: إجارة النقد في الخمسة عشر عاما خلاف قول
غيره فيه : إنه لا يجوز إجارة العبيد السنين
(8/450)
الكثيرة ؛ لأنه
غرر ، والدواب أكثر غررا ؛ لأنها تتغير ، فلا
يجوز كراؤها السنين ، وبالله التوفيق .
ومن كتاب الأقضية
وسئل مالك عن قوم يتكارون الدليل للطريق ،
فيخطئ بهم ، ويريد أن يأخذ أجرته ، فقال مالك
: أما الرجل العالم بذلك فما أرى عليه شيئا ،
وأرى له الكراء ، وأما الجاهل الذي لا يعرف
يغرهم فيقول لي دلالة ومعرفة ، وليس كذلك ،
فوالله ما أرى له شيئا . قال أشهب : ليس لهما
جميعا شيء .
قال محمد بن رشد : الاختلاف في هذه المسألة
كالاختلاف في أجرة الذي يستأجر على انتقاد
الدراهم ، فيخطئ ولا يغر من نفسه ، وقد مضى
القول على هذا المعنى مشروحا مبينا مستوفى في
رسم أخذ يشرب خمرا ، من سماع ابن القاسم ، من
كتاب الصرف ، فلا وجه لإعادته ، وبالله
التوفيق .
مسألة
وسألته عن حفار القبور يستحفر القبر بشيء
معلوم وينهار ، فيأتي ويطلب ما جعل له ؟ قال
لي : أما إن كان انهار قبل أن يفرغ منه ؛ فإن
عليه أن يحفر لهم قبرا ثانيا ، وأما إن كان
انهار بعد فراغه منه ، فأرى جعله له ، ولا شيء
عليه ؛ لأنه قد فرغ من عملهم ، وبرئ منهم ،
فإن شاءوا أبطئوا بصاحبهم ، وإن شاءوا عجلوا
به .
(8/451)
قال محمد بن
رشد : هذه مسألة بينة صحيحة لا اختلاف فيها
على أصولهم في أن المجعول له لا شيء له إلا
بتمام العمل ، وبالله التوفيق .
ومن كتاب البيوع الأول
قال : وسئل مالك على إجارة المعلمين ، فقال :
لا بأس بذلك يعلم الخير . قيل : إنه يعلم
مشاهرة ، ويطلب ذلك ، فقال : لا بأس به ما زال
المعلمون عندنا بالمدينة . وسألته عن تعليم
أبناء اليهود والنصارى الكتاب بغير قرآن ،
فقال : لا والله ما أحب ذلك يصيرون إلى أن
يقرءوا القرآن . قال : وسألته عن تعليم المسلم
عند المعلم النصراني كتاب المسلمين أو كتاب
الأعجمية ، فقال : لا والله ، وكرهه ، لا
يتعلم مسلم عند النصراني ، ولا النصراني عند
المسلمين ؛ لقول الله تبارك وتعالى : ((
وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ
مِنْهُمْ )) .
قال محمد بن رشد : قوله : لا بأس بإجارة
المعلمين معلوم من مذهبه ومذهب أصحابه في
المدونة وغيرها . وقد أجمع على ذلك أهل
المدينة . فهم الحجة على من سواهم ممن خالف في
ذلك ، فلم يجز أخذ الثواب على تعليم القرآن ،
ولا اشتراط الأجرة في ذلك ، وأجاز أخذ الثواب
ومنع من اشتراط الأجرة . والحجة لمالك ومن
تابعه من جهة الأثر إباحة النبي عليه السلام
الجعل للذي اشترطه على الرقي بكتاب الله تعالى
، على ما جعل في النفر من أصحابه الذين مروا
بحي من أحياء العرب ، فاستضافوهم فلم يضيفوهم
، فلدغ سيدهم فسعوا له بكل شيء لا ينفعه شيء ،
فأتوهم فقالوا لهم : إن سيدنا لدغ ، وقد سعينا
بكل شيء لا ينفعه شيء ، فهل عند أحد منكم من
شيء ؟ فقال أحدهم : نعم والله ، إني لراق ،
ولكنا قد استضفناكم فلم
(8/452)
تضيفونا ، فما
أنا براق حتى تجعلوا لنا جعلا ، فجعلوا له
قطيعا من الغنم ، فجعل يتفل عليه ، ويقرأ بأم
الكتاب ، فبرئ كأنما أنشط من عقال . فأقبل
بالغنم يسوقها ، فسأله أصحابه أن يقتسموها
فأبى حتى يسأل عن ذلك النبي عليه السلام ،
فسألوه فقال : "اقسموا ، واضربوا لي معكم
بسهم" . وقوله عليه السلام للذي سأله أن يزوجه
المرأة التي وهبت له نفسها : "قد أنكحتكها بما
معك من القرآن" إذ لم يجد شيئا يصدقها إياه ،
على ما جاء في بعض الآثار من قوله عليه السلام
: "فعلمها إياه" .
ومن جهة النظر أنه لما كان الجلوس لتعليمهم
القرآن غير واجب على الرجل ، ولا لازم له ،
جاز له أخذ الأجرة عليه ، وإن كان فيه قربة ؛
أصل ذلك الاستئجار على بناء المساجد ، وما
أشبه ذلك ، وحديث عبادة الذي استدل به المخالف
قال : كنت أعلم ناسا من أهل الصفة القرآن ،
فأهدى إلي رجل منهم قوسا على أن أقبلها في
سبيل الله ، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله
عليه وسلم ، فقال : "إن أردت أن يطوقك الله به
طوقا من نار فاقبلها" تأويله في مبتدأ الإسلام
، وحين كان تعليم القران فرضا على الأعيان ؛
لقول النبي عليه السلام : "بلغوا عني ولو آية"
، وأما إذ قد حصل التبليغ ، وفشا القرآن ،
وصار مثبتا في المصاحف ، محفوظا في الصدور ،
فليست الأجرة على تعليمه أجرة على تبليغه ،
وإنما هو أجرة على الجلوس لتعليمه ، والاشتغال
بذلك عن منافعه . وقوله : إن ذلك كالأجرة على
تعليم الصلاة ، ليس بصحيح ؛ لأن تعليم
(8/453)
الجاهل الصلاة
واجب ، وليس بواجب على أحد الجلوس لتعليم
القرآن ، وهذا بين والحمد لله ، فالأجرة على
تعليم القرآن جائزة مشاهرة ومقاطعة على جميع
القرآن ، أو على جزء معلوم منه نظرا أو ظاهرا
، ووجيبة لمدة معلومة من الشهور أو الأعوام ،
فالمشاهرة غير لازمة لواحد منهما ، لأب الصبي
أن يخرج ابنه متى شاء ، وللمعلم مثل ذلك أيضا
.
وأما الوجيبة والمقاطعة فلازمتان لكل واحد
منهما ، ليس للأب أن يخرج ابنه قبل انقضاء
الوجيبة ، أو قبل تمام المقاطعة ، إلا أن يؤدي
إليه جميع الأجر ، وأجاز ابن حبيب أن يسمي في
المقاطعة أجلا ، وحكاه عن مالك ، وذلك خلاف
المشهور من قوله على ما مضى القول فيه ، في
أول رسم من سماع ابن القاسم وفي غيره ، وقال :
إنه يقضى للمعلم بالحذقة في النظر ، والظاهر
قدر حال الأب ويسره ، وقوة حفظ الصبي وتجويده
؛ لأنها مكارمة جرى الناس عليها ، إلا أن
يشترط الأب أنه لا شيء عليه سوى الخراج ، فإن
أخرج الأب ابنه ، وقد تدانت الحذقة لزمته ،
وإن كان بينه وبينها ماله بال مثل السدس ونحوه
، لم تكن عليه الحذقة ، ولا على حساب ما مضى
منها .
وأما إن اشترط المعلم الحذقة ، فلا تجوز
منبهمة دون تسمية ، ومتى أخرج الأب ابنه قبل
البلوغ إليها لزمه منها بحساب ما مضى قل أو
كثر ، وسيأتي في نوازل سحنون من هذا المعنى ،
وقال : إنه لا يقضى بالأخطار في الأعياد ، وإن
كان ذلك مستحبا فعله في أعياد المسلمين ،
ومكروه في أعياد النصارى مثل النيروز
والمهرجان ، فلا يجوز لمن فعله ، ولا يحل لمن
قبله ؛ لأنه من تعظيم الشرك . ووجه تفرقة ابن
حبيب بين الأخطار والحذقات ، وإن كان القياس
ألا فرق بينهما إذا جرى العرف بهما ، هو أن
الحذقة إنما بلغ الصبي إليها بتعليم المعلم
واجتهاده ، فكان لمكافأته على ذلك وجه ، وبلوغ
الصبي عنده إلى العيد لا عمل فيه للمعلم ، فلم
يكن لمكافأته على ذلك وجه ، والله أعلم .
وأما تعليم المسلم أبناء اليهود والنصارى ، أو
تعلمه عندهم ؛
(8/454)
فالكراهة في
ذلك بينة ، وقد قال ابن حبيب : إن ذلك سخطة
فيما فعله ، مسقطة لإمامته وشهادته ، وبالله
التوفيق .
مسألة
قال : وسئل مالك عن أكل خراج الحجام ، فقال :
لا بأس به ، وما زال الناس بالمدينة يأكلونه
ويتخذونهم .
قال محمد بن رشد : قول مالك : هذا صحيح على
أصله في أن العمل المتصل يقضي على أخبار
الآحاد العدول ، فقد حكى عن ربيعة أنه كان
يقول في كسب الحجام وما جاء فيه النهي : إنهم
كانوا في ذلك الزمان ، والذي في أيديهم الشيء
اليسير ، فلما وسع الله ، وكثر العبيد ،
اتخذهم الناس ، وحكى عن الليث عنه أنه قال :
لا بأس به ، وقد كان للحجامين سوق معلومة على
عهد عمر بن الخطاب ، ولولا أن يأنف رجال
لأخبرتك بآبائهم كانوا حجامين ، وما أقره عمر
بن الخطاب ، ولم ينكره بمحضر الصحابة ، فقد
حصل أصلا بإجماع الصحابة عليه ، فوجب القول به
، والمصير إليه ، وقد مضى في أول سماع أشهب
بيان في هذا المعنى ، وبالله التوفيق .
مسألة
وسئل مالك عن كسب البيطار ، فقال : ما أرى به
بأسا ، يعالج الدواب .
قال محمد بن رشد : وهذا كما قال : إنه لا بأس
بذلك ؛ لما في معالجتها من الأدواء التي تنزل
من استدامة الانتفاع بها ، وقد قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : "أنزل الدواء الذي أنزل
الأدواء" ، والله الموفق .
(8/455)
مسألة
وسئل مالك عمن آجر عبده شهرا بعشرة دراهم على
أن للعبد راحة يومين ، فيبطل العبد أياما سوى
اليومين ، فأراد سيد العبد أن يعطيه قيمة تلك
الأيام من ثلاثين يوما ، وقال المتكاري : لا
بل من ثمانية وعشرين يوما . فقال : الذي أرى
الآن ، ويأخذ بقلبي ، وما هو عندي بالبين أنه
إن كان اشترط عليه طعام اليومين اللذين
يطلبهما حسب على الشهر ، وإن كان ليس عليه
طعام اليومين حسب ، على ثمانية وعشرين يوما ،
وإنما ذلك إذا اشترط عليه طعام اليومين اللذين
يبطلهما حسب على الشهر ، وإن كان ليس عليه
طعام اليومين قال : فإنما ذلك إذا اشترط طعام
اليومين حسب على ثمانية وعشرين ، كقوله :
أواجرك اليوم تتركه بعض النهار سويعة .
قال محمد بن رشد : هذه التفرقة استحسان لا
يحملها القياس ، والذي يوجبه القياس أن يحسب
بطالة الأجير من ثمانية وعشرين يوما على كل
حال ، كانت عليه نفقة اليومين أو لم تكن ، فإن
كانت عليه نفقة اليومين كانت قيمة النفقة
فيهما مضافة إلى الأجرة . مثال ذلك أن يستأجره
للشهر بسته وعشرين درهما ، ونفقته في جميع
الشهر على أن له راحة يومين ينفق عليه فيهما
ولا يخدهما ، فينظر إلى قيمة نفقة اليومين ،
فإن كانت درهمين كان كأنه استجاره ثمانية
وعشرين يوما بثمانية وعشرين درهما ونفقته فيها
، فإن تبطل سوى اليومين ، ولم يأخذ في الأيام
التي تبطل فيها نفقة حاسبه من إجارة الثمانية
وعشرين درهما بدرهم عن كل يوم ، وإن كان أخذ
في الأيام التي تبطلها نفقة حاسبة بدرهم عن كل
يوم وبقيمة نفقته فيه ، وبالله التوفيق .
(8/456)
مسألة
وسئل مالك عن عصر الجلجلان والفجل بكناسهما ،
وعن طحن القمح بنخالته ، أيصلح ذلك ؟ قال : لا
يعجبني ، ووجه مكروه ذلك ، لا يدري كم يصل
إليه من ذلك ، ويكون بعض ذلك أجود من بعض ،
النخالة هاهنا تباع وبعضها أجود من بعض .
قال محمد بن رشد : هذا بين على ما قاله أن ذلك
لا يجوز ؛ لأنها أجرة مجهولة القدر والصفة ،
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من
استأجر أجيرا فليواجره بأجر معلوم إلى أجل
معلوم" ، وبالله التوفيق .
من سماع عيسي من ابن القاسم
من كتاب نقدها نقدها
قال عيسى : قال ابن القاسم في الذي يقول :
أستأجرك شهرا بعشرة دنانير على أن تبيع لي كل
ما جاءني ، فإن لم يجئني شيء ، فلك العشرة
إجارتك كما هي ، إنه لا خير فيه ، ولا يصلح
حتى يكون شيئا ثابتا ، يقول : أستأجرك شهرا
على أن تبيع لي ، فإن جاءه ما يبيع له باع ،
وإلا كان له أن يواجره في مثل ذلك ، لا خير
فيه حتى يكون هذا ، ورآه من الغرر إذا كان على
غير شرط .
قال محمد بن رشد : هذا كما قال ؛ لأنه إذا
اشترط عليه ألا يبيع له إلا ما جاءه ، فإن لم
يجئه شيء لم يكن له أن يستعمله في شيء ، ووجبت
له أجرته كاملة كان غررا ، وإن لم يقع في
الإجارة شرط ولا تسمية ؛ لما جاء كانت جائزة ؛
لأن الحكم يوجب أن يستعمله في مثل ما استأجره
فيه ، ولا
(8/457)
خلاف في ذلك ؛
إذ لم يستأجره لشيء معين . فقوله : وأراه من
الغرر إذا كان على غير شرط ، معناه إذا عين له
ما يبيع له بقوله ما جاءني .
ولو قال : ما يأتي من بلد كذا ، أو من عند رجل
سماه ؛ لكان أبين في التعيين ، ولم يجز على
غير شرط ، وهذا على أصله في استئجار الأجير
لرعاية الغنم بأعيانها ؛ أن ذلك لا يجوز إلا
بشرط الخلف ، وسحنون يجيزها ، ويرى أن الحكم
يوجب الخلف ، فإن اشترط الخلف جاز باتفاق ،
وإن اشترط ألا خلف ، وأن تكون له الأجرة كاملة
، لم يجز باتفاق ، وإن لم يشترط الخلف جاز على
الاختلاف ، ولو اشترط إلا يبيع له إلا ما جاءه
، فإن انقطع المجيء عنه أو قل كان له من
الأجرة بحساب ما جاءه ، فإن نقد لم يجز باتفاق
، وإن لم ينقد جاز على قول ابن القاسم في الذي
يكتري الجمال على أن يسوق له بزا من بلد كذا ،
فإن وجده في الطريق رجع ، وكان له من الأجر
بحسابه إن ذلك جائز ، ولم يجز على قول سحنون
إن ذلك لا يجوز ، وبالله التوفيق .
ومن كتاب العرية
وسألته عن الرجل يستأجر الأجير سنة بعينها ،
أو شهرا بعينه ، أو يوما بعينه ، يعمل له عملا
مثل الخياطة والجزارة والبناء واستقاء الماء
والطحين ونحو ذلك ، فيروغ عنه في تلك السنة
بعينها ، أو الشهر بعينه ، أو اليوم بعينه ،
ثم يأتي بعد ذلك . قال : يفسخ العمل ويرد عليه
ما أخذ منه ، وإن كان عمل له شيئا حاصه بقدر
ذلك . وإنما الذي يلزمه من ذلك ، وإن راغ ثم
جاء مثل أن يقول له : اطحن لي هذا اليوم ويبة
، أو اطحن لي في هذا الشهر كل يوم ويبة ، أو
في هذه السنة ، فإن هذا وإن كانت سنة بعينها
أو شهرا بعينه ، أو يوما بعينه ، فإنه إذا راغ
في ذلك ، ثم جاء لزمه عمل
(8/458)
الذي سمى ؛ لأن
هذا لم يقع على اليوم كله ، ولا على السنة
كلها ، ولا على الشهر كله ، وإنما وقع على عمل
مسمى ، فهذا يضمن ما سمى إذا أخذ ، وإن كان قد
راغ في تلك الأيام بعينها ، وهو مثل أن يقول
الرجل للسقاء : اسكب لي في هذا الشهر ثلاثين
قلة في كل يوم قلة ، فيغيب في ذلك الشهر ، ثم
يقدم ، فإنما عليه ثلاثون قلة ، ولا تفسخ
الإجارة .
قال محمد بن رشد : قوله في الذي يستأجر الأجير
سنة بعينها ، أو شهرا بعينه لخدمة أو عمل ،
فيروغ في تلك السنة بعينها ، أو الشهر بعينه :
إن الإجارة تنفسخ في الأيام التي راغ فيها ،
ويرد من الإجارة ما نابها صحيح لا اختلاف فيه
؛ لأن من استأجر أجيرا لشهر بعينه ، فمرضه أو
مرض بعضه ، أو راغ فيه لا يلزمه أن يقضيه في
يوم آخر ، بل لا يجوز وإن رضيا به إذا كان قد
نقد إلا فيما قل ؛ لأنه فسخ دين في دين .
وأما قوله : وإنما الذي يلزمه من ذلك ، وإن
راغ ثم جاء مثل أن يقول له : اطحن لي هذا
اليوم ويبة ، أو اطحن لي في هذا الشهر كل يوم
ويبة ، أو في هذه السنة إلى آخر قوله في
المسألة ، فإنه خلاف المشهور في المذهب من أنه
لا يجوز في الإجارة مدتان في مدة ؛ لأن اليوم
أو الشهر أو السنة التي سمى مدة ، وما شرط
عليه أن يطحنه في ذلك الأجل الذي سمى من عدد
الويبات ، أو يسكبه له فيه من عدد القلال مدة
، فأجاز ذلك ، وجوازه إنما يأتي على قول ابن
القاسم في المدونة ، في الذي استأجر الثور على
أن يطحن له كل يوم إردبين ، فوجده لا يطحن إلا
إردبا ؛ لأنه أجاز الإجارة على ذلك ؛ إذ جعل
له في الإردب الذي طحن ما يجب له بحساب ما
اكترى ،
(8/459)
ولم يقل : إن
له فيه كراء مثله ، وعلى ما قاله ابن حبيب ،
وحكاه عن مالك وأصبغ في إجارة المعلمين . ومن
حق المستأجر علي هذا القول ألا يلزمه فيما
يأخذ من ذلك ، وراغ عنه إلا بعد الأجل إلا
القيمة إن كانت أقل من الثمن ؛ لأن من حقه أن
يقول : إنما رضيت بالزيادة على القيمة من أجل
التعجيل حسبما ذكرناه ، في أول رسم من سماع
أشهب ، والذي يأتي في هذه المسألة على المشهور
في المذهب من أنه لا يجوز في الإجارة مدتان في
مدة ، وهو قول مالك في رسم سلف ورسم المحرم ،
من سماع ابن القاسم ، وأول رسم من سماع أشهب ،
أن تفسخ الإجارة فيما بقي ، وتصحح بالقيمة
فيما مضى ، وبالله التوفيق .
مسألة
وعن رجل استأجر عبدا من رجل شهرا بقمح ، فلما
عمل عنده نصف شهر سأله أن يقاصه ويأخذ نصف
الحنطة ، أو يأخذ منه ثمن نصف ما عمل عنده
غلامه . قال : إن كان قد نقد القمح ، فلا يصلح
ذلك بمنزلة الدنانير ؛ لأنه إجارة وسلف ، إلا
أن تجيء من الأجير خيانة أو ما أشبه ذلك ،
فأرجو أن يكون خفيفا ، لا يبيع الأجير ما أجر
به نفسه من الطعام حتى يستوفيه ، وإن كان لم
ينقد ، فلا بأس به ، ولا يأخذ إلا قمحا .
قال محمد بن رشد : مساواته بين الطعام
والدنانير في أن الإقالة من نصف الشهر الثاني
لا تجوز إذا كان قد نقد صحيح ؛ لأن ما يرد من
الشهر إجارة ، فيدخله في الوجهين جميعا إجارة
، وسلف دخولا واحدا ، فيتهمان على القصد إلى
ذلك ، والتحيل لإجازته بينهما بما أظهراه من
الإجارة والإقالة ، إلا أن يظهر في أمرهما ما
يرفع التهمة عنهما في القصد إلى ذلك من خيانة
تجيء من الأجير ، أو ما أشبه ذلك من الأسباب
التي تكون سببا
(8/460)
للإقالة ، وهذا
على القول بأن محمل الإجارة المعينة محمل
الإجارة المضمونة ، ومحمل السلم الثابت في
الذمة ، وقد مضى ذكر اختلاف قول مالك في هذا
الأصل في رسم الشريكين ، من سماع ابن القاسم ،
فلا معنى لإعادته ، وأما إذا لم ينقد فجائز أن
يقيله من نصف الشهر الثاني ، ويأخذ منه نصف
الحنطة في نصف الشهر الذي عمل ، ولا يجوز له
أن يأخذ منه في نصف الشهر الذي عمل إذا أقاله
فيما بقي منه غير الطعام ، لا يأخذ منه دنانير
ولا دراهم ولا عروضا ولا طعاما مخالفا للطعام
الذي استأجره به ، ولا مثله أقل مما وجب له
ولا أكثر ؛ لأنه يدخله في ذلك كله بيع الطعام
قبل أن يستوفى .
وإنما يجوز أن يقيله من نصف الشهر الباقي على
نصف الطعام إذا كانت قيمة عمل نصف الشهر الأول
وقيمة عمل نصفه الآخر متساويين ، وأما إن كانت
قيمة أحدهما أكثر من الآخر ، فلا يجوز إلا على
ما يجب لما عمل ، ولما بقي من الطعام على
اختلاف في ذلك ؛ لما قد يدخل من الغلط في
التقويم فيكون بيع الطعام قبل أن يستوفى ، بين
هذا مسألة سماع أبي زيد ، من كتاب السلم
والآجال ، وقد مضت والقول عليها ، فلا معنى
لإعادته ، وبالله التوفيق .
مسألة
قال ابن القاسم في رجل قال لرجل : أعطني عرصتك
هذه أبنيها بعشرة دنانير ، أو بما دخل فيها
على أن أسكنها في كل سنة بدينار حتى أوفي ما
غرمت فيها وأصلحت . قال : إن سمى عدة ما
يبنيها به ، وما يكون عليه في كل سنة ، فذلك
جائز ، وإن لم يسم فلا خير فيه .
(8/461)
قال محمد بن
رشد : هذا مثل ما في رسم البز ، من سماع ابن
القاسم ، من كتاب كراء الدور ، وهو كفا قال ؛
لأنه إن سمى عدة ما يبنيها به ، ولم يسم ما
يكون عليه في كل سنة ؛ كان كراء مجهولا ، وإن
سمى ما يكون عليه في كل سنة ، ولم يسم ما
يبنيها به ، كان الكراء معلوما ، وأمده مجهولا
، وإذا سمى الوجهين كان كراء معلوما إلى أجل
معلوم فجاز ، وإنما جاز وإن لم يبين هيئة بناء
العرصة ، والأغراض في ذلك مختلفة ، من أجل أن
المكتري كالوكيل له على ذلك ، فإذا بنى العرصة
على الهيئة التي تشبه أن تبنى عليها لزمه ،
كمن وكل رجلا أن يشتري له ثوبا أو جارية ،
فاشترى له ما يشبه أن يشتري له من ذلك لزمه .
ولو وصف البنيان وعدد ما يسكنها من السنين
لجاز ، وإن لم يسم عدة ما يبنيه به ، ولا ما
يكون عليه في كل سنة ، بل لا يجوز إذا اكتراها
منه سنين معلومة ببناء موصوف أن يسمي للبنيان
عددا معلوما ؛ لأنه يعود بذلك غررا ، ويكون من
بيعتين في بيعة ، وبالله التوفيق .
ومن كتاب يوصي لمكاتبه بوضع نجم من نجومه
وسألت ابن القاسم عن الرجل يقول : من جاءني
بعبدي الآبقين ، فله عشرة دنانير ، فيؤتى
بأحدهما . قال ابن القاسم : لا أحب هذا الجعل
حتى يجعل في كل واحد منهما جعلا معروفا . قلت
: فإذا وقع ؟ قال : إذا وقع وكانت أثمانهما
سواء ، رأيت له نصف العشرة ، وإن اختلفت
أثمانهما كان له من العشرة بقدر ثمن الذي جاء
به من ثمن صاحبه ؛ لأنه إذا جاء بأدناهما ثمنا
، قال صاحبه : لم أكن أرضى أن أجعل في هذا
خمسة دنانير ، وإنما ثمنه عشرة .
قال محمد بن رشد : قول ابن القاسم : هذا خلاف
قوله في المدونة أنه جعل فاسد ، ويكون له في
الذي أتى به منهما قيمة عمله على قدر عنائه
(8/462)
وطلبه ، وخلاف
قول ابن نافع فيها : إنه يكون له في الذي أتى
به منهما نصف العشرة ، وجعل مجاعلة الرجل
الرجل في العبدين الآبقين جعلا واحدا ، لا
يخلو من أربعة أوجه ؛ أحدها : أن يجعل له
فيهما جعلا واحدا عشرة في التمثيل على أنه إن
أتى بهما فله العشرة ، ولا شيء له إن أتى
بأحدهما دون الآخر . والثاني : أن يجعل له
فيهما عشرة دنانير على أنه إن جاء بأحدهما فله
نصف العشرة ، أو على أنه إن أتى بفلان منهما
فله من العشرة كذا وكذا ، وإن أتى بفلان منهما
فله كذا وكذا . والثالث : أن يجعل له فيهما
عشرة على أنه إن جاء بأحدهما ، فله فيه من
العشرة على قدر ثمنه من ثمن صاحبه . والرابع :
أن يجعل له فيهما عشرة دنانير دون بيان ما
يكون له إن أتى بأحدهما دون الآخر .
فأما الوجه الأول فلا اختلاف في أن الجعل فيه
فاسد ، ويكون له فيه إن أتى بأحدهما إجارة
مثله ، أو جعل مثله ، على ما مضى في رسم طلق
ابن حبيب ، من سماع ابن القاسم ، من الاختلاف
في الجعل الفاسد إذا وقع وفات بالعمل ، هل يرد
إلى حكم نفسه وهو الجعل ؟ أو إلى حكم غيره وهو
الإجارة ؟
وأما الوجه الثاني فهو جعل جائز على سنة الجعل
الجائز .
وأما الوجه الثالث فاختلف فيه ، فقيل : إنه
جعل فاسد ، وهو قول مالك في المبسوطة ، وقيل :
إنه جعل جائز . والاختلاف في هذا مبني على
اختلافهم في إجازة جمع الرجلين سلعتيهما في
البيع ؛ لأن جملة الثمن معلوم ، وما يقع لكل
سلعة منهما لا يعلم إلا بعد التقويم ، كما أن
جملة الجعل في العبدين معلوم ، وما يقع لكل
عبد منهما لا يعلم إلا بعد التقويم .
وأما الوجه الرابع وهو أن يقع الجعل منهما دون
بيان ما يكون له إن جاء بأحدهما ، فاختلف على
ما يحمل من الأوجه الثلاثة ، فحمله ابن القاسم
في المدونة على ظاهره ، من أنه لا شيء له من
العشرة إلا أن يأتي بهما جميعا ، وحكم له بحكم
الجعل الفاسد ، وحمله في هذه الرواية إذا وقع
، وأتى بأحدهما مع كراهيته لوقوعه ابتداء دون
بيان على أنهما إنما قصدا إلى أن يكون له فيمن
جاء به منهما ما يقع له من الجعل على قدر
قيمته من قيمة صاحبه ، فأوجب له في الذي أتى
به منهما ما يقع له من الجعل ، على ما ظهر
إليه من قصدهما على أحد قوليه في إجازة جمع
الرجلين
(8/463)
سلعتيهما في
البيع . وحمله ابن نافع في المدونة إذا وقع
وفات على أنهما إنما قصدا إلى ما يجوز من أن
يكون له إذا أتى بأحدهما نصف العشرة ، فأوجب
ذلك له ، فهذا وجه الاختلاف في هذه المسألة ،
وبالله التوفيق .
مسألة
قلت : فرجل قال لرجل : صح على هذه السلعة ،
فإن بعتها بعشرة دنانير ، فلك من كل دينار
سدسه . قال : هذا حلال لا بأس به ؛ لأنه قال
له : إن بعت هذه السلعة بعشرة دنانير فلك
دينار وثلثان . قلت : فإن باعها بأكثر من عشرة
؟ قال : فليس له إلا الدينار والثلثان الذي
جعل له أولا ، وإن باعها بعشرين . قلت :
أفيجوز له أن يقول : بع وصح على هذه السلعة ،
فما بعتها به من دينار ، فلك من كل دينار سدسه
، ولم يوقت له ثمنا ؟ قال : هذا حرام لا خير
فيه .
قال محمد بن رشد : هذا بين على ما قال ؛ لأن
من شروط صحة الجعل أن يكون الجعل معلوما ،
فإذا كان الجعل ثابتا لا يزيد بزيادة الثمن ،
ولا ينقص بنقصانه جاز ، وإن كان يزيد بزيادته
وينقص بنقصانه لم يجز ؛ لأنه مجهول ، وبالله
التوفيق .
ومن كتاب أوصى أن ينفق على أمهات أولاده
قال ابن القاسم : من استأجر أجيرا ينسج له أو
يعمل له عملا من الأعمال ، فينجز عمله ؛ أنه
لا بأس أن يرسله يعمل للناس ، ويأتيه بما عمل
أو يكريه في مثل ما استأجره عليه .
(8/464)
قال محمد بن
أحمد : هذا كما قال : إنه إذا استأجره على عمل
غير معين ، فينجز عمله ، كان من حقه أن يواجره
من غيره ، ويأخذ إجارته ؛ لأنه قد استحق
منافعه بالاستئجار ، فله أن يستعملها في عمل
نفسه ، وفي عمل غيره ، ولا يلزم الأجير أن
يذهب فيواجر نفسه من الناس ، ويأتيه بالأجر
إذا لم يستأجره على ذلك ، فإن رضي بذلك لم يكن
به بأس كما قال . ولا اختلاف في شيء من هذا ،
وإنما اختلف إذا استأجره على عمل بعينه ، فتلف
ما استأجره عليه ، على ما مضى القول فيه في
رسم طلق ، من سماع ابن القاسم ، ولا معنى
لإعادته ، وبالله التوفيق .
مسألة
وقال ابن القاسم : لا أرى بأسا أن ينزي البغل
على البغلة إذا استودفت ، ورأيته كأنه يكره
الإجارة في نزوه ؛ لأنه لا يعق له ، وقال :
ليس فيه منفعة ، ثم قال : لا أدري ما هو . قال
عيسى : لا أرى به بأسا إذا كانت قدادته ، وإن
استأجره إذا كان لا يجد من ينزي له باطلا .
قال محمد بن رشد : لم يستبن لابن القاسم أولا
وجه المنفعة في ذلك ، فكره الإجارة فيه ، ثم
ظهرت له ولم يتحققها فقال : لا أدري ما هو .
وقول عيسى هو البين ؛ لأن المنفعة في ذلك
معلومة للمستأجر بصلاح بغلته ، وإن لم تعق ،
والله تعالى الموفق .
مسألة
وسئل عن أجر القابلة على من هو أعلى الرجل ،
أم على
(8/465)
المرأة ؟ قال :
إن كان أمرا لا يستغني عنه النساء فهو على
الرجل ، وإن كان أمرا يستغني عنه النساء ، فهو
على المرأة ، ولا شيء على الزوج منه . قال
أصبغ : قيل لابن القاسم : فإن كانت المنفعة
لهما جميعا ، والمضرة عليهما جميعا على المرأة
والصبي ؟ قال : هذا عليهما جميعا على المرأة
وعلى الزوج . قيل له : بالنصف والنصف ؟ قال :
لا ، كأنه يقول فيه على قدر منفعة كل واحد
منهما في ذلك . قال أصبغ : أراه على الأب كله
، قال الله تعالى : (( وَعَلَى الْمَوْلُودِ
لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ
بِالْمَعْرُوفِ )) ، ففرض لهن ذلك بالولد ،
والولد هبة منهما لهما جميعا ، وكذلك نوائب
الولد ومخرجه ومصالحه كلها التي يخرج بها ،
ويحتاج إليها .
قال محمد بن رشد : في آخر أول رسم من سماع
أشهب ، من كتاب طلاق السنة ، من قول مالك ما
يقتضي أنه على المرأة ، فهي ثلاثة أقوال في
المسألة ، لكل قول منها حظ من النظر ، قاس ذلك
أصبغ على نفقة الحمل ، فرآه على الأب ، وإن
كانت فيها منفعة للمرأة ، كما أن النفقة عليه
بسبب الولد ، وإن كانت فيها منفعة للمرأة ؛
ولم يقس ذلك ابن القاسم على نفقة الحمل ، ورآه
على من يستبد بمنفعته منهما ، فإن اشتركا في
المنفعة به كان عليهما جميعا ؛ إذ قد كان
القياس في نفقة الحمل أن يكون عليهما جميعا
لانتفاع كل واحد منهما بها لولا النص ، فيتبع
النص في موضعه ويرجع إلى القياس فيما سواه .
ووجه قول مالك اتباع ظاهر القرآن ؛ لأن الله
عز وجل يقول : (( حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا
وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا )) ، فأخبر تعالى أنها
هي تحمله وتضعه ، فوجب أن تكون مؤنة ذلك كله
عليها ، ولا يكون على الأب منه إلا ما أوجب
الله عليه من النفقة عليها إلى أن تضعه ،
وبالله تعالى التوفيق .
(8/466)
ومن كتاب أوله
إن خرجت من هذه الدار
قال ابن القاسم في رجل جعل في عبد له عشرة
دنانير لمن جاء به ، فجاء به رجل لم يسمع
بالجعل . قال : إن كان ممن يأتي بالأباق فله
جعل مثله ، وإن كان ممن لا يأتي بالأباق ،
فليس له إلا نفقته ، وإن سمع فكان ممن لا يأخذ
الأباق ، أو ممن يأخذ الأباق فله العشرة .
قال محمد بن رشد : حكى ابن حبيب في الواضحة :
أن له الجعل المسمى ، علم به أو لم يعلم إذا
وجده بعد أن يجعل فيه تكلف طلبه ، أو لم يتكلف
عن ابن الماجشون وأصبغ وغيرهما من أصحاب مالك
، وذكر أنه قول مالك .
ووجه قول ابن القاسم أن الذي أتى به لم يعمل
على طلبه ، على الجعل المسمى ؛ إذ لم يعلم به
فوجب ألا يجب له ، ووجه ما حكى ابن حبيب أن
الجاعل قد أوجب على نفسه ما سمى من الجعل لمن
جاء به ، فوجب أن يكون له وإن لم يطلبه ، أو
كان أكثر من جعل مثله إن طلبه ، وكان ممن يطلب
الأباق . وقول ابن القاسم أظهر ؛ لأن الجاعل
أراد بقوله : من جاءني بعبدي فله عشرة دنانير
تحريض من يسمع قوله على طلبه ، فوجب ألا تجب
العشرة الدنانير إلا لمن سمع قوله ، فطلبه بعد
ذلك لا لمن لم يسمع قوله ، ولا لمن سمعه ،
فوجد العبد دون أن يطلبه ، فلا اختلاف في أنه
لا حق في الجعل لمن وجد العبد قبل أن يجعل فيه
الجعل ؛ إذ قد وجب عليه رده إلى صاحبه قبل أن
يجعل فيه الجعل ، واختلف فيمن وجده بعد أن جعل
فيه الجعل على قولين ؛ أحدهما : أنه لا شيء له
فيه إلا أن يسمع الجعل ويطلب العبد ، وهو قول
ابن القاسم . والثاني : أن الجعل يكون له ،
وإن لم يسمع الجعل ولا طلب العبد ، وهو القول
الذي حكى ابن حبيب ، وبالله التوفيق .
(8/467)
مسألة
وسئل ابن القاسم عن رجل تكون له شجرة التين قد
طابت ، فيقول لرجل : احرسها واجنها واحتفظ بها
، ولك نصفها ، أو ثلثها ، أو جزء منها . فقال
: لا بأس بذلك ؛ لأنه لا بأس أن يكرى بما حل
بيعه .
قال محمد بن رشد : هذا كما قال ، وهو مما لا
اختلاف فيه أعرفه ؛ لأنه إذا كان ذلك في الزرع
جائزا ، وإن كان لا يمكن أن يقسم إلا بالكيل
بعد أن يدرس ويصفى على ما مضى القول فيه ، في
أول رسم من سماع أشهب ، فهو في هذا أجوز ،
وبالله التوفيق .
ومن كتاب أوله أسلم وله بنون صغار
قال عيسى : سأل رجل ابن القاسم وأنا جالس فقال
: إني جعلت لرجل دينارا على أن يتقاضى لي من
غريم لي ستة دنانير كانت لي عليه . قال : لا
خير في هذا إلا أن يجعل له مما يتقاضى له من
ذلك الحق من قليل أو كثير بقصاص الدينار من
ذلك الحق . قال الرجل : فإن كنت جعلت له مما
يتقاضى بقصاص ذلك من الدينار ، فأردت أن أوخره
بالحق ، أو أتحول به على غيره ، أيكون له من
الدينار شيء ؟ فقال : له الدينار كله . فقال :
إنه لم يقم عليه إلا اليوم . قال : وإن .
قال محمد بن رشد : هذا بين على ما قال : إنه
لا يجوز أن يجعل الرجل للرجل دينارا على أن
يتقاضى له ستة دنانير ، إلا أن يجعل له فيما
(8/468)
يتقاضى ما يجب
له من الدينار ؛ لأنه إن لم يجعل له فيما
يتقاضى ما يجب له من الدينار ، لم يجب للمجعول
له شيء إلا بتقاضي جميع الستة دنانير ، فإن
تقاضى بعضها ، وبقي بعضها ، كان الجاعل قد
انتفع قبل أن يتم المجعول له العمل ؛ ولا يجوز
الجعل فيما يكون للجاعل فيه منفعة قبل تمام
العمل ، هذا ما لا خلاف فيه ، ويجوز أن
يستأجره على تقاضي الستة دنانير بدينار ، وإن
لم يشترط أن له فيما يتقاضى منها ما يجب له من
الدينار ؛ لأن الحكم يوجب ذلك في الإجارة التي
هي لازمة لهما جميعا ، وإن لم يشترطاه ، وقد
مضى القول على هذا في أول رسم من سماع ابن
القاسم .
وأما قوله : إن الجعل يلزم الجاعل إن أخر الذي
عليه الدين ، أو تحول به على غيره ، فصحيح على
أصولهم في أن الجعل لازم للجاعل ، فليس له أن
يبطله على المجعول له إلا أن يوفيه جميع جعله
، وهذا من قول ابن القاسم يبين ما وقع في رسم
الأقضية الثاني ، من سماع أشهب ، من كتاب
تضمين الصناع ، وبالله التوفيق .
مسألة
وقال ابن القاسم : لا بأس أن يعطي الرجل
الرجلَ العرصة يبني فيها بيوتا بذرع معروفة
وصفة معروفة ، على نصف ذلك بأصله ، أو ثلثه ،
أو جزء منه .
قال محمد بن رشد : قول ابن القاسم هذا مثل
قوله في رسم شهد من سماع عيسى ، من كتاب
السداد والأنهار ، مثل قول عيسى بن دينار في
نوازله منه ، في الرحى الخربة ، يعامل صاحبها
فيها رجلا على بنائها بجزء منها ، وعلى أصله
في المدونة في جواز الاستئجار على حصاد الزرع
(8/469)
وجذاذ النخل
بجزء منه ، وقوله في رسم إن خرجت قبل هذا ، في
مسألة شجرة التين . وإنما جاز بناء العرصة
بجزء منها ، ولم يجز نسج الغزل بجزء منه ، ولا
دبغ الجلود بجزء منها من أجل أنه لا يعرف وجه
خروج الثوب من النسج ، ولا وجه خروج الجلود من
الدباغ والبناء إن لم يخرج على ما وصفاه ،
يقدر على إعادته حتى يخرج على الصفة .
والأصل في هذه المسألة أن كل ما يجوز من العمل
اشتراطه على البائع في الشيء المبيع ، يجوز
الاستئجار عليه بالجزء منه ، وذلك جائز عند
ابن القاسم فيما يعرف وجه خروجه ، وفيما لا
يعرف وجه خروجه مما يمكن إعادته للعمل إن خرج
على غير الصفة . وسحنون لا يجيز ذلك على حال ،
فيأتي على مذهبه أن الاستئجار على بناء العرصة
بالجزء منها لا يجوز ، وهو الذي يأتي على قول
مالك في أول سماع أشهب ، في مسألة الذي يقول
للرجل : اعمل لي بناء في هذا التراب بيني
وبينك ، وقد تقدم القول عليها هناك ، وبالله
التوفيق .
ومن كتاب العشور
قال عيسى : سئل ابن القاسم عن الرجل يعلم موضع
دابة رجل ضالة ، فيقول : اجعل لي فيها كذا
وكذا وآتيك بها ، ولم يخبره علمه بمكانها ،
فجعل له جعلا فأخبره قال : لا ينبغي ذلك ،
وإنما ذلك في المجهول ، ولا أراه يثبت له هذا
الجعل ، ولا ينبغي له أن يكتمه موضعها ، وأرى
أن يعطى قيمة عنائه إلى ذلك الموضع إن جاء بها
، ولا جعل له .
قال محمد بن رشد : هذا كما قال ؛ لأن طلب
الآبق مجهول ، فلا يجوز الجعل فيه إلا مع
استوائهما في الجهل بموضعه ، ومتى علم أحدهما
موضعه ، وجهل الآخر ، كان العالم منهما قد غر
صاحبه ، كالصبرة لا يجوز
(8/470)
بيعها جزافا ،
إلا مع استوائهما في الجهل بكيلها . فإن علم
أحدهما كيلها ، وجهل الآخر ، كان العالم
بكيلها قد غر الآخر ، فيكون المغرور منهما
الذي لم يعلم بكيلها ، بالخيار بين أن يرد أو
يجيز . فإن فاتت كان فيها الأكثر من القيمة أو
الثمن ، إن كان المبتاع هو الذي علم كيلها ،
والأقل من القيمة أو الثمن إن كان البائع هو
الذي علم كيلها وغر المبتاع بذلك .
وكذلك مسألة الجعل في طلب الضالة والآبق ، إن
كان المجعول له علم بموضعها ، فغر الجاعل بذلك
، فعلم قبل أن يخرج في طلبه ، كان بالخيار بين
أن يمضي الجعل أو يرده ، وإن لم يعلم بذلك حتى
جاء بالعبد كان عليه الأقل من قيمة عنائه إلى
ذلك الموضع أو الجعل الذي جعل له ، هذا معنى
قوله ، لا أنه يكون له قيمة عنائه إلى ذلك
الموضع ، كان أقل من الجعل أو أكثر ؛ إذ ليس
بجعل فاسد فيرد فيه إلى إجارة مثله بالغا ما
بلغ ، وإنما هو جعل غبن المجعول له الجاعل بما
كتمه من علمه بمعرفة موضع العبد . ولو كان
الجاعل هو الذي علم بموضع العبد أو الضالة ،
فكتم المجعول له ذلك ، كان له الأكثر من قيمة
عنائه في طلبه أو الجعل الذي جعل له ، وبالله
التوفيق .
ومن كتاب النسمة
وسئل ابن القاسم عن رجل أبق منه غلام له ،
فبلغه أنه ببلد ، فاستأجر رجلا بكراء معلوم
إلى تلك البلدة في طلبه ، فقال له : إن جئتني
به أو بخبره فلك تلك الإجارة ، فلما خرج
الأجير خالفه العبد إلى مولاه من قبل أن يبلغ
الأجير البلدة ، فانصرف حيث بلغه أن العبد رجع
، ماذا له من الإجارة ؟ قال ابن القاسم : له
الكراء التام ويرسله إن شاء في مثل ما قصر من
الطريق .
قال محمد بن رشد : قوله فاستأجر رجلا بكراء
معلوم إلى تلك البلدة ، يقضي على قوله : إن
جئتني به أو بخبره فلك تلك الإجارة ، ويبين أن
(8/471)
معناه ، ولك
الإجارة كاملة وجدته في البلد ، أو لم تجد
فيها إلا خبره ، فهو شرط جائز في الإجارة ؛
لأنه هو الذي يوجبه الحكم فيها ، وليس معناه
أنه لا شيء له من الإجارة إن لم يأته به أو
بخبره ، ولو اشترط ذلك بإفصاح أو حمل الشرط
عليه ؛ لكانت الإجارة فاسدة .
وأما قوله إذا انصرف الأجير من حيث بلغه أن
العبد رجع ؛ أن له الإجارة كاملة ، ويرسله
المستأجر إن شاء فيما قصر من الطريق ، فقد قيل
: إنه ليس له أن يرسله في مثل ما قصر فيه من
الطريق إلا برضاه ، وقد قيل : إن ذلك لا يجوز
، وإن رضي بذلك الأجير ؛ لأنه فسخ دين بدين ،
وإنما له أن يبعثه في بقية الطريق بعينه أو
يعطيه إجارته كاملة ، وقد مضى القول على هذا
في أول رسم من سماع ابن القاسم .
فإذا لم يجز له أن يبعثه في مثل ذلك الطريق
على القول بأن ذلك لا يجوز ، أو لم يرض الأجير
بذلك على القول بأن ذلك لا يلزمه إلا برضاه ،
فيكون له من إجارته بقدر ما سار من الطريق إلى
الموضع الذي رجع منه ؛ إذ قد فات برجوعه أن
يسير له في بقية الطريق بعينه . ولو عثر على
ذلك قبل أن يرجع من الطريق لما كان للمستأجر
على هذين القولين إلا أن يسيره في بقية الطريق
بعينه ، أو يدفع إليه إجارته كاملة ، وبالله
التوفيق .
مسألة
وسئل ابن القاسم ، وابن وهب عن الطبيب يشارط
المريض يقول : أعالجك ، فإن برئت فلي من الأجر
كذا وكذا ، وإن لم تبرأ غرمت لي ثمن الأدوية
التي أعالجك بها إذا أخبره بالثمن قبل أن
يعالجه . فقالا : الناس ينهون عن كل بيع ،
وأجرة
(8/472)
يكون فيه شرطان
؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم : نهى عن
بيعتين في بيعة . وقد أجاز لنا مالك علاج
الطبيب إذا شارطه على شيء معلوم ، فإن صح
أعطاه ما سمى له ، وإن لم يصح من علاجه لم يكن
له شيء . قال ابن القاسم : لا خير فيه .
قال محمد بن رشد : هذا بين على ما قال : إن
ذلك لا يجوز من أجل أنه دخل تحت نهي النبي صلى
الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة ، والذي
يدخله من المكروه الجهل بالإجارة والغرر فيها
؛ لأن الطبيب لا يدري ما يحصل له إن كان الجعل
الذي سمى له أو ثمن أدويته ، فإن وقع ذلك فسخ
متى ما عثر عليه ، وكان له ثمن أدويته التي
عالجه بها ، وقيمة عمله هو في علاجه ، والله
الموفق .
ومن كتاب البراءة
قال عيسى : قلت لابن القاسم : فإن قال : اسع
لي في نكاح بنت فلان ، اشخص لي في ذلك ، ولك
كذا وكذا ؟ قال : إذا سعى في ذلك ، وكان حيث
هو في حاضرته ، ولم يشخص فيها إلى بلد ، فلا
بأس به إن شاء الله ، وذلك يلزمه .
قال محمد بن رشد : هذا بين على ما قال : إن
الجعل في ذلك جائز ولازم ؛ لأنه جعل في أمر
مباح لا يلزم المجعول له فعله ، وقد مضى بيان
هذا المعنى في رسم البز ، من سماع ابن القاسم
، ومضى في رسم إن خرجت ، من سماع عيسى ، من
كتاب جامع البيوع ، ورسم الجواب من سماع عيسى
، من كتاب النكاح القول على قوله : ولني إنكاح
وليتك ، ولك كذا وكذا ؛ أن الجعل في ذلك جائز
ولازم ؛ لأنه جعل في أمر مباح ، لا يلزم
المجعول
(8/473)
له فعله ، أو
ولني بيع دارك ولك كذا وكذا ، وبينا المعنى في
الفرق في ذلك بين النكاح والبيع ، فإن المعنى
في ذلك خلاف المعنى في هذه ، فلا معنى لإعادة
ذلك .
وأما شرطه في هذه المسألة أن يكون ذلك في
حاضرته ، ولا يشخص فيه إلى بلد آخر ، فلا وجه
له ؛ إذ لا منفعة للجاعل في شخوصه إلى بلد آخر
إن لم يتم له النكاح ، وهو يشخص في ذلك رجاء
أن يصح له الجعل بتمامه كما يشخص في طلب الآبق
من بلد إلى بلد رجاء أن يجده ، فيجب له بتمامه
كما يشخص في طلب الآبق من بلد إلى بلد ، رجاء
أن يجده ، فيجب له الجعل الذي جعل له فيه .
وذلك بخلاف الرجل يجاعل الرجل على أن يبيع له
ثوبه ببلد آخر ؛ لأنه إن لم يقدر على بيعه
بذلك البلد انتفع الجاعل بحمله سلعته إلى ذلك
البلد . فهذه هي العلة في أن ذلك لا يجوز
حسبما مضى القول فيه في أول رسم من سماع ابن
القاسم ، وهي معدومة في مسألة النكاح هذه ،
فوجب أن تجوز ، وبالله التوفيق .
ومن كتاب القطعان
وسئل ابن القاسم عن القوم يحضرون بيع الميراث
فيمن يزيد فيزيد الرجل في الثوب ، فيقول
المنادي بدينار ودرهم ، فينادي عليه بذلك ،
ولا يصفق ويطلب الزيادة ، ثم يبدو للذي زاد .
قال : البيع يلزمه . قيل له : فالرجلان يزيدان
في الثوب ، فيقول : هذا بدينار ، وهذا بدينار
يقع عليهما بشيء واحد ، فيطلب الصائح الزيادة
، فلا يزاد ، فوجب لهما فيبدو لهما . قال :
أرى البيع لهما لازما وأراهما فيه شريكين ،
وقال عيسى : لا يعجبني هذا من قوله ، وأراه
للأول ، ولا أرى للصائح أن يقبل من أحد مثل
الثمن الذي قد أعطاه
(8/474)
غيره ، وإنما
يقبل الزيادة ، ولها ينادي ، فهو للأول حتى
يزاد إلا أن يكونا جميعا قد أعطياه دينارا معا
، هما فيه شريكان .
قال محمد بن رشد : البيع على المزايدة جائز
خارج عما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم :
من أن يسوم الرجل على سوم أخيه . والأصل في
جوازه ما روي أن رجلا من الأنصار أتى إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم ، فشكا إليه الفاقة ،
ثم عاد فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم :
لقد جئت من عند أهل بيت ما أرى أن أرجع إليهم
حتى يموت بعضهم . قال : انطلق هل تجد من شيء ،
فانطلق فجاء بحلس وقدح ، فقال : يا رسول الله
، هذا الحلس كانوا يفترشون بعضه ويلتفون ببعضه
، وهذا القدح كانوا يشربون فيه ، فقال : من
يأخذهما مني بدرهم ؟ فقال رجل : أنا ؛ فقال :
من يزيد على درهم ؟ فقال رجل آخر : أنا آخذهما
بدرهمين ، فقال : هما لك ، فدعا بالرجل فقال :
اشتر بدرهم طعاما لأهلك ، وبدرهم فأسا ، ثم
ايتني ففعل ، ثم جاء فقال : انطلق إلى هذا
الواعي ، فلا تدعن فيه شوكا ولا حطبا ، ولا
تأتي إلا بعد عشر ، ففعل ، ثم أتاه فقال :
بورك فيما أمرتني به ، فقال : هذا خير لك من
أن تأتي يوم القيامة في وجهك نكت من المسالة ،
أو خموش من المسألة ، الشك من بعض رواة الحديث
.
والحكم فيه أن كل من زاد في السلعة لزمته بما
زاد فيها إن أراد صاحبها أن يمضيها له بما
أعطى فيها ما لم يسترد سلعته ، فيبيع بعدها
(8/475)
أخرى ، أو
يمسكها حتى ينقضي مجلس المناداة ، وهو مخير في
أن يمضيها لمن شاء ممن أعطى فيها ثمنا ، وإن
كان غيره قد زاد عليه .
هذا الذي أحفظ في هذا من قول الشيخ أبي جعفر
بن رزق رحمه الله ، وهو صحيح في المعنى ؛ لأن
حق صاحب السلعة أن يقول للذي أراد أن يلزمها
إياه ، إن أبى من التزامها ، وقال له : بع
سلعتك من الذي زاد علي فيها ؛ لأنك إنما طلبت
الزيادة وقد وجدتها : أنا لا أحب معاملة الذي
زاد في السلعة عليك ، وليس طلبي الزيادة فيها
، وإن وجدتها إبراء مني لك فيها . فمعنى قول
ابن القاسم : أرى البيع لهما لازما ، وأراهما
شريكين فيها ، إذا أسلم البائع السلعة لهما ،
ولم يكن له اختيار في أن يلزمها أحدهما دون
صاحبه . وكذلك قال أصبغ : إنها للأول ، معناه
إذا قال : قد أمضيتها لمن هو منكما أحق بها .
وقول ابن القاسم هو القياس ؛ لأن الأول لا
يستوجب السلعة بما أعطى فيها إلا أن يمضيها له
صاحبها . وكذلك الثاني فلا مزية فيها لأحدهما
على الآخر . وقول أصبغ استحسان . والوجه فيما
ذكره من أنه إنما طلب الزيادة لا ما قد أعطى
فيها ، فالاختيار له ألا يقبل الزيادة . فإذا
قبل من الثاني مثل ما أعطاه الأول كانا في وجه
القياس سواء . وقد مضى من معنى هذه المسألة في
آخر أول رسم من سماع أشهب ، من كتاب العيوب ،
وبالله التوفيق .
ومن كتاب العتق
وقال ابن القاسم في حمال حمل شيئا : إنه إن
صدم أو رمي فانكسر ما عليه ، فالذي رماه أو
صدمه ضامن لما عليه ، وللأجير أجرته ، ويسيره
فيما بقي .
(8/476)
قال محمد بن
رشد : هذا هو المشهور في المذهب أن من استأجر
أجيرا على حمل شيء بعينه ، فتلف ، أن الإجارة
لا تنقض ، وهو قول ابن القاسم ، وروايته عن
مالك في المدونة ، وإليه ذهب محمد بن المواز
فقال : تعبير الحمل إنما هو صفة لما يحمل .
ومثله في رسم القبلة ، من سماع ابن القاسم ،
من كتاب الرواحل والدواب ، وفي رسم طلق ، من
سماع ابن القاسم ، من هذا الكتاب ، وفي أول
رسم من سماع أصبغ منه . وقد قيل : إن الإجارة
تنتقض بتلفه ، وهو قول أصبغ وروايته عن ابن
القاسم في رسم الكراء والأقضية من سماعه ، من
كتاب كراء الرواحل والدواب . وقد مضى تحصيل
القول في الاختلاف فيها ، في رسم طلق ، من
سماع ابن القاسم ، فلا معنى لإعادته ، وبالله
التوفيق .
مسألة
قلت : أرأيت إن قال : أستأجرك بدينار على أن
تذهب إلى إفريقية تبيع دابتي هذه ، أو ثيابي ،
أو رقيقي ، فقال : إن كان استأجره على أنها إن
هلكت أو ذهب الثوب انفسخ الكراء بينهما ، فلا
خير فيه ، وإن كان إن تلف هذا كان عليه أن
يسيره في مثله ، وإن هلكت الدابة أخلف له
مكانها أخرى ، وكان ذلك إلى أجل معلوم ، فلا
بأس به .
قال ابن القاسم في الرجل يستأجر الأجير يعمل
له سنة على دابة بعينها . قال : لا خير فيه ،
إلا أن يكون إن نفقت الدابة أخلف
(8/477)
له مكانها أخرى
. قلت له : أرأيت الرجل يتكارى الدابة بعينها
إلى المكان ؟ قال : لا بأس بذلك . قلت : أرأيت
إن هلكت الدابة ؟ قال : يرجع على صاحبه بما
بقي من الطريق ، فيأخذ حصته من ذلك من الكراء
. وكذلك إن استأجر الخادم تخدمه سنة ، فتموت
هو مثل الدابة . قلت : فما فرق بين هذا وبين
الأول ؟ قال : لأن هذا إنما هلك الذي استأجر
بعينه ، والأول إنما هلك غير المستأجر ، وغير
المستأجر يقول : إنما هلك ثوب لم أكركه ، أو
دابة لم أكركها ؛ وهاهنا إنما هلكت الدابة
بعينها والغلام بعينه ، فكل إجارة تكون إذا
مات غير المستأجر أو المواجر انفسخت ، فلا خير
فيها .
قال محمد بن رشد : الاستئجار على الأعمال في
الأشياء المعينات تنقسم على أربعة أقسام :
أحدها : أن يستأجره على عمل في شيء بعينه ، لا
غاية له إلا بضرب الأجل فيه ، وذلك مثل أن
يستأجره على أن يرعى له غنما بأعيانها ، أو
يتجر له في مال بعينه شهرا أو سنة ، وما أشبه
ذلك ، فهذا اختلف في حد جواز الإجارة فيه ،
فقيل : إنها لا تجوز إلا بشرط الخلف ، وهو
مذهب ابن القاسم ، وروايته عن مالك في المدونة
وغيرها ، وقيل : إنها تجوز بغير شرط الخلف ،
والحكم يوجب الخلف ، وهو قول سحنون ، وابن
حبيب ، وأشهب في رسم البيوع والصرف ، من سماع
أصبغ . فهذا حكم هذا الوجه ، إلا في أربع
مسائل ؛ فإن الإجارة تنفسخ فيها بموت المستأجر
له ؛ أحدها : موت الصبي المستأجر على رضاعه .
والثانية : موت الصبي المستأجر على تعليمه .
والثالث : موت الدابة المستأجر على رياضتها .
والرابعة : من استأجر رجلا على أن ينزي له
أكواما معروفة على رمكته ، فتعق الرمكة قبل
تمام الأكوام ؛ فإن الإجارة
(8/478)
تنفسخ فيما بقي
منها ، ولا يقال للمستأجر : جئني بمثل الرمكة
؛ لما بقي من الأكوام .
والثاني : أن يستأجره على عمل شيء بعينه لا
غاية له إلا بتسمية الموضع ، وهو الاستئجار
على حمل شيء بعينه ، فهذا الاختلاف في جواز
الإجارة فيه ، وإن لم يشترط الخلف ، واختلف إن
تلف على ثلاثة أقوال قد مضى تحصيلها في رسم
طلق ، من سماع ابن القاسم ، المشهور منها : أن
الحكم يوجب الخلف ، ولا تنتقض الإجارة حسبما
ذكرناه في المسألة التي قبل هذه .
والثالث : أن يستأجره على عمل شيء بعينه له
غاية مجهولة ، فلا بد فيه من ضرب الأجل . وذلك
مثل أن يستأجره على أن يبيع له هذا العبد ، أو
هذا الثوب ، أو هذه الأثواب في هذا الشهر في
ذلك البلد ، أو بلد آخر بثمن سماه أو بما رآه
، فهذا قال فيه في هذه الرواية : إنه إن
استأجره على أنه إن تلف العبد أو الثوب انفسخت
الإجارة لم يجز ، وإن استأجره على أنه إن تلف
العبد أو الثوب كان عليه الخلف جاز .
وسكت عن حكم الإجارة إن وقعت مبهمة ، والظاهر
من مذهبه في المدونة جواز الإجارة ووجوب الخلف
، والذي يأتي فيها على قياس قوله في الاستئجار
على رعي غنم بأعيانها أن الإجارة لا تجوز إلا
بشرط الخلف ، فإن باع العبد أو الثوب قبل تمام
الأجل انفسخت الإجارة فيما بقي من الشهر ،
وكان له من إجارته بحساب ما مضى منه . هذا
قوله في المدونة ، والنقد في هذه الإجارة بشرط
لا يجوز ، والذي يأتي على مذهب سحنون في هذه
المسألة أن الإجارة لا تنفسخ فيما بقي من
المدة ، ويستعمله بقية الشهر فيما يشبه ذلك من
العمل ، فإن اشترط أن تنفسخ الإجارة فيما بقي
من الشهر إن باع قبل تمامه لم يجز عنده ، وإن
لم ينقد على ما قاله في الرجل يكتري الدابة في
حاجة إلى بلد ، ويشترط إن وجد حاجته في الطريق
رجع ، وكان عليه بحساب ما مضى من
(8/479)
الكراء .
ولو استأجره على أن يبيع له الدابة أو الثوب
بذلك البلد أو ببلد آخر على أن له أجرته باع
أو لم يبع لجاز ، وإن لم يسم للتسويق والبيع
أجلا ؛ لأن قدر ذلك معروف ، قاله أشهب في آخر
أول رسم من سماع أصبغ ، وقد مضى هذا المعنى في
أول رسم من سماع ابن القاسم ، وهو نحو ما يأتي
في سماع محمد بن خالد .
والرابع : أن يستأجره على عمل شيء بعينه له
غاية معلومة ، فلا يجوز ضرب الأجل فيه ؛ لأنه
مدتان في مدة ، ويضارع ما نهي عنه من بيعتين
في بيعة إلا على وجه ما قد مضى بيانه في أول
سماع ابن القاسم . وذلك مثل أن يستأجره على
خياطة ثوب بعينه ، أو على طحن قمح بعينه ، أو
على حصاد زرع بعينه وما أشبه ذلك .
فهذا الاختلاف في جواز الإجارة فيه دون شرط
الخلف ، وإن تلف قبل العمل أو بعد أن مضى بعضه
، فالمشهور في المذهب أن الإجارة تنفسخ فيه ،
أو فيما بقي منه ، وهو قول مالك في رسم المحرم
، من سماع ابن القاسم ، وفي رسم الدور
والمزارع من سماع يحيى في مسألة الزرع أن
الإجارة لا تنفسخ ويستعمله في مثله ، وهو شذوذ
. والنقد في هذه الإجارة جائز ؛ لأن التلف
نادر فلا يعتبر به ، وأما من استأجر عبدا
بعينه ، أو تكارى دابة بعينها ، أو ثوبا بعينه
، وما أشبه ذلك ، فلا اختلاف في أن الإجارة
تنفسخ بالموت والتلف ، والنقد فيها جائز ،
فهذا تحصيل القول في هذه المسألة ، وبالله
التوفيق .
مسألة
قلت : أرأيت إن قال : جذ نخلي هذه يوما أو
يومين ، ومتى شئت أن تخرج فاخرج ولك نصف ما
عملت . قال : لا خير فيه . قلت : لم ؟ قال :
لأنهما سميا يوما ، ثم جعل له الخروج متى شاء
، فكان الأجر قد وقع على اليوم بعينه ، فإذا
وقع على اليوم بعينه لم يحل إلا بشيء ثابت لا
يزول . ألا ترى أنه لو قال : تقاض لي مالي
الذي لي على فلان إلى شهر ولك نصفه ، فما
تقاضيت منه
(8/480)
فبحسابه لم
يصلح . أرأيت أنه لم يتقاضه إلى رأس الشهر ،
وهو متى شاء أن يخرج خرج ، أليس يبطل عمله
ويذهب عناؤه ، ولعله أن يكون قد أشفى عليه ،
فإذا ضرب له أجلا فلا خير فيه ، وإن لم يضرب
له أجلا فإنما هو جعل ، وليس بأجر ، فمن قبل
ذلك جاز ؛ لأنه ليس لرب المال أن يمنع العامل
العمل فيه ، وللعامل أن يخرج متى شاء ،
والمستأجر ليس للذي استؤجر أن يخرج ، وليس له
إن انقضى الشهر أن يعمل فيه ، فيكون العمل قد
ذهب باطلا .
قال محمد بن رشد : إنما لم يجز أن يقول الرجل
للرجل : جذ نخلي هذه يوما أو يومين ، ومتى شئت
أن تخرج خرجت ، ولك نصف ما علمت ؛ لأن قوله :
جذ نخلي هذه يوما أو يومين ، ولك نصف ما جذذت
إجارة فاسدة ؛ لأنه استأجره يوما أو يومين
بنصف ما يجذ في ذلك ، وهو مجهول . ألا ترى أنه
لو أراد أن يبيع ما يجذ يوما أو يومين لم يجز
لأنه مجهول ، وما لا يجوز بيعه لا يجوز
الاستئجار به .
فإذا كانت الإجارة على هذا فاسدة ، فلا يصلحها
اشتراط الخروج متى شاء بنصف ما جذ ؛ لأن ذلك
خيار اشترطه لنفسه في الإجارة الفاسدة ،
والعقد الفاسد لا يصلحه اشتراط الخيار فيه ،
وهذا التعليل بين من قوله ؛ لأنهما سميا يوما
، ثم جعل له الخروج متى شاء ، فكأن الأجر وقع
على اليوم بعينه إلى آخر قوله ، ولو قال له :
إن جذذت في هذا اليوم ، أو في هذين اليومين من
نخلي هذه شيئا ، فما جذذت منها فلك نصفه ؛
لكان ذلك جائزا ، والفرق بينهما أن هذا جعل له
حكم الجعل ، والأول إجارة له حكم الإجارة .
فإن قال قائل : إن هذه الإجارة إذا اشترط فيها
الخيار على هذا الوجه عادت جعلا ؛ لأنه في
الوجهين جميعا لا يلزمه العمل ، وإن عمل فله
نصف ما عمل .
قيل له : إن استويا في هذا فيفترقان في وجه
آخر ، وهو أن الإجارة لا تنفسخ بتلف الشيء
المستأجر عليه إلا على اختلاف ، والجعل ينفسخ
بتلف
(8/481)
الشيء المجعول
فيه باتفاق ، فوجب ألا تعود الإجارة بشرط
الخيار فيها جعلا ، وأن تبقى إجارة على حالها
. وإذا بقيت إجارة ، وكانت فاسدة ، فلا يصلحها
الخيار . وقد كان من أدركنا من الشيوخ ، ومن
لم ندرك منهم فيما بلغنا عنهم ، يحملون هذه
المسألة على أن قول ابن القاسم فيها خلاف قوله
في المدونة في الذي يقول للرجل : بع لي هذا
الثوب اليوم ، ولك درهم : إن ذلك جائز إذا
اشترط أن يترك متى شاء ، وليس ذلك بصحيح من
قولهم ؛ لأن استئجار الرجل الرجلَ يوما بدرهم
على أن يبيع له فيه ثوبا جائز ؛ لأن الأجر فيه
معلوم ، فإذا جازت الإجارة في ذلك جاز اشتراط
الخيار فيها ، بأن يترك متى شاء ، ويكون له من
الدراهم بحساب ما مضى من اليوم ، إذا لم ينقد
، وقد نص على جواز هذا في أول كتاب الجعل
والإجارة من المدونة .
وأما المسألة التي نظرها بهذه ، وهي أن يقول
له : تقاض لي مالي الذي لي على فلان إلى شهر
ولك نصفه ، فما تقاضيت فبحسابه ، فلا يجوز
فيها مع تسمية الأجل إجارة ولا جعل ، أو قال :
إن قبضت لي في هذا الشهر شيئا من ديني الذي لي
على فلان ، فلك نصفه لم يجز ؛ لأنه قد يتقاضاه
ويشفي عليه ، فينقضي الأجل قبل أن يقبض ،
فيذهب عناؤه باطلا ، فيجوز أن يستأجر الرجل
الرجلَ على حصاد زرعه بنصفه ، وأن يشترط أن
يتركه متى شاء ، ويكون له نصف ما حصد ، ولا
يجوز أن يستأجره على حصاد يوم بنصف ما يحصد
فيه ، وإن اشترط أن يترك متى شاء ، ويكون له
نصف ما حصد .
ولا يجوز له أن يجاعله على حصاد زرعه بنصفه
إلا أن يشترط أن يكون له إن ترك نصف ما حصد ،
وكذلك لا يجوز أن يجاعله على حصاد يوم بنصف ما
يحصد فيه ، إلا أن يشترط أن يكون له إن ترك
نصف ما حصد ، والمواجرة والمجاعلة على بيع
الثوب بدرهم خلاف ذلك ، لا يجوز أن يواجره على
بيع الثوب بدرهم إلا أن يضرب لذلك أجلا ،
والمجاعلة عكس ذلك ، لا يجوز أن يجاعله بدرهم
على بيع الثوب إذا لم يضرب لذلك أجلا ، فحمل
ابن القاسم قول الرجل : بع لي هذا الثوب ، ولك
درهم على الجعل ، فأجازه إذا لم يضرب أجلا ،
ولم يجزه إذا ضرب أجلا إلا أن
(8/482)
يشترط متى شاء
أن يتركه تركه ، يريد ويكون له من الدرهم
بحساب ما مضى من الأجل ؛ لأنه إذا اشترط ذلك ،
فقد أفصحا بأنها إجارة صحيحة بخيار فجازت .
وقد أجاز ذلك ، وإن لم يشترط متى شاء أن يتركه
تركه . وقال سحنون في المدونة : إنه جل قوله
الذي يعتمد عليه . فالوجه في ذلك أنه حمل قوله
: بع لي هذا الثوب اليوم ، ولك درهم على
الإجارة . وقد قيل في تأويل ذلك غير ما قول قد
ذكرته في غير هذا الكتاب .
وقوله : إنه ليس لرب المال أن يمنع العامل
العمل فيه ، يقتضي ظاهره أن الجعل لازم للجاعل
بالعقد ، وإن لم يشرع المجعول له في العمل ،
وهو أحد قولي ابن حبيب في الواضحة ، خلاف قول
سحنون في سماعه ، ورواية علي بن زياد ، عن
مالك فيه ، ورواية أشهب عنه في سماعه ، من
تضمين الصناع من أن الجعل لا يلزم الجاعل حتى
يشرع المجعول له في العمل .
وجه القول الأول أن الجاعل لما كان ما أخرج
معلوما ، ولم يجز أن يكون مجهولا لزمه ، وأن
المجعول له لما كان ما أخرج يجوز أن يكون
مجهولا لم يلزمه ، ألا ترى أن الإجارة لما
كانت معلوما في معلوم لزمتهما جميعا ، ولم يكن
لواحد منهما الرجوع ، ووجه القول الثاني : أن
المجعول له لما كان لا يلزمه الجعل ، وجب ألا
يلزم الجاعل إلا أن يشرع المجعول له في العمل
، فيلزمه ؛ لئلا يبطل عليه ما مضى من عمله ،
وهذا القول أظهر ، وبالله التوفيق .
مسألة
ولقد سئل مالك عن الرجل يكون له العبد الخياط
أو النجار ، فيستأجره الرجل في غير عمله ، إما
يستحمله شيئا ، أو ينتقل لبناء أو غير ذلك من
الأعمال ، فيصاب فيه العبد ، هل على من
استأجره
(8/483)
ضمان ؟ قال :
لا ضمان على من استأجره . وذلك أن الرجل قد
يرسل عبده يعمل في البنيان ، ويضرب عليه
الخراج ، فلا يجد العبد العمل ، فيستأجره رجل
في غير عمله ، فلا أرى عليه ضمانا إن أصابه
شيء في ذلك ، إلا أن يستعمله في عمل مخوف فيه
غرر ومخاطرة ، فلا يفعل ذلك إلا بإذن سيده .
قال ابن القاسم : أو يبعثه سفرا .
قال محمد بن رشد : قول ابن القاسم هذا : إنه
لا ضمان على من استأجر العبد بغير إذن سيده في
غير عمله ، فعطب فيه ، إلا أن يكون العمل الذي
استعمله فيه مخوفا فيه غرر ومخاطرة ، مثل قول
ربيعة في المدونة ، ومالك في رواية ابن وهب
عنهما ، خلاف قوله فيها وروايته عن مالك في
أنه ضامن ، إذا كان العمل يعطب في مثله ، وإن
لم يكن مخوفا ولا غررا .
وقوله في هذه الرواية على ما ذهب إليه ربيعة
ومالك في رواية ابن وهب عنهما ، أنه لا ضمان
عليه ، وإن كان العمل يعطب في مثله ، ما لم
يكن مخوفا وغررا هو الصحيح في النظر ؛ لأنه لم
يتعد على سيد العبد في استئجاره عبده فيما زعم
العبد أنه أذن له فيه ، وإنما المتعدي عليه في
ذلك عبده . فهو كمن استأجر عبدا من غاصب ، وهو
لا يعلم ، فتلف فيما استأجره فيه . وإنما يضمن
إذا استعمله عملا مخوفا فيه غرر ؛ لأنه كأنه
قصد إلى إتلافه ، وذلك إذا كان العبد لا يعمل
في مثل ذلك العمل ، وأما إن كان يعمل مثل ذلك
العمل ، فلا ضمان عليه فيه ؛ حكى ابن حبيب عن
ربيعة أنه سمع رجلا ، قال لسعيد بن المسيب :
استأجر معاوية بن عبد الله بن جعفر غلاما ،
فأنزله في بئر له ، فأسر الغلام فيها فمات ،
فخاصمه سيد الغلام إلى عمر بن عبد العزيز ،
فقال له سعيد : فماذا قضى به عمر ؟ قال :
أغرمه إياه . قال سعيد : فهل كان يعمل مثل ذلك
العمل ؟ قال : لا لم يكن يعمله . قال سعيد :
فقد أصاب عمر . وقد كان يشبه ألا يضمن ، وإن
كان لا يعمل مثل ذلك إذا لم يعلم ذلك من حاله
، وقال له العبد : إني أعمل مثل هذا العمل ،
وسيدي أذن لي في إيجار نفسي فيه فصدقه ؛ لأن
له في ذلك شبهة .
ووجه قول ابن القاسم وروايته عن مالك في
المدونة أنه ضامن له إذا
(8/484)
عطب فيما يعطب
في مثله من الأعمال ، وإن لم يكن عملا مخوفا
هو أنه أخطأ على سيده في استعماله فيما لم
يأذن فيه من الأعمال ، وأموال الناس تضمن
بالعمد والخطأ ، وفارق ذلك من استأجر عبدا من
غاصب أو اشتراه منه فتلف في عمله ، أن السيد
ليس له على من يرجع إذا أجر العبد نفسه ؛ إذ
لا يضمن العبد لسيده ، وله في الغصب على من
يرجع على الغاصب ، وكان يلزم على قياس هذا أن
يضمن ، ولو كان العمل لا يعطب في مثله ؛ لأنه
وضع عليه يده خطأ في موضع ليس فيه من يضمن
لسيده ، فوجب أن يضمن ؛ لأن من تعدى أو أخطأ
يضمن بمجرد النقل دون الاستعمال ، إلا أن يقال
: إن هذا القدر من النقل ، يمكن أن يتصرف فيه
العبد لو لم يواجر ، فصار المستأجر له كأنه ما
نقله من موضع إلى موضع ، وإنما استعمله في
موضعه ، فوجب ألا يضمن إلا أن يكون عملا يعطب
في مثله ، وسواء على مذهب ابن القاسم وروايته
عن مالك في المدونة استأجره أو استعمله ، لا
يضمن إلا أن يكون العمل يعطب في مثله خلاف قول
ربيعة فيها : إنه يضمن إذا استعانه في أمر
تنبغي فيه الإجارة ، وإن كان قد أذن له في
الإجارة ، وهو أظهر ؛ لأنه وإن كان قد أذن له
في الإجارة ، فلم يؤذن له في هبة منافعه ، وقد
اختلف فيمن استأجر عبدا ، وهو يظنه حرا ، ودفع
إليه إجارته فاستحقه سيده ، وقد أتلف الإجارة
، فحكى عبد الحق عن بعض شيوخه القرويين أنه لا
رجوع له بالإجارة على المستأجر ، إذا كان
العبد ظاهر الحرية ؛ لأنه لم يتعد في الدفع
إليه ، وقال ذلك غيره إذا طالت إقامة العبد
بالبلد ، واستفاضت حريته ، قال : وإن لم تطل
إقامته ، فليغرم المستأجر الأجرة ثانية ،
وخالف ذلك غيره ، وقال : إنه يغرم الأجرة
ثانية على كل حال ؛ لأن العبد بائع لسلعة
مولاه وهي خدمته ، وهو غير ما دون له بذلك ،
فلا يبرأ من دفع إليه ؛ لأنه دفع لغير مستحق .
قال محمد بن رشد : يريد إذا كانت الأجرة
مساوية لقيمة العمل .
(8/485)
وأما إن كانت
أقل أو أكثر ، فليأخذ منه القيمة . قال عبد
الحق : وهو عندي أقيس ، والأول أشبه بمذهبه في
المدونة ، قياسا على من مات فأنفذت وصاياه ،
وبيعت تركته ، ثم استحقت رقبته ، وقد كان
معروفا بالحرية أو غير معروف .
قال محمد بن رشد : وهو كما قال عبد الحق :
القياس أن يغرم المستأجر الأجرة ثانية لسيد
العبد ؛ لأن منافع العبد الذي بذل له العوض
فيها قد استهلكها ، وانتفع بها ، فوجب أن يغرم
قيمتها لسيده قياسا على قولهم فيمن اشترى
طعاما فأكله ، أو ثوبا فاستهلكه ، ثم استحق أن
سيده مخير بين أن يضمن المبتاع قيمة ذلك
لاستهلاكه إياه ، وبين أن يجيز البيع ، فيأخذ
الثمن من البائع . وقد قال في كتاب الغصب من
المدونة فيمن استأجر ثوبا فاستعمله ، ثم استحق
أن للمستحق أن يضمنه ما نقصه استعماله وله ،
على قياس ما ذكرناه ، أن يأخذ منه قيمة
الاستعمال ، وبالله التوفيق .
ومن كتاب أوله جاع فباع امرأته
وكتب إليه صاحب الشرطة ، يسأله عن رجل انقطع
إلى رجل ، فأقام معه ثلاثة أشهر يقوم في
حوائجه ، ثم مات المنقطع إليه وقام المنقطع
يطلب أجر ما أقام معه ، وله بينة على عدد
الشهور ، فكتب إليه إن كان يرى أن مثله إنما
ينقطع إليه ، رجاء أن يثيبه في قيامه ونظره ،
فأحلفه ما أتى به بشيء ، ثم أعطه أجرة مثله في
أمانته وقيامه وجرأته ، فإن الناس قد يكونون
في الأمانة سواء ، وبعضهم أجرأ من بعض ، وأكفأ
وأحسن نظرا ، فأعطه بعد أن يحلف أجر مثله في
حاله .
قال محمد بن رشد : هذا بين على ما قال : إن له
أن يرجع عليه بإجارة مثله بعد يمينه أنه ما
أتى به على شيء من تصرفه له ، يريد ويزيد في
يمينه ما كان قيامه معه ، وتصرفه له احتسابا ،
إلا ليرجع عليه بحقه إن لم
(8/486)
يثبه على ذلك ،
يبين هذا قوله في أول مسألة من سماع يحيى بعد
هذا ، ونحو هذا في رسم طلق ، من سماع ابن
القاسم ، من كتاب الرهون ، وبالله التوفيق .
من سماع يحيى بن يحيى من ابن القاسم من كتاب
الصبرة
قال يحيى : وسألته عن الوصيفة تكون للرجل
وأبوها حر فيتركها السيد عند أبيها حتى تكبر ،
ثم يريد أخذها فيطلب أبوها السيد بما أنفق
عليها ، أيكون ذلك له ؟ قال : أرى أن يحلف
بالله ما كان إنفاقه عليها احتسابا ، ولا أراد
وضع ذلك عن السيد ، ثم يعدى به عليه . قلت :
فإذا كان له أن يأخذ السيد بما أنفق عليها ،
أيكون للسيد أن يأخذ الأب بأجرة مثلها ؟ قال :
لا أرى ذلك على الأب .
قال محمد بن رشد : قوله : أرى أن يحلف بالله
ما كان إنفاقه عليها احتسابا ، ولا أراد وضع
ذلك عن السيد ، يبين اليمين في مسألة رسم جاع
قبل هذا . وقوله : إنه لا أجرة لسيدها على
أبيها ، معناه إذا لم يستعملها لنفسه في مثل
الغزل والصناعة ، وإنما كان ينتفع بها في
تصرفها له في حوائجه في البيت الذي لو لم
تتصرف له فيها ، لم يحتج إلى الاستئجار عليها
، وهو استحسان .
والقياس أنه إذا رجع على سيدها بالنفقة رجع
سيدها عليه بقيمة انتفاعه بها ؛ لأن من حقه أن
يقول : إنما تركتها له ينتفع بها ليكفيني
مئونة نفقتها كالمخدمة التي تكون نفقتها على
المخدم ، فإذا قال : ذلك حلف على هذا ، ورجع
عليه بقيمة انتفاعه بها ، وأما إذا استعملها
لنفسه في مثل الغزل والصناعة ، فلا إشكال في
أن له الرجوع عليه بالأجرة في ذلك ، يبين ذلك
ما وقع في سماع زونان ، من كتاب الرهون ،
وبالله التوفيق .
(8/487)
ومن كتاب أوله
يشتري البذور والمزارع
وقال ابن القاسم في الرجل يستأجر أجيرا في
حصاد الزرع فيقول له : احصد هذا الزرع كله على
أن لك نصفه ، فيحصده أو بعضه ، ثم تصيبه نار
فتحرقه ، أو بعض ما يتلفه : إن ضمانه منهما
جميعا . وعلى الأجير إن كان لم يحصده كله أن
يستعمله رب الزرع في حصاد مثل ما كان بقي منه
؛ لأن الإجارة قد كانت ثبتت عليه في حصاد نصف
الزرع بنصفه .
قال : وإن قال له : احصد منه ما شئت ، فما
حصدت فلك نصفه ، فيحصد بعضه ، ثم هلك الزرع ،
فضمان ما حصد منهما ، وضمان ما بقي من صاحبه ،
ولا يتبع واحد منهما صاحبه بشيء ؛ لأنه لم تجب
عليه إجارة في شيء بعينه ، وإنما كان له أن
يحصد ما شاء ، ويترك ما شاء .
قال : وإن قال له : احصده كله ، وادرسه كله ،
وصفه كله ، ولك نصفه ، فيحصده أو بعضه ، ثم
هلك الزرع ، فضمانه كله من صاحبه ، وللأجير
أجرة مثله فيما عمل ؛ لأن الإجارة كانت فاسدة
. ولا يصلح لرجل أن يستأجر أجيرا في شيء من
الأعمال بنصف ما يخرج من زرعه بعد أن يصفيه ؛
لأن ذلك بيع لا يحل .
قال محمد بن رشد : أما إجازته الاستئجار على
حصاد الزرع بعد يبسه بنصفه أو بجزء منه معلوم
، فمثله في المدونة ولا اختلاف فيه . وقوله :
إن مصيبته منهما جميعا إن تلف بنار أو غيره
مما يتلف به الفدان
(8/488)
بعد أن يحصد
بعضه ، يريد أو قبل أن يحصد شيء منه صحيح ؛
لأن نصفه يجب للأجير بعقد الإجارة ، ويحصلان
فيه شريكين .
وأما قوله : وعلى الأجير إن كان لم يحصده كله
أن يستعمله رب الزرع في حصاد مثل ما كان بقي
منه ؛ لأن الإجارة قد كانت ثبتت عليه في حصاد
نصفه بنصفه ، فهو خلاف المشهور في المذهب ، من
أن الإجارة تفسخ بتلف الشيء المستأجر على عمله
بعينه حسبما مضى في رسم المحرم ، من سماع ابن
القاسم ، ورسم العتق من سماع عيسى . والواجب
في هذه المسألة على المشهور في المذهب من أن
الإجارة تنفسخ بتلف الشيء المستأجر عليه بعينه
إذا تلف الزرع أن يكون على الأجير قيمة نصفه ،
أو قيمة نصف ما بقي منه إن كان تلفه بعد حصاد
بعضه ؛ لأنه يدخل في ضمانه بعقد الإجارة ،
فإذا تلف جميعه وجب أن يرد قيمة نصفه كما لو
اشترى نصفه بعرض فتلف جميعه بعد الشراء ، ثم
استحق العرض .
وأما قوله : إنه إن استأجره على حصاده ودرسه
وتصفية نصفه ، فهي إجارة فاسدة ، فهو مثل قوله
في المدونة ، خلاف ما مضى في أول رسم من سماع
أشهب . وقد مضى القول على ذلك هناك مستوفى ،
فلا معنى لإعادته .
وإذا كانت الإجارة فاسدة ، فالضمان من البائع
ما لم يحصد ؛ لأن الفساد فيه لا في الثمن ،
ولو كان الفساد في الثمن لدخل بالعقد في ضمان
المبتاع ، على ما مضى في آخر سماع سحنون ، من
كتاب جامع البيوع . هذا هو المشهور في المذهب
.
وقد قيل : إن البيع الفاسد ضمانه من البائع ،
وإن قبضه المبتاع ، وهو قول ابن القاسم في
سماع أبي زيد ، من جامع البيوع ، فقوله في هذه
الرواية : إن الزرع إذا هلك بعد أن يحصده أو
يحصد بعضه ، فضمانه كله من صاحبه ، وللأجير
أجرته فيما عمل ؛ لأن الإجارة كانت فاسدة ،
إنما يأتي على رواية أبي زيد هذه الشاذة في
المذهب . والذي يأتي في هذه المسألة على
المشهور فيه من دخول المبيع في البيع الفاسد ،
في ضمان
(8/489)
المشتري بالقبض
، أن يكون على الأجير نصف قيمة ما هلك من
الزرع بعد حصاده ، ويكون له نصف أجرة مثله في
حصاده ، وإن كان أخذ منه شيئا كان عليه نصف
مكيلته ، أو نصف قيمته إن لم تعرف مكيلته ،
وكذلك وقع لابن القاسم في الدمياطية ، وبالله
التوفيق .
ومن كتاب أوله أول عبد أبتاعه فهو حر
قال : وسألته عن الرجل يقول للرجل : قم لي
بطلب شفعتي ولك إن استحققتها نصف سهمي ، ونصف
ما تأخذ لي بالشفعة في قيامك لي . قال : لا
يصلح الجعل في الخصومة ، وذلك أنه لا يعرف
للفراغ منها قدر ، فأنا أحب لمن استأجر رجلا
يطلب حقا له بالخصومة أن يقطع لذلك أجرة
وزمانا ينتهي إليه قيامه بطلب ذلك الحق ، وإلا
لم يصلح ما يتجاعلان عليه .
قال : وأما الذي سألت عنه في صاحب الشفعة فهو
مكروه ؛ لأن الجعل في الخصومة إن كان حلالا لم
يجز له أن يجعل جعله ما لا يملك بعد ، والجعل
من باب الإجارة ، والإجارة بيع ، ولا يجوز
لأحد أن يبيع ما لا يملك ، وما ليس في يديه
ألا ترى أن طالب الشفعة وإن كانت ثابتة فهو لا
يبيعها قبل أن يحكم له بها ؛ لأن ضمانها من
الذي هي في يديه ، فمن استأجر بها رجلا فهو
كمن باعها ؛ لأنه قد باعها لأجير بعمله وقيامه
بالذي تعاملا به غير جائز من غير وجه واحد .
قال محمد بن رشد : أما الجعل في الخصومة على
إن أفلح فله
(8/490)
جعل مثله ، وإن
لم يفلح فلا شيء له ، فإن اختلاف قول مالك في
جواز ذلك ، واقع في آخر كتاب الجعل والإجارة
من المدونة ، وقد اختلف في ذلك أيضا قول ابن
القاسم : روى يحيى عنه في أول رسم من سماع
يحيى ، من كتاب البضائع والوكالات إجازة ذلك ،
خلاف قوله في هذه الرواية ، وفي سماع يحيى من
كتاب الصدقات والهبات .
والأظهر إجازة ذلك ؛ لأن الجعل على المجهول
جائز ، وإنما كرها ذلك في أحد قوليهما إذا كثر
الجهل فيه استحسانا ، وأما إذا قل وكان الشيء
الذي يخاصم فيه شيئا معروف القدر ، خفيف الخطب
، وجه الشخوص فيه لا يكاد يختلف فهو جائز ،
كذلك قال ابن القاسم في سماع يحيى من كتاب
الصدقات والهبات .
وقوله : فأنا أحب لمن استأجر رجلا على طلب حق
له بالخصومة أن يقطع لذلك أجرة وزمانا ينتهي
إليه قيامه بذلك الحق ، صحيح على ما قال ، لا
بد في الإجارة على ذلك من ضرب الأجل ، كالذي
يستأجر الرجل على بيع الثوب ، لا بد فيه من
ضرب الأجل ، فإذا بلغه استوجب أجرته ظفر أو لم
يظفر ، قاله مالك في كتاب ابن المواز ، وهو
صحيح على معنى ما في المدونة . قال ابن القاسم
: ثم ليس له تركه حتى يستخرجه . وقال أصبغ :
يجوز وإن لم يضرب أجلا إذا كان لذلك وقت قد
عرفه الناس ، كالإجارة على بيع السلعة ،
والأجل على كل حال أحسن .
وأما قوله : ولو كان الجعل في الخصومة حلالا
لم يجز له أن يجعل جعله ما لا يملك ففيه نظر ؛
لأنه إنما لم يجز للرجل أن يبيع ما لا يملك أو
يستأجر به ؛ لأنه إذا فعل ذلك فقد باعه أو
استأجر به على أن يتخلصه للمبتاع أو للأجير من
ربه ، وذلك غرر بين ؛ إذ لا يدري بما يتخلصه
به ، ولعله لا يقدر على أن يتخلصه ، فيرد إلى
المبتاع ماله إن كان قد نقده ، فيكون مرة بيعا
ومرة سلفا ؛ والجعل لا ينقد فيه ، ولا يستحق
إلا بتمام العمل .
(8/491)
وإذا تم العمل
في هذه المسألة تقرر الملك في الجعل للجاعل ،
ووجب للمجعول له . فلما كان لا يجب الجعل على
الجاعل إلا بعد تقرر الملك له فيه ، وجب أن
يجوز لعدم التخليص الذي هو العلة في أنه لا
يجوز للرجل بيع ما لا يملك ، ولقد أجاز في رسم
المكاتب ، من سماع يحيى ، من كتاب جامع البيوع
أن يبيع ما لم يملك بعد إذا كان قد أعطى صاحبه
فيه ثمنا وقارب أن يشتريه منه ، فكيف بهذا ؟!
وبالله التوفيق .
من سماع سحنون بن سعيد من عبد الرحمن بن
القاسم
قال ابن القاسم في الرجل يستأجر الرجل شهرا
يحرث له ، فينكسر المحراث ، أو يموت الزوج ،
أو يمطر فيحتبس اليوم وما أشبهه . قال : أما
كسر المحراث وموت الزوج فإن الكراء فيه لازم ؛
لأن حبسه جاء من قبل المحراث ، ورب الزوج .
وأما المطر فهو منع من الله ، وهو بمنزلة
المرض ، فليس للأجير في ذلك إجارة .
قال محمد بن رشد : هذا بين على ما قال ؛ لأن
المستأجر كان يقدر أن يعد زوجا غيرها ، أو
محراثا غيره ، فإذا لم يفعل وجب للأجير أجره
كاملا ؛ لأن الحبس جاء من قبله ، بخلاف المطر
الذي هو من الله لا صنع لأحد فيه ، وبالله
التوفيق .
مسألة
قال سحنون : قال علي بن زياد ، سئل مالك عن
رجل
(8/492)
جعل لرجل جعلا
في اقتضاء دين له في القرية التي هو فيها ، ثم
قدم صاحب الدين ، فأراد أن ينزع عما جعل له ،
ويجعل لغيره ، فقال مالك : لا أرى ذلك له إذا
أخذ المجعول له في التقاضي والعمل .
قال سحنون : كل من جعل لرجل جعلا ، فشرع
المجعول له في ذلك الشيء ، فليس للجاعل أن
يخرجه على حال ، وللمجعول له أن يخرج متى شاء
، ولا يلزمه شيء .
قال محمد بن رشد : هذا بين أنه ليس له أن ينزع
بعد أن شرع المجعول له في التقاضي والعمل ؛
لأنه يبطل بذلك ما مضى من عمله ، وإنما الخلاف
هل له أن ينزع قبل أن يشرع المجعول له في
العمل ، أو ليس ذلك له ، ويلزمه الجعل بالعقد
؟ وقد مضى القول على ذلك في رسم العتق من سماع
عيسى . وأما المجعول له فلا يلزمه التمادي على
العمل ، وإن شرع فيه ؛ إذ لا ضرر على الجاعل
في تركه العمل بعد شروعه فيه ، وبالله التوفيق
.
مسألة
وقال سحنون : سئل ابن القاسم عن رجل دفع إلى
رجل فرسا على أن يعلفه سنة بستة دنانير ، هل
يجوز له ؟ قال : نعم ، لا بأس بذلك في الفرس ،
وفي العبد يعطيه سيده رجلا على أن يكفيه الرجل
عوله من عنده سنة بكذا وكذا ، فذلك جائز لا
بأس به .
قال محمد بن رشد : هذا صحيح على معنى ما في
المدونة من
(8/493)
إجازة كراء
الدابة بعلفها ، والأجير بطعامه ، وإن لم توصف
النفقة ، ولا سيما كيل علف الدابة ؛ لأن ذلك
معروف عند الناس ، فاستغني فيه عن الوصف
بالعرف ، وبالله التوفيق .
مسألة
قال ابن القاسم في مسألة الجعل في الذي خاصم
في القرية على أن له ثلثا ، ثم تصدق عليه بذلك
الثلث ، وقبضه وحازه ، ثم قاموا عليه فقالوا :
إن الجعل لا يجوز ، وقال : إنما هي صدقة ،
فأقام البينة على صدقته ، وأقاموا البينة على
أنه أقر أنه إنما أخذه على جعله في الخصومة ،
وهم مقرون بالصدقة ، وذلك أنهم قالوا : إنما
فعلنا ؛ لأنا ظننا أن ذلك يلزمنا ، وإنما
قاموا عليه بعد سنين .
فرأى أن إقراره لم يضره ، ولم ير ما ادعوا من
الجهالة في الصدفة ما ينتفعون به ، وقال :
كأنهم أعطوه إذ تصدقوا به عليه فيما كان وجب
له من جعله . وذلك أنه إذا كانت تصير له إجارة
، فكأنهم أعطوه هؤلاء الإجارة ، ولم يعذرهم
بالجهالة ؛ لأنه قد أقام يحوزها سنين .
قال محمد بن رشد : وقعت هذه المسألة هاهنا
ملخصة محذوفة السؤال والجواب ، ووقعت في رسم
الأقضية ، من سماع يحيى ، من كتاب الصدقات
والهبات بكمالها ، وبعض ألفاظها مخالفة لما
لخصت به هنا ، والمعنى فيها أن الرجل خاصم في
القرية لأربابها ، فلما استحقها
(8/494)
لهم تصدقوا
عليه بثلثها ، فقبض الثلث وحازه ، ثم إنهم
قاموا عليه بعد سنين فقالوا : إنا كنا جاعلناك
على الخصام في القرية بثلثها الذي دفعناه إليك
، وذلك لا يجوز لك ؛ لأنه جعل فاسد لا يجوز ،
وأقاموا البينة على إقراره بأنه أخذه على جعله
، وقال : هو إنما أخدته بالصدقة ، وأقام
البينة على الصدقة ، فأقروا بها ، وقالوا :
إنما تصدقنا عليك به ؛ لأننا ظننا أن ذلك
يلزمنا بالجعل الذي شارطنا عليه ، فلم ير ابن
القاسم إقراره بأنه أخذه على جعله ضائرا له ؛
لأن بإزائه إقرارهم له بالصدقة التي ادعى ،
ولم يعذرهم فيها بالجهالة مع احتمال إقراره
بأنه أخذه على جعله أنه أخذه فيما وجب له من
الجعل ، لا على أنه جاعلهم على ذلك .
واستظهر على ذلك في سماع يحيى ، من كتاب
الصدقات والهبات باليمن ، على أنه لم يقاطعهم
بالثلث قبل الخصومة ، وإنما طاعوا له بها
بعدها شكرا ومكافأة عليها ، من أجل ما تضمنه
السؤال من أنه شهد عليه أنه ادعى عند القاضي
أنه جاعلهم على الخصام عنهم في القرية على
ثلثها ، فلا يعد ذلك اختلافا من قوله ،
وسنتكلم على رواية يحيى إذا مررنا بها إن شاء
الله تعالى ، وبالله التوفيق .
مسألة
قال سحنون في الرجل يستأجر على الصياح على
المتاع في السوق على جعل : إن ذلك الجعل فاسد
؛ لأنه يصيح النهار كله ، وليس إليه إمضاء
البيع وإمضاؤه إلى رب المتاع ، فهذا جعل فاسد
لا يدري أيعطى في السلعة ما يرضى به صاحب
السلعة أم لا . ولو كان إمضاء البيع والنظر
إلى الصائح ، لم يكن بالجعل بأس ، وقال سحنون
: وهذه المسألة جيدة .
(8/495)
قال محمد بن
رشد : هذه مسألة صحيحة جيدة على ما قال سحنون
، ولا يجوز الجعل على البيع إلا على أحد وجهين
؛ إما أن يسمي له ثمنا ، أو يفوض إليه البيع
بما يراه ، ولا اختلاف في هذا ، ومثله لابن
القاسم في بعض الروايات ، في رسم حلف من سماع
ابن القاسم ، ذكر ذلك في المدنية من كتاب أوله
الرجل يحلف بطلاق امرأته ، وبالله التوفيق .
مسألة
وسئل سحنون عن البيع والإجارة ، فقال : جائز
في غير ذلك الشيء ، ولا يجوز في ذلك الشيء
بعينه .
قال محمد بن رشد : هذا معلوم مشهور من مذهب
سحنون ، أن البيع والإجارة في الشيء المبيع لا
يجوز عنده على حال ، وهو جائز على مذهب ابن
القاسم ، وروايته عن مالك فيما يعرف وجه خروجه
بعد العمل كالثوب ، على أن على البائع خياطته
وما أشبه ذلك ، وفيما لا يعرف وجه خروجه إذا
كان يمكن إعادته للعمل ، كالصفر على أن يعمل
منه البائع قدحا ، وما أشبه ذلك . وأما ما لا
يعرف وجه خروجه ، ولا يمكن إعادته للعمل
كالغزل على أن على البائع نسجه ، أو الزيتون
على أن على البائع عصرها ، أو الزرع على أن
على البائع حصده ودرسه ، وما أشبه ذلك فلا
يجوز باتفاق ، وقد مضى هذا المعنى في غير ما
موضع من هذا الكتاب ، ومن كتاب جامع البيوع ،
والله الموفق .
ومن كتاب جامع البيوع
من مسائل نوازل سئل عنها سحنون بن سعيد
وسئل سحنون عن الرجل يعلم الصبيان الكتاب ،
ولا يشارط
(8/496)
على شيء من
تعليمه ، فيجري له في الشهر الدرهم والدرهمين
، ثم يحذقه المعلم فيطلب منه الحذقة ، ويأبى
الأب أن يغرم ، ويقول : إن حقك فيما قبضت .
قال سحنون : إنما ينظر في هذا إلى حال البلد
وسنتهم في ذلك ، فيحملون على ذلك ، إلا أن
يكون رجلا اشترط شيئا فله شرطه . وأما الحذقة
فليس فيها شيء معروف ، إلا على قدر الرجل
وحاله .
قال محمد بن رشد : إنما سئل أولا عن الحذقة ،
هل يقضي بها ، فقال : إنه ينظر في ذلك إلى حال
البلد وسنتهم ، فيحملون على ذلك ، فقوله بعد
ذلك : وأما الحذقة فليس بوجه الكلام ؛ إذ
عليها تكلم أولا ، فكان من حق الكلام أن يقول
: وليس فيها شيء معروف إلا على قدر الرجل
وحاله . وإيجابه القضاء بالحذقة إذا كانت
جارية بالبلد ، وإن لم تشترط هو على أحد قولي
مالك في رسم القبائل ، من سماع ابن القاسم ،
من كتاب النكاح ، وفي رسم لم يدرك ، من سماع
عيسى منه ، في أن هدية العرس يقضى بها ، وإن
لم تشترط إذا كانت جارية بالبلد ، ولم يحكم
بها في قوله : إنه يقضى بها بحكم الصداق
كالمشترطة ، ولا بحكم الهبة ، وإنما حكم لها
بحكم الصلة التي يراد بها عين الموصول ،
فأبطلها بموت من مات منهما . وكذلك يجب في
الحذقة على قياس قوله ألا يقضى بها لورثته إن
مات على الأب ، ولا على ورثة الأب إن مات
المعلم ، وإنما يقضى بها للمعلم على الأب في
حياتهما ، وعلى هذا يأتي قول ابن حبيب ؛ لأنه
فرق بين الحذقة المشترطة والواجبة بالعرف في
موت الصبي أو إخراجه قبل بلوغه إلى الحذقة
حسبما مضى القول فيه في رسم البيوع الأول من
سماع أشهب ، وبالله التوفيق .
(8/497)
مسألة
وقال في رجل حمل طعاما في سفينة ، فلما انتهت
السفينة نصف البحر غرقت بعد أن بلغت الساحل .
قال : لا كراء لصاحب السفينة . قلت : فلو حمل
طعاما من الإسكندرية إلى الفسطاط في سفينة ،
فغرقت في بعض الطريق ، فاستخرج بعض الطعام ،
فحمل على غيرها إلى الفسطاط ؟ قال : لرب
السفينة التي غرقت من كراء الطعام الذي أخرج
بقدر ما انتفع به صاحبه من بلوغه إلى الموضع
الذي غرقت فيه السفينة .
قال محمد بن رشد : هذا مثل ما قال ابن القاسم
، وروايته عن مالك في المدونة في أن كراء
السفن على البلاغ ، وعلى هذا يأتي ما في رسم
أخذ يشرب خمرا ، من سماع ابن القاسم ، من كتاب
الرواحل والدواب ، في أنه لا كراء لصاحب
المركب فيما ألقى من المتاع في البحر لهو له ،
وإليه ينحو قول أصبغ في نوازله من الكتاب
المذكور .
وسيأتي الكلام عليه في موضعه إن شاء الله .
والقياس قول ابن نافع في المدونة أن لها بحساب
ما بلغت ؛ لأن الكراء على البلاغ أخذ بشبه من
الجعل والإجارة ، وليس بجعل محض ، ولا بإجارة
محضة ، فهو استحسان . وكذلك قول ابن القاسم في
المدونة : إن ما عثرت به الدابة أو الحمال على
ظهره فتلف ؛ أنه لا ضمان عليه ، ولا كراء له
هو استحسان أيضا ، والقياس قول غيره أن له
كراء ما سار من الطريق ؛ لأن الضمان إذا سقط
عنه ، فهو بمنزلة ما تلف بأمر السماء ، وبالله
التوفيق .
مسألة
وسئل عن قوم استأجروا أجيرا يحرس لهم أعدال
متاع لكل
(8/498)
رجل منهم
العشرة الأعدال ، والخمسة ، والثلاثة ، هل
تكون الإجارة على قدر عدد ما لكل رجل منهم من
الأعدال ، أو تكون على عدد القوم ؟ قال :
الإجارة في مثل هذا تكون على عدد الرجال ، ولا
تكون على عدد الأعدال ؛ لأن الحارس يتمون في
القليل من المتاع ، أو في النظر إليه ، ويرد
النوم عنه ، كما يتمون في الكثير .
قيل له : وكذلك لو استأجروا أجيرا يحرس لهم
حبال مقاثي ، وهي مختلفة الطول والعرض والعدد
، يكون لأحدهم حبلان ، وللآخر ثلاثة ، والكرم
يكون لهم على هذه الحال ، وبعضها أكبر من بعض
، وأكثر عددا ؟ قال : نعم ، الجواب واحد في
المسألتين جميعا . قلت : أرأيت إن استأجروه
على أن يجمع لهم ثمر هذه الكروم والحمال
والمقاثي ، أو على أن يحرسها ويجمع ثمرتها ،
وهي في القرب واحد بعضها قريبة من بعض ،
بدراهم مسماة جملة واحدة ؟ قال : إذا استأجر
قوم أجيرا على عمل مختلف مثل أن يكون لأحدهم
عشرة فدادين ، ولآخر خمسة ، ولآخر واحد ، فهذا
عمل ، وعمل القليل والكثير ليس بسواء ، وهو
عندنا فاسد ؛ لأن عمله يكون على كل قوم بقدر
قيمة ماله فيقسم الكراء على ذلك ، فلا يدري ما
أجر نفسه به من كل واحد إلا من بعد القيمة ،
مثل الرجلين يبيعان العبدين بمائة دينار من
رجل ، وهما مختلفا القيمة ، فيكون كل واحد
منهما لا يدري بما باع به سلعته إلا بعد
القيمة ، فكذلك الأجير لا يدري ما يتبع به كل
واحد إلا من بعد القيمة ، وقد
(8/499)
قال ابن القاسم
في مسألة العبدين : إنه جائز ، وذكر عن مالك
ما يشبه ، وهو قول أشهب : إنه جائز في الشراء
.
قال محمد بن رشد : قوله في أجرة الأجير على
حرز الأعدال للجماعة من الناس : إنها تكون على
عدد الرءوس لا على عدد الأعدال ، هو على قول
ابن القاسم في كتاب الأقضية من المدونة في
أجرة القيام : إنها تكون على عدد الرءوس لا
على قدر الأنصباء ، وهو أصل قد اختلف فيه قول
ابن القاسم ، فروى يحيى عنه في أول سماعه من
كتاب البضائع والوكالات في أجرة الأجير على
الخصام ، أنها تكون على قدر الأنصباء لا على
عدد الرءوس ، وهو الأظهر ، وإليه ذهب أصبغ في
نوازله ، من كتاب السداد والأنهار .
وقال به محمد بن عبد الحكم ، واحتج بقوله : إن
الأجرة إن جعلت على عدد الرءوس ربما صار على
القليل النصيب من الأجرة أكثر من قيمته ، وهو
كما قال . وأما إذا استأجره جماعة على جمع
ثمار كرومهم ، فقوله : إن ذلك غير جائز ، وهو
فاسد عندئذ ، جار على اختلافهم في إجازة جمع
الرجلين سلعتيهما في البيع ، فهو بين على ما
قال ، فلا وجه للقول فيه ، وبالله التوفيق .
مسألة
وسئل سحنون عن الرجل يكون له الأحواض من الملح
، ويكون له شرب معروف من بين ، فيريد أن
يقبلها لأشهر معلومة بالدنانير والدراهم ، قال
: إذا كان كما ذكرت من معرفة شربها ، فلا بأس
بذلك .
قلت : فإن أراد يقبلها أشهرا بملح يكون عليه
مضمونا ،
(8/500)
أترى بذلك بأسا
؟ قال : إذا كان مضمونا على المستأجر ، فلا
بأس بذلك .
قلت : فلو استأجره بثلث ما يرفع فيها أو النصف
؟ قال : ذلك جائز .
قال محمد بن رشد : هذه المسائل الثلاث عابها
الناس قديما وحديثا ، واعترضوها وقالوا : إنها
مخالفة للأصول ، والأولى أخفها . ووجه
الاعتراض فيها أنه قد علم أن الحر إذا اشتد
كثر عقد الملح ، وإذا خف قل عقده ، فكراؤها
أشهرا معلومة بالدنانير والدراهم أو العروض
ينبغي ألا يجوز ، كما لا يجوز شراء ما أطعمت
المقثاة أشهرا ؛ لأنه إذا اشتد الحر كثر حملها
، وإذا كان البرد قل حملها . ووجه تفرقة سحنون
بين المسألتين أن نبات المقثاة لا عمل للمشتري
فيه ، وإنما يكون على قدر ما يكون في تلك
المدة من الحر أو البرد ، وأما عقد الملح ،
فإن كان يكثر بشدة الحر ، ويقل بقلته ، فإن
لخدمة المكتري في ذلك تأثيرا ، فقد تقل
الملاحة بكثرة الخدمة مع قلة الحر ، أكثر مما
تقل مع كثرة الحر ، وقلة الخدمة ، وإن تركت
خدمتها أصلا ، ولم يجلب الماء إلى أحوضها ، لم
يكن فيها من الملح قليل ولا كثير . وهو فرق
بين ، والإجازة فيها أظهر من المنع .
أو أما كراؤها لجميع مدة الملح من العام
بالدنانير والدراهم والعروض نقدا وإلى أجل ،
فلا اعتراض في ذلك ، ولا إشكال في أن ذلك جائز
، وأما كراؤها أشهرا مسماة بكيل من الملح ،
يكون على المكتري مضمونا ، أو بجزء مما يخرج
منها ، فأجاز سحنون ذلك في هذه الراوية ، وروى
زياد عن مالك أنه قال : أكره أن يعطي الرجل
ملاحته على النصف أو الثلث ، أو ببعض ما يخرج
منها .
ووجه رواية زياد في كراهيته لكرائها أشهرا
معلومة بكيل من الملح
(8/501)
يكون على
المكتري مضمونا ، هو أن الملح الذي يأخذه
المكري من المكتري ، هو من الماء الذي دفع
إليه ، فأشبه ذلك من سلف كتانا في ثوب كتان أو
صوفا في ثوب صوف .
ووجه ما ذهب إليه سحنون من إجازة ذلك ،
وتفرقته بين المسألتين ، هو أن جل الكراء إنما
وقع على الأحواض ؛ إذ لا منفعة له في الماء
دونها والماء تبع لها ؛ إذ لو اكترى منه
الأحواض دون الماء على أن يسوق إليها الماء ،
لم ينتفع صاحب الماء بمائه ؛ إذا لم تكن له
أحواض يسيره إليها ، فكان ذلك بخلاف الذي أسلم
كتانا في ثوب كتان أو صوفا في ثوب صوف ؛ لأنه
يعطيه الثياب من عين ما دفع إليه من الكتان أو
الصوف ، وإنما تشبه المسألتان لو باع منه شرب
الملاحة دون الأحواض على أن يسوقه المبتاع إلى
أحواض نفسه بكيل من الملح يكون عليه مضمونا .
وأما كراؤها بالجزء منها ، فوجه الكراهة فيها
أنه كراء بثمن مجهول ؛ لأن الجزء قد يقل ما
يحصل فيه من الملح وقد يكثر ، ووجه ما ذهب
إليه سحنون من إجازة ذلك ، هو أن المعنى في
ذلك أنه لم يعتبر لفظ الإجارة ، ورآها شركة
كالمزارعة ، جعل صاحب الملاحة أحواضه وشربه من
الماء ، وجعل الآخر خدمته في ذلك على أن يكون
ما أخرج الله فيها من الملح بينهما بنصفين ،
أو على الثلث ، أو الثلثين ، أو ما أشبه ذلك ،
فوجب أن يجوز ؛ لأن الشرب من الماء كالبذر في
المزارعة ، وهو توجيه فيه ضعف لإفصاحهما بلفظ
الإجارة ، ولو لم يفصحا بلفظ الإجارة ، وأفصحا
بلفظ الشركة لوجب أن يجوز ، كما لو تزارع
الرجلان على أن يجعل أحدهما الأرض ، والبذر
والآخر العمل وحده ؛ لكانت مزارعة جائزة ،
فكذلك الملاحة .
فتحصيل القول في هاتين المسألتين أنهما إن
أفصحا فيهما بلفظ الإجارة لم يجز ، وإن أفصحا
في مسألة الملاحة بلفظ الشركة ، وفي الثانية
(8/502)
بلفظ المزارعة
جازتا جميعا ، وإن أتيا في كل واحدة منهما
بلفظ محتمل للوجهين ، تخرج ذلك على قولين ،
وبالله التوفيق .
مسألة
وسئل عن الرجل يأتي بدابته لينزي عليها ،
فيقول لصاحب الفحل : أنزه على هذه الدابة
مرتين بدرهم ، فيرضى صاحب الفحل فينزيه له
ضربة فتعق الدابة ، أترى له عليه نزوة أخرى إن
أراد أن يأتي بدابة أخرى ، أم ماذا له في ذلك
؟ قال سحنون : أرى أن يرجع عليه بنصف الأجرة ؛
لأن ذلك عندي بمنزلة المرضع تستأجر على رضاع
صبي سنة فترضع ستة أشهر ، ثم يموت الصبي ،
فإنها تأخذ بحساب ما أرضعت ، ولا يكون لها ولا
لهم أن يأتوها بصبي آخر .
قال محمد بن رشد : هذه المسألة إحدى المسائل
الأربع التي تنفسخ الإجارة فيها بذهاب الشيء
المستأجر له . وقد مضى القول في هذا المعنى
مقسما ملخصا مستوفى في رسم العتق ، من سماع
عيسى ، فلا معنى لإعادته ، وبالله التوفيق .
مسألة
وسئل سحنون عن رجل أعطى رجلا ثوبا ليبيعه له
بجعل ، فلما قبض الدنانير ضاعت من عنده . هل
يكون له الجعل الذي جعل له ؟ قال : نعم .
قال محمد بن رشد : هذا بين كما قال ؛ لأنه لما
باع الثوب وجب له الجعل ، فليس ضياع الثمن منه
بعد ذلك بالذي يسقط له ما وجب له من
(8/503)
الجعل . ووقع
في رسم طلق ، من سماع ابن القاسم ، من كتاب
الرواحل والدواب ، فيمن تكارى حمالا ، وبعث
معه بدنانير إلى موضع ليبتاع له بها طعاما ،
فرجع وزعم أن الدنانير ضاعت منه أنه يحلف لقد
ضاعت منه الدنانير ، ولا يكون له فيها مواجرة
.
فذهب بعض الناس إلى أن المسألتين متعارضتان ،
وليس ذلك بصحيح ؛ لأن مسألة سحنون جعل على بيع
، فوجب للمجعول له جعله بالبيع ، ومسألة مالك
إجارة على الذهاب بالمال إلى بلد آخر ، وشراء
سلعة به ، فلما ضاع منه المال بالطريق قبل
الشراء لم يكن له فيما مضى منه أجرة ؛ لأن تلف
المال جاء منه ، وذلك على أصله في المدونة في
الذي يستأجر الحمال على حمل شيء بعينه ، فيعتر
به فيذهب ، أنه لا ضمان عليه ولا كراء له ،
خلاف قول غيره ، وبالله التوفيق .
من سماع محمد بن خالد من ابن القاسم
قال محمد بن خالد : سألت ابن القاسم عن الصائح
على الدقيق والعقار يقال له : صح عليه ، فإن
بعت فلك كذا وكذا ، وإن لم تبع فلا شيء لك .
قال ابن القاسم : ذلك مختلف ، أما مثل الرأس
الذي يؤمر ببيعه ، أو الدار تباع ، فإن ذلك
يجوز فيه هذا ؛ لأنه قد صاح فيه أياما كثيرة ،
وهو ينظر في حوائجه في خلال ذلك . قال ابن
القاسم : وأما كل ما يباع من عاجل ، فذلك لا
يكون إلا بأجرة .
قال محمد بن رشد : قد مضى في رسم شك في طوافه
، وفي رسم حلف ، من سماع ابن القاسم بيان وجه
الكراهة في المجاعلة على الصياح ، على الرقيق
والثياب الكثيرة ، فلا معنى لإعادة ذلك ،
وكذلك العقار الكثير ، وأما الثوب والثوبان ،
والرأس والرأسان ، فالمجاعلة على بيع ذلك جائز
، إذا سمى لكل ثوب أو رأس منها جعلا ، وكان
مما لا يباع من عاجل ؛ إذ ما يباع من عاجل
ويتيقن وجود الثمن فيه ، لا يجوز فيه الجعل
على ما قال ؛ لأن الجعل إنما يكون فيما إن
بلغه المجعول له استحق جعله ، وإن قصر عنه لم
يكن له شيء ، وبالله التوفيق .
(8/504)
من سماع أصبغ
من كتاب البيوع الثاني
قال أصبغ : وسألت ابن القاسم عن رجل قال لرجل
: اقتض ما لي على فلان وهو كذا وكذا ، فما
اقتضيت من شيء فلك ثلثه أو نصفه ، فمات
المجعول له ، وقد اقتضى بعض المال ، أو لم
يقتض شيئا ، أو مات الجاعل ، أو مات الذي عليه
الحق . فقال : إن مات الذي جعل له ، وقد عمل
فورثته مكانه ، يقومون مقام أبيهم إن كانوا
أمناء ، ما دام صاحب الحق حيا ، وإن كان
المجعول له مات قبل أن يقتضي شيئا ، فلا حق
لورثته بمنزلة القراض سواء ، يريد إذا لم يعمل
الميت بالقراض ، ولم يشغله ، ولا شيئا منه ،
فلا شيء لورثته ، فهذا مثله ، وإن مات رب
المال الجاعل ، لم يكن للذي جعل له استتمام ما
لقي ، ولا لورثته إن هو مات ؛ لأنه أمر إنما
كان يلزم الجاعل ما دام حيا ، فإذا مات فقد
صار المال لغيره ، وانفسخ عنه ما جعل له ؛
لأنها لم تكن إجارة لازمة ، وقد كان المجعول
له متى شاء أن يخرج خرج .
ومما يبين ذلك ، أن لو هلك رب المال ، وعليه
دين يحيط بماله ، فأراد المجعول له أن يقوم
بالتقاضي كما هو ، وأبى ذلك الغرماء ، وقالوا
: قد صار المال مالنا ، وليس لك أن تنقصنا من
أموالنا لما جعل لك ، فإن ذلك لهم . وكذلك لو
فلس رب المال الجاعل
(8/505)
لسقط جعل
الأجير ، يريد من ذي قبل فيما لم يقبض ، وكان
لغرمائه يقتسمونه ، وكذلك الورثة بمثابتهم ؛
لأن المال خرج إلى ورثة رب المال .
قال : وإن مات الذي عليه الحق ، وقد اقتضى
المجعول له بعض الحق قبل أن يموت ، وفات أو
مات الذي عليه الجعل ، فهو على جعله الذي جعل
له صاحب الحق ، يقوم بتقاضيه إن أحب ، كان
اقتضى قبل ذلك شيئا أو لم يقتض ، وهو بمنزلة
ما لو أراد صاحب الحق أو غيره من غرماء الميت
الذي عليه الحق أن يفلسوه ، كان المجتعل على
جعله ، فالموت في هذا والفلس واحد ، وورثة
الأجير هاهنا بمنزلته إذا كانوا أمناء مثل
القراض . قاله أصبغ كله على الاتباع
والاستحسان ، وفي بعضها بعض المغمز والانكسار
على القياس والكلام .
قال محمد بن رشد : تفرقته في موت المجعول له
بين أن يموت قبل أن يقتضي شيئا ، يريد قبل أن
يعمل في الاقتضاء ، وبين أن يموت ، وقد عمل في
الاقتضاء ، يريد وإن لم يقتض شيئا بعد ،
وتنظيره إياه بالقراض صحيح على القول بأن
الجاعل يلزمه الجعل بالعقد ، وإن لم يشرع
المجعول له في العمل ؛ فيكون لورثة المجعول له
إن كانوا أمناء ، أو أتوا بأمين أن يقوموا
مقام مورثهم .
وأما قوله : إنه إن مات رب المال الجاعل لم
يكن للذي جعل له
(8/506)
استتمام ما بقي
، ولا لورثته إن هو مات ، فالمعنى في ذلك عندي
إذا كان قد اقتضى البعض ، وبقي البعض ، لأن ما
اقتضى قد وجب له فيه جزؤه ، فلم يخسر عناءه
جملة . وهذا الموضع هو الذي قال فيه أصبغ :
إنه استحسان ، وإن فيه مغمزا وانكسارا على وجه
القياس . وهو كما قال ؛ لأنه إذا اقتضى البعض
، فقد لزم الجاعل الجعل ، وإذا لزمه لم يسقط
عنه بموته ، ولزم ورثته من ذلك ما لزمه في وجه
النظر والقياس على الأصل .
وأما لو مات الجاعل بعد أن عمل المجعول له في
الطلب والشخوص والقيام ، وقبل أن يقتضي شيئا ،
لما صح أن يبطل حقه في ذلك بموت الجاعل فيذهب
عناؤه باطلا ، ولوجب أن يكون له ولورثته إن
مات القيام مكانه في اقتضاء ما كان قام عليه
فيه ، وأشرف على اقتضائه منه دون خلاف ، كما
أنه لو كان الجعل في غير اقتضاء الديون ، مثل
أن يجعل له جعلا في طلب آبق ، أو في حفر بئر ،
فمات الجاعل بعد أن حفر المجعول له بعض البئر
، أو خرج في طلب الآبق ؛ للزم ذلك ورثته ، ولم
يقع في ذلك خلاف .
ولو كان الجعل في مثل الحصاد ، واللقط بأن
يقول له : ما حصدت من زرعي هذا ، أو لقطت من
زيتوني هذا ، فلك نصفه أو ثلثه ، فمات الجاعل
بعد أن حصد بعض الزرع ، أو لقط بعض الزيتون ،
لم يكن للمجعول له التمادي على الحصاد ، ولا
على اللقط دون رضا ورثة الجاعل بلا خلاف ؛ لأن
ما حصد أو لقط قد وجب له حقه فيه ، وما لم
يحصد ولم يلقط ، فليس له فيه عمل يذهب بخروجه
، فقف على افتراق أحكام هذه المسائل الثلاث
لافتراق معانيها ، والجعل على الاقتضاء يكون
لورثة الجاعل أن يمنعوا المجعول له من التمادي
على الاقتضاء في الاستحسان دون القياس .
والجعل على الحفر وطلب الآبق وشبهه ليس لهم أن
يمنعوه من التمادي على الحفر والطلب في
استحسان ولا قياس . والجعل على الحصاد
(8/507)
واللقط وشبهه
لهم أن يمنعوه من التمادي على الحصاد واللقط
في الاستحسان والقياس .
وقوله : إن الجعل على الاقتضاء لا ينفسخ بموت
الذي عليه الدين ، ولا بتفليسه صحيح لا وجه
للقول فيه ، والله الموفق .
مسألة
قال أشهب في كتاب البيع والصرف في الرجل يقول
: اقتض لي مائة على فلان ، ولك نصفها ، فقال :
لا يعجبني . فقيل له : فإن قال : وما اقتضيت
من شيء فعلى حسابه ؟ قال أشهب : لا يعجبني على
حال . قال أصبغ : كرهه لأنه من باب الجعل في
الخصومة . وقال ابن وهب مثل قول ابن القاسم
إذا قال : اقبض لي مائة دينار على فلان ولك
نصفها أو ما اقتضيت من شيء ، فلك نصفه فلا بأس
به . وقال ابن وهب : إذا قال : اقبض ما لي على
فلان ، ولم يقل : فهي كذا وكذا ، ولك نصفها ،
فلا خير فيه ، أو هو بمنزلة الرجل يعطي الرجل
الثوب ، فيقول له : بعه بما وجدت ، ولك من كل
دينار درهم ، فلا خير فيه ، وهذا مثله .
وإن قال له : بعه بخمسة دنانير ، ولك في كل
دينار درهم لم يكن به بأس . قال أصبغ : والذي
آخذ به قول ابن القاسم فيها ، سمى عدة
الدنانير أو لم يسم . قال أصبغ : وسواء في موت
رب المال عمل المجعول ، وكان اقتضى شيئا ، أو
لم يقتض ينفسخ ما بقي إن كان عمل بعضه
(8/508)
أو كله ، أو لم
يكن عمل في قول ابن القاسم . وهذا رأيي كله .
قال محمد بن رشد : هكذا وقع في هذه المسألة من
قول ابن وهب ، وابن القاسم إذا قال : اقبض لي
مائة دينار على فلان ، ولك نصفها ، أو ما
اقتضيت من شيء فلك نصفه . ووقع في بعض الكتب ،
وما اقتضيت من شيء بإسقاط الألف . فإذا ثبتت
الألف اقتضى ثبوتها أنه يجوز عند ابن القاسم ،
وابن وهب أن يقول الرجل للرجل : اقبض لي مائة
دينار على فلان ، ولك نصفها ، وإن لم يقل ،
وما اقتضيت من شيء فلك نصفه .
وإذا أسقطت الألف اقتضى سقوطها أنه لا يجوز
عندهما أن يقول الرجل للرجل : اقبض لي مائة
دينار على فلان ، ولك نصفها ، إلا أن يقول :
وما اقتضيت من شيء فلك نصفه ، والاختلاف في
هذا إنما يرجع إلى الاختلاف فيما يحمل عليه
اللفظ ؛ إذ ليس بصريح في الجعل ولا في الإجارة
، فمن حمله على الإجارة أجازه ، ومن حمله على
الجعل لم يجزه .
وأما إن قال : وما اقتضيت من شيء ، فلك نصفه ،
فلا اختلاف بينهم في أن ذلك محمول على الجعل ،
وأن ذلك جائز إلا على مذهب أشهب ، الذي لا يرى
المجاعلة على اقتضاء الديون جائزة على حال ،
وإن سمى عددها ، وشرط أن له مما اقتضى منها
بحساب ذلك . وأما إن لم يسم عدد الدين ، فلا
تجوز المعاملة على اقتضائه بجزء منه ، إلا على
وجه الجعل بأن يجعل له من كل شيء يقتضيه بحساب
ذلك ، فلا يجوز أن يقول : اقبض ما لي على فلان
، إذا لم يقل : وهو كذا وكذا ، ولك نصفه إلا
أن يقول : وما اقتضيت من شيء فلك نصفه ، فإذا
قال ذلك حمل على الجعل باتفاق وجاز . وقد مضى
تحصيل القول في هذه المسألة في أول رسم من
سماع ابن القاسم ، وفي هذا بيان ، وبالله
التوفيق .
(8/509)
مسألة
قال : وقول مالك فيمن استؤجر على خادم يبلغه ،
فمات في بعض الطريق أو أبق ، فإن أبق حوسب ،
وإن مات فله الأجرة كلها ، وقال ابن القاسم
فيه الموت والإباق عندي واحد ، نرى أن تكون له
الأجرة كلها . قال ابن وهب : له من الأجرة إلى
حيث بلغ فقط ، وقاله أصبغ ، إلا أن للمستأجر
أن ير يستعمله في مثل ذلك حتى يبلغ ويتم ، أو
يواجره في مثله حتى يتمه .
قال محمد بن رشد : قول مالك : إن له الأجرة
كلها في الموت ، وقول ابن القاسم : إن له
الأجرة كلها في الموت والإباق ، معناه : ويكون
للمستأجر أن يستعمله في مثل ذلك على ما قاله
أصبغ . فالصواب في قوله أن يكون متصلا بقول
ابن القاسم على سبيل التفسير له ، لا بقول ابن
وهب .
فيتحصل في المسألة ثلاثة أقوال ؛ أحدها : أن
الإجارة لا تنفسخ لا في الموت ولا في الإباق ،
ويستعمله المستأجر في مثل ما بقي ، وتكون له
أجرته كاملة ، وهو قول ابن القاسم . والثاني :
أنها تنفسخ فيهما جميعا ، ويكون له من الأجرة
إلى حيث ما بلغ فقط ، وهو قول ابن وهب هاهنا ،
وقول ابن القاسم وأصبغ في رسم الكراء والأقضية
من سماع أصبغ ، من كتاب الرواحل والدواب .
والثالث : الفرق بين الموت والإباق ، وهو قول
مالك . ويتخرج في المسألة قول رابع : أنها
تنفسخ في الإباق ، ولا يكون له فيما مضى من
الطريق شيء ، ولا تنفسخ في الموت ، وذلك على
ما في المدونة لمالك في تلف الشيء المستأجر
على حمله من قبل ما عليه استحمل ؛ لأن الإباق
للأجير فيه سبب بترك التوثق والتعاهد . وقد
مضى القول على هذا في رسم طلق من سماع ابن
القاسم ، وبالله التوفيق .
(8/510)
مسألة
قال أصبغ : سئل ابن القاسم عمن قال : من يحفر
لي بئرا طولها كذا وكذا ، وعرضها كذا وكذا فله
كذا وكذا ، فحفر رجل نصف ذلك ، ثم يعتل . قال
: لا أرى له حقا إلا أن ينتفع بها صاحبها ،
فإن انتفع بها أخذ قدر ما عمل مما انتفع به .
قيل له : فلو قال : من جاءني بخشبة من موضع
كذا وكذا فله كذا ، فحملها رجل إلى نصف الطريق
؟ قال : هو مثله لا أرى له شيئا إلا أن يحملها
صاحبها فينتفع بها ، فإذا انتفع بها فله أجره
على قدر ما حملها من الطريق .
قال محمد بن رشد : قال في البئر : إنه يكون
للمجعول له فيما حفر من البئر إذا انتفع بذلك
صاحبها قدر ما عمل مما انتفع به ، ولم يبين
وجه العمل في ذلك ، وفيه تفصيل ، وقد مضى
بيانه في رسم أخذ يشرب خمرا ، من سماع ابن
القاسم ، فلا معنى لإعادته ، وكذلك قال أيضا
في الخشبة : إنه يكون له أجره على قدر ما
حملها من الطريق ، فأجمل القول في ذلك دون
بيان ، وقد مضى بيانه في الرسم المذكور ، من
سماع ابن القاسم ، فلا وجه لإعادته ، وبالله
التوفيق .
مسألة
قال أصبغ : سمعت أشهب ، وسئل عن الذي يستأجر
بدينار على دابة يبيعها له بالإسكندرية ، وله
الدينار باع أو لم يبع . قال : لا بأس بذلك .
قيل له : وإن لم يسم للتسويق والبيع هناك أجلا
؟ قال : نعم . قيل له : فما البيع ؟ قال : على
قدر بيع مثلها . ثم قال :
(8/511)
أرأيت لو أعطاه
هاهنا ثوبا يبيعه بخمسة دراهم ، فالقيام
بالبيع معروف في كل سلعة وفي كل بند ، وقال هو
معروف .
قال محمد بن رشد : قول أشهب هذا صحيح ، وهو
نحو ما مضى لابن القاسم ، في سماع محمد بن
خالد ، فليس بخلاف لما في المدونة ، ولا فيما
مضى في رسم العتق ، من سماع عيسى ، وقد مضى
القول على ذلك هناك ، فلا معنى لإعادته ،
وبالله التوفيق .
ومن كتاب البيع والصرف
وسئل أشهب عن رجل استأجر أجيرا أشهرا في علوفة
دواب ، فماتت قبل الشهر ، فأراد أن يستعمله في
غيره . قال : ليس ذلك له ، إما جاءه بمثل تلك
الدواب يقوم بعلوفتها ، وإلا فلا شيء للمستأجر
على الأجير ، والإجارة له كلها .
قيل له ؛ فإن رضي الأجير أن يتحول إلى عمل آخر
غيره ؟ قال : لا بأس بذلك .
قال محمد بن رشد : أجاز أشهب الإجارة على
علوفة دواب بأعيانها ، وإن لم يشترط الخلف ،
ورأى أن الحكم يوجبه ، وذلك خلاف مذهب ابن
القاسم في المدونة وغيرها ، مثل قول سحنون
وابن حبيب ، وقد مضى تحصيل القول في هذه
المسألة في رسم العتق ، من سماع عيسى .
وأما قوله : إنه إن رضي الأجير أن يتحول إلى
عمل آخر غيره ، فلا بأس به ، معناه فيما يشبه
العلوفة لا يتباعد . قال ذلك ابن أبي زيد ،
وهو صحيح على معنى ما في المدونة أن من اكترى
دابة إلى موضع ، فليس له أن يركبها إلى موضع
غيره ، وإن كان مثله في الحزونة والسهولة ،
إلا أن يرضى بذلك الكري ، خلاف قول مالك في
آخر أول رسم من سماع ابن
(8/512)
القاسم ، وخلاف
ما في الواضحة من أن من اكترى أجيرا لعمل
يسميه ، فله أن يستعمله فيه ، وفيما يشبهه من
الأعمال ؛ إلا أن يشترط الأجير ألا يستعمله
إلا في العمل الذي سمى بعينه . وأما فيما لا
يشبه العلوفة ، فلا يجوز وإن رضيا ؛ لأنه فسخ
دين في دين ، وسواء كان قد انتقد ، أو لم
ينتقد في هذه المسألة ؛ لأن الخلف فيها واجب ،
والكراء بينهما قائم ، فيدخله فسخ الدين في
الدين ، وإن كان لم ينتقد . ولو استأجره شهرين
على أن يعمل الشهر الأول في عمل سماه ، والشهر
الآخر بعده في عمل آخر سماه بعيد منه ، جاز
على مذهب ابن القاسم إن لم ينتقد ، ولم يجز
على مذهب ابن الماجشون . والقولان قائمان من
المدونة من مسألة : من أكرى راحلة بعينها
فركبها بعد شهر ، وبالله التوفيق .
مسألة
وسئل أشهب عمن استأجر أجيرا يخدمه ، واشترط
عليه إن احتجت إلى سفر شهرا أو شهرين في السنة
سافرت بك . قال : لا بأس بذلك .
قال محمد بن رشد : إنما أجاز إذا استأجر
الأجير لخدمته أن يشترط عليه أن يسافر به من
أجل أنه قد وقت السفر شهرا أو شهرين ، وإذا
قال شهرا أو شهرين ، فالمشترط عليه إنما هو
شهران ؛ لأن الأجير إنما يدخل على الأكثر الذي
يلزمه بالشرط . ولا يضر أن يكون المستأجر
بالخيار في أن يسافر به أقل من شهرين ، وفي
إلا يسافر به أصلا ؛ لأن ذلك حق له تركه بعد
انعقاد الأجرة على شيء معلوم . والأصل في جواز
هذا ، وما كان في معناه قول الله عز وجل : ((
أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ
هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ
حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ
عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ
))
(8/513)
لأن الأجير
هاهنا يقول : قد أجرتك نفسي على أن أسافر معك
شهرين ، إلا أن تخفف عني السفر أو بعضه ، فذلك
من عندك تفضل منك علي . واشتراطه عليه السفر
به شهرين من السنة دون أن يسميهما يتخرج على
قولين ؛ فيجوز على مذهب ابن القاسم الذي يجيز
أن يشترط عليه السفر في أول السنة ، أو بعد
مضي بعضها ، ولا يجوز على مذهب ابن الماجشون ،
الذي لا يجيز أن يشترط عليه السفر إلا في أول
السنة ، أو فيما قرب من أولها ، ولا يجوز بعد
مضي شهر منها أو أكثر ، ولو شرط عليه أن يسافر
به إن احتاج إلى السفر ، ولم يوقت مقداره ، لم
يجز عند جميعهم ، وهو قوله في المدونة وغيرها
: إن ما تباعد من الأعمال لا يجوز أن يستأجره
عليها دون بيان ، وبالله التوفيق .
مسألة
وسئل أشهب عن الذي يقول للرجل : أعطني عبدك
النجار يعمل لي اليوم ، وأعطيك عبدي الخياط
يخيط لك غدا . قال : لا بأس بذلك .
قال محمد بن رشد : قد مضت هذه المسألة ،
والقول فيها في أول رسم من سماع أشهب ، فلا
معنى لإعادته ، وبالله التوفيق .
ومن كتاب محض القضاء
وسئل أشهب عن الذي يجعل جعلا لرجل في طلب عبد
له أبق ، فيأتي به فيستحقه مستحق ، قبل أن
يقبض الجعل ، وقبل
(8/514)
أن يقبض العبد
ربه ، على من ترى الجعل ؟ قال : على الجاعل ،
وليس على المستحق شيء . قيل له : وكذلك إن
استحق بحرية ؟ قال : نعم . فقيل له : فإن
استحق بحرية كانت من الأصل ألا يرجع به عليه ،
أو قال السائل على مستحقه من الأصل . قال : لا
. قال أصبغ : ولا على أحد ويبطل .
قال محمد بن رشد : في كتاب ابن المواز بإثر
هذه المسألة : قال محمد : وأجوز ذلك عندي أن
يكون الجعل على الجاعل ثابتا عليه يغرمه ،
ويكون على مستحقه جعل مثله يغرمه للجاعل ، إلا
أن يكون أكثر مما غرمه الجاعل ، وقد ناظرت
فيها من أرضى فقال لي مثله .
قال محمد بن المواز : وهو بين إن شاء الله ؛
لأن كل ابق جاء به من تكلف طلبه لم يصل إليه
حتى يدفع جعل مثله ، ولا نفقة له في ذلك ، وإن
جاء به من لم يطلبه ، فلا جعل له ولا نفقة .
وقول ابن المواز : وإن جاء به من لم يطلبه ،
فلا جعل له ، ولا نفقة خلاف ما في المدونة من
أنه ليس له إلا نفقته . وقد بين محمد بن
المواز وجه ما ذهب إليه من الرجوع على المستحق
بجعل مثله ، والأظهر ما روى أصبغ عن ابن
القاسم أن الجعل على الجاعل ؛ لأن المنفعة فيه
له من أجل أن ضمان العبد منه ، فلو لم يوجد
لخسر الثمن الذي أدى فيه ، وإذا وجده فأخذه
صاحبه المستحق له ، رجع على البائع الذي أدى
فيه ، والمستحق إن لم يجد العبد لا تكون
مصيبته منه ؛ لأن له أن يجيز البيع ، فيأخذ
الثمن من البائع .
وهذا الاختلاف إنما هو إذا أخذ المستحق العبد
، وأما إن أجاز البيع ، وأخذ الثمن ، فالجعل
على الجاعل قولا واحدا ، وروى ابن أبي جعفر
الدمياطي ، عن ابن القاسم فيمن دفع إليه ثوب
يبيعه ، بجعل فباعه ، ثم استحق أنه لا جعل له
. وهذا بين على ما قال ؛ لأن المستحق إذا أخذ
ثوبه انتقض البيع ، فوجب رد الجعل ، وأما إن
أجاز البيع ، وأخذ الثمن ، فينبغي أن يكون
الجعل للمجعول له على الجاعل ، ويرجع الجاعل
به على المستحق ، وقد مضى في رسم الفصاحة ، من
سماع عيسى ، من كتاب جامع البيوع من معنى هذه
المسألة ما فيه بيان لهذه ، وبالله التوفيق .
(8/515)
مسألة
وسمعت أصبغ ، وسئل عن رجل بعث رجلا إلى المعدن
ينفق عليه ، ويعمل له ، فما أصاب كان له منه
ثلثه أو نصفه ، أو جزء مما يتراضيان عليه ،
وإن لم يصب شيئا ذهبت نفقته باطلا . قال أصبغ
: لا يصلح ذلك ، وذلك فاسد لا شك فيه ، وهو من
الغرر ، وهو منقوض ما لم يفت بالعمل والخروج ،
فإن فات فهو مثل ما كانوا يتعاملون به في معدن
الزبرجد قديما ، مما قد عرفتم ، وعرف الناس
عندكم كيف كانوا يبعثون ، ويخرجون عليه على
مثل هذا .
ونزل عندنا في أيامه كثيرا ، ونحن حينئذ نتبع
أصحابنا ومشايخنا الفقهاء في زمان ابن القاسم
وأشهب ، وابن وهب كانوا يسألون عنه ويتكلمون
فيه مما ينزل ، ويختلفون ويختلف فيها القول من
الناس ، فكان الذي استقر عليه قولنا كقول
أكثرهم وأكابرهم أنها أجرة ، وهي أجرة فاسدة ،
يكون المكتسب فيها ، والنيل إن فات وعمل ،
ووجد للباعث الذي عليه النفقة ، كمن استأجر
أجيرا على أن ما اكتسب في عمله فهو له ،
فالإصابة له والحرمان عليه ، وليس للأجير إلا
إجارة مثله في شخوصه ، وفي عمله ، وإقامته
وكثرته . فإن وفرت عليه إجارة مثله على أن
مئونته على نفسه حوسب بما أكل وشرب وأنفق .
وإن شاءوا قوموا الإجارة على أن طعامه وشرابه
على المستأجر ، فكان له في القضاء أقل من
القيمة الأولى ، ودخل هذا في هذا المعنى ،
فعلى أي الوجهين قومت به ، فهو سواء ، وهو
صواب ، وله إجارة مثله على كل حال أصاب أو لم
يصب ؛ لأنه لو أصاب الكثير كان للأول الباعث ،
وكذلك إذا لم
(8/516)
يصب إلا القليل
، أو لم يصب شيئا ، فعليه مثل الذي له ، ولهذا
إجارته كاملة على قدر عمله . فإجارة مثله ليس
بمثل ما سمى له ، إن كان سمى له تسمية مع ما
يصيب ؛ لأن الإجارة فسدت بالجزء الذي استثنى
مما يصيب ، فلا يدري أيصيب أم لا ؟ فصارت
مخاطرة ؛ كالذي يستأجر في الزرع ، وعمله بجزء
مما يخرج ، وصار حراما فاسدا ، وكذلك هذا .
ولو كانت الإجارة من نفقته وطعامه وشرابه فقط
أو تسمية مسماة من العين دونها أو معها ، وليس
له في الإصابة شيء كان حلالا ، وكان جائزا ،
وكان مما يبين أن الكسب كله للباعث ، وكان
بمنزلة الأجير يستأجر بقدر له ، ويعمل بشيء
مسمى فذلك جائز ، وبمنزلة الرجل يستأجر الأجير
يوما على أن يصيد له صيد البحر أو البر بشيء
مسمى ، فذلك له جائز ، ما أصاب فهو له ، وما
لم يصب ليس عليه فيه غرم ، وليس عليه إلا
اجتهاده ؛ لأنه إنما استأجره على أن يعمل ما
يعمل الصائد من نصب ، وإلقاء شبكة ، أو نصب
حبالة أو غيره مما يعرف ، فهو كالصانع فلا بأس
به .
قال محمد بن رشد : أما إذا استأجره على أن
يعمل في المعدن بجزء مما يخرج منه على أن له
نفقته ، فالمكروه فيها بين ، والفساد فيها
ظاهر ؛ لأن الغرر فيها موجود في جهة كل واحد
منهما ؛ لأن الأجير يعمل على شيء مجهول ، لا
يدري ما هو ، ولا ما يحصل له فيه ، والمستأجر
ينفق على أن يأخذ في نفقته جزءا مما يخرج من
المعدن ، فكأنه باع نفقته بذلك ، وهو غرر بين
. فقول أصبغ : إنها إجارة فاسدة ، يكون النيل
للمستأجر ، ويكون للأجير أجرة مثله إن فاتت
الإجارة بالعمل صحيح ، والاختلاف الذي ذكر أنه
وقع فيها بعيد . وإنما الاختلاف المعلوم في
ذلك إذا استأجره على
(8/517)
العمل فيه بجزء
مما يخرج منه على أن نفقته على نفسه ، فقيل -
وهو المشهور - : إنها إجارة فاسدة ؛ لأن
الأجير يعمل فيها على شيء مجهول لا يعلم قدره
، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من
استأجر أجيرا فليؤاجره بأجر معلوم إلى أجل
معلوم" وقيل : إنها إجارة جائزة ؛ لأن ما لا
يجوز بيعه يجوز الاستئجار عليه بالجزء منه
قياسا على المساقاة والقراض ؛ لأن الثمرة لما
لم يجز بيعها قبل بدو صلاحها ، جازت فيها
المساقاة ، ولأن العين لما لم يجز فيه الكراء
جاز فيه القراض ، وهو قول ابن القاسم في أصل
الأسدية ، قال فيها : إن ما ظهر في أرض الصلح
من المعادن ، إن لهم أن يمنعوها الناس ، ولهم
أن يأذنوا لهم في عملها ، ويكون لهم ما
يصالحون الناس عليه من الخمس أو غير ذلك .
وكذلك قال في كتاب ابن المواز : إن لهم أن
يعاملوا الناس فيها بالثلث والربع ، وأنكر
محمد معاملتهم فيها بالثلث والربع ، ووقف عنه
، وبالله التوفيق .
من سماع أبي زيد بن أبي الغمر
من عبد الرحمن ابن القاسم
وسئل ابن القاسم عن رجل استأجر حصادين على أن
يحصدوا له زرعا ، فذهبوا فحصدوا زرعا لغيره ،
وهو قريب من زرعه . قال : إن كان الخطأ جاء من
قبل الأجراء ، فإنه ينظر إلى صاحب ذلك الزرع ،
فإن كان له عبيد أو أجراء ، ويريد أنه لا
يحتاج إلى الإجارة في حصاد زرعه ، لم يكن عليه
شيء وبطل عملهم ، وإن كان لا أجراء له ولا
عبيد ولا يجد بدا من أن يستأجر على حصاد زرعه
كان عليه قيمة ما حصدوا . وإن كان الخطأ جاء
(8/518)
من قبل صاحب
الزرع قال لهم : احصدوا لي هذا الزرع ، وهو
يظن أنه زرعه ، وكان صاحب الزرع لا أجراء له
ولا عبيد ، ولا يجد بدا من أن يستأجر على حصاد
زرعه ، فإن عليه أن يدفع للذي استأجر الحصادين
قيمة عمل الأجراء ، ويكون للأجراء على الذي
استأجرهم أجرتهم التي استأجرهم عليها .
قال محمد بن رشد : مثل هذا حكى ابن حبيب في
الواضحة سواء . وقد قيل : إنهم لا شيء لهم
عليه ، وإن لم يكن له عبيد ولا أجراء ؛ إذ لم
يستأجرهم ، وهو ظاهر قول ابن القاسم في أول
مسألة من سماع يحيى ، من كتاب البضائع
والوكالات والخصام . وقال محمد بن جعفر : إنه
إن كان له عبيد وأجراء ، فله أن يستعملهم في
مثل ما عملوا له ، وهو قول له وجه ، وبالله
التوفيق .
مسألة
وسئل ابن القاسم عن رجل استأجر أجراء يحرثون
له أرضا ، فذهب الأجراء يحرثون أرضا إلى جنب
أرضه وهم لا يعلمون ، وإنما جاء الخطأ من قبل
الأجراء ، أترى على صاحب الأرض الذي حرثت له
أرضه أجرة ما عملوا ؟ قال : إن زرعها وانتفع
بذلك الحرث كان ذلك عليه ، وإن لم ينتفع به ،
وقال : لم أرد أن أزرعها ، وإنما أردت أن
أكريها ، فلا أرى عليه شيئا .
قال محمد بن رشد : قال في هذه المسألة : إنه
إن زرع الأرض وانتفع بحرثها كان عليه الأجرة
للذي أخطأ في حرثها . ومعنى ذلك إذا لم يكن له
بقر وعبيد وأجراء على ما قاله في المسألة التي
قبلها ، وقد مضى القول فيها . ومن الناس من
حمل هذه المسألة على ظاهرها ، فقال في المسألة
ثلاثة أقوال ؛ إيجاب الأجرة على كل حال ،
وسقوطها على كل
(8/519)
حال ، والفرق
بين أن يكون له عبيد وأجراء ، أو لا يكون ،
وبالله التوفيق .
مسألة
وسئل ابن القاسم عن رجل استأجر بناء يبني له
دارا بالريف بموضع معروف على صفة معروفة ،
فيذهب البناء إلى الريف ، فيجد البقعة قد
استحقت فيرجع . قال : أرى له إجارته ذاهبا ،
ولا أرى له شيئا في رجوعه .
قال محمد بن رشد : وكذلك من استأجر أجيرا
أياما على عمل بعينه في غير الموضع الذي
استأجره فيه ، فله الأجرة في ذهابه ؛ لأنه ذهب
إلى عمله ، ولا أجرة له في انصرافه ؛ لأنه
انصرف إلى غير عمله ، حكى ذلك ابن حبيب عن ابن
الماجشون ، وحكى عن أصبغ : أنه لا شيء له إلا
منذ يبلع الموضع الذي فيه العمل . قال الفضل :
ولو انصرف لمحاسبة بينه وبين المستأجر ؛ لكانت
له الأجرة في منصرفه ، وهذا إذا لم يكن عند
الناس في ذلك عرف ، فإن كان فيه عندهم عرف وجب
الحكم به ، وبالله التوفيق .
تم كتاب الجعل والإجارة ، والحمد لله حق حمده
، والصلاة والسلام على سيدنا محمد نبيه وعبده
، وعلى آله وصحبه وسلم .
يتلوه إن شاء الله كتاب كراء الدور والأرضين .
(8/520)
|