البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة

 [: كتاب الأقضية الأول] [: موت القاضي قبل بلوغ الكتاب إلى من أرسله له]

(9/157)


من سماع ابن القاسم من مالك من كتاب أوله حلف
يرفعن أمرا إلى السلطان أخبرني محمد بن عمر قال: أخبرنا محمد بن أحمد العتبي عن سحنون عن ابن القاسم قال: سئل مالك عن رجل يأتي بكتاب من والي مكة إلى والي المدينة مثل القاضي والأمير وما أشبهه فلا يصل إلى المدينة حتى يموت الذي كتب له الكتاب وقضى له بالحق، قال مالك: فأرى لصاحب المدينة أن ينفذ ذلك الكتاب، ويقضي له بما فيه، أرأيت لو أن قاضيا قضى لرجل ثم هلك لجاء آخر بعده أكان ينقض مم قضى ذلك؟ .
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة جارية على الأصول مثل ما في المدونة والواضحة وغيرهما لا اختلاف فيها ولا إشكال في معناها؛ لأنه لما كان الأصل أن القاضي ينفذ ما يثبت عنده من قضاء حكام البلاد وإن كانوا قد ماتوا أو عزلوا كما ينفذ ما ثبت عنده من

(9/159)


قضاء الحاكم قبله ببلدة الميت أو المعزول، وجب أن تنفذ كتبهم وإن كانوا قد ماتوا أو عزلوا قبل وصول كتبهم إليه وقبل انفصالها عن ذلك البلاد، فيصل حكمه بحكمهم ويبنيه عليه، كما ينفذ ما ثبت عنده أنه مضى من عمل الحاكم قبله الميت أو المعزول فيصل حكمه بحكمه ويبنيه عليه، ولا يأمر الخصمين باستيناف الخصام عنده إن كان الشهود قد شهدوا عند الميت أو المعزول فأشهد على ذلك أو كتب به إلى حاكم بلد آخر ثم مات أو عزل، نظر الذي ولي بعده أو المكتوب إليه فيما شهدوا به، كما كان ينظر في ذلك الميت أو المعزول، ولم يأمر بإعادة الشهادة عنده، وإن كانوا قد شهدوا عنده قبلهم أعذر إلى المشهود عليه فيما شهدوا به دون أن ينظر في عدالتهم، وإن كانوا قد شهدوا عنده فأعذر في شهادتهم إلى المشهود عليه فعجز عن الدفع فيما أمضى الحكم عليه بها دون أن يستأنف الإعذار إليه مرة أخرى وهذا بين، إذ لا فرق إذا ثبت عند القاضي حق لرجل على رجل بين أن يشهد شهودا أنه قد ثبت عندي لفلان على فلان كذا وكذا، بشهادة فلان وفلان فشهد أولئك الشهود بما أشهدهم به من ثبوت ذلك الحق عنده عند قاضي بلد آخر بعد موته أو عزله، وبين أن يكتب بذلك إلى قاضي بلد آخر، فلا يصل إليه الكتاب إلا بعد موته أو عزله، فيما يجب من إعمال الأمرين إذا كان الكتاب قد ثبت عنده بشهادة شاهدين أنه كتابه. قاله ابن القاسم وابن الماجشون، وقال أشهب: لا تجوز شهادتهما أنه كتابه حتى يشهدا أنه قد أشهدهما عليه، ولا يكتفي في ذلك بالشاهد الواحد، ولا بالشهادة على أن الكتاب بخط القاضي، ولا أن الختم ختمه. وهذا في الكتب التي تأتي من كورة إلى كورة، ومن مثل المدينة إلى مكة، ومثل مكة إلى المدينة. وأما إذا جاء من أعراض المدينة إلى قاضي المدينة كتاب بغير بينة فإنه يقبله بمعرفة الخط وبمعرفة الختم، وبالشاهد الواحد إذا لم يكن هو صاحب القضية، لقرب المسافة واستدراك ما يخشى من التعدي. قاله ابن حبيب في الواضحة، وقال ذلك أيضا ابن

(9/160)


كنانة وابن نافع في الحقوق اليسيرة خلاف ظاهر قول ابن حبيب، وقد كان يعمل فيما مضى كتاب القاضي بمعرفة الخط والختم دون بينة حتى حدث ما حدث من اتهام الناس فأحدثت الشهادة على كتاب القاضي، قال في رسم الأقضية من سماع أشهب من كتاب الوصايا أول من أحدثه أمير المؤمنين وأهل بيته. وفي البخاري أن أول من سأل البينة على كتاب القاضي ابن أبي ليلى، وسوار بن عبد الله العنبري. والأصل في هذا أن قول القاضي مقبول فيما أخبر أنه ثبت عنده أو قضى به، ينفذ ما أشهد به من ذلك على نفسه ما دام قاضيا لم يعزل، فإذا كتب بذلك إلى قاض غيره وجب على المكتوب إليه أن ينفذه ويصل نظره به إذا كتب إليه بذلك؛ لأنه في كتابه إليه به في معنى المخبر لا في معنى الشاهد، ولو خاصم الرجل عند القاضي فكلفه إثبات الشيء من الأشياء فأتاه بكتاب قاض أنه قد ثبت عنده ذلك الشيء، أو أنه قد قضى له به لم يجز ذلك؛ لأنه هاهنا شاهد، وشهادته لا تجوز فيما حكم به إلا أن يشهد على حكمه به عنده شاهدان سواه وذلك بين من قول ابن القاسم وأصبغ في رسم محض القضاء من سماع أصبغ بعد هذا، وهو معنى ما حكى ابن حبيب في الواضحة عن مطرف وابن الماجشون وابن وهب وأصبغ من أن القاضي لا يمكن المشهود له من أن يعدل شهوده عند قاضي بلد من البلدان، فيكتب إليه بعدالتهم، إلا أن يكتب هو إلى ذلك القاضي يسأله عنهم. وقد ذكر أيضا في أول ذلك الباب أن القاضي إذا كتب بعدالة شاهد من أهل عمله إلى القاضي الذي شهد عنده شاهد جاز، وإن كان المشهود له سأله ذلك فكتب له به ابتداء دون أن يكتب إليه القاضي الذي شهد عنده الشاهد يسأله عنه، وحكى ذلك أيضا عن مطرف وابن الماجشون وأصبغ وهو بعيد. وإذا كتب إليه يسأله عن الشاهد الذي شهد عنده اكتفى في جوابه إليه بمعرفة الخط دون الشهادة على الكتاب، قاله ابن حبيب في الواضحة، ما لم يكن فيما سأله عنه فكتبه إليه فيه قضية قاطعة، والقياس لا يكتفي في شيء من ذلك

(9/161)


بمعرفة الخط إلا فيما قرب من أعراض المدينة على ما تقدم، وسيأتي من معنى هذه المسألة في آخر سماع عيسى وبالله التوفيق.

[مسألة: الانتفاع بالمقابر التي اندرست]
مسألة وسئل عن فناء قوم كانوا يرمون فيه، وفيه عرض لهم، ثم إنهم غابوا عن ذلك فاتخذ مقبرة ثم جاءوا فقالوا: نريد أن نسوي هذه المقابر ونرمي على حال ما كنا نرمي فيه، قال مالك: أما ما قدم منها فأرى ذلك لهم، وأما كل شيء جديد فلا أحب لهم درس ذلك.
قال محمد بن رشد: أفنية الدور المتصلة بطريق المسلمين ليست بملك لأرباب الدور كالأملاك المحوزة التي لأربابها تحجيرها عن الناس لما للمسلمين من الارتفاق بها في مرورهم إذ ضاق الطريق عنهم بالأحمال وشبهها، إلا أنهم أحق بالانتفاع بها فيما يحتاجون إليه من الرمي وغيره، فمن حقهم إذا اتخذت مقبرة في مغيبهم أن يعودوا إلى الانتفاع بها بالرمي فيها إذا قدموا، إلا أنه يكره لهم درسها إذا كانت جددا مسنمة لم تدرس ولا عفت، لما جاء في درس القبور، روي عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لأن يمشي أحدكم على الرضف خير له من أن يمشي على قبر أخيه» . وقال: «إن الميت يؤذيه في قبره ما يؤذيه في بيته» .
وقال ابن أبي زيد: إنما كره درسها لأنها من الأفنية، ولو كانت من الأملاك المحوزة لم يكره ذلك، وكان لهم الانتفاع بظاهرها. وروي عن

(9/162)


علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: واروا في بطنها وانتفعوا بظاهرها. قال الإمام: ولو كانت من الأملاك المحوزة فدفن فيها بغير إذنهم لكان من حقهم نبشهم منها وتحويلهم إلى مقابر المسلمين، وقد فعل ذلك بقتلى أحد لما أراد معاوية إجراء العين التي إلى جانب أحد. روي عن جابر بن عبد الله قال: لما أراد معاوية إجراء العين التي إلى جانب أحد أمر مناديا فنادى في المدينة، من كان له قتيل فليخرج إليه ولينبشه وليحوله، قال جابر: فأتيناهم فأخرجناهم من قبورهم رطابا يبتسمون، يعني شهداء أحد وبالله التوفيق اللهم عونك يا معين.

[: من كانت له شجرة في أرض رجل فله موضعها من الأرض]
ومن كتاب أوله حديث طلق بن حبيب وسئل مالك عن رجل كانت له شجرة في أرض رجل فسقطت فنبتت لها خلوف أتراها لصاحبها؟ قال: نعم، قيل له: أفترى لصاحبها أن يغرس مكانها شجرة أخرى؟ قال: نعم، أرى ذلك له.
قال محمد بن رشد: قوله: إن الخلوف التي نبتت من الشجرة التي سقطت لصاحب الشجرة صحيح، ومعناه إذا نبتت في موضع الشجرة؛ لأن من كانت له شجرة في أرض رجل فله موضعها من الأرض، وليس لقدر ذلك حد معروف مؤقت عند مالك، وهو بقدر ما يحتاج إليه الشجرة في شربها، وما «روي أن رجلين اختصما إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حريم نخلة فقطع منها جريدة ثم ذرعها فإذا هي خمسة أذرع. قال أبو طوالة أحد رواه الحديث أو سبعة أذرع فجعلها حريمها» ، معناه عند من أخذ بالحديث

(9/163)


(من) أهل العلم في النخلة التي يغرسها الرجل في الموات الذي يجوز له استحياؤه، فيستحق بذلك منه القدر المذكور في الحديث، وهو ما تحتاج إليه النخلة من الأرض، وحمل الحديث على عمومه في الموات وغير الموات أولى والله أعلم. وأما إن نبت الخلوف خارجة عن قدر حق صاحب الشجرة من الأرض، فإن كان لصاحب الشجرة فيها منفعة ليغرسها في حقه كان له أن يقلعها، وإن لم تكن له فيها منفعة لغرسها لم يكن له أن يقلعها، وكانت لرب الأرض بقيمتها حطبا إن كانت لها قيمة، أو باطلا بغير شيء إن لم تكن لها قيمة، إلا أن يكون إقرارها مضرا بأهل الشجرة فيكون له أن يقلعها على كل حال، إلا أن يشاء الذي ظهرت في أرضه أن يقطع العروق المتصلة بالشجرة حتى لا يضربها فيفعل ذلك ويعطيه قيمتها حطبا إن كانت لها قيمة، وهذا معنى قول ابن القاسم في رسم الثمرة من سماع عيسى من كتاب السداد والأنهار، وفي المجموعة. وقوله: إن له أن يغرس مكانها شجرة أخرى صحيح، ومعناه شجرة لا تكون أكثر انتشارا وأضر بالأرض من التي سقطت على ما قال في القسمة من المدونة وبالله التوفيق.

[مسألة: رفض العبد المبعض السفر مع مالك نصفه]
مسألة وسئل مالك عن العبد يكون نصفه حرا ونصفه مملوكا فيريد الذي له فيه الرق أن يسافر به ويأبى الغلام ذلك، ويقول: تقطعني على عملي، قال: إن كان سفرا قريبا رأيت ذلك له، وإن كان سفرا بعيدا رأيت أن يكتب له بذلك القاضي كتابا يكون معه إن خاف في ذلك أن يباع أو يركب بظلم يكون معه وثيقة له، وقد أشرت بذلك على قاض كان عندنا استشارني فيه فأمرته أن يكتب

(9/164)


لهم بذلك كتابا وهو عثمان بن طلحة. قال سحنون: وسألت ابن القاسم عن قول مالك في العبد يكون نصفه حرا ونصفه مملوكا، قال: إذا أراد به سيده سفرا سافر به، فإن كان بعيدا كتب له كتابا لئلا يسترق. قلت: ولأي شيء ألزمه ذلك؟ قال: لأن مالكا يقول ويرى الحرية تبعا للرق وهذا عنده من الأصول.
قال محمد بن رشد: قوله: رأيت أن يكتب له بذلك القاضي كتابا يكون معه وثيقة له، كلام ليس على ظاهره؛ لأن العبد لا ينتفع في المكان الذي يذهب إليه بكتاب يكون بيده لا بينة عليه، إذ لا يحكم له بكتاب القاضي دون بينة تنقله إليه وتشهد عليه، فالمعنى في ذلك أن يكتب له الكتاب إلى قاضي البلد الذي يسافران إليه مع شاهدين ممن يسافر مع العبد، فيشهدهما على الكتاب وعلى عين العبد. وفي سماع أشهب عن مالك من كتاب الشركة، أن السيد إذا لم يكن مأمونا لم يكن له أن يخرج به، وإذا قضي له بالخروج به كانت عليه النفقة والكراء في سفره حتى يقر قراره في موضع يكون له فيه عمل ومكتسب، فتكون له أيام وللسيد أيام، وروى البرقي عن أشهب أنه ليس له أن يخرج به وإن كان مأمونا وكان العبد متعديا؛ لأنه ملك من نفسه ما يملك الشريك، فصار شريكا في نفسه، ولا ينكحه إلا برضاه كالشريك، وحكى ذلك أيضا عنه ابن المواز وابن حبيب، قال ابن حبيب: وأما لو أراد الانتقال به إلى قرية يسكنها فإن كانت من الحواضر فذلك له وإن كره العبد ففي سفره به إلى غير الانتقال ثلاثة أقوال: أحدها أنه ليس له أن يسافر به وإن كان مأمونا، وهو قول أشهب ومحض القياس. والثاني أن له أن يسافر به ويكتب له كتابا إن لم يكن مأمونا، وهو قول مالك في هذه الرواية. ووجه ما استدل به من أن الحرية تبع للرق، بدليل إجماعهم أن أحكامه أحكام الرق ما كانت فيه شعبة من الرق. والثالث أنه إذا كان مأمونا كان له أن يسافر به، وإن لم

(9/165)


يكن مأمونا لم يكن له أن يسافر به، وهو قول مالك في رواية أشهب عنه استحسان على غير حقيقة قياس والله الموفق.

[: معاقبة القاضي للخصم الألد]
ومن كتاب أوله تأخير صلاة العشاء في الحرس وسئل مالك عن الرجلين إذا اختصما وألد أحدهما بصاحبه فعرف ذلك القاضي منه أترى أن يعاقبه؟ قال: نعم إذا تبين ذلك منه ونهاه فأرى أن يعاقبه.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأن إلداد أحد الخصمين بصاحبه إذاية له وإضرار به، وواجب على الإمام أن يكف أذى بعض الناس بعضا ويعاقب عليه بما يؤديه إليه اجتهاده، ومثله في آخر أول رسم من سماع أشهب وفي سماع أصبغ وبالله التوفيق.

[مسألة: للقاضي الفاضل العدل الحكم لنفسه بالعقوبة على من يتناوله بالقول وأذاه]
مسألة فقيل له: أرأيت الذي يتناول القاضي بالكلام فيقول: لقد ظلمني، فقال: إن ذلك يختلف ولم يجد فيه تفسيرا إلا أن وجه ما قال إذا أراد بذلك أذاه وكان القاضي من أهل الفضل أن يعاقبه، وما ترك ذلك حتى خاصم أهل الشرف في العقوبة في الإلداد.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، إن للقاضي الفاضل العدل أن يحكم لنفسه بالعقوبة على من يتناوله بالقول وأذاه بأن نسبه إلى الجور والظلم مواجهة بحضرة أهل مجلسه، بخلاف ما شهد به عليه أنه أذاه به وهو غائب عنه؛ لأن ما واجهه به من ذلك هو من قبيل الإقرار، وله

(9/166)


أن يحكم بالإقرار على من انتهك ماله فيعاقبه به ويتحول المال بإقراره، ولا يحكم بشيء من ذلك بالبينة. والأصل في ذلك قطع أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يد الأقطع الذي سرق عقد زوجته أسماء لما اعترف بسرقته، وإن كان في حديث الموطأ فاعترف به الأقطع أو شهد عليه على الشك فالصواب ما في غير الموطأ أنه اعترف من غير شك، إذ لو لم يعترف ويقر على نفسه لما قطعه بالبينة، كما لو كان المسروق له، إذ لا فرق بين كونه له أو لزوجته في هذا؛ لأن متاعها كمتاعه، والدليل على ذلك قول عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لعبد الله بن عمرو الحضرمي لما جاء بغلامه، فقال: إن هذا سرق مرآة لامرأتي. فقال له: لا قطع عليه، خادمكم سرق متاعكم. ألا ترى أن الرجل لا يجوز له أن يشهد لزوجته كما لا يجوز أن يشهد لنفسه، فإذا كان يحكم بالإقرار في ماله كما يحكم به في مال غيره كان أحرى أن يحكم بالإقرار في عرضه كما يحكم به في عرض غيره، لما يتعلق في ذلك من الحق لله؛ لأن الاجتراء على القضاة والحكام بمثل هذا توهين لأمرهم، وداعية إلى الضعف عن استيفاء الحقائق في الأحكام، فالمعاقبة في مثل هذا أولى من التجافي عنه والعفو فيه، وهو دليل قوله: وما ترك ذلك حتى خاصم أهل الشرف في العقوبة في الإلداد، وكذلك قال ابن حبيب في الواضحة: إن العقوبة في هذا أولى من العفو فيه وبالله التوفيق.

[مسألة: للقاضي أن يقف على الحقوق بنفسه وبمن معه من أهل العلم فيما التبس]
مسألة وكان بين رجلين خصومة من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قريبا من المدينة في أرض لهما حتى ارتفع الشأن بينهما فركب عثمان

(9/167)


في ذلك وكانت خصومتهما في زمن عثمان وركب معه رجال فلما ساروا قال رجل: إن عمر قد قضى فيها. فقال عثمان: لا أنظر في أمر قد قضى فيه عمر ورجع.
قال القاضي: وقعت هذه الحكاية في آخر الزكاة الأول من المدونة وفائدتها والذي فيها من الفقه أن القاضي يستحسن له أن يركب ويقف على الحقوق بنفسه وبمن معه من أهل العلم فيما التبس وأشكل، وقد يكون هذا كثيرا في الضرر وشبهه، ولو أمكنه أن يقف على جميع الأمور بنفسه لكان أحسن، ولكن هذا لا يمكنه فيستنيب من يوجهه مكانه لذلك في الحيازات وشبهها، والواحد في ذلك يجزئ كما قال في المدونة في الذي يرسله لتحليف المرأة، والاثنان أحسن. وإنما رجع عثمان وترك ذلك لأن المحكوم عليه كان يريد فسخ قضاء عمر فيه، وذلك ما لا يجوز. ففي الحديث من الفقه أن القاضي إذا بلغه أن قاضيا قضى في أمر لم يكن له أن ينظر فيه، وهذا ما لا اختلاف فيه إذا كان القاضي الذي قضى في ذلك الأمر عدلا، والذي قال ذلك لعثمان هو معاوية، وكانت الخصومة بين علي بن أبي طالب، وطلحة بن عبيد الله في ضفير بين ضيعتيهما كان علي يحب أن يثبت، وطلحة يحب أن يزال، فوكل علي عبد الله بن جعفر فتنازعا الخصومة في ذلك بين يدي عثمان وهو خليفة، فقال لهما: إذا كان غدا ركبت في الناس معكما حتى أقف على الضفير فأقضي فيه بينكما معاينة، فركب في المهاجرين والأنصار، وجاء معهم معاوية، فقال وهما يتنازعان الخصومة في الطريق: لو كان منكرا لأزاله عمر، فكان قوله سبب توجه الحكم لعبد الله على طلحة، فوقف عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - والناس معه على الضفير فقال: يا هؤلاء أخبرونا أكان هذا أيام عمر؟ فقالوا: نعم، قال: فدعوه كما كان أيام عمر وانصرف. قال

(9/168)


عبد الله: فجئت من فوري إلى علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقصصت عليه القصة حتى بلغت إلى كلام معاوية فضحك ثم قال: أتدري لما أعانك معاوية؟ قال: قلت: لا. قال: أعانك بالمنافسة، قم الآن إلى طلحة، فقل له: إن الضفير لك فاصنع به ما بدا لك، فأتيته فأخبرته فسر بذلك، ثم دعا بردائه ونعليه وقام معي حتى دخلنا على علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فرحب به، وقال: الضفير لك أصنع به ما شئت، فقال: قد قبلت، وإنما جئت شاكرا ولي حاجة ولا بد من قضائها، فقال له علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: سل حتى أقضيها لك، فقال طلحة: أحب أن تقبل الضيعة مع من فيها من الغلمان والآلة والدواب، فقال علي: قد قبلت، ففرح طلحة وتعانقا وتفرقا. قال عبد الله: فوالله ما أدري أيهما أكرم في ذلك المجلس، أعلي إذ جاد بالضفيرة؟ أم طلحة إذ جاد بالضيعة بعد ضنه بمسقاة؟ روى الشعبي أنه قال: أول من جرى جريا أي وكل وكيلا من الصحابة علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وكل عبد الله بن جعفر، فقيل له: لم وكلت عبد الله بن جعفر وأنت سيد من سادات الناطقين؟ فقال: إن للخصومات فحما. قال عبد الله: فنازعني طلحة في ضفير كان بين ضيعة لعلي وضيعة لطلحة، ثم ساق بقية الحكاية وإن كان فيها بعض الخلاف لحكاية مالك، فالمعنى المقصود منها وهو استحسان ركوب القاضي فيما أشكل، ووجوب إمضاء أحكام من قبله لا خلاف فيه وبالله التوفيق.

[مسألة: تنازع الورثة على أرض مع الاختلاف في الحدود]
مسألة وسئل مالك عن رجل هلك وله ورثة وولد وترك أرضا فخاصم ولده قوم فيها فأقاموا البينة أنها أرضهم، ولم يشهدوا على الحدود، وشهد قوم على حدود تلك الأرض ولم يشهدوا على

(9/169)


أنها لهم، وقالوا: لا علم لنا لمن هي. قال مالك: إذا شهدوا على الحدود ثبتت شهادة الذين شهدوا أنها لهم ورأيتها لهم.
قال القاضي: هذا كما قال من أن الشهادة في الأرض على الملك تلفق إلى الشهادة فيها على الحد؛ لأن المعنى في ذلك إنما هو في الأرض المشهورة المعلومة المسماة المنسوبة التي تتميز بالنسبة والتسمية عن سواها عند من عرف حدودها، فإذا قال الشهود: نعلم الأرض الفلانية لفلان ولا نحدها. وقال غيرهم: نحن نعلم حدودها ولا ندري لمن هي وجب أن تلفق الشهادة في ذلك، إذ لا يقدح في علم من شهد أنها لفلان جهله بحدودها، ولا يقدح في علم من شهد بمعرفة حدودها جهله بمالكها، وهذا في التمثيل كالحرم الذي يعلم الفقهاء تحريمه والحكم بما يلزم فيه مما لا يلزم، ويجهلون حدوده، ويعلم غير الفقهاء من أهل الحرم حدوده، ويجهلون أحكامه، فيصح امتثال أمر الله تعالى فيه بتلفيق شهادتهم، إذ لا يقدح في معرفة من علم أحكامه الجهل بحدوده، ولا في معرفة من علم حدوده الجهل بأحكامه، فكذلك مسألتنا في الأرض يصح الحكم بها لمن شهد بملكها بتلفيق الشهادة على الملك إلى الشهادة على الحدود، وهذا بين لا خفاء به وبالله التوفيق.

[: حرق كتب الخصومات التي طال عهدها]
ومن كتاب أوله حلف ألا يبيع رجلا سلعة سماها قال مالك: وقد كان قاض في زمن أبان بن عثمان بن عفان رفع إليه كتب قد تقادم أمرها والتبس الشأن فيها، فأخذها فأحرقها بالنار، فقيل لمالك: أيحسن ذلك؟ قال: نعم، إني لأراه حسنا، هذه أمور لا أدري ما هي.

(9/170)


قال محمد بن رشد: معنى هذه الكتب أنها كتب في الخصومة طالت المحاضر فيها والدعاوي، وطالت الخصومة حتى التبس أمرها على الحاكم، فإذا أحرقت قيل لهم: بينوا الآن ما تدعون، ودعوا ما تلبسون به من طول خصوماتكم واستأنفوا العمل، وهو حسن من الحكم على ما استحسنه مالك وبالله التوفيق.

[: التنازع على ملكية حائط موروث]
ومن كتاب أوله سلف في المتاع والحيوان
وسئل عن رجلين ورثا دارا أو حائطا، ثم إن أحد الرجلين تزوج امرأة وهلك عنها، فقال أخوه الباقي: إنما له من الدار كذا وكذا، فقالت له امرأته: لأي شيء كان لك سائرها؟ أنحلك إياها أبوك؟ فقال: هي لي وليس لزوجك منها إلا كذا وكذا، قال: لا يقبل قوله في ذلك.
قال القاضي: هذا بين على ما قال؛ لأن ذلك محمول على أنه بينهما على حسب ما ورثاه، فلا يقبل قول الذي ادعى أن له من ذلك أكثر من أخيه الهالك، إلا ببينة تقوم له على تحقيق ما يدعي، لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " «البينة على من ادعى» " وبالله التوفيق.

[مسألة: النظر في قضاء أنفذه قاض قبله]
مسألة قال: ورأيته كتب إلى عامل في قضاء كان قد أمضاه عاملان قبله، فنظر فيه العامل الثالث، فجاءه رجل يستعين بالكتاب إليه فيه، فكتب إليه إن كان من قبلك أمضاه بحق فأنفذه لصاحبه.
قال محمد بن رشد: هذا يدل على أن للفقيه المقبول القول أن

(9/171)


يكتب إلى الحاكم بالفتوى ويعلمه ما يصنع وإن لم يسأله الحاكم، وهذا في غير القضاة، وأما القضاة فلا ينبغي أن يكتب إليهم بما يفعلون إلا أن يسألوه؛ لأن ذلك قد يؤدي إلى أنفة تؤذي، وفي كتابه إليه أن ينفذ ما أمضاه من قبله إن كان ما أمضاه بحق دليل على أنه أمران ينظر فيما أمضاه من قبله، فإن كان أمضاه بحق أنفذه، فحمل على هذا أحكام العمال على الرد حتى يتبين أنها كانت أمضيت بحق فتجاز. وهذا خلاف ما وقع من قوله في المدونة فيما قضت به ولاة المياه أن ذلك جائز، إلا أن يكون جورا بينا لأن ذلك من قوله يقتضي أن تكون أحكامهم على الإجازة فلا ينظر فيها ولا تتعقب وتجاز ما لم يتبين فيها الجور البين. وهذا الاختلاف إنما يصح في غير العدل من الولاة، فمرة رأى أحكامهم جائزة ما لم يتبين فيها الجور وهو مذهب أصبغ، وتارة رآها مردودة ما لم يتبين فيها الحق وهو اختيار ابن حبيب قياسا على الشهادة، وأما العدل منهم فلا اختلاف في أن أحكامهم محمولة على الجواز، وأنه لا يرد منها إلا ما يتبين فيه الجور، ويحتمل أن يحمل ما في المدونة على العدل، وما في هذه الرواية على غير العدل، فلا يكون في هذا اختلاف من قول مالك، وإن جهل حاله. فالذي أقول به أن ينظر إلى الأمير الذي ولاه، فإن كان عدلا فهو محمول على العدالة، وإن كان جائرا يولي غير العدول فهو محمول على غير العدالة، وإن كان غير عدل إلا أنه لا يعرف بالجور في أحكامه ولا بتوليته غير العدل جرى ذلك على الاختلاف في جواز أحكامه، واختلف الشيوخ عندنا في أحكام ولاة الكور مثل القواد، وتنازعوا في ذلك، فأمضاها أبو إبراهيم ولم يجزها اللؤلؤي حتى يجعل إليه مع القيادة والنظر في أمور الكورة النظر في الأحكام، واستحسن ابن أبي زمنين إذا كان للكورة قاض قد أفرد للنظر في الأحكام ألا يجوز حكم الولاة، وإن لم يكن لها قاض أن يجوز حكمهم لما في ذلك للناس من الرفق والانتصاف، وهو أحسن الأقوال وأولاها

(9/172)


بالصواب؛ لأنه إذا ولى مع القائد حكم في الكورة فقد بان بذلك أنه قد حجر عليه الحكم في الأحكام، وإذا لم يول معه فيها حكم وجب أن يجوز حكمه كما قال مالك في ولاة المياه، وسيأتي من معنى هذه المسألة في رسم أسلم من سماع عيسى وفي رسم الصبرة ورسم المكاتب من سماع يحيى، وفي رسم الكراء والأقضية من سماع أصبغ وبالله التوفيق.

[مسألة: رمي الغير بالكفر]
مسألة وقال عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إذا قال أحدكم لأخيه كافرا فقد باء بها أحدهما» .
قال محمد بن رشد: هذا حديث يحتاج وجوها من التأويل: أحدها أن يكون معناه أن من قال لصاحبه يا كافر معتقدا أن الذي هو عليه هو الكفر، فأحدهما على كل حال كافر، إما المقول له إن كان كافرا، وإما القائل إن كان المقول له مؤمنا؛ لأنه إذا قال للمؤمن يا كافر معتقدا أن الإيمان الذي هو عليه كفر فقد حصل هو كافر باعتقاده إيمان صاحبه كفرا، والدليل على ذلك قول الله عز وجل: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} [المائدة: 5] وأما إن قال لمؤمن يا كافر وهو يظنه كافرا ولا يعلم أنه مؤمن فليس بكافر، وإنما هو غلط. والثاني أن يكون معناه النهي عن أن يكفر الرجل صاحبه باعتقاد ما لا يتحقق أنه باعتقاده كافر؛ لأنه إن لم يكن باعتقاده ذلك كافرا كان القائل له قد باء بإثم ما رماه به من الكفر. والثالث أن يكون معناه النهي عن أن يظن المسلم بأخيه المسلم أنه يعتقد الكفر ويظهر

(9/173)


الإسلام فيقول له يا كافر؛ لأنه إن لم يكن كذلك باء بإثم تكفيره، وهذا التأويل أشبه بمراد مالك؛ لأن الظاهر أنه احتج بالحديث على كتابه إلى العامل أن ينظر فيما أمضاه من قبله، إذ لم ير أن يكتب إليه برد ذلك من فعله مخافة أن يبوء بإثم حمله حكمه على الجور دون بغي وبالله التوفيق.

[: رجل كانت بينه وبين أبيه خصومة فأراد أن يحلفه]
ومن كتاب أوله صلى نهارا ثلاث ركعات
وسئل مالك عن رجل كانت بينه وبين أبيه خصومة فأراد أن يحلفه فكره ذلك.
قال محمد بن رشد: هذا من قول مالك يدل على أن له أن يحلفه، ولا يكون عاقا له بتحليفه إياه، إذ لا إثم في فعل المكروه، وإنما يستحب تركه، وهو قول ابن الماجشون في الثمانية أن تحليفه إياه في حقه ليس بعقوق له، وهو ظاهر قول ابن القاسم وأصبغ في المبسوطة أنه يقضى له بتحليفه إياه، ولا يكون عاقا بذلك، وقال مطرف وابن الماجشون وابن عبد الحكم وسحنون: إنه لا يقضى له بتحليفه إياه، ولا يمكن من ذلك إن دعا إليه، ولا من أن يحده في حد يقع له عليه؛ لأنه من العقوق وهو مذهب مالك في المدونة في اليمين في كتاب المديان، وفي الحد في كتاب القذف وهو أظهر الأقوال، لقوله عز وجل: {وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلا كَرِيمًا} [الإسراء: 23] {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: 24] . ولما جاء من أنه ما بر والديه من شد النظر إليهما أو إلى أحدهما. وقد روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يمين للولد على والده، ولا للمملوك على سيده» ويشهد لصحته قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أنت ومالك لأبيك» . قد روى أصبغ عن ابن القاسم في كتاب الشهادات أنه

(9/174)


يقضى له أن يحلفه في حق يدعيه عليه، وأن يحده في حد يقع له عليه، ويكون عاقا بذلك ولا يعذر فيه بجهل وهو بعيد؛ لأن العقوق من الكبائر، فلا ينبغي أن يمكن أحد من ذلك، وهذا فيما يدعيه الولد عليه، وأما إن ادعى الوالد عليه دعوى فنكل عن اليمين وردها عليه، أو كان له شاهد على حقه عليه، فلا اختلاف في أنه لا يقضي له عليه في الوجهين إلا بعد يمينه، وكذلك إن تعلق بيمينه حق لغير ابنه فإنه يلزمه اليمين باتفاق، كالأب يدعي تلف صداق ابنته والزوج يطلبه بالجهاز أو كالرجل يدعي على أب زوجته نحلة انعقد عليها نكاحه وهو منكر، وانظر إذا قام الأب طالبا لابنه بالنفقة عليه وأثبت العدم هل يقضي له بالنفقة عليه دون يمين من أجل أنه لا يمين للولد على والده؟ أو لا يقضي له عليه بها إلا بعد يمينه؛ لأنها يمين الحكم، وهي يمين يأخذ بها؟ والأمر في ذلك محتمل، وأحسب أني قد رأيت الخلاف في ذلك، والأظهر في ذلك عندي وجوب الحكم عليه باليمين وبالله التوفيق.

[مسألة: طلب الجار من جارهنزع الخشب من جداره]
مسألة وسئل عن رجل كانت له خشب في حائط رجل أدخلها بإذن منه، ثم إن الذي له الحائط وقع بينه وبين الذي له الخشب شحناء، فقال: أخرج خشبك من حائطي. قال مالك: ليس ذلك له، على مثل هذا يخرجها على وجه الضرر، ولكن ينظر في ذلك، فإن كان احتاج إلى حائطه ليهدمه أو لينتفع به فهو أولى به.
قال محمد بن رشد: لم ير مالك في هذه الرواية لمن أذن لجاره أن يضع خشبة على جداره أن يرجع فيما أذن له من ذلك ويأمره برفع خشبته عن جداره إلا أن يحتاج إلى حائطه ليهدمه أو لينتفع به، ومثله في سماع

(9/175)


أشهب من كتاب العارية، وقال في المدونة وغيرها إن من أذن لرجل أن يبني في أرضه أو يغرس فيها فلما بنى وغرس فيها أراد أن يخرجه إن ذلك له ويعطيه قيمة ما أنفق في بنيانه وغرسه. فذهب ابن لبابة وابن أيمن وغيرهما من الشيوخ إلى أن ذلك اختلاف من القول، إذ لا فرق بين المسألتين في المعنى. وحكى العتبي عن سحنون أنه قال: إنما فرق بين المسألتين لحديث النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا يمنعن أحدكم جاره خشبة يغرزها في جداره» . يريد أن من أهل العلم من يرى القضاء بالحديث، ويحمله على ظاهره في الوجوب، وهو قول ابن كنانة من أصحاب مالك، وإن لم يأذن صاحب الجدار، فكيف إذا أذن؟ وحكى ابن حبيب عن مالك وغيره من رواية مطرف وابن الماجشون أنه إذا أرفق جاره بوضع خشبة على جداره فليس له إلى رفعها ولا إلى هدم الحائط سبيل، طال الزمان أو قصر، احتاج إليه أو استغنى عنه، لا هو ولا ورثته بعده، ولا أحد ممن اشترى منهم إلا أن يهدم الجدار ثم يعيده صاحبه لهيئته فليس لصاحبه أن يعيد خشبة عليه إلا بإذن مستأنف، قالوا: وكذلك كل ما أذن فيه مما يقع فيه العمل والإنفاق من البنيان في حق الإذن والغرس والإرفاق بالماء من العيون أو البيار لمن ينشئ عليه غرسا ويبتدئ عليه عملا فلا رجوع فيه، عاش أو مات، باع أو ورث احتاج أو استغنى، وهو كالعطية. ولو اشترط أن يرجع في ذلك متى شاء لبطل الإذن على هذا الشرط قبل العمل، ولبطل الشرط بعد العمل، لما فيه من الضرر بالعامل. قالوا: وما كان لا يتكلف فيه عمل ولا كبير إنفاق، مثل فتح باب أو فتح طريق إلى مختلف في فناء الأذن، أو أرضه، أو إرفاق بماء لشفه أو لسقي شجر قد أنشئت وغرست قبل ذلك فنضب ماؤها، أو غارت آبارها، فهذا مما للآذن فيه الرجوع إذا شاء، إلا أن يكون يوم أذن له بهذه الأشياء قد حد له حدا، ووقت له وقتا من

(9/176)


الأجل فيلزمه إلى مدته، أو يكون المأذون له قد باع واشترط للمشتري فيما أذن له فيه بعلم الآذن فيكون ذلك لازما له، إلا أنهم قالوا فيمن أذن لرجل أن يسوق على أرضه ماءه أو ماء من النهر، أو من ماء الآذن إلى أرض المأذون له، فليس له أن يرجع في ذلك وإن كان المأذون له لم يتكلف في ذلك كبير نفقة، مراعاة لإلزام ذلك عمر بن الخطاب محمد بن مسلمة لعبد الرحمن بن عوف بغير إذنه وعلى غير طوعه، وإن كان العمل ليس عليه، واختار هذا ابن حبيب، وحكى عن أصبغ أن ذلك كله عنده سواء ما تكلف فيه عمل وإنفاق، وما لم يتكلف فيه ذلك، للآذن أن يرجع فيه إذا أتى عليه من الزمان ما يكون إلى مثله عارية مثل هذا، إلا في الذي أذن لرجل أن يغرس غرسا على مائة، فلما غرسه أراد أن يقطع الماء عنه فلا يكون ذلك له، قال: وهو على مذهب ابن القاسم. فيتحصل في هذه المسألة ستة أقوال: أحدها أنه ليس للآذن في شيء من ذلك كله أن يرجع فيه إلا أن يحتاج، وهو الذي يأتي على ما حكيناه على ابن لبابة وابن أيمن في تأويل الرواية. والثاني أنه ليس له أن يرجع في شيء من ذلك وإن احتاج. والثالث أن له أن يرجع في ذلك وإن لم يحتج ويدفع إلى المأذون له فيما كان له من ذلك عمل قيمة نفقته. والرابع أن للآذن أن يرجع في ذلك إذا مضى له ما يعار إلى مثله. والخامس الفرق بين الإذن في وضع الخشب على الجدار وبين سائر ذلك للحديث الوارد بالنهي عن المنع من ذلك. والسادس الفرق بين ما تكلف المأذون له فيه نفقة، وبين ما لم يتكلف فيه نفقة، وهذا الاختلاف كله إنما هو في الإذن المبهم الذي لم يصرح فيه بذكر هبة ولا عارية، فمنهم من حمله على الهبة فلم ير فيه رجوعا، ومنهم من حمله على العارية فرأى فيه الرجوع إذا مضى من الأمد ما يكون عارية ذلك الشيء إلى مثله، ومنهم من جعله من ناحية العدة التي لا تلزم، فرأى الرجوع فيه متى شاء، ومنهم من حمله فيما فيه نفقة على الهبة، وفيما لا نفقة فيه على العارية، على اختلافهم في العارية إذا لم يسم لها

(9/177)


أجلا، هل تلزم أو لا تلزم؟ ومنهم من فرق بين الإذن في وضع الخشب على الجدار، وبين سائر الأشياء للحديث. ويختلف إذا غرس على مائه وهو ساكت، ثم أراد أن يقطع عنه الماء. قيل ذلك له بعد أن يحلف أن سكوته لم يكن رضى، وقيل: إن سكوته كالإذن ويجري الأمر في ذلك على ما ذكرناه من الاختلاف في الإذن المبهم وبالله التوفيق.

[مسألة: مؤنة إصلاح السقف المنكسر بين الشريكين]
مسألة وسئل مالك عن الرجلين يكون بينهما المنزل، لأحدهما الأسفل وللآخر العلو، فينكسر السقف الأدنى الذي هو سقف البيت الأسفل، على من ترى إصلاحه؟ قال: على الأسفل. فقلت له: الخشب تريد؟ قال: نعم، قيل له: إن الأسفل يحتج فيقول: هو أرضك للأعلى، وأنت الذي تمشي عليها. قال: بل هو سقفه، وعليه أن يبنيه وهو مثل جداره الأسفل، وكذلك لو انهدم كان عليه أن يبنيه من أسفله حتى يسقفه يكون ذلك عليه كله. فقيل له: والحجر عليه؟ قال: نعم.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة مثل ما في المدونة وغيرها ولا اختلاف أعلمه فيها، والدليل على صحتها قول الله عز وجل: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ} [الزخرف: 33] . فلما أضاف عز وجل السقف إلى بيوتها وجب أن يحكم بالسقف لصاحب البيت إذا اختلف فيه مع صاحب الأعلى فادعاه كل واحد منهما لنفسه، وأن يحكم عليه أنه له، فيلزم بنيانه إذا نفاه كل واحد منهما عن نفسه وادعى أنه لصاحبه ليوجب عليه بنيانه، فإما أن يبني وإما أن

(9/178)


يبيع ممن يبني على مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك. وقال سحنون: يجبر على أن يبني ولا يجوز أن يبيع ممن يبني إلا أن يعجز عن بنيانه لأن في البيع على هذا الشرط عنده غررا فلا يجوز إلا عند الضرورة وبالله التوفيق.

[: تجديد دعوى بعد موت من قضى فيها بحكم]
ومن كتاب أوله نذر سنة يصومها وسئل مالك عن الرجلين يختصمان في الدار ويحضرهما رجال، فيقول القاضي لأحدهما: قد نظرت في أمرك فلا أرى لك حقا، فانصرفا وأقاما حتى مات، أترى ذلك قضاء؟ ثم قام بعد ذلك أولادهما يختصمون في ذلك، فأقام ولد الذي خاصمه البينة أنه قال له القاضي: لا أرى لك حقا. قال مالك: إن مما يبين ذلك عندي أن يكون ذلك في يد الميت حتى مات. فقلت له: لم يزل ذلك في يده حتى مات. قال: فأرى ذلك قضاء ولا أرى لهم شيئا.
قال محمد بن رشد: لا يفتقر حكم القاضي إلى حيازة على ما يأتي في رسم أسلم من سماع عيسى، وفي رسم المكاتب من سماع يحيى، إلا أنه لما لم يكن قول القاضي لأحد الخصمين قد نظرت في أمرك فلا أرى لك حقا إفصاحا منه بالقضاء عليه بالتعجيز، استدل على ذلك بكون الدار في يد خصمه إلى أن توفي، فأمضى عليه الحكم بالتعجيز، ولم ير لورثته بعد ذلك قياما. وقد اختلف فيمن أتى ببينة بعد الحكم عليه بالتعجيز هل تقبل منه أم لا؟ على ثلاثة أقوال -: أحدها أنها لا تقبل منه كان الطالب أو المطلوب، وهو قول ابن القاسم في رسم النكاح من سماع أصبغ كتاب النكاح في تعجيز الطالب، وإذا قاله في الطالب فأحرى أن يقوله في المطلوب، ودليله قول مالك في هذه الرواية. والقول الثاني أنها تقبل منه كان الطالب أو المطلوب إذا كان لذلك وجه،

(9/179)


وهو ظاهر ما في المدونة إذ لم يفرق فيها بين تعجيز الطالب والمطلوب، وقال: إن القاضي يقبل منه ما أتى به بعد التعجيز إذا كان لذلك وجه. والقول الثالث أن ذلك يقبل من الطالب ولا يقبل من المطلوب، وهو ظاهر قول ابن القاسم في سماع أصبغ من كتاب الصدقات والهبات؛ لأنه إنما قال ذلك في الطالب، والمطلوب بخلافه، إذ المشهور فيه أنه إذ عجز فعجز وقضي عليه مضى الحكم، ولم يسمع منه ما أتى به بعد ذلك، وإلى هذا ذهب ابن الماجشون في المطلوب، وفرق في الطالب بين أن يعجز في أول قيامه قبل أن يجب على المطلوب عمل، وبين أن يعجز بعد أن وجب على المطلوب عمل، ثم رجع عليه، ففي تعجيز المطلوب قولان، وفي تعجيز الطالب ثلاثة أقوال قيل: هذا في القاضي الحاكم دون من بعده من الحكام. وقيل: ذلك فيه وفيمن بعده من الحكام، وهذا الاختلاف إنما هو إذ أعجزه القاضي بإقراره على نفسه بالعجز، وأما إذا عجزه السلطان بعد التلوم والإعذار وهو يدعي أن له حجة فلا يقبل منه ما أتى به بعد ذلك من حجة؛ لأن ذلك قد رد من قوله قبل نفوذ الحكم عليه، فلا يسع بعد نفوذه عليه وبالله التوفيق.

[: القضاء على الغائب]
ومن كتاب أوله سن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
وسئل مالك عن الرجل الغائب هل يقضى عليه؟ فقال مالك: أما الدين فإنه يقضي عليه، وأما كل شيء كانت فيه حجج فإنه لا يقضى عليه. قال سحنون: والدين مثله يكون فيه الحجج.
قال القاضي: الغائب في مذهب مالك على ثلاثة أقسام:
أحدها غائب قريب الغيبة على مسيرة اليوم واليومين والثلاثة، فهذا يكتب إليه وبعذر إليه في كل حق. فإما وكل وإما قدم، فإن لم يفعل

(9/180)


حكم عليه في الدين، وبيع فيه ماله من أصل وغيره، وفي استحقاق العروض والحيوان والأصول وجميع الأشياء من الطلاق والعتاق وغير ذلك، ولم يرج له حجة في شيء من ذلك. والثاني غائب بعيد الغيبة على مسيرة العشرة الأيام وشبهها، فهذا يحكم عليه فيما عدا استحقاق الرباع والأصول من الديون والحيوان والعروض، وترجى له الحجة في ذلك. والثالث غائب منقطع الغيبة مثل مكة من إفريقية والمدينة من الأندلس وخراسان، فهذا يحكم عليه في كل شيء من الديون والعروض والحيوان والرباع والأصول، وترجى له الحجة في ذلك، فالغائب الذي تكلم عليه في المدونة هو الغائب على مسيرة العشرة الأيام وشبهها؛ لأن هذه الغيبة هي التي يقضى عليه فيها عند مالك في الديون والحيوان والعروض، ولا يقضى عليه فيها في الرباع والأصول التي تكون فيها الحجج، ولم يتكلم في الرواية على الحيوان والعروض، وإرادته أنه يحكم عليه فيها كالديون، وهو نص قول ابن القاسم في رسم الكراء والأقضية من سماع أصبغ، وترجى له الحجة عند مالك فيما يقضي به عليه من ذلك، فإن جرح البينة التي حكم عليه بها بإسفاه أو عداوة رجع فيما حكم به عليه من الحيوان والعروض، وفيما قضى عنه من الديون، ولم يرد ما بيع عليه فيها؛ لأنه بيع بوجه شبهة. وذهب سحنون إلى مذهب ابن الماجشون في أنه يقضى عليه في هذه الغيبة في الرباع وغيرها، وإلى مذهبه هذا نحا بقوله: والدين مثله يكون فيه الحجج. يقول: إنه يقضى عليه في الرباع وإن كانت فيها الحجج كما يقضى في الدين، إذ قد يكون فيه الحجج ولا يرجع في شيء من ذلك عندهما بتجريح البينة التي حكم عليه بها بعداوة أو إسفاه، إلا أن ينكشف أنهم عبيد، أو على غير

(9/181)


الإسلام، أو مولى عليهم، فإن انكشف أنهم على شيء من هذه الأحوال، رجع فيما قضى به عليه من الأصول والعروض والحيوان، وفيما قضى عنه من الديون، ولم يرد ما بيع عليه فيها من ماله؛ لأنه بيع بوجه شبهة، فعلى قولهما يوكل للغائب وكيل يحتج عنه، ويعذر إليه، فلا يرجى له حجة، وعلى مذهب ابن القاسم لا يوكل له وكيل، وترجى له الحجة. وأهل العراق لا يرون أن يقضى على الغائب في شيء من الأشياء، وسيأتي في نوازل سحنون الحجة عليهم في ذلك وبالله التوفيق.

[مسألة: ما تغلظ فيه اليمين من الأموال]
مسألة قال: مالك: إذا كان على القوم ربع دينار بذكر حق واحد لم أر أن يحلفوا عند المنبر.
قال محمد بن رشد: هذا صحيح على معنى ما في المدونة وغيرها من أنه لا يحلف عند المنبر إلا في ربع دينار فصاعدا، وهذا ما لا إشكال فيه ولا اختلاف؛ لأن يمين كل واحد منهم إنما هي على ما يصير عليه من ربع الدينار، وهذا إذا لم يكونوا شركاء، ولا كان بعضهم حميلا ببعض، وأما لو كان ربع الدينار لقوم على رجل واحد من ذكر حق واحد لوجب إن قاموا عليه جميعا أن يحلفوه يمينا واحدة عند المنبر، وإن افترقوا حلف لكل من قام عليه منهم فيما ينوبه من ربع الدينار حيث ما قضى عليه لا عند المنبر، هذا معنى قول ابن المواز عندي في مساواته بين أن يكون ربع الدينار لرجلين أو لرجل على رجلين في أن اليمين في ذلك لا يكون في المسجد الجامع ولا عند المنبر، وذهب أبو إسحاق التونسي إلى أنه لا

(9/182)


يحلف عند المنبر وإن قاموا عليه جميعا فحلفوه يمينا واحدة، وهو ظاهر قول ابن المواز، والذي يوجبه النظر أن يحلف يمينا واحدة عند المنبر، قاموا عليه معا أو مفترقين على قياس ما قالوا في الرجل يدعي عليه ورثة الرجل أنه غاب لهم من تركة الميت على شيء أنه يحلف لجميعهم يمينا واحدة، وأنه إن قام أحدهم عليه فحلفه كانت اليمين لجميعهم، ولم يكن لمن بقي منهم أن يحلفه ثانية؛ لأن اليمين إذا كانت بأمر حكم فهو حكم ماض وفصل، وممن نص على ذلك ابن الهندي في وثائقه. وقوله: عند المنبر يريد منبر النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -؛ لأنه لا يرى الاستحلاف عند المنبر إلا في منبر النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لقوله: «من حلف على منبري إثما تبوأ مقعده من النار» وأما في غير المدينة فإنما يحلف في المسجد الجامع عند المنبر، لحرمة موضعه من المسجد لا لحرمته في نفسه، إذ لو نقل عن موضعه إلى موضع سواه من المسجد أو غيره لم تنقل اليمين عن موضعها إلى حيث المنبر، بخلاف منبر النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في ذلك، فاليمين في المدينة عند منبره - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حيث ما كان من المسجد، وليس هو عند محرابه؛ لأنه زيد في قبلته فبقي المنبر في موضعه، وفي غير المدينة من جوامع الأمصار عند المحراب، وفي مكة ما بين الركن والمقام. والشافعي لا يرى اليمين عند المنبر بالمدينة ولا بين الركن والمقام بمكة إلا في عشرين دينارا فصاعدا، وحجته ما روي أن عبد الرحمن بن عوف أبصر قوما يحلفون بين الركن والمقام، فقال: أعلى دم؟ قيل: لا، قال: أفعلى أمر عظيم؟ قيل: لا، قال: لقد خشيت أن يتهاون الناس بهذا المقام. وفي بعض الروايات أن يهات الناس بهذا المقام أي يأنس الناس به، يقال يهات به إذا أنست به. وذهب أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد إلى أنه لا يجب

(9/183)


الاستحلاف عند منبر النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ولا فيما بين الركن والمقام على أحد في قليل الأشياء ولا كثيرها، ولا في الدماء ولا في غيرها. قالوا: وإنما يحلف الحكام من وجبت عليه اليمين في مجالسهم. قالوا: وقد أبى زيد بن ثابت أن يحلف على المنبر، فالأخذ بمذهبه أولى من اتباع مروان على رأيه. وليس قولهم بصحيح؛ لأن زيدا علم أن ما حكم به مروان عليه هو الحق، وكره أنه يصير يمينه عند المنبر، ولو كانت اليمين عنده لا تجب عند المنبر لأنكر على مروان قضاءه عليه بذلك، كما أنكر عليه غير ذلك من الأشياء والله أعلم وبه التوفيق.

[: التغليظ بالحلف في المسجد الجامع على الأموال]
ومن كتاب القبلة
قال ابن القاسم: سمعت مالكا يقول: يحلف في المسجد الجامع في الأيمان إذا كان ذلك يبلغ ربع دينار فصاعدا. وأما الشيء التافه فإنه يحلف في مقامه، وحيث ما قضي عليه باليمين. قال مالك: ويحلفون قياما. قال محمد بن رشد: هذه مسألة وقعت في بعض الروايات، وقوله فيها: إنه يحلف في المسجد الجامع إذا كان ربع دينار فصاعدا خلاف ظاهر ما في المدونة. لأنه إنما ذكر فيها ربع الدينار في الحلف عند منبر النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وقال: إنه يحلف في المسجد الجامع فيما له بال، معناه وإن كان أقل من ربع دينار على تأويل الشيوخ فيه. وقوله: ويحلفون قياما يحتمل أن يحمل على مما في التفسير لما في المدونة؛ لأنه إنما قال فيها: إن الحالف لا يستقبل به القبلة. وفي المبسوطة لمالك أنه يحلف قائما دبر الصلاة. وقد قيل: إنه يحلف قائما مستقبل القبلة، وهو مذهب ابن الماجشون، وقيل: ليس عليه أن يحلف قائما. وهو قول ابن كنانة، وفي صفة اليمين أيضا اختلاف كثير، والمشهور ما في المدونة أنه يحلف

(9/184)


بالله الذي لا إله إلا هو، لا يزيد على ذلك. وقد قيل: إنه يزيد في يمينه عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم. وهو قول ابن كنانة في المدونة. وفي مختصر ابن شعبان أن من حلف عند المنبر فليقل: ورب هذا المنبر، وقد روي عن مالك وابن القاسم أن الحالف في القسامة يقول: أقسم بالله الذي أحيا وأمات. وقع ذلك في النوادر، وقاله ابن حبيب، ولو حلف والذي لا إله إلا هو وحده لم يجز، قاله أشهب في كتاب ابن المواز.

[: خلط القمح الجيد بالرديء]
من سماع أشهب وابن نافع من مالك من كتاب البيوع
قال سحنون: قال أشهب وابن نافع: سئل مالك عن الرجل تكون معه السفينة فيشتري القمح الأسمر المتغير ويشتري القمح الأبيض فيصب بعضه على بعض. قال: ما أحب ذلك، قال: كل واحد منهما على حدته أحب إلي.
قال القاضي: هذا ما لا اختلاف فيه أنه لا يجوز خلط الجيد بالرديء من الطعام كله، ولا مما يكال أو يوزن من غير الطعام، وإن سن ذلك عند البيع؛ لأنه من الغش، وقد قال النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من غشنا فليس منا» . قال مالك في كتاب ابن المواز: ويعاقب فاعله، وكذلك البر والشعير، والسمن والعسل، فإن خلط ذلك لقوته كره له بيع ما فضل منه وإن قل. وقال ابن القاسم: إذا لم يتعمد خلطه للبيع فأرجو أن يكون خفيفا. وقاله مطرف وابن الماجشون في الواضحة. فقوله في هذه الرواية: ما أحب ذلك، كل واحد منهما على حدته أحب إلي

(9/185)


هو على عادته في أن يقول في الحرام الذي لا يحل ولا يجوز: أكره ذلك ولا أحبه؛ لأنه كان يكره أن يقول حرام إلا على ما نص على تحريمه في الكتاب والسنة. وستأتي المسألة في رسم الجواب من سماع عيسى من كتاب السلطان ونتكلم عليها بأوعب من هذا الكلام إن شاء الله عز وجل وبه التوفيق.

[مسألة: الشهادة على السماع بالقضاء]
مسألة وسئل عن فريقين اختصموا فقضي على أحد الفريقين فخرج المقضى عليهم يحدثون الناس علانية أنه قد قضي عليهم، ثم احتيج إلى قضاء ذلك القاضي فلم يوجد عند أحد منهم علم إلا الذين كان المقضي عليهم يقولون عندهم قد قضي علينا فيسألوا الشهادة بذلك، فقالوا: أما أنه لا يشهد بها. قال: أرى أن يشهدوا بذلك على وجه يقولون سمعناهم يذكرون ذلك، فلا ندري أكان ذلك أم لا؟ قال: ولربما قال المرء قد قضي علي وما قضي عليه، وإني لأرى هذه الشهادة ضعيفة.
قال محمد بن رشد: وقع في هذه المسألة في بعض الروايات أمانة لا يشهد بها، وفي بعضها أم أنه لا يشهد بها وهو أظهر في المعنى. وقوله فيها: إنهم يشهدون بما سمعوا منهم على وجه ما سمعوه منهم صحيح، لا يجوز لهم سوى ذلك وهي ضعيفة على ما قال، لا يصح الحكم بها، إذ ليس بإقرار صريح منهم على تنفيذ الحكم عليهم، إذ قد يقول المرء قضي علي لما يرى من أسباب وجوه تنفيذ القضاء عليه وقرب ذلك عنده وإن لم يكن بعد، على عادة العرب في تسمية الشيء باسم ما قرب منه ألا

(9/186)


ترى أنه قد سمي المأمور بذبحه من ابني إبراهيم ذبيحا ولما يذبح لقربه من الذبح، وهو في اللسان أشهر من أن يخفى. ووجه قوله: إنهم يشهدون بها وإن كانت ضعيفة لا يحكم بها عنده، هو أنه قد يكون الحاكم ممن يرى إجازتها. وهذا مثل قوله في المدونة في الذي يرى خطه ولا يذكر الشهادة أنه يؤديها كما علم ولا ينتفع، وهو يدل من مذهبه على تصويب المجتهدين، وللقول على هذا موضع غير هذا وبالله التوفيق.

[مسألة: الهروب من تولي منصب القضاء]
مسألة قال: وقال عمر بن حسين: ما أدركت قاضيا استقضي بالمدينة إلا كآبة القضاء وكراهيته في وجهه إلا قاضيين سماهما.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه الحكاية بين؛ لأن القضاء محنة ومن دخل فيه فقد ابتلي بعظيم؛ لأنه قد عرض نفسه للهلاك إذ التخلص منه على من ابتلي به عسير، روي عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: " وددت أني أنجو من هذا الأمر كفافا لا لي، ولا علي " وروي عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: «من ولي القضاء فقد ذبح بغير سكين» . وقال أبو قلابة: مثل القاضي العالم كالسابح في البحر، فكم عسى أن يسبح حتى يغرق، وأحق ما اغتم به المسلم وبدت الكراهة والكآبة فيه عليه ما علم أنه مرتهن به، ومسؤول عنه، ومشدد عليه المسألة فيه. روي أنه «ما من قاض يأتي يوم القيامة إلا ويداه مغلولتان إلى عنقه فلا

(9/187)


يحلهما إلا عدله» . وقال رسول الله: «كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته، فالإمام راع وهو مسؤول عن رعيته» الحديث وبالله التوفيق.

[مسألة: حظير الحائط المشتمل على مال للغير]
مسألة وسئل عمن له ممر في حائط رجل إلى مال له وراء ذلك الحائط، ولم يكن الحائط محظرا، فأراد صاحب الحائط أن يحظر حائطه ويجعل عليه بابا. فقال: ما أرى ذلك له إلا أن يرضى بذلك الذي له الممر في الحائط؛ لأنه إذا كان محظرا مبوبا لم يكن يدخل الذي له الممر في الحائط متى شاء، ويوشك أن يأتي ليلا فلا يفتح له، ويقال له: مثل هذه الساعة لا نفتح لأحد، وإذا كان المطر لم يقعد صاحبه الثاني حتى يأتي، فما رأى ذلك إلا أن يرضى صاحب الممر. قيل له: أرأيت إن حظر ولم يجعل على الحائط بابا يغلق؟ قال: إذا حظر ولم يجعل له بابا يغلق، كيف يدخل منه ويخرج ولا يغلق، فيوشك أن يأتي من يريد الممر إلى حائط هذا الذي له الممر ممن كان يمر فيه ويأتيه منه، فإذا رأى الحائط قد حظر لم يمر، ويوشك أن يطول هذا فينسى حق هذا، ويجعل على ذلك الباب بابا (ويقال)

(9/188)


للذي له الممر هل تعلم أحدا يشهد على أن ذلك علينا ممرا.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة المعنى، قد أوضح مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجه قوله فيها إيضاحا ارتفع به منها الإشكال، واستغنى به فيها عن الشرح والكلام. وفي قوله في آخر المسألة: فيوشك أن يأتي من يريد الممر إلى حائط هذا الذي له الممر إلى آخر قوله دليل على أن من أحدث بابا أو ممرا أو أضلاعا فوجب قطع ذلك أنه لا يترك لشيء من ذلك أثر دليل على شيء منه، ولا يجزئ في ذلك قطع الضرر إذا بقيت آثاره، وفي هذا اختلاف؛ لأن ما اعتل به من الطول يقدر على رفعه بالإشهاد على ما قاله في رسم الأقضية الرابع من سماع أشهب من كتاب الصدقات والهبات وبالله التوفيق.

[مسألة: جلد الخصم الألد]
مسألة قال ابن نافع: قال مالك: أخبرني رجل صالح قديم، قال: أدركت الناس وإذا خاصم الرجل الظالم الرجل الملد جلده.
قال محمد بن رشد: هذه المسألة تقدمت والقول فيها في رسم تأخير صلاة العشاء من سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادته.

[: قضاء القاضي بفهمه]
ومن كتاب الأقضية الثالث قال: وسئل مالك عن القاضي إذا اختصم إليه الخصمان، أترى أن يقضي بينهما بما حضر ساعتئذ من الفهم؟ فقال: ذلك يختلف، أما الأمر الذي عرفه ومر عليه وقضى به فذلك يقضي فيه

(9/189)


بما رأى، وأما الأمر الذي لا يدري ما هو ولم يقبله بفهمه فلا أرى ذلك حتى يثبت فيه وينظر. وقال عمر بن عبد العزيز: لا ينبغي للقاضي أن يقضي إلا أن يكون عالما بما مضى من أقضية الناس مستشيرا لأولي الأمر.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، إن الأمر الذي قد مر عليه، وقضى به وعرف وجه الحكم فيه يقضي بما قد تقرر عنده من نص كتاب أو سنة أو إجماع أو اجتهاد، وليس عليه فيما علم الحكم فيه من طريق النظر والاجتهاد إعادة النظر، والاجتهاد كلما تكررت عليه النازلة بعينها، وأما ما نزل به مما لم يمر عليه فالواجب عليه أن يطلب وجه الحكم فيه في محكم كتاب الله، فإن لم يجده ففي ما جاء عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا صحبته الأعمال، فإذا كان خيرا صحبت غيره الأعمال قضى بما صحبته الأعمال، وهذا معلوم من أصول مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن العمل مقدم على أخبار الآحاد العدول، وكذلك القياس مقدم عنده على أخبار الآحاد العدول على ما ذهب إليه أبو بكر الأبهري، فإن لم يجد في السنة في ذلك شيئا نظر في أقوال الصحابة فقضى بما اتفقوا عليه، فإن اختلفوا قضى بما صحبته الأعمال من ذلك، فإن لم يصح عنده أيضا اتصال العمل بقول بعضهم تخير من أقوالهم ولم يخالفهم جميعا. وقد قيل: إن له أن يجتهد وإن خالفهم جميعا، وكذلك الحكم في إجماع التابعين بعد الصحابة، وفي كل إجماع ينعقد في كل عصر من الأعصار إلى يوم القيامة، فإن لم يجد في النازلة إجماعا قضى فيها بما يؤديه إليه النظر والاجتهاد في القياس على الأصول بعد مشورة أهل العلم، فإن اجتمعوا على شيء أخذ به، وإن

(9/190)


اختلفوا نظر إلى أصح أقوالهم عنده، وإن رأى خلاف رأيهم قضى بما رأى إذا كان نظيرا لهم، وإن لم يكن من نظرائهم فليس ذلك له. قاله ابن حبيب، والصواب له أن يقضي بما رأى وإن كانوا أعلم منه إذا كان من أهل الاجتهاد؛ لأن التقليد لا يصح للمجتهد فيما يرى خلافه بإجماع، وإنما يصح له التقليد عند من يرى التقليد ما لم يتبين له في النازلة حكم، ولا خلاف في هذا، وإنما الخلاف هل للمجتهد أن يترك النظر والاجتهاد ويقلد من قد نظر واجتهد أم ليس ذلك له؟ فقيل: إن ذلك له، وقيل: إن ذلك ليس له إلا أن يخاف فوات النازلة. وأما إن لم يكن من أهل الاجتهاد ففرضه المشورة والتقليد، فإن اختلف عليه العلماء قضى بقول أعلمهم. وقيل: بقول أكثرهم على ما وقع في المدونة من اختلاف الرواية في الحكاية عن الفقهاء السبعة، والأول أصح. وقيل: إن له أن يحكم بقول من شاء منهم إذا تحرى الصواب بذلك ولم يقصد الهوى، أو له أن يكتفي بمشورة واحد من العلماء، فإن فعل ذلك فالاختيار أن يشاور أعلمهم، فإن شاور من دونه في العلم وأخذ بقوله فذلك جائز إذا كان المشاور من أهل النظر والاجتهاد وبالله التوفيق.

[مسألة: القضاء على الغائب في الأرض المتنازع عليها]
مسألة قال سحنون: أخبرنا أشهب قال: كتب ابن غانم إلى مالك بن أنس سأله عن الخصمين يختصمان إليه في الأرض فيقيم أحدهما على الآخر بينة بأنها له، فإذا علم بذلك الذي قامت عليه البينة هرب وتغيب فطلب فلم يوجد، أيقضي عليه وهو غائب؟ فقال مالك: اكتب إليه إذا ثبتت عندك الحجة وسألته عن كل

(9/191)


ما تريد أن تسأله عنه واستقر علم كل ما تريد أن تسأله عنه عندك فلم ينض له حجة فتغيب فاقض عليه وهو غائب.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، إنه إذا تغيب بعد أن استوفى جميع حججه وهرب فرارا من القضاء عليه أنه يقضي عليه ويعجزه، ولا يكون له إذا قدم أن يقوم بحجته، بمنزلة أن لو قضى عليه وهو حاضر، إلا على القول بأن المحكوم عليه إذا أتى بحجة لها وجه بعد الحكم عليه يسمع منه. وقد مضى تحصيل القول في هذا في رسم نذر سنة يصومها من سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادته، وأما إن هرب وتغيب قبل أن يستوفي جميع حججه، فالواجب في ذلك أن يتلوم له، فإن لم يخرج وتمادى على مغيبه واختفائه قضى عليه من غير أن يقطع حجته وبالله التوفيق.

[مسألة: النزاع في دعوى المال للغائب]
مسألة قال: وسألته عن الرجل يموت ويترك زوجته فيكون بيديها ماله ورباعه ودوابه وكل قليل له وكثير، وللهالك أخ غائب فيقوم ابن الأخ الغائب فيقول: أنا أثبت أن هذا المال الذي بيدها كله لعمي ليس لها منه شيء، وإني وارثه فأنا أريد خصومتها، فيقول له: أقم وكالة، فيقول: أنا أثبت ذلك لعمي، فإذا قضي له به وثبت، فضعوه على يدي عدل ولا تدفعوه إلي، أو يقوم في ذلك الرجل بمنزلة ابنه، فيقول مثل مقالته، فقال: أما الابن فإنني أرى أن يمكن من ذلك، فإذا ثبت ما قال لم يدفع إليه، ووضع على يدي عدل إن كان أبوه حيا يوم مات عمه، فأما الرجل غير ذلك

(9/192)


فلا أدري ما هذا، ولكني أرى ذلك للابن إن كان أبوه حيا يوم مات عمه، فما ثبت لم يدفع إليه ووضع على يدي عدل.
قال محمد بن رشد: أجاز في هذه الرواية للابن أن يخاصم عن أبيه الغائب في رباعه وحيوانه وجميع ما له دون توكيل، وكذلك الأب فيما ادعي لابنه وقع ذلك في الجدار. وقال في الواضحة: إن ذلك في الأب أبين منه في الابن، ولم يجز ذلك لمن سوى الأب والابن من القرابة والعشيرة على ما يأتي له في الرسم الذي بعد هذا، وفي رسم الكبش من سماع يحيى، غير أنه زاد فيه أنه يمكن من إيقاع البينة وإثبات الحق لا أكثر، فليس ما في رسم الكبش مخالفا لهذه الرواية، وقد حملها بعض أهل النظر على الخلاف، وليس ذلك بصحيح، فإذا أثبت ذلك لأبيه أو لابنه ووضع له على يدي عدل، فجاء فادعاه أخذه بلا يمين، ولا فرق في هذا بين الربع والحيوان وغيره، كما لو كان حاضرا فنازعته زوجته فيه وأقام البينة عليه أنه له، بخلاف ما يدعيه وهو بيد غيره، ذلك لا يتم له استحقاقه إلا بعد يمينه أنه ما باع ولا وهب حاشى الأصول على اختلاف في ذلك، وإن جاء فأقر أنه لا حق له في شيء من ذلك رد إلى المرأة، إلا أن يكون عليه دين يغترق ماله، فلا يجوز إقراره أنه لا حق له فيه، وإن مات قبل قدومه ورث ذلك عنه ورثته، وإن قام عليه غرماؤه قبل قدومه قضي لهم به وأعدوا فيه، وكذا يجب في أحد الورثة يدعي دارا لموروثه وسائر الورثة غيب، فيثبتها على القول بأنه يقضى له بحصته ويوقف حصص الغيب، وهو قول مالك في الرسم الذي بعد هذا، ورواية ابن غانم عنه في الشهادات من المدونة وكتاب الولاء والمواريث منها، خلاف قول ابن القاسم فيهما أنه لا يقضي له إلا بحصته خاصة، ولا يوقف للغيب شيء، وقد اختلف في هذا على أربعة أقوال: أحدها ما حملنا عليه هذه الرواية،

(9/193)


وما في رسم الكبش من سماع يحيى من التفرقة بين الأب والابن، وبين سائر القرابة والأجنبيين. والثاني أنه يمكن من قام عن غائب يطلب حقا له من المخاصمة عنه في ذلك دون توكيل وإن كان أجنبيا، ذهب إلى هذا سحنون، وإلى أن القاضي يوكل من يقوم للغائب بحقه، وتأول ما روي عن مالك من أنه لا يمكن من ذلك أحد إلا بوكالة، فقال: معناه فيما طال من الزمن ودرس فيه العلم، وهو أحد قولي ابن الماجشون، وروي ذلك عن أصبغ. والثالث أنه لا يمكن من إقامة البينة، ولا يمكن من الخصومة. والرابع أنه لا يمكن من إقامة البينة ولا من الخصومة، وهو قول ابن الماجشون في الواضحة ومطرف، وقد قيل: إن القريب والأجنبي يمكن من المخاصمة في العبد والدابة والثوب دون توكيل؛ لأن هذه الأشياء تفوت وتحول وتغيب، ولا يمكن من المخاصمة فيما سوى ذلك من الدين وغيره إلا الأب والابن. حكى هذا ابن حبيب في الواضحة عن مطرف، وهو قول خامس في المسألة. واختلف إذا أمكن القائم عن الغائب من المخاصمة عنه فيما يدعيه له دون توكيل على القول بأنه يمكن من ذلك. هل ذلك في القريب الغيبة دون البعيد؟ أو في القريب والبعيد؟ فقيل: إن ذلك في القريب والبعيد سواء، وهو الظاهر من رواية أشهب هذه، إذ لم يفرق فيها بين قرب الغيبة من بعدها، وكذلك حكى أبو زيد عن ابن الماجشون في الحيوان يدعيه للغائب ابنه أو أجنبي، ويقيم عليه البينة أن السلطان يوقفه له على يدي عدل ويكتب إليه، قال: لا لأن السلطان ينظر للناس حاضرهم وباديهم ولم يميز قريبا من بعيد. وقيل: إن ذلك في القريب الغيبة دون البعيد، وإلى هذا ذهب سحنون وابن حبيب فيما حكى عن مطرف، وذلك أنه روي عن مالك أن الابن يمكن من طلب دين أبيه دون توكيل. فقال: وذلك إذا كان المدعي له قريبا، فإذا أتى بالبينة أعدى

(9/194)


السلطان عليه بالمال فأتى به ووقفه للغائب، وضرب له أجلا. فإن جاء وطلبه أخذه، وإن قال: قد كنت تقاضيه، أو لم يأت إلى الأجل رد إلى الغريم، وإن كان بعيدا لم يوقف له شيء ولم يعوض للغريم إلا بتوكيل. قال: ولو كان حين جحده الغريم فأمكن من إقامة البينة عليه أقام شاهدا واحدا وعجز عن آخر حلف الغريم وبرئ إلى قدوم الغائب، فإن قدم حلف مع شاهده وأخذ حقه، وإن نكل لم يكن له شيء، وإن نكل الغريم أولا أخذ منه الحق معجلا ووقف للغائب فإذا قدم أخذه بلا يمين، كالصغير والسفيه يقوم له على حقه شاهد واحد، وكذلك قال في الحيوان والعروض إنه لا يمكن أحد من طلب ذلك للغائب دون توكيل إلا فيما قربت غيبته. قال: ولو كان المطلوب بالدين مقرا به ترك، ولم يعرض له كانت غيبة الأب قريبة أو بعيدة إلا بتوكيل. وقول مطرف هذا في الدين هو نحو ما حكى ابن عبدوس عن سحنون أن من غاب في سفره وترك ماله أو عقاره بيد أحد أن السلطان لا يعرض له، قال: ولو كان لم يتركه بيد أحد فقام عليه رجل فأخذه، فإن القاضي ينتزعه منه ويوكل عليه، ولا يمكن أهل العداء من عدائهم، وقال ابن كنانة: ذلك إلى اجتهاد السلطان.
قال محمد بن رشد: وإنما لا يعرض السلطان لمن غاب وترك مالا له بيد رجل أو دينا له قبله إذا سافر كما يسافر الناس، وأما إذا طالت غيبته وانقطع خبره فالسلطان ينظر له ويحرز عليه ماله، على ما وقع في كتاب طلاق السنة من المدونة. وأما قول سحنون: إذا لم يكن المال في يديه بخلافه أن السلطان ينتزعه منه ويوكل عليه فهو على أصله في أن الأجنبي يمكن من الخصومة عن الغائب دون توكيل. وقد مضى القول في تحصيل الاختلاف في ذلك وبالله التوفيق.

(9/195)


[مسألة: القضاء بقول وكيل القاضي]
مسألة وسألته عن القاضي يأتيه القوم بينهم الخصومة في قسم شيء بينهم فيولي رجلا حساب ذلك بينهم وهو عنده عدل رضى ثقة فيأتيه فيخبره بما صار لكل واحد منهم، أفيجوز له أن يقسم بينهم بقوله؟ أو لا يجوز ذلك حتى يعلم مثل ما علم الحاسب؟ فإن ذلك قد كان عندنا ولم أقبل إلى أن كتبت إليك بأن أكون دفعت شيئا من ذلك بقول أحد من القسام حتى أعلم منه مثل الذي علموا، فإن كان ذلك شيئا لا بد منه صبرت عليه، وإن كان شيئا لي منه سعة فإن ذلك أرفق بي، فقال: اكتب إليه، إنه ليس على القضاة تفتيش مثل هذا ولا علمه، فأرجو أن يكون من مثل هذا في سعة إذا كان الرجل عدلا، وليكن من شأنك أن تدعو الورثة فتأمرهم يرتضون رجلا، فإذا ارتضوه وليته أمرهم يحسب بينهم، فإني قد رأيت بعض من عندنا يفعل ذلك.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال إن القاضي يقبل قول القاسم الذي قدمه للحساب والقسمة بين القوم فيما أخبره أنه صار لكل واحد منهم، فيمضي ذلك ويقضي به ويشهد عليه، وإن لم يعلم صحته إلا بما أخبره به ولا حضر ذلك ولا شاهده، إذ ليس ذلك عليه ولعله ليس من أهل الحساب، فلو حضر وشاهد لم ينتفع بحضوره، وكذلك كل ما لا يباشره القاضي من الأمور بنفسه، فقول مأموره في ذلك مقبول عنده؛ لأن يده في ذلك كيده، وفعله كفعله، ولو اختلف الورثة في القسمة وتنازعوا في حدودها بعد أن قضى القاضي بها ونفذها بينهم على ما أخبره به القاسم الذي قدمه للقسمة فدعاهم القاضي بأصل القسمة التي أشهد عليها وقضى بها فلم توجد، أو وجدت وشهودها قد بادوا أو لم يتبين منها ما

(9/196)


تنازعوا فيه، والقاسم حي لقبل قوله، وأمضى شهادته وحده؛ لأنه بمنزلته في ذلك لو كان هو الذي ولي القسمة [التي أشهد عليها وقضى بها] ، بينهم بنفسه، ولو كان القاضي الذي أمره بالقسمة بالقسمة قد مات أو عزل فشهد عند غيره على ما قسم لم تجز شهادته في ذلك وحده ولا مع غيره، كما لا تجوز شهادة القاضي بعد عزله على ما مضى من حكمه. وهذا معنى ما وقع في الأقضية من المدونة، من أنه لا تجوز شهادة القسام فيما قسموا. وقوله: وليكن من شأنك أن تدعو الورثة فتأمرهم يرتضون رجلا، فإذا ارتضوه وليته أمرهم، هو أمر يستحب له أن يفعله، وليس ذلك بواجب عليه وجوبا يكون شرطا في صحة قضائه بالقسمة، إذ قد لا يجتمعون على الرضى بأحد، فإذا قدم القاضي من يرضاه جاز، وإن لم يرتضوا به كلهم أو بعضهم، وإنما يقدم القاضي قاسما يقسم بين القوم إذا تنازعوا في القسمة فدعى إليها بعضهم وأباها بعضهم، أو كان فيهم صغير أو غائب. وأما إن كانوا كبارا حضورا راضين بالقسمة فليس على القاضي أن يقدم لهم قاسما إن دعوا إلى ذلك، وليقدموا لأنفسهم من يقسم بينهم محتسبا أو بإجارة، وإذا قدم القاضي قاسما يقسم بين القوم لإباية بعضهم، أو لصغره أو لمغيبه فقسم فلا ينبغي للقاضي أن يشهد على إمضاء فعله حتى يعرضه على الكبار منهم، وعلى من قدمه للصغير، أو للغائب إن كان فيهم صغير أو غائب فيسلموه ولا يعترضوا فيه، ويراه هو صوابا في ظاهره وإن لم يقف على صحة باطنه، فإن اعترضوا فيه جميعا، أو أحدهم نظر في ذلك،

(9/197)


وكذلك إنما يقدم من يحسب لهم إذا كانوا لا يقومون بالحساب، أو كان بعضهم لا يقوم به، أو كان فيهم الصغير أو الغائب. وأما إن كانوا كبارا يقومون به فإنهم يؤمرون أن يجتمعوا على الحساب ولا يقدم لهم حاسبا إلا أن يختلفوا في الحساب ويتنازعوا فيه مع اتفاقهم على أصول المواريث وبالله التوفيق.

[: تعديل بعض الشهود وترك الآخرين]
ومن كتاب الأقضية لابن غانم قال ابن القاسم: وسأل ابن كنانة مالكا عن الرجلين يختصمان إلى القاضي في الأرض فيقيم هذا بينة من أهل قراه معروفين فيعدلوا على أنها له، ويقيم هذا بينة من أهل قرى وجبال حولها منتحية عنها ولا يأتي لهم بتعديل فيقول هم معروفون في مواضعهم بالعدالة، وهم عندنا غرباء ليس أحد يعرفهم. فقال: إن كانت مواضعهم من عمله فليكتب إليهم فيهم. قال له ابن كنانة: ألا يقضي لهذا الذي جاء بالبينة العادلة؟ فقال: وهذا أيضا قد جاء ببينة. فقال له ابن كنانة: ولكنهم لم يعدلوا. فقال مالك: يقول الخصم هم عدول حيث يعرفون، أكتب إليه إن كان هؤلاء في عمله عليهم وال، فليكتب إليه في أمرهم، وإن كان غير ذلك فليدعهم ولا يقضي بينهم بشيء. فقال له ابن كنانة: إن هؤلاء قد عدلوا ولم يعدل هؤلاء. فقال: إن الأحب إلى أن يدعهم ولا يقضي بشيء.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة أن الأرض ليست

(9/198)


في يد واحد منهما، ولو كانت في يد أحدهما لكان هو المدعى عليه، ولوجب أن تبقى الأرض في يده مع تكافؤ البينتين، أو إلى أجل يضرب له في تعديل بينته إذا عدلت بينة صاحبه. وقيل: إنها توقف إذا عدلت بينة صاحبه حتى يعدل هو بينته. وقوله: فليدعهم ولا يقضي بينهم بشيء، يريد ما لم يطل على ما حكى ابن حبيب في الواضحة عن أصبغ أنه قال: وهذا أحسن؛ لأن خصومتهم في ربع، ولا أرى أن يدعهم هملا أبدا، وليكشف وليستأن، فإذا طال ذلك ولم يأت صاحب البينة المجهولين بشيء قضى لصاحب البينة المعروفين المعدلين. ولو كان الاختصام في غير ربع لم أر أن يبلغ به هذا الاستيناء، ورأيت أن يقضي لصاحب البينة المعروفين بعد تلوم ليس بطويل، وفي قوله: إن كانت مواضعهم من عمله فليكتب إليه فيهم، دليل على أنه إن لم تكن مواضعهم من عمله لم يلزمه أن يكتب إلى قاضي موضعهم في تعديلهم، ومثله في رسم الأقضية من سماع يحيى من كتاب الشهادات نصا، وهو عندي ظاهر ما وقع في رسم الكبش منه، وفي سماع زونان من كتاب الشهادات المذكور، وقد حمل بعض أهل النظر ما في رسم الكبش وما في سماع زونان على أنه يلزمه أن يكتب في تعديلهم إلى قاضي موضعهم، وإن لم يكن من عمله كما لو كان من عمله، وهو من التأويل البعيد؛ لأنه إنما يلزمه أن يكتب إلى قاضي موضعهم في تعديلهم إذا كان المطلب في حق هو لله، من طلاق أو

(9/199)


عتاق وشبهه؛ لأنه يلزمه أن يحتاط في الفروج بما يجد إليه السبيل من الكتاب إلى من يعلم عدالته من القضاة. وأما ما لم يكن فيه حق لله فلا يلزمه السؤال عن الشاهد إلا في موضعه، ويستحب له أن يكتب فيه إلى أهل عمله على ما جاء في هذه الرواية وبالله التوفيق.

[مسألة: رجل ورثه أربعة فخاصم رجل منهم في دار حتى استحقها وإخوته غيب]
مسألة وسئل مالك عن رجل ورثه أربعة ولد له فخاصم رجل منهم في دار حتى استحقها هو، وإخوته غيب، أتخرج من يد المقضي عليه، وتدفع إلى الذي قضي له بها؟ فقال: لا تدفع إلى الذي قضى له بها، إلا بوكالة، فقيل له: إنهم إخوته، فقال: لا تدفع لأحد إلا بالوكالة، ولكن تنتزع من يد الذي قضي عليه فتوضع على يدي عدل اكتب إليه بذلك.
قال محمد بن رشد: قوله إنه ينزع من يد الذي قضي عليه حظ إخوته الغيب فيوقف لهم على يدي عدل هو مثل رواية ابن غانم عنه في الشهادات والولاء والمواريث من المدونة وهو على قياس القول بأن الحكم يتم في استحقاق الأصول دون يمين، وقول ابن القاسم في المدونة: إنه لا يوقف للغيب شيء، يأتي على قياس القول بأن الاستحقاق لا يتم في ذلك للمستحق إلا بعد يمينه ما باع ولا وهب كالعروض والحيوان، فإذا وقفت لهم حظوظهم على هذه الرواية أعدي فيها غرماؤهم، وكانت لهم إن جاءوا فادعوها وورثت عنهم إن ماتوا، وإن جاءوا فأقروا أنه لا حق لهم فيها ردت إلى الذي كانت بيديه إلا أن يكون عليهم من الديون

(9/200)


ما يغرقها فلا يجوز إقرارهم؛ لأن ذلك من ناحية الهبة. وأما على القول بأنه لا يقضي للقائم إلا بحقه ويترك حظ الغيب بيد المدعى عليه يبيع ويغتل ويفعل فيه ما شاء، وهو مذهب ابن القاسم، فلا يعدى فيه غرماؤهم، ولا يورث عنهم إن ماتوا قبل أن يعلم ادعاؤهم له، واختلف على قياس هذا القول إن جاءوا فادعوه أو ماتوا فادعاه ورثتهم على ثلاثة أقوال: أحدها أن يكون ذلك لهم ولورثتهم بالحكم المتقدم دون بينة ولا استيناف خصومة، وهو قول ابن الماجشون، والثاني أنه يكون ذلك لهم بالحكم المتقدم دون بينة ولا استيناف خصومة، ولا يكون ذلك لورثتهم إلا باستيناف الحكم بعد الخصومة، وهو ظاهر ما في كتاب الولاء والمواريث من المدونة. وقول أصبغ فيما حكى عنه ابن حبيب. والثالث أنه لا يكون ذلك لهم، ولا لورثتهم بعدهم بالحكم المتقدم دون استيناف الخصام وإعادة البينة وهو القياس، إلا في إعادة البينة، فإنه لا وجه له. وقد أنكر ذلك سحنون في كتاب ابنه. وإن جاءوا فقالوا: لا حق لنا في ذلك، فقد قال ابن الماجشون: إن ذلك يترك بيد المطلوب، إلا أن يكون أحدهم مفلسا قام عليه غرماؤه، فلا ينظر إلى قوله، بخلاف ما يوجب للمفلس، والذي يوجبه القياس والنظر أن يترك حظ الغائب بيد المطلوب، إذا أقر أنه لا حق له فيه وإن كان إقراره بذلك بعد التفليس، إلا أن يدعي الغرماء ذلك له فيستأنف به الحكم لهم وبالله التوفيق.

[مسألة: بيع بعض الورثة أرضهم دون الآخرين]
مسألة وسئل مالك عن رجل توفي عن أرض كانت عفاء براحا: لا ماء فيها ولا غراس فاقتسمها الورثة فباعوا من غير واحد وخرجت من أيديهم على ذلك، فاغترس المشترون، ومنهم من اشترى ماء

(9/201)


فساقه، ومنهم من اكترى، فأقاموا بذلك نحوا من أربعين سنة أو أكثر حتى حيي ذلك وبلغت النخيل، ثم إن بعضهم باع حظه، فقال المشتري حيث اشترى لمن يمر منهم عليه بمائه: لا أدعك تمر به علي، وقال الذي يمر به عليه: هذا الماء لم يزل هكذا منذ أربعين سنة، لا نعرف إلا ذلك. فهل للمالك يمر بمائه في أرضه؟ فقال: نعم، فقال مالك: أرى أن يدعوهم القاضي بأصل قسم ما قاسموا عليه، فإن أتوا به حملهم عليه، وإن لم يكن إلا ما هم عليه أقروا على ذلك، ولم يكن له أن يمنعه. أرأيت الذي باعه لو جاء الآن يمنعهم؟ ما أرى شيئا الآن أمثل أن يقروا على حالهم إذا لم يكن قسم معروف.
قال محمد بن رشد: قوله أرى أن يدعوهم القاضي بأصل قسم ما قاسموا عليه، فإن أتوا به حملهم عليه، يريد أنه إن كان في أصل ما اقتسموا عليه مرور الماء على البائع لزمه، ولم يكن للمشتري في ذلك كلام، إلا أن يكون لم يعلم بذلك فيكون عيبا فيما اشتري، إن شاء أن يمسك وإن شاء أن يرد به؛ وإن لم يكن في أصل ما اقتسموا أن يمر الماء عليه لم يلزمه ذلك، وكان للمشتري أن يمنع منه، فلم ير على هذا في هذه الرواية مرور الماء على البائع في أرضه أربعين سنة حيازة عليه، وهذا على القول بأن الضرر لا يحاز، وقد مضى الاختلاف في ذلك في نوازل أصبغ من جامع البيوع في مسألة المجرى في العرصة، ولا جعل بيعه للأرض رضى منه بترك القيام على المار بمائه فيها، وذلك خلاف ما حكى ابن حبيب في الواضحة عن مطرف وابن الماجشون وأصبغ في أن من أحدث عليه ضرر فلم يتكلم فيه حتى باع لزم المشتري، ولم يكن له فيه قيام، فأحل المشتري محل البائع في القيام عليه بما كان للبائع أن يقوم

(9/202)


به عليه، إذ قال: إن القاضي ينظر له بما كان ينظر به للبائع من أن يدعو بأصل القسم فيحملهم عليه. ويدخل في هذا اختلاف بالمعنى؛ لأنه إذا لم يجعل بيعه رضي بترك القيام فهو بمنزلة ما إذا باع ولم يعلم بما أحدث عليه، أو باع بعد أن علم في حال الخصام قبل أن يقضى له، وقد قال في كتاب النكاح الأول من المدونة في الذي يتزوج عبده بغير إذنه فيبيعه قبل أن يعلم، إن المشتري بالخيار بين أن يمسك أو يرد، ولا يكون له من الخيار في التفرقة ما كان للبائع، وحكى ابن حبيب عن مطرف وابن الماجشون وأصبغ أنه إذا باع في حال الطلب والخصام قبل أن يتم له القضاء أن المشتري ينزل منزلة البائع، ويكون له من الطلب ما كان له. فما في كتاب النكاح الأول معارض لهذه الرواية ولما في الواضحة. ويتحصل في المسألة ثلاثة أقوال: أحدها أن بيعه بعد العلم رضى بترك القيام. والثاني أنه ليس برضى، ويقوم المشتري بما كان للبائع أن يقوم به. والثالث أنه ليس برضى من البائع، ولا قيام للمشتري، وإنما له الرد على البائع بالعيب، إن لم يعلم به، فإن رد عليه كان للبائع القيام، وكذلك إن باع السيد العبد الذي تزوج بغير إذنه بعد أن علم بتزويجه يدخل في ذلك الثلاثة الأقوال وبالله التوفيق.

[مسألة: ادعى دارا ومنزلا له في يده لطول غيبة المالك أتأذن لعشيرته في مخاصمته]
مسألة وسألته عن عشيرة رجل أتوك فذكروا لك أن رجلا منهم بالأندلس، وأن في يد رجل منهم لصاحبهم منزلا ودارا. وأنه قد ادعى ذلك لنفسه لطول غيبة صاحبهم، وينكر الذي في يده الدار والمنزل الذي ادعوا من ذلك أن يكون لصاحبهم في يده حق، ويسألك عشيرة الرجل الغائب أن تأذن لهم لمخاصمته وإثبات البينة

(9/203)


عليه بحق الغائب قبل هلاك من يعلم ذلك ويشهد عليه، وليست في أيديهم منه خلافة. قال: هل ترى أن يأذن لهم في ذلك؟ فقال: أرى ألا يأذن لهم في ذلك، وألا يخليهم إلا بوكالة أو أمر يعرفه.
قال القاضي: هذا مثل ما حكى ابن حبيب في الواضحة من رواية ابن غانم عن مالك، ومن رواية أصبغ عن ابن القاسم عن مالك. وزاد عن ابن القاسم أنه قال: فإن جهل القاضي فأمره بالمخاصمة فحكم عليه أو له لم يجز ذلك عليه ولا له. قال: وقال ابن نافع مثله. وقد مضى القول على هذه المسألة محصلا مستوفى في الرسم الذي قبل هذا، فلا معنى لإعادة شيء منه، وبالله التوفيق.

[مسألة: ضرب الأجل للمحكوم عليه فيما يدعي من إقامة البينة على حجته]
مسألة وسألته عن الرجل يدعي المنزل في يد الرجل ويأتيه ببينة على ما يستحقه به فيما يحضرنا، فسأل الذي المنزل في يديه عن حجته فذكر حجة لو جاء عليها بالبينة كان أولى بالمنزل من المدعي، وسألنا أن نضرب له أجلا يجلب بينته على ما احتج به فأؤجله الأجل الواسع الشهر والشهرين والثلاثة، فيمضي الأجل ولا يحضرنا شيئا، ويذكر غيبة شهوده وتفرقهم، هل ترى أن يضرب له أجل آخر أم يقضى عليه؟ قال: أما الرجل المصدق المؤمن الذي لا يتهم على أن يدعي باطلا ولا يقوله فإني أرى أن تزيده في الأجل، ويستأنى له. وأما الرجل الملد الذي يرى أنه إنما يريد الإضرار بخصمه وتأخير حقه عنه، فلا

(9/204)


أرى له أن يمكنه من ذلك إلا أن يذكر أمدا تقارب شأنه، ثم يختبر كذبه في مثله فيستبرئ ذلك الأمر، القريب، ثم يقضي عليه بما يرى.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأن ضرب الأجل للمحكوم عليه فيما يدعي من إقامة البينة على حجته مصروف إلى اجتهاد القضاة بحسب ما يظهر إليه من حال المضروب له الأجل وصدقه فيما يدعي، والأصل في ذلك ما في كتاب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري من قوله: واجعل لمن ادعى حقا غائبا، أو بينة أمدا ينتهي إليه، فإن أحضر بينة أخذت له بحقه، وإلا استحللت عليه القضية فإنه أنفى للشك وأجلى للعمى والذي مضى عليه عمل الحكام في التأجيل في الأصول ثلاثون يوما، يضرب له عشرة أيام، ثم عشرة، ثم يتلوم له بعشرة؟ أو ثمانية، ثم ثمانية، ثم ثمانية، ثم يتلوم له بستة؟ أو خمسة عشر يوما، ثم ثمانية ثم أربعة، ثم يتلوم له بثلاثة تتمم ثلاثين يوما، أو يضرب له أجلا قاطعا من ثلاثين يوما يدخل فيه التلوم، والآجال. كل ذلك قد مضى من فعل القضاة والحكام، وهذا مع حضور بينة في البلد. وأما إذا كانت غائبة عن البلد فأكثر من ذلك على ما تضمنته هذه الرواية من اجتهاد الحكام وبالله التوفيق.

[مسألة: احتكم إلى القاضي خصوم أعاجم فلا بد أن يترجم عنهم رجل ثقة مسلم]
مسألة (وقال) : إذا احتكم إلى القاضي خصوم يتكلمون بغير

(9/205)


العربية ولا يفقه كلامهم فإنه ينبغي له أن يترجم عنهم رجل ثقة مأمون مسلم، واثنان أحب إلي في ذلك من الواحد، والواحد يجزئ، ولا تقبل ترجمة أحد عنهم من أهل الكفر ولا العبيد ولا المسخوطين، ولا بأس أن تقبل ترجمة المرأة إذا كانت من أهل العدل، وكان الحق مما يقبل فيه شهادة النساء، وامرأتان ورجل أحب إلي؛ لأن هذا موضع شهادة؛ لأن القاضي إذا لم يفهم كلام الخصوم كان بمنزلة من لم يسمعه.
قال محمد بن رشد: هو كما قال؛ لأن كل ما يبتدئ به القاضي فيه بالبحث والسؤال كقياس الجراحات والنظر إلى العيوب والاستحلاف والقسم بين الورثة واستنكاه من أنكر سكره وما أشبه ذلك من الأمور يجزئ فيه الواحد كذا قال في المدونة في الذي يحلف المرأة أنه يجزئ فيه رسول واحد، وكذلك قال في سماع أصبغ من كتاب الحدود في الاستنكاه وهو مما لا اختلاف فيه، والاختيار في ذلك كله اثنان عدلان ويجزئ فيه الواحد العدل. وقوله: إنه لا يقبل ترجمة أحد من أهل الكفر ولا العبيد ولا المسخوطين معناه مع وجود العدول المرضيين. ولو اضطر إلى ترجمة الكافر أو المسخوط أو العبد لأعمل قوله وحكم به، كما يحكم بقول الطبيب النصراني وغير العدل فيما يضطر فيه إلى قوله من جهة معرفته بالطب، وقد حكى فضل عن سحنون أنه قال: لا تقبل ترجمة الرجل الواحد، واحتج بقول مالك: القاضي إذا لم يفقه لسانه كان

(9/206)


بمنزلة من لم يسمع، ومعناه أنه لا ينبغي له أن يكتفي بترجمة الرجل الواحد ابتداء، لا أنه إن فعل ذلك لم يجز، وكان حكمه بترجمة الواحد مردودا هذا ما لا يصلح أن يكون أراده والله أعلم به.

[مسألة: لا يكلف العبد من العمل إلا ما يطيق]
مسألة قال مالك: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «للمملوك طعامه وكسوته بالمعروف ولا يكلف العبد من العمل إلا ما يطيق» . قيل لمالك: أفترى أن يقضى على سيده ألا يكلفه من العمل إلا ما يطيق؟ قال: أرى أن يقضي بذلك عليهم ألا يكلفوا من العمل إلا ما يطيقون.
قال محمد بن رشد: قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «للمملوك طعامه وكسوته بالمعروف» الحديث، هو حديث الموطأ من رواية أبي هريرة، ومعنى قوله فيه بالمعروف أي غير إسراف ولا إقتار، وعلى قدر سعة مال السيد وما يشبه حال العبد أيضا. فليس الوغد الأسود الذي هو للخدمة والحرث كالنبيل التاجر الفاره فيما يجب لهما على سيدهما من الكسوة سواء، وفي هذا دليل ظاهر على أنه لا يلزم الرجل أن يساوي بين عبده ونفسه في المطعم والملبس على ما ذهب إليه بعض أهل العلم لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أطعموهم مما تأكلون واكسوهم مما تلبسون» . وقد روي

(9/207)


عن أبي اليسر الأنصاري، وأبي ذر من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنهما كانا يفعلان ذلك، وهو محمول منهما على الرغبة في فعل الخير، لا على أن ذلك واجب عليهما، إذ لم يقل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أطعموهم مثل ما تأكلون، واكسوهم مثل ما تلبسون، وإنما قال: مما تأكلون ومما تلبسون، فإن أطعمه وكساه بالمعروف من بعض ما يأكل من الخبز والإدام ويلبس من الصوف والقطن والكتان، فقد شاركه في مطعمه وملبسه، وامتثل بذلك قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وإن تفضل عليه في ذلك فلم يكن ملبسه مثل ملبسه، ومطعمه مثل مطعمه سواء. فعلى هذا تحمل الآثار ولا يكون بينها تعارض. وقد سئل مالك في سماع أشهب من كتاب الجامع أيصلح أن يأكل الرجل من طعام لا يأكل منه عياله ورقيقه، ويلبس ثيابا لا يكسوهم مثلها؟ قال: إي والله، إني لأراه من ذلك في سعة. فقيل له: أرأيت ما جاء من حديث أبي الدرداء؟ قال: كان الناس يومئذ ليس لهم ذلك القوت. ويقضى للعبد على سيده إن قصر عما يجب له عليه بالمعروف في مطعمه وملبسه، بخلاف ما يملكه من البهائم، فإنه يؤمر بتقوى الله في ترك إجاعتها، ولا يقضى عليه بعلفها. وقد روي عن أبي يوسف أنه يقضى على الرجل بعلف دابته، كما يقضى عليه بنفقة عبده، لما جاء من «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل حائط رجل من الأنصار فإذا فيه جمل فلما رأى النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - رق له وذرفت عيناه فمسح رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صدره وذفراه حتى سكن، ثم قال: من رب هذا الجمل؟ فجاء فتى من الأنصار، فقال: هو لي يا رسول الله. فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أفلا تتقي الله في البهيمة التي ملكك إياها؟ فإنه شكا إلي أنك

(9/208)


تجيعه ".» والفرق بين العبد والدابة، أن العبد مكلف تجب عليه الحقوق من الجنايات وغيرها، فكما يقضى عليه يقضى له، والدابة ليست بمكلفة، لا يجب عليها حق ولا يلزمها جناية؛ فكما لا يقضى عليها لا يقضى لها. وكذلك يقضى للعبد على سيده ألا يكلفه من العمل إلا ما يطيق، على ما جاء في الحديث. والأصل في ذلك ما ثبت (من) أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - " كان يذهب إلى العوالي كل يوم سبت، فإذا وجد العبد في عمل ثقيل لا يطيقه وضع منه عنه " على ما وقع في الجامع من الموطأ وبالله التوفيق.

[مسألة: للمرأة المتزوجة التصرف في ثلث مالها]
مسألة وسئل مالك فقيل له: أليس أمر المرأة المتزوجة جائزا في ثلث مالها؟ قال: بلى لذلك وجوه إلا أن تكون ضارة.
قال محمد بن رشد: ظاهر قول مالك هذا أنها إذا قصدت بما فعلت الضرر لم يجز، وإن كان أقل من الثلث، ومثله حكى ابن حبيب في الواضحة عن مالك واختاره، وقد قيل: إن الثلث فما دونه جائز وإن قصدت الضرر، وهو قول سحنون ورواية يحيى عن ابن القاسم، ورواية يحيى عن غير ابن القاسم، وسحنون عن ابن القاسم أنها إذا قصدت بالثلث الضرر لم يجز، بخلاف ما دون الثلث، فلا اختلاف في المذهب أن فعلها في أكثر من ثلث مالها لا يجوز دون إذن زوجها، وإن لم تقصد بذلك ضررا. واختلف إن قصدت بالثلث فما دونه ضررا على ثلاثة أقوال: أحدها

(9/209)


أن ذلك لا يجوز. والثاني أن ذلك جائز. والثالث أنه يجوز فيما دون الثلث، ولا يجوز في الثلث. فهذا تحصيل الاختلاف في هذه المسألة. واختلف هل فعلها محمول على الجواز حتى يرده الزوج؟ أو على الرد حتى يجيزه؟ فحكى ابن حبيب عن مطرف وابن الماجشون أنه محمول على الرد حتى يجيزه الزوج، لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا يجوز للمرأة قضاء في ذي بال من مالها إلا بإذن زوجها» . وهو ظاهر قول مالك في رسم اغتسل من سماع ابن القاسم من كتاب العتق، فعلى قياس هذا إذا تصدقت أو أعتقت أكثر من الثلث فلم يعلم بذلك زوجها حتى مات عنها أو طلقها لم يلزمها ذلك، وقد روى ذلك عن بعض أصحاب مالك، وإن ادعت أنه الثلث أو أقل من الثلث كان عليها إقامة البينة، وحكي عن ابن القاسم أنه محمول على الإجازة حتى يرده الزوج، وهو قول سحنون في سماع ابن القاسم، فعلى قياس هذا إذا لم يرده الزوج حتى مات عنها أو طلقها لزمها، وإن ادعى الزوج أنه أكثر من الثلث كان عليه إقامة البينة. ومن أهل العلم من لا يجيز للمرأة قضاء في شيء من مالها قل أو كثر بغير إذن زوجها، لما روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يجوز للمرأة أمر في مالها إلا بإذن زوجها» . ومنهم من يجيز لها القضاء في جميع مالها بغير إذن زوجها استدلالا بظواهر آثار مروية في هذا المعنى، تركت ذكرها اختصارا، فما ذهب إليه مالك في مراعاة الثلث عدل بين القولين وبالله التوفيق.

[مسألة: ضمان ما أفسدت المواشي من حوائط الغير]
مسألة وسئل عما أفسدت المواشي بالليل والنهار من الحوائط التي يحرسها أهلها بالليل أو قد عطلوها لا تحرس أذلك عندك سواء؟

(9/210)


فقال: نعم، هو سواء، ما أفسدت المواشي من الحوائط ومن الزرع محظورا عليه أو غير محظور، تحرس أو لا تحرس، فعلى أهل المواشي ما أفسدت بالليل، وما أفسدت بالنهار فليس عليهم فيه شيء، وما أفسدت المواشي أو الدواب بالليل فهو ضمان على أهلها وإن كان ذلك أكثر من قيمة المواشي يغرم له قيمة ما أفسدت بالغا ما بلغ. قيل: أرأيت إن كانت لم يبد صلاحها؟ قال: يغرم قيمتها يوم أصيبت وأفسدت لا يوم تصلح. قيل له: أرأيت الدابة لو أفلتت فوطئت على رجل نائم بليل أيغرم صاحبها؟ قال: لا، إنما أريد بهذا الحديث الحوائط الزرع والحرث.
قال محمد بن رشد: هذا كله كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه في المذهب، والأصل فيه ما جاء من أن «ناقة للبراء بن عازب دخلت حائط رجل فأفسدت فيه، فقضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على أهل الحوائط حفظها بالنهار» ، وما أفسدت المواشي بالليل ضامن على أهلها، وإنما يسقط على رب الماشية ضمان ما أفسدت ماشيته بالنهار من الزرع والحوائط إذا أخرج ماشيته عن جملة الزرع والحوائط بذائد يذودها إلى مراعيها فشذ منها شيء ورجع إلى الزرع أو الحائط فأفسد فيها أو رعى بها فيما بين الزرع والحائط بذائد يذودها عنها فوقع منها شيء في الزرع أو الحوائط دون تفريط ولا تضييع من ذائدها. وأما إن أهملها بين الزروع والحوائط دون راع أو براع فضيع أو فرط حتى أفسدت فهو ضامن لما أفسدت، والضمان في ذلك على الراعي المضيع المفرط لا على رب

(9/211)


الماشية، إذ ليس على رب الماشية أكثر مما صنع. وقضاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن ما أفسدت المواشي بالليل ضامن على أهلها ليس على عمومه في جميع ما أفسدت أو قتلت بالليل، وإنما المراد به الحوائط والزرع والحرث، كما قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -. إما لأنه رأى الحديث مقصورا على سببه، وإما بدليل الإجماع أنها لو هدمت حائطا أو قتلت رجلا لم يضمن صاحبها شيئا؛ لأن الإجماع يخصص العموم، وما بقي من عموم هذا الحديث بعد التخصيص وهو ما أفسدت المتفلتة بالليل بالرعي من الحوائط والزرع والحرث مخصص من عموم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «جرح العجماء جبار» . فهذا تحصيل القول على مذهب مالك في ترتيب هذين الأثرين. وأهل العراق لا يرون على أهل المواشي ضمان ما أصابت ماشيتهم المنفلتة بالليل والنهار في شيء من الأشياء، ويجعلون قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «جرح العجماء جبار» ناسخا لقضائه أن ما أفسدت المواشي بالليل ضمان على أهلها. والصحيح ما ذهب إليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأن النسخ إنما يكون بما يتعارض، ولا يمكن الجمع بينه بتخصيص بعضه ببعض وبيانه له. وقضاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأن ما أفسدت المواشي ضامن على أهلها على ما قصه الله علينا في محكم كتابه من شرع داود وسليمان في قوله: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ} [الأنبياء: 78] لأن النفش بالليل والهمل بالنهار لأنهما حكما جميعا بالتضمين، فإنما خالف شرعنا شرعهما في صفة التضمين، كما اختلف اجتهادهما - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ - في ذلك، فقضى داود بالغنم لصاحب الحرث، وقضى سليمان لصاحب الحرث بأن يأخذ الغنم فيستغلها حتى يستوفي من غلتها ما كان يخرج له ما أفسد من حرثه، فقضاء سليمان الذي أثنى الله تعالى عليه بقوله: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء: 79] مخالف لشرعنا بعيد منه، لا يحتمل أن يصرف بالتأويل إليه. وأما قضاء داود فيحتمل أن يكون ذلك موافقا لشرعنا، بأن

(9/212)


يكون ما أفسدت مستغرقا لقيمة الغنم ولا يكون له مال سواها. وقوله: إن ما أفسدت المواشي بالليل ضامن على أهلها وإن كان ذلك أكثر من قيمتها، يريد وليس له أن يسلم المواشي بقيمة ما أفسدت، بخلاف العبيد فيما جنوا؛ والفرق بين المسألتين أن العبد هو الجاني؛ لأنه مخاطب مكلف مأمور منهي، فلا يلزم السيد من جنايته أكثر من أن يسلمه، والماشية ليست هي الجانية، إذ ليست بمخاطبة، وإنما الجاني هو، إذ لم يتوثق منها حتى لا يمكنها الانفلات، وإن أفسدت الزرع وهو صغير أخضر فيكون على ربها قيمته لو كان يحل بيعه على الرجاء والخوف، قاله في رسم نقدها بعد هذا من سماع عيسى، وهذا مما لا اختلاف فيه، إذ كان لا يرجى أن يعود إلى هيئته. وأما إن كان رعيه صغيرا يرجى أن يعود إلى هيئته، فحكى ابن حبيب عن مطرف أن القيمة تكون في ذلك، ولا يستأنى به إن نبت كما يصنع بسن الصغير، ويأتي على مذهب سحنون أنه لا يستأنى به؛ لأنه قال في كتاب ابنه في الذي يقطع شجرة الرجل من فوق أصلها أنه لا يقضى عليه الساعة، ولكن ينتظر الشجرة فإن عادت لهيئتها كما كانت أولا فلا شيء على القاطع، وإن هي عادت ولم تتم على حالها الأول غرم ما نقص. . قال: ولا يرجع عليه بأجر السقي والعلاج كالجرح الخطأ إذا عاد على غير عثم فلا شيء على الجارح، ولا يغرم أجر المداوي، خلاف قول الفقهاء السبعة أن عليه أجر المداوي (قال مطرف) : فإن عاد الزرع لهيئته بعد الحكم مضت القيمة لصاحب الزرع ولم يرد، وهو الذي يأتي على قول أشهب في سماع أصبغ من كتاب الديات في الذي يضرب فيذهب عقله فيقضى له بالدية بعد الاستيناء ثم يعود عليه عقله أنه حكم قد مضى، وقد قيل: إن القيمة ترد، وهو الذي يأتي على

(9/213)


ما في الجراحات من المدونة في الذي يعود إليه بصره بعد أن قضي له بالدية إنه يردها. قال مطرف: فإن تأخر الحكم حتى عاد الزرع إلى هيئته سقطت القيمة، ولم يكن على المفسد إلا الأدب، إلا أن يكون ما أفسد من ذلك يرعى وينتفع به فيكون عليه قيمته ناجزا علي ما ينتفع به، وليس على الرجاء والخوف، وقال أصبغ: يقوم على الرجاء والخوف نبت أو لم ينبت، كان ذلك قبل الحكم أو بعده وبالله التوفيق.

[: للقاضي يسمع من البينة قبل وقت وجوب الحكم بها]
من سماع عيسى بن دينار من كتاب أوله نقدها نقدها قال عيسى: وسئل عيسى ابن القاسم عن رجل ادعى وكالة ولم يثبتها بعد، وشهود الحق الذي وكل فيه حضور، أيقبل القاضي شهادتهم؟ قال: إن خاف أن يخرجوا إلى موضع وكان لذلك وجه قبل القاضي شهادتهم ثم ثبتت الوكالة بعد، وإلا فلا حتى تثبت الوكالة.
قال محمد بن رشد: هذا صحيح على معنى ما في المدونة وغيرها من قول ابن القاسم وروايته عن مالك أن القاضي يسمع من البينة قبل وقت وجوب الحكم بها. من ذلك قوله في كتاب طلاق السنة منها: إن القاضي يسمع البينة على المفقود بأنه أوصى بوصية أو أوصى إلى رجل قبل الحكم بتمويته. ويأتي على قول مطرف وابن الماجشون أن القاضي لا يقبل من أحد بينة ولا يسمعها إلا في حال يحكم بها للطالب أو يدفع بها عن المطلوب أنه لا يسمع من بينته حتى تثبت وكالته، وإن خشي مغيب بينته أشهد على شهادتهم وبالله التوفيق.

(9/214)


[مسألة: إخراج المدعى به من اليد عند انعدام البينة]
مسألة وعن رجل أتى إلى القاضي فقال: إن الحاكم قبلك حكم بدار كذا لي على فلان، وأثبت ذلك بشهيدين، والدار في أيدي قوم غير المسمى الذي حكم عليه، فقالوا: لا علم عندنا بما يقول، وهذه الدار في أيدينا منذ كذا وكذا قبل الحكم وهي لنا. قال: أرى أن يخرجها القاضي من أيديهم ويدفعها إلى الذي قامت له البينة إذا كان الشهيدان عدلين، وأرى أن ينفذ قضاء الحاكم الذي قبله إذا كان قد شهد على ذلك شهيدان عدلان.
قال محمد بن رشد: إنما يدفعها إلى من أثبت الحكم فيها بعد الإعذار إلى من هي في يديه، وهذا إذا كان الحكم الأول بغير إقرار من الذي حكم عليه، وأما إن كان بإقرار من المحكوم عليه أولا فلا تخرج من يدي من هي الآن في يديه إلا بحكم موثق، وهذا بين قائم من المسألة التي تحتها وبالله التوفيق.

[مسألة: إقرار الرجل بمال لغيره]
مسألة وعن الحاكم يأتيه الرجلان فيدعي كل واحد منهما أرضا بالصحراء، ثم يقر أحدهما أنها لصاحبه من غير بينة، كيف ينبغي للحاكم أن يشهد؟ أيشهد أنه حكم بهذه الأرض لفلان وهو لا يدري أهي في يديه أم لا؟ قال: بل يشهد له أن فلانا أقر لفلان بهذه الأرض، ولا يشهد أنه قضى له بها، وإنما يشهد على إقراره بما أقر له به، ولا يحكم فيها بشيء إلا أن يقيم البينة له.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة بينة المعنى، إذ قد يقر الرجل للرجل بمال غيره، فإن قضى له عليه بإقراره وأشهد أنه قضى له ولم يذكر أنه إنما قضى له عليه بإقراره اقتضى إشهاده أنه قضى له ببينة تثبت عنده أن

(9/215)


ذلك الشيء له، فأدى ذلك إلى أن يؤخذ من الرجل ماله باطلا بغير حق وبالله التوفيق.

[مسألة: كيفية ضمان ما اأتلفته البهائم]
مسألة وسئل عن الزرع الصغير الأخضر تفسده البهائم كيف غرمه؟ قال: يغرم قيمته لو كان يحل بيعه على الرجاء فيه والخوف.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول فيها مستوفى في آخر رسم من سماع أشهب قبل هذا، فلا معنى لإعادة شيء منه ولله التوفيق.

[: رجل وجد جبا في أرضه وباب الجب في أرض غيره]
ومن كتاب أوله استأذن سيده في تدبير جاريته وسئل عن رجل وجد جبا في أرضه، وباب الجب في أرض غيره، قال: الجب لمن الباب في أرضه؛ لأن منفعته له كانت وهي خطته، وكذلك العلي يكون للرجل، والسفل لآخر، وباب ذلك إلى ناحية [وباب ذا إلى ناحية] أخرى، فليس بالعلى يستحق السفل، فالجب لصاحب الباب، وما عليه لصاحب الأرض، وهذا بين إن شاء الله. وقال في غير هذا الكتاب من سماع عيسى بن دينار وهو في كتاب العتق: إن لكل واحد أن يأخذه من أرضه وينتفع به ويسده فيما بينه وبين صاحبه ولا يستحقه بالباب.
قال محمد بن رشد: اختلاف قول ابن القاسم في هذه المسألة جار على اختلافهم فيمن اشترى أرضا أو دارا فوجد فيها شيئا لم يعلم

(9/216)


به هو ولا البائع من صخر أو رخام أو عمد وما أشبه ذلك، هل يكون له أم لا؟ فالمعلوم من مذهب ابن القاسم أنه لا حق في ذلك للمبتاع، وهو للبائع إن ادعاه وأشبه أن يكون له بميراث، وإلا كان سبيله سبيل اللقطة، وذهب سحنون وابن حبيب وابن دينار إلى أنه للمبتاع، فقول ابن القاسم في هذه المسألة: إن الجب لصاحب الباب ولا حق فيه لصاحب الأرض وهو على مذهبه المعلوم في أن المبتاع لا حق له فيما وجد في الأرض الذي ابتاع، وأنه للبائع إذا أشبه أن يكون له، وإذا حكم بالجب لصاحب الباب بدليل كون الباب في أرضه وجب أن يكون الذي الجب في أرضه مخيرا في رد الدار على من اشتراها منه إن كانت في يديه بشراء؛ لأنه عيب فيها، وإن شاء حبسها ورجع بقيمة ما استحق من أرضه، وهو موضع الجب منها، وإن كان الذي حكم له بالجب بدليل كون الباب في أرضه ابتاع الأرض ولم يعلم بالجب الذي وجد بابه فيها كان للبائع أن يرجع في البيع؛ لأنه يقول: لو علمت بالجب لم أبعها بهذا الثمن. وقوله الثاني إن له أن يأخذ الجب من أرضه وينتفع به ويسده فيما بينه وبين صاحبه هو على مذهب سحنون وابن حبيب وابن دينار، وإذا حكم له بما قابل أرضه من الجب على هذا القول لم يكن له على البائع منه رجوع إن كان الجب يعيب أرضه ولا للبائع عليه رجوع إن كان الجب يزيد في ثمن الدار، ولو تقاسم رجلان أرضا فوجد تحت حظ أحدهما جب بابه في حظ صاحبه انتقضت القسمة على القول بأن الجب لصاحب الباب، كما لو وجد الجب ببابه في أرض أحدهما، وعلى القول الآخر تنبت القسمة بينهما ويكون الجب للذي وجد في حظه، وإن كان بابه في حظ صاحبه. هذا الذي أقول به في معنى هذه المسألة، وقد مضى في آخر مسألة من جامع البيوع بيانه. وقد رأيت لابن دحون أنه قال: إذا اقتسم رجلان أرضا فوجد تحت حظ أحدهما جب بابه في حظ صاحبه، فقيل: إن القسمة

(9/217)


تنتقض على القول بأن الجب لمن الباب في أرضه، وعلى القول بأن لكل واحد منهما ما تحت أرضه، وقيل: إنها لا تنتقض على القولين جميعا. والصحيح ما ذهبنا إليه من أنها تنتقض على القول بأن الجب لصاحب الباب، ولا تنتقض على القول بأن لكل واحد منهما ما تحت أرضه منه؛ لأنه لا يكون لكل واحد منهما ما تحت أرضه منه إلا على القول بأنه لو وجد أحدهما في حظه جبا أو بيرا أو صخرا أو عمدا أو ما أشبه ذلك كان له، ولم يكن لصاحبه نقض القسمة وبالله التوفيق.

[مسألة: درء الحد عمن وطىء جارية بشبهة ملك]
مسألة وسئل عن الرجل يدعي جارية في يد رجل فيقول: اشتريتها من سوق المسلمين ويقيم البينة المدعى أنها له، ويقر الذي هي في يديه بوطئها ويزعم أنه اشتراها في سوق المسلمين ولا بينة له، هل يحد؟ قال: يدرأ عنه الحد، قيل له: فلو قال: اشتريتها منك ولا بينة له، قال: أرى أن يدرأ عنه الحد إذا كان ممن لا يتهم.
قال محمد بن رشد: أما الذي يدعي الجارية في يد رجل ويقيم البينة أنها له ويقر الذي هي في يديه بوطئها، أو تقوم عليه بينة بوطئها ويزعم أنه اشتراها في سوق المسلمين فلا اختلاف في أن الحد يدرأ عنه في الوجهين، وإن عجز عن إقامة البينة على ما ادعى من شرائها في سوق المسلمين، وقضى لمدعيها بها بالبينة التي أقامها أنها له. وأما الذي يقر بوطء أمة الرجل ويدعي أنه اشتراها من سيدها ولا بينة له على ذلك،

(9/218)


والسيد منكر فإنه يحلف ما باعها منه، ويحد عند ابن القاسم، هذا قوله في المدونة وغيرها - وقال أشهب: يدرأ عنه الحد؛ لأنه لم يقر بزنى وإنما أقر بوطء حلال، وهو على أصله في أنه لا يؤخذ أحد بأكثر مما أقربه على نفسه، وهو قول ابن القاسم في هذه الرواية، وحديث عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يرد ذلك في الذي أقر بوطء جارية امرأته، وادعى أنها وهبتها له فقال: لتأتيني بالبينة أو لأرمينك بأحجارك، فاعترفت المرأة بذلك فخلى سبيله، إذ لا يحتاج على هذه الرواية وعلى قول أشهب إلى اعتراف المرأة. وأما إن أقر له سيدها بما ادعاه من اشترائها أو نكل عن اليمين فحلف هو أو استحقها فلا اختلاف في أنه يدرأ عنه الحد فيها. وأما إن شهد عليه بوطئها فادعى أنه اشتراها من سيدها، وسيدها منكر، فلا اختلاف في أنه يحد إذا حلف سيدها أنه ما باعها منه، واختلف إن صدقه فيما ادعى من شرائه إياها منه، أو نكل عن اليمين، يحلف هو واستحقها. فقال ابن القاسم: إنه يدرأ عنه الحد؛ لأن الوطء مما يستخفى به، بخلاف الذي تقوم عليه البينة بالسرقة فيدعي أن المتاع متاعه فيصدقه رب المتاع، أو ينكل عن اليمين فيحلف هو ويستحق المتاع، إذ لا يأخذ أحد متاعه سرا على وجه السرقة، وفي ذلك اختلاف، وقال أشهب: يحد إن لم تقم بينة على ما ادعى من الشراء ولا يسقط عنه الحد بتصديق السيد على الشراء ولا بنكوله على اليمين وحلفه هو، ولا بشاهد على الشراء مع يمينه، ولا يلحق به الولد، وتكون الأمة أم ولد إن استوجبها بشيء من ذلك لإقراره لها بذلك: واستحسن أشهب إن أقام رجلا وامرأتين أن يلحق به الولد ويدرأ عنه الحد وليس بالقياس وبالله التوفيق.

[: أجر المعازف واللهو إذا اختصم فيه أيقضى به]
ومن كتاب أوله أوصى وسئل عن أجر المعازف واللهو إذا اختصم فيه أيقضى به؟

(9/219)


قال: أما للهو الذي يجوز ورخص فيه مثل الدف، فأرى أن يقضى به، وأما مثل المزمار والعود فلا أرى الإجارة به يقضى به.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال إن ما يجوز من اللهو ورخص فيه يقضى فيه بالإجارة، وإن ما لا يجوز منه لا يقضى فيه بإجارة، وقوله: إنه لا يقضى فيه بإجارة، كلام فيه إجمال يفتقر إلى تفصيل وشرح وبيان. أما إذا عثر على ذلك قبل استيفاء الإجارة بالعمل، فلا اختلاف في أن الإجارة تفسخ وتبطل الأجرة عن المستأجر، ولا يكون عليه منها شيء إن كان لم يدفع، ويتخرج الأمر إن كان قد دفع على وجهين: أحدهما أنها ترد عليه، والثاني أنها تؤخذ من الأجير فيتصدق بها على المساكين أدبا له، وأما إن لم يعثر على ذلك حتى فاتت الإجارة بالعمل فيؤدبان جميعا ويتصدق بالإجارة على المساكين على كل حال، قبضت أو لم تقبض، إذ لا يحل للأجير ولا ينبغي أن يترك للمستأجر إن كان لم يدفعها، ولا أن ترد إليه إن كان دفعها، إذ قد قبض عوضها. هذا وجه القول في هذه المسألة على أصولهم في المسلم يشتري الخمر والخنزير من المسلم، وقد مضى القول على ذلك في رسم نقدها نقدها من سماع عيسى من كتاب جامع البيوع وغيره وبالله التوفيق.

[: هدم الحائط الساتر للغير للضرورة]
ومن كتاب أوله إن خرجت من هذه الدار قال ابن القاسم: وإذ كان حائط لرجل سترة لرجل آخر فليس له أن يهدمه إلا لوجه يرى أن لهدمه وجها لم يلتمس به ضرره، فإن انهدم من أمر من السماء فقال له صاحب الدار: ابن

(9/220)


حائطك واستر علي فإنه إن شاء بنى وإن شاء ترك، ولا يجبر على ذلك، وقيل للذي يطلب السترة: إن شئت فاستر على نفسك، وإن شئت فدع، قال عيسى: وإن هدمه للضرورة وترك أن يبنيه رأيت للسلطان أن يجبره على إعادته كما كان، لا يسوغه الضرر، وقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا ضرر ولا ضرار» فإن هدمه لوجه منفعة أو لتجديده، ثم عجز عن ذلك فاستغنى عنه فليس بجبر على إعادته، ويقال لجاره: إن شئت فاستر على نفسك في أرضك، وإن شئت فدع، قال سحنون: يجبر على كل حال.
قال محمد بن رشد: قول عيسى بن دينار: وإن هدمه للضرورة رأيت للسلطان أن يجبره على إعادته، يريد كان له مال أو لم يكن له مال، كالحائط بين الشريكين. إما أن يبني، وإما أن يبيع ممن يبني، وهو مفسر لقول ابن القاسم. فتحصيل قوله في هذه الرواية، أنه إن انهدم من أمر من السماء أو هدمه خوف سقوطه، لم تلزمه إعادته وإن كان له مال، وقيل لجاره: استر على نفسك في حظك أو دع، وإن هدمه ليجدده أو لوجه منفعة أجبر على إعادته إن كان له مال، ولم يلزمه شيء إن لم يكن له مال، وإن هدمه للمضرة بجاره أجبر على إعادته كان له مال أو لم يكن له مال كالحائط بين الشريكين. إما أن يبني أو يبيع ممن يبني، وهذا أمثل ما في سماع يحيى من كتاب السلطان، وسوى في رسم الصلاة من سماع يحيى من هذا الكتاب بين أن ينهدم أو يهدمه لوجه منفعة في أنه إنما يجبر على إعادته إن كان له مال. وحكى ابن حبيب في الواضحة عن مطرف وابن الماجشون أنه كالحائط بين الشريكين، سواء هدمه أو انهدم يجبر على أن يبنيه أو يبيعه ممن يبنيه إن لم يكن له مال، وهو ظاهر قول

(9/221)


سحنون: يجبر على كل حال. قال ابن الماجشون في الثمانية: فإن لم يكن له مال بيع عليه من داره ما يقيمه به، وإن لم تكن الدار ملكا له، وكانت صدقة. أو عمرى كان لصاحبه أن يبنيه من ماله، ويتبعه به دينا في ذمته.
قال ابن رشد: ومعنى ذلك عندي إذا أبى أن يسلم إليه ماله في الدار من سكناها حياته. وأما إن رضي بذلك فلا يلزمه أكثر من ذلك، فإذا استوفى من كرائها نفقته رجعت الدار إليه على ما كانت. وقال أصبغ: لا يجبر صاحب الجدار أن يبنيه على حال، وله أن يهدمه إن شاء ويجعلها عرصة، وإن شاء صاحبه ستر، وإن شاء ترك. قال: وهو قول مالك.
قال محمد بن رشد: والقياس قول أصبغ، وتفرقة ابن القاسم استحسان، وقول ابن الماجشون إغراق وبالله التوفيق.

[مسألة: هدم العوج الضار بجدار الجار]
مسألة وسئل ابن القاسم عن الرجل يبني بنيانا مستعليا فيعوجه في العلو ويميله على هواء غيره، فيبني الذي له الهواء في أرضه، فإذا انتهى إلى العوج منه ولم يستطيع أن يقوم حائطه إلا بهدم العوج هل ترى أن يهدم ذلك؟ قال: نعم يهدم وليس له أن يدخل في هواء غيره. قيل له: إن الهدم يكون فيه تلف نفقة

(9/222)


عظيمة قد أنفق على ذلك البنيان. قال: نعم يهدم كانت النفقة ما شاءت أن تكون.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة بينة، لا اختلاف فيها ولا إشكال في شيء من معانيها؛ لأن من ملك بقعة من الأرض فهو يملك ما فوقها من الهواء وما تحتها من الثرى، فليس لأحد أن يدخل عليه في شيء من ذلك بغير رضاه، لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه» وبالله التوفيق.

[: استئناف الخصومة بعد موت من قضى فيها]
ومن كتاب أوله أسلم وله بنون صغار
وسئل عن القاضي يقضي لرجل فلا يحوز المقضي له ما قضي له به حتى يموت القاضي أو يعزل، هل يستأنف الخصومة في ذلك الأمر أم لا ينفعه ما كان قضي له به؟ وإن لم يكن حازه أو إن قضى له به، ثم أقام سنة أو أكثر من ذلك حتى يموت القاضي أيضا أو يعزل؟ قال ابن القاسم: يمضي القضاء الذي قضى به القاضي الأول، ولا ينظر فيه القاضي الثاني، إلا أن يكون جورا بينا فينقضه، وهذا أمر قد بلغنا أنه كانت منكم فيه زلة عظيمة، فالقضاء ماض ولا يستأنف فيه قضاء، وهذا أمر لا اختلاف فيه.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال من أن حكم القاضي لا يفتقر إلى حيازة، وهو مما لا اختلاف فيه، وقد مضى نحوه والقول فيه في رسم نذر سنة من سماع ابن القاسم، ويأتي أيضا في رسم المكاتب من سماع

(9/223)


يحيى، وفي رسم الصبرة منه القول على ما يفسخ القاضي من أقضية من قبله من القضاة مما لا يفسخ مستوفى إن شاء الله تعالى.

[: طلب تعديل من يعلم القاضي بجرحه]
ومن كتاب أوله يدير ماله قال ابن القاسم في قاض شهد عنده رجل وهو يعلم منه الجرحة وغير العدالة أيأمره أن يأتي بمن يعدله؟ قال: لا ينبغي له أن يقبل ذلك ولا يلتفت إلى شيء من ذلك إذا كان يعلم منه غير العدالة. قال: وتفسير ذلك عندي أن ذلك إذا شهد عنده بحدثان ما علم منه فلا يسأله تعديلا، ولا يقبل له شهادة. فأما إذا كان زمان ذلك قد طال أو تقادم ولا يدري حالته في اليوم الذي شهد عنده عنه، فلا أرى أن تطرح شهادته بما علم منه إذا كان على ما وصفت، وأنا أرى أن يسأل عنه، فلعله قد تاب وظهرت توبته، وعرف منه التزيد في البر واجتهاد في الخير والتزيد فيه.
قال محمد بن رشد: هو كما قال؛ لأن أمر الشهود في عدالتهم وجرحتهم إلى القاضي هو يعمل في أمرهم بعلمه فيهم، لقول الله عز وجل: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] فالرضى في هذا إنما هو إلى الحاكم، فإذا كان الحاكم عالما بعدالة الشاهد حتى لو لم يكن حاكما لزمه أن يعدله وجب عليه قبول شهادته، ولا يستعدله سرا ولا علانية، وإن سأله ذلك المشهود عليه، وإن جرح عنده لم يقبل التجريح فيه إلا بعداوة، قاله محمد. وإنما يقبل التجريح فيمن لم يعرفه بعدالة حتى عدل عنده، وإذا كان عالما بجرحة الشاهد لم يقبل فيه التعديل، إلا أن يكون الأمر الذي علمه من الجرحة به قد طال، فيسأل عنه، ويقبل فيه التعديل كما قال في التفسير، ومعنى ذلك إذا ثبت عنده توبته من الجرحة التي علمه بها بشهادة

(9/224)


شاهدين عدلين، وإخبار ممن يوثق بقوله، وقال ابن كنانة: إذا عرفه القاضي بجرحة ووجد من يعدله فليرفع ذلك إلى الإمام يكون هو الناظر فيه؛ لأنه يستشنع من القاضي أن يرد شهادته وهو يجد من يعدله. وقال عيسى بن دينار: لا يرفع شهادته ويردها كما قال ابن القاسم، ولا يحكم بشهادة الشاهدين، وإن علم أنهما شهدا بحق، إذا علم بجرحتهما؛ لأنه إذا فعل ذلك كان قد حكم بعلمه لا بشهادة الشهيدين وبالله التوفيق.

[: تصرف الحامل في مالها في حدود الثلث]
ومن كتاب الجواب وسئل عن الحمل بأي شيء يعلم أن لحملها ستة أشهر حتى تحجب عن القضاء في مالها بمنزلة المريض، وفي غير ذلك، أبقولها أم بماذا؟ قال ابن القاسم: نعم بقولها، ولا يرى ذلك النساء، ولا يسألن عنه، ولا يلتفت إلى قولهن فيه، القول قولها، وهي بنفسها أعلم، قال أصبغ: وبإثقالها إذا أثقلت، قال عز وجل: {فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا} [الأعراف: 189] . فهو مرض.
قال محمد بن رشد: هذا مثل قول مالك في موطأه إن الحامل إذا مضى لحملها ستة أشهر لم يجز لها قضاء إلا في ثلث مالها، وإنما تصدق في الإثقال إذا أقرت به على نفسها قبل الصدقة وما أشبهها مما لا يجوز للمريض فعله. وأما إذا ادعت ذلك بعد، فلا تصدق إلا أن يعلم صدق قولها، وقد مضى في رسم استأذن من سماع عيسى من كتاب التخيير والتمليك زيادة في معنى هذه المسألة وبالله التوفيق.

(9/225)


[مسألة: أقر لجارية بمهر وصدقة]
مسألة قال عيسى: وسألت ابن القاسم عن رجل ابتاع جارية فولدت منه أولادا. وقد كان الرجل يخبر الناس أنها امرأته تزوجها، وقد كان يحلف بطلاقها ثم مرض الرجل فأشهد لها أن لها قبله خمسين دينارا بقية من مهرها، وتصدق عليها بأشياء في مرضه، ثم صح الرجل فعاش بعد ذلك نحوا من سنة، ولا يذكر من ذلك شيئا، ثم مرض فمات. قال ابن القاسم: لها ثمنها في ماله، وهي امرأته، يرثها وترثه، ولها ما كان أقر لها به في مرضه الأول من بقية مهرها، تأخذه من ماله إذا كان قد صح من مرضه الأول كما ذكرت، وأما ما كان تصدق به عليها في مرضه الأول فليس لها منه قليل ولا كثير، إلا أن تكون قد قبضته منه في صحته وحازته فهو لها. قال: وإن مات في مرضه الأول الذي أقر لها فيه بما أقر، وتصدق عليها به بما تصدق، فلا مهر لها ولا صدقة. إلا أن يجيزهما الورثة، ولها الميراث بما كان شهد لها عليه من إقراره قبل ذلك في صحته أنها امرأته، وأنه قد كان يحلف بطلاقها.
قال محمد بن رشد: في قول ابن القاسم في هذه المسألة لها ثمنها في ماله، وهي امرأته يرثها وترثه، نص جلي على أنه رآهما زوجين يتوارثان بإقراره في صحته بنكاحها إلى ما كان يحلف به من طلاقها مع كونها في ملكه وتحت حجابه، وأنها قد ولدت له أولادا بعد إقراره بنكاحها وإن لم يعلم منها في حياته إقرار له بالنكاح. وقد قيل: إن

(9/226)


الميراث إنما وجب لظهور الولد بينهما بعد إقراره بنكاحها، لا لكونها في ملكه وتحت حجابه لكونها على ذلك في الأصل لحق الملك وهو صحيح من التأويل، ولو كانت بائنة عنه في مسكنها لم يرث واحد منهما صاحبه إذا لم تقم بينة على أصل النكاح إلا أن يكونا متقاررين جميعا على النكاح في صحتهما مع طول الأمر واشتهاره. قاله ابن القاسم في رسم الكبش من سماع يحيى من كتاب النكاح، وفي ذلك اختلاف قد ذكرناه هناك وسيأتي تحصله في رسم الأقضية من سماع يحيى من كتاب الشهادات إذا مررنا به إن شاء الله. وقوله: إن لها الخمسين دينارا التي أقر لها بها في مرضه من بقية مهرها إذا لم يمت من ذلك المرض صحيح، إذ لا فرق بين أن يقر لها به وهو صحيح، وبين أن يقر لها به وهو مريض ثم يصح بعد ذلك وقوله: إنها لا شيء لها مما تصدق به عليها وهو مريض، وإن صح بعد ذلك إلا أن تقبض ذلك في صحته صحيح؛ لأن الصدقة تفتقر إلى الحيازة في صحة المتصدق، كانت على وارث أو أجنبي، بخلاف الإقرار بالدين، ذلك ينفذ في الصحة للوارث وغير الوارث، وفي المرض إلا لمن يتهم عليه من الورثة، ففي قوله وإن مات من مرضه الأول الذي أقر لها فيه بما أقر وتصدق عليها به بما تصدق فلا مهر لها نظر، لما في المسألة من أنه قد ولد له منها أولاد، وإن لها الثمن، والولد يرفع التهمة عنه في إقراره لها ببقية الصداق إذا لم يتهم فيها بصبابة وميل إليها، إلا أن يكون بعضهم صغيرا منها وبعضهم كبيرا، أو جميعهم صغار منها وهن إناث، ويبعد أن يكون أراد ذلك، فمعنى ما تكلم عليه والله أعلم، إذا كان الولد الذي ولد له منها قد مات فورث بغير ولد وبالله التوفيق.

(9/227)


[مسألة: إنكار المقر بعد إقراره المكتوب]
مسألة وسألته عن القاضي يقر عنده الرجل فيكتب إقراراه، ثم ينكر الرجل أن يكون أقر عنده بشيء، وهل يقضي عليه بإقراره عنده؟ أو هل يختلف إن قال القاضي: أقر عندي من قبل أن استقضى؟ قال ابن القاسم: رأيي والذي آخذ به في ذلك وهو الذي سمعت، أنه لا يقضي عليه حتى يشهد على إقراره عنده شاهدان عدلان سوى القاضي، وإلا لم يقض عليه بشيء، وإنما هو بمنزلة ما اطلع فيه عليه من الحدود يعلمها، فهو لا يقيمها عليه إلا أن يكون معه شاهدان عدلان سواه، فإن لم يكن كذلك رفعه إلى من هو فوقه، وكان هو شاهدا، وسواء في هذا أقر عنده فيما زعم القاضي وهو قاض، أو قبل أن يستقضي، وإن عزل القاضي فشهد عليه بإقراره عنده، فهي شهادة يعمل بها، كما يعمل بها لو شهد بها عليه عنده غيره قبل أن يعزل، إن كان معه أحد سواه ثمت، وإن لم يكن غيره سقطت، إلا أن يكون من الأشياء التي تكون فيها اليمين مع الشاهد، فيحلف المشهود له مع شهادته أن حقه حق، ثم يستحق حقه، وهو بمنزلة شاهد من المشهود، وإن جهل القاضي فقضى عليه بإقراره عنده، فإني أرى له أن يرد ذلك ما كان على القضاء بحاله ويرجع فيه، فإن عزل لم أر أن يرد ذلك من يكون بعده ولا يفسخ قضيته، كان جهل ذلك أو تعمده؛ لأن مما يختلف إلا أن يكون إقراره عنده إنما هو من قبل أن يستقضي، فلما استقضى حكم عليه بذلك الإقرار،

(9/228)


فإن هذا يرد ويفسخ على كل حال، وهو في غير هذا يختلف؛ لأن إقراره عنده وهو قاض قد اختلف الناس فيه، والآخر لم يختلف الناس فيه، إنه ليس بشيء ولا يقطع به.
قال محمد بن رشد: حكم القاضي على الرجل بما أقر به عنده دون بينة تشهد عليه بإقراره عنده، ينقسم على ثلاثة أقسام: أحدها أن يقر عنده قبل أن يستقضي. والثاني أن يقر عنده في غير مجلس الحكم بعد أن استقضى. والثالث أن يقر بين يديه لخصمه في مجلس حكمه، فأما إذا أقر عنده قبل أن يستقضي فلا اختلاف بين أحد من أهل العلم في أنه لا يجوز له أن يحكم عليه بذلك الإقرار، فإن فعل رد ذلك الحكم وفسخه هو ومن بعده من القضاة والحكام، وأما ما أقر به عنده بعد أن يستقضي في غير مجلس القضاء فلا اختلاف في المذهب في أنه لا يجوز له أن يحكم عليه بذلك الإقرار دون بينة تشهد به عليه. وأهل العراق يقولون إنه يقضي عليه بذلك الإقرار دون بينة، بخلاف الحدود على ما قال في المدونة من أن أهل العراق فرقوا بين الإقرار والحدود، فقالوا: ينفذ الإقرار في ولايته، ولا ينفذ الحدود، وقد حكى عنهم أنه يقضي بعلمه في الحدود وهو بعيد، فإن قضى عليه بذلك الإقرار نقض حكمه بذلك ما لم يعزل على المشهور في المذهب، ولم يرده من بعده من القضاة والحكام مراعاة لقول أهل العراق. وأما ما أقر به عنه أحد الخصمين في مجلس قضائه ثم جحده ولا بينة عليه فالاختلاف فيه موجود في المذهب، وإن كان ابن المواز قد ذكر أنه لا اختلاف في ذلك بين أصحاب مالك. قال ابن الماجشون: الذي عليه قضاتنا بالمدينة، وقاله علماؤنا، ولا أعلم مالكا - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال غيره، أنه يقضي عليه بما سمع منه وأقر به عنده، وإليه ذهب مطرف وأصبغ وسحنون.

(9/229)


قال محمد بن رشد: وهو بدليل قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في الحديث الصحيح «إنما أنا بشر وإنكم تختصمون. الحديث إلى قوله: فأقضي له على نحو ما أسمع منه» لأنه قال: على نحو ما أسمع منه، ولم يقل على ما يثبت عندي من قوله. والمشهور في المذهب أنه لا يقضي عليه إذا جحد، وهو قوله في هذه الرواية، إلا أن يشهد عليه عنده من حضر مجلسه فيحكم عليه بالشهادة دون إعذار، قاله ابن العطار (وفي ذلك اختلاف) . وقوله: فإن جهل القاضي فقضى عليه بإقراره عنده فإني أرى له أن يرد ذلك ما كان على القضاء بحاله، معناه إن ظن ذلك هو الصواب لجهله بالنظر، فقضى بذلك دون اجتهاد إذ ليس من أهل الاجتهاد، ودون تقليد أيضا، إذ لا يقال فيمن قضى باجتهاده وهو من أهل الاجتهاد فيما سبيله الاجتهاد إنه جهل وإن خالفه في ذلك مخالف، وإنما يقال لمن خالفه إنه أخطأ لتقصيره في الاجتهاد، كما لا يقال أيضا فيمن لم يكن من الاجتهاد فقضى بتقليد إنه أخطأ إذ لم يكن منه الخطأ، وإنما كان من الذي قلده، واختلف إذ رأى ذلك باجتهاده فقضى به ثم رأى خلافه، فالمشهور في المذهب أن القاضي إذا قضى بقضاء، ثم رأى ما هو أحسن منه فإنه ينقضه ويرجع إلى ما رأى ما دام على ولايته وإن كان الذي قضى به أولا مما اختلف الناس فيه. وقال ابن عبد الحكم: لم أسمع أحدا من أصحابنا اختلف في ذلك، وأنا لا أراه، وأرى قضاءه وقضاء غيره سواء، لا يرجع عما اختلف فيه إلى ما هو أحسن منه حتى يكون الأول خطأ بينا صراحا. واستحسن ابن حبيب ما أجمع عليه أصحاب مالك، ولم يعجبه ما انفرد به ابن عبد الحكم، وقد اختلف في تأويل ما وقع (في)

(9/230)


المدونة من قول ابن القاسم، وإنما لا يرجع فيما قضت فيه القضاة مما اختلف الناس فيه، هل هو مثل الذي قال ابن عبد الحكم؟ أو مثل ما أجمع عليه أصحاب مالك سواه؟ فذهب الفضل إلى أنه ملائم لقول ابن عبد الحكم، وقال غيره: إنه مخالف له مثل ما أجمع عليه أصحاب مالك سواه، والأمر محتمل على رواية من روى وإنما لا يرجع - بفتح الياء - وأما على رواية من روى يرجع بضم الياء على ما لم يسم فاعله، فلا يحتمل أن يكون مثل قول ابن عبد الحكم. قال سحنون: إنما يرجع في قضائه بما اختلف فيه إذا قضى به وهما أو نسيانا وهو يرى خلافه. وأما إن كان ذلك رأيه يوم قضائه فلا يرجع فيه ويقضي في المستقبل بما رأى.
قال القاضي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: والذي أقول به إن الخلاف في رجوعه عنه ما دام على القضاء بحاله إنما هو إذا قضى به وهو يراه باجتهاده يوم قضى به، وإن الخلاف في هذا جار على اختلافهم في تصويب المجتهدين، وأما إذا قضى بذلك وهلا أو جهلا أو نسيانا فلا يقع الخلاف في أنه يجب عليه أن يرجع عنه إلى ما رأى إذ قد تبين له خطؤه أولا، وإن لم يكن من أهل الاجتهاد وقضى بذلك بتقليد فلا يسع الخلاف في أنه لا يصح له الرجوع عنه إلى تقليد آخر، فقف على أنها ثلاثة أوجه: وجه يرجع فيه، ووجه لا يرجع فيه، ووجه يختلف رجوعه فيه. ولا اختلاف في أنه يرجع ما دام على قضائه فيما قضى به مما لم يختلف فيه على أي وجه، كان من اجتهاد أو جهل، أو وهل أو نسيان، وكذلك لا اختلاف في أنه يرجع فيما قضى به من قبله من القضاة إذا كان الذي قضى به خطأ لم يختلف فيه، فإن كان الذي قضي به مما قد اختلف فيه لم يرده من بعده.

(9/231)


وقيل: إنه يرده إن كان الخلاف فيه شاذا. وذهب ابن الماجشون إلى أنه يرده وإن كان الخلاف فيه قويا مشهورا إذا كان ذلك خلاف سنة قائمة، واختلف في الحكم بترك الأمر وتجويزه، هل هو كالحكم في أنه لا يكون لمن بعده من الحكام أن يعرض فيه إلا أن يكون خطأ صراحا لم يختلف فيه أم لا؟ فذهب ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة أنه كالحكم، لا يكون لمن بعده من القضاة أن يرده إلا أن يكون خطأ بينا لم يختلف فيه. وقع ذلك في النكاح الأول منها، وذهب ابن حبيب إلى أنه ليس كالحكم، ولمن بعده أن يرده، وإن كان قد اختلف فيه. وقد روي عن أشهب أن القاضي إذا قضى على الرجل بإقراره عنده بعد أن يستقضي فهو بمنزلة قضائه عليه بإقراره عنده قبل أن يستقضي في أنه حكم مفسوخ يرده هو ومن بعده من القضاة وهو بعيد، لا سيما ولم يفرق بين أن يكون إقراره عنده بعد أن استقضى في مجلس القضاء، أو في غير مجلس القضاء. وقال في هذه الرواية: إن القاضي يكون شاهدا عليه عند غيره بما أقر (به) . عنده على نفسه لخصمه، وفي ذلك اختلاف. ذكر محمد بن المواز في كتابه أن قول ابن القاسم اختلف في ذلك، فقال: لا يجوز، وقال: يجوز، والأول أحب إلينا لأنه كأنه يثبت حكم نفسه. وأما شهادته عليه بإقراره عنده في غير المخاصمة فلم يختلف في إجازتها.
قال القاضي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يريد أن قول ابن القاسم لم يختلف في إجازتها. وقد اختلف قول مالك في ذلك، روى عنه ابن الماجشون أن الرجل لا يشهد على الرجل بما سمح من إقراره على نفسه وإن استوعبه إلا أن يشهده على نفسه، وإلى هذا الاختلاف أشار في المدونة بقوله: وأما قول مالك الأول. فيتحصل في جملة المسألة ثلاثة أقوال: أحدها لا يشهد بما أقر به عنده في المخاصمة ولا في غير المخاصمة.

(9/232)


والثاني أنه يشهد عليه في الوجهين. والثالث أنه يشهد (عليه) بما أقر عنده في غير المخاصمة، ولا يشهد عليه فيما أقر به عنده في المخاصمة، وهو اختيار محمد بن المواز، وبالله التوفيق.

[: ما يرفع للقضاة من أموال اليتامى هل يستودعها لهم أم يضمنها لهم]
ومن كتاب العتق قال عيسى: وسألت ابن القاسم عما رفع إلى القضاة من أموال اليتامى، هل يستودعها لهم أم يضمنها لهم؟ فقال: إن الضمان الذي يصنع بعض الناس وأهل العراق أن يضمنوه أقواما يكون لهم ربحها وعليهم ضمانها حرام لا يحل، والسنة فيها أن يستودعها من يثق به إذا لم يكن لهم أوصياء، فإن كان (لهم) وصي لم تخرج من يده إن كان ثقة، وإن كان غير ثقة أخذها القاضي واستودعها من يثق به، وأرى أن يدفعها إلى من يتجر لهم بها، ويكون ذلك نظرا لهم، إذا لم يكن لهم وصي والقاضي وصي من لا وصي له.
قال القاضي: هذا بين على ما قال إن الوجه في أموال اليتامى أن ينظر لهم فيها بأن تدفع إلى من يتجر لهم فيها تطوعا ابتغاء الأجر والثواب، أو على سبيل القراض إن لم يوجد من يتطوع بذلك لهم، لقول عمر بن الخطاب: " اتجروا بأموال اليتامى لا تأكلها الزكاة " فإن لم يكن ذلك أودعت عند من يوثق به، فإن تعدى عليها المودع فتسلفها ضمنها، وسقطت عن اليتامى زكاتها، ولم يحل أن يضمن أحدا على أن يكون للذي يضمنها ربحها؛ لأن ذلك سلف لغير الله، لم يبتغ به المقرض إلا منفعة لنفسه لا

(9/233)


منفعة المقرض، فحرم ذلك «لنهي النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عن سلف جر منفعة» . . . . " إذ هو في معنى الربا المحرم بنص التنزيل، وهو أن يكون للرجل على الرجل الدين فإذا حل قال له: إما أن تقضي، وإما أن تربي، فإذا لم يحل أن يؤخره بدينه على أن يزيده فيه؛ لأنه سلف قصد به منفعة نفسه، فكذلك لا يحل أن يسلف الرجل الرجل الذهب ليحرزه في ضمانه، ومن فعل ذلك فهو مُرْب آثم.

[مسألة: الرجل يجحد نسب رجل أنه أخوه]
مسألة وسئل مالك عن الرجل يجحد نسب رجل أنه أخوه، فقال: ينبغي للقاضي أن يسأله، فإن أنكر وجحد ثم ثبت له ذلك قبله ببينة أخذ له بحقه، ولا عقوبة على هذا في إنكاره.
قال محمد بن رشد: رأيت لابن دحون في هذه المسألة أنه قال فيها: إنما سقط الحد عن الأخ المنكر له؛ لأنه لم يقصد قصد القذف، وإنما دفعه عن مال، فكان معنى جحوده إياه أي ليس لك معي في هذا المال حق، وليس ذلك بصحيح، وإنما معنى المسألة أنه قال ذلك في أخ طرأ عليه، لم يكن مقرا به قبل، ولذلك قال: إنه لا عقوبة على هذا في إنكاره، ولو جحد نسب أخ كان مقرا به قبل لوجب عليه الحد، ولم يكن له عذر في أنه لم يقصد القذف، وإنما دفعه عن مال، وكذلك قد قال محمد وهو بين، فقد قال في المدونة: إن من قال لرجل: لست أعرف أباك وهو يعرفه فعليه الحد، وهذا بين منه، وقد أوجبوا في التعريض الحد، فكيف بهذا وهو تصريح وبالله التوفيق.

(9/234)


[مسألة: الوكالة في الخصومة عن الغائب]
مسألة وسئل عن الشريكين يدعيان قبل رجل شيئا فأمرهما القاضي أن يستخلفا أو يخاصمه أحدهما يوصيان بذلك فيقولان من حضر منا فهو خليفة الغائب أينما حضر، فهو يخاصم عن صاحبه، قال: لا يمكنهما من ذلك؛ لأني سمعت مالكا، وسئل عن رجل خاصم رجلا في حق له، وقاعده عند السلطان ثم أراد أن يوكل، قال: ليس ذلك له إلا من علة؛ وسئل عن ورثة رجل ادعوا منزلا بيد رجل وهم جماعة، أيخاصمه كل واحد منهم لنفسه؟ قال: بل يرتضون جميعا بمن يخاصمه، ويدلوا إليه بحججهم يخاصم عنهم، وليس يخاصمه هذا وهذا؛ لأنه أمر واحد، أو يحضرون إليه جميعا فيدلون بحججهم، فأرى ذلك لهم، فأما أن يتعاوروه، هذا يوم وهذا يوم، فليس ذلك لهم.
قال القاضي: هذا بين على ما قال؛ لأن الورثة فيما يطلبون عن موروثهم، والشركاء فيما يطلبون عن أنفسهم بمنزلة الرجل الواحد، فكما لا يجوز للرجل الواحد أن يوكل وكيلين على الخصام يتعاوران خصمه إذا غاب أحدهما حضر الآخر، ولا أن يوكل وكيلا يخاصم معه إذا غاب حضر وكيله، وإذا غاب وكيله حضر هو، فكذلك لا يجوز للشركاء (ولا للورثة) أن يتعاوروا خصمهم بالخصام؛ لما في ذلك من الإضرار به؛ لأنه يخاصم أحدهم حتى إذا انتفى عليه ويوجه له القضاء غاب عنه، وأتى صاحبه بحجة يستحدثها. ولهذا المعنى لم يكن لمن ناشب خصمه الخصام وقاعده عند السلطان أن يوكل من يخاصم عنه، ولا أن يعزل وكيلا قد وكله فيوكل غيره، أو يتولى هو الخصام بنفسه، إلا أن يكون له عذر من

(9/235)


سفر حضر، أو مرض حدث، أو يكون خصمه قد أسرع إليه واستطال عليه، فيحلف ألا يخاصمه فيكون له أن يوكل، أو يكون قد ظهر إليه من وكيله ميل مع خصمه ومسامحة في حقه، فيكون له أن يعزله ويولي غيره، أو يخاصم لنفسه. وهذا ما لا اختلاف فيه أعلمه، ومعنى قوله: وقاعده عند السلطان، يريد المرات الثلاث ونحوها أو يكون قد انتفى عليه فيما دونها. هذا معنى قوله الذي حمله عليه كل من ألف في الأحكام من المتأخرين، وبالله التوفيق.

[مسألة: تسمية القاضي للشهود العدول]
مسألة وسئل عن القاضي يكتب إلى القاضي في الحقوق والأنساب والمواريث وما أشبه ذلك، فيكتب أتاني فلان بشهود عدلوا عندي، وقبلت شهادتهم، ولا يسميهم في كتابه، أيجوز؟ قال: نعم يجوز، وهذا قضاء القضاة. أرأيت إن سماهم له ليعرفهم؟ أم يبتغي عدالة أخرى ويسأل عنهم؟ أم يستأنف فيهم حكما غير ما قد حكم فيه وفرغ منه؟ ليس ذلك كذلك. قال العتبي: قد قيل: إنه ينبغي له أن يسمي البينة في الحكم على الغائب ليجد سبيلا إلى دفع شهادتهم عنه، وهو عندي بيّن إن شاء الله.
قال محمد بن رشد: قوله، إنه ليس على القاضي إذا كتب إلى القاضي بما ثبت عنده من الحقوق والأنساب والمواريث أن يسمي له في كتابه الشهود الذين ثبت بهم ذلك عنده صحيح؛ إذ لا ينظر القاضي المكتوب إليه في عدالتهم، وإنما يمضي ما أخبره به في كتابه من ثبوت ذلك عنده فيقضي به على المحكوم عليه عنده، إلا أنه يجب عليه إذا خاطب بذلك أن ينفذه عند نفسه بتسمية الشهود، ويضع ذلك في ديوانه؛ لأن من حق المحكوم عليه إذا قضى عليه القاضي المكتوب إليه أن يذهب

(9/236)


إلى القاضي الكاتب فيعذر إليه في الشهود الذين ثبت عنده بهم ذلك الحق الذي خاطب به، فإن جرحهم وأبطل شهادتهم رجع فيما حكم به عليه، هذا الذي ينبغي له أن يعمل إن كان لم يثبت عنده ما خاطب به في عقد. وأما إن ثبت ذلك عنده في عقد، فوجه الحكم أن يدرج إليه ذلك العقد أي كتابه، وبذلك جرى العمل، فيأخذ المحكوم عليه ذلك العقد، أو نسخته، فيذهب به إلى القاضي الكاتب ليبطل عنده البينة عن نفسه فيرجع بما حكم به عليه إذا أراد ذلك وقدر عليه. وقول العتبي قد قيل إنه ينبغي أن يسمي البينة في الحكم على الغائب إلى آخر قوله، وقع في بعض الروايات، ويسمى فيه في هذا الموضع على المسألة المتقدمة غلط، إذ ليس فيها أن البينة لا تسمى في الحكم على الغائب؛ لأن كتاب القاضي إلى القاضي بما يثبت عنده على رجل في بلد المكتوب إليه ليس بحكم على غائب، فهي مسألة أخرى، والحكم فيها ما قد ذكرته بلا خلاف. وأما الحكم على الغائب فلا بد من تسمية البينة فيه على القول بأن الحجة ترجى له، ليجد سبيلا على رد القضية على نفسه بتجريح البينة وهو المشهور في المذهب المعلوم من قول ابن القاسم وروايته عن مالك، فإن لم يسم البينة في الحكم عليه فالقضية مردودة تفسخ ويستأنف الخصام فيها، قال ذلك أصبغ في الواضحة وغيرها، وهو صحيح على قولهم أن الحجة ترجى له. وأما الحكم على الحاضر فلا يحتاج إلى تسمية الشهود فيه، إذ قد أعذر فيهم إلى المحكوم عليه إلا أن تسميتهم أحسن. قاله أصبغ، وبذلك مضى العمل. قال ابن أبي زمنين: الذي عليه الحكام تسمية الشهود، وهذا في الحاضر، وأما الغائب والصغير فلا بد من تسميتهم. وقد روي عن سحنون في المجموعة أن تسميتهم أيضا في الحكم على الغائب لا يلزم، وإن كان ذلك أحسن، وهذا من قوله إنما يأتي على مذهب ابن الماجشون في أن الغائب إذا حكم عليه لا

(9/237)


ترجى له حجة، ولا مخرج له مما حكم به عليه بجرحة الشهود، إلا أن يكونوا نصارى أو عبيدا أو مولى عليهم. وقد مضى ذلك في رسم سن من سماع ابن القاسم، وقد روى عن سحنون أن ترك تسميه الشهود في الحكم على الغائب أفضل، قال: لأنه قد يحكم القاضي بشهادتهم وهم عدول، ثم يحدث منهم أحوال قبيحة يعودون معها إلى الجرحة، فإذا عزل ذلك القاضي أو مات ادعى المحكوم عليه أن القاضي جار عليه وقبل غير عدول، وهذا على الأصل في أن الغائب المحكوم عليه لا ترجى له حجته، واستحسان أصبغ الذي جرى به العمل من تسمية الشهود في الحكم على الحاضر، معناه على القول بأنه يعجز، ولا تسمع له بينة بعد الحكم إن أتى بها مراعاة لقول من يقول لا يعجز ويسمع له ببينة لم يعلم بها، وهذا من نحو قول مالك في الذي يرى خطه في الكتاب ولا يذكر الشهادة أنه يؤديها ولا تنفع، وأما على القول بأن بينته يسمع منه بعد الحكم عليه فلا بد من تسمية البينة وبالله التوفيق.

[مسألة: تسمية القاضي الشهود المجروحين لغيره]
مسألة قال عيسى: وسئل ابن القاسم فقيل: لأي شيء وضعوا تسمية من يجرح من الشهود في كتابه، قال: لا أعرف من قضاء أحد أن قاضيا كتب إلى قاض بتسمية من يجرح عنده ولا سمعت به.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة أن القاضي ليس عليه أن يكتب في حكمه على الغائب إذا خاطب بذلك إلى قاضي موضع وكان قد شهدت له بينة فجرحت، وذلك مثل أن يثبت رجل

(9/238)


دينا على ميت وأحد ورثته غائب فيدعي الحاضر أن الميت قد قضاه ويقيم على ذلك بينة فيجرحها المدعي فيقضي له القاضي بحقه بعد اليمين أنه ما قضاه ويكتب له إلى موضع الوارث الغائب بتسمية من يجرح عنده من الشهود إن كانوا قد جرحوا عنده لأن الشهود إذا جرحوا لا يعمل فيهم التعديل؛ لأن شهادة المجرحين أعمل من شهادة المعدلين، فلم يكن للمحكوم عليه في تسميتهم وجه منفعة، وإذا عدل الشهود عمل فيهم التجريح، فلذلك يجب أن يكتب أسماء الذين عدلوا ولا تكتب أسماء الذين جرحوا، وجب عليه أن يكتب أسماء المجرحين لهم؛ لأنه إذا سماهم في الحكم عليه وجد سبيلا إلى تجريحهم فسقطت الجرحة بذلك على شهوده وبقوا على أصل العدالة، وهذا في الحكم على الغائب، وفي كتابه إلى القاضي بذلك. وأما في الحكم على الحاضر فقد مضى في المسألة التي قبل هذه أن تسمية الشهود الذين عدلوا لا تجب في ذلك، إذ لم يحكم عليه إلا بعد الإعذار إليه، فكيف في تسمية الذين جرحوا، وبالله التوفيق.

[مسألة: وجود أكثر من شاهد بنفس الإسم والصفة]
مسألة وسئل عن القاضي يكتب إلى القاضي في رجل بصفته واسمه ونسبه في حق عليه، فيجد القاضي رجلين أو ثلاثة في ذلك البلد أسماؤهم وصفاتهم متفقة، أيختار صاحب الكتاب ويأخذ من ذكر أنه منهم أم ماذا يصنع فيه؟ فقال: لا يختار صاحب الكتاب أحدا منهم، ولا يكون له شيء حتى يثبت أنه أحدهم، أو لا يكون في ذلك البلد أحد غيره كذلك، فحينئذ يستوجبه عليه حقه، إلا أن تكون له حجة.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال وهو مما لا اختلاف فيه أنه إذا وجد بالبلد رجلين أو ثلاثة على تلك الصفة أنه لا يصدق في الذي يدعي منهم إلا أن يثبت ذلك؛ واختلف إن سأل من الذي يدعى عليه منهم أنه هو حميلا حتى يأتي بالبينة. فقيل: إنه لا يعدي عليه بحميل. وهو قول ابن

(9/239)


القاسم في المدونة. وقيل: إنه يعدي عليه إن لم يؤمن غيبته، ولم يكن من أهل الوفر والملإ، وهو قول مطرف وابن الماجشون وأصبغ، وإذا وجد بالبلد رجل واحد على تلك الصفة كشف القاضي على الأمر، فإن لم يوجد بالبلد على تلك الصفة غيره أعداه عليه، وإن وجد به سواه لم يكن له على واحد منهما سبيل إلا أن يثبت على أحدهما أنه هو، وإن ترك القاضي ما يؤمر به من الكشف عن ذلك، فقيل: إنه لا يؤخذ بالحق حتى يثبت الطالب أنه ليس بالبلد من هو على تلك الصفة سواه، وهو دليل قول ابن وهب في سماع زونان، والشهادة في هذا لا تكون إلا على العلم، وقيل: إنه يؤخذ به إلا أن يثبت هو أن بالبلد من هو على تلك الصفة، وهو ظاهر قول أشهب في سماع زونان بعد هذا، ورواية عيسى عن ابن القاسم في المدونة وسيأتي هناك بقية الكلام على المسألة إن شاء الله.

[مسألة: استحلاف صاحب الحق حين خروجه أو توكيله]
مسألة وسئل عن الرجل يثبت حقا له عند القاضي على رجل غائب ويريد الخروج في ذلك أو يوكل، أيستحلفه؟ قال: يستحلفه في الوجهين جميعا خرج أو وكل أنه ما اقتضى ولا أحال ولا قبضه بوجه من الوجوه، ثم يكتب له بوكالته إن وكل ويثبت عنده. وقاله أصبغ بن الفرج عن ابن القاسم.

(9/240)


قال القاضي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قد قيل: إنه ليس على الإمام أن يستحلفه في الوجهين جميعا خرج أو وكل، ويكتب له دون يمين؛ لأنه يقول للإمام لا تحلفني فلعله لا يدعي علي أنه قضى لي منه شيئا، وهو ظاهر ما في رسم حمل صبيا من سماع عيسى من كتاب البضائع والوكالات، وما في نوازل أصبغ منه، فإن كتب لوكيله على هذا القول دون أن يستخلفه فقدم عليه، فادعى أنه قد دفع إليه جميع الدين أو بعضه، فإن كانت غيبته قريبة على مسيرة اليومين ونحوهما أخر حتى يكتب إليه فيحلف، وإن كانت غيبته بعيدة لم يؤخر، وقضى عليه بالدين، ولم يؤخر إلى لقاء صاحبه، وهو نص قول محمد بن عبد الحكم، ومعنى قول ابن القاسم في سماع عيسى من كتاب البضائع والوكالات، وقول أصبغ في نوازله منه، وعلى ما في نوازل عيسى من كتاب البضائع والوكالات في الذي يوكل الرجل على طلب عبد له في بلدة أخرى فيقيم عليه البينة أنه للذي وكله أن الإمام لا يقضي له به حتى يحلف الموكل أنه ما باع، ولا وهب، فإن كان قريبا أمر أن يأتي به حتى يحلف، وإن كان بعيدا كتب إلى إمام بلده الذي ثبت عنده توكيله، وأمره أن يحلفه، فإذا أتاه جواب كتابه بأنه قد حلفه قضى به لوكيله، لا يقضي للوكيل بالدين حتى يكتب إليه فيحلف في موضعه الذي هو فيه. وقد ذهب بعض المتأخرين إلى التفرقة بين المسألتين بأن قال: إن اليمين في مسألة العبد من تمام الشهادة فهي يمين يوجبها الحكم فلا يقضى له بالعبد إلا بعد اليمين، وفي مسألة الدين ليس اليمين من تمام الشهادة ولا مما يوجبها الحكم، وإنما تجب بدعوى الغريم القضاء، فيقال له: أد الدين إلى الوكيل واستحلف صاحبك، إذ الغيبة بدعواك. وذهب ابن أبي زيد إلى حمل المسألتين بعضهما على بعض، وهو بين من مذهب أصبغ؛ لأن ابن حبيب حكى عنه في الواضحة في مسألة العبد أنه يقضى به للوكيل في غيبة الموكل إذا كانت بعيدة، ولا

(9/241)


يحبس عنه من أجل اليمين. فيتحصل في المسألة ثلاثة أقوال: أحدها أنه يقضى للوكيل في المسألتين جميعا ولا يؤخر القضاء له بسبب اليمين. والثاني أنه لا يقضي له في المسألتين جميعا حتى يكتب إليه فيحلف. والثالث الفرق بين مسألة العبد، ومسألة الدين؛ وفي المسألة قول رابع أن الوكيل يحلف على العلم وحينئذ يقضي له، قاله ابن كنانة في المجموعة، وابن القاسم في المدونة وهذا كله في الغيبة البعيدة، وأما الغيبة القريبة فلا اختلاف في أنه لا يقضى له إلا بعد يمينه في المسألتين جميعا هذا تحصيل القول عندي في هذه المسألة وبالله التوفيق.

[مسألة: كتاب القاضي كتابا لصاحب الحق]
مسألة وسئل عن الرجل يثبت حقه عند القاضي، أيعطيه كتابا إلى أي قضاة الآفاق كان ولا يسمى فيه أحدا، لا قاضيا بعينيه ولا بلدا بعينه؟ قال: نعم، وأرى ذلك يجوز إذا أثبت البينة عند القاضي الذي دفع إليه الكتاب أنه كتاب القاضي الذي بعث به وكتبه، مثل الرجل يطالب غريمه ولا يدري بأي الآفاق هو أو أين يلقاه، أو العبد الآبق وما أشبه ذلك، وقاله أصبغ عن ابن القاسم.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه أنه إذا لم يدر حيث هو غريمه الذي أثبت دينه قبله، أو حيث يجد عبده الآبق فإن الإمام يكتب له دون تسمية، يقول في كتابه: كتابي إلى من ورد عليه كتابي هذا من القضاة والحكام بأي بلد كان من البلدان، فيكون حقا على كل من ورد عليه ذلك الكتاب من القضاة أن يقضي به وحمله دون خلاف، كما لا

(9/242)


اختلاف أيضا (أنه) إذا كتب له إلى قاضي موضع فوجد ذلك القاضي قد مات أو عزل وولى غيره مكانه أنه يجب له إنفاذ ذلك الكتاب والعمل به. واختلف إذا كتب له إلى قاضي بلد بعينه وهو يظن غريمه بذلك البلد فألفاه بغير ذلك البلد، ورفع ذلك الكتاب إلى قاضي ذلك البلد، وهو غير القاضي المكتوب إليه. فروى أصبغ عن ابن القاسم أنه لا ينظر له فيه، وقال أصبغ: إنما معنى ذلك أنه لا يعرف بذلك البلد، ولو أثبت المدعي بينة في ذلك البلد أنه الرجل الذي حكم عليه القاضي الكاتب أنفذه هذا.
قال محمد بن رشد: والمعنى الذي ذهب إليه أصبغ أن من تمام الصفة أن يقول فيه الساكن ببلد كذا، أو الملتزم في صناعته كذا، فلا يوجد بذلك البلد، وفي تلك الصناعة بتلك الصفة والنسبة والتسمية سواه فيلزمه، فإذا رفع الكتاب إلى قاض بغير ذلك البلد لم يدر لعل صاحبه في بلد المكتوب إليه، فوجب ألا يحكم له على من وافقت صفته من أهل بلده الصفة المذكورة في الكتاب حتى يثبت عنده أنه هو بعينه، وهو معنى صحيح، والظاهر من مذهب ابن القاسم أنه لا ينظر (له) بحال؛ لأن الذي كتب إليه الكتاب حتى يثبته عنده ويخاطبه به وبالله التوفيق.

(9/243)