البيان
والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة
كتاب الرواحل والدواب
(9/71)
من سماع ابن
القاسم من مالك رواية سحنون
من كتاب الرطب باليابس
قال سحنون أخبرني ابن القاسم ، قال : سمعت
مالكاً قال في رجل تكاري دابة في طلب ضالة أو
آبق وسمى بلدة من البلدان بكراء مسمى على أنه
إن وجد دابته أو غلامه دون ذلك الموضع رجع ،
وكان عليه بحساب ذلك من الكراء بقدر ما تكاري
وقدر ما سار من الطريق . قال : لا أرى به
بأساً إذا لم ينقد ، فأما إن قال : إن وجدت
حاجتي بمكان كذا وكذا فلك كذا وكذا ، وإن لم
أجدها بمكان كذا وكذا فلك كذا وكذا ، وذلك
بحثان فأنا أكرهه وأراه مخاطرة.
قال محمد بن رشد : أما إذا اكترى الدابة إلى
بلد مسمى في حاجة أو طلب دابة أو آبق على أنه
إن وجد حاجته أو ضالته بالطريق
(9/73)
رجع وسقط عنه
من الكراء بحساب ما بقي من الطريق . فقوله إن
ذلك جائز إذا لم ينقد هو عند مالك على مذهبه
بترك الاعتبار بعلة الأطماع مثل قوله في رسم
نذر سنة من سماع ابن القاسم من كتاب كراء
الدور والأرضين في الذين يكتري الدار سنة على
أنه إن خرج قبل السنة حاسبه بما سكن ، ومثل
قوله بعد هذا في هذا الكتاب في رسم الشجرة ،
ورسم باع غلاماً من هذا السماع ، ومثل ما في
المدونة أيضاً من قول ابن القاسم وروايته عن
مالك في الذي يستأجر الأجير شهراً على أن يبيع
له ثوباً ، على أن المستأجر متى شاء أن يترك
ترك ، إن ذلك جائز إذا لم ينقد لأنها إجارة
بخيار . وسحنون لا يجيز هذه المسألة على ما
قاله في رسم الشجرة بعد هذا ، وإن لم ينقد ،
ولا مسألة المدونة ، بخلاف مسألة الذي يكتري
الدار سنة على أنه متى شاء أن يخرج خرج ، هذا
جائز عنده وعند الجميع ما لم ينقد ، وإنما لم
تجز هذه المسألة عند سحنون ولا مسألة المدونة
المذكورة ، لأنه يراه مجهلة في الكراء
والإجارة ، وقال الفضل في مسألة . المدونة
إنما لم يجز ذلك عند سحنون لأنه كراء بخيار
إلى أمد بعيد ، وليس كما قال ، لأنه إنما هو
بالخيار في الجميع الآن ، وكلما مضى من الشهر
شيء كان بالخيار فيما بقي ، فليس كالسلعة التي
يشتريها على أنه بالخيار فيها مدة طويلة ،
لأنه يحتاج إلى توقيفها إلى انقضاء أمد الخيار
، فلذلك لا يجوز ، وليس ذلك في الإجارة
والكراء ، إلا أن يكتري الدابة على أن يركبها
بعد شهر ، أو يستأجر الأجير على أن يخدمه بعد
شهر على أنه بالخيار في الإجارة والكراء إلى
انقضاء الشهر ، وإنما لم يجز ذلك عند سحنون
لأنه عنده غرر وإن لم ينقد لانفساخ الإجارة
فيما بقي من الشهر ببيع الثوب ،كما أن كراء
الدابة عنده إلى بلد في حاجة على أنه إن
(9/74)
وجد حاجته دون
البلد ( رجع ) وكان له بحساب ما سار غرر
لانفساخ الكراء فيما بقي من الأمد ، فهذه هي
العلة عنده في المسألتين جميعاً ، لا الخيار
إلى أمد بعيد كما قال الفضل ، لأنه إذا جاز أن
يكتري الرجل الدار سنة بكذا على أن كل واحد
منهما بالخيار يخرج المكتري متى ما أراد
ويخرجه رب الدار متى ما أراد ويخرجه رب الدار
متى ما أراد جاز على أن أحدهما بالخيار قياساً
على البيع الذي يجوز على أن أحد المتبايعين
فيه بالخيار كما يجوز على أنهما جميعاً فيه
بالخيار ، وأما إذا اشترط في كراء الدابة إلى
البلد المسمى أنه إن لم يجد حاجته بالبلد الذي
تكارها إليه تقدم بها إلى موضع آخر ، ففي ذلك
ثلاثة أقوال : أحدها أن ذلك لا يجوز إلا أن
يسمى الموضع الذي شرط أنه بالخيار في أن يتقدم
إليه ويكون تبعا للكراء الأول وبحسابه ، فإن
لم يكن تبعا للكراء الأول أو كان بخلافه أرخص
أو أغلى او مبهماً لا يدري إن كان بحسابه أم
لا ؟ إلا بعد ( النظر ) لم يجز . وهو مذهب ابن
الماجشون لعلة الأطماع ، وذلك أنه لم يكر منه
الوجيبة الأولى إلا رجاء في الثانية ، وليس
على يقين منها لكون المكتري بالخيار فيها ،
والثاني أن ذلك جائز إذا سمى الموضع الذي شرط
أن يتقدم إليه إن شاء أو كان وجهه معروفاً وإن
لم يسمه وكان بحساب الكراء الأول ، وإن لم يكن
تبعا وهو ظاهر قول مالك في أول رسم من سماع
أشهب بعد هذا ، وما في رسم أوصى من سماع عيسى
بعد هذا . ووجه هذا أن علة الإطماع عنده ضعيفة
فلم يعتبرها إلا مع اختلاف الكراء . والثالث
أن ذلك جائز إذا سمي الموضع الذي شرط أن يتقدم
إليه إن شاء أو كان وجهه معروفاً وإن كان
بخلاف الكراء الأول وغير تبع له ، وهذا مذهب
ابن القاسم على أصله في ترك الاعتبار بعلة
الإطماع ، وقد اختلف في علة المنع من اجتماع
الجعل
(9/75)
والإجارة في
صفة واحدة ، فقيل إنها جارية على هذا الأصل ،
وإن الاختلاف يدخل منه فيها بالمعنى لأن
الإجارة لازمة بالعقد ، والجعل غير لازم ، وقد
وقع لسحنون في المغارسة إجازة اجتماعهما في
صفقة ، وقيل إنه إنما لم يجز اجتماعهما في
صفقة من أجل أنهما أصلان مفترقا الأحكام ،
كالبيع والنكاح والصرف ، لا من جهة علة
الأطماع والله أعلم به .
مسألة
وقال في الرجل يتكارى الدابة ويقول الذي اكترى
الدابة : إن تأخرت بها عني عن يوم سماه فكل
يوم بعد ذلك بدرهم ما أقمت ، قال : هذا مكروه
من الكراء ، والشرط مفسوخ ، فإن فات فتأخر عن
ذلك لم يكن له الاكراء ذلك ، ولم ينظر في شرطه
، وكذلك المتعدي ضامن وليس على هذا خيار ولا
ضمان .
قال محمد بن رشد : قوله هذا مكروه من الكراء
والشرط مفسوخ يدل على أنه إنما فسخ الشرط لا
العقد ، والوجه في ذلك أنه رأى أنه لن
(9/76)
يقصد بالشرط
إلا ألا يحبس عنه الدابة بعد انقضاء الكراء
إلى المغاررة فيه فوجب أن يمضي إذ لم يكن
للشرط الفاسد فيه تأثير ، كما قالوا في الذي
يبيع الثمرة ويشترط البراءة من الجائحة لأن
الشروط المقترنة بالبيوع ( تنقسم ) عند مالك
على أربعة أقسام : شرط فاسد له تأثير في الثمن
يفسخ به البيع ، وشرط فاسد لا تأثير له في
الثمن ، يفسخ دون البيع ، وشرط صحيح يجوز فيه
البيع والشرط ، وشرط يقتضي التحجير على
المشتري فيما اشترى يفسخ فيه البيع ما دام
مشترط الشرط متمسكاً بشرطه ، فإن رضي بترك
الشرط جاز البيع ، وإن فات كان فيه الأقل من
الثمن إن كان البائع هو مشترط الشرط ، وقد
فسرنا هذه الوجوه وما فيها من الاختلاف في غير
هذا الكتاب وبالله التوفيق .
مسألة
وقال مالك في النفر يتكارون السفينة فيحملون
فيها طعاماً لهم فإذا بلغوا قال أول من يمر
بمنزله منهم أنا آخذ طعامي فأخذ طعامه ، ثم إن
السفينة غرقت ، قال : ليس عليه تبعة لأصحابه
أذنوا في ذلك أو لم يأذنوا ، وليس عليه أن
يبلغ معهم بطعامه ثم يرجع إلا أن يكتالوا
فينقص الكيل فيكون عليه بقدر طعامه .
قال محمد بن رشد : المعنى في هذه المسألة أنهم
اكتروا السفينة على أن يحملوا فيها الطعام إلى
منازلهم ، فوجب كل ما مر أحد منهم
(9/77)
بمنزله أن يأخذ
طعامه ، لأنه على ذلك حمله معهم ، فإن نقص
الطعام بعد ذلك كان عليه من النقصان بحساب
طعامه يرجع به عليه ، لأنه حمله معهم على سبيل
الشركة ، وكذلك لو وجد أسفل القمح قد أسود
وفسد لموج ركبه ، إلا أن يعلم أن فساده إنما
كان بعد أخذه طعامه فلا يكون عليه في ذلك تبعة
كما لو غرق المركب بعد أن أخذ طعامه فذهب بما
فيه . وأما لو حملوا الطعام في سفينة إلى بلد
واحد لتجارة أو لغير تجارة فخلطوه أو اختلط لم
يكن لواحد منهم أن يأخذ طعامه بالطريق إلا
برضي أصحابه ، مخافة أن يكون أسفل الطعام
فاسداً أو يفسد بعد ذلك ، أو ينقص في الكيل ،
فإن أخذ طعامه في الطريق برضى أصحابه لم يكن
لهم ع ليه تابعة إن ألفوه فاسداً أو نقص كيله
على ما قاله في رسم الأقضية الثاني من سماع (
أشهب ) من كتاب الشركة وما يأتي له بعد هذا في
رسم حلف وفي رسم أخذ يشرب خمراً ، ومن الناس
من ذهب إلى أن رواية أشهب في كتاب الشركة
معارضة لرواية ابن القاسم هذه ، والصحيح أنه
لا تعارض بينهما ولا اختلاف على ما بيناه
وبالله التوفيق .
مسألة
وسئل مالك عن رجل تكاري ظهراً ثم سيره إلى
وكيل له يحمل له من عنده طعامه فذهب الكري
بظهره فلم يجد الوكيل فكري لنفسه ، ثم رجع
فقال لصاحبه : لم أجد وكيلك
(9/78)
فأكريت لنفسي ،
فقال الذي اكتراه : أنا أحق بالكراء الذي
أكريت منك لأني أرسلتك . قال : الكراء لصاحب
الظهر ، وعليه أن يرجع لصاحبه مرة أخرى ، ولو
أنه إذ لم يجده تلوم وطلبه وكلم إمام ذلك
البلد ، وأشهد على ذلك من أمره لم يكن عليه أن
يعود ثانية ، ولو لم يفعل ذلك فأكرى ظهره
لصاحبه ، وقال : طلبت وكيلك فلم أجده وأكريت
أنا لك ، فهذا كراؤك ، لوجب ذلك على صاحب
الطعام ، فأخذ ما جاء به من الكراء ولم يكن له
عليه غير ذلك . قال ابن القاسم : وسمعت مالكاً
قال : إذا كان في الكراء فضل إذا أكراه صاحب
الظهر لصاحبه رأيته للمكري ، فإن كان في
الكراء نقصان كان على المتكاري . قال ابن
القاسم : وكأني رأيته وجه ما ذهب إليه من فضل
ما قد أعطاه أن يأخذ منه أكثر من ذلك ، ولو أن
إماماً أكرى ذلك له بعد أن رفعه إليه لكان
للمكتري غنمه وعليه نقصانه . قال ابن القاسم
من قول مالك : لو أن السلطان تلوم له وطلب له
الكراء فلم يجده خلى سبيله ، فكان له الكراء
كله الذي تكارى عليه وإن لم يحمل على ظهره
شيئاً ، ومما يبين ذلك أن الرجل يتكارى إلى
الحج فيهلك في بعض الطريق ، فإنه يتلوم له في
شقه ساعة فيطلب له كراء ، فإن وجد له كراء
أكرى شق الميت ، وإن لم يوجد له كراء لم ينقص
الكري من حقه شيئاً . قال سحنون : إذا أكرى
صاحب الظهر على وجه
(9/79)
النظر له بأكثر
مما كان أكرى منه أو بأقل فإنه ينظر ، فإن كان
أكرى بأكثر كان المتكاري بالخيار ، إن شاء أخذ
منه قدر رأس ماله وأعطاه الفضل فتكون إقالة ،
وغن شاء رده وكان الكراء كله للمتكاري ، وإن
كان أكرى بأقل لم يضمن ، وكان له كراؤه ، وكان
عليه الرجوع ثانية ، إلا أن يتراضيا على شيء
فيكونان على ما أصطلحا عليه .
قال محمد بن رشد : هذه مسألة وقعت ها هنا ،
وفي الرواحل والدواب من المدونة وهي تتفرع إلى
وجوه تنقسم إليها في بعضها اختلاف . وتحصيل
القول فيها أنه إن ترك الكري الرفع إلى
السلطان أو التلوم والإشهاد في موضع ليس فيه
سلطان فلا يخلو أمره من أنت يكون أكرى إبله
راجعاً أو رجع بها فارغاً ، فإن أكراها راجعاً
فلا يخلو من أن يكون أكراها لنفسه أو للمكتري
، وإن رجع بها فارغاً فلا يخلو أيضاً من أن
يكون الكراء موجوداً أو غير موجود ، فأما إذا
أكرى لنفسه فالكراء له ، وعليه الرجوع ثانية
قولاً واحداً ، وأما إذا أكرى للمكتري فقيل إن
المكتري مخير ، إن شاء أخذ الكراء كله إن كان
لم ينقد أو قدر رأس ماله منه إن كان نقد ، وإن
شاء رده على الطعام وهو قول سحنون ها هنا .
ومذهب ابن القاسم وروايته عن مالك على ما في
المدونة . وقيل يفسخ الكراء الأول ويلزم
المكتري الكراء الثاني ، إلا أنه لا يأخذ
الفضل إن كان نقد وهو ظاهر رواية ابن وهب عن
مالك في المدونة . وظاهر هذه الرواية أيضا ،
وإن كان
(9/80)
قد قال أبو
إسحق التونسي ( إن ) معناها إذا رضي بما فعل ،
ولو لم يرض بفعله لكان ( الكراء ) الأول
قائماً بينهم وهو صحيح في المعنى ، غير أن
ظاهر اللفظ لا يساعده . وأما إذا انصرف بإبله
فارغاً والكراء موجود فقيل يلزمه الرجوع عن
الطعام وهو الذي يأتي على مذهب ابن القاسم
وروايته عن مالك في المدونة ، وقيل يفسخ
الكراء ولا يكون له شيء ، وهو ظاهر رواية ابن
وهب عن مالك في المدونة . وأما إذا انصرف
بإبله فارغاً والكراء غير موجود ، فعلى مذهب
ابن القاسم وروايته عن مالك يلزمه الرجوع
ثانية ، وعلى رواية ابن وهب عن مالك لا يلزمه
الرجوع ويكون له جميع الكراء . والتلوم
والإشهاد في موضع لا سلطان فيه يقوم مفام
الرفع إلى السلطان إذا أكرى ( الكري ) للمكتري
، أو لم يجد كراء فانصرف فارغاً بغير كراء .
فأما إن أكرى لنفسه فقال ابن حبيب : إن
المكتري مخير ، إن شاء أسلم إليه الكراء ورده
بحمل متاعه ، وإن شاء أخذ الكراء ، فإن شاء
أخذه فانظر فإن كان فيه فضل فالفضل للمكري ،
وإن كان فيه نقصان فعلى المتكاري وهو صحيح في
النظر على أصولهم ولا تأثير للتلوم . والاشهاد
في موضع يكون فيه سلطان يمكن الرفع إليه ،
وإذا انصرف بإبله فارغاً وقال لم أجد كراء
فيلزمه إقامة البينة على ذلك عند مالك على
رواية ابن وهب
ومن كتاب القبلة
قال مالك في رجل تكارى من رجل وله دابة أو
سفينة لا يعلم له غيرها ، فتكارى منه إلى بلد
مسمى ، ولم يشترط عليه
(9/81)
أنك تحملني في
سفينتك أو على دابتك ، ثم تصاب السفينة أو
الدابة بعدما يركب ، قال : لا أرى إلا أنه
ضامن ، على الكري أن يبلغ المتكاري إلى حيث
يشترط عليه إلا أن يكون قال دابتي هذه ، أو
سفينتي هذه .
قال محمد بن رشد : هذا هو المشهور في المذهب
أن الكراء محمول على المضمون ، وإن قال دابتك
أو سفينتك حتى يعينها بالتسمية لها أو الإشارة
إليها ، فيقول دابتك الفلانية أو دابتك هذه
وهو معنى ما في نذور المدونة ، وفي سماع يحيى
من كتاب الإيمان بالطلاق خلاف ما يقوم من رسم
لم يدرك من سماع عيسى منه ، وقد مضت هذه
المسألة مستوفاة في أول سماع ابن القاسم من
كتاب الجعل والإجارة وبالله التوفيق .
مسألة
وقال مالك فيمن تكاري على حمل متاع بعينيه
يريد المكري إلى بلد معلوم ، فسرق ذلك المتاع
قبل أن يخرج به أو بعد ما سار به بعض الطريق ،
إن ذلك سواء خرج أو لم يخرج ، الكراء له لازم
، إن شاء جاء بمثل ذلك المتاع ، وإن شاء أكرى
ذلك البعير لمن يحمل عليه ، وسواء كان ذلك قبل
أن يخرج أو بعد خرج إن كان صاحبه مع .
قال محمد بن رشد : هذا قول ابن القاسم وروايته
عن مالك في
(9/82)
المدونة ، أن
الكراء لا يفسخ بتلف الشيء المستأجر على حمله
وهو المشهور في المذهب ، خلاف ما في رسم
الكراء والأقضية من سماع أصبغ من هذا الكتاب
أن الكراء يفسخ . وهذه المسألة يتحصل فيها
ثلاثة أقوال : أحدها أنه يفسخ بتلفه جملة من
غير تفصيل . والثاني أنه لا يفسخ بتلفه جملة
أيضا من غير تفصيل . والثالث الفرق بين أن
يتلف بأمر من الله ، أو من قبل ما عليه استحمل
، فإن تلف بأمر من الله لم يفسخ الكراء ، وإن
تلف من قبل ما عليه استحمل انفسخ الكراء فيما
بقي ولم يكن له شيء فيما مضى . وقيل ( إنه )
بحساب ما سار ، وقد مضى هذا في سماع أبي زيد
من كتاب كراء الدور ، وقد مضى أيضا تحصيل هذا
في غير ما موضع من كتاب الجعل والإجارة ، من
ذلك ما وقع في رسم طلق من سماع ابن القاسم ،
ورسم العتق من سماع عيسى وبالله التوفيق .
ومن كتاب حلف ألا يبيع سلعة سماها
وسئل عن قوم تكاروا من كري تخلف عنهم ببعض
الطريق فأنفقوا على إبله في علفها ، أو مات
بعير فتكاروا عليه ،
(9/83)
أترى ذلك يلزمه
؟ فقال : نعم أرى أن يلزمه ذلك إذا كان الذي
صنعوا يشبه ما ينفق عليها ، ثم قال : أرأيت لو
كان معهما أليس ( كان ) ينفق عليها ويتكارى ؟
فقيل له : إنهم اشتروا بعيراً ، قال : لا أدري
ما الاشتراء ، أرأيت لو ماتت كلها أكانوا
يشترون إبلاً ؟ إنكاراً أن يكون عليه شيء .
قال ابن القاسم وذلك رأيي في الاشتراء .
قال محمد بن رشد : هذا بين على ما قال إن
الكري إذا تخلف عن المكتري فأنفق على إبله أن
له أن يرجع ( عليه ) بما أنف عليها ، لأنه لما
غاب وترك إبله عنده ، فكأنه قد أذن له في
الإنفاق عليها ، إذ قد علم أنها لا تستغني عن
الإنفاق عليها ، وأنه إذا اشترى عليه بعيراً
لا يلزمه ، إذ لا يجب الحكم عليه بذلك لو رفعه
إلى السلطان . وأما إذا اكترى عليه فإن كان
بعد أن تلوم وأشهد في موضع لا سلطان فيه فبين
أنه يرجع عليه بما اكترى به عليه . وأما إن
كان اكترى عليه دون أن يرفع إلى السلطان أو
دون أن يتلوم ويشهد إن كان في موضع ليس فيه
سلطان فيتخرج ذلك على قولين : أحدهما أنه
يلزمه الأقل مما أكرى به عليه أو قيمة ذلك ،
ويكون له كراؤه . والثاني أنه لا يلزمه ذلك ،
ولا يكون له كراء . والقولان يقومان من
الاختلاف الذي ذكرناه في مسألة ( الكري ) لا
يجد وكيل المكتري فيكري الإبل له دون أن يرفع
ذلك إلى السلطان ، أو دون أن يتلوم له ويشهد
إن كان في بلد ليس فيه سلطان .
(9/84)
مسألة
وسئل عن رجل حمل طعاماً من الريف في سفينته
فمر بأخ له في قرية أخرى ، فقال : أفي سفينتك
فضل تحمل لي مائة إردب ؟ قال : نعم ، وقد كان
الأول حمل فيها خمسمائة إردب فألقى قمحه من
فوق طعام صاحبه فانخرق المركب فدخل الماء من
أسفله فأصاب منه نحواً من خمسين إردباً . وهو
يعلم أنه لم يصل إلى طعام الرجل الذي كان حمله
فوق طعامه الأول ، قال : أراهما في ذلك شريكين
. قلت إنه لم يصل إلا إلى الأول ، قال : قد
حملاه على وجه الشركة وخلطاه .
قال محمد بن رشد : قد مضى من القول في معنى
هذه المسألة في أول رسم من السماع ما يغني عن
القول فيها ، ويوضح معناها فلا وجه لإعادته
وبالله التوفيق .
مسألة
وسئل عن المركب يخاف أهله الغرق فيطرحون مما
فيه شيئاً لينجوا . قال : أراهم فيه إسوة .
قلت أفعلي قيمته يوم حمل ؟ أو ثمنه الذي اشتري
به ؟ أو قيمته حين يطرح ؟ قال : بل على ثمنه
الذي أشتري به إذا كان إنما اشترى بمكان واحد
بصنعاء أو بالفسطاط فالثمن أعجب إلى ، وقال :
ابتداء منه في قيمته بموضعه الذي طرح فيه ، كم
قيمته في ذلك الموضع ؟ وهل يشتري أحد ثمة وليس
له ثمة قيمة ؟ قيل له : أفترى على جرم المركب
شيئاً ؟ لأنهم يقولون لو لم نطرح منه شيئاً
لهلك في ذلك وغرق : قال : لا شيء عليه ، ولو
ذهبوا تحاصوه لكان جل الغرم
(9/85)
عليه ، مثل أن
يكون قسيمة المركب الشيء الكثير فيريدون أن
يحاصوه بقيمة ذلك ، فلا أرى عليه شيئاً . قال
ابن القاسم : ليس على من في المركب في قومته
غرم ، كانوا عبيداً أو أحراراً ، وإن كانوا
عبيداً للتجارة فعليهم . قال سحنون : سألت ابن
القاسم عن تفسير قول مالك في المتاع الذي يكون
في المركب فيخاف أهله الغرق فيطرح بعضه أن
الذي يطرح متاعه يكون شريكاً لهؤلاء في متاعهم
بثمن متاعه الذي اشتراه به ، فقلت ، ما معنى
قوله الذي اشتراه به ؟ قال : إن كان المتاع
إنما هو شراء من موضع واحد مثل أن يكون من
الفسطاط نفسها . وأما أن يكون اشترى بعضهم
بالفسطاط وبعضهم من أسواق أو من بعض نواحي مصر
، فإن هذا ليس مثل الأول ، فإذا كان مثل هذا
فإنما ينظر إلى ما يشتري به هذا كله ما طرح
وما بقي مما لم يطرح ، بكم يشتري مثل هذا
المتاع التالف ، والباقي في الموضع الذي حمل
منه في البحر مثل القلزم وجدة ونحو ذلك ،
فيكون شريكاً بقدر ما يشتري به متاعه في ذلك
الموضع على قدر ما يصيب متاعه ومتاعهم ،
واختلاف الأزمنة مثل اختلاف البلدان في الشراء
، مثل أن يشتري منذ سنة ، وهذا منذ شهر ،
فينظر إلى ثمن مثله منذ شهر فيكون شريكاً .
قال محمد بن رشد : هذا كما قال إن لمن طرح من
المركب متاعه في البحر رجاء نجاته أن يرجع على
من لم يطرح متاعه فيشاركهم
(9/86)
فيه بقدر متاعه
ومتاعهم ، غذ ليس بعضهم أولى بطرح متاعه من
بعض مع انتفاع جميعهم بذلك ، وهو مما لا
اختلاف فيه أحفظه في المذهب ، وإنما اختلف قول
مالك في صفة التقويم في الاشتراك ، فقال في
المختصر مرة إنه ينظر إلى قيمة المتاع المطروح
والباقي في الموضع الذي حمل منه ، وقال مرة في
الموضع الذي يحمل إليه ، وقال مرة في الموضع
الذي طرح فيه ، ورواه أشهب عنه ، وقوله ها هنا
إنهم يشتركون فيه على الثمن الذي اشتروه به ،
وذلك إذا اشتري في وقت واحد وموضع واحد ، وصفة
واحدة من النقد والدين ، وعلى غير محاباة ،
فإن اختلف شراؤهم في شيء من ذلك اشتركوا بقيمة
متاعهم يوم حملوه في الموضع الذي حملوه منه
على ما فسر به ابن القاسم قوله ، والقول قولهم
فيما زعموا أنهم اشتروه به دون يمين إذا تبين
صدقهم إلا أن يتهم أحد منهم فيحلف ، قاله
سحنون بعد هذا في رسم أخذ يشرب خمراً . وقوله
إنه لا يمين عليهم إذا تبين صدقهم صحيح ، كما
أنه إذا تبين كذبهم وأتوا بما لا يشبه لا
يمكنون من اليمين ، وينظر إلى قيمة ذلك يوم
الشراء فيكون شريكاً بذلك . وأما إذا لم يتبين
صدقهم ولا كذبهم ، فيتخرج تحليفهم إذا دعا إلى
ذلك بعضهم على الاختلاف في لحوق يمين التهمة
وبالله التوفيق .
ومن كتاب شك في طوافة
وسئل عن رجل يتكارى الأجير يخرج له بكتاب
يحمله
(9/87)
إلى بلد ويشترط
عليه أياماً مسماة ، قال مالك : ما هذا من
كراء الناس وما يعجبني .
قال محمد بن رشد : أما إذا كان الوصول إلى
البلد إلى الأجل الذي اشترط على الأجير مشكلاً
يمكن أن يبلغه وألا يبلغه فلا اختلاف في فساد
الأجرة على ذلك ، وأما إذا كان أجلاً يعلم أنه
يبلغ فيه إلى البلد ، فالمشهور أن الإجارة غير
جائزة ، وقد قيل إنها جائزة ، وقد مضي القول
في هذه المسألة مستوفي في أول رسم من سماع ابن
القاسم من كتاب الجعل والإجارة ، وفي أول رسم
من سماع أشهب منه ، وفي غير ما موضع سواه من
الكتاب المذكور فلا معنى لإعادته وبالله
التوفيق .
ومن كتاب الشجرة تطعم بطنين في السنة
وسئل عن رجل يتكارى الدابة إلى الإسكندرية أو
إلى الموضع ويضرب له في ذلك أجراً مسمى فيشترط
إن عثر على الرجل في الطريق رجع وكان له بحساب
ما بلغ على حساب ما تكاري منه . قال : لا بأس
بذلك ، وهذا يكون عندنا في الإباق وغير ذلك
فلا بأس به : إذا لم ينقد ، أنكرها سحنون ،
وقال : كيف يجوز هذا وقد أكرى دابته بما لا
يدري .
(9/88)
قال محمد بن
رشد : قد مضى القول على هذه المسألة مستوفى في
أول مسألة من السماع فلا معنى لإعادته .
ومن كتاب حلف لير فعن أمراً
وسئل مالك عن الرجل يتكارى بدينار ونصف فيعطي
الكري دينارين ويأخذ منه نصفاً . قال : ما أرى
بذلك بأساً . قال ابن القاسم وقد كان ثقله ثم
رجع إلى هذا ، وقال : لا بأس به إذا انتقد
حمولته وهو أحب ما فيه إلى .
قال محمد بن رشد : الاختلاف في جواز هذا
الكراء جارٍ على اختلافهم فيمن كان له على رجل
دين ، هل يجوز له أن يأخذ منه به دابة يركبها
، أو غلاماً يخدمه أو داراً يسكنها ، ويكون
قبض الدابة أو الغلام أو الدار ليستوفي ركوبها
، أو استخدامه أو سكناها - استيفاء للركوب أو
الاستخدام أو السكني أم لا ؟ وقد مضت هذه
المسألة والقول فيها مستوفى في رسم صلى نهاراً
من سماع ابن القاسم من كتاب الصرف ، وفي سماع
أبي زيد منه فلا معنى لإعادة ذلك ، والله
الموفق .
مسألة
قال : وسئل مالك عن الكري يرى غرائر الرجل
فيقول له صاحب الغرائر : زنها فيأبى ذلك ،
ويحملها حتى إذ كان ببعض الطريق أراد أن يزن
عليه ، قال : لا أرى ذلك له ، قد حملها ورضي
بها .
(9/89)
قال محمد بن
رشد : وهذا بين على ماقال ، إذ ليس له أن يرجع
فيما قد سلمه ورضي به .
مسألة
وسئل مالك عن الرجل يتكارى من الحمال ، ويكون
كراؤه مضموناً . ويعربن الدينار إلى أن يأتي
الظهر ، قال : لا بأس بذلك ،وقال في ذلك : كم
من كري قد أعطي كراءه فهرب وترك أصحابه .
قال محمد بن رشد : إنما أجاز أن يؤخر النقد في
الكراء المضمون إلى أن يأتيه بالظهر وإن بعد
الأمد للضرورة إلى ذلك ، إذ ليس بحرام بين ،
كفسخ الدين في الدين الذي يضاهي الربا المحرم
بالقرآن . ألا ترى أنه يجوز فيه تأخير رأس مال
السلم اليوم واليومين والثلاثة فأما في غير
الكراء فلا يجوز تأخيره فوق الثلاث ، لأنه
الدين بالدين وبالله التوفيق .
ومن كتاب طلق ابن حبيب
وسئل منالك عن حمال تكوري وبعث معه بدنانير
إلى موضع
(9/90)
ليبتاع بها
طعاماً لمن استأجره فرجع فزعم أن تلك الدنانير
ضاعت منه ، أتراه ضامناً ؟ قال : لا ضمان عليه
فيها ، وإنما هو إلى أمانته ، وأرى أن يحلف في
ذلك لقد ضاعت منه ، قيل له : أفترى له فيما
عني أجرة ؟ قال : لا أرى له شيئاً ، قد ضاعت
الدنانير ويريد أن يأخذ أجراً ما أرى له في
ذلك شيئاً .
قال محمد بن رشد : إنما لم ير له أجرة فيما
شخص إذا ضاعت الدنانير من أجل أنها استوجر على
حملها إلى ذلك البلد وشراء الطعام بها ، وجاء
تلفها من قبله ، وذلك على أصله في المدونة في
الذي يستأجر الحمال على حمل شيء فيعثر به
فيذهب أنه لا ضمان عليه ولا كراء له ، خلاف
قول غيره فيها ، فليس قول مالك هذا بمعارض
لقول سحنون في نوازله من كتاب الجعل والإجارة
في الذي يعطي رجلاً ثوباً ليبيعه له بجعل ،
فلما قبض الدنانير ضاعت منه أن له جعله لأن
هذا في مسألة سحنون جعل على بيع فوجب للمجعول
له جعله بالبيع وبالله التوفيق .
مسألة
قيل له : لم يضمن الأكرياء الطعام الذي
يحملونه ؟ قال : إنهم مثل الصناع الصباغ
والخياط فلذلك ضمنوا إلا أن يأتوا
(9/91)
فيما تلف منهم
على هلاكه بأمر يعرف ، فلا يكون عليهم ضمان ،
مثل أن ينشق زق زيت ، أو تهلك راحلته ، أو ما
أشبه هذا من الوجوه التي ( يدل ) على هلاكها
أمر يعرف ، فلا شيء عليه . قيل : فالخياط
والصباغ إذا سرق بيته أيصدق ؟ قال : ما أدركت
الناس إلا على أنهم يضمنونهم ، ولا يجعلونه في
مثل هذا مثل ما ينشق من الحمال أو يهلك .
قال محمد بن رشد : هذا كما قال : إنه إنما ضمن
الأكرياء الطعام لحاجة الناس إليهم في ذلك
كالصناع ، إلا أن يظهر الهلاك بإنشقاق زق أو
عثار راحلة وما أشبه ذلك ، وليس ذلك كدعوى
الصناع السرقة ، لأن ذلك لا يعرف إلا بقولهم ،
وغنما هو كالفران يأتي بالخبز محروقاً ، أو
الصباغ يأتي بالثوب محروقاً فيسقط عنه الضمان
، لأن النار تغلبه ، فأشبه عثار الأجير الذي
لا يقصده وبالله التوفيق .
ومن كتاب أوله سن رسول الله صلى الله عليه
وسلم
وقال مالك في دابة تكاراها رجل إلى موضع ثم
أتى فزعم أنها نفقت - قال مالك : إن كان في
جماعة رأيت أن يكلف البينة ، وإن كان وحده
أحلف ولا شيء عليه .
قال محمد بن رشد : هذه مسألة قد مضى القول
عليها مستوفي في رسم باع شاة من سماع عيسى من
كتاب جامع البيوع فلا معنى لإعادته .
(9/92)
ومن كتاب أوله
أخذ يشرب خمراً
قال : وقال مالك في السفينة التي طرحوا منها
متاعاً ، وفسد بعض القمح ( وبقي ) بعض لم يصبه
شيء ، وكراء ما طرح : إنه ليس على الجرم شيء
مما طرحوا . قال : ولو كان جرمه ظرفاً فارغاً
نجا ، وإنما كان طرحهم نجاة لمتاعهم ، فلا أرى
عليه فيه شيئاً ، وقال فيما طرح : لا أرى لأهل
المركب فيه كراء ما أكروهم فيه ، وإنما لهم
على حساب ما بقي مما أكروا ، وقال في الطعام
الذي فسد بعضه ولم يفسد بعض : إن كان محجوزاً
كل واحد منهم طعامه على حدته ، قد حازه بشيء
جعله حجزاً فيما بين القمح ، فأرى أن من سلم
منهم فله ما سلم ، وما أصيب منه بما أصابه ،
أو أسود لموج ركبه فمصيبته من صاحبه ، وإن
كانت تلك التي حجزوا بها قد انخرق بعضها إلى
بعض حتى اختلط الطعام كانوا شركاء جميعاً فيما
فسد لهم وصلح ، يأخذ كل واحد منهم بحصة طعامه
. وأما ما ذكرت في أثمان متاعهم بأي شيء
يتراجعون في ذلك ؟ فإنما يتراجعون بالثمن الذي
ابتاعوه بالقلزم ، ولا ينظر إلى ثمنه في الجار
، ولا قيمته في الموضع الذي طرح فيه ، ولكن
ثمنه بالقلزم الذي ابتاعوه به ، إلا أن يكون
أحد منهم اشترى شيئاً بدين فزاد لذلك ، فإنما
يحسب له على النقد لا زيادة فيه ، أو يكون
حوبي أحد في شراء خفف
(9/93)
عنه ، فلا يحمل
عليه ما حوبي به من ذلك ، ولكن يتم له ثمنه
الذي يسوى بالقلزم . وسئل عنها سحنون ، هل
يقبل قول كل واحد منهم في ثمن ما قام عليه
متاعه من غير بينة ولا يمين ؟ فقال لي : نعم ،
يقبل قولهم ، ولا بينة عليهم ، ولا يمين إذا
تبين صدق قولهم ، إلا أن يتهم أحد منهم فيحلف
.
قال محمد بن رشد : قوله : إنه ليس على جرم
المركب شيء فيما طرحوا من المتاع للنجاة على
ما قاله ، وقد بين العلة في ذلك أنه لو كان
ظرفاً فارغاً لنجا ، وكذلك ليس على صاحب
السفينة شيء في القلوع والأطراف التي تخلص بها
السفينة . وأما ما كان في جوف المركب من قارب
وحبال ومواجل فإن ذلك أيضا يقوم على صاحب
السفينة ، قال بعض أهل العلم ، وهو صحيح على
أصل مذهب مالك ، في أنه ليس على جرم المركب
شيء . وأما قوله : إنه لا كراء لصاحب المركب
فيما طرح من المتاع ، فهو على قوله في المدونة
، أن كراء السفن على البلاغ ، خلاف قول ابن
نافع فيها ، أن لها بحساب ما بلغت . وقوله إن
الطعام إذا انخرق ما حجز به بين طعام كل واحد
منهم من طعام صاحبه فاختلط ، أنه يحكم بينهم
فيما فسد منه بحكم الشركة فهو صحيح ، إذ لا
فرق بين أن يحملوه على الشركة ، أو يختلط بغير
اختيارهم فيما يجب من أن يكونوا فيه شركاء
بحساب ما لكل واحد منهم . وقد مضى في رسم حلف
ذكر اختلاف قول مالك إن كانوا يشتركون فيما
طرحوا على الأثمان ، أو على القيم ، ومتى تكون
القيمة في ذلك فلا معنى لإعادة ذلك وبالله
التوفيق .
(9/94)
ومن كتاب أوله
باع غلاماً
وسئل مالك عن الرجل يكون له بالإسكندرية البز
فيستبطئه فيتكارى الدابة من الفسطاط بدينار
إلى الإسكندرية ، ويقول لصاحب الدابة : أشترط
عليك إن لقيت بزي في الطريق رجعت معه وأعطيتك
بحساب ما ركبت ، قال : لا بأس بذلك ، ولا أحب
النقد فيه .
قال محمد بن رشد : هذه مسألة قد مضى القول
فيها مستوفى في أول السماع فلا معنى لإعادة
ذلك ، وتكررت أيضاً في رسم الشجرة .
ومن كتاب أوله مرض وله أم ولد فحاضت
وسئل مالك عن الرجل يتكارى الدابة بعينها إلى
موضع ، فتهلك الدابة في موضع في بعض الطريق
فيريد أن يعطيه بها دابة أخرى يركبها مكان
الدابة التي هلكت ، قال : لا أحب ذلك ، وأراه
بمنزلة الدين بالدين . قال ابن القاسم : قال
لي مالك بعد ذلك : إلا أن يكون أصابه ذلك
بفلوات الأرض والصحاري والموضع الذي لا يوجد
فيه كراء فلا أرى به بأساً . وأما في الموضع
الذي يوجد فيه الكراء فلا أحبه .
قال محمد بن رشد : إنما لا يجوز هذا إذا كان
قد نقد لأن الكراء ينفسخ في الراحلة بعينها
بموتها ، ويجب للمكتري الرجوع على الكري بما
ناب ما بقي من المسافة فإن أخذ منه بذلك دابة
أخرى غير معينة كان قد فسخ ما وجب له به عليه
الرجوع من الكراء في ركوب لا يتعجله ، وكان
(9/95)
ذلك حراماً لا
يحل ولا يجوز بإجماع ، وإن أخذ منه في ذلك
دابة معينة يركبها إلى انقضاء كرائه جاز على
مذهب أشهب ، وأحد قولي مالك في رسم حلف
المتقدم ، ولم يجز على المشهور في المذهب .
قال ابن حبيب إلا حيث لا يجد غنى عن ذلك إلى
الموضع الذي يجد فيه غنى عنه ، كالمضطر إلى
أكل الميتة ، وهو كما قال إذا فسخ ما بقي له
من الكراء في راحلة بغير عينها ، وأما إذا
فسخه في راحلة بعينها ففيه بعض السعة لما
ذكرته من الاختلاف في ذلك وعلى هذا تكلم في
هذه الرواية والله أعلم ، ولذلك قال فيها : لا
أحب ذلك ، وأراه من الدين ، ولو تكلم على أنه
فسخ ما بقي له في دابة غبي رعينها لقال : لا
يحل ذلك ولا يجوز ، لأنه فسخ الدين بالدين ،
وهو أشد من الدين بالدين . وقوله ثم قال ( لي
) بعد ذلك : إلا أن يكون أصابه ذلك بفلوات
الأرض والصحاري ، ليس بقول آخر ، وإنما هو
تفسير لقوله الأول ، إذ لا اختلاف في جواز ذلك
عند الضرورة . ولو كان لم ينقد لجاز ذلك من
غير ضرورة باتفاق وبالله التوفيق :
ومن كتاب المحرم يتخذ الخرقة لفرجه
وسئل مالك عن رجل أكرى رجلاً فبقي له عنده
بقية كراء ، فسأل الكري رجلاً آخر أن يحمله
بالكراء الذي له عليه ويزيده مع ذلك زيادة .
قال : هذا مكروه وأرجو أن يكون خفيفاً . قال
ابن القاسم : ما أراه بضيق وفيه شيء ، وأرجو
أن يكون خفيفا . قال ابن القاسم وإن سأل
المتكاري أن يحتال على المكري الأول ورضي بذلك
المكري أن يحتال عليه ويزيده مع ذلك فلا خير
في ذلك أنكرها سحنون ورآها ديناً بدين .
(9/96)
قال محمد بن
رشد : هذه مسألة مشكلة ، إذ لم يبين فيها هل
كان الكراء الذي بقيت منه البقية مضموناً أو
معيناً ؟ ولا هل كانت البقية منه ركوباً على
المكري ، أو كراء علي المكتري ، وتأويلها يصح
على الوجهين ، من أن الكراء مضمون ومعين .
فأما إن كان الكراء مضموناً فالمعنى فيها أن
المكري عجز عن توصيل المكتري إلى البلد الذي
أكراه إليه ، وله على المكتري بقية من كرائه
لم يستوفها منه ، فأكرى له من يوصله إلى ذلك
البلد بالبقية التي بقيت له على المكتري
وبزيادة يزيده إياها من عنده ، فكره ذلك مالك
وابن القاسم وخففاه جميعاً ، ووجه الكراهة في
ذلك أنه دين بدين ، لأن المكتري انتقل في
كرائه من ذمة المكري الأول إلى ذمة المكري
الثاني . ووجه التخفيف فيه ، أن المكري الأول
لما كان هو الذي سأل المكري الثاني أن يحمله
بما كان له وعليه وبما زاده ، فكأنه اكترى منه
ذلك لنفسه ، ووجب الكراء له ، فلم ينتقل
المكتري بذلك عن ذمته إلى ذمة المكري الثاني .
وقول ابن القاسم وإن سأل المتكاري أن يحتال
على المكري الأول إلى آخر قوله ، معناه أنه
عجز عن توصيله إلى ذلك البلد ، وقد انتقد ،
فاكترى المكتري من يوصله إلى ذلك البلد
بالركوب الذي بقي له على المكري الأول ، يحتال
به عليه وبزيادة زاده إياها ، فلم يجز ذلك ،
لأنه الدين بالدين كما قال سحنون ، لأن
المكتري اكترى ركوباً غير نانز بالركوب الذي
بقي له على المكري الأول وهو غير ناجز أيضاً .
وقد قيل : إن المعنى في ذلك أن المكري عجز عن
توصيله إلى ذلك البلد ، وقد انتقد فأكترى
المكتري من يوصله إلى ذلك البلد ولم يشترط
النقد ، ولا كانت سنة الكراء على النقد ،
فأراد أن يحيله على المكاري الأول بما وجب له
به الرجوع عليه ، لعجزه عن حمله فلم
(9/97)
يجز ذلك ، لأنه
يستحيل بما لم يحل له ، وهذا تأويل ابن لبابة
، والأول هو الصواب ، لأن الكراء المضمون لا
ينفسخ بالعجز ، وهو ثابت ما لم يفسخ بالحكم ،
لضرر يكون على المكتري في إمضائه بفوت الإبان
كالحج وشبهه ، فعلى هذا التأويل يكون ابن
القاسم إنما تكلم على غير المسألة التي تكلم
عليها مالك ، لأنه تكلم على المكري قد انتقد ،
فلم يبق له بقية من الكراء وبقيت عليه بقية من
الركوب ، وتكلم مالك على أنه لم ينتقد جميع
الكراء ، فبقيت له بقية منه ، وبقيت عليه بقية
من الركوب . وأما إن كان الكراء معيناً
فالمعنى فيما كرهه مالك وابن القاسم وخففاه
جميعاً أن الدابة المكتراة بعينها هلكت قبل
الوصول إلى البلد الذي اكتريت إليه ، وقد
انتقد المكتري كراءه ، فوجب أن يرد منه نوب ما
بقي من المسافة فاكترى للمكتري دابة بعينها
لما بقي من الركوب إلى ذلك البلد بما وجب عليه
أن يرده من الكراء وبزيادة زادها ، فكرها ذلك
جميعاً ، لأن المكتري فسخ ما وجب له به الرجوع
على المكري في ركوب دابة إلى ذلك البلد ،
وخففاه جميعاً لانتقاد الدابة وهي معينة ،
وهذا على ما مضى من اختلاف قول مالك في أول
مسألة من رسم حلف ، والمعنى في قول ابن القاسم
وإن سأل المتكاري أن يحتال على المكري الأول
ورضي بذلك الكري أن يحتال عليه ، ويزيده مع
ذلك فلا خير فيه ، أن المكتري لما هلكت الدابة
اكترى دابة لنفسه على ذمته بمقدار ما يجب له
به الرجوع على المكري وبزيادة ، ثم أحاله على
المكري بما وجب له به الرجوع عليه ، فوجب ألا
تجوز الحوالة ، لأنه احتال بما لم يحل ، إذ لا
يجب تعجيل الكراء إلا بشرط أو عرف ، وهو معنى
الدين بالدين ، كما قال سحنون ، ولو اكترى
المكتري الدابة لنفسه بالدين الذي له على
المكري
(9/98)
وبزيادة لجاز ،
إذ يجوز لمن له دين على رجل أن يبيعه من رجل
بتمر لم يبد صلاحه ، وبجارية تتواضع ، وبركوب
دابة ، وسكنى دار ، وما أشبه ذلك ، فعلى هذا
يكون ابن القاسم إنما تكلم على المسألة التي
تكلم عليها مالك ، لا على مسألة أخرى ، فهذا
وجه القول في هذه المسألة مستوفي وتأويلها على
الوجه الأول من أن الكراء مضمون أظهر وأولى
والله أعلم وبه التوفيق .
مسألة
وسئل مالك عن الكري تكون له الإبل يحمل عليها
وهو يدملها تحتهم بحملهم عليها فيفلس ، وتحت
أحدهم بعير منها ، أتراه أحق به من سائرهم ؟
قال : نعم أرى ذلك له . قال ابن القاسم : وذلك
رأيي . وسئل عنها سحنون فقال : جيدة ، قيل له
: سواء كان الكراء في إبل بأعيانها أو كراء
مضموناً يكون كل رجل أولى بما تحته من صاحبه
إذا فلس الجمال ؟ قال : نعم ، من أجل أنه لما
قدم الكري إلى رجل جملاً فكأن كراءه وقع عليه
، قلت : فلو أن الجمال تسلف من بعضهم أو تعاين
ورهنه ما تحته وتحت أحماله ، أترى المرتهن أحق
به من سائر أصحابه ؟ قال : نعم ، قلت : فلو
رهنه بعض ما تحت غيره من الجمال أتراه رهناً
جائزاً ويكون أولى به من الغرماء ؟ قال : نعم
، وهو كالرهن يوضع على يدي عدل . قيل لسحنون :
هل يكون أصحاب الأحمال أولى بما تحت أحمالهم
من الإبل كما يكون في
(9/99)
المحامل ؟ قال
: نعم ، قيل له : فإن أراد الحمال أن ينقل تلك
الإبل ويديلها بينهم ، وأبي ذلك أصحاب الأحمال
والمحامل . قال : لا يكون ذلك للجمال إلا عن
رضي من أصحاب الحمولة والمحامل ( وهذا في
الكراء المضمون وغيره سواء ، وكل واحد من
أصحاب الحمولة والمحامل ) أولى بما في يديه من
غيره . قلت : فلو أن الحمال احتاج فأراد أن
يتسلف من بعض الحمولة على أن يرهنه ما بيديه
من الإبل أيجوز ذلك ؟ وتوتراه رهناً مقبوضاً ؟
قال : نعم ألا ترى إلى قول مالك في الجمال
يفلس أن كل واحد منهم أولى بما تحته من غيره
من الغرماء ومن أصحابه .
قال محمد بن رشد : وهذا كما قال ، إن الجمال
إذا فلس فالمكتري منه كراء مضموناً أحق بالجمل
الذي أسلم إليه لركوبه ، أو لحمل متاعه من
غيره من المكترين ومن الغرماء ، ومثله في رسم
مساجد القبائل من سماع ابن القاسم من كتاب
المديان والتفليس ، وفي الرواحل والدواب من
المدونة للعلة التي ذكرها من أنه إذا أسلم
إليه فكأن كراءه وقع عليه ، إذ ليس له أن
يعوضه منه بغيره ، فصار كالرهن بيده ، فوجب أن
يكون أحق به ، وهذا إذا كان قد نقد ، وأما إذا
لم يكن نقد فهو مخير بين أن ينقد ويكون أحق
بالجمل ، وبين أن يفسخ الكراء عن نفسه ويكون
أحق بما عليه . ولو فلس الجمال قبل أن يسلم
إليه الجمل كان إسوة الغرماء إن
(9/100)
كان قد نقد ،
فما صار له في المحاصة أكرى له به ما بلغ ،
واتبعه ببقية حقه ، ويكون مخيراً إن كان لم
ينقد بين أن ينقد ويحاص الغرماء ، وبين أن
يفسخ الكراء عن نفسه ويكون أحق بما عليه ،
وهذا ما لا أعلم فيه اختلافاً إلا ما وقع من
قول غير ابن القاسم في المدونة ، وليس الراحلة
بعينها كالمضمون ، إذ قد قيل إنه أراد ليست
المضمونة كالمعينة في أنه يكون أحق بها في
التفليس ، وقيل : إنه إنما أراد ليست كالمعينة
في اختلافهما في الكراء . والظاهر أنها ليست
عنده كالمعينة في كلا الوجهين . وأما المعينة
فالمكتري إذا فلس الجمال أحق بها قبضها أو لم
يقبضها ، نقد أو لم ينقد ، وهو إذا لم ينقد
بالخيار بين أن ينقد ويكون أحق بها ، وبين أن
يفسخ الكراء ويكون أحق بما عليه . وأما إجازته
أن يرهنه ما تحته وتحت أحماله بما أسلفه فهو
بعيد ، لكونه في منفعة الراهن ، وإجازته أن
يرهنه ما يفسخ الكراء ويكون أحق بما عليه .
وأما إجازته أن يرهنه ما تحته وتحت أحماله بما
أسلفه فهو بعيد ، لكونه في منفعة الراهن ،
وإجازته أن يرهنه ما تحت غيره من الجمال أبعد
، لأنه في منفعة الراهن وفي أجرة غيره . وقوله
فيه : إنه كالرهن يوضع على يد عدل ليس ببين ،
وقد نص في المدونة على أنه لا يكون قبض
المستأجر قبضا للموهوب له ، فهو أحرى أن لا
يكون قبضا للمرتهن وبالله التوفيق .
من سماع أشهب وابن نافع من مالك من الكتاب
الأول من البيوع
قال سحنون : أخبرني أشهب وابن نافع ، قال :
سئل مالك عن الرجل يتكارى من الكري بمصر إلى
الحج ، فإذا ركب موجهاً قال للكري : أكر لي
إلى مصر فيتكارى منه وينقده الكراء ، فإن بعض
أصحابنا تكارى من ها هنا إلى إيلة
(9/101)
أفرأيت إن بدا
لهم أن يتكاروا منه في الطريق إلى مصر وينقدوه
الكراء فيما بينهم وبين أن يبلغوا إلى إيلة ؟
فقال : ألا أرى بذلك بأساً ، قيل له لا ترى
بذلك بأساً ؟ قال : نعم .
قال محمد بن رشد : هذا كما قال ، لأنه إذا جاز
أن يكتري منه من مصر إلى الحج ذاهباً وراجعاً
في صفقة واحدة جاز إذا اكترى منه أولاً للذهاب
خاصة أن يكتري منه للرجوع وهو في الطريق قبل
أن يبلغ الحج ، وهو مما لا اختلاف فيه أعلمه ،
وبالله التوفيق .
مسألة
وسئل مالك عن الرجل يتكارى الدابة إلى مكة ،
كل يوم بدرهم ، فقال : ما هذا من بيوع الناس ،
لعله سيمكث بذلك شهرين ، فليس هذا من بيوع
الناس ، ولكن لو ضرب لذلك أجلاً لم يكن بذلك
بأس ، قيل لمالك : أرأيت لو قال له أكاراها
منك شهراً كل يوم بدرهم ؟ قال : لا بأس بذلك .
قال محمد بن رشد : أما إذا تكاراها شهراً كل
يوم بدرهم فلا كلام ولا إشكال في جواز ذلك ،
وأما إذا أكراها منه إلى مكة كل يوم بدرهم فلم
يجز ذلك ها هنا ، وأجاز في المدونة كراء
الراحة بعلفها إلى موضع ، وذلك اختلاف من
القول إذ لا فرق بين المسألتين لأنه إن أبطأ
في السير كثر عليه العلف ، وإن عجل فيه قل
العلف ، فآل ذلك إلى الجهل بمبلغ
(9/102)
الكراء . ولو
أكرى من منه الدابة إلى مكة بعلفها ، أو كل
يوم بدرهم أسرع في السير أو أبطأ فيه ، لم يجز
باتفاق ؛ ولو أكراها منه إلى مكة بعلفها ، أو
كل يوم بدرهم على أن يسير سير الناس المعتاد
لجاز ذلك باتفاق ، فالخلاف إنما هو إذا وقع
الكراء مبهماً دون بيان ، فحمله في هذه
الرواية على الظاهر من الوصول إلى مكة ، قرب
أو بعد فلم يجزه ، وحمله في المدونة على
الوصول على السير المتعارف فأجازه ، لأنه إذا
كان المعروف عند الناس أن الوصول إلى مكة على
السير المتعارف يكون على التمثيل في شهر ،
فكأنه إنما أكرى منه إلى مكة بثلاثين درهماً
أو بعلف ثلاثين ليلة ، فوجب أن يكون ذلك
جائزاً وبالله التوفيق .
مسألة
قيل له : أرأيت من تكاري منزلاً شهراً بكذا
وكذا فما سكن فبحساب ذلك ؟ قال : لا بأس بذلك
.
قال محمد بن رشد : قوله فما سكن فبحساب ذلك ،
يريد أن له أن يخرج متى ما شاء ، ويلزمه فيما
سكن بحساب ذلك ، فعلى هذا يكون الكراء في
الشهر لازماً لصاحب المنزل غير لازم للساكن ،
وفي ذلك اختلاف قد مضى القول فيه في أول رسم
من سماع ابن القاسم ، وفي رسم الشجرة ، وفي
رسم باع غلاماً منه ، ولو لم يكن الكراء
لازماً لواحد منهما في الشهر لجاز باتفاق ،
كمن أكرى داره مشاهرة ، وقد مضى القول على هذا
في رسم حبل حبلة من سماع عيسى من كتاب كراء
الدور والأرضين فلا معنى لإعادته وبالله
التوفيق .
(9/103)
مسألة
وسئل مالك عمن تكاري من جمال شق محمل بدنانير
دفعها إليه ثم أراد أن يتحول من الشق المحمل
إلى الزاملة ويرد عليه الجمال من كرائه دنانير
، قال : أرجو أن يكون هذا خفيفاً . قيل :
لمالك إنه قد كان هذا اكترى شق محمل فطلب منه
الكراء كله ، فأراد بيع بعض متاعه فلم يجد
ثمناً . فقال له حولني في زاملة فإنها أقل
كراء بدينار ، قال : لا أرى بذلك بأساً .
قال محمد بن رشد : خفف في هذه الرواية لمن
اكترى شق محمل بدنانير فنقدها – أن يتحول من
الشق إلى زاملة ويرد عليه الكري من الكراء
الذي انتقد دنانير ، وهذا في الكراء المعين
على ما مضى من اختلاف قوله وقول ابن القاسم
فيهذا الأصل في رسم الشريكين من سماع ابن
القاسم من كتاب كراء الدور والأرضين ، ورسم
حمل صبياً من سماع عيسى منه ، ولو كان الكراء
مضموناً لم يجز ذلك باتفاق على ما يأتي في رسم
العرية من سماع عيسى بعد هذا من هذا الكتاب .
وأما إذا لم ينقد فجائز أن يتحول من الزاملة
إلى المحمل ، ومن المحمل إلى الزاملة بزيادة
ممن كانت منهما ، كان الكراء مضموناً أو
معيباً وبالله التوفيق .
(9/104)
مسألة
وسألت مالكاً عمن تكارى دابة إلى موضع بعينه
يسميه له على أن تقدم بها فبحساب ما تكار منه
، قال : لا بأس بذلك إذا كان موضعاً يسميه ،
يقول له : إن تقدمت إلى موضع كذا وكذا فبحساب
ما تكاريت منك أو كان أمراً معروفاً فهذا لا
بأس به . فقلت له : فكيف يعرف ؟ فقال له يقول
له : إنه بلغني أن عبداً لي أبق فهو بذي
المروة ، فاكر لي إليها دابتك بكذا وكذا ، وما
تقدمت فبحساب ذلك ، فهذا لا بأس به ، لأنه أمر
له وجه يعرف ، فلا بأس بما تكاري هكذا إذا كان
له وجه يعرف به ، أو تكارى على أنه إن تقدم
إلى موضع كذا وكذا فبحساب ذلك ، فهذان جميعاً
لا بأس بهما إن سمي ، وإن لم يسم إذا كان لما
لم يسم من ذلك وجه يعرف ، فأما أن يقول أكارى
منك دابتك إلى موضع كذا وكذا بدينارين على أني
ما بلغت من الأرض كلها بحساب ذلك ، فأرى هذا
لا خير فيه ، مرة يذهب إلى العراق ، ومرة يذهب
إلى المغرب ، فهذا لا خير فيه ، ولا يصلح حتى
يكون إلى موضع معلوم إذا بلغه كان بحساب ما
تكار منه ، أو يكون أمر له وجه يعرف به ، مثل
أن يقول : التقي الأمير إلى ذي خشب بكذا وكذا
، فإن تقدمت فبحساب ذلك ن فهذا له وجه يعرف لا
بأس به وإن لم يسم موضعاً يعرف بعينه ، لأن
وجه
(9/105)
ذلك ونحوه
معروف لا بأس به .
قال محمد بن رشد : قد مضى القول على هذه
المسألة مستوفى في أول رسم من سماع ابن القاسم
فلا معنى لإعادته وبالله التوفيق .
ومن كتاب الأقضية الثاني
وسئل عن رجل يحمل الطعام فينقص عليه ، قال :
أرى أن يترك لهم من ذلك ما ينقص من بين
الكيلين من الطعام قيل له : أرأيت إن جاءه به
ينقص أكثر مما ينقص بين الكيلين فأراد أن
يستحلفه ويغرمه فضل ذلك ؟ فقال : ليس له ذلك ،
إذا أراد أن يغرمه فلا يستحلفه .
قال محمد بن رشد : هذا بين على ما قال إنه إذا
نقص الطعام فليس له أن يرجع عليه إلا بما نقص
زائداً على ما يعرف أنه ينقص بين الكيلين .
وقوله إنه إن أغرمه فليس له أن يستحلفه صحيح ،
لأن الطعام لا يعرف بعينه إذا غيب عليه ، فهو
لو نكل عن اليمين لم يكن عليه إلا المثل ،
فلما كان نكوله ويمينه بمنزلة سواء ، لم يكن
ليمينه معنى ، بخلاف من وجب عليه ضمان ما يعرف
بعينه إذا غيب عليه من العروض ، هذا يحلف
ويغرم ، لأنه يتهم على أنه أراد أن
(9/106)
يأخذ العرض
بقيمته ، فإن حلف غرم القيمة ، وإن نكل عن
اليمين حبس حتى يحلف أو يرد العرض بعينه ، ولو
كان حمله في مركب فجاء به مبلواً ضمن إن كان
بللا مفسداً ، ولو لم يكن مفسدا لم يلزمه
ضمانه ، وكان عليه تجفيفه ، وإن كان بلله يزيد
فيه لزمته اليمين أنه ما تعمد بله ، لأنه يتهم
أن يكون قد سرق منه ، ثم بله ليزيد فيه ما سرق
منه ، وإن كان البلل لا يزيد فيه فلا يمين
عليه ولا ضمان عليه ، إلا أن يكون البلل
مفسداً ، والرواية بذلك كله موجودة عن مالك ،
ذكرها ابن أبي زيد في النوادر وبالله تعالى
التوفيق .
وفي كتاب أوله مسائل بيوع ثم كراء
وسئل مالك عن الرجل يكري دابته إلى الصائفة
وهم لا يدرون متى ينصرفون ، فقال : قد عرفوا
وجه ذلك وأرجو أن يكون خفيفاً .
قال محمد بن رشد : إنما أجاز الكراء في
الصائفة إلى رجوعها ، لأنه رأى ذلك معروفاً
على عادة قد جروا عليها لا تختلف في أغلب
الأحوال ، فإن وقع الكراء على ما يعرفون
فتأخرت عن القدر المعروف أو تعجلت عنه لأمر
عرض كان له كراء مثله فيما زاد ، وحط من كرائه
بقدر ما نقص . والصائفة : العسكر الذي يغزو
بلاد العدو في الصائفة وبالله التوفيق .
ومن كتاب الأقضية
وسئل مالك عن الرجل يتكارى من أكرياء أهل مصر
إلى
(9/107)
الحج ولا يشترط
عليهم أن يمروا به على المدينة ، ثم يريد منهم
ذلك ويأبوا إلا أن يتساحلوا ، أترى ذلك
للمتكاري عليهم ؟ قال : نعم في رأيي إلا أن
يخاف فوات الحج .
قال محمد بن رشد : إنما رأى ذلك للمتكاري
عليهم بالعرف الجاري في ذلك والله أعلم وبه
التوفيق .
مسألة
قال : وسئل عمن استحمل كرياً طعاماً فنقص عليه
أكثر من الذي يوضع في النقصان بصاعين أو ثلاثة
، فقال رب الطعام ، أن آخذ هذا النقصان
واستحلف حامل الطعام علي ما نقص من نقصان
الناس ما خانه ، فقال : إن أغرمته فلا تحلفه ،
وإن أحب رب الطعام أن يحلفه ولا يأخذ شيئا
فذلك له .
قال محمد بن رشد : هذا كما قال إنه ليس له أن
يحلفه في النقصان المعروف ما خانه ، لأن ذلك
معروف فلا يلزمه فيه غرم ولا يمين . وأما
الزائد على النقصان المعروف فواجب عليه غرمه ،
ولا يحلف مع الغرم للمعني الذي الذي قد ذكرناه
قبل هذا في رسم الأقضية الثاني ، ولا معنى
لإعادته وبالله التوفيق .
ومن البيوع الأول
وسئل عمن أكرى سفينة بكذا وكذا ديناراً ، وله
عليه
(9/108)
ضربتان : ضربة
في الشتاء ، وضربة في الصيف ، قال : لا بأس
بذلك ، قيل له : يا أبا عبد الله إنما مسيرها
بالريح فإن طابت الريح أسرعت ، وإن ركدت أبطأت
، حتى ربما أقامت في المرسي العشرة الأيام ،
فقال لي : إن كان ذلك شيئاً يختلف فلا خير فيه
، وإن كان لا يختلف فلا بأس به . قلت له أيضا
: إنما مسيرها بالريح ، فإن طابت الريح أسرعت
وإن ركدت أبطأت . فقال : إن كان هكذا فلا خير
فيه .
قال محمد بن رشد : المعنى في هذه المسألة أنه
أكرى سفينة للعام بكذا وكذا ، واشترط على
المكتري أن يسافر بها سفرتين إلى موضع معلوم ،
سفرة في الشتاء ، وسفرة في الصيف ، فوجب ألا
يجوز الكراء إلا أن يكون مقدار ما تقيم
السفينة في السفرتين معلوماً كما قال ، لأن
المعلوم متى استثني منه مجهول كان الباقي
مجهولاً وبالله التوفيق .
مسألة
قال : وسئل عن الذي يتكارى الدابة من المدينة
إلى مكة فيسير بعض الطريق ثم يبدو له أن يرجع
إلى المدينة ، أيكون لصاحب الدابة الكراء كله
؟ قال : إي لعمري ، قيل له : أرأيت إن أراد أن
يركبها إلى موضع آخر مثل مكة ؟ فقال : إن كان
مثل الموضع الذي تكارى إليه في السهولة فذلك
له ، ربما كان المكانان أحدهما أقرب من الآخر
، وهو أعلى كراء للحزونة والحجارة ، فإن كان
مثله فذلك له .
قال محمد بن رشد : أوجب في هذه الرواية على
المتكاري الكراء كله إذا رجع من الطريق ، وقال
: إن له أن يركبها إلى موضع آخر مثل مكة
(9/109)
يريد مثل ما
قصر عنه من البلوغ إلى مكة في طريق مثله في
السهولة ، ولم يفرق بين أن يكون قد سار قبل أن
يرجع أقل الطريق أو أكثره ، خلاف قول ابن
القاسم في رسم اكتاب المدينين من آخر سماع
عيسى في تفرقته بين أن يكون رجع بعد أن سار من
الطريق الشيء اليسير ، مثل البريد والبريدين ،
أو بعد أن سار جله ، وهذا الاختلاف مبني على
القول بأن من أكرى دابة إلى موضع فله أن
يركبها إلى موضع آخر إذا كان مثله في السهولة
أو الحزونة ، والقياس على ذلك قول مالك . وجعل
ابن القاسم رجوعه بعد أن سار جل الطريق رضي
منه بترك باقي حقه . وليس ذلك ببين في القياس
، لأنه يقول ما تركت بقية حقي ولا رجعت إلا
على أن أركب في طريق آخر مثل ما قصرت عنه إلى
البلد الذي اكرتيت إليه ، ونهاية ما عليه أن
يحلف ما رجع إلا على ذلك ، ولا رضي اكرتيت
إليه ، ونهاية ما عليه أن يحلف ما رجع إلا على
ذلك ، ولا رضي بترك بقية حقه على القول بلحوق
يمين التهمة ، إذ لا يمكن للمكري أن يدعي علم
نيته . وأما على القول بأن من اكترى دابة إلى
موضع فليس له أن يركبها إلى موضع آخر وإن كان
مثله في السهولة والحزونة إلا برضي صاحب
الدابة وهو قول ابن القاسم في المدونة ، أو
بأنه ليس له أن يركبها إلى موضع آخر وإن رضي
بذلك صاحب الدابة ، لأنه دين بدين ، وهو قول
غير ابن القاسم في المدونة فيلزمه جميع الكراء
إذا رجع من الطريق وإن لم يسر منه إلا يسيراً
، وليس له أن يركب الدابة ولا
(9/110)
يستعملها في
شيء ، وهو قول ابن نافع في رسم المدينين
المذكور ، وقد مضى هذا المعنى في آخر أول رسم
من سماع ابن القاسم من كتاب الجعل والإجارة
وبالله التوفيق .
مسألة
وسئل عمن حمل على جمال من الفسطاط إلى القلزم
مائة إردب ، وقال له : أضمنها ، فقال : لا
أفعل المائة تنقص أربعة أرادب ، وهو بالنقصان
الذي يحاز لهم ، فيقول له صاحب الطعام : فأنا
أعطيك الأربعة الأرادب النقصان ، وتضمن المائة
الأرادب توفينيها بالقلزم وأكتبها عليك ، (
وقال ) – بعد إطراقه أرأيت إن نقصت المائة (
الأرادب ) إردبا واحداً أيربح الكري لنفسه
ثلاثة أرادب يذهب بها إلى بيته . لا خير فيه .
قال محمد بن رشد : هذا بين على ما قال ، إن
ذلك لا يجوز ، لأنه أخذ للضمان ثمناً وهو ما
استوفر له من الأربعة الأرادب التي زاده على
المائة من أجل النقصان المعروف فيما بين
الكيلين وبالله التوفيق .
مسألة
وسئل عمن تكارى من كري ظهراً إلى الحج فلما
كان
(9/111)
من أمر حميس ما
كان وأرادوا الخروج إلى مكة ، وتراجع الناس من
الطريق جاءه الكري فدعاه إلى الخروج فأبى أن
يخرج معه ، فذهب الرجل إلى السلطان ، فقال له
: أخرج مع كريك بعض المناهل أودعه لي حتى
تجتمعا ، فخاف أن يقضي عليه السلطان فصالح
الكري على أن يقيله ويؤخره بالكراء إلى الجذاذ
، هل له أن يأخذ كراءه الآن لأنه خاف من حميس
وخاف أن يقضي عليه بذلك السلطان ؟ فقال : ما
أرى ذلك له ، وارى ذهبه إلى أجلها الذي أخذها
إليه ، لأنه لم يقض عليه سلطان ، فجاء يخاصم
في قضائه ، إنما صالحه طائعاً بذلك ، فأرى ذلك
له لازماً ، وهو رجل صالح صلحاً فهو له لازم ،
وأنا أرى ذلك الكراء غير لازم لهما في مثل هذه
الفتنة ، أتقحمهم على الفتن ؟ فلذلك رأيت ألا
بأس عليه أن يؤخره دنانيره إلى الجذاذ ، إنما
له دنانيره يأخذها إلى الجذاذ فلا بأس به ولو
كان الكراء عندي لازماً لم يصلح أن يفسخ كراؤه
في دنانيره إلى الجذاذ ، ولكن إنما رأيت له
دنانيره فأخذها إلى الجذاذ .
قال محمد بن رشد : هذا بين على ما قال لأن
الحكم يوجب فسخ الكراء من أجل الفتنة الواقعة
المانعة من الخروج ، وأن يأخذ دنانيره التي
نقده إياها معجلة ، فتأخيره إياها معروف صنعه
ليس له أن يرجع فيه ، ولا عذر له فيما اعتذر
به مما خاف من جور السلطان في أن يقضي عليه
بالخروج ولعله لا يفعل . وإنما كان يكون له
الرجوع في التأخير لو أخره بعد أن قضى عليه
بالخروج وبالله تعالى التوفيق لا رب غيره .
(9/112)
من سماع عيسى
بن دينار من ابن القاسم
من كتاب استأذن سيده في تدبير جاريته
وسئل ابن القاسم عن الرجل يستكري الدابة أو
اليء ثم يدعي أنه قد رده ويدعي صاحبه أنه لم
يرده ، قال : إذا دفعه إليه ببينة فهو له لازم
إلا أن يرده ببينة ، وإن كان دفعه إليه بغير
بينة فقوله مقبول ولا غرم عليه ، وهو بمنزلة
المؤتمن . قيل له : فلو قال المكتري ذهب مني ،
قال إذا يصدق ولا يكون عليه غرم شيء ، كان مما
يغاب عليه أو مما لا يغاب عليه ، لأنه لا ضمان
عليه فيه ، وفي العارية إذا أدعى الرد فإن كان
مما يغاب عليه فهو ضامن ، قبضه ببينة أو بغير
بينة ، وإن كان مما لا يغاب عليه فادعى الرد ،
فقوله مقبول إذا كان قبضه يغير بينة ، فإذا
كان قبضه ببينة لم يبرئه إلا بالبينة ، وقد
سمعت مالكاً وسئل عن رجل اكترى حماراً وعليه
سرج ولجام فزعم أن السرج واللجام سرقا ، وقال
: لا شيء عليه . وقال ابن القاسم : ولو أن
رجلا استعار دابة بسرجها ولجامها ثم زعم أنها
هلكت أو سرقت كان ضامناً لسرجها ولجامها ولم
يكن عليه ضمان في الدابة ، قال ابن القاسم :
والعارية مخالفة للكراء إذا كان مما يغاب عليه
فادعى الهلاك في العارية غرم ولم يصدق .
قال محمد بن رشد : هذه مسألة صحيحة كلها على
معنى ما في المدونة من قول ابن القاسم وروايته
عن مالك . وتحصيل القول فيها أن الأشياء
المقبوضة من أربابها على غير وجه الملك لا
تخلو من أن تكون
(9/113)
قبضت لمنفعة
أربابها خاصة كالودائع والبضائع وشبه ذلك ، أو
لمنفعة القابضين لها خاصة كالعواري والرهون ،
أو لمنفعتهما جميعا كالقراض ، والشيء المستأجر
. فأما ما قبض لمنفعة أربابها خاصة فالقابض
فيها مؤتمن مصدق في دعوى التلف دون يمين إلا
أن يتهم فيستحلف ، عينا كان أو عرضا أو
حيواناً لا يغاب عليه ، وكذلك ما قبض
لمنفعتهما جميعاً كالقراض ، والشيء المستأجر ،
لأنه تغلب فيه منفعة أربابها من أجل أنه أملك
بمتاعه لو شاء لم يدفعه . وأما ما قبض لمنفعة
القابض كالعواري والرهون فالقابض ضامن لما
يغاب عليه من ذلك ، إلا أن يقيم البينة على
التلف ، ومصدق فيما لا يغاب عليه من الحيوان
يدعي أنه قد تلف مع يمينه إلا أن يتبين كذبه .
وما كان من ذلك يصدق فيه في دعوى التلف من
الوديعة والبضاعة والقراض والشيء المستأجر ،
وما لا يغاب عليه من الرهون والعواري فالقول
فيه قوله في دعوى الرد مع يمينه ، إلا أن يكون
قبضه ببينة . وقد روى أصبغ عن ابن القاسم في
أول سماعه بعد هذا أن القول قول المستأجر في
أنه قد رد ما استأجر وإن كان قبضه ببينة ،
وكذلك يلزم على قوله في القراض والوديعة خلاف
ما تأول عليه أصبغ ، وما كان من ذلك لا يصدق
فيه في دعوى التلف مما يغاب عليه من العواري
والرهون ، فلا يكون القول فيه قوله في دعوى
الرد ، وعليه إقامة البينة في ذلك إلا ما يدل
عليه ما وقع في آخر سماع أبي زيد من كتاب
الوديعة من أنه يصدق في رد الرهن إذا قبضه
بغير بينة ، وأشهب يراه ضامنا لما يغاب عليه
من العواري والرهون وإن أقام البينة على التلف
، وقد روى ذلك عن مالك ، وكذلك يلزم على قياس
قوله فيما لا يغاب عليه من الحيوان وبالله
التوفيق .
مسألة
وسئل عن رجلين تكاريا شق محمل واشتريا حماراً
على أن
(9/114)
يركبا الحمار
بالدول : هذا يوم وهذا يوم ، فأتى يوم واحد
منهم في عقبة إيلة فأكرى الحمار ومشى راجلاً ،
لمن يكون الراء وصاحب المحمل قد مشى أيضا
راجلاً ؟ قال : الكراء للذي كان يومه في ركوب
الحمار ، وليس لصاحب المحمل في الكراء شيء وإن
كان مشى راجلاً .
قال محمد بن رشد : وهذا كما قال ، لأنه حقه في
ذلك في ركوب الحمار ، فإن شاء ركبه وإن شاء
أكراه وأخذ كراءه وبالله التوفيق .
مسألة
وسألت ابن القاسم عن الرجل يكري دابته الرجل
أو يعيرها فتضل منه فيجعل المكتري جعلاً لمن
يأتيه بها فيأتيه بها ، على من يكون ذلك الجعل
؟ قال : على صاحبها إلا أن يشاء أن يسلمها
بجعلها .
قال محمد بن رشد : يريد إنه يكون الجعل
للمجعول له على المكتري الجاعل ، ويكون صاحب
الدابة بالخيار ، إن شاء أخذ دابته وأدى الجعل
، وغن شاء أسلمها له بجعلها ، وهذا إذا كان
الجعل الذي جعل للرجل فيها جعل مثله فأقل ،
وأما إن كان جعل له أكثر من جعل مثله فيلزمه
(9/115)
للمجعول له ما
جعل ، ولا يكون له على صاحب الدابة إلا جعل
مثله إن أراد أن يفتك دابته وقد مضى في رسم
القضاء المحض من سماع أصبغ من كتاب الجعل
والإجارة لمحمد بن المواز ما يدل على هذا فقف
على ذلك وتدبره وبالله التوفيق .
ومن كتاب العرية
وسئل عن الرجل يتكارى الزاملة إلى مصر ، فلما
ركبها سأل الجمال أن يحوله في محمل ويزيده
ديناراً ، أو كان تكاري محملاً فسأل الجمال أن
يحوله إلى زاملة ويرد عليه ديناراً ، أو
الحمال هو الذي سأله ذلك ويكون قد نقد الكراء
أو لم ينقد ، ويكون قد ركب أو لم يركب ، قال
ابن القاسم : لا بأس بكل ذلك ، إلا أن يكون
نقد ، فإن كان نقد لم يصلح للجمال أن يزيد
شيئاً إلا أن يكون ركب وسار بعض الطريق فلا
بأس بزيادة الجمال ، لأن الجمال إذا شيئاً
الركوب كان سلفاً وكراء ، وإذا ركب وسار بعض
الطريق خرجا من التهمة . فأما أن يزيده الراكب
ويحمل على محمل فلا بأس به ، ركب أو لم يركب ،
نقد أو لم ينقده .
قال محمد بن رشد : في بعض الروايات : فإن كان
نقد لم يصلح للجمال أن يرد شيئاً ، وفي رواية
ابن لبابة أن يزيد كما وقع هاهنا ،
(9/116)
والمعنى في ذلك
سواء ، لأنه إذا زاد فهو يرد الزيادة مما قبض
، وهذا لا يجوز في الكراء المضمون باتفاق ،
ويجوز في المعين على اختلاف . فإن كان تكلم في
هذه الرواية على كراء معين فهو خلاف ما مضى من
قول مالك في أول رسم من سماع أشهب ، والأولى
أن يحمل هذا على الكراء المضمون ، فلا يكون
خلافاً لما مضى في سماع أشهب ؛ ولم ير انتقاله
من المحمل إلى الزاملة، ومن الزاملة إلى
المحمل فسخ دين في دين ، لأنه ركوب في الوجهين
جميعا ، فيقرب بعضه من بعض ، ولو أراد أن
يتحول من الزاملة أو المحمل إلى جمل الأحمال
والأعكام أو من جمل الأحمال والأعكام إلى ركوب
زاملة أو محمل بزيادة من أحدهما أو من غير
زيادة لم يجز ، لأنه فسخ دين في دين على ما
قاله في أول سماع أصبغ بعد هذا ، يجوز ذلك على
مذهب ابن الماجشون فيما حكى عنه ابن حبيب من
أنه يجوز أن يتكارى الرجل من المدينة إلى مكة
دواب بأعيانها صفقة واحدة لمحامل وركبان
ورجعته بأحمال مجلدة ، أو الأحمال المجلدة هي
الأول ، والمحامل والركبان في الرجعة ، لأن
ذلك كله مشتبه ، ولا يجوز أن يتكارى منه ظهراً
بعينه لسقي شجر أو زرع مدة معلومة ومن بعدها
حجة أو عمرة ، أو لحجة وعمرة ومن بعدها سقي
زرع أو شجرة وجيبة واحدة ، لأنهما شيآن
متباينان مختلفان . وتحصيل هذا أن الكراء
ثلاثة أجناس متوالية : أولها الركوب ، ثم
الحمل ، ثم السقي والحرث ، فيجوز أن يحول
الركوب بعضه في بعض وإن اختلفت صفاته فكان
بعضه زوامل وبعضه محامل ، والحمل بعضه في بعض
وإن اختلفت صفاته فكان بعضه أخفى من بعض وأكثر
كراء ، والحرث والسقي بعضه في بعض وإن اختلفت
أيضا ، لأن كل جنس منها يقرب بعضه من بعض ،
ولا يجوز على مذهب ابن القاسم تحويل جنس من
هذه الأجناس في الآخر ، ويجوز على مذهب ابن
الماجشون تحويل الركوب في الحمل لقرب ما
بينهما ، وتحويل الحمل في السقي والحرث لقرب
ما بينهما أيضا ، ولا يجوز عنده تحويل الركوب
في السقي والحرث لبعدما بينهما . وهذا في
الكراء المضمون ، ولا يجوز شيء منه في الكراء
المعين إلا على القول بأن قبض أوائل الكراء
قبض
(9/117)
لجميع الكراء ،
وهو أصل قد اختلف فيه قول مالك على ما مضى في
رسم حلف من سماع ابن القاسم ، وسواء في ذلك
كله كان بزيادة أو بغير زيادة غلا أن تكون
الزيادة من المكري على اختلاف حسبما ذكرناه
وبالله التوفيق .
مسألة
وقال في رجل اكترى بعيرا له من رجل يحمل عليه
فزاد على حمله ما يعطب في مثله ، ثم رد البعير
إلى صاحبه وقد أنقصه وأهزله فلما رأي صاحبه
نحره ، ثم علم بعد بزيادة الرجل وعطب البعير
إلى صاحبه من ذلك ، فما ترى ؟ قال ابن القاسم
بنظر إلى قيمة البعير يوم أتى به ، وينظر إلى
فضل ما بين قيمته يوم تعدي ويوم رده إليه ،
فيكون صاحب البعير مخيرا إن أحب أن يرجع بفضل
ما بين القيمتين فذلك له ، وإن أحب أن يكون له
الكراء ما تعدي مما زاد فذلك له ، وذلك أن
مالكاً قال في الرجل يكتري من الرجل بعيره على
حمولة فيزيد عليها فيعطب – قال : إن كانت تلك
الزيادة لا يعطب في مثلها فليس له إلا كراء ما
زاد مع الكراء الأول ، وإن كان يعطب في مثلها
فهو مخير في قيمة البعير يوم تعدى ، أو كراء
ما زاد ، فمسألتك إذا نحره قبل أن يعلم فله
فضل ما بين القيمتين ، أو كراء ما زاد إن أحب
ورواها أصبغ .
قال محمد بن رشد : قد مضت هذه المسألة متكررة
في سماع أبي زيد من كتاب كراء والأرضين ،
وتقدم القول عليها هناك فلا معنى لإعادته
وبالله التوفيق .
(9/118)
مسألة
وسئل عن الرجل يكري للبان يحمله على الإبل
والدواب أو لحمولة شيء فتعثر الدابة أو ينقطع
الحبل ، أو تربض الدابة فينكسر ما عليها ، قال
مالك : كل ما جاء من سبب الحمال من قطع حبل أو
عثر دابة أو ربضها أو نحو ذلك أو سفينة تغرق ،
فكل هذا إذا وقع فلا شيء للكري على رب المتاع
فيما حمل ولا فيما بقي ويفسخ الكراء فيما
بينهما ، فإن كان غر الكري من دابته وهو
يعرفها عثوراً أو ربوضاً أو نحو ذلك ، أو غر
من حبله فهو ضامن لما تلف ولا كراء له ، وكل
شيء أصاب المتاع من غير سبب الحمال من لصوص
ذهبوا بالمتاع ، أو سيل أو حرق فإن جميع
الكراء لازم لرب المتاع فيما حمل وفيما بقي ،
ويقال له : إحمل مثل متاعك الذي ذهب إلى
المكان الذي اكتريت إليه ، فإن شاء حمل ، وإن
شاء ترك ، وجميع الكراء لازم له .
قال محمد بن رشد : وقعت هذه المسألة في بعض
الروايات وهي صحيحة على قول ابن القاسم
وروايته عن ملك في المدونة ، وقد مضى في سماع
أبي زيد من كتاب كراء الدور والأرضين من القول
عليها ما فيه كفاية وبالله التوفيق .
ومن كتاب أوصى أنه ينفق على أمهات أولاده
قال ابن القاسم : ولا بأس أن يكتري الرجل إلى
طرابلس
(9/119)
بشيء مسمى لكل
حمل أو كل محمل وينقد كراء طرابلس قط ن ويشترط
أنه إذا جاء اطرابلس فإن بدا له أن يبلغ إلى
إفريقية فبحساب ذلك ، وذلك لازم للكري إن أراد
ذلك المستكري ، فإن بدا له أن يتاركه تاركه .
وأما أن يكتري إلى إفريقية وينقد كراء إفريقية
ويشترط إذا جاء أطرابلس فتركه حاسبه ، أو
يكتري إلى أطرابلس ويشترط إذا جاءها فإن بدا
له أن يمضي إلى إفريقية مضى ، وإن أراد أن
يتاركه تاركه وينقد الكراءين جميعا : كراء
طرابلس ، وكراء إفريقية ، فهذا لا يحل ، وهذا
بيع وسلف إلا ألا ينقد الكري شيئا فلا بأس به
.
قال محمد بن رشد : هذه مسألة قد مضى القول
عليها مستوفى في أول سماع ابن القاسم فلا معنى
لإعادته وبالله التوفيق .
مسألة
وقال في الذي يكتري على حمولة أرطال مسماة
فيزيد عليها زيادة يعطب في مثلها : إنه ضامن
في الإبل كلها ، وإنما مثل ذلك كرجل اكترى
دابة إلى الإسكندرية ، ثم تعدى بها يريد إلى
ترنوط فهلكت فهو ضامن ، يريد ولوخطوة واحدة .
قال محمد بن رشد : هذا مثل ما في المدونة أن
التعدي في الزيادة ، بخلاف التعدي في المسافة
، لا يضمن إذا عطب في الزيادة ،إلا أن تكون
زيادة يعطب في مثلها ، ويضمن إذا عطب في
الزيادة في المسافة وإن قلت وكان لا يعطب في
مثلها ، لأن ذلك عداء صرف لم يؤذن له فيه ،
بخلاف إذا عطيت من الزيادة . لأنه مأذون له في
تسييرها حيث
(9/120)
عطبت . وقد قال
أبو غسحق التونسي : إنه لا فرق بين الموضعين
على التحقيق ، لأنه إنما أذن له في تسييرها
على صفة فوجب أن يضمنها إذا سيرها على غير
الصفة التي أذن له في تسييرها عليها ، وهو
مخير بين أن يضمنه القيمة أو يأخذ منه كراء ما
زاد في المسافة بالغة ما بلغت ، أو كراء
الزيادة بالغة ما بلغت بأن يقوم كراء الحمد
دون زيادة وبالزيادة ، فيكون له عليه ما بين
القيمتين إن أراد أن يترك تضمينه ، قال في
المدونة وغيرها وبالله التوفيق .
مسألة
وقال في الرجل يريد أن يعقب الرجل في شق محمله
ويأبى الحمال ذلك ، قال : ذلك له إذا حمل مثله
وليس للحمال أن يمنعه . قال أصبغ : إن أعقب
راكباً مريحاً ، كان ذلك له ، لأنه مثله ، وإن
أعقب ماشيا فليس ذلك له ، لأن ركوبهما مختلف ،
هو يكون أضر على البعير وأثقل عليه .
قال محمد بن رشد : الظاهر من قول ابن القاسم
أن له أن يعقب ماشيا إذ لا غرض لأحد في أن
يعقب راكباً ، وقول أصبغ هو القياس ، ووجه ما
ذهب إليه ابن القاسم أن ذلك أمر معروف قد جرى
عليه الناس ، فكأن الكري قد دخل عليه ، وذلك
إذا فعله المرة بعد المرة في الفرط على ما جرت
به العادة ، وكذلك قال مالك في كتاب ابن
المواز : إذا كان عقبة بعد العقبة وبالله
التوفيق .
ومن كتاب سلف ديناراً في ثوب إلى أجل
وقال في الذي يتكارى من الرجل فيختلفان ،
فيقول الكري
(9/121)
أكريتك إلى
المدينة ، ويقول المتكاري تكاريت منك إلى
المغرب إن القول قول الكري ويتحالفان ويفسخ
الكراء بينهما ، وذلك إذا كانا في البلد لم
يخرجا ، وإن قال : تكاريت منك إلى مكة ، وقال
الكري : أكريتك إلى المدينة تحالفا وفسخ
الكراء بينهما إلا أن يشاء المتكاري أن يركب
إلى حيث سمى الحمال ، وإن قال أكريت منك إلى
مكة ، وقال الحمال : أكريتك إلى المدينة ، وقد
خرجا وسارا بعض الطريق فإن كان الجمال قد قبض
الكراء فالقول قوله يمضي به حيث قال الحمال ،
ليس للمتكاري غير ذلك ، وإن كان لم يقبض
الكراء فالقول قول المتكاري ، وعلى الحمال أن
يحمله إلى المدينة ويتحالفان ويتفاسخان من ذلك
المكان ، ثم يقسم الكراء فينظر كم بين المدينة
إلى مكة ، وكم هو من البلدة التي أكتري فيها
إلى البلد الذي قال الحمال وتحالفا فيها ، فإن
كان الذي ركب ثلاثة أرباع الطريق دفع إلى
الحمال ثلاثة أرباع الكراء وحبس الربع ، فعلى
هذا يحسب . قلت : فإذا تناكرا في الكراء ،
فقال هذا : عشرة وقال صاحب الظهر : خمسة عشر
وقد سارا أو لم يسيرا ، فقال : إن كانا لم
يسيرا تحالفا وتفاسخا ، وإن كانا قد سارات
فالقول قول المتكاري ، وصاحب الظهر مدع ، لأن
المتكاري قد انتقد حمولته ، قال فإن قال :
أكريتك إلى المدينة ، وقال المتكاري : أكريت
منك إلى مكة وذلك في أيام الحج ، فالقول قول
المتكاري إذا كان في أيام الحج ، ويحلف إذا
كانت حمولته محامل وزوامل ، فأما إن كان
عكوماً وأعدالاً فالقول قول الكري إذا كان قد
انتقد . وإن تكاري منه كراء مضموناً إلى أجل
ثم اختلفا بحضرة إيجاب .
(9/122)
الكراء ، أو
قرب ذلك في عدة الرواحل تحالفا وتفاسخا ، وإن
لم يختلفا حتى حل الأجل الذي يركب إليه
فاختلفا ، فقال : أكريت منك عشرة رواحل بمائة
دينار ، وقال الآخر : بل أكريت منك خمس رواحل
بمائة دينار ، فالقول قول الكري إذا كان يشبه
، وكذلك لو سلف مائة دينار ، فالقول قول الكري
إذا كان يشبه ، وكذلك لو سلف مائة دينار في
قمح إلى أجل ، فلما حل الأجل قال : إنما
أسلفتكها في ثلاثمائة إردب . وقال البائع : بل
في مائتي إردب ، فالقول قول البائع إذا كان
يشبه ، فإن لم يكن يشبه فالقول قول المشتري
إذا جاء أيضا بما يشبه ، فإن لم يشبه نظر إلى
سلم الناس يوم تبايعا فحملا عليه .
قال محمد بن رشد : قال إذا اختلف المتكاريان
في غاية المسافة ، مثل أن يقول الكري أكريتك
إلى المدينة ، ويقول المتكاري تكاريت منك إلى
المغرب ، يريد والمدينة في طريق المغرب ، أو
يقول الكري أكريتك إلى المدينة ، ويقول :
المتكاري تكاري منك إلى مكة أنهما يتحالفان
ويتفاسخان إذا كانا في البلد لم يخرجا ، يريد
وكذلك إن خرجا إلى موضع قريب لا ضرر عليهما في
الرجوع منه ، وصفة أيمانهما أن يحلف الكري ما
أكرى منه إلى المغرب ، وما أكرى منه إلى مكة
وليس عليه أن يزيد في يمينه ولقد أكرى منه إلى
المدينة ، ولا أن يحلف ما أكرى منه إلا إلى
المدينة ، إلا أن يشاء ذلك ، رجاء أن ينكل
صاحبه عن اليمين ، فلا يحتاج أن يحلف مرة أخرى
، فإن حلف حلف المكتري ، ما أكرى منه إلى
المدينة ، وليس عليه أن يزيد في يمينه ولقد
اكترى منه إلى مكة أو إلى المغرب ، ولا أن
يحلف ما اكتريت منه إلا إلى مكة أو ما اكتريت
منه إلا إلى المغرب ، إذ لا فائدة لحلفه على
ذلك ، فإن حلفا جميعا انفسخ الكراء بينهما ،
وكذلك إن نكلا جميعا على مذهب ابن القاسم وهو
قول شريح في المدونة فإن حلفا تراداً ، وإن
نكلا تراداً ، وعلى ما ذهب إليه ابن
(9/123)
حبيب أنهما إن
نكلا كان القول قول المكري دون يمين على حكم
المدعي والمدعي عليه أن القول قول المدعي عليه
دون يمين إذا نكل المدعي بعد نكوله ، وكما
يكون القول قول من أقام شاهداً على حقه دون
يمين إذا نكل المدعي عليه بعد نكوله بعد أن
يحلف لقد أكرى منه إلى المدينة وهو صحيح من
التأويل ، لأن اليمين التي نكل عنها إنما هي
التي ألزم إياها ، وهي ما أكرى منه إلى مكة ،
وأما يمينه لقد أكرى منه إلى المدينة فلم ينكل
عنها إذا لم يمكن منها ، ولا ألزم إياها ،
وإنما يحلفها باختياره ، نظراً لنفسه حسبما
ذكرناه ، وقد ذكرنا هذا المعنى في رسم الصبرة
من سماع يحيى من كتاب جامع البيوع . وإن حلف
أحدهما ونكل الآخر كان القول قول الحالف منهما
، إن نكل المكري أولا حلف المكتري لقد اكترى
منه إلى مكة أو إلى المغرب ووجب له ذلك ، وإن
حلف المكري أولاً ثم نكل المكتري عن اليمين
لزمه الكراء إلى المدينة إن كان المكري حلف
أولا أنه أكراه إلى المدينة أو أنه ما أكراه
إلا إلى المدينة . وأما إن كان حلف ما أكراه
إلى مكة أو إلى المغرب فلا بد له أن يحلف إذا
نكل المكتري ثانية بالله لقد أكراه إلى
المدينة ، وسواء في هذا على مذهب ابن القاسم
انتقد المكتري الكراء أو لم ينتقد . وقال غيره
في المدونة : إن كان انتقد فالقول قوله ،
وسواء في هذا أتيا بما يشبه ( أو بما لاي شبه
) أو أتى أحدهما بما يشبه والثاني بما لا يشبه
على المشهور في المذهب ، وقال ابن وهب : إن
أتى أحدهما بما يشبه والثاني بما لا يشبه كان
القول منهما قول من أتى بما يشبه ، وقد روى
هذا القول عن مالك ، ويقول ذلك من قول ابن
القاسم في هذه الرواية أنهما إذا اختلفا فقال
الكري : اكريتك إلى المدينة ، وقال المكتري :
اكتريت منك إلى مكة إن القول قول المكتري ،
إذا كان ذلك في أيام الحج ، وكانت حمولته
(9/124)
محامل وزوامل ،
ولم تكن عكوماً وأعدالاً لأنه رأي بذلك قوله
أشبه ، وقول الكري لا يشبه ، واختلف هل ينفسخ
الكراء بينهما بتمام التحالف أم لا ينفسخ حتى
يفسخه الحاكم بينهما اختلافاً كثيراً قد
ذكرناه مستوفي في رسم الصبرة من سماع يحيى ،
من كتاب جامع البيوع ، وأما إن كانا قد خرجا
وسارا من الطريق ما يكون عليهما في الرجوع منه
ضرر ، فقال في الرواية : إن الحمال إن كان قبض
الكراء فالقول قوله ، يمضي به إلى المدينة ،
وليس للمتكاري غير ذلك ، ومعنى ذلك إذا كانا
جميعاً قد أتيا بما يشبه ، أو كان الكري منهما
قد أتى بما يشبه ، فإن نكل حلف المكتري ، وكان
القول قوله في الركوب بما نقد إلى الغاية التي
أدعى ، وأما إن أتيا جميعا بما لا يشبه فإنهما
يتحالفان ويتفاسخان في الغاية التي اختلفا
فيها وهي ما بين المدينة إلى مكة أو إلى
المغرب ، ويكون للمكري على المكتري في ركوبه
إلى المدينة كراء المثل ، فإن كان ذلك أكثر
مما نقده وفاه القية ، وإن كان أقل مما نقده
رد عليه المكري الزيادة ، وكذلك إن نكلا
جميعاً ؛ فإن نكل أحدهما وحلف الآخر كان القول
قول الحالف منهما . وأما إن أتى المكتري بما
يشبه والمكري بما لا يشبه ، فإنهما يتحالفان
ويفض الكراء المنقود على المسافتين ، فما ناب
المسافة التي اتفقا عليها كان للمكري ، وما
ناب المسافة التي اختلفا فيها صرفه الكري على
المكتري ؛ وكذلك إن نكلا جميعا . فإن حلف
أحدهما ونكل الآخر كان القول قول الحالف منهما
. وقال في الرواية إن الحمال إذا كان لم يقبض
الكراء فالقول قول المتكاري ، وعلى الحمال أن
يحمله إلى
(9/125)
المدينة ،
ويتحالفان ويتفاسخان من ذلك المكان ، ثم يقسم
الكراء ، فينظر كم بين المدينة إلى مكة ، كم
هو من البلدة التي اكتري فيها إلى البلد الذي
قال الحمال ويتحالفان فيها ، فإن كان الذي ركب
ثلاثة أرباع الطريق دفع إلى الجمال ثلاثة
أرباع الكراء وحبس الربع ، فعلى هذا يحسب
وكذلك الحكم إذا نكلا جميعا ، فإن حلف أحدهما
ونكل الآخر كان القول قول الحالف منهما ، فإن
كان المكتري هو الذي نكل كان الكراء كله للكري
فيما أقر به من المسافة ، وإن كان المكري هو
الذي نكل كان للمكتري الركوب إلى حيث أدعى ،
ومعنى ذلك إذا كانا جميعا قد أتيا بما يشبه ،
أو كان المكتري منهما قد أتى بما يشبه ، وأما
إذا لم يشبه قول واحد منهما فإنهما يتحالفان
ويتفاسخان في المسافة التي اختلف فيها ، ويكون
للمكري في المسافة التي اتفقا عليها كراء
مثلها ، وكذلك الحكم أيضا إن نكلا جميعا ، فإن
نكل أحدهما وحلف الآخر كان القول قول الحالف
منهما وإن لم يشبه ، لأن صاحبه قد أمكنه من
دعواه بنكوله عن اليمين . وأما إن أشبه قول
الكري دون المكتري فالقول قوله مع يمينه على
دعوى المكتري ، فإن نكل المكري عن اليمين كان
القول المكتري ، ويركب إلى حيث أدعى وإن لم
يشبه ، لأن الكري قد أمكنه من ذلك بنكوله .
وقال بعد ذلك : إذا اختلفا في الكراء واتفقا
على المسافة إنهما يتحالفان ويتفاسخان إن لم
يسيرا إلا يسيرا ، وإن كانا قد سارا كثيرا
فالقول قول المتكاري ، وصاحب الظهر مدع لأن
المتكاري قد انتقد حمولته وذلك صحيح ، مثل
قوله في المدونة وعلى أصل قوله فيها ، وروايته
عن مالك في اختلاف المتبايعين ، لأن
المتكاريين إذا اختلفا في الكراء ولم يسر
المكتري أو سار يسيراً بمنزلة المتبايعين إذا
اختلفا في ثمن السلع ولم يقبض المشتري السلعة
فوجب أن يتحالفا ويتفاسخا ، وإذا اختلفا بعد
أن
(9/126)
سار المكتري
كثيراً وإن لم يبلغ المسافة فهو بمنزلة إذا
اختلف المبتايعان في ثمن السلعة بعد أن قبضها
وفاتت ، وإنما كان الركوب الكثير فوتاً بمنزلة
بلوغ المسافة من أجل أن التفاسخ لا يمكن في
بعض الطريق إلا بضرر يدخل عليهما . وهو معنى
ما أراد بقوله ، لأن المتكاري قد انتقد حمولته
، يقول : لأنه قد وجب له الركوب إلى تمام
غايته ، وسواء كان الكراء مضموناً أو معينا ،
قال في المدونة ولغيره فيها ليس الراحلة
بعينها كالمضمون ، يريد والله أعلم أن القول
قول المكتري في الكراء في الراحلة بعينها إذا
قبضها وإن لم يسر إلا يسيراً ، كما يكون القول
قول المشتري في الثمن إذا قبض السلعة وإن لم
تفت على قياس رواية ابن وهب عن مالك ، وأنه لا
يكون القول قوله في الكراء في الراحلة بغير
عينها إلا فيما مضى من الطريق ، ويكون القول
قول الكري فيما بقي منه . وإن كان دفع إليه
جملا يركبه فلا يكون أحق به من الغرماء إن فلس
، خلافاً لابن القاسم في الموضعين . وقوله :
وإن قال أكريتك إلى المدينة ، وقال المتكاري
أكريت منك إلى مكة وذلك في أيام الحج ، فالقول
قول المتكاري ، ويحلف إذا كان في أيام الحج
وكانت حمولته محامل وزوامل يقوم منه أن
المتبايعين إذا اختلفا في ثمن السلعة قبل
القبض ، وأتى أحدهما بما يشبه دون الآخر ، [
وأن المتكاريين إذا اختلفا في الكراء أو في
المسافة قبل الركوب ، وأتى أحدهما بما يشبه
دون الآخر ] أن القول قول الذي أتى منهما بما
يشبه ، ولا يتحالفان ويتفاسخان ، وهو خلاف
المشهور في المذهب . وقد روي ذلك عن مالك ،
وهو قول ابن وهب في الدمياطية
(9/127)
قال في الذي
يقول : اكتريت إلى الإسكندرية ، ويقول المكري
أكريتك إلى الكريون وكان القول قوله ، وإن كان
يشبه الكريون حلف المكري وكان القول قوله ،
وهو قول ابنالقاسم في سماع أصبغ من كتاب
الصدقات والهبات ، وإليه ذهب ابن حبيب في بعض
مسائله منها إذا اختلفا في صفة النقد ، وإذا
أدعى أحدهما حلالاً حراماً . وأما قوله : فأما
إن كان عكوماً أو أعدالاً فالقول قول الكري
إذا كان قد انتقد ، فهو من قوله خلاف قوله في
المدونة مثل قول غيره فيها إن النقد المقبوض
فوت ، ومثل ما في رسم الصبرة من سماع يحيى من
جامع البيوع ، والمعنى في ذلك إذا كانت حمولته
عكوماً وأعدالاً أشبه قول كل واحد منهما ، لأن
كونهما في إبان الحج يشهد للمكتري ، وصفة
الأحمال تشهد للكري ، فوجب أن يتحالفا
ويتفاسخا إلا أن يكون قد انتقد الكراء فيكون
القول قوله ، وذلك نص قول غير ابن القاسم في
المدونة إن النقد المقبوض فوت . وقوله إذا
تكارى منه كراء مضموناً ثم اختلفا في عدة
الرواحل إنهما يتحالفان ويتفاسخان إن كان ذلك
بحضرة إيجاب الكراء أو قربه ، وأنه يكون القول
قول الكري إن كان اختلافهما بعد حلول الأجل ،
وأن ذلك بمنزلة من سلف دنانير في قمح فاختلفا
في عدد المسلم فيه من القمح هو نص ما في
المدونة ، وفي ذلك أربعة أقوال : أحدها أن
النقد المقبوض فوت . والثاني أنه لا يكون
فوتاً إلا بعد الغيبة عليه . والثالث أنه لا
يكون فوتاً إلا بعد الطول في السلع المعينات
وحلول الآجال في السلم والكراء المؤجل .
والرابع أنه لا يكون فوتاً وإن طال وحل الأجل
، لأن رد مثله كرد عينه . وقد
(9/128)
مضى القول على
هذا وبيانه في رسم الصبرة من سماع يحيى من
كتاب جامع البيوع ، وفي نوازل سحنون الثانية
منه . وأما قوله فإن لم يشبه نظر إلى سلف
الناس يوم تبايعا فحملا عليه ، فمثله في أصل
الأسدية ، وفي كتاب ابن المواز ، دليل ما في
المدونة أنهما يتحالفان ويتفاسخان إذا أتيا
جميعا بما لا يشبه ، ويرد مثل الدنانير التي
قبض وهو القياس والنظر ، لأنه لا يقال إذا
اختلفا في ثمن السلعة وقد فاتت ، فقال البائع
بعتها بعشرة إلى شهر ، وقال المشتري اشتريتها
بخمسة إلى شهر ، وأتيا جميعا بما لا يشبه أن
يكون على المبتاع ما يباع به مثل تلك السلعة
إلى شهر ، وإنما تكون عليه قيمتها يوم قبضها ،
فكما يكون عليه قيمة السلعة ، ولا يراعي الأجل
الذي اتفقا عليه ، فكذلك يكون عليه في السلم
أن يرد الدنانير التي قبض ولا يراعي الأجل
والله أعلم وبه التوفيق .
ومن كتاب أسلم وله بنون صغار
وقال ابن القاسم : لا خير في أن يكتري الرجل
الدابة أو البعير أو غيره ويشترط على صاحب
الدابة أو البعير أنه إن مات ببعض الطريق قاصه
بما ركب وأخذ دابته أو بعيره .
قال محمد بن رشد : إنما قال : لا خير في ذلك
من أجل أنه شرط فاسد مخالف للسنة في أن الكراء
لا ينفسخ بموت أحد المتكاريين وإن كان ابن
دينار يرى أن الكراء بنفسخ بموت المكتري فهو
شذوذ ، فالحكم فيه إذا وقع أن يفسخ الشرط
ويجوز الكراء ، إذ لا يؤول الكراء على الشرط
إلا إلى الجهل بمبلغ مدة الكراء ، لا إلى
الجهل بقدر الكراء ، لأنه يأخذ بحساب ما سار ،
وذلك في القياس كالصبرة تشتري جزافاً كل
(9/129)
قفيز بدرهم ،
لأن الثمن معلوم ، وعدد المبيع من الأقفزة
مجهول . وعبد العزيز بن أبي سلمة لا يجيز ذلك
، فعلى قياس قوله الكراء على هذا الشرط فاسد
يفسخ ، وتكون فيه القيمة إن لم يعثر عليه حتى
فات والله أعلم . وهذه المسألة تشبه في المعنى
مسألة الرجل يكون له البز في البلد فيكري
الدابة إليه ، على أنه إن وجد بزه في الطريق
رجع وكان له بحسابه ، إلا أنها عند ابن القاسم
أشد منها من أجل أنه شرط في الكراء خلاف سنته
، ولذلك قال : لا خير فيه في هذه وأجاز تلك ،
وسحنون لا يجيز تلك فأحرى ألا يجيز هذه ،
ويأتي على مذهبه فيها أن يفسخ الكراء ، فإن
فات كانت فيه القيمة ، ويشبه أن يكون الحكم
فيها على مذهب ابن القاسم أن يفسخ ما لم يف
بالركوب ، لقوله فلا خير في ذلك ، فإن فات
بالركوب مضى بالثمن وفسخ الشرط وبالله التوفيق
.
ومن كتاب حمل صبياً على دابة
قال ابن القاسم : ومن اكترى دابة فقال : قامت
علي بالطريق فتركتها فهو مصدق ولا شيء عليه .
قال محمد بن رشد : يريد بقوله ولا شيء عليه ،
أي لا غرم عليه ، لأنه إنما يصدق مع يمينه إلا
أن يتبين كذبه ، مثل أن يكون في رفقة وجماعة
من الناس فلا يعلم أحد ما يقول على ما مضى في
رسم سن من سماع ابن القاسم ، وقد مضى في رسم
باع شاة من سماع عيسى من كتاب جامع البيوع
القول في هذا المعنى مستوفي فلا وجه لإعادته
هنا مرة أخرى ، وبالله تعالى التوفيق .
ومن كتاب جاع فباع امرأته
وسألته عن الرجل يكتري الظهر وينقد الكراء ،
ثم يبدو له
(9/130)
فيستقيل صاحب
الظهر ، فيقول صاحب الظهر : أنا أقيلك على أن
تؤخرني . قال : لا خير فيه إلا أن ينقده ركب
أو لم يركب .
قال محمد بن رشد : هذا كما قال ، لأنه وجب
عليه ركوب ، فإذا أقاله على أن يؤخره بما نقده
كان قد فسخ الركوب الذي وجب له عليه في دنانير
إلى أجل ، وسواء ركب أو لم يركب كما قال ، لأن
الفساد في نفس الإقامة ، وإنما يفترق ذلك فيما
ذلك فيما لا يوجد الفساد فيه إلا بمجموع
الكراء والإقالة ، فيتهمان على العمل على ذلك
والقصد إليه إذا كان ذلك قبل الركوب ، وإن كان
بعد الركوب ارتفعت التهمة بينهما عند ابن
القاسم خلافاً لأشهب ، وما يجوز فيه الإقالة
من الكراء مما لا يجوز يتفرع إلى اثنى عشر
وجهاً في الكراء المضمون ، وأربعة وعشرين
وجهاً في المعين وقد فرغنا من تفسير ذلك في
المقدمات فأغنى ذلك عن ذكره هنا ، وبالله
التوفيق .
ومن كتاب النسمة
وسئل ابن وهب عن رجل استأجر دابة يحمل عليها
خشبة فحمل عليها الخشبة فانفلتت من يد
المتكاري فسقطت وهي على الدابة فكسرت رجل
الدابة . هل يضمن ؟ قال : أرى عليه ضمان تلك
الدابة إن كانت بطلت ، وإن كان الذي أصابها
شيئاً خفيفاً ينقص من ثمنها ، فأرى عليه ما
نقص من ثمنها ، لأن ذلك من الخطأ الذي جاء على
يديه .
(9/131)
قال محمد بن
رشد : هذا كما قال ، لأنها جناية منه ، وخطأ
جاء على يديه ، وأموال الناس تضمن بالعمد
والخطأ ، وإنما يفترق العمد من الخطأ في
العقوبة يؤدب من تعمد ، ولا يؤدب من أخطأ ،
ولو ضرب الدابة ضرباً يجوز له فجاء من ذلك ما
جر إلى عطبها لم يكن عليه ضمان ، ولو أخطأ في
ضربها فضرب عينها ففقأها ونحو هذا عليه الضمان
، لأنها جناية منه ، وبالله التوفيق .
ومن كتاب أوله إن أمكنتني
وقال في الرجل يكري السفينة إلى الإسكندرية
فيركب ويحمل عليها ويأتي الخليج فيجده ليس فيه
ماء ، قال : يكون له من الكراء على قدر ما سار
. قيل لسحنون : وكذلك الذي يتكارى الدابة إلى
موضع فإذا سار نصف الطريق بلغه عن الموضع الذي
يريده فتنة وأنه لا يستطيع دخولها ؟ قال لي :
نعم هي مثلها ، ينفسخ الكراء بينهما ويكون له
من الكراء بقدر ما سار من الطريق .
قال محمد بن رشد : هذا بين على ما قال ، وهو
مما لا اختلاف فيه أنه إذا حال بينه وبين
الوصول إلى البلد الذي اكتري إليه ، خوف لا
يختص به من فتنة وما أشبه ذلك ، أو قلة ماء
منع المركب من المسير أن له بحساب ما مضى
وينفسخ الكراء فيما بقي . وقد مضى هذا في آخر
سماع أشهب ، وفي سماع أبي زيد من كتاب كراء
الدور والأرضين ، وبالله التوفيق .
ومن كتاب القطعان
قال ابن القاسم في الذي يستحمل الحمال مائة
إردب
(9/132)
على أن يوفيه
بالقلزم سبعة وتسعين ، ويطرح عنه ثلاثة أرادب
لما ينقص في المركب ، على ذلك يعقدون الكراء :
إن ذلك مكروه لا خير فيه .
قال محمد بن رشد : هذا بين على ما قال ، وقد
تقدم مثله في رسم البيوع الأول من سماع أشهب ،
ومضى القول فيه فلا معنى لإعادته .
ومن كتاب العتق
وقال فيمن سلف في حمولة إلى شهر ، ثم سأل
المتكاري الكري قبل محل الشهر أن يعجل له
الحمولة ويزيده ، إن ذلك لا يحل من قبل ضع
وتعجل ، يريد أن ذلك يدخله من المكروه ما يدخل
ضع وتعجل بالمعنى ، لأن ضع وتجل إنما لم يجز
لأن الذي عليه الدين عجل للذي له الدين بعض
دينه قبل أن يحل أجله ، فكأنه أسلفه إياه على
أن يقتضيه من نفسه لنفسه في دينه إذا حل أجله
على أن يحط عنه بقيته ، وحطيطته إياه عند عطية
منه له ، فكان ذلك الزيادة في السلف محضاً ،
فكما لا يجوز أن يعجل له بعضه على أن يعطيه
بقيته ، فكذا لا يجوز له أن يعجل له جميعه على
أن يزيده زيادة ، إذ لا فرق في المعنى بين أن
يعجل له بعض دينه على أن يضع عنه بقيته ، وبين
أن يعجله له على أن يعطيه شيئاً آخر ، فإذا لم
يجز أن يعجل له بعض دينه على أن يعطيه شيئاً
آخر ، كان أحرى ألا يجوز أنيعجل له جميعه على
أن يعطيه شيئاً من الأشياء يزيده إياه وبالله
التوفيق .
(9/133)
مسألة
وقال فيمن كانت له حمولة حالة فسألة الكري أن
يحمل وأقلقه ، فقال له : أخر عني ذلك شهراً أو
أياماً ولك عشرة دنانير : إن ذلك لا خير فيه
لمكان الضمان ، زاده على أن يضمن له بمنزلة
رجل سلف في ثوب إلى شهر ، فلما حل قال له :
أزيدك ديناراً أو درهماً وأخره عني إلى شهر
تضمنه لي إلى ذلك الأجل لأسواق يرجوها عنده ،
أو نفاق وما أشبه ذلك . ولكن لو كان صاحب
الحمولة ( قد حمل وسار ) بعض الطريق ، فسألة
أن يقيم عليه بالموضع أياماً وما أشبه ذلك
ويزيده لم يكن بذلك بأس .
قال محمد بن رشد : هذا بين على ما قال . لأن
من حق من كان عليه دين حال أن يقضيه فتبرأ
ذمته منه ، فلا يجوز للذي له الدين أن يعطيه
شيئاً على أن يبقيه في ذمته ، ويحرزه في ضمانه
كائناً ذلك الدين ما كان . كما أنه لا يجوز
لمن عليه عرض مؤجل أن يعطي صاحب الدين شيئاً
على أن يقبض دينه منه قبل محل الأجل فيبريء
ذمته منه ويحط ضمانه عنه . وأما إعطاء الذي
عليه الدين صاحب الدين شيئاً على أن يؤخره
بدينه فذلك الربا المحرم بالقرآن ، وعكس ذلك
إعطاء صاحب الدين الذي عليه الدين شيئاً على
أن يعجل له دينه قبل حلول أجله على ما مضى في
المسألة التي قبل هذه وبالله التوفيق .
ومن كتاب المدينين
قال : وسئل ابن القاسم عن الرجل يكري الدابة
من المدينة
(9/134)
إلى مكة
فيركبها ، ثم يرجع قبل أن يبلغ إلى مكة ، هل
عليه جمعي الكراء ؟ وهل له أن يركبها في مثل
ما قصر عن مكة ؟ فقال ابن نافع : قد لزمه جميع
الكراء ، وليس له أن يركبها في مثل ما قصر عن
مكة . وقال ابن القاسم : إن كان إنما سار
البريد والبريدين وما أشبههما فله أن يركبها
ويكريها إلى مثل ما قصر عنه من سفره ، إلا أن
يتراضيا على شيء معلوم ، وإن كان سار جل
الطريق ثم ردها ، رأيت جميع الكراء لصاحبها .
قال محمد بن رشد : وقعت هذه المسألة في بعض
الروايات ، وقد مضى القول عليها مستوفى في رسم
البيوع الأول من سماع أشهب ، فلا معنى لإعادته
والله الموفق .
ومن سماع يحيى من ابن القاسم من كتاب الصبرة
قال يحيى سئل ابن القاسم عن الرجل يستكري
السفينة أو الإبل على حمل طعام فجفعه إلى
الجمال أو إلى صاحب السفينة ويكيله عليه فتعدى
الحمال أو صاحب السفينة في بعض الطريق فباع
الطعام ، ماذا يجب لصاحب الطعام ؟ فقال : يخير
، فإن شاء أخذ الثمن الذي باعه به ، أو مكيلة
طعامه ، هو في ذلك بالخيار . قلت : فإن اختار
مكيلة طعامه فأين يجب له أخذه ؟ أحيث تعدى
عليه المتعدي ؟ أم في البلد الذي كان عليه أن
يحمله إليه ؟ فقال : بل في البلد الذي كان
عليه أن يحمله إليه . قيل : فإن اختار أخذ
الثمن أيأخذ الثمن الذي باعه بعينه أو يأخذ
قيمة طعامه حيث تعدى عليه المتعدي ؟ قال : بل
الثمن بعينه ، وليست له القيمة ، لأنه إذا كره
أخذ الثمن لم يكن له إلا المكيلة ، وإذا رجع
إلى أخذ المكيلة وجب له أخذها في البلد الذي
استكراه أن يحمل له
(9/135)
إليه . قيل :
أرأيت إن اختار أخذ الثمن أيغرم الكراء كله أم
بقدر ما حمله المتعدي ؟ قال : بل الكراء ( كله
) وله أني يستحمل مثله من الموضع الذي تعدى
فيه على بيع الطعام إلى الموضع الذي كان له
استحمله الطعام أولاً .
قال محمد بن رشد : قوله في الكري يتعدى على
الطعام فيبيعه في بعض الطريق إن رب الطعام
مخير بين أن يأخذ الثمن الذي باع به طعامه أو
مثل مكيلة طعامه ، وأنه يجب له أخذ مكيلة
طعامه إن اختار أخذ المكيلة في البلد الذي كان
عليه أن يحمله إليه ، معناه عندي على القول
بأن الكراء لا ينفسخ بتلف الشيء المستأجر على
حمله إذا دعا إلى ذلك الجمال ، لأن الواجب أن
يغرم له مثل الطعام في الموضع الذي تعدى عليه
فيه ، ويحمله له على غايته ، فإذا قال له
الكري خذ مني مثل طعامك في البلد الذي علي أن
أحمله غليه لم يكن لامتناع رب الطعام من ذلك
وجه ، لأن في ذلك ضرراً عليه وعلى الجمال .
أما هو فوجه الضرر الداخل عليه في ذلك أنه قد
يتلف في الطريق ببينة على تلفه فيخسره . وأما
الجمال فوجه الضرر الداخل عليه في ذلك أنه قد
يتلف في الطريق فلا تقوم له بينة على تلفه
فيغرمه ، وقد يشتريه أيضاًَ في الموضع الذي
تعدى عليه فيه بأكثر مما يشتريه في الموضع
الذي كان عليه أن يحمله إليه ، وهو إن قام
عليه في البلد الذي استكري إليه أمن في الضرر
على كل واحد منهما . فإذا كان ما دعا إليه
الجمال جائزاً وما دعا إليه رب الطعام جائزاً
أيضاً ، إلا أن فيه ضرراً على كل واحد منهما
وجب أن يجاب الجمال لما دعا إليه ، لقول النبي
عليه السلام : " لا ضرر ولا ضرار " . وأما إذا
أراد الجمال أن يغرم لرب الطعام مثل طعامه في
الموضع الذي تعدى عليه فيه ويحمله له إلى
غايته
(9/136)
فذلك له ، لأنه
هو الذي يوجبه الحكم ، وليس لرب الطعام أن
يضمنه إياه في البلد الذي كان عليه أن يحمله
إليه . وأما على القول بأن الكراء يفسخ بتلف
الشيء المستأجر على حمله فلا يجوز أن يأخذ منه
مثل الطعام في البلد الذي كان عليه أن يحمله
إليه وإن رضيا بذلك جميعاً ، لأنه يكون قد
اشترى منه الطعام بذلك البلد بالطعام الذي وجب
له حيث تعدى عليه ، وبالكراء الذي يجب له به
الرجوع عليه . وقد قيل : إن قول ابن القاسم في
هذه المسألة على القول بأن الثوب إذا تلف عند
القصار قبل أن يقصره أو بعد أن قصره يغرم
قيمته مقصوراً ، ويكون له أجر قصارته خلاف
مذهبه في المدونة ، لأن قال فيها : إنه ليس
لرب الثوب أن يضمنه قيمته مقصوراً ويغرم له
أجر قصارته ، فأنزل الجمال على حمل الطعام
منزلة الصانع لكونه ضامناً له ، فقال : إنه
يضمن مثل الطعام في البلد الذي كان عليه أن
يحمله إليه ، ويكون له الكراء كما يكون على
الصانع قيمة الثوب مصنوعاً ويكون له أجره .
ومثله قول ابن القاسم في سماع أصبغ من كتاب
تضمين الصناع أن الطحان يضمن ما نقص من الدقيق
دقيقاً ، ويكون له أجرته ، ويأتي القول على
هذا مستوفى في موضعه من السماع المذكور إن شاء
الله ، والتأويل الأول في مسألتنا أصح وأظهر
من جهة المعنى ، والتأميل الثاني أسعد بظاهر
اللفظ إلا أنه بعيد من جهة المعنى .
ومن كتاب الصلاة
وسئل عن رجل باع دابة له من رجل وقد كان
البائع أكراها من مصر إلى الرقة واشترط البائع
على المبتاع أن عليك
(9/137)
حمل ما وجب على
ذلك استكرى منى الدابة ضامناً عليك لحمله على
أي دوابك شئت ، قال : أرى هذا بيعاً جائزاً ،
إنما باعه الدابة بالثمن الذي أخذ منه وبحمولة
مضمونة ، وليس هذا عندي بمنزلة الذي يبيع
الدابة ويستثني ظهرها مكاناً بعيداً .
قال محمد بن رشد : معنى هذه المسألة أنه كان
أكراها إلى مصر ولم يعينها بالإشارة إليها
فكان الكراء مضموناً ِ، وإن كان قال له أكري
منك دابتي على ما مضى في رسم القبلة وهو
المشهور في المذهب حسبما مضى به القول هناك .
من سماع عبد الملك بن الحسن من ابن القاسم
قال عبد المالك بن الحسن سئل ابن القاسم عن
الرجل يتكارى الدابة إلى موضع يسميه فيقطع به
اللصوص أو يسرق له متاع ، أو يقطع به شيء لا
يقدر من أجله على المسير ، قال الكراء لصاحب
الدابة ، فإن شاء المتكاري أن يسير وإن شاء
فليقم ، وله أن يستكريها في مثل ذلك ، وسئل
عنها سحنون ، فقال : إنما هذا في الذي يقطع به
اللصوص أو يسرق له المتاع فالكراء له لازم كما
قال ، وأما الذي يتكارى الدابة إلى موضع
فيبلغه عنه شيء لا يقدر على دخوله ولا التخلص
إليه فالكراء ينفسخ بينهما .
قال محمد بن رشد : قول سحنون صحيح ، مفسر لقول
ابن القاسم ، وقد مضى مثله في آخر سماع أشهب ،
وفي رسم إن أمكنتني من سماع عيسى ، وفي سماع
أبي زيد من كتاب كراء الدور والأرضين .
(9/138)
مسألة
قال عبد لملك : وسألت ابن وهب عن الذي يتكارى
دابة بعينها فتهلك ببعض الطريق ، فقال ابن وهب
: قال مالك : إذا هلكت بموضع يجد فيه كراء
حاسبه ورد عليه ما بقي من كرائه ، وإن ماتت
بموضع لا يجد فيه كراء ويخاف على نفسه أن يضيع
وتدخل عليه ضرورة ، فأرى أن يحمله على بعض ما
معه من الدواب فذلك جائز .
قال محمد بن رشد : هذه مسألة قد مضى القول
فيها مستوفى في رسم مرض من سماع ابن القاسم ،
فلا معنى لإعادته والله الموفق .
من سماع أصبغ من ابن القاسم من كتاب البيوع
والعيوب
قال أصبغ سمعت ابن القاسم يقول في الذي يكتري
زاملة يركبها بخمسة دنانير فيزيد شيئاً على أن
يتحول إل شق محمل أنه لا بأس به ، وأنه إن
تكاري على حمل الأعكام ثم أراد أن يحول ذلك
إلى محمل ويزيده ، قال : لا خير فيه . وقاله
أصبغ لأن الذي يتحول من الأعداد إلى المحامل
أمر يبعد بعضه من بعض ، ولا يتقارب خفته ، فهو
كالذي يسلف في شقة بصفة ثم يتحول إلى رابطه
ينسخها ويزيده ، وقد كرهه مالك وابن القاسم ،
والذي يتحول من الزاملة إلى المحمل كالذي
يتحول من رابطة ست في ثلاث ، إلى سبع في أربع
، فهو الأصل كما هو ، فهو خفيف ، وقد أجازه
مالك .
(9/139)
قال محمد بن
رشد : هذه مسألة قد مضى القول فيها مستوفى في
رسم العارية من سماع عيس فلا معنى لإعادته
وبالله التوفيق .
مسألة
قال أصبغ : سمعت ابن القاسم يقول في الذي
يكتري الشيء مما يغيب عليه ، أو مما لا يغيب
عليه ، ثم يدعى أنه قد رده إليه أنه مصدق ،
دفع ذلك إليه ببينة أو بغير بينة ، وليس
بمنزلة العارية ولا الصناع يدعون الرد ، لأن
أولئك عليهم الضمان لو ادعوا تلفاً ـ فكل من
كان يكون عليه الضمان إذا ادعى التلف فلا يصدق
إذا قال رددت ، وكل من لا ضمان عليه إذا ادعى
تلفاً وكان يصدق فهو مصدق إذا ادعى الرد . قال
أصبغ : بيس ما قال ولا (يعجبني ) هذا ، وأراه
خطأ من الحجة ، والرأي الوديعة والقراض لا
يكون عليه فيمهما ضمان إذا ادعى تلفاً ، وإذا
أنذر فيهما بالبينة فدفعا إليه بالبينة لم
يخرجه من الرد إلا البينة وهو قول مالك فيهما
، فكذلك الاكتراء إذا أنذر بالبينات ودفع
بالإشهاد رد كذلك ، وإلا ضمن ولم يصدق ، وهذا
أصل خطأ يبنى عليه .
قال محمد بن رشد : قوله إن مصدق في رد الشيء
المكترى قبضه ببينة أو بغير بينة خلاف ما مضى
في أول سماع عيسى أنه إذا قبضه ببينة فعليه أن
يرده ببينة ، وخلاف قول ابن القاسم وروايته عن
مالك في المدونة وغيرها أنه يلزمه أن يرد
الوديعة ببينة إذا قبضها ببينة ، لأن الذي
يأتي على قول ابن القاسم في هذه الرواية أن
يكون مصدقاً في رد الوديعة والقراض إن كان
قبضهما ببينة ، إذ لا فرق بين القراض وبين
(9/140)
الشيء المستأجر
، لأنهما قبض كل واحد منهما لمنفعة الدافع
والقابض ، ولأنه إذا كان يصدق في رد الوديعة
وإن كان قبضها ببينة ، لأن الشيء المستأجر قبض
لمنفعة القابض والدافع ، والوديعة لم تقبض إلا
لمنفعة الدافع وحده ، وقد كان يشبه أن يفرق
بين الوديعة والشيء المستأجر ، بأن الإشهاد
على الشيء المستأجر يحتمل أن يكون القصد به
إنما هو الإشهاد على الأجرة لا على الأجرة لا
على الشيء المستأجر ، بخلاف الوديعة التي لا
تحتمل أن يكون الإشهاد فيها على ما سوى الشيء
المودع ، ولولا أن هذا ينتقض بالقراض ، فلا
يلزم ابن القاسم اعتراض أصبغ عليه بالقراض
والوديعة ، إذ لا يفرق بين شيء من ذلك ، وإن
كان قد وقع لابن القاسم في النوادر ما ظاهره
أنه فرق بين الشيء المستأجر وبين الوديعة
والقراض ، مثل ما تأول عليه أصبغ في هذه
الرواية وهو بعيد ، وقد مضى تمام القول في هذه
المسألة في أول رسم من سماع عيسى .
ومن كتاب البيع والصرف
قال أصبغ : سألت ابن القاسم عن الذي يقول
أكتري منك المواد إلى مكة بخمسة دنانير فإن
بدت لي الرجعة فبذلك الكراء ، قال : لا بأس
بذلك إذا كان الوزن والحمولة والكراء واحداً ،
وليس في شيء من ذلك زيادة ، وقاله أصبغ ما لم
يقدم شيئاً من كراء الرجعة على أنه إن رجع فيه
وإن لم يرجع استرده ، فإذا كان هكذا فلا خير
فيه .
قال محمد بن رشد : قد مضت هذه المسألة في رسم
أوصى من
(9/141)
سماع عيسى ،
ومضت أيضاًَ والقول عليها مستوفى في أول سماع
ابن القاسم . وبالله التوفيق .
مسالة
قال أصبغ فيمن تكاري دابة إلى موضع بنصف ثوب
أو ثوب ، فركب الدابة فماتت ببعض الطريق ، أو
بلغ عليها إلى الموضع الذي أكراها إليه ،فماتت
واستحق نصف الثوب . قال : إذا استحق نصف الثوب
وركب الدابة نصف الطريق فإن الكري يأخذ ربع
كراء دابته إلى الموضع الذي ركب إليه كراء
مثله ، وكذلك النصف على هذا القياس . قال محمد
بن رشد : قوله فإن الكري يأخذ ربع النصف
الباقي بيده ويرجع على المكتري بربع كراء
دابته إلى الموضع الذي ركب إليه كراء مثله غلط
بين لا يصح ، وإنما يأخذ نصف النصف الباقي
بيده ويرجع على المكتري بنصف قيمة ما سار من
الطريق ، وذلك أنه لما ماتت الدابة بنصف
الطريق استوجب نصف الثوب الذي وقع الكراء به
ورجع نصفه إلى المكترى فصارا فيه شريكين ،
فلما استحق نصفه على الإشاعة دخل الاستحقاق
على الكري في نصفه ، فوجب أن يرجع على المكتري
بما يقابله من الركوب الفائت ، وهو نصف قيمة
كراء دابته إلى الموضع الذي ماتت فيه ، إلا أن
يشاء أن يرد ما بقي بيده من الثوب ويرجع بجميع
قيمة ما سار من الطريق فيكون ذلك له ، للضرر
الداخل عليه باستحقاق نصف الثوب من يده .
وقوله : وكذلك النصف على هذا القياس ، يريد
(9/142)
وكذلك إذا أكرى
منه دابته بنصف ثوب فماتت الدابة بنصف الطريق
، واستحق نصف الثوب ، والواجب فيذلك على قياس
ما قلناه وصححنا عليه المسألة أن يكون للمكتري
من الثوب نصف ما بقي بيده منه بعد الاستحقاق ،
وهو الثمن بركوب المكتري دابته بنصف الطريق ،
ويرجع عليه بنصف قيمة ما سار من الطريق إلا أن
يشاء أن يرد ويرجع بجميع الركوب ؛ ولو استحق
نصف ما وقع الكراء به من جميع النوب أو من
نصفه قبل الركوب ؛ لا نتقض نصفه ، وكان
للمكتري أن يركب نصف الطريق ، إلا أن يرد
النصف ويفسخ الكراء عن نفسه للضرر الداخل عليه
بالاستحقاق فيكون ذلك له ؛ ولو استحق جميعه
قبل الركوب لا نتقض جميع الكراء وبالله
التوفيق .
ومن كتاب القضاء العاشر
قال أصبغ : وسمعت ابن القاسم ، وسئل عمن تكارى
دابة مشاهرة فسافر عليها فاعتلت في السفر ولم
يستطع ركوبها ، قال : إن كانت له بينة بذلك
فما أقامت في ذلك سقط عنه وحوسب بما قبل ذلك
من قدر الكراء .
قال محمد بن رشد : قوله اكتراها مشاهرة فسافر
عليها معناه أنه سافر عليها بإذن ربها بعد
وجوب الكراء وانعقاده على الصحة بينهما ، إذا
لا يجوز للرجل أن يكري الدابة مشاهرة للتصرف
والركوب على أن يسافر بها سفراً يسميه ، وإنما
يجوز أن يكريها للركوب والتصرف ويشترط أن
يسافر عليها سفراً يسميه إذا أكراها لسنة أو
لمدة معروفة مؤقتة فيعرف مقدار ما يقع منها
السفر الذي اشترطه ، ولم اشترط أن يسافر عليها
إن احتاج إلى
(9/143)
السفر ولم يؤقت
مقدار السفر لم يجز ، وقد مضى بيان هذا في رسم
البيع والصرف في كتاب الجعل والإجارة ، ولو
اكتراها لمدة معلومة أو مشاهرة للاختلاف بها
في الأسفار إلى بلاد يسميها لجاز . وقوله إنه
إن كانت له بينة على اعتلالها سقط عنه من
كرائها قدر ما اعتلت فيه من مدة الكراء صحيح
لا إشكال فيه ، لأن المصيبة في مرض الأجير
واعتلال الدابة المكتراة على الأجير والمكري ،
لا على المستأجر والمكتري .
مسألة
قال أصبغ فيمن تكارى دابة إلى موضع بعبد أو
بجارية فلما سار بعض الطريق استحق العبد أو
الجارية ، قال أصبغ : فإن له من الكراء بقدر
ما حمله وسار به من الطريق بكراء مثله ، لأنها
سلعته ، والثمن الذي أعطاه في العبد والجارية
وجده فائتاً فليرجع بقيمته هو ، والدليل على
ذلك أن لو بلغ الموضع كله ثم استحق العبد أو
الجارية أكان يرجع بقيمتهما ؟ لا ، ولكن بقيمة
الكراء ، كما لو لم يسر شيئاً حتى استحقها بطل
الكراء ، لأنها سلعته اشتراها بسلعة بعينها
فلم يتم له البيع فرجع إلى سلعته ، ولم يكن له
أن يقول : آخذك بقيمة العبد أو الجارية التي
استحقت من يدي على ما أحببت وكرهت ، وليس في
هذا كلام .
قال محمد بن رشد : هذه مسألة بينة ليس فيها
كلام ولا إشكال ولا اختلاف ، والمسألة التي
مضت في الرسم الذي قبل هذا تزيدها بياناً
وبالله التوفيق .
ومن كتاب الكراء والأقضية
وسمعته يقول في حمال حمل شيئاً فصدم أو رمي
فانكسر ما
(9/144)
عليه ، فالذي
رماه أو صدمه ضامن لما عليه ، وللأجير أجرته
بقدر ما بلغ من الطريق . وقاله أصبغ وليس على
صاحبه أن يأتيه بمثله ويكمل له الأجرة ، لأنه
شيء محمول بعينه .
قال محمد بن رشد : هذا خلاف المشهور في المذهب
من أن الإجارة لا تنفسخ بتلف الشيء المستأجر
على حمله ، وقد مضت هذه المسألة وتحصيل القول
فيها في رسم القبلة من سماع ابن القاسم ، وفي
المواضع المذكورة فيه ، فلا وجه لإعادة ذلك .
ومن كتاب محض القضاء
وسئل عن كري حمل أحمالاً من الشام إلى مصر إلى
الفسطاط ، فلما بلغ الفرماء قال له المتكاري :
اعدل بأحمالي إلى الأشتوم أحملها في البحر
ففعل ، ثم أراد أن يرجع على الكري بما بين
الفرماء إلى الفسطاط . قال : ليس ذلك له إلا
أن يكون المتكاري استثنى ذلك عليه ، فقال له :
اطرح أحمالي ها هنا وحاسبني وأعطني ما بقي ،
فإن لم يكن كذلك فلا شي له على الكري والكراء
كله للمكري ، أرأيت لو قال له في بعض الطريق :
ضع لي بعض متاعي ها هنا ، فوضعه ألم يكن له
كراؤه كله ؟ .
قال محمد بن رشد : قوله إنه إذا أخذ أحماله في
بعض الطريق فليس له أن يرجع على الكري بما يجب
لما بقي من الطريق صحيح لا اختلاف فيه ، وإنما
الخلاف هل له أن يحمل على الإبل مثل تلك
الأحمال
(9/145)
في مثل ما بقي
من الطريق أو يكريها في مثله ؟ أم ليس ذلك له
؟ على حسب ما مضى في رسم المدنيين من سماع
عيسى وتقدم القول عليه ف رسم البيوع الأول من
سماع أشهب . وأما قوله إلا أن يكون استثني ذلك
عليه ، يريد المحاسبة ، فإنما يجوز ذلك إن كان
المكري لم ينتقد الكراء ، وأما إن كان قد
انتقد فلا يجوز ذلك في الكراء المضمون باتفاق
. ولكن الكري يرد عليه مما قبض منه ما يجب لما
بقي من الطريق ، فيكون ذلك سلفاً ومعه كراء .
فمعنى قوله واعطني ما بقي أي أسقطه عني ولا
تأخذني به ، ويجوز ذلك في الكراء المعين على
اختلاف حسبما مضي القول فيه ، في أول سماع
أشهب وفي غيره من المواضيع .
ومن كتاب الجامع
وسئل عن رجل اكترى شق محمل إلى مكة فمات
بالطريق فلم يجد وليه كراء فأراد أن يطرح في
شقه حجارة . قال : ليس ذلك له ، وهذا مضار به
، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "
لا ضرر ولا ضرار ، ومن ضار أضر الله به " ،
فهذا مضار ، إلا أن يكون له في تلك الحجارة
منفعة ، فإن لم تكن له فيها منفعة فليس ذلك له
.
قال محمد بن رشد : هذا بين على ما قال ، لأنه
إذا لم يجد وليه كراء شق محمل وليه فهي مصيبة
دخلت عليه ، فليس له أن يضار الكري بحمل ما لا
منفعة له فيه للحديث الذي ذكره ، فهو أصل جليل
في هذا المعنى وشبهه . ومحمد بن دينار يرى
المحاسبة واجبة بموت المكتري . وقع قوله في
المدنية . قال سئل محمد بن دينار عن الرجل
يتكارى الدابة إلى بلد فيموت الذي اكتراها في
بعض الطريق . قال : يحاسب بما
(9/146)
ركبها على ما
كان اكتراها فيعطيه بقدر ذلك وهو شذوذ من
القول ، ويحتمل أن يكون معناه إذا رضي
بالمفاسخة ، فلا يكون ذلك مخالفاً لقولهم
وبالله التوفيق .
نوازل أصبغ
وسئل أصبغ عن القوم يكترون السفن تجاراً
ويريدون الرجوع إلى بلدهم فتردهم الريح بعد
شهر أو أقل أو أكثر إلى الموضع الذي خرجوا منه
، فيطلب أصحاب المركب كراء ما ساروا ويحتج
الركاب بأن الريح ردتهم إلى الموضع الذي ركبوا
منه ، وقالوا نحن بمنزلة من لم يسر شيئاً ،
وهل يختلف عندك إن كانوا لم يزالوا ملججين في
البحر منذ خرجوا لم يرسوا إلى قرية ولم
يحاذوها ؟ أو كيف إن أرسوا بقرية ثم قلدوا
منها فردتهم الريح ؟ أو كيف لو حاذوا قرية
وعرفوا الموضع الذي حاذوه ، وكانوا قادرين على
الإرساء القرية أولا يقدرون لشدة الريح ،
فعصفت الريح فردتهم إلى موضعهم الذي خرجوا منه
؟ قال أصبغ : أما الذين ذكرت أنهم لم يزالوا
ملججين في البحر منذ خرجوا حتى ردتهم الريح
إلى موضعهم فليس يلزم هؤلاء كراء ، لأنهم لم
ينتفعوا بشيء ، ولا بلغوا مكاناً انتفعوا
بركوبهم إليه فيلزمهم لذلك الكراء إلى ذلك
الموضع ، وأما الذين أرسوا بقرية ثم قلدوا بعد
، فأرى على هؤلاء أن يحاسبوا بقدر الموضع الذي
أرسوا به ، لأنهم قد كان لهم سعة على المركب و
مندوحة وقادرون على
(9/147)
النزول والذهاب
حيث شاءوا فلما رفعوا من ذلك الموضع فكأنهم
ابتدأوا الركوب الساعة من ذلك الموضع ، فيجب
عليهم الكراء بقدر الموضع الذي بلغوه ، وهم
عندي بمنزلة ما لو انكسر المركب في هذا الموضع
الذي ذكرت فسلم متاعهم أو بعضه فيجب عليهم من
الكراء بقدر ذلك وبقدر ما انتفعوا به ، فهذا
هو ما فهمه . وأما الذين حاذوا قرية ولم
ينزلوا وكانوا قادرين على النزول أو لا يقدرون
، فإن كانوا بقرب البر جداً وصاروا إلى موضع
الأمن لا يخافون فيه من الريح شيئاً قد أمنوا
لقربهم من البر ، وتعلقهم بالمرسى ، ولو شاءوا
أ، يرسوا لأرسوا ، ثم قلدوا فردتهم الريح
فهؤلاء عندي بمنزلة من أرسى يحاسبون أيضاً .
وأما إن كانوا حاذوا ولم يكونوا بهذه المنزلة
من القرب والأمن ، غير أنهم يخافون ويرجون فلا
أرى عليهم كراء ، لأن البحر سلطانه عظيم ، ولا
يؤمن تقلبه . قيل أرأيت إن كانت الريح غير
غالبة لهم ولكن ردهم فزع اللصوص أو الروم ،
وكانوا ملججين أو غير ملججين قد عرفوا موضعهم
أولا يعرفون موضعهم ؟ أو كيف إن كان الركاب
بدالهم في الرجوع فغلبوا أصحاب المركب وقهروهم
على الرد إلى موضعهم على ما وصفت لك من
المسألة ؟ قال أصبغ : أما إذا رجع أصحاب
المركب فإن كان ذلك بسؤال من الركاب وطلب ردهم
فالكراء عليهم ، وإن كان على إكراه من أصحاب
المركب فلا شيء لهم من الكراء ، وإذا كان
الركاب هو الطالبون الرجوع فالكراء كله عليهم
وافر ، وإن كان الركاب هو الطالبون لذلك
(9/148)
لعذر غلب من
عدو أو بحر أو فزع اللصوص أو الروم فإن الكراء
كله يبطل ، ويصير بذلك كمن لم ينتفع ولم يرح ،
وذلك إذا كان ليس دون مرجعهم إلى حيث ركبوا
مستعتب ينزلون فيه من مأمن ومنتفع به فيما
خرجوا له ، فإن كان كذلك فليس لهم في البدء أن
يرجعوهم إلى مخرجهم إذا لم يكن يقدر على
التقدم بهم وأنزلوا هناك وأعطوا أصحاب المركب
قدر ما انتفعوا به في حمولته وتجارته ، وإذا
كان الركاب هم الذين مضوا بالمركب حين خافوا
على أنفسهم إلى موضعهم الأول وأكرهوهم ألا
يطرحوهم دونه ، فأرى عليهم عند ذلك الكراء
واجباً ، وأحب إلى أن يكون كراء الذهاب إلى
حيث انتهوا بقدره من الكراء الأول ، وكراء
الرجعة بالقيمة ، وإن كان الأكرياء هو الذين
أكرهوا الركاب ولم ينزلوهم إلا إلى مخرجهم
الأول فلا كراء لهم أيضاً .
قال محمد بن رشد : مذهب ابن القاسم وروايته عن
مالك في المدونة أن كراء السفن على البلاغ
كالجعل الذي لا يجب للمجعول له إلا بتمام
العمل ، وسمواء على مذهبه كان الكراء على قطع
الموسطة أو الريف وذلك معلوم من مذهبه فيما
روي عنه أن من أكرى سفينة من الإسكندرية إلى
الفسطاط فغرقت في بعض الطريق فأخرج نصف القمح
فحمل في غيرها أن لصاحب السفينة من كراء ما
أخرج من القمح بقدر ما انتفع به ربه في بلوغه
إلى الموضع الذي غرقت فيه ، لأن الكراء من
الإسكندرية إلى الفسطاط إنما هو في النيل الشط
، فلم ير لصاحب السفينة كراء فيما ذهب من
الطعام ورأى له فيما سلم منه بقدر ما انتفع
صاحبه ببلوغه إلى حيث بلغ ، وذلك على قياس ما
قالوا في الجعل على
(9/149)
حمل خشبة إلى
بلد يوصل على بعض الطريق ثم يحملها صاحبنها
فينتفع بما حملها المجعول له ، فعلى مذهب ابن
القاسم إذا غرقت السفينة أوردها الريح إلى
الموضع الذي خرجت منه أو خوف اللصوص أو العدو
وإن كان ذلك بطلب الركاب من أجل الخوف فلا
كراء لصاحب السفينة كانوا ملججين أو غير
ملججين ، محاذين لقرية أو غير محاذين ، قادرين
على النزول فيها أو غير قادرين . وقال ابن
نافع في المدونة : لها بحسب ما بلغت ، ورواه
ابن أبي جعفر عن ابن القاسم ، فعلى هذا إن
غرقت السفينة في لجة البحر ، أوردتها الريح أو
خوف العدو أو اللصوص إلى حيث أقلعت منه يكون
لها من الكراء بحساب ما بغلت كان الكراء على
قطع البحر أو الريف الريف . وذهب يحيى ابن عمر
إلى أنها إذا أكريت على قطع البحر فهي على
البلاغ ، وإن أكريت الريف الريف على الساحل
فلها بحساب ما بلغت . وتفرقة أصبغ في نوازله
هذه بين أن يكونوا ملججين في البحر أو غير
ملججين ، محاذين لقرية قادرين على النزول فيها
أو غير قادرين قول رابع في المسألة ، وسواء
على الظاهر من قوله كان كراؤهم على قطع البحر
أو الريف الريف ، وهو استحسان على غير قياس ،
وكذل تفرقة يحيى بن عمر . وقول انب نافع
ورواية ابن أبي جعفر عن ابن القاسم أظهر في
القياس من قول ابن القاسم في المدونة لأن رد
الكراء إلى حكم الإجارة أولى من رده إلى حكم
الجعل ، وقد اختلف في جواز النقد في كراء
السفن على القول بأنها على البلاغ ، فقيل إن
ذلك لا يجوز ، كما لا يجوز نقد الجعل في
المجاعلة بشرط . وقيل إن ذلك جائز . والوجه في
ذلك أن الغالب فيه السلامة فلم يتهموا في ذلك
على القصد إلى الكراء والسلف إن غرقت السفينة
، كما لا يتهمون على ذلك في موت الدابة
والأجير وبالله التوفيق .
(9/150)
مسألة
قيل لأصبغ أرأيت رجلاً اكترى على طعام ليحمله
إلى بلد فلما كال صاحب الطعام على الكري
الطعام قال الكري : بعني هذا الطعام وافسخ
الكراء فيما بيني وبينك ، ففعل ذلك وباعه
الطعام بكيله بنقد أو مؤخر . قال : إن كان
الكراء كان بنقد ولم ينقد حتى باعه وفاسخه على
نقد فلا بأس به ، وإن كان الكراء بتأخير فلا
يجوز لأنه بمنزلة من باع عرضاً معجلاً وديناً
له مؤخراً بذهب معجلة أو مؤخرة ، فللعرضين من
الدناني حصة ، وللدنانير من العرضين حصة ،
فصار ما أصاب العرض المؤخر وهي الحمولة إلى
دنانير مؤخرة إلى أن يقبضها ، فصار كالئاً
بكالىء ، وإن كان الكراء كان نقداً وانتقد فهو
زيادة في السلف فلا خير فيه ، كان البيع بنقد
أو بتأخير ، لأن ما يزيده من ثمن الطعام زيادة
في نقد الكراء الذي قبضه وانتفع به ورده مع
ثمن الطعام ، وإن كان الثمن بتأثير فهو أشد ،
ويدخله ما فسرت لك .
قال محمد بن رشد : أما إذا كان الكراء بنقد
ولم ينقد حتى باعه وفاسخه على نقد فلا إشكالب
في أن ذلك جائز على ما قال ، لأن المكتري باع
من الكري الحمولة التي له عليه وهي مؤجلة ،
والطعام الذي أعطاه بالدنانير التي أخذ منه في
الطعام أو بالدنانير التي وجبت له قبله من
الكراء حالة ، فصار إلى أن باع طعاماً معجلاً
وحمولة مؤجلة بدنانير معجلة ، قبض بعضها من
نفسه ، وبعضها من الكري فجاز ذلك . وأما إذا
كان الكراء بنقد وانتقد فلا إشكال في أن ذلك
لا يجوز ، كان الثمن نقداً أو مؤخراً ، لأنه
الزيادة في السلف ، لأن المكتري إذا كان قد
نقد الكري الكراء فباع
(9/151)
منه الطعام على
أن يقيله صار المكتري قد دفع إلى الكري دنانير
وطعاماً وأخذ منه دنانير أكثر من التي دفع
إليه ، بعضها قضاء للدنانير التي دفع إليه ،
وبعضها ثمن للطعام ، فدخله البيع والسلف ، كان
ثمن الطعام نقداً أو مؤجلاً ويدخله في المؤجل
مع البيع والسلف الدين في الدين على مذهبه ،
ولذلك قال : فهو أشد . وأما إذا كان الكراء
بتأخير يعرف أو شرط ، فقوله إن ذلك لا يجوز
يأتي على القول بأن انحلال الذمم بمنزلة
انعقادها في مراعاة آجالها ، وذلك أن المكتري
باع الحمولة التي له وهي مؤجلة ، والطعام
المؤجل بالكراء الذي عليه وهو مؤجل ، وبالثمن
الذي قبضه بالطعام فيدخله الدين بالدين . وأما
على القول بأن انحلال الذمم بخلاف انعقادها لا
يراعى فيها الآجال لأن الذمم تبرأ ولا يكون
لواحد منهما قبل صاحبه شيء ، فيجوز ذلك ، لأنه
بفسخ هذه الإقالة تسقط الحمولة عن المكري ،
والكراء عن المكتري وتبرأ ذمتهما ، ولا يكون
لواحد منهما على صاحبه شيء يطلبه به إلى أجل
فتكون ديناً بدين ، وهذا أظهر القولين . وقد
اختلف في ذلك قول ابن القاسم وابن حبيب ، وقد
بينا هذا المعنى في غير ما موضع ، ومن ذلك ما
ذكرناه في رسم القبلة من سماع ابن القاسم كتاب
السلم والآجال فقف على ذلك وبالله التوفيق .
مسألة
قال اسماعيل الغافقي نزلت بقول من أهل طرابلس
مسألة تشاجروا فيها ، وذلك في رجل اكترى من
رجل على حمل بعينه يحمله له من طرابلس إلى مصر
فأخطأ الجمال فأخذ غير الحمل الذي اكتري عليه
فحمله إلى مصر فلما أتوا مصر عثر على
(9/152)
ذلك من أمره
وتنازعوا في ذلك ، وكان فتيان القائم بأمورهم
، والسائل عن مسألتهم ، فسئل عن ذلك أشهب ،
فقال : أما الحمل الأول الذي اكتري الجمال على
حمله فأرى على الجمال حملانه إلى مصر يرجع
إليه صاغراً فيحمله كما اشترط عليه وليس خطؤه
بالذي يضع عنه حملانه ، وأما هذا الحمل الذي
أخطأه الجمال فأرى صاحبه مخيراً إن أحب أن
يأخذه بمصر بلا غرم عليه من كرائه كان ذلك له
، وإن أحب أن يضمنه بمصر قيمته باطرابلس فعل
وأخذه بالقيمة ، وليس للجمال في ذلك قول إن
قال : أنا أرد الحمل إلى اطرابلس ، وليس لصاحب
الحمل أن يلزم الحمال حملان الحمل ورده إلى
اطرابلس ، وإنما له الخيار فيما وصفنا : وسئل
ابن وهب وابن القاسم عن ذلك فاجتمعا جميعاً
على أن صاحبه مخير إن أحب أن يغرمه بمصر قيمة
الحمل باطرابلس كان ذلك له ولم يكن للجمال في
ذلك قول وإن أحب أن يأخذ الحمل بمصر لم يكن له
بدمن أن يغرم كراءه للجمال ، لأن قيمته وجبت
عليه ساعة أخطأ . قال : واجتمعوا كلهم : ابن
القاسم وابن وهب وأشهب على أنه ضامن لقيمته قد
وجبت عليه لصاحب الحمل ، قالوا : والقيمة
اللازمة عليه قيمة الحمل بالموضع الذي أخطأ به
، وليس بالموضع الذي حمله إليه . وسئل عنها
مطرف فقال : صاحب الحمل مخير إن شاء ضمنه قيمة
الحمل يوم أخطأ به ، وإن شاء أخذ الحمل وغرم
كراءه للحمال ، وليس للحمال أن يقول : أنا
أرده للموضع الذي حملته منه ، لأن القيمة قد
لزمته ، وليس
(9/153)
لصاحب الحمل
بدمن غرم الكراء إن رضي بأخذ الحمل ، وأخذ
قيمته بالموضع الذي حمله منه مثل قول ابن
القاسم .
قال محمد بن رشد : إنما خالف أشهب ابن القاسم
وابن وهب ومطرفاً في هذه المألة في موضع واحد
، وهو إذا أراد صاحب الحمل أن يأخذ حمله بمصر
، فقال أشهب : يأخذ ولا كراء عليه فيه إذ لم
يكره عليه ، وقال ابن القاسم وابن وهب ومطرف :
ليس له أن يأخذه إلا أن يغرم كراءه ، لأنه لما
ترك أن يضمنه قيمته باطرابلس ، واختار أخذ
بمصر ، فكأنه قد أذن له في حمله إليها ، وحكى
ابن حبيب عن أصبغ في ذلك قولاً ثالثاً قد
ذكرته في سماع أبي زيد من كتاب كراء والأرضين
، واتفقوا كلهم أن على الجمال أن يرجع فيحمل
الذي تكوري على حمله ، ولا اختلاف أيضاً بينهم
أنه ليس للحمال أن يقول أنا أرد الحمل الذي
أخطأت فيه إلي اطرابلس ، وإنما لم يكن ذلك له
، لأن الحكم قد تعين عليه بالقيمة ، فلا يلزم
أن يؤخر ما يوجبه الحكم من ذلك بما يدعو إليه
، ولو بادر فرد الحمل إلى اطرابلس قبل أن يقدم
عليه صاحبه لم يكن له إلا أن يأخذ حمله ، لأن
المعنى الذي من أجله كان يلزم القيمة فيه قد
ذهب ، كما لو غصب الحمل فحمله إلى بلد آخر ثم
رده إلى موضعه ، لم يجب للمغصوب منه إلا أخذ
حمله ، لأنه بحاله ، وكما لو غصب رجل عبداً
فحدث به عيب ثم ذهب العيب لسقطت القيمة عن
الغاصب ، ولم يجب للمغصوب منه إلا أخذ عبده ،
وقد مضى في سماع أبي زيد من كتاب كراء الدور
والأرضين في هذه المسالة ما فيه زيادة بيان
وبالله التوفيق .
مسألة
وقال مطرف : من تكارى دابة من مصر إلى مكة
فلما بلغ المدينة هلكت الدابة ، وقال المكتري
اكتريت منك هذه الدابة بعينها وقد انقضى
الكراء بيني وبينك لموتها فاردد علي من الكراء
بقدر ما قصرت الدابة عنه ، وقال صاحب الدابة :
لا أرد عليك
(9/154)
شيئاً ، وإنما
لك على أن أبلغك إلى مكة ، لأني لم أكرك دابة
بعينها ، وإنما أكريتك كراءً مضموناً على وهذه
دابة أخرى فاركبها، إن القول قول الراكب
المكتري ، وعلى صاحب الدابة أن يرد عليه بقدر
ما قصرت عنه الدابة . ووجه الحجة في ذلك أن
الكراء ينقطع بينهما بموت الدابة إذا اكتريت
بعينها ، فهذه الدابة لما هلكت فقد انقطع
الكراء بينهما ، ووجب للراكب من الكراء بقدر
ما قصرت عنه الدابة ، فإن قال صاحب الدابة :
لم أكركها بعينها وإنما أكريتك كراء مضموناً
على ، قلنا له : أنت مدع فيما تقول ، فهات
البينة على أن الأمر كما ذكرت ، فأما الأمر
عندنا فقد تبين لنا أن الكراء بينهما قد بطل .
ألا ترى أن الراكب لو قال لصاحب الدابة : لم
أكتر منك هذه الدابة بعينها ولكني اكتريت من
كراء مضموناً عليك أن تبلغني مكة ، وقال صاحب
الدابة : إنما أكريتك هذه الدابة بعينها وقد
انقضى الكراء بيني وبينك ، إن الراكب مدع فيما
يقول إن ادعى هذا ، لأن الكراء قد انفسخ
بينهما لموت الدابة ، فلما ادعى ركوباً
مضموناً قلنا له : أنت مدع فيما تقول فهات
البينة ، والحجة أيضاً في ذلك أن رجلاً لو
اكتري دابة ثم اختلفا فقال لصاحبها : أكريتك
هذه الدابة بعينها وهذه الدابة الأخرى ، وقال
المتكاري بل إنما أكريت منك هذه الدابة وحدها
لإحدى تينك الدابتين أنهما يتحالفان ويتفاسخان
، فكذلك الذي أكرى دابته فلما هلكت قال :
أكريتك كراء مضموناً إنما هو رجل قال : أكريتك
تلك الدابة ودابة أخرى ، وقال الآخر : بل
أكريت منك تلك الدابة بعينها . فلا بد من أن
يتحالفا ويتفاسخا
(9/155)
ويدل على هذه
ويبين صوابها قول مالك في الذي اكترى من مصر
إلى مكة ، فلما بلغا المدينة اختلفا ، فقال
الجمال : لم أكرك إلا إلى المدينة ، وقال
الراكب : بل إلى مكة ، فانظر في قول مالك فيها
فإنك تستدل به على هذا القول ويتبين لك صوابه
إن شاء الله وبه التوفيق .
قال محمد بن رشد : هذا بين على ما قال ، لأن
الدابة إذا ماتت فقال المكتري إنه اكترى كراء
مضموناً صار مدعياً ، على الكري ركوباً في
ذمته والكري ينكره في ذلك ، والأصل براءة
الذمة ، فوجب أن يكون القول قوله ، لقول النبي
عليه السلام : " البينة على من ادعى واليمين
على من أنكر " فإن قال المكري لما هلكت الدابة
أكريتك كراءً مضموناً وهذه دابة أخرى فاركبها
صار مدعياً على المكتري في أن يلزمه ركوب دابة
ينكر أن يكون اكتراها ، فوجب أن يكون القول
قوله في ذلك مع يمينه . ألا ترى أنهما إذا
اختلفا قبل الركوب فادعى أحدهما كراءً مضموناً
، وادعي الثاني كراء دابة بعينها ، وجب أن
يتحالفا ويتفاسخا ، لأن كل واحد منهما مدع على
صاحبه ، كان المكري هو الذي ادعى المضمون
والمكتري هو الذي ادعى المعين ، أو الكري هو
الذي ادعى المعين والمكتري هو الذي ادعى
المضمون ، فيخلف كل واحد منهما على تكذيب
صاحبه . فإذا ماتت الدابة التي ادعى أحدهما أن
الكراء وقع عليها بعينها حلف الذي ادعى منهما
أن الكراء كان مضموناً ، لأنه هو المدعي عليه
وحده ، كان الكري أو المكتري ، ولم يجب على
الذي ادعى منهما أن الكراء وقع على الدابة
المعينة يمين إذ قد ماتت الدابة فانفسخ الكراء
فيها بموتها ، وهذا بين لا إشكال فيه و بالله
التوفيق ، لا رب غيره ولا خير إلا خيره .
(9/156)
|