البيان
والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة البيان
والتحصيل
والشرح والتوجيه والتعليل
في مسائل المستخرجة
لأبي الوليد ابن رشد القرطبي
(9/1)
بسم الله
الرحمن الرحيم صلى الله على سيدنا ومولانا
محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً
كتاب كراء الدور
والأرضين
(9/3)
من سماع ابن
القاسم من مالك رواية سحنون
من كتاب القبلة
قال سحنون : أخبرني ابن القاسم قال ، سمعت
مالكاً يقول : من تكارى أرضاً ثلاث سنين
يزرعها فزرع سنة أو سنتين ثم استقال صاحبه
فأقاله وفيها زرع لم يبلغ صلاحه ، فأراد صاحب
الأرض أن يقلع زرعه ، قال : ليس ذلك له ، ولكن
يقر زرعه ويسقي من الماء ما يصلحه حتى يدرك
ويحسب ذلك عليه من حساب الثلاث سنين وكرائها .
قال محمد بن رشد : هذا كما قال إنه إذا استقال
صاحبه فيما بقي من أمد اكترائه وفي الأرض زرع
قد زرعه أن الإقالة إنما تقع على ما بقي من
المدة بعد خروج الزرع الذي في الأرض لأن الأرض
قد فاتت في تلك المدة بالزرع الذي زرعه فيها .
ألا ترى أنه لو اكترى منه الأرض مسانهة
(9/5)
أو مشاهرة كل
سنة بكذا ، أو كل شهر بكذا فزرع فيها لكان
الكراء قد لزمهما جميعاً إلى خروج الزرع ، ليس
لرب الأرض أن يقول للمكتري اقلع زرعك واخرج ،
ولا للمكتري أن يقلع زرعه ويخرج إذا أبى من
ذلك رب الأرض ، فكذلك إذا تقايلا فيما بقي من
المدة وفي الأرض زرع ، ليس لرب الأرض أن يقول
للمكتري اقلع زرعك واخرج لأنك قد استقلت في
الأرض ، ولا للمكتري أيضاً أن يقلع زرعه ويخرج
إذا أبى من ذلك رب الأرض . فإن وقعت الإقالة
بينهما على ذلك بإفصاح جازت ولزمهما إلا أن
يكون الزرع قد قارب أن يأخذ الحب فيمنعان من
ذلك لمنفعة العامة ، كما يمنع من بيع الفتى من
البقر للذبح وما أشبه ذلك . وإن اختلفا ولم
يبلغ الزرع الحد الذي يمنعان من قلعه فقال
أحدهما : إنما وقعت الإقالة بيننا من وقت
الإقالة على قلع الزرع بإفصاح ، وأنكر ذلك
الآخر وادعى الإبهام ، أو أن الإقالة إنما
وقعت بينهما من بعد خروج الزرع فالقول قول
المنكر منهما مع يمينه . وهذا إذا لم ينقد ،
وأما إن كان قد نقد فلا تجوز الإقالة في ذلك
إلا على اختلاف سيأتي القول فيه في رسم
الشريكين من هذا السماع ، ورسم حمل صبيا من
سماع عيسى . وقوله ويحسب ذلك عليه من حساب
الثلاث سنين وكرائها ، معناه من حسابها على
القيمة لا على عدد الشهور . وهذا إذا كانت
الأرض على السقي يعمل فيها الشتاء والصيف ،
لأن الكراء في ذلك مختلف . وكذلك قال في
(9/6)
المدونة وأما
إن كانت الأرض للزرع فانقضاء السنة رفع الزرع
منها . فإن تكاراها ثلاث سنين فاستقاله بعد أن
زرع في أول سنة فالإقالة تقع في السنتين
الباقيتين ، وإن استقاله بعد أن زرع في السنة
الثانية فالإقالة إنما تقع في السنة الثالثة .
وقال في المدونة
إن الكراء لا يقسم فيها على السواء وإنما يقسم
على قدر النفاق والتشاح ، وذلك بين إن كان
الكراء نقداً أو مؤخراً كله ، لأن ما يتعجل
منفعته من الأرض أكثر كراء مما يتأخر منه .
وأما إن لم يكن الكراء نقداً ولا مؤخراً وكان
الحكم فيه أن ينقده كراء كل سنة عند تمام
الزرع فيها فقال في كتاب ابن المواز : إنه
ينقده في كل سنة ثلث الكراء إن كان الكراء
لثلاثة أعوام خلاف ظاهر ما في المدونة أن
الكراء يفض على قدر النفاق و التشاح ، وهو
الأظهر - لأن السنة الأولى تعجلت منفعتها
وتعجل نقدها ، وكل سنة بعدها تتأخر منفعتها
بقدر تأخر النقد فيها ، فوجب أن يقسم الكراء
عليها بالسواء إذا حدث ما يوجب سقوطه من إقالة
أو غرق أو عطش وما أشبه ذلك ، ووجه ما في
المدونة أنه قد يكون ما تعجل عقده وقبضه ونقده
أنفق مما تعجل عقده وتأخر قبضه ونقده ، وهو
صحيح إن كان ذلك عند الناس كذلك ، وبالله
التوفيق .
ومن كتاب أوله حلف ألا يبيع رجلاً سلعةً سماها
وسئل عن الرجل يتكارى الأرض من أرض الجزية
ويزداد
(9/7)
في أرضها أشياء
يكتمها أتحب أن يشترى من قمحه ؟ قال : إني
لأكره ذلك وما يعجبني ، وأكره هذه القطائع
التي في أرض مصر التي أقطعها من أقطعها . ولم
ير أن يقطع لأحد فيها ولا أن يشترى من قمحها .
قال محمد بن رشد : أما أخذ المسلم من الذمي
أرض الجزية بما عليها من الخراج يكتبه على
نفسه فلا ينبغي ذلك ولا يحل ، وقد سئل ابن عمر
عن ذلك فقال : لا يحل لمسلم أن يكتب على نفسه
الذلة الصغار ، وروى عن النبي عليه السلام أنه
قال : " من خلع رقبة ذمي فجعلها في عنقه فقد
استقال هجرته وولى الاسلام ظهره " وأما
اكتراؤه إياها منه كراء صحيحاً دون أن يأخذها
بما عليها من الجزية فكره ذلك مالك لما فيه من
معنى ذلك ، ولقد قال : لا أحب لأحد أن يزرعها
بعارية وأرى ذلك من باب حماية الذرائع ، وأما
كراهيته لشراء قمح الذي يكتري أرض الجزية
ويزداد فيها ما ليس منها ، فالمعنى فيه بين
وذلك أن الذي يكتم من الأرض ويزرعه مع أرض
الجزية الذي اكتراه على أنه منها وهو يعلم أنه
ليس منها في حكم المغصوب من الأرض .
(9/8)
وقد قال جماعة
من أهل العلم أن من غصب أرضاً فزرعها لنفسه
بطعامه أن الزرع لصاحب الأرض لقول النبي عليه
السلام : "ليس لعرق ظالم حق " فمن ذهب إلى هذا
لم يحل عنده شراء ذلك الطعام منه لأنه في حكم
العين المغصوب ، ومن لم ير للمغصوب منه الأرض
إلا كراء أرضه يكره شراء ذلك الطعام منه حتى
يصلح شأنه مع رب الأرض لمخالطة الحرام ماله
ومراعاة لقول المخالف وهو قول مالك . وأما
كراهيته الاقطاع في أرض مصر فالمعنى في ذلك
أنها افتتحت عنده عنوة ، ومن مذهبه أنه لا
يجوز الإقطاع في أرض العنوة ، وهو قول ابن
حبيب في باب زكاة المعادن من كتاب الزكاة ،
وإنما يجوز للامام أن يقطع على مذهب مالك فيما
جلى عنه أهله بغير قتال ، وفي الفيافي البعيدة
من العمران وحده ، ما لم تنله أخفاف الإبل
للمرعى . وعند أبي حنفية أن يصيح صائح في طرف
العمران فلا يسمعه وأما ما قرب من العمران من
الموات فقيل إنه لمن أحياه ، وقيل ليس لأحد أن
يحيبه إلا بإذن الامام ، وهو قول مالك في
المدونة واختلف إن أحياه بغير اذنه على هذا
القول ، فقيل يكون الامام مخيراً بين أن يمضيه
له أو يعطيه قيمته منقوضاً ويخرجه منه ، وقيل
إن له أن يمضي له مراعاة للاختلاف فيه وهو
ظاهر المدونة ،
(9/9)
وقيل إنه بين
أهل القرى هم أحق به ، وقد قيل في مصر إنها
افتتحت صلحاً . حكى ذلك الليث عن يزيد بن أبي
حبيب ، وعبيد الله ابن أبي جعفر ، يعني أن
الصلح وقع على أن تكون الأرض للمسلمين كما فعل
النبي عليه السلام ببعض أرض أهل الحجاز لا على
أنها تركت لأهلها ، فعلى هذا يجوز الإقطاع
فيها . وقد اختلف في سبب دخول الليث فيها .
فقيل بالاشتراء ، وقيل بالاكتراء وقيل
بالاقطاع وإنكار الليث أن تكون أخذت عنوة يدل
على أن مذهبه في أرض العنوة أن تخمس وتقسم ،
وقيل إنها افتتحت صلحاً . ثم نقضوا فأخذها
عمرو بن العاص عنوة .
ورأيت للخمي أن اقطاع أرض العنوة جائز على
مذهب مالك وذلك خلاف هذه الرواية وبالله
التوفيق .
ومن كتاب أوله سلف في المتاع والحيوان
وسئل مالك عمن أكرى داره بدينار في السنة ثم
أراد بعد ذلك بشهر أو شهرين أن يأخذ دراهم
فكره ذلك ، وقال لا يأخذ منه أكثر مما حل عليه
ولكن ينظر إلى قدر ما سكن من السنة فيأخذ به
دراهم جزءاً وما لم يسكن فلا يأخذ منه ورقاً
قبل أ، يحل ولكن إن حل فليأخذه أجزاءً مقطعة .
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال أنه لا
يجوز له أن يأخذ منه دراهم بأكثر مما حل له
عليه من الدينار لأنه إذا فعل ذلك كان قد باع
ما لم يحل له من الذهب بدراهم معجلة ، فدخله
الصرف المتأخر ، وأنه يجوز له أن يأخذ منه
دراهم بالجزء الذي حل له عليه من الدينار ،
ويبقى له
(9/10)
عليه ما بقي من
الدينار . فإذا حل أخذ به منه ما شاء ولا يجوز
له أن يأخذ به منه قبل أن يحل إلا عرضاً
معجلاً ، أو مثل الذهب الذي له عليه في عينه
ووزنه وطيبه ، أو أفضل من ذلك وبالله التوفيق
.
مسألة
وسئل مالك عن رجلين كانا في منزل من منازل
الإمارة فضاق بهما ، فقال أحدهما لصاحبه : هل
لك أن أعطيك كذا وكذا وتخرج عني ؟ فقال مالك :
لا أراه يحسن وكرهه ، لأنه لا يدري متى يخرج
منه ، يعني بذلك أنه يعطي ولا يدري متى يخرج
منه ليس إلى أجل ، ثم قال : لو كان لك لم أربه
بأسا . وأما منازل الإمارة فلا أراه لموضع
الأجل .
قال محمد بن رشد : هذا بين على ما قال ، لأنه
لا يدري كل واحد منهما متى يعزل عن الامارة
فيخرج عن الدار باشتراء المشتري ما لا يدري ما
لا يدوم له وباع البائع ما كان لا يدري ما لا
يدوم له ، والذي يجوز لهما أن يفعلاه في ذلك
إذا ضاقت عن سكناهما جميعاً أن يكروها –
قليلاً ويقتسما الكراء أو يتقاومانها فيما
بينهما كذلك لمدة قريبة العام والعامين
ونحوهما على معنى ما في الوصايا الثاني من
المدونة فإن انقضت قبل أن يخرجا منها تقاوماها
ثانية ، وان أخرجا
(9/11)
منها قبل
انقضاء الأمد الذي تقاوماها إليه رجع الباقي
في الدار بالمقاومة على الخارج عنها بما ينوب
ما بقي من المدة ، ويجوز أن يكرياها السنين
الكثيرة ويتقاوماها السنين الكثيرة بغير نقد
على معنى ما في رسم الأقضية الرابع من سماع
أشهب من كتاب الصدقات والهبات وبالله التوفيق
.
ومن كتاب أوله الشريكان لهما مال
وسألت مالكاً عن الرجل يتكارى الدار وينقد
كرائها فيسكن أشهراً ثم يبدو لهما أن يتفاسخا
ويرد صاحب الدار على المكتري ما بقي له . قال
مالك : لا خير فيه . قلت له : أليس يشبه الرحل
يتكارى للحمولة ثم يحملها حتى إذا كان في بعض
الطريق فاراه ، وسئل ابن القاسم عما فرق
بينهما ، فقال : لأنه ليس يتهم الشراء أحد ممن
يحمل مثل أن يدبر إبله أو يفلس أو يقع بينهم
الشراء ويهلك الكري أو المتكارى فرخص في ذلك ،
لأنه ليس فيه تهمة فلذلك أرخص فيه ، قال :
فأما ما لا عمل فيه فإنه إنما هو بمنزلة السلع
المضمونة إلى الأجال فيصير بيعاً وسلفاً إلا
ألا ينتقد فيها فلا بأس به .
قال محمد بن رشد : اختلف قول مالك وابن القاسم
في استئجار الرجل بعينه وكراء الراحلة بعينها
والدار والأرض وما أشبه ذلك ، فمرة حمله محمل
السلم الثابت في الذمة ومحمل الاجارة المضمونة
من أجل أن
(9/12)
المنافع تقتضى
شيئاً بعد شيء فهي غير معنية في أن لإقالة
فيها لا تجوز ، وإن لم يكن فيها بمجردها فساد
إذا ظهر المكروه فيها بإضافتها إلى الصفقة
الأولى ، لأنه اتهمهما على القصد إلى ذلك
والعمل عليه فمنع من ذلك حماية للذرائع ، وهو
قوله في هذه الرواية ، ومرة حمله محمل العروض
المعينات في أن الاقالة فيها جائزة إلا أن
تنعقد بمجردها على ما لا يجوز . وقع اختلاف
قول مالك في ذلك في هذا الرسم من هذا السماع
من كتاب الجعل والاجارة ، واختلاف قول ابن
القاسم فيه في رسم حمل صبياً من سماع عيسى بعد
هذا من هذا الكتاب ، وهذا الاختلاف إنما هو
إذا تقايلا بغير سبب يرفع التهمة عنهما ، وأما
إذا وقعت الإقالة بينهما لسبب يعلم أنهما لم
يقصدا في عقد الكراء إليه كالتفليس أو الموت
أو الشراء أو دبر البعير أو ما أشبه ذلك مما
يرفع التهمة عنهما ، فالإقالة بينهما جائزة
إذا سلمت في نفسها من الفساد ، فلا فرق في شيء
من ذلك كله بين كراء الدار والراحلة والأجير
وبالله التوفيق .
ومن كتاب اغتسل على غير نية
وقال في رجلين تكاريا أرضاً ليزرعاها فبدا
لأحدهما أن يكري حصته منها قال أرى شريكه أولى
بها ، وكذلك لو أن رجلين وهبت لهما ثمرة شجر
عشر سنين حبساً عليهما ، ثم أراد أحدهما أن
يبيع حصته من ذلك بعدما تطيب ، قال : أرى
(9/13)
شريكه أولى بها
ممن أراد شراءها بالذي بذلها به . قال سحنون :
قال مالك : لا شفعة في الأكرية ، وقاله ابن
القاسم .
قال محمد بن رشد : قول مالك أرى شريكه أولى
بها في مسألة الكراء وفي مسألة الثمرة ، يريد
أولى بها من المشتري بالثمن الذي بذل فيها ،
لا أنه يأخذ الثمرة من المشتري بالشفعة بعد
تمام الشراء والكراء من المكتري بالشفعة بعد
تمام الكراء ، فليس ما قاله مالك في مسألة
الثمرة والكراء بخلاف لما حكى سحنون عن مالك
وابن القاسم من أنه لا شفعة في الأكرية ،
لأنهما مسألتان . فالمسألة الأولى وهي أن
الشريك أولى بالثمرة وبالكراء بما بذل المشتري
والمكتري فيها من الثمن والكراء لا خلاف فيها
، وكذلك يجب في كل شيء مشترك لا شفعة فيه ،
ومثله قول مالك في الذي تكون تحته الأمة لقوم
فتلد منه فيبيعونها وولدها أنه أحق بها بما
يعطى فيها ، وقد مضى القول في ذلك في رسم
نقدها من سماع عيسى من كتاب النكاح . والمسألة
الثانية وهي هل تكون له الشفعة في الكراء بعد
تمامه وفي الثمرة بعد الشراء أم لا ؟ فيها
اختلاف ، اختلف في ذلك قول مالك وقع اختلاف
قوله في الثمرة في المدونة وفي الكراء في
الوضاحة وأخذ بوجوب الشفعة في ذلك ابن
الماجشون وابن عبد الحكم ، وبأن لا شفعة في
ذلك ابن القاسم ومطرف وأصبغ وبه أخذ ابن حبيب
، وكذلك اختلف قول مالك أيضاً في الشفعة في
الكتابة والدين يباعان هل يكون للمكاتب والذي
عليه الدين الشفعة في ذلك أم لا ؟ فقال مرة إن
لهما الشفعة في ذلك وأخذ به مطرف وابن
الماجشون وابن وهب ، وأشهب
(9/14)
وأصبغ وابن عبد
الحكم واليه ذهب ابن حبيب ، وحكى في ذلك
حديثاً من مراسيل سعيد بن المسيب أن رسولا
الله صلى الله عليه وسلم قال : الشفعة في
الكتابة والدين ، وحكى عن مالك من رواية ابن
القاسم عنه أنه استحسن الشفعة في ذلك ولم
يرالقضاء بها وبالله التوفيق .
مسألة
وقال مالك في رجل تكارى أرضاً فزرعها فنبت
الزرع فيها ، ثم حاء سيل فذهب به ، قال لا أرى
للمتكاري أن يرجع إلى صاحب الأرض يأخذ منه
كراءه ، وإنما ذلك بمنزلة الزرع تصيبه الجائحة
.
قال محمد بن رشد : إنما هذا إذا ذهب به السيل
بعد إبان الحرث أو في إبان الحرث فانكشف السيل
عن الأرض في وقت يمكنه فيه إعادة الزرع ، وأما
لو ذهب به في إبان الحرث فلم ينكشف السيل عنها
حتى فاته أن يعيد زرعه لكان له أن يرجع بكرائه
على صاحب الأرض على معنى ما في المدونة .
وبالله التوفيق .
ومن كتاب البز
وسئل مالك عن رجل أكرى من رجل داراً له وفيها
خراب وأكراها إياه سنين فاشترط المتكاري على
صاحب الدار مواضع أراها إياه يعمرها من كرائها
، فلما وجب ذلك بينهما ندم صاحب الدار ، وقال
للذي تكارى قد بدا لي لا أريد أن أعمر شيئاً ،
فإن بدا لك أن تسكن بغير عمران فاسكن . قال
مالك : أليس قد أراه
(9/15)
ذلك ؟ قال :
بلى ، قال مالك : فإن ذلك لازم له في الكراء
وهو جائز .
قال محمد بن رشد : هذا صحيح على معنى ما في
المدونة من أنه يجوز أن يكتري الرجل الدار
بعشرين ديناراً على أنها إن احتاجت إلى مرمة
رمها من العشرين ديناراً ، زاد في النوادر في
هذه المسألة قال محمد إذا عرف البناء ، لأن
البناء ليس كالمرمة ، يريد محمد أن ذلك لا
يجوز إلا أن يصف البناء الذي يبني به تلك
المواضع ويعمرها به من الكراء بخلاف المرمة ،
والذي أقول به أن ذلك جائز وإن لم يصف البناء
كالمرمة سواء من أجل أن المكتري كالوكيل له
على ذلك ، فإذا بنى تلك المواضع وعمرها
بالبناء على الهيئة التي تشبه أن تبنى عليها
لزمه ، كمن وكل رجلاً أن يشتري له ثوباً أو
جارية فاشترى له ما يشبه أن يشتري له من ذلك
لزمه ولو وصف البنيان لكان أتم وأحسن ، وقد
مضى هذا المعنى في رسم العرية من سماع عيسى من
كتاب الجعل والإجازة وبالله التوفيق .
مسألة
وسئل مالك عن رجل تكارى عرصة خربة على أن ينفق
عليها ويكون كراؤها كذا وكذا ، قال مالك : أرى
أن يسمى ما ينفق فيها ويقاصه بذلك في كراء ما
تكارى به من السنين ، فقيل له أفيجعل كراءها
دراهم ؟ قال :بل أجزاء يجعل نفقته عشرة دنانير
وكراءه إياها عشرين سنة في كل سنة نصف دينار ،
أو أقل من ذلك أو أكثر من السنين والأجزاء،
فعلى هذا يتكارى المتكاري ويكري صاحب الدار.
(9/16)
قال محمد بن
رشد : هذه مسألة صحيحة بينة في المعنى ، لأن
مآلها إن أكراه العرصة عشر سنين سنة بعشرة
دنانير على أن يبني بها العرصة لربها ، إذا
شرط أن يقاصه بالنفقة في الكراء ، ولو لم
يشترط أن يقاصه بالنفقة في الكراء لم يجز ،
لأنه إذا لم يكن الكراء بالنقد لم يوجب الحكم
المقاصة ، به ووجب أن يتبعه بنفقته سلفاً
حالاً عليه ويؤدي إليه الكراء بقد رما سكن
شيئاً بعد شيء على ما يوجبه الحكم في ذلك .
قال ابن المواز : وهذا إذا كان البناء لرب
العرصة ويسمى ما بنى به وكان ذلك من الكراء لا
يزيد عليه ، وشرط ابن المواز أن يكون ذلك من
الكراء لا يزيد عليه صحيح مثل ما في المدونة
(لأنه إن شرط أن ينفق في العرصة أكثر من
كرائها كان الزائد على الكراء سلفاً منه لرب
العرصة ، فدخله كراء وسلف .
قال ابن المواز : وأما إن كان البناء للمتكتري
فلا يحتاج إلى تسمية ما يبنى ، ولا ما ينفق ،
ولا أحب شرطه في أصل الكراء إلا ) أنه إن بنى
فمتى ما خرج فلرب العرصة أن يعطيه قيمته
مقلوعاً أو يأمره بقلعه . وقول ابن المواز إن
البناء إذا كان للمكتري فلا أحب اشتراطه في
أصل الكراء صحيح بين ، لأنه إذا اشترط ذلك
عليه فقد وقع الكراء على أن يأخذ المكري من
المكتري بنيانه بقيمته مقلوعاً عند انقضاء أمد
الكراء وذلك غرر لا يجوز ، وإنما لم ير في
الرواية أن يجعل كراءها دراهم إذا كان ينفق
فيها دنانير ويقاصه بها في الكراء لأنه يدخله
عدم المناجزة في الصرف ، إذ لا يحل الكراء
عليه إلا بالسكني شيئاً بعد شيئ ، ولو قال
(9/17)
أكتري منك
العرصة لعشرين سنة بعشرة دنانير نصف مثقال لكل
سنة على أن أنفق فيها مائة درهم من مالي تكون
مقاصة بالكراء ، أو قال أكتري منك العرصة
بمائة درهم لعشرين سنة على أن أنفق فيها عشرة
دنانير تكون مقاصة بالكراء لجاز ذلك ، وان سمج
القول ، لأن الأمر يؤول فيه إلى صحة الفعل ،
وهو كراء العرصة عشرين عاماً بالعدد الذي سمى
أنه ينفق فيها وبالله التوفيق .
ومن كتاب سن رسول الله صلى الله عليه وسلم
وسئل مالك عن العبد يستأجره الرجل هذا الشهر
بعشرة دراهم وهذا الشهر بعده بخمسة دراهم ،
قال مالك إن كان ذلك شيئاً واحداً فلا بأس به
، كأنه كل شهر بسبعة دراهم ونصف ، وإن كان
أراد أن يجعل هذا الشهر بعشرة دراهم إن أصاب
العبد أمر حاسبه على ذلك ويرد عليه خمسة
بحسابه فلا خير فيه إن ثبت هذا الأول بعشرة
والآخر بخمسة حتى يكونا جميعاً في كراء واحد ،
ويكون الكراء كله على الشهرين نصفين . قال ابن
القاسم : وهذا من وجه بيعتين في بيعة، لأن
العبد لو هلك في الشهر الأول غبن الكري
المستكري ، فإن هلك في الشهر الآخر غبن
المستكري الكري ، فهذا خطر لا يصلح قال ابن
القاسم وكذلك الأرضون والدور والدواب وكل ما
يتكارى .
(9/18)
قال محمد بن
رشد : أما إذا سمى لأحد الشهرين اللذين
جمعتهما الصفقة أقل مما ينوبه من الاجارة
أوالكراء وللثاني أكثر مما ينوبه من ذلك أو
لأحد الثوبين اللذين اشتراهما صفقة واحدة أقل
مما ينوبه من جملة الثمين وللآخر أكثر مما
ينوبه منه على أنه متى وقع استحقاق في أحدهما
أو ما يوجب الرجوع بمنابه من الثمن رجع بما
سمى له من الثمن فلا اختلاف في أن البيع فاسد
، وأما إن وقع البيع بينهما بالتسمية على أنه
إن وقع استحقاق في أحدهما أو بما يوجب الرجوع
بمنابه من الثمن إذا فض على قيمتهما لا بما
سمى له منه ، فلا اختلاف في أن البيع جائز.
واختلف إذا عري الأمر من بيان ، فقيل إن
التسمية لغو والبيع صحيح ، وإن وقع استحقاق في
أحدهما فض الثمن عليهما ورجع بما ينوبه ، ولم
يلتفت إلى التسمية ، وهو مذهب ابن القاسم
وروايته عن مالك في المدونة ، وقول سحنون
وأصبغ ، وقيل إن التسمية مراعاة والبيع فاسد
إن كان سمى لأحدهما أقل مما ينوبه من جملة
الثمن وللآخر أكثر مما ينوبه منه ، وهو أحد
قولي مالك في رواية ابن القاسم عنه في رسم باع
غلاماً من هذا الكتاب في بعض الروايات ، وقال
سئل عمن تكاري داراً سنتين فتكارها هذه السنة
بستة وهذه بأربعة وكراؤه مختلف في السنتين ،
قال : الكراء فاسد وقد سكن سنة . قال : يرد
الكراء ويكون لصاحب الدار قيمة سكناه في تلك
السنة وأراه فاسداً . قال سحنون : الكراء جائز
لا بأس به ، ووقع الاختلاف في ذلك أيضاً في
الدمياطية ، قال : وسئل ابن القاسم عن
(9/19)
قول مالك في
الرجل يتكارى الدار أو الحمام أو العبد شهرين
في صفقة واحدة بكراءين مختلفين شهراً بعشرة
وشهراً بعشرين ، لم كرهه مالك وقد بيع الرجل
الثوبين صفقة واحدة ، والعبدين والدارين
بثمنين مخلفين ؟ قال : إنما حكره مالك من ذلك
ما كان بيعتين في بيعة ، وذلك أن يكون الكراء
في الشهرين متقارباً فلما أراد أن يجمعهما
بسعر واحد خاف المكتري أن يجيء فيما اكترى
دعوى تخرجه من يده في بعض أجل الكراء فخاطره
بأن يجعل كراء هذا الشهر الأول بعشرة ، وكراؤه
المعروف بخمسة عشر ، فإن سكن الدار شهراً
فاستحقت فأخرج أو أصابها هدم أو حريق كان كراء
الشهر الماضي بعشرة ، وسقط عنه الشهر الثاني
عشرون ،ولو جمعهما كان من الكراء عليه خمسة
عشر ، وعسى أن يحدث في الدار أو الحمام في
الشهر الأول ما يمنعه منه ثم ينتفع به الشهر
الثاني فيغرم له عشرين فيكون قد حمل عليه خمسة
دنانير فوق كراء ذلك الشهر للمخاطرة التي
أدخلا ، فلهذا نهى عنه مالك ورآه من بيعتين في
بيعة . قيل ويدخل مثل هذه في بيع الثوبين
والدارين ؟ قال : نعم انظر أبداً إلى كل ما
جمع في البيوع فأضيف بعضه إلى بعض في الصفقة
واختلف فيه الأثمان ، فإن كان ما وضع على كل
صنف ما يرى أنه ثمنه أو كراؤه لو أفرد دون
صاحبه فلا بأس به ، وإن جمعته الصفقة فليس
يدخله بيعتان في بيعة ، وإن رأيت أنه قد وضع
على أ؛دهما مالا يسوى وخفف عن الآخر حتى يأتي
من ذلك أمر
(9/20)
بين يدل
علىأنهما أراد الخطار على مثل ما وصفت لك من
أمر الكراء فلا خير فيه ، وهو من بيعتين في
بيعة .قال الوليد : وسألت أصبغ عن بيع الدارين
والثوبين ، فقال : لا بأس بالبيع فيهما على
حال صفقة واحدة سمى لهما ثمناً أو لم يسميه ،
كان الثمن يشبه ما سمى لكل واحد منهما أو أقل
منهما أو أكثر فهو سواء ، والبيع جائز ، وإن
وجد عيباً فض الثمن على قيمتهما ، ولم يلتفت
إلى التسمية على حال ، وليس تفسد التسمية في
هذا ولا يلتفت إليها ، لأنه يرجع إلى أن يفض
وليس في هذا عندنا اختلاف. هذا نص ما وقع في
الدمياطية ، وهو يبين موضع الاختلاف في
المسألة على ما ذكرناه ، وبالله التوفيق .
مسألة
وسئل مالك عن رجل كان يسكن منزل رجل فأنفق فيه
مائتي درهم ثم أرادوا أن يخرجوا فلم يكن عند
صاحب المنزل الدراهم ، فقال رجل : أنا أقضي
عنك فأعطاه فيهما ثلاثة عشر ديناراً ، ثم قال
له بعد ذلك أنا آخذ منك هذا المنزل بدرهمين كل
شهر حتى ينفد مالي عليك ، قال مالك: لا خير في
هذا الكراء ؛ وأرى أن يفسخ وأرى أن يكون له
على صاحب البيت ثلاثة عشر دنانير ويقوم كراء
مسكنه فيما سكن ثم يدفع إلى صاحب المنزل .
قال محمد بن رشد : قوله إنه كراء لا خير فيه
يفسخ بين ، لأنه فسخ دين في دين : فسخ ما له
عليه من الذهب التي أدى عنه في سكني
(9/21)
منزل لا ينتجز
قبضه ، وذلك جائز على مذهب أشهب الذي يرى أن
قبض الشيء المكترى ليستوفي فيه الكراء قبض
لجميع الكراء ، فيجيز لمن له على رجل دين أن
يأخذ مه به عبداً يخدمه إلى أجل ما ، أو دابة
يركبها إلى أجل ما . وقد اختلف قول مالك في
هذا الأصل وقع اختلاف قوله في رسم حلف من سماع
ابن القاسم من كتاب الرواحل والدواب ، وسيأتي
القول على ذلك هنالك إن شاء الله . وأما قوله
إذا فسخ الكراء إنه يكون له على صاحب البيت
ثلاثة عشر ديناراً فهو كما قال ، إن كان دفع
عنه الدنانير بأمره ، وأما إن كان أمره أن
يقضي عنه المائتي درهم فأعطاه فيها ثلاثة عشر
ديناراً ، فقيل إن ذلك لا يجوز ، ويفسخ القضاء
ويرجع بما دفع ، ويبقى الدين على صاحب المنزل
كما كان ، وقيل إن ذلك جائز ، ويرجع بالأقل من
ذلك يكون الآمر مخيراً بين أن يدفع إليه ما
دفع ، أو ما أمره بدفعه ، وقد مضى تحصيل القول
في هذا المعنى في أول مسألة من سماع ابن
القاسم من كتاب الصرف . وأما قوله إنه يكون
عليه كراء المسكن لصاحب المنزل على ما يقوم به
فهو لين لا إشكال فيه ، لأنه سكنه على كراء
فاسد فيكون عليه فيه القيمة .
ومن كتاب أوله نذر سنة يصومها
وسئل مالك عن الرجل يتكارى الأرض بالحنطة
فيزرعها فيزرعها قمحاً أرى أن يشتري منه ذلك
القمح ؟ قال تركه أحب إلي .
قال محمد بن رشد : إنما كره مالك أن يشترى منه
ذلك القمح لأن مكتري الأرض بالحنطة كأنه مشتر
للقمح الذي رفع من الأرض بالحنطة
(9/22)
التي دفع إذ
عرضه في اكتراء الأرض ما يخرج له منها فوجب
على قياس هذا أن يكون القمح لرب الأرض ،
والصحيح على الأصول أن يكون القمع للمكتري
ويكون عليه قيمة كراء الأرض ذهباً أو ورقاً
ويرجع بحنطته بشراء القمح منه على هذا جائز ،
وإنما كره مالك شراءه منه تورعاً للمعنى الذي
ذكرناه وبالله التوفيق .
مسألة
وسئل مالك عن الرجل يتكارى الدار سنة بعشرة
دنانير ويشترط على صاحبها إن بدا له أن يخرج
قبل السنة حاسبه بما سكن ، إلا أنه يشترط عليه
سنة ، قال : لا بأس بذلك إذا لم ينقد في كرائه
فإذا نقد فلا خير فيه ، قال : وكذلك الرجل
يتكارى سنين ويقول متى ما بدا لي أن أخرج خرجت
فيقيم سنتين أو ثلاثاً . قلت له أفتراه مثله ؟
فقال : نعم ، قال وكذلك الدواب .
قال محمد بن رشد : هذا بين على ما قال لأنه
كراء بخيار فلا يجوز إذا نقد ، لأنه إن خرج
قبل انقضاء الأمد رد عليه كراء ما بقي من
الأمد ، فدخله كراء وسلف ، ويجوز إذا لم ينقد
، وهو قول ابن القاسم في سماع أبي زيد ، وقول
ابن القاسم وروايته عن مالك في أول كتاب الجعل
والاجارة من المدونة ، وقول مالك في رسم
الشجرة ، ورسم باع غلاماً من سماع ابن القاسم
من كتاب كراء الرواحل والدواب ، قياساً
(9/23)
على البيع الذي
يجوز أن يكون أحد المتبايعين فيه بالخيار .
وقال سحنون : لا يجوز ، لأنه كراء إلى أجل
مجهول ، وقول ابن القاسم وروايته عن مالك أظهر
، لأنه بمنزلة أن يقول الرجل للرجل قد بعتك من
صبرتي هذه ما شئت ، كل قفيز بدرهم وبالله
التوفيق .
من سماع أشهب وابن نافع من مالك رواية
سحنون من كتاب الأقضية الأول
قال سحنون أخيرني أشهب وابن نافع قالا سألنا
مالكاً [ عمن أكرى ] بيره رجلاً سنة يسقي بها
زرعه ، أو إكراه إباها حتى يحصد زرعه فتهورت
بيره بعدما يسقي ، فقال : يكون له من الكراء
بقدر ما سقى من السنة أو من الأيام التي يحصد
فيها زرعه ، مثل العبد يؤاجره شهراً فيعمل
بعضه ثم يموت ، فكذلك بير الزرع إذا سقى به
بعض السنة ثم تهور البير أخذ مما آجره به
إياها بقدر ما سقى من السنة إن كان انتفع بما
سقى من زرعه استكراها صيفة وشتاء ، فسقى صيفة
وحصد زرعه ثم هارت البير فله كراء الصيفة بحسب
ما أكراه من الصيفة والشتاء ؛ وإن كان سقى
زرعه ثم هارت البير ولم يحصد شيئاً من زرعه ،
ولم ينتفع به فمات الزرع لم يكن له
(9/24)
عليه فيما سقى
شيء ، ورد عليه الكراء كله ، لأنه لم ينتفع به
، وأما إذا انتفع بمائه وسقى عليه وحصد ثم
هارت البير فإنه يأخذ منه من الكراء بحسب ما
آجره السنة بعشرة دنانير فسقى ستة أشهر ثم
هارت البير فإنه يرد عليه نصف كرائه ويأخذ
كراءه على ما أحب أو كره ، ليس عليه أن يرد
إلا ذلك قط. وعمارة البير شديدة ، وربما أنفق
عليها المال الكثير والعين كذلك ، فإن قال
الذي كان له الزرع هات العشرة دنانير من كراء
البير أعمر بها البير فذلك له ، فإن زاد من
عنده عشرين ديناراً فليس له على صاحب البير من
ذلك شيء.
قال محمد بن رشد : هذه مسألة حسنة جيدة صحيحة
على معنى ما في المدونة وغيرها ، لأن الحكم في
تهور البير المكتراة لسقي الزرع كالحكم في
تهور البير في الأرض المكتراة للزرع في أن
جميع الكراء يبطل ، وإن سقى بعض السنة إذا بطل
الزرع ولم ينتفع بما سقى ، وفي أن له أن ينفق
في إصلاح البير كراء سنة واحدة ، لأنه يحيي
بذلك زرعه ولا ضرر فيه على رب البير أو الأرض
، وفي أنه إن سقى بعض السنة فانتفع بما سقى
كان عليه من الكراء بحساب ذلك . وقوله فإن زاد
من عنده عشرين ديناراً فليس له على رب البير
من ذلك شيء ، يريد إلا أن يكون له فيه نقض
قائم من حجر أو آجر وشبهه فله قيمته مقلوعاً ،
إلا أن يخلي بينه وبين قلعه وبالله التوفيق .
(9/25)
ومن كتاب
الأقضية
قال : وسألته عمن تكارى أرضاً ونقد كراءها
فزرع في الأرض فبلغ الزرع حتى سنبل ثم تهور
البير فأبى صاحب الأرض أن يعمرها ، فقال لي إن
شاء المتكاري أخذ منه كراء سنة واحدة مما دفع
غليه فعمر به البير وليس له أن يأخذ كراء
السنين كلها ، ليس له أن يأخذ إلا كراء سنة ،
فإن كره ذلك ترك الزرع يبطل وأخذ كراءه كله ،
ولم يكن لصاحب الأرض شيء.
قال محمد بن رشد : هذا مثل ما في المدونة أن
البير إذا تهورت بعد أن يزرع المكتري فأبى رب
الأرض من إصلاح البير كان من حق المكتري أن
ينفق فيها كراء تلك السنة وحدها ، وإن كان قد
نقده فيؤخذ من رب الأرض وينفق في اصلاح البير
، وإن كان قد استهلكه ولم يوجد له مال ، كان
للمكتري أن ينفقه عنه ، ويكون له سلفاً عليه ،
وإن لم يكن في كراء السنة ما يقوم بإصلاح
البير ، وأراد المكتري أن يزيد فهو متطوع
بالزيادة ، لا شيء له فيها إلا أن يكون فيما
أخرج من ذلك شيء قائم فيكون له أن يأخذه إلا
أن يعطيه رب الأرض قيمته مقلوعاً ، وإن انهارت
البير قبل أن يزرع وأبى رب الأرض من إصلاح
البير انفسخ الكراء ولم يكن للمكترى أن ينفق
من كراء الأرض في البير شيئاً ، فإن أنفق فهو
متطوع فيما أنفق يكون لرب الأرض كراؤه كاملاً
للسنين كلها التي كان الكراء إليها أو لما كفى
الماء الذي عاد في البير بنفقة المكتري فيها
منها أعني من السنين المكتراة ولا شيء له فيما
أنفق إلا في نقض قائم
(9/26)
من حجر أو آجر
أو شبه ذلك فيكون له ، أن يأخذه إلا أنه يعطيه
رب البير والأرض قيمة ذلك مقلوعاً ، هذا معنى
ما في كتاب ابن المواز والمدونة وغيرهما والذي
يأتي على أصولهم وبالله التوفيق .
من سماع عيسى بن دينار من
ابن القاسم من كتاب العرية
قال عيسى بن دينار سئل ابن القاسم عن الرجل
يكتري داره من الرجل سنة فلم يقم فيها إلا
شهرين حتى تهدمت فقام الذي تكارها فبناها بما
عليه من الكراء وصاحب الدار غائب فلما سكن
السنة جاءه صاحب الدار يطلب منه الكراء ،وادعى
الآخر أنه بناها ما ترى فيها ؟ قال ابن القاسم
: يكون لصاحب الدار من الكراء بقدر ما سكن
المتكاري قبل أن تهدم ، ويكون له كراء العرصة
فيما بعد الهدم وليس للمتكاري إلا نقض بنيانه
إلا أن يعطى قيمته نقضاً . فإن كان ليس فيه
نقض ينتفع به مثل الجص والتزويق والتراب ،
فليس له فيه شيء ، وكل نقض لا ينتفع به إذا
وقلع مثل الجص والتزويق والتراب فلا شيء فيه .
قال محمد بن رشد : الذي يأتي على أصولهم في
الدار المكتراة ينهدم منها ما يذهب أكثر
منافعها أو منفعة البيت الذي هو وجهها أو
يكشفها بانهدام حائطها وما أشبه ذلك أن
المكتري يكون في ذلك مخيراً بين
(9/27)
أن يسكن بجميع
الكراء أو يخرج ، فإن أراد أن يسكن على أن يحط
عنه ما ينوب ما انهدم من الكراء لم يكن ذلك له
إلا أن يرضى بذلك رب الدار فإن رضي بذلك رب
الدار جرى جوازه على الاختلاف في جمع الرجلين
سلعنتهما في البيع ، وان بنى المكري الدار قبل
أن يخرج المكتري منها لزمه الكراء ولم يكن له
أن يخرج ، وإن بناها بعد أن هرج لم يكن عليه
الرجوع إليها إلا أن يشاء ، وإن سكت وسكن
الدار مهدومة لزمه جميع الكراء . هذا الذي
يأتي على مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك في
المدونة . فقوله في هذه الرواية إنه يكون
لصاحب الدار كراء العرصة فيما بعد الهدم خلاف
مذهبه في المدونة . وأما قوله وليس للمتكاري
إلا نقض بنيانه إلى آخر قوله فهو صحيح على
مذهبه . والهدم في الدار المكترة ينقسم على
قسمين : أحدهما أن يكون يسيرا ، والثاني أن
يكون كثيراً ، واليسير على ثلاثة أقسام : يسير
لا مضرة فيه على الساكن ولا ينقص من كراء
الدار شيئاً ، ويسير لا مضرة فيه على الساكن
،إلا أنه ينقص من قيمة كراء الدار ، ويسير فيه
مضرة على الساكن إلا أنه ينقص من قيمة كراء
الدار ، ويسير فيه مضرة على الساكن إلا أنه لا
يبطل من منافع الدار شيئاً . والكثير على
ثلاثة أقسام أيضاً : كثير يعيب السكنى وينقص
من قيمة الكراء ، ولا يبطل من المنافع الدار
كالبيت ينهدم منها وهي ذات بيوت ، وكثير يذهب
أكثر منافعها أو منفعة البيت الذي هو وجهها أو
يكشفها بانهدام حائطها ، أو ما ، أشبه ذلك ،
وقد ذكرنا حكم هذا الوجه ، وأما حكم سائر
الأقسام فلها موضع غير هذا تذكر فيه وبالله
التوفيق .
(9/28)
ومن كتاب يوصي
لمكاتبه بوضع نجم من نجومه
وسئل عن رجل اكترى منازل سنة ، وفي المنازل
علو ليس له سلم ، فقال لصاحب المنازل اجعل
للعلي سلماً فإنا لا نخلص إليه فتوانى فيه فلم
يجعل له سلماً ولم ينتفع به المتكاري حتى
انقضت السنة ، قال ينظر إلى ما يصيب ذلك العلو
من الكراء فيطرح عن المتكاري .
قال محمد بن رشد : إنما قال إنه إذا لم يجعل
المكري للمكتري سلماً يخلص به إلى الانتفاع
بالعلو حتى انقضت السنة أنه لا كراء عليه فيه
، لأنه باع منه جميع منافع الدار ، فعليه أن
يسلمها إليه ، وإسلامه للعلو هو بأن يجعل له
سلماً يرقى عليه ، والكراء في هذا بخلاف
الشراء ، لو باع منه الدار وفيها علو لا يرتقى
إليه إلا بسلم لم يكن عليه أن يجعل له سلماً
يرتقي عليه ، كما لا يلزمه أن يجعل له دلواً
وحبلاً يصل به إلى ماء البير ، لأن ما باع منه
قد أسلمه إليه فهو إن شاء أسكنه وإن شاء هدمه
وإ، شاء باعه وفعل به ما يفعله ذو الملك في
ملكه ، لا يمنعه من التصرف فيه بما شاء من هذه
الوجوه كونها دون سلم . وقد ذهب ابن العطار في
وثائقه قياساً على هذه المسألة إلى أن من باع
داراً لها علو وفيها سلم ينقل من موضع إلى
موضع أنه للمشتري وإن لم يشترطه ، وليس قوله
بصحيح ، بل لا يكون للمشتري إلا أن يكون سلماً
من خشب في هيئة الدرج متخذاً لذلك العلو ، ولو
صح قياس الشراء على الكراء لوجب أن يكون على
البائع أن يأتيه بسلم للعلو من الدار ، وإن لم
يكن في الدار سلم يوم البيع ، وهذا ما لم يقله
ابن العطار ، فما أصاب في قوله ولا في قياسه ،
ولا يلزم في الكراء أن يأتيه بدلو وحبل
لاستقاء الماء من البير ، كما يلزمه أن يأتيه
بسلم
(9/29)
يرقى عليه إلى
عليه الدار . فالفرق بين الموضعين أنه باع منه
منافع العلية ولم يبع منه ماء البير وإنما
أكرى منه داراً فيها بير لها ماء ينتفع بما
شاء منه إن شاء وذهب ابن العطار أيضاً إلى أن
من باع داراً وفيها مطاحن مبنية يكون للمبتاع
السريد والحجر الأسفل وللبائع الحجر الأعلى
قياساً على ما قاله بعض الشيوخ أن معنى قوله
في المدونة لا شفعة في الأرحى إنما يعني بذلك
الحجر الأعلى ، وأما الحجر الأسفل ففيه الشفعة
، لأنه من البناء كقدر الحمام ، وهي تفرقة لا
وجه لها ، إذ لا ينتفع بأحد الحجرين دون الآخر
، فعلى ما في المدونة لا شفعة فيهما ، وعلى
رواية عيسى عن ابن القاسم في رقيق الحائط
فيهما الشفعة ، وأما المطاحن المبنية في الدار
المبيعة فالصواب أنها للبائع ، ولا يعتبر
بكونها مبنية في الدار إذ ليست من بناء الدار
ولا من انقاضه وإنما هي عروض للبائع لا
يستحقها المبتاع بكونها منصوبة في الدار التى
ابتاع وبالله التوفيق .
مسألة
قال ابن القاسم قال مالك : إذا تكارى الرجل
الدار سنة بعينها فسكن سنة ثم جاء صاحب الدار
عند انسلاخ السنة يطلب منه الكراء ، فقال : قد
قبضته مني ، لم يقبل قوله عليه ، وعليه كراء
تلك السنة ، إلا أن يأتي منه ببراءة إذا قام
عليه بحدثان ذلك ، وإن طال ذلك بعد انسلاخ
السنة ثم جاءه بعد ذلك يطلب منه كراء السنة ،
فقال : قد دفعته إليه ، كان القول قوله ، ولم
يكن لصاحب
(9/30)
الدار عليه إلا
يمينه بالله لقد قضى إليه دنانيره ، فلا يبالي
خرج من الدار أو كان فيها إذا طال ذلك ، القول
قوله مع يمينه ويبرأ ، ولو كان أكراه السنة
بعينها فسكن بعد ذلك تسع سنين وصاحب الدار
ينظر إليه لم يواجبه على كراء ، ثم جاء بعد
عشر سنين يطلب كراء السنة الأولى وكراء التسع
سنين التي كانت بعد السنة فلا شيء له في كراء
السنة الأولى ، إذا قال قد دفعته ، وله قيمة
كراء التسع سنين إذا قام بحدثان انسلاخها إلا
أن يأتي الساكن ببراءة تبرئه من الكراء ، وإلا
لم يقبل قوله . وإن خرج من الدار وطال ذلك ثم
جاء يطلب الكراء فلا شيء له لا كراء السنة ،
ولا كراء التسع سنين ، إذا زعم أنه قد دفع ذلك
ويحلف ويبرأ ، فإذا قام يطلب ذلك بحدثان ذلك ،
فله كراء التسع سنين وإن كان قد خرج من الدار
، وإذا سكن الدار عشر سنين وكان صاحب الدار
يجدد عليه الكراء كل سنة ويشهد عليه ثم جاء
بعد ذلك يطلب كراء تلك العشر سنين كلها فلا
شيء له إذا زعم أنه قد دفع ذلك إليه إلاكراء
السنة الأخيرة إن كان قام بحدثان ذلك ، وإن
كان قد خرج وطال ذلك ثم قام يطلب فلا كراء له
فيما مضى ولا في السنة الأخيرة . وإنما يكون
له كراء السنة الأخيرة إذا قام بحدثان
انسلاخها ، وأما إذا طال ذلك فلا
(9/31)
شيء له ،
وتجديد كراء السنة بعد السنة براءة من التي
قبلها مع يمين الساكن . وأما إذا أكراها عشر
سنين مسجلة فلما انسلخت جاء يطلب الكراء فإنه
إن جاء يطلبه بحدثان انسلاخ العشر سنين فله
الكراء إلا أن يأتي الساكن منه ببراءة تبرئه
فإن قام يطلب ذلك بعد طول زمان ، فالقول قول
الساكن مع يمينه ويبرأ . قلت فلو استكرى منه
سنة فلما سكن ستة أشهر جاءه يطلب الكراء فقال
قد دفعت إليك جميع كراء السنة أيكون القول
قوله أم ماذا العمل فيه ؟ ولأي شيء جعلت القول
قول رب الدار إذا قام يطلب ذلك بحدثات السكنى
؟ قال : لا يقبل قوله في السنة ولا بحدثان
ذهابها ، وكذلك قال مالك لأنه أمر ليس فيه فوت
.
قال محمد بن رشد : مراعاة العرف في دعوى
المتكاري دفع الكراء أصل متفق عليه في المذهب
لا اختلاف فيه عند مالك وأصحابه ، فجوابه في
هذه الرواية على أن العرف كان عندهم أن من
اكترى داراً سنة بكذا ، أو كل سنة بكذا ، ولم
يقل كل شهر بكذا أو سنين مسماة بكذا ، ولم يقل
كل شهر بكذا أو كل سنة بكذا أن الكراء إنما
يدفعه عند انقضاء السنة التي اكترى ، أو عند
انقضاء السنين التي اكترى ، ولذلك قال : إنه
لا يصدق إذا ادعى دفع كراء السنة التي اكترى
أو السنين التي اكترى بحدثان انسلاخها ، وإنما
يصدق إذا ادعى دفع ذلك بعد طول زمان ، خرج من
الدار أو كان ساكناً فيها ، ولو كان العرف
بالبلد دفع الكراء شهراً بشهر وان كان اكترى
منه سنة أو سنتين على ما هو العرف عندنا لوجب
أن يكون
(9/32)
القول قول
المكتري في دفع كراء ما مضى من الأشهر والقول
قول رب الدار في الشهر الآخر ما لم يطل الأمر
بعد انقضائه . والذي جرى به العمل أنه إذا مضى
أكثر الشهر كان القول قول المكتري في دفع كراء
الشهر الذي قبله ، وإذا لم يمض منه أكثره كان
القول قول رب الدار إنه ما قبض كراء الشهر
الذي قبله ، وقيل إن القول قوله ما قبض كراء
الشهر الفارط ما لم ينقض الشهر الذي هما فيه .
وأما قوله في هذه الرواية إذا أكرى منه السنة
بعينها ثم سكن بعد ذلك تسع سنين وصاحب الدار
ينظر إليه لم يواجبه فيها على كراء، ثم قام
بعد انقضاء العشر سنين يطلبه كراء السنة
الأولى وكراء التسع سنين أنه إن قام بحدثان
انسلاخها فله قيمة كراء التسع سنين ، ولا شيء
له من كراء السنة الأولى ، وإن قام بعد طول
فلا شيء له ، لاكراء السنة ولاكراء التسع سنين
إذا زعم أنه قد دفع ويحلف ويبرأ . فقوله فيها
إن له قيمة كراء التسع سنين لا على حساب كراء
السنة الأولى ، وهو مثل قوله في كتاب كراء
الرواحل والدواب من المدونة فيمن اكترى دابة
يوماً فبحسبها شهراً أن عليه في التسعة وعشرين
يوماً كراء مثله على قدر ما استعملها لا على
حساب كراء اليوم ، ومثل ما اختاره في رسم إن
خرجت بعد هذا ، ولا يعتبر في هذه المسألة على
هذا القول بالعرف إن كان العرف بالبلد تأدية
الكراء فيه سنة بسنة إذا لم يواجبه في التسع
سنين على كراء معلوم ، ويعتبر به على القول
الآخر وعلى مذهب غيره ، وهو أشهب الذي يرى
عليه الكراء في التسع سنين
(9/33)
على حساب كراء
السنة ، لكونه حاضراً معه لأنه كأنه قد واجبه
في كراء التسع سنين على مثل كراء السنة الأولى
وهو نص قوله في الدمياطية قال القول قول
المكتري لما مضى من السنين ويغرم السنة التي
هو فيها . ولو سكن التسع سنين وصاحب الدار
غائب لم يواجبه فيها على كراء لكان القول قول
صاحب الدار أنه ما قبض كراء التسع سنين إذا
قام بحدثان انقضائها وإن كان العرف بالبلد قبض
الكراء فيه سنة بسنة على قولهما جميعاً ،
وإنما يختلفان فيما يجب على الساكن في التسع
سنين . فمذهب أشهب أنه يجب عليه فيها الأكثر
من كراء مثلها أو على حساب كراء العام الأول ،
ومذهب ابن القاسم أنه يجب عليه فيها كراء
مثلها بالغاً ما بلغ كان أكثر من كراء السنة
أو أقل ، وهذا على أصل قد اختلف فيه قوله على
ما سنذكره في رسم إن خرجت بعد هذا إن شاء الله
وبه التوفيق .
ومن كتاب أوله أوصى بعتق أمهات أولاده
وسئل عمن استكرى بيتاً يسكنه ، فقال المكري هو
بدينار ونصف في السنة ، وقال المستكري لا
والله لا أعطيك إلا ديناراً فإن رضيت سكنت على
هذا وإلا انتقلت فسكت ولم يجبه بشيء ، فلما
انقضت السنة لزمه بدينار ونصف قال ابن القاسم
لا أرى له إلا ديناراً .
قال محمد بن رشد : هذه مسألة جيدة تبين ما مضى
في نوازل
(9/34)
سحنون من كتاب
جامع البيوع ، وقد مضى القول عليها هناك
مستوفى فلا معنى لا عادته وبالله الوفيق
ومن كتاب إن خرجت من هذه الدار
وسئل عن رجل أكرى من رجل داراً سنة فلما انقضت
السنة سكن الداخل في الدار بعد السنة ستة أشهر
ولم يواجب صاحب الدار على كراء ، ثم طلب صاحب
الدار الكراء ماذا يأخذ منه ؟ أبحساب ما تكارى
منه للسنة الماضية ؟ أم قيمة كراء الستة أشهر
؟ فقال قد قيل فيها القولين جميعاً ، وأحب إلى
أن يقوم كراء الستة أشهر التي سكن ويعطي
كراءها .
قال محمد بن رشد : الاختلاف في هذه المسألة
جار على اختلاف قوله هل السكوت كالإقرار أو لا
؟ فعلى القول بأن السكون كالإقرار إذا علم رب
الدار بسكناه في الدار بعد انقضاء العام ، كان
عليه فيما سكن بحساب كراء العام لأنه يحمل كل
واحد منهما على الرضى به ، وإن لم يعلم رب
الدار بسكناه فيها بعد انقضاء العام ، مثل أن
يكون غائباً فيكون على الساكن فيما سكن بعد
انقضاء العام الأكثر من كراء المثل ، أو على
حساب كراء العام ، لأنه يحمل على الساكن الرضي
بحساب كراء العام إن كان كراء المثل أقل ، وهو
أحد قولي ابن القاسم وقول غيره في المدونة ،
وقول ابن الماجشون في الواضحة قال : أما ما
كان مما يرجع به إلى ربه فيحوزه بغلق من دار
وبيت وحانوت ، ورب ذلك ساكت حاضر عالم لا ينكر
(9/35)
فله بحساب
الكراء الأول ، وما كان مثل المزرعة وما إذا
فرغ من الوجيبة بقي براحاً لا جدار عليه ولا
غلق ولا آلة ترد إلى صاحبها ، فله فيما زاد
الأكثر من القيمة أو الوجبيبة ، لأنه تعدى
عليه بغير أمره ولا علمه ، واختار ذلك ابن
حبيب وعلى القول بأن السكوت لا يكون كالإقرار
يكون على الساكن فيما سكن بعد انقضاء العام
كراء المثل بالغاً ما بلغ، كان أقل من حساب
كراء العام أو أكثر ، كان رب الدار حاضراً أو
غائباً ، وهو أحد قولي ابن القاسم واختياره في
هذه الرواية وبالله التوفيق .
ومن كتاب الثمرة
وقال في رجل يكتري الأرض فيزرعها ، فإذا
استحصد زرعه أتاه برد فأوقع حبه كله في الفدان
فأخلف وصار فيه زرع لمن يكون الزرع ؟ قال :
الزرع لرب الأرض وليس للمتكاري فيه قليل ولا
كثير ، لأن سنته قد انقضت ، لأن مالكاً سئل عن
رجل بذر أرضه فأتى سيل فذهب بالبذر كله إلى
ارض غيره ، فنبت وصار زرعاً ، قال الزرع لرب
الأرض ، وليس لصاحب البذر قليل ولا كثير
فمسألتك مثله .
قال محمد بن رشد : قول ابن القاسم في مسألة
الذي انتثر زرعه في أرض اكتراها لسنة قنبت
فيها في عام قابل إنه لصاحب الأرض هو مثل قوله
في كتاب كراء الأرضين من المدونة ، وقياسه
لذلك على قول مالك في الذي يبذر أرضه فيجر
السيل بذره إلى أرض جاره فينبت فيه إنه لصاحب
الأرض صحيح ، إذ لا فرق بين المسألتين ، لأن
البذر مستهلك
(9/36)
في المسألتين
لا يقدر صاحبه على أخذه من أرض صاحب الأرض ،
وهذا مثل ما في المدونة سواء ، لأن معنى قوله
فيها فحمل السيل زرعه إلى أرض رجل آخر فنبت
فيه ، إذ لا ينبت الزرع وإنما ينبت البذر ،
وبدليل هذه الرواية أيضاً لأنه نص فيها على أن
السيل إنما ذهب بالبذر لا بالزرع بعد نباته ،
وقد اختلف إذا ذهب السيل بالزرع إلى أرض الرجل
بعد أن نبت وظهر على ثلاثة أقوال : أحدها أنه
لصاحب الأرض أيضاً ، وعليه قيمته مقلوعاً ، إن
كانت له قيمة ، روي ذلك عن سحنون . والثاني
أنه لربه ، وعليه كراء الأرض ما لم يجاوز
كراؤها الزرع فلا يكون عليه أكثر منه ، يريد
أنه يكون مخيراً بين أن يتركه لرب الأرض ،
وبين أن يكون له ويكون عليه كراء الأرض . قال
سحنون في كتاب المزارعة ، وقال في كتاب ابنه :
ولا يكون كالمخطئ والمخطئ كالعامد ، ولا يكون
أسوأ حالاً من المكتري للأرض مدة فتتم المدة
وله فيها زرع أخضر ، وقد علم حين زرع أنه لا
يطيب في المدة . فقال مالك له الزرع وعليه
كراء زيادة المدة ، والثالث أنه إذا لم يكن
فيه منفعة فهو للذي جره السيل إليه ، وإن كانت
فيه منفعة وله قيمة فهو لصاحبه وعليه كراء
الأرض ، روي ذلك ابن وضاح عن سحنون ، وقد قيل
إنه إذا جره السيل وهو بذر قبل أن ينبت أنه
لصاحبه وعليه كراء الأرض وهو بعيد وبالله
التوفيق .
مسألة
وسئل عن الرجل يكون له الحمام ، وفيه الرقيق
يقومون بأمره ، فأكراه رجلاً سنة برقيقه فماتت
الرقيق إلى ستة أشهر ،
(9/37)
هل يفسخ جميع
الكراء ، أو انهدم الحمام وبقيت الرقيق ؟ قال
: إن ماتت الرقيق قبل السنة وبقى الحمام كان
الكراء بحاله في الحمام إلى تمام السنة [ ونظر
إلى كراء الرقيق من جملة الكراء ] ، فإذا عرف
كراؤهم قوم كراؤهم فيما عملوا من السنة ، فكان
لسيدهم ورد ما بقي ، وإن كان الحمام انهدم
والرقيق باقية انفسخ الكراء في الرقيق والحمام
، ونظركم كراء الحمام والرقيق فيما مضى من
السنة ففض على جميع الكراء الثمن فكان ذلك له
.
قال محمد بن رشد : وهذا كما قال ، لأنه إذا
اكترى الحمام برقيقه ليقوموا له بأمره فانهدم
الحمام لم ينتفع بالرقيق ، فسواء انهدم الحمام
في أول السنة أو بعد أن مضى أكثرها ، له رد
الرقيق ، وينفسخ الكراء في الجميع لما بقي من
المدة ، ولا يقال إذا انهدم الحمام بعد أن مضت
أكثر السنة إنه ليس له أن يرد الرقيق فيما بقي
من السنة وإن كان قد سلمت له جل صفقته ، إذ لا
منفعة له فيهم إذا انهدم الحمام ، لأنه إنما
هو بمنزلة من اكترى داراً فلما سكن أكثر المد
انهدم منها بيت يضر به في سكناه ، فله أن يرد
الدار لما بقي من المدة ، ولو كان اكترى
الحمام ورقيق صاحب الحمام ليخدموه في غير
الحمام فانهدم الحمام بعد أن مضت اكثر المدةلم
يكن له أن يرد الرقيق ، لأنه قد سلمت له جل
صفقته فنال وجه ما طلب ، كما أنه لو أكترى
حمامين أو دارين فانهدم أحدهما وقد مضت أكثر
المدة لم يكن له أن يرد الآخر ، وإن كان الذي
انهدم منهما هو جلهما من أجل أنه قد سلمت له
جل صفقته إذ قد مضت أكثر المدة فنال وجه ما
طلب . ويدخل في هذا الوجه اختلاف بالمعنى من
مسألة من اشترى عبدين في صفقة
(9/38)
واحد ، أحدهما
تبع لصاحبه ، فاستحق جل الأدني منهما ، لأن
ابن القاسم يرى له رده ، خلاف ما ذهب إليه
سحنون فتدبر ذلك . وأما إذا مات الرقيق الذين
اكتراهم مع الحمام لخدمة الحمام وبقي الحمام
فلا ينفسخ الكراء في الحمام إلا أن يكونوا
ماتوا في أول السنة وهم الجل في الكراء ، مثل
أن يكون كراء الحمام برقيقه خمسين ، ودون
الرقيق عشرة ، وما أشبه ذلك وبالله التوفيق .
ومن كتاب حمل صبياً على دابة
قال ابن القاسم : إذا اكترى الرجل داراً إلى
سن وفيها نخل تبع للدار واشترطها المكتري فسكن
ستة أشهر ثم انهدمت الدار فإنه يقوم كراء
الدار ، فإذا عرف قيمته نظر ما قيمة النخل من
تلك القيمة إن كانت ثلثاً أو ربعاً أو أدنى من
ذلك فيأخذ من كراء السنة ذلك الاسم ، ثم ينظر
ما قيمة كراء تلك الستة الأشهر التيى سكن ،
وقيمة كراء الستة الأشهر الباقية ، فيفض ما
بقي من الكراء بعد إخراج قيمة النخل على الستة
الأشهر التي سكن والستة التي بقيت .
قال محمد بن رشد : يريد وتكون الثمرة للمكتري
إن كانت قد طابت ويكون عليه ما وقع عليها من
الكراء مع ما يجب للستة الأشهر التي سكن ،
وأنها ترجع لرب الدار إن كانت لم تطب ويحط عن
المكتري ما يقع عليها من الكراء وعلى ما بقي
من المدة ، فإن كانت الثمرة تقع في الثلث من
الكراء وانهدمت الدار بعد أن سكن ستة أشهر
كانت الثمرة للمكتري إن كانت قد طابت ، وكان
عليه ثلثا الكراء ، وإن كانت لم تطب
(9/39)
رجعت إلى رب
الدار ، وكان على المكتري ثلث الكراء على ما
يأتي له في سماع أبي زيد . وذهب محمد بن
المواز إلى أن الثمرة ترجع إلى ربها طابت فيما
مضى من المدة أو لم تطب ، ويكون على المكتري
من الكراء إن كان سكن ستة أشهر نصف ما يقع منه
على الدار إذا فض عليه وعلى الثمرة . يريد
محمد إلا أن تكون الثمرة قد طابت في الستة
الأشهر التي سكن وهي تبع لها ، وذلك با، تكون
الثمرة قد طابت في الستة الأشهر التي سكن وهي
تبع لها ، وذلك بأن تكون الثمرة تقع من كراء
السنة السدس فأقل فتكون للمكتري ويكون عليه ما
نابها من الكراء مع ما يجب لما سكن . وقول
محمد بن المواز أظهر ، ومثله حكى ابن حارث عن
أشهب ، ووجه قول ابن القاسم أن أصل العقد لم
يكن فيه تهمة إذ كانت الثمرة حينئذ تبعاً ،
ولا يعتبر بما يطرأ من الهدم بعد صحة العقد ،
وقد كان يجب على هذا أن تكون الثمرة له وإن لم
تطب ، وذلك ما لا يقوله ابن القاسم ولا غيره ،
فهو دليل على صحة قول محمد وأشهب . ولو استحقت
الدار إلا موضع الشجرة لرجعت الثمرة إلى
المكتري طابت أو لم تطب ، بخلاف الهدم ، لأنه
بمنزلة من باع ثمرة قبل طيبها حين ضمها إلى ما
ليس له ، قال ابن حبيب ، وقد قال في الذي
يشتري الأرض ويستثني الزرع ثم تستحق الأرض وقد
استحصد الزرع : إنه يكون للمشتري ويمضي البيع
فيه ، لأن أصله كان جائزاً ، ولا فرق بين
الشراء والكراء ، فعلى هذا تكون الثمرة إذا
طابت للمكتري في الهدم والاستحقاق ، وعلى قول
محمد وأشهب ترجع الثمرة إلى ربها وإن طابت في
الهدم والاستحقاق ، وتفرقة ابن حبيب بين الهدم
والاستحقاق قوق ثالث ، فقف على ذلك وبالله
التوفيق .
مسألة
قال ابن القاسم في الرجل يكتري الدار سنة
وفيها
(9/40)
نخل أو دالية
غلتها أدنى من الثلث فيشترطها فيسكن ستة أشهر
ثم يستقيله صاحب الدار أو المتكاري وقد نقد
الكراء أو لم ينقد ، والثمر بحالها لم تطب ،
إنه سواء نقده أو لم ينقد أيهما استقال فلا
بأس به إذا كانت الثمرة يوم يستقيله تبعاً
لكراء الستة الأشهر التي يقيله منها بمنزلة
أصل الكراء فيكون كله كأنه كراء حادث ، فإن
كانت الثمرة قد طابت فليصنعا ما أحبا ، وسواء
نقده أو لم ينقده في الدار ، وليس ينزل النقد
في الدور بيعاً وسلفاً ، رجع ابن القاسم وقال
هذا إذا لم ينقده ، فإن كان نقده كان بيعاً
وسلفاً ، كذلك قال لي مالك .
قال محمد بن رشد : هذه مسألة تحصيل القول فيها
أن الثمرة لا تخلو أن تكون في حين الإقامة قد
طابت أو لم تطب ، فإن كانت قد طابت وتركها لرب
الدار فذلك جائز بكل حال ، وإن أبقاها لنفسه
فذلك جائز إن كانت تبعاً للستة الأشهر التي
سكن ، مثل أن يكون السدس من جميع كراء السنة
فأقل ، فيكون الثلث من الستة الأشهر التي سكن
أو أقل ، وإن كانت لم تطب وأبقاها لنفسه فلا
يجوز بحال ، وإن تركها لرب الدار جاز إن كانت
تبعاً لما بقي ، لأنه يصير كابتداء كراء
اكتراه المكري من المكتري ، ولم يجز إن لم يكن
تبعاً للستة الأشهر الباقية ، وقد مضى في رسم
الشريكين من سماع ابن القاسم وجه الاختلاف في
الإقالة من بقية السكنى بعد النقد ، وإن إجازة
ذلك قياساً على السلع المعينة وكراهيته
تشبيهاً بما في الذمم فلا معنى لإعادته وبالله
التوفيق .
(9/41)
ومن كتاب حبل
حبلة
وسئل عن رجل اكترى داراً سنة باثنى عشر
ديناراً ولم ينقد الكراء فسكن شهرين ثم سأله
المكتري أن يقيله فيما بقي من السنة فأبى ،
فقال : أقلني وأنا أعطيك في الشهريه ستة
دنانير كراء نصف سنة ، قال : لا خير فيه ،
وهذا من وجه ضع وتعجل ، ورواها أصبغ ، وقال
يفسخ إن وقع عملهما على هذا .
قال محمد بن رشد : قوله : وهذا من وجه ضع
وتعجل صحيح إذ ليس بحقيقة ضع وتعجل وإنما هو
فعل قد يدخله ما يدخل ضع وتعجل من الزيادة في
السلف ، ويدخله أيضاً البيع والسلف ، وبيع عرض
وذهب بذهب إلى أجل ، وذلك إذا كان الكراء
مؤخراً بشرط ، أو كانت سنة الكراء عندهم على
التأخير ، لأنه إذا أكرى منه داره سنة باثني
عشر ديناراً مؤخرة عليه إلى انقضاء السنة
فأقاله بعد شهرين على أن يعطيه ستة دنانير فش
الشهرين كان رب الدار قد أخذ منه دينارين واجب
الشهرين اللذين سكنهما وتعجل أربعة دنانير من
العشرة الباقية عليه من كراء العام إلى
انقضائه ، على أن يأخذ منه في تمام العشرة
داره لبقية العام ، ولعل كراءها لبقية العام
لا يساوي إلا أربعة دنانير ، فيكون كأنه قد
تعجل ثمانية دنانير من عشرة مؤجلة ، وإن كان
كراء العشرة الأشهر الباقية قيمته ستة دنانير
فأكثر لم يدخله ضع وتعجل ، لأنه لم يضع شيئاً
، ويدخله بيع وسلف وذهب وعرض بذهب إلى أجل على
كل حال ، لأنه أخذ منه سكنى الدار عشرة أشهر
بستة دنانير من العشرة التي بقيت له عليه إلى
أجل على أن عجل له أربعة دنانير سلفاً منه له
، وباعه العشرة دنانير التي له عليه على أجل
بأربعة دنانير معجلة وسكنى داره العشرة الأشهر
التي بقيت من السنة . وأما لو كان الكراء على
النقد بشرط ، أو على أنه يحل عليه شيئاً بعد
شيء بقدر ما سكن أ, مبهماً
(9/42)
مما يكون الحكم
فيه هذا فسكن أشهراً ثم استقال من زيادرة لم
يكن به بأس ، لأن ما حل له من الكراء ليس
بمحسوب له في الإقالة ، ولا من الزيادة، وهذا
كله بين وبالله التوفيق .
مسألة
قال ابن القاسم : وسمعت مالكاً يقول في الرجل
، يقول للرجل أؤآجرك داري أو ابلي أو غلماني
كل سنة أو كل شهر بكذا وكذا ، أو في السنة أو
في الشهر بكذا وكذا إن ذلك كله لا يلزم واحداً
منهما ، ومتى ما أحب المتكاري أن يخرج خرج ،
أو متى ما أحب المكري أن يخرجه أخرجه ، قال
مالك إلا أن يقول أكريك سنة بكذا وكذا أو
شهراً بكذا و كذا فليس لأحدهما أن يترك الكراء
، ليس للمتكاري أن يخرج ، وليس للمكري أن
يخرجه حتى تنقضي سنة . قال ابن القاسم : وأنا
أرى في الذي يقول أكريك السنة بكذا وكذا ، مثل
ما قال مالك في وكل .
قال محمد بن رشد : هذه مسألة بينة صحيحة لا
إشكال فيها ، لأن الكراء فير الرباع على وجهين
: أحدهما أن يعقده المتكاريان لمدة معينة
معلومة ، والثاني أن يسميا الكراء ويتفقان
عليه ولا يتواجبان على مدة معينة معلومة ،
فإذا عقداه لمدة معينة معلومة لزمهما جميعاً
ولم يكن للمكتري أن
(9/43)
يخرج ولا
للمكري أن يخرجه حتى تنقضي المدة ، وهي تتعين
بأربعة ألفاظ : أحدها أن يقول : أكري منك هذا
الشهر أو هذه السنة . والثاني أن يقول أكري
منك شهر كذا ، أو سنة كذا . والثالث أن يقول
أكري منك شهراً أو سنة . والرابع أن يقول أكري
منك إلى وقت كذا . وما تفترق فيه هذه الألفاظ
مع تساويها في لزوم الكراء بها مذكور في غير
هذا الكتاب ، وإذا اتفقا على الكراء وسمياه
ولم يتواجبا على مدة معلومة معينة وذلك مثل أن
يقول أكري منك الشهر بكذا ، أو السنة بكذا ،
أو يقول : أكري منك في كل شهر بكذا ، أو كل
سنة بكذا ، أو يقول : أكري منك في الشهر بكذا
، أو في السنة بكذا ، كان للمكتري أن يخرج متى
شاء وللمكري أن يخرجه متى شاء كان في أول
الشهر أو وسطه ، ويؤدي من الكراء بحساب ما سكن
، ولا يلزم واحداً منهما الكراء في الشهر
الأول ، ولا فيما بعده ، إلا أن يقع بينهما
شرط ألا يخرج أو ألا يخرجه أو يعجل الكراء ،
وهذا على مذهب ابن القاسم . وذهب ابن الماجشون
إلى أنهما يلزمهما الكراء في الشهر الأول إذا
قال : الشهر بكذا ، أو في كل شهر بكذا ، وكذلك
على مذهبه السنة الأولى إذا قال : السنة بكذا
، أو كل سنة بكذا . وروي بن أبي أويس عن مالك
في البيوت التي تكري شهراً بشهر فيخرج قبل ذلك
أن كراء ذلك الشهر عليه ، وإنما يكون عليه
بحساب ما سكن إذا
(9/44)
تكاري كل يوم
بدرهم ، ففي كراء الدار مشاهرة ثلاثة أقوال :
أحدها أنه لا يلزم الشهر الأول ، ولا ما بعده
، والثاني أنه يلزم فيه الشهر الأول ولا يلزم
ما بعده من الشهور ، والثالث أنه يلزمه الشهر
الأول ، وكراء ما بعده من كل شهر بسكني بعضه
وقول ابن القاسم : وأنا أرى في الذي يقول
أكريك السنة بكذا وكذا ، مثل ما قال مالك في
وكل صحيح ، ومعناه أن السنة لا تتعين عنده
بقوله أكريك السنة بكذا وكذا ، كما لا يتعين
عند مالك بقوله أكريك في السنة بكذا وكذا أو
أكريك في كل سنة بكذا وكذا ، وإنما لم تتعين
السنة بقوله أكريك السنة بكذا وكذا لأن الألف
واللام لم يدخلا على السنة لتخصيصها من غيرها
في لزوم الكراء فيها ، وإنما دخلا عليها
لتخصيص السنة من غيرها في مقدار ما يجب لها من
الكراء ، وهذا هو معنى الكلام الذي يسبق إلى
فهم السامع ولا يصح فيه خلاف بوجه من الوجوه ،
وقد حكى ابن سهل في أحكامه أنه رأى في حاشية
كتاب بعض شيوخه أنه إن قال أكريك السنة بكذا –
بنصف السنة – كان سنة لازمة ، وإن قال أكريك
السنة بكذا – بالرفع – كان مثل قوله كل سنة
بكذا على رواية ابن القاسم ، واستحسنه ، ولا
وجه عندي لاستحسانه إياه ، لأنه إذا قال أكريك
السنة بكذا بنصب السنة احتمل أن يريد بذلك
أكريك داري هذه السنة بكذا ، وأن يريد بذلك
أكريك داري هذه ما سكنت من حساب السنة بكذا ،
وإذا كان الكلام محتملاً لهذين الوجهين
وأحدهما يلزم به كراء السنة ، والثاني لا يلزم
به كراؤها لم يصح أن يحمل إلا على الوجه الذي
لا يلزم به كراؤها ، لأن الأصل براءة الذمة من
لزوم الكراء ، فلا يلزم إلا بيقين . وأما إذا
قال أكريك السنة كذا بالرفع فليست بمسألة
يتكلم عليها ، إذ لا إشكال في أن كراء السنة
لا يلزم بذلك ، وما تكلم ابن القاسم عليها ،
وإنما تكلم على الذي قال أكريك السنة بكذا
بالنصب فرأى الكراء بذلك غير لازم في
(9/45)
السنة للمعنى
الذي قلناه ، ولما كان الكراء لازماً في السنة
لمن قال أكريك سنة بكذا ولم يكن لازماً فيها
لمن قال أكريك السنة بكذا للمعنى الذي ذكرناه
، قال من اراد أن يغرب إن الكراء إذا عرف تنكر
، وإذا نكر تعرف ، وذلك قول فيه نظر ، لأنه لو
قال أكريك السنة كل شهر بكذا للزم كراء السنة
لتعرفها بالألف واللام . وإنما لزم الكراء في
السنة لمن قال أكريك سنة ، بكذا وكذا ، وإن
كانت منكرة ، من أجل أن الكراء لا يجوز عقده
على سنة غير معينة فيحمل أمرهما على أنهما
أرادا سنة كاملة من يوم العقد وبالله التوفيق
.
مسألة
ومن سماع سحنون من عبد الرحمن بن القاسم قال
سحنون : سئل ابن القاسم عن الرجل يكري الأرض
يزرعها بمثل ما يزرع غيرها وهما لا يعرفان كم
كراء تلك الأرض الأخرى ، قال : لا يخر فيه ،
وعلى الزراع مثل كراء تلك الأرض ، قيل له :
فإن أراد حارث الأرض أن يأخذ مثل طعامه أو
دراهم أو عرضاً أو دنانير من رب الأرض ويترك
له الزرع ، قال : لا يخر فيه ، وهو بيع الزرع
قبل أن يبدو صلاحه .
قال محمد بن رشد : هذا كما قال إن الكراء على
هذا لا يجوز لنهي النبي عليه السلام عن بيع
الغرر وأنه لا يجوز للمكتري أن يأخذ من رب
الأرض مثل طعامه الذي زرع ، أو دراهم أو
دنانير أو عرضاً من العروض ويترك له الزرع
لنهي النبي عليه السلام عن بيع الحب في سنبله
حتى يبيض في أكمامه ، فيكف يبيعه وهو زرع قبل
أن يسنبل لأن الزرع له ، وعليه كراء المثل في
الأرض ، فلا يجوز له أن يبيعه من رب الأرض ،
كما لا يجوز له أن
(9/46)
يبيعه من غير
رب الأرض وبالله التوفيق .
مسألة
وسئل سحنون عن الرجل يكتري العين أو البير
فينقص ماؤهما ، قال : إن كان ذلك يسيراً مثل
ما يعرف من نقصان الماء مع قلة الأمطار
وزيادته مع كثرة المطر فإن ذلك لازم لهما إلا
أن يأتي من نقصان الماء ما يضر بالمكتري لقتله
وعوزه فتنتقض به الإجارة ، وكذلك نقصان اللبن
من قلة الخصب مثل نقصان العين من قلة المطر
أمرهما واحد ، فخذ هذا على هذا الباب .
قال محمد بن رشد : هذا كما قال ، ومثله في رسم
البيوع الأول من سماع أشهب من كتاب جامع
البيوع الأول وهو مبين لما في المدونة لأن
النقصان المعروف قد دخل عليه المبتاع فلا رجوع
له به وإنما يرجع بالنقصان المتفاحش الخارج
عما جرت به العادة ، وقد مضى القول على هذا في
سماع أشهب من الكتاب المذكور فلا معنى لإعادته
وبالله التوفيق .
من سماع أصبغ من كتاب الكراء والأقضية
قال أصبغ : سألت ابن القاسم عمن تكاري منزلاً
بأربعة دنانير سنة واشترط المكري نقد دينارين
، وأخذ نصف الكراء ، فأراد بعد شهر أن يأخذ ما
حل له في ذلك أيضاً . قال ذلك له ويفض
الديناران على السنة كلها فينظر ما يصيب كل
شهر
(9/47)
[يفض ما قبضه ،
ويفض ما بقي على السنة كلها ، فينظر ما يصيب
كل شهر ] من ذلك فيأخذه كلما حل له شهر وذلك
نصف كراء الشهر من جميع الكراء فيكون ما قبض ،
ويعجل على ما سكن وما لم يسكن ، وما تأخر
بمنزلة ذلك ، ومما يبين ذلك أرأيت لو قبض
دينارين وسكن ستة أشهر ثم فلس المتكاري ، أليس
يرد ديناراً ويكون الديناران اللذان قبض على
السنة كلها ويأخذ الأشهر الباقية ، لأنها
سلعته بعينها ، فكذلك هذا ، وإنما هو شيء
اشترط تعجيله فلا يكون فيما سكن وحده ، وهو
على السنة كلها ، وسواء اشترط نقد دنانير
سماها ، فكانت نصف الكراء ، أو اشترط نصف
الكراء مسمى فهو سواء . قال أصبغ جيدة كلها
وإنما يلغي ما قبض عندما يحل عليه شيء فيصير
الباقي من الكراء الذي لم يقبضه كأنه كراء
السنة كلها ، يقسم ويفض عليها فيأخذ لكل شهر
ما يصيبه منها بحسابه . وقول ابن القاسم يرجع
إلى هذا ، وهذا يرجع إليه ، وهو وجه واحد لا
يزول . وإن قسمت السنة على الدينارين اللذين
قبض ، والدينارين اللذين لم يقبض صار كراء كل
شهر ثلث دينار فقد أخذ لكل شهر سدساً في
الدينارين اللذين اشترط تعجيلهما ويبقى من
كراء كل شهر سدس . وإن قسمت السنة على
الدينارين الباقيين فقط ، وجعلاهما الكراء
لأنهما بقية الكراء ، فإنما يصير لكل شهر سدس
يأخذه ، فهذا هو ، وهذا كله واحد ، وإنما هو
رجل اشترط من كراء كل شهر تعجيل سدس لجميع
الأشهر مكانه ، ويبقى من كراء كل شهر سدس إذا
حل شهره .
(9/48)
قال محمد بن
رشد : هذا بين على ما قالا ، لأنه إذا اشترط
تعجيل بعض الكراء ولم يسمه لشهر أو لشهور
بأعيانها من أول العام أو من آخره وجب أن يحمل
على جميعها ويفض عليها كلها ، ويأخذه عند
انقضاء كل شهر ببقية واجبه وبالله التوفيق .
ومن كتاب المجالس
وسأله رجل من أهل الريف ، فقال : إني كنت زرعت
أرضا لي كموناً فلم ينبت ، وأبطأ نباته عن
إبانه حتى لم يشك الناس أنه قد هلك البذر الذي
بذرت من بعض غمرات الماء ، أو برد ، أو غير
ذلك ، ويئست من نباته ، وأكريت أرضي تلك من
رجل غرس فيها مقثاة فنبتت المقثاة والكمون
معاً نباتاً واحداً ، ما ترى في ذلك ؟ قال
أصبغ : أرى الكمون لك والمقثاة لغارسها ، ويفض
الكراء الذي اكتريت به الأرض على قدر
انتفاعكما بها ، أنت في كمونك ، والمكتري في
مقثاته ، فما أصاب الكمون من ذلك سقط عن
المكتري من الكراء . قيل له : أرأيت إذا أضر
الكمون بالمقثاة وغمها حتى نقصها في نباتها
وحملها ، فقال ربها أقلع عني الكمون فإنه قد
أضربي ، وابطل مقثاتي ، أذلك له ؟ قال : ليس
ذلك له ، فإن كان ذلك كذلك ونقصت المقثاة من
سبب الكمون وضع عنه من حصته من الكراء مقدار
ما نقص من المقثاة من قليل أو كثير ، لأن هذا
من سبب الأرض ، قال : وكذلك إن أبطلها كلها
وأحرقها كان مصيبتها منه ، ورجع بالكراء كله
فأخذه ، أو سقط عنه بمنزلة ما لو غرسها فلم
تنبت أصلا فلا كراء لرب الأرض ، لأن الهلاك
جاء من سبب الأرض .
(9/49)
قال محمد بن
رشد : هذه مسألة جيدة حسنة صحيحة مبنية على
أصولهم ، لأن رب الأرض لما أكرى أرضه وهو يرى
أن كمونه قد بطل وجب ألا يكون للمكتري أن
يقلعه ، إذا لم يغره ، وإنما فعل ما يجوز له ،
كمن زرع في أرض اكتراها وهو يظن أنه يتم قبل
انقضاء أمده ، فانقضى الأمد قبل تمام الزرع .
لا يكون لرب الأرض أني قلع زرعه ، وإذا لم يكن
له أن يقلعه وجب أن يحط عنه من الكراء بقدر ما
أضر به الكمون في مقثاته ، وإن أبطل الكمون
المقثاة سقط عنه جميع الكراء ، لأن بطلانها
جاء من قبل الأرض بالكمون الذي عابها ، ولم
يكن من قيل رب الأرض ، إذ لم يتعد فيما صنع ،
فأشبه نقصان الزرع في الأرض المكتراة ، أو
بطلانه من قبل القحط وقلة الماء . ومن هذا
المعنى مسألة وقعت في سماع عيسى من كتاب
المزارعة في بعض الروايات ؛ قال ابن القاسم من
أعطى رجلاً أرضاً له عارية فزرع فيها قطناً
فأثمر في عامه ، وجناه وبقيت أصوله فنما وأثمر
في عام قابل فتنازعاه ، فقال رب الأرض إني لم
أمنحك إلا العام الأول ، وقال زراع القطن : هو
لي ومن زريعتي . قال : إن كان القطن في البدل
يزرع كل عام كالزرع فحكمه حكم الزرع وهو لرب
الأرض . ثم قال بعد ذلك : إن القطن لمن غرسه .
وعليه كراء ما شغل القطن من الأرض ، إلا أن
يكون الكراء أكثر من القطن ، فلا يلزمه أكثر
منه ، وثبت على هذا وقال : لأنه أصول ، وقال
بعد ذلك في الزرع إذا لم ينبت في أول سنة ونبت
في الثانية إنه كالغاصب في حاله كله ، إلا أن
يكون الكراء أكثر من الزرع فليس عليه أكثر من
الزرع ، قال : وإن كان القطن أصولاً . تنتب في
الأرض السنين الكثيرة ، كما ينبت في السواحل ،
فأراه لرب القطن ، فإن اراد رب الأرض إخراجه
ولم تقم له بينة أنه أعاره سنة واحدة وحلف رب
القطن على دعوى رب الأرض ، فليعط رب الأرض لرب
القطن قيمة الأصول ، وذكر هذه المسألة من
أولها ابن سحنون عن أبيه مثله
(9/50)
قال . أبو محمد
في النوادر أراه جعل اختلافهما في مدة العارية
شبهة أوجب له بها قيمته أصولاً لا مقلوعاً بعد
يمين المستعير وكان الغرس كالحيازة بخلاف
اختلافهما في مدة سكني الدار وبالله التوفيق .
نوازل أصبغ ابن الفرج
وسئل أصبغ عن رجل تعدي على أرض رجل فزرعها
فجاء رب الأرض وقد فات أوان الحرث ، وقد اشتد
الزرع وكبر ، فقال للزارع أقلع زرعك فإني
أحتاج إلى أرضي أغرسها مقثاة أو أزرعها بقلاً
فأنتفع بها ، والأرض أرض سقي وهو يمكنه
الانتفاع بها . فهل ترى ذلك له ؟ فقال : لا
أرى ذلك له ، وليس فيها إلا الكراء ، لأنه قد
فات إبان الزرع وهو إن قلع زرعه لم يستطع أن
يزرع فيها زرعاً آخر ، لفوات إبان الزرع ،
فليس له أن يقلع زرعه وأرى هذا من الضرر بعد
أن خرج من إباه الزرع ، قلت أرضه هذه ليست من
أرض المطر ، إنما هي من أرض السقي وهو يسقيها
متى ما أحب ، وقد بقيت له فيما بقي من السنة
منفعة عظيمة من مقثاة يضعها أو بقل يزرعه ، أو
ما أشبه ذلك ، ومع ذلك أيضا أنه يريد قلبها
ليزرعها من قابل فهو إن ترك زرع هذا فيها لم
يقدر على أن يزرعها من قابل لأن الأرض إذا لم
تقلب عندنا لم يتنعم زرعها ولم يجد ولم يخاطر
الزارع فيها إلا بزريعة علوفة البقر والدواب
وعليه في ذلك أعظم المضرة . قال : إذا ذهب
إبان يزرع فيها مثل الزرع الذي هو فيها اليوم
فليس له أن يقلعه ليزرع فيها بقلاً ولا مقثاة
، وليس له إلا الكراء . قال : وأما ما ذكرت من
القليب الذي
(9/51)
يفوته فيها فإن
الذي يفوته من ذلك يستوفيه في كرائها ، لأن
كراءها إنما يحسب على قدر ما حبسها عنه وما
منعه من منفعتها ، وعلى قدرها وكرمها فهو
يستوفي جميع ذلك في الكراء .
قال محمد بن رشد : قوله إنه ليس له أن يقلع
زرع الغاصب من أرضه بعد خروج إبان الزرع وإن
كانت له في أرضه منفعة بقلعه من مقثاة يضعها
أو بقل يزرعه هو ظاهر ما في المدونة وغيرها من
أن زرع الغاصب لا يقلع بعد خروج إبان الحرث ،
والقياس أن يكون ذلك له إذا كان الأرض مما
تصلح للمقاثي والبقل وتبين أن رب الأرض لم
يقصد إلى الإضرار بالغاصب بقلع زرعه وأنه إنما
رغب في الانتفاع بأرضه للمقثاة أو البقل ، غذ
قد تكون المنفعة بذلك أكثر من المنفعة بالزرع
، وقد يدل على ذلك قول ابن الماجشون في
المجموعة عن مالك ، وقول المغيرة : إذا سنبل
الزرع فلا يقلع ، لأن قلعه من الفساد العام
للناس ، ويمنع من ذلك ، كما يمنع من ذبح
الفتايا مما فيه الحمولة من الإبل ، والحرث من
البقر ، وذوات الدر من الغنم ، لأن الزرع إذا
كان يقلع عندهما ما لم يسنبل ، ولا شك في أن
إبان حرث الزرع ينقضي قبل أن يسنبل الزرع
بكثير ، فقد أوجبا قلع الزرع بعد خروج الإبان
، وذلك لا يكون إلا لمنفعة تكون لصاحب الأرض
في أرضه بقية العام من مقثاة يضعها فيها أو
بقل أو ما أشبه ذلك والله أعلم . وقد روي ابن
وهب .
(9/52)
عن مالك أن له
أن يقلع الزرع سواء قدر أن يزرع أم لا قال :
والأول أحب إلينا ، وظاهر قوله أن له أن يقلع
الزرع وإن لم يقدر أن يزرع في الأرض شيئا
أصلاً ، ومعنى ذلك عندي إذا كان ينتفع بذلك
لحمام أرضه ، أو لوجه من وجوه المنافع غير
الزرع ، لأنه إذا لم يكن له في ذلك منفعة بحال
فهو بقلعه قاصد إلى الأضرار ، وقد قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم : (( لا ضرر ولا ضرار
)) ، وإذا لم يكن للغاصب في زرعه إذا قلعه
منفعة فليس له أن يقلعه ويكون لصاحب الأرض
لقول النبي عليه السلام (( ليس لعرق ظالم فيه
حق )) وإذا كانت له في قلعه منفعة إن قلعه
فيلزمه أن يقلعه وليس له أن يتركه لرب الأرض
إلا برضاه ، إذ من حقه ألا يقبل معروفه .
واختلف إن أراد رب الأرض أن يعطيه قيمته
مقلوعاً ويأخذه ، فقيل إن ذلك غير جائز ، لأنه
بيع الزرع قبل أن يبدو صلاحه ، وهو دليل ما في
سماع سحنون من كتاب المزارعة ، وقيل إن ذلك له
، وهو جائز ، لأنه في أرضه ويدخل بالعقد في
ضمانه وهو ظاهر ما في كتاب كراء الأرضين من
المدونة ولو رضي المستحق أن يترك الزرع للغاصب
بكراء يواجبه عليه الغاصب لم يحل . قاله ابن
المواز إذا كان الزرع صغيراً جداً لا منفعة
فيه للغاصب إن قلعه ، لأنه قد وجب لرب الأرض
فيدخله بيع زرع لم يحل مع كراء . قال ابن أبي
زيد ولو كان الزرع ينتفع به الغاصب لو قلعه
لجاز ذلك لأن الزرع قد
(9/53)
وجب للغاصب ،
فجاز أن يكتري الأرض من ربها على أن يقر زرعه
فيه ولا يقلعه وبالله التوفيق .
مسألة
وسئل أصبغ عن الرجل يكتري الدار أو الأرض
وفيها شجر تبع لكراء الدار وكراء الأرض فأراد
أن يستثني الشجر مع الأرض ولم تطب قال : إن
كانت الشجر تطيب قبل أن ينقضي كراء الدار أو
الأرض فلا بأس أن يستثنيها وإن كانت الثمرة لا
تطيب إلا بعد أن يمضي أمد الكراء الذي أكرى
فلا يجوز استثناؤه .
قال محمد بن رشد : هذا كما قال : ومثله في
الواضحة ، وهو مما لا اختلاف فيه لأنه إنما
أجيز للمكتري أن يستثني ثمر الشجر قبل طيبها
للضرورة التي تدخل عليه في دخول البائع عليه
لاجتناء الثمرة فإذا كانت لا تطيب إلا بعد
انقضاء أمد الكراء ارتفعت علة الجواز فوجب
المنع ، قال ابن حبيب في الواضحة وإن اكتراها
لأعوام واستثنى ثمرتها فانقضت السنون وفيها
ثمرة قد طابت أو لم تطلب فهي للمكتري بشرطه ،
ولا أعرف ما يخالف قوله ، ووجهه أن الكراء قد
صح على الشرط من أجل ما يطيب من الثمرة في مدة
الكراء فوجب أن يكون له ما يطيب بعد انقضائه
وبالله التوفيق .
من سماع أبي زيد بن أبي الغمر من ابن القاسم
قال أبو زيد : وقال ابن القاسم في رجل تكاري
من رجل
(9/54)
مبذر إردب من
أرضه قال : لا خير فيه .
قال محمد بن رشد : المعني في هذه المسألة أن
مساحة مبذر الإردب من الأرض غير معلومة ،
ولذلك قال في الكراء : إنه لا خير فيه ، يبين
هذا رواية عيسى عن ابن القاسم من المدنية
والمبسوطة فيمن اشترى من أرض الرجل مبذر أمداه
مسماة أنه إن كان بذر الأمداد معروفاً عند
الناس ليس فيه زيادة ولا نقصان وكانت الأرض في
الكرم واحداً ليس بينها تفاضل فلا بأس به،
يريد إذا وقع الشراء على أن يأخذ من حيث أحب
ولو كانت مساحة مبذر الإردب معلومة عندهم لجاز
الكراء وإن اختلفت الأرض إذا وقف المكتري على
الأرض وأحاط علماً بطيبها من دنيئها إذا وقع
مسكوتاً عليه ولم يشترط أن يأخذ من حيث أحب ،
وأما إن وقع على أن يأخذ من حيث أحب فيجوز عند
ابن القاسم على قوله في المدونة إن كانت الأرض
مستوية ولا يجوز عند غيره فيها وإن كانت
مستوية ، لأن معنى ما تكلمنا عليه فيها إذا
وقع الكراء على أن يأخذ المكتري حيث أحب ،
فاختلفا على اختلافهم في الرجل يشتري عشرة
ثياب يختارها من مائة ، فابن القاسم لا يجيز
ذلك إذا كانت الثياب أصنافاً مختلفة ، ويجيزه
إذا كانت صنفاً واحداً وإن كان بعضها أفضل من
بعض ، وغيره لا يجيز ذلك وإن كانت صنفا واحداً
إلا أن تكون مستوية ، لأن الأرض وإن استوت في
الكرم فقد تختلف أغراضها في النواحي وبالله
التوفيق .
(9/55)
مسألة
قال ابن القاسم في رجل اكترى داراً وفيها نخل
هي الثلث فاشترط ثمرتها فسكن نصف سنة ثم
أنهدمت الدار ، قال : إن كانت الثمرة قد طابت
قومت الدار بالثمرة ، وقومت بغير ثمرة ، فإن
وجدت الثمرة الثلث أخذ الساكن الثمرة وغرم
ثلثي الكراء ، وإن كانت لم تطب الثمرة أسلمها
إلى رب الدار وأدى إليه ثلث الكراء على هذا
يحسب .
قال محمد بن رشد : هذه الرواية تبين ما مضي في
رسم حمل صبياً من سماع عيسى ، وقد مضى القول
عليها هناك مستوفي فلا معنى لإعادته وبالله
التوفيق .
مسألة
وقال فيمن تكاري منزلاً بعشرة دنانير فسكن
ثلاثة أشهر ثم قال الساكن إنما أكريت منك
السنة بخمسة ، وقد نقد الخمسة قال : يتحالفان
ويتفاسخان على كراء عشرة في السنة ولا يستتم
السكني ستة أشهر ، وهذا مخالف لكراء الحمولة ،
وكذلك الذي يسلف دينارين في مائتي سل فيأخذ
بعضها ، ثم يقول البائع إنما بعتك مائة
بدينارين وقد قبض ديناراً وأخذ بقدر ما أخذ من
حساب مائة بدينارين والسلفة تشبه كراء الدور .
(9/56)
قال محمد بن
رشد : في بعض الكتب والسلفة تشبه كراء الدور
وهو أحسن ، ويريد أنه يشبهها في أن البيع
ينتقض في السلعة إذا تخالفا فيما زاد على
الأربعين سلا التي قبض ، كما ينتقض في كراء
الدار إذا تخالفا فيما زاد على الستة الأشهر
التي سكن ، بخلاف كراء الحمولة ، للضرر الداخل
على المكتري في انتقاض الكراء في بعض الطريق
ولو كان اختلافهما في بلدة لا يعدم فيه الكراء
لا نتقض إذا تخالفا فيما بقي من الطريق
كالسلعة وككراء الدار . وقوله إنهما يتحالفان
ويتفاسخان على كراء عشرة في السنة ، لفظ وقع
على غير تحصيل ، لأن الواجب على أصولهم أن
يتحالفا ويتفاسخا على كراء خمسة في السنة كما
أدعى الساكن إذا أشبه ما قال أشبه ما قال رب
الدار أو لم يشبه ، فتقسم الخمسة على ما سكن
وما لم يسكن فيرد حصة ما بقي ، فلا يلزم
الساكن في الستة الأشهر التي سكن إلا ديناران
ونصف ، لأنه مدعي عليه في الزائد ، وإنما
يتحالفان ويتفاسخان على كراء عشرة في السنة
كما أدعي رب المنزل إذا أشبه ما قال ، ولم
يشبه ما قال الساكن ، فتقسم العشرة على ما سكن
وما لم يسكن ، فلا يرد رب الدار شيئا من
الخمسة التي قبض ، لأنها واجبة له في الستة
الأشهر التي سكن على حساب عشرة في السنة ، ولو
لم يشبه قول واحد منهما لكان لرب الدار بعد
أيمانهما كراء المثل في الستة الأشهر التي سكن
، ويرد الزائد على ذلك من الخمسة التي قبض ،
وكذلك قوله في مسألة السلفة إنه يرد عليه من
الدينار بقدر ما أخذ من حساب مائة بدينارين
لفظ وقع على غير تحصيل ، لأن الواجب أن يرد من
الدينار ما زاد على ما يجب للأربعين التي
قبضها المشتري على حساب مائتي سل بدينارين إذا
أشبه ما قال ، أشبه ما قال البائع أو لم يشبه
، فيقسم الدينار على المائتي سل ، فلا يلزم
المبتاع في الأربعين التي قبض إلا خمسا دينار.
وإنما يرد من الدينار على حساب مائة سل
بدينارين ، كما أدعى البائع إذا أشبه ما قال ،
ولم يشبه ما قال المبتاع ، فيلزم المبتاع على
هذا في الأربعين التي قبض أربعة أخماس دينار
وبالله التوفيق .
(9/57)
وسئل عن رجل
حمل على نوتي طعاماً ودفع إليه الكراء فنقص
الطعام فأراد أن يأخذ من النوتي ذهباً . قال :
لا خير فيه ، لأنه يصير ذهباً وطعاماً بذهب ،
إلا أن لا يكون دفع إليه من الكراء شيئا فلا
يكون به بأس ، ولكن ليأخذ منه إذا ذهب من قمحه
شيء وقد دفع إليه الكراء قمحاً أو شعيراً إن
كان شعيراً .
قال محمد بن رشد : وهذا بين على ما قال على
أصله في الحكم بالمنع من الذرائع لأنهما
يتهمان على أنهما عملا على أن يكون ما دفع
إليه من الكراء بعضه ثمناً لحمل الطعام ،
وبعضه سلفاً يرده إليه فيدخله البيع والسلف ،
ولا حرج على فاعل ذلك فيما بينه وبين الله إذا
لم يقصد إلى ذلك ، ولا عقداً أمرهما عليه ،
ولو أخذ منه في النقصان عرضاً معجلاً أو صنفاً
آخر من الطعام لجاز . وبالله التوفيق .
مسألة
وقال في رجل اكترى بعيراً يحمل عليه ثلاث مائة
رطل إلى بلد ، فحمل عليه أربعمائة رطل ، فقدم
البلد وقد عجف البعير فنحره صاحبه ، ثم علم
بالزيادة التي حملت عليه ، قال : فصاحب البعير
مخير بين أن يكون له كراء ما زاد ، أو يكون له
ما بين القيمتين ، يريد فيما رأيت ما بين
قيمته يوم تعدي ، أو ما بين قيمته يوم قدم به
.
قال محمد بن رشد : قوله ما بين قيمته يوم تعدي
، قال بعض
(9/58)
الشيوخ معناه
في الموضع الذي تعدى فيه ، وذلك غير صحيح ، إذ
لا تصح أن تكون القيمة في ذلك يوم تعدي ، ولا
في الموضع الذي تعدى فيه ، إذ قد تكون قيمته
يوم تعدى وفي الموضع الذي تعدى فيه غير عجف
مثل قيمته يوم قدم أعجف أو أكثر من ذلك ،
فيذهب عداؤه باطلاً لا يجب عليه في شيء ،
وإنما الواجب أن يكون عليه ما بين قيمته يوم
قدم على الحال التي كان عليها يوم تعدى عليه
ويوم قدم به ، فيقوم على الحالتين جميعا يوم
قدم به فيغرم ما بين القيمتين وبالله التوفيق
.
مسألة
وقال في رجل اكترى بدينار منزلاً في السنة
فانقضت السنة ثم سكن فيها عشر سنين أخر من غير
أن يكون أكراه ولا تكارى منه إلا السنة الأولى
، قال : كراء السنة دينار على ما أكرى منه
ويلزمه قيمة كراء التسع سنين ، ولا يحسب كراء
التسع سنين على السنة الأولى . قال والساكن
مصدق إذا قال قد دفعت إليك الكراء إذا كانت
السنة قد انقضت . وقال ابن القاسم كتابة كراء
السنة الثانية براءة للساكن إذا قال قد دفعت
إليك كراء السنة الأولى .
قال محمد بن رشد : قد مضت هذه المسألة والقول
فيها مستوفي في رسم يوصي لمكاتبه ، ورسم إن
خرجت من سماع عيسى ، فلا معنى لإعادته وبالله
التوفيق .
مسألة
وسئل ابن القاسم عن رجل دفع إلى رجل دابة له ،
يعمل عليها يوما لصاحب الدابة ، ويوما للعامل
. قال لا بأس
(9/59)
به ، قيل أرأيت
لو أن العامل أخذ الدابة فعمل عليها أول يوم
لنفسه فنفقت الدابة من الغد قبل أن يعمل عليها
اليوم الذي لصاحب الدابة ؟ قال : أرى على
العامل لصاحب الدابة كراء دابته ذلك اليوم ،
قال : وإن كان أول يوم عمل عليها لصاحب الدابة
( فنفقت الدابة ) قبل أن يعمل عليها اليوم
الذي له ؟ قال : أرى على صاحب الدابة أن يدفع
إلى العامل أجرته فيما عمل ذلك اليوم .
قال محمد بن رشد : هذه مسألة أجازها ابن
القاسم ، وفي إجازته إياها نظر من وجهين :
أحدهما أنه لم يبينا في عقدهما إن كان يبدأ
العامل بيومه أو بيوم صاحب الدابة ، والأعراض
في ذلك تختلف ، فكان ينبغي إذا عرى الأمر في
ذلك من بيان أو نية أن يتبع ظاهر اللفظ في أن
يقدم من بدأ بتقديمه فيه ، وإن كانت الواو لا
توجب رتبة ، إذ قد قيل إنها توجب الرتبة ، وإن
اختلفا في ذلك بتصريح يدعيه كل واحد منهما ،
أو نية تحالفا على دعواهما ، أو على نياتهما .
فإن حلفا أو نكلا انفسخ الأمر بينهما ، وإن
حلف أحدهما ونكل الآخر كان القول قول الحالف
منهما . والظاهر من قوله أنه حمل أمرهما على
أنهما قصدا في تعاملهما أن يكون الخيار للعامل
في أن يقدم يوم من شاء منهما ، فهو الذي يدل
عليه قوله إن عمل عليها أول يوم لنفسه ،
فالحكم في ذلك كذا ، وإن عمل عليها أول يوم
لرب الدابة فالحكم في ذلك كذا . والوجه الثاني
أن المعنى في تعاملهما أن صاحب الدابة أكرى من
العامل دابته يوما يعمل فيه عليها لنفسه على
أن يعمل له عليها يوما آخر فكأنه قال ( له ) :
انتفع بدابتي اليوم وانتفع بعملك غدا
(9/60)
عليها ، فكان
القياس إما ألا يجوز ذلك إلا بشرط الحلف ،
وإما أن يكون الحكم يوجب الحلف وإن لم يشترطه
، فقوله إنه إن عمل عليها أول يوم لنفسه فنفقت
الدابة من الغد قبل أن يعمل عليها اليوم الذي
لصاحب الدابة أن على العامل لصاحب الدابة كراء
ذلك اليوم ، ليس بصحيح على أصولهم إذ لا
اختلاف بينهم في أن من استأجر أجيراً ليعمل له
على دابة بعينها أو ليرعى له غنماً بأعيانها
لا تنتقض الإجارة بموت الدابة أو الغنم ،
فالصحيح الذي يأتي على أصولهم أن الدابة إذا
نفقت قبل أن يعمل عليها اليوم الذي لصاحب
الدابة أن على صاحب الدابة أن يأتيه بدابة
يعمل عليها اليوم الذي له . وقد ذكر ذلك ابن
أبي زيد في النوالدر عن وكذلك لو نفقت قبل أن
يعمل عليها يأتيه بدابة يعمل عليها لنفسه ولرب
الدابة . وأما قوله إنها إن نفقت قبل أن يعمل
عليها اليوم الذي له ، فعلى صاحب الدابة أن
يدفع إلى العامل أجرته فيما عمل ذلك اليوم فهو
صحيح ، لأن من اكترى دابة بعينها فنفقت قبل أن
يركبها انتقض الكراء ورجع به إن كان قد دفعه
أو في قيمته إن كان عرضا مستهلكا ، كإجارته
فيما عمل ذلك اليوم ، وكذلك الحكم في هذا لو
قال له : أعمل عليها يومين لك ويومين لي أو
ثلاثة أيام لي ، وثلاثة أيام لك ، أو ما أشبه
ذلك من الأمد القريب ، ولو قال له : أعمل
عليها شهراً لنفسك وشهراً لي لوجب أن يجوز ذلك
إن بدأ بالشهر الذي لنفسه وأن لا يجوز إن بدأ
بالشهر الذي لصاحب الدابة ، لأنه بمنزلة من
اكترى دابة بكراء نقده على أن يركبها بعد شهر
، وذلك ما لا يجوز عند جميعهم . وقد ذهب بعض
الناس إلى أن هذه المسألة معارضة لما في
المدونة من أنه لا يجوز أن يقول الرجل للرجل
إعمل على هذه الدابة ولك نصف ما تكسب عليها
إذا لم يقل فيها إنها إجارة وكراء ،
(9/61)
كأنه أكرى منه
نصفها بنصف عمله على نصفها فيكون الكسب بينهما
كأنهما فيه شريكان ، وليس ذلك بصحيح ،
والمسألتان مفترقتان . لأنه فصل في هذه
المسألة ما يعمل على الدابة لنفسه مما يعمل
عليها لرب الدابة ، فوجب أن يجعل كراء الدابة
في يوم العامل ثمناً لأجرته في يوم رب الدابة
ولم يفصل بين ذلك في مسألة المدونة فوجب ألا
يجوز ، لأنه إما أن يكون صاحب الدابة أكرى
دابته بنصف ما يكسب العامل عليها ، وإما أن
يكون استأجر العامل ليعمل عليها بنصف ما يكسب
في عمله ، وذلك غرر بين في الوجهين والله
الموفق .
مسألة
وقال في الذي يستحمل الجرة فيعثر فتكسر وهو
قوي على حملها : لا ضمان عليه ولا جعل له وإن
لم يكن معه صاحبه فهو مصدق أنه عثر بها ، وقد
يكون معه فيعثر ولا يعلم بذلك صاحبه فهو مصدق
على قوله إنه عثر ، قال وإن كان كسرها معروفاً
فلا أجرة له ولا ضمان عليه ، وإن كان غير
معروف فله الأجرة إذا ضمن .
قال محمد بن رشد : هذا مثل ما في المدونة من
قول ابن القاسم وروايته عن مالك أن ما أتى
تلفه من قبل ما عليه استحمل من عثار إنسان أو
دابة لم يغرمها فلا ضمان على الأجير فيه ولا
كراء له لأنه حمل ذلك على البلاغ كالسفينة ،
وقد قيل إنه إذا سقط عنه الضمان لزم رب
(9/62)
المتاع أو
الطعام أن يأتي بمثله يحمله ويكون له كراؤه ،
وهو قول غير ابن القاسم في المدونة وهو أشهب ؛
وقيل إن له بحساب ما بلغ ولا يلزم رب المتاع
والطعام أن يأتي بمثله ،وهو الذي يأتي على قول
ابن نافع في المدونة في السفن أن له بحساب ما
بلغت ، وإذا ظهر الكسر فهو مصدق في العثار كما
قال . وأما إذا لم يظهر الكسر وكان غير معروف
فقوله إن له الأجرة إذا ضمن معناه أنه لا يصدق
فيما أدعاه من العثار والتلف ، ويضمن مثله في
أقصى الغاية وتكون له أجرته كاملة ، وهذا في
الطعام ، وأما في المتاع فالقول قوله في دعواه
تلفه ، وإن لم يعلم ذلك إلا بقوله ، وابن
الماجشون لا يصدقه في أنه عثر به وإن ظهر
الكسر ، وقد مضى القول على ذلك في نوازل سحنون
من كتاب جامع البيوع وبالله التوفيق .
مسألة
وقال في رجل تكارى من نوتي على أن يذهب إلى
الريف فيحمل له قمحاً بذهب فحمل ثم أقبل فلقيه
لصوص في بعض الطريق فأخذوا القمح . قال ابن
القاسم : أرى للنوتي أن يرفع ذلك إلى السلطان
ثمة حتى يكون هو الذي ينظر في أمره ، فإن جاء
وقدم ولم يرفع ذلك إلى الوالي رأيت أن يرجع
إلى الموضع الذي أصيب فيه فيحمل من ذلك الموضع
بمثل ما حمل عليه .
(9/63)
قال محمد بن
رشد : هذا صحيح على معنى ما في المدونة أنه إن
انصرف فارغاً وترك الرفع إلى السلطان أو
التلوم والإشهاد إن كان في موضع لا سلطان فيه
فيلزمه الرجوع إلى ذلك الموضع ليحمل ( له )
مثل ذلك القمح . وسواء على مذهب ابن القاسم ،
كان الكراء موجوداً بذلك المكان أو غير موجود
، وقال ابن وهب إن كان الكراء بذلك الموضع
موجوداً انفسخ الكراء فلم يكن له كراء ولا كان
عليه أن يرجع ثانية ن وإن كان الكراء بذلك
الموضع غير موجود كان له كراؤه ولم يكن عليه
أن يرجع ثانية ، وسيأتي القول على هذه المسألة
مستوفي في ( أول ) سماع ابن القاسم من كتاب
الرواحل والدواب إن شاء الله تعالى وبه
التوفيق .
مسألة
وقال في رجل تكاري من نوتي إلى الإسكندرية
فلما بلغ المليوس وقف المركب من قلة الماء ،
قال : يحاسبه على قدر ما بلغ من الكراء قيل له
: فإن النوتي ظن أنه يلزمه حمولته إلى
الإسكندرية فاكترى على ذلك المتاع من المليوس
بمثل كرائه حتى بلغ به الإسكندرية ، قال : لأ
شيء للنوتي لو شاء لم يفعل ، لأن ذلك ليس عليه
هو في موضع يجد السلطان فيخاصمه إليه حتى يفسخ
عنه ، قيل له : أرأيت لو أن المركب وقف في
موضع ليس فيه أحد ولا يجد فيه سلطاناً فخشي أن
يهلك ذلك المتاع
(9/64)
واكترى عليه ؟
قال : لعل هذا وهذا لا يشبه عندي الأول ، لأنه
في موضع يخشى وهو لا يجد السلطان.
قال محمد بن رشد : إذا كان الحكم إذا وقف
المركب في الطريق من قلة الماء أن يأخذ صاحب
المتاع متاعه بذلك الموضع ويحاسب الكرى فيكون
له من كرائه على قدر ما سار من الطريق ،
فالنوتي في كرائه على المتاع وحمله محط على
صاحبه فيه ، فإذا كان صاحب المتاع لا بد له من
الكراء على المتاع من حيث وقف المركب إلى حيث
أكرى عليه النوتي ، فقول ابن القاسم إنه لا
شيء له فيما حمله لو شاء لم يفعل معارض لقوله
في الذي يكري على حمل الحمل فيخطئ ويحمل غيره
أنه ( إن ) أراد أخذ الحمل لم يكن له إلا أن
يغرم له الكراء ، وفي الذي استأجر حصادين على
أن يحصدوا زرعا له ، فحصدوا زرعا لغيره أو
استأجر أجراء ليحرثوا له أرضاً فحرثوا أرضاً
لغيره أن على الذي حصد زرعه أو حرثت أرضه أن
يغرم للأجراء قيمة عملهم إن كان لابد له من
الاستيجار على ذلك ، مثل قول أشهب في نوازل
أصبغ في مسألة الكري يخطئ فيحمل غير الحمل
الذي اكترى على حمله . وأما إن كان المركب وقف
في موضع ليس فيه سلطان ولا أحد ، وخشي النوتي
أن يهلك المتاع فأكرى عليه فوجوب الكراء له
على صاحب المتاع بين على قول مالك في المدونة
وغيرها في الذي يلتقط المتاع فيحمله إلى موضع
من المواضع ، أن ربه لا يأخذه إلا أن يدفع إلى
الذي حمله الكراء الذي حمله به وبالله التوفيق
.
مسألة
قال ابن القاسم في رجل تكاري داراً سنة بدينار
فإن زاد
(9/65)
فبحسابه ، وإن
نقص من السنة فبحسابه ، قال : لا بأس بهذا ما
لم ينقد الدينار .
قال محمد بن رشد : قد تقدمت هذه المسألة
والقول عليها في رسم نذر سنة من سماع ابن
القاسم فلا معنى لإعادته وبالله التوفيق .
مسألة
قال ابن القاسم فيمن تكورى منه على حمولة متاع
فأخطأ الحمال فحمل غيره ، فصاحب المتاع مخير
بين أن يدفع الكراء أو يكون له قيمت متاعه في
البلد الذي حمل منه ، قال : فإن كان ذلك من
الحمال تعديا كان صاحب المتاع مخيرا بين قيمة
متاعه أو يأخذ متاعه بالبلد الذي حمل إليه ،
ولا كراء للحمال على صاحب المتاع .
قال محمد بن رشد : أما إذا تعدى الحمال فحمل
ما لم يستأجر على حمله فلا اختلاف في أن صاحب
الحمل بالخيار بين أن يضمن الحمال قيمة الحمل
بالموضع الذي حمله منه ، وبين أن يأخذه في
الموضع الذي حمله إليه ولا يكون للحمال في
حمله كراء لقول النبي عليه السلام : (( ليس
لعرق ظالم )) وأما إذا أخطأ في حمله وظن أنههو
الذي استحمل إياه فلصاحب الحمل أن يضمنه قيمته
بالموضع الذي حمله منه ، واختلف إن أراد أن
يأخذه في الموضع الذي حمله إليه ، هل عليه أن
يغرم للحمال كراءه أم لا ؟ - على ثلاثة أقوال
: أحدها أنه لا يأخذه إلا أن يغرم الكراء
للحمال ، وهو
(9/66)
قول ابن القاسم
ها هنا ، وفي نوازل أصبغ من كتاب الرواحل
والدواب ، وقول ابن وهب ومطرف فيه . والثاني
أن له أن يأخذه ولا شيء عليه من غرم الكراء ،
وهو قول أشهب في نوازل أصبغ من كتاب الرواحل
والدواب ، وقياس قول ابن القاسم فوق هذا في
مسألة المركب يقف في بعض الطريق من قلة الماء
، وظاهر قوله في أول مسألة من سماع يحيى من
كتاب البضائع والوكالات في مسألة الخصام .
والثالث أن له أن يأخذه ولا كراء عليه إلا أن
يكون عازماً على أن يبلغه إلى ذلك المكان
فيكون عليه إذا اختار أخذه كراء مثله إلى ذلك
المكان لا الكراء الذي أكراه به ، وهو قول ابن
حبيب في الواضحة وقياس قول ابن القاسم بعد هذا
في مسألة الذي يستأجر الأجراء لحصاد زرعه أو
حرث أرضه فيخطئون فيحصدون زرعاً لغيره ، أو
يحرثون أرضا لغيره ، وحكى ابن حبيب عن أصبغ أن
لرب الحمل أن يكلف الحمال رد الحمل الذي أخطا
به إلى البلد الذي حمله منه ، ويكون في ضمانه
حتى يرده إلى موضعه . ولا اختلاف بينهم أن على
الحمال أن يرجع فيحمل الحمل الذي تكوري على
حمله وبالله التوفيق .
مسألة
وقال : كنس المراحيض على السكان إلا أن تكون
دور الفنادق فإن كنس مراحيضها على المكري .
قال محمد بن رشد : اختلف في كنس مراحيض الدور
المكتراة ، فقيل : إنها على السكان ، وهو قول
ابن القاسم في هذه الرواية . وقيل إنها
(9/67)
على أصحاب
الدور ، وهو قول ابن القاسم في رواية ابن أبي
جعفر عنه أن كنس التراب والمرحاض على صاحب
المنزل ، إلا أن يكون اشترط ذلك على الساكن .
قال : ولا يجوز أن يشترطه عليه إلا أن يكون
نقيا وهو قول أشهب إنه على صاحب الدار إذا لم
يكن لهم في ذلك سنة يحملون عليها ، ولم يختلف
في هذا قول أشهب ولا اضطرب فيه أصله ، وقد
ذكرنا ذلك في رسم باع شاة من سماع عيسى من
كتاب جامع البيوع ، وفي المدونة دليل على
القولين جميعا . وأما دور الفنادق التي تكري
مشاهرة إلى غير أمد معين من المسافرين وغيرهم
، فلا اختلاف في أنه لا شيء من ذلك على السكان
فإن أكرى صاحب الفندق فندقه جملة لعام أو
أعوام من متقبل يكريه من السكان فيه دخل
الاختلاف المذكور في ذلك ، هل يكون الكنس على
صاحب الفندق ؟ أم على المتقبل له للعام أم
للأعوام ؟ وبالله التوفيق .
مسألة
وعن رجل كان له قارب وشبكة فدفعها إلى صياد
على أن يصيد له يومين ولنفسه يوماً قال : أرجو
أن يكون خفيفاً إن كان ذلك قريباً ، قيل شهرين
فرأيته يستكثر شهرين .
قال محمد بن رشد : قد مضى قبل هذا في هذا
السماع من
(9/68)
تكلمنا على
الذي يدفع دابته إلى الرجل على أن يعمل عليها
يوماً له ويوماً لصاحب الدابة ما يغني عن
القول في هذه المسألة لاتفاقهما في المعنى
وبالله التوفيق .
مسألة
وسئل عن رجل استأجر حصادين على أن يحصدوا
زرعاً له فذهبوا فحصدوا زرعاً لغيره هو قريب
من زرعه . قال : إن كان الخطأ جاء من قبل
الأجراء فإنه ينظر إلى صاحب ذلك الزرع ، فإن
كان له أجراء وعبيد ن يريد أنه لا يحتاج إلى
الإجارة في حصاد زرعه لم يكن عليه شيء وبطل
عملهم ، وإن كان الخطأ جاء من قبل صاحب الزرع
، قال لهم أحصدوا لي هذا الزرع وهو يظن أنه
زرعه ، وكان صاحب ذلك ( الزرع ) لا أجراء له
ولا عبيد ، ولا بد له من أن يستأجر على حصاد
زرعه ، فإن عليه أن يدفع إلى الذي استأجر
الحصادين قيمة عمل الأجراء ، ويون للإجراء على
الذي استأجرهم أجرتهم التي استأجرهم عليها .
قال محمد بن رشد : قد مضت هذه المسألة متكررة
والقول فيها في آخر كتاب الجعل والإجارة فلا
معنى لإعادة القول فيها والله الموفق .
(9/69)
مسألة
وسئل عن رجل استأجر أجراء يحرثون له أرضا فذهب
الإجراء فحرثوا أرضا إلى جنب أرضه وهم لا
يعلمون وإنما جاء الخطأ من قبل الأجراء ، أترى
على صاحب الأرض التي حرثت أرضه أجر ما عملوا ؟
قال : إن زرعها وأنتفع بذلك الحرث كان عليه
ذلك ، وإن لم ينتفع به وقال لم أرد زرعها
وإنما أردت أن أكريها فلا أرى عليه شيئا .
قال محمد بن رشد : وهذه أيضاً قد تقدمت في آخر
كتاب الجعل والإجارة متكررة والقول فيها ، فلا
معنى لإعادته وبالله التوفيق .
مسألة
وسئل عن رجل استأجر له بناءً يبني له داراً
بالريف بموضع معروف على صفة معروفة ، فذهب
البناء إلى الريف فيجد البقعة قد استحقت فيرجع
، قال : أرى له إجارته ذاهباً ، ولا أرى له في
رجوعه شيئاً .
قال محمد بن رشد : وهذه المسألة أيضاً قد مضت
متكررة في آخر كتاب الجعل والإجارة ، ومضى
القول عليها هناك ، فلا معنى لإعادته وبالله
تعالى التوفيق لا شريك له . تم كتاب كراء
الأرضين بحمد الله تعالى .,
(9/70)
|