البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة

 [: كتاب الأقضية الثاني] [: كرم بين أشراك تساقطت حيطانه فدعا بعضهم إلى إصلاحه وكره بعضهم]

(9/245)


من سماع يحيى بن يحيى من كتاب الكبش قال يحيى: سألت ابن القاسم عن كرم بين أشراك تساقطت حيطانه فخافوا عليه الفساد فدعا بعضهم بعضا إلى العمل وإصلاح ما تساقط من حدوده وكره بعضهم. فقال: إن كان لكل رجل منهم حصة معروفة إلا أن الغلق كان واحدا فانهدم، فإن العمل لا يلزم من كرهه، ويقال لمن خاف الفساد وأحب العمل: إن شئت فحصن كرمك ودع ما ليس لك، وإن شئت فدع. ولا يجبر الكاره للعمل على شيء بحصته، قال: وإن كان مشاعا غير مقسوم فإنه يقال لهم إذا اختلفوا في إصلاحه ومرمة حيطانه اقتسموا ويجبروا على الاقتسام إذا دعا إلى ذلك بعضهم، ثم شأن كل واحد منهم وحصته ليحصنها أو ليدع، قلت له: فإن كان انهدم الحائط وهو مشاع، وفي الكرم ثمرة تمنعهم من الاقتسام وترك إصلاح الحيطان ذهاب للثمرة وفساد للكرم، ما الأمر فيه؟ قال: إن كانت الثمرة قد طابت قيل له: حصن معهم أو

(9/247)


بع حصتك من الثمرة ممن يحصن، فإن كانت الثمرة لم تطب، قيل لهم: إن شئتم فحصنوا وتكونوا أملك بحظه من الثمرة حتى تستوفوا من ذلك ما أنفقتم، فإن كان ما أنفقوا أكثر من ثمن الثمرة لم يكن لهم عليه شيء سوى الثمرة.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال، إنه إن كانت حصة كل واحد منهم معروفة فلا يلزم العمل من كرهه، إذ لا ضرر في ذلك على سواه، لقدرته على تحصين حصته، وإنه إن كان مشاعا ينقسم ولم تكن فيه ثمرة تمنعهم من الاقتسام أجبروا على الاقتسام، وكان كل رجل منهم بالخيار في حصته، إن شاء حصنها، وإن شاء تركها. وأما إذا كان في الحائط ثمرة تمنعهم من الاقتسام ففي قوله: إن كانت الثمرة قد طابت قيل له: حصن معهم أو بع حظك من الثمرة ممن يحصن نظر؛ لأن الظاهر من قوله: إنه لا يلزمه أكثر من أن يبيع حظه من الثمرة في التحصين، أو يسلمها إليهم، وقد لا يكون في ثمن حظه من الثمرة ما ينوبه من نفقة التحصين. والقياس إذا لم يف حظه من الثمرة بما يلزمه في التحصين أن يقال له: لا بد لك من أن تحصن مع أشراكك أو تبيع حظك من الأصل والثمرة ممن يحصن معهم، فإن لم يف حظه من الأصل والثمرة بما يلزمه من التحصين لم يلزمه أكثر من أن يسلم إليهم أصل الحائط بثمرته فيما يلزمه من التحصين معهم. وكذلك قوله: إن الثمرة إذا لم تطب يقال لهم: إن شئتم حصنوا وتكونوا أملك بحظه من الثمرة إلى آخر قوله: الظاهر منه أنه إذا أبى أن يحصن معهم لم يلزمه ذلك، ولم يكن عليه أكثر من أن يسلم إليهم حظه من الثمرة فيكونوا أملك بها حتى يستوفوا منها نفقتهم، فإن لم يف ثمن الثمرة بالنفقة لم يكن عليه شيء سوى ذلك، وهو على قياس قوله: إذا طابت الثمرة من أنه لم يلزمه في التحصين أكثر منها،

(9/248)


والقياس إذا لم تطب الثمرة أن يقال له: إما أن تحصن معهم، وإما أن تبيع حظك من الأصل والثمرة ممن يحصن معهم، وكذلك قال في أول سماع ابن القاسم من كتاب السداد والأنهار في الحائط يكون بين القوم فينهار ماؤه وفيه زرع وشجر مثمر فيمنعهم من الاقتسام أن من أبى أن يعمل يجبر على ما أحب أو كره أن يعمل أو يبيع ممن يعمل، فهو خلاف لرواية يحيى هذه، وقد اختلف إذا أبى أن يعمل هل يجبر على أن يبيع ممن يعمل، أو لا يجبر على ذلك؟ فقيل: إنه يجبر على ذلك، ويباع عليه من حظه بقدر ما يلزمه من العمل فيما بقي من حقه بعدما بيع عليه منه، وهو قول مالك في رسم الصلاة من سماع (يحيى) بعد هذا، ودليل ما في كتاب القسمة من المدونة. وقيل: إنه يجبر على ذلك، وهو قول ابن القاسم في سماع يحيى من كتاب السداد والأنهار، خلاف قول يحيى فيه، من رأيه أنه لا يباع عليه. وأصح القولين في القياس أنه لا يجبر على ذلك، وعليه ينبغي أن يتأول ما في سماع ابن القاسم من كتاب السداد والأنهار، فيقال قوله فيه يجبر على ما أحب أو كره أن يبيع ذلك ممن يعمل معهم، معناه أنه يجبر على العمل إلا أن يبيع ذلك ممن يعمل، يريد فإن أبى من الوجهين جميعها، ولا مال له بيع عليه من حظه بقدر ما يجب عليه في العمل بغير شرط، فإن أبى المبتاع أيضا من العمل حكم بما حكم على البائع، وهو قول سحنون: إن البيع على الشرط إنما جاز على وجه الضرورة إذا لم يكن للبائع مال، وليس قوله ببين، إذ لا ضرورة تدعو إلى ذلك؛ لأنه يقدر على أن يباع عليه من حظه دون شرط بقدر ما يلزمه من الإنفاق في عمل ما بقي عليه من نصيبه وبالله التوفيق.

(9/249)


[مسألة: امرأة وإخوتها ورثوا عن أبيهم منزلا فباع أحد إخوتها المنزل كله]
مسألة قال يحيى: وسألت ابن القاسم عن امرأة وإخوتها ورثوا عن أبيهم منزلا فباع أحد إخوتها المنزل كله وهو غير وصي فباع ذلك على إخوته وأخواته وتعدى عليهم، فأقام المنزل في يد مشتريه زمانا، أو مات مشتريه وبقي المنزل في يدي ورثته، وأخت البائع يوم باع المنزل أخوها بكر فتزوجت بعد، وأقامت بعد تزويجها زمانا، أو هي يوم باع أخوها متزوجة والمنزل في جوارها أو على أميال يسيرة، الثلاثة ونحوها، فادعت حقها من المنزل بعد عشر سنين أو خمس عشرة سنة أو أكثر من ذلك، وزعمت أنها لم تعلم ببيع حظها، أو أقرت أنها علمت بالبيع ولم تجد من يتوكل لها بطلب حقها، أو ادعت أن زوجها ممن لم يكن يدخل على عياله أحد لشرفه وشدة غيرته، وهو ممن لا يتوكل مثله على طلب حقوق امرأته، ولا يلتفت إلى ما ضاع من حقوقها وأموالها، أترى أن تعذر في طلب حقها في نصيبها؟ قال: أما التي ادعت وهي بكر أو غير بكر أنها لا علم لها أن حقها بيع، فإنها تحلف على ما ادعت من الجهالة ببيع حقها إذا جاءت بأمر يستدل به على صدق قولها، ثم تكون أحق بنصيبها، إلا أن يأتي المشتري بالبينة على علمها بيع أخيها حظها، ويطول سكوتها على طلب حقها زمانا طويلا، وهي قادرة على الطلب والتوكيل ليست في حجاب يمنعها من اتخاذ وكيل يطلب لها، ولا ممنوعة من

(9/250)


الخروج أو الإرسال إلى من أحبت، فإن كانت بهذه الحال وطال تركها لطلب حقها فلا شيء لها، إلا أن يكون سكوتها زمانا يسيرا. قلت: أترى العشر سنين ونحوها التي لا عذر لها طويلا؟ قال: نعم، لا عذر لها. قال: وأما الذي ذكرت من شرف زوجها وشدة حجابه وتهاونه بالنظر لها، فإن بلغ من شأن زوجها ما يتبين به للناظر في أمرها عذرها نظر لها وإن طال الزمان، فلا يضرها أن تكون عالمة ببيع أخيها إذا كان الزوج يبلغ من حجابه ما ذكرت واعتذرت به وكان بذلك معروفا.
قال القاضي: قوله في هذه الرواية: أما التي ادعت وهي بكر أو غير بكر أنها لا علم لها أن حقها بيع فإنها تحلف على ما ادعت من الجهالة، كلام وقع على غير تحصيل والله أعلم؛ لأن البكر لا يمين عليها أنها لم تعلم، إذ لو أقرت أنها علمت لم يلزمها ذلك عند ابن القاسم، فإنما أراد أن البكر وغير البكر سواء في أن البيع لا يلزمها إلا في وجوب اليمين عليها، وإنما تستوي البكر وغير البكر في وجوب اليمين عليها على مذهب سحنون الذي يرى أفعال البكر اليتيمة جائزة عليها ولازمة لها. وقوله: إذا جاءت بأمر يستدل به على صدق قولها. كلام ليس على ظاهره ومعناه إذا لم تأت بأمر يستدل به على كذبها؛ لأنها محمولة على غير العلم حتى يثبت عليها العلم. وقد روى أشهب عن مالك في كتاب الاستحقاق في التي باع عليها زوجها وأبوها دارها فأقامت أربعة عشر عاما ترى الدار بيد المشتري يهدم ويبني، ثم قامت فقالت: لم أعلم بالبيع، وظننت أنه كان اكتراها، إن القول قولها في ذلك مع يمينها. وقوله: إلا أن يأتي المشتري

(9/251)


بالبينة على علمها ببيع أخيها حظها وبطول سكوتها عن طلب حقها الزمان الطويل وهي قادرة على الطلب، معناه إذا علمت بالبيع بعد أن وقع، فلم تقم حين علمت حتى طال الأمر دون عذر يمنعها من القيام، وقال في العشرة الأعوام: إنها طول يبطل قيامها في الدار لما سأله عن ذلك، فلا دليل في ذلك على أن ما دون العشرة الأعوام ليس بطول؛ لأن الكلام إنما خرج على السؤال، فبطل بذلك الدليل، والعام في مثل هذا طول. روي ذلك عن أصبغ في نحو هذه المسألة، وقد ذهب بعض الشيوخ إلى أن الشهر والشهرين في هذا طول، وإذا طال الأمر العام ونحوه لزمها البيع، وكان لها الثمن على أخيها البائع، ولو ادعى أخوها البائع أن الدار داره، قد كانت (خلصت) له بقسمة وما أشبه ذلك لم يصدق في ذلك إلا أن تسكت بعد علمها بالبيع مدة تكون فيها الحيازة أقلها عشرة أعوام، ولو كان أخوها قد باع الدار وهي حاضرة ساكتة، فلما فرغ من البيع أنكرت وقالت: إنما سكت لأني علمت أن ذلك لا يلزمني، كان القول في ذلك قولها مع يمينها على معنى مسألة كتاب النكاح الأول من المدونة، ولو سكتت بعد البيع حتى انقضى المجلس ثم قالت بعد ذلك في مجلس آخر أو بعد يوم أو يومين لم أرض بالبيع، لم يكن لها في ذلك قول، ولزمها البيع، وكان لها الثمن. ولو ادعى أخوها البائع أن الدار له انفرد بها دونها بمقاسمة أو بيع لم يصدق في ذلك، إلا أن يطول الأمر، والطول في هذه السنة ونحوها، بخلاف التي لم تشاهد الصفقة، وإنما أعلمت بالبيع بعد وقوعه، هذا إن ادعى البائع أن الدار له لم يصدق في ذلك، إلا إن سكتت عن القيام إلى مقدار ما تكون فيه الحيازة من المدة على ما ذكرناه، فهذا تحصيل القول في هذه المسألة وبالله التوفيق.

(9/252)


[مسألة: الرجل يرفع للسلطان أن حقا لقوم غيب في دار ونحوها]
مسألة قال يحيى: وسألت ابن القاسم عن الرجل يرفع إلى السلطان أن حقا لقوم غيب من قرابته أو غيرهم في دار، أو في أرض، أو في غير ذلك بأيدي قوم يخاف على ذلك الحق الهلاك لتقادمه في أيديهم، وطول مغيب أهله عنه، ويخاف موت من علم ذلك قبله، أو نسيانهم لطول الزمان، هل يجوز للسلطان أن يوكله على الغيب فيقوم لهم باستحقاق حقوقهم، وإحيائه لهم، والخصومة عنهم؟ قال: أما الخصومة عنهم ومواضعة الحجج فلا أرى أن يوكل على ذلك وكيلا يقوم به عن الغائب، وذلك أنه إذا قضى للذي ادعى الحق قبله على هذا الذي وكله السلطان عن الغائب لم يلزم ذلك الغائب إذا قدم، وكان له أن يخاصم في حقه ويبتدئ له النظر في طلبه، فإذا كان ما يقع على الوكيل لا يلزم الغائب فيما له وعليه، فلا ينبغي للقاضي أن يشخص هذا الذي الحق في يديه فيطول عناؤه، ويطول اختلافه، فإذا قضى عليه فلعل الغيب أن يقروا بخلاف ما طلب هذا لهم، وإن قضى له ثم جاء الغيب لم ينتفع هذا بالقضاء له، وعاد في خصومة مبتدأة. قال: ولكن إن كان الذي رفع مثل هذا إلى السلطان خاف هلاك هذا الحق بموت الشهود أو نسيانهم لطول الزمان فلا بأس أن يأذن له السلطان ويأمره أن يأتي بأولئك الشهود فيسمع منهم ويوقع شهادتهم، فإن كانوا عدولا أشهد القاضي

(9/253)


رجالا أنه قد أجاز شهادتهم وقبلها لعدالتهم عنده، ويطبع على الكتاب الذي أوقع فيه شهادتهم، ويشهد العدول أنه كتابه وأنهم عدول عنده، يجيز شهادتهم، فإن جاء الغائب يوما (ما) أو وكيله فخاصم عنده وقد مات الشهود فاحتاج إلى علمهم اكتفى بالذي كانوا شهدوا به عنده فقطع الحق بهم، وإن جاء الغائب أو وكيله يوما لطلب ذلك الحق، وقد مات القاضي أو عزل، أو مات الشهداء كان حقا على القاضي الذي خلف مكانه إذا جاء الغائب أو وكيله بالكتاب الذي كتب القاضي الأول فيه شهادة الذين شهدوا عنده على إثبات حق الغيب، فأثبتوا عند القاضي الثاني أنه كتاب الماضي الأول بعينه (وأن القاضي الأول) قد أجاز شهادتهم ورضي عدالتهم، أجاز ذلك القاضي الثاني، ولم يسألهم تعديلهم، واكتفى بالذي كان ثبت عند الأول، وأشهد به للغيب، ثم أجاز شهادتهم. قال أصبغ بن الفرج: وإن رأى القاضي الأول إذا صحت هذه الأشياء عنده للغيب شهادة قاطعة وأمورا ثابتة، ولم يكن للحاضر فيها حجة ولا مدفع أن يوقفها عنه أوقفها.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى الكلام عليها مستوفى موعبا محصلا في رسم الأقضية الثالث من سماع أشهب فلا معنى لإعادته وبالله التوفيق.

[: أيستأنف النظر فيما حكم فيه القاضي المعزول]
ومن كتاب الصبرة وسألته عن القاضي يعزل لسوء حال يظهر منه أو يموت، وقد كان معروفا بالجور في أحكامه، أيستأنف النظر فيما كان

(9/254)


حكم به؟ فقال: نعم، ولا يحل لأحد من القضاة أن ينفذ له حكما إذا كان من غير أهل العدل، قلت: وكيف يكشف القاضي الذي ولي بعده أحكامه؟ أيتصفح قراءة ما كان سجل به للناس، وأشهد لهم عليه مما كان حكم به لهم؟ أم يقال للخصماء: استأنفوا الخصومة؟ فقال: إذا كان من غير أهل العدل، وخيف أن يكون كان يقبل من الشهداء غير العدول، أو يجور في أحكامه أو ما أشبه هذا، نقضت أحكامه، وأمر الخصوم باستئناف الخصام، وذلك أن القاضي إذا كان جائرا فإنه لا يكاد يكتب للناس كتب أقضيته لهم إلا صحيحة الظاهر، مستقيمة الحكم، قال: ولكن إذا كان القاضي ممن لا يتهم بتعمد الجور، ولا تجويز شهادة غير العدول وهو مجتهد في العدل، غير أنه جاهل بالسنن، تارك للاستشارة لأهل العلم يحكم باستحسانه، ويقطع الأحكام برأيه، فهذا الذي يتصفح أحكامه ويقرأ ما أشهد للناس عليه في سجلاته لهم، فإن كانت صوابا في ظاهرها أنفذت للذي أمن جوره وعرف من صلاح حاله، وإن كان منها خلاف كتاب الله، أو سنة ماضية غير مختلف فيها فسخ ذلك من أحكامه للذي عرف منه من الجهالة، وحكم به بخلاف السنة، وإن كان الذي حكم به أمرا قد اختلف فيه أهل العلم حمل من ذلك ما يحمل للذي جاء فيه من الاختلاف إذا كان أخذ بأحد الأقاويل، ولم يرد مثل هذا من أحكامه.

(9/255)


قال القاضي: هذا كما قال إن القاضي المعلوم بالجور في أحكامه تنقض أحكامه كلها، ويؤمر الخصمان باستئناف الخصام، وإن كانت مستقيمة في ظاهرها، إلا أن يثبت في شيء منها أنها كانت صحيحة مستقيمة في الباطن حسبما هي عليه في الظاهر، وإن القاضي العدل الذي لا يتهم بتعمد الجور إلا أنه جاهل، يحكم برأيه دون مشورة أهل العلم تتصفح أحكامه، فما كان منها صوابا في ظاهرها، أو خطأ قد اختلف فيه أنفذت، وما كان منها خطأ لم يختلف فيه نقضت، وذلك أن القضاة ثلاثة: قاض لا تتصفح أحكامه ولا ينظر فيها إلا على وجه التجويز لها إن احتيج إلى النظر إليها لعارض يعرض من وجه خصومة أو اختلاف في حد لا على وجه الكشف عنها والتعقب لها إن سأل ذلك المحكوم عليه فتنفذ كلها، إلا أن يظهر في شيء منها عند النظر إليها على الوجه الجائز أنه خطأ ظاهر لم يختلف فيه، فيرد ذلك من حكمه، وهو القاضي العدل العالم. وقاض لا تتصفح أحكامه، وترد كلها، وإن كانت مستقيمة في ظاهرها إلا أن يثبت صحة باطنها، وهو القاضي الجائر. وقاض تتصفح أحكامه كلها فما كان منها صوابا أو خطأ فيه اختلاف نفذت، وما كان منها خطأ لا اختلاف فيه ردت، وهو القاضي العدل الجاهل، ويختلف في أحكام القضاة الذين لا ترضى أحوالهم ولا تجوز شهادتهم إذا لم يعلموا بالجور في أحكامهم، وفي أحكام أهل البدع والأهواء، فحكم لها ابن القاسم ومطرف وابن الماجشون بحكم القاضي الجائر في أنها تفسخ كلها، ولا يمضي منها إلا ما علم صحة باطنه بالبينة العدلة، وحكم لها أصبغ بحكم القاضي العدل الجاهل في أنها تتصفح فينفذ منها ما كان صحيحا في الظاهر. وحكى الفضل عن ابن الماجشون أن القاضي الجائر تتصفح أحكامه كالقاضي الجاهل، وهو شذوذ وبالله التوفيق.

(9/256)


[مسألة: أيجوز لقاضي الجماعة الأعلى أن ينفذ أحكام القاضي غير العدل]
مسألة قلت: أرأيت القاضي يوليه الأمير في بعض الكور، وهو غير عدل ولا رضا، ولا يؤمن جَوْره ولا جهله، أيجوز لقاضي الجماعة الذي هو فوقه أن ينفذ أحكامه، ويرد إليه من أراد الخصومة عنده من أهل الكورة؟ قال: لا أرى أن يدفع إليه خصما، ولا يكتب إليه في تعديل شاهد، ولا يمضي له حكما، ولا أراه في سعة من ذلك.
قال محمد بن رشد: هذا بيّن على ما قال، وهو مما لا اختلاف فيه؛ لأن من لم يكن من أهل العدل والرضا، فلا يؤتمن في شيء من الأشياء؛ لقول الله تعالى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] ، وبالله التوفيق.

[: النزاع في إقامة حائط منهدم بين جارين]
ومن كتاب الصلاة وسئل عن حائط لرجل يكون فاصلا ما بينه وبين جاره فينهدم، فيقول صاحبه: ما أنا محتاج إلى الاستتار به ولا رفعه، ويقول جاره: اردده كما كان، فإنه سترة فيما بيني وبينك. قال: سمعت مالكا يقول: إن كان هو الذي هدمه، وهو قوي على رده بحاله، وإنما يترك عمله للضرر بجاره، فعليه عمله، وإن كان انهدم وهو على عمله قوي فكذلك أيضا، وإن هدمه أو انهدم، فضعف عن رفعه عذر، وقيل لجاره: استر على نفسك وضع جدراك في حظك ودارك، أو اترك.

(9/257)


قال محمد بن رشد: ساوى في هذه الرواية بين أن ينهدم أو يهدمه لوجه منفعة، في أنه إنما يجبر على إعادته إذا كان له مال، وذلك خلاف لما مضى في رسم إن خرجت، من سماع عيسى، وقد مضى هناك تحصيل القول في ذلك، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.

[مسألة: البيت يكون بين الرجلين ينهدم أو البير تكون بين حائطين فتنهدم]
مسألة قيل له: فالبيت يكون بين الرجلين ينهدم، أو البير تكون بين حائطين فتنهدم قال: قال لي مالك: أما البيت وما أشبه ذلك، فإن كان مما ينقسم اقتسماه فبنى من شاء، وترك من كره، وإن كان مما لا ينقسم مثل البير وما أشبهها، فإنه يقال للذي لا يريد العمل: إما أن تعمل مع شريكك، وإما أن تقاومه، أو تبيع ممن يعمل، وإلا بعنا عليك من حقك بقدر ما ينفق في عمل ما بقي من حقك، ولا يمنع شريكك من الانتفاع بحظه ضررا منك له وتضييقا عليه.
قال محمد بن رشد: قوله: إنه يقال لمن أبى العمل إذا كان لا ينقسم إما أن تعمل مع شريكك، وإما أن تقاومه أو تبيع ممن يعمل، وإلا بعنا عليك يبين أنه لا يحكم عليه بالبيع، كما لا يحكم بالمقاومة على من أباها منهما، وأن الذي يوجبه الحكم إذا لم يتفقا على المقاومة، وأبى هو البيع أن يباع عليه من حظه بقدر ما ينفق في عمل ما بقي منه، وهو صحيح في المعنى، على معنى ما في كتاب القسمة من المدونة، خلاف ما في رسم الكبش، من سماع يحيى، من كتاب السداد والأنهار، وقد مضى القول على هذا قبل هذا في أول مسألة من هذا السماع، فلا معنى لإعادته.

(9/258)


وقول مالك في هذه الرواية: أما البيت وما أشبهه فإن كان مما يقسم اقتسماه، فيبني من شاء، ويترك من كره، ينحو إلى مذهب ابن القاسم في المدونة أن البيت لا ينقسم إلا أن يكون في نصيب كل واحد من الشركاء بقدر ما ينتفع به، خلاف قول مالك فيها، وبالله التوفيق.

[: القاضي يحكم للرجل فيستأني في الحوز بالقضاء حتى يموت القاضي أو يعزل]
ومن كتاب المكاتب وسألته عن القاضي يحكم للرجل، ويسجل له بذلك، ويشهد له به عدول، فيستأني في الحوز بالقضاء حتى يموت القاضي أو يعزل، فقال: القضاء له جائز تام، ولا يضره إلا أن يكون قبض. قلت له: ذو العذر عندك فيما أخر من حيازة ما قضى له به، ومن لا عذر له سواء. قال: نعم، لا يقطع حقه تأخير الحوز، ولا موت القاضي الحاكم له، ولا عزله. قلت: أرأيت إن مات المقضي له قبل أن يحوز ما قضى له به أيكون ورثته بمنزلته؟ قال: نعم، قلت: وإن مات المقضي عليه قبل أن يقبض الحق منه، أو يؤخذ من ورثته، وقد طال ترك المقضي له ذلك الحق في يد المقضي عليه، قال: نعم، ليس في موت واحد منهما، ولا موت القاضي، ولا عزله قطع لحق المقضي له، إلا أن يكون تركا طويلا جدا حتى يكون كقبض ما يستحق بالتقادم وما أشبه ذلك. قلت له: وما طول ذلك؟ قال: قدر ما يخشى أن يكون من يعرف ذلك الحق قد هلك، أو ينسى لطول زمنه.

(9/259)


قال القاضي: قوله: إن حكم القاضي لا يفتقر إلى حيازة، وإنه إذا قضى، وأشهد لرجل بالقضاء، فلم يمض ولا حاز حتى مات أو عزل أن حقه لا يبطل بموت القاضي ولا عزله، صحيح لا اختلاف فيه، وقد مضى هذا المعنى في رسم نذر سنة، من سماع ابن القاسم، ورسم أسلم من سماع عيسى، وكذلك قوله: إن المقضي عليه لا ينتفع بحيازة ما قضى به عليه السنين الكثيرة التي تكون بها الحيازة قام عليه المقضي له في حياته أو ورثته بعد وفاته، إلا أن يطول ذلك جدا؛ صحيح لا اختلاف فيه؛ لأن الحيازة لا ينتفع الحائز بها إلا أن يجهل أصل دخوله فيها، وأما إذا علم أن أصل دخوله فيها كان على وجه ما، من غصب أو عارية أو إسكان أو إرفاق أو إمساك ما حكم عليه به، فهو محمول على ذلك لا ينتفع في طول حيازته له، إلا أن يطول زمان ذلك جدا، ولم يحد في هذه الرواية في ذلك حدا، إلا أنه قال: قدر ما يخشى أن يكون من يعرف ذلك الحق قد هلك، أو نسي لطول زمنه، فقد يتأول في هذا أن الطول عشرون عاما على ما وقع في سماع عيسى، من كتاب القسمة أن في عشرين سنة يبيد الشهود، وحد ابن حبيب فيه الخمسين سنة، وحكاه عن مطرف وأصبغ، ويأتي على مذهب ابن الماجشون في إجازة شهادة السماع أن الطول في ذلك خمسة عشر عاما، وهذا عندي إذا ادعى بعد هذا الطول أنه قد صار إليه بعد الحكم عليه بوجه كذا، لوجه يذكره مما يصح به انتقال الأملاك، وأما أن يكون طول مقامه بيده يحق له ملكه دون أن يدعى تصييره إليه ملكا فلا.
والبيع والهبة والإصداق، والصدقة والبناء والغرس على ما حكى ابن حبيب، ومطرف، وابن الماجشون، وأصبغ كالطول في ذلك. واختلف إذا مات المقضي عليه، وأورث ذلك ورثته، فلم يقم عليهم المقضي له السنين الكثيرة، فقيل: إنهم في ذلك عليه سواء، لا شيء لهم إلا أن يطول زمانه في أيديهم، أو يحدثوا فيه بيعا أو صدقة أو إصداقا، قال ابن الماجشون: لو

(9/260)


قسمه، في أحد قوليه، والمقضي له حاضر، فيدعوه ملكا لهم بوجه حق غير الوراثة، ويحتجوا عليه بالحيازة، فيكون لهم، وهو قول ابن الماجشون، وأصبغ، ومذهب ابن القاسم فيما حكى عنه ابن عبدوس، ودليل قوله في هذه الرواية، وقيل: إنهم في ذلك بخلاف المقضي عليه، ويستحقونه على المقضي له بحيازتهم إياه بحضرته مدة الحيازة، وبالله التوفيق.

[مسألة: الرجل يكون أندره لاصقا بأرض رجل فيريد أن يبني دارا تضر بالأندر]
مسألة وسألته عن الرجل يكون أندره لاصقا بأرض رجل، فيريد صاحب الأرض أن يبني فيها دارا، والبنيان يضر بالأندر، ويمنع صاحبها من الريح عند الذري، حتى يكون في ذلك إبطاله، أيجوز ذلك لصاحب الأرض؟ قال: لا يجوز له أن يبني بموضع يبطل به أندر رجل قد تقادم انتفاعه به ودراسته فيه، ولا أن يضر به في قطع المنفعة عنه. قلت: أفيمنع الرجل من البناء في أرضه لموضع الضرر بصاحب الأندر؟ قال: نعم، يمنع من ذلك إذا أضر ذلك بصاحب الأندر، وإنما الأنادر المتقادمة عندنا كالأفنية وما أشبهها، لا يجوز لأحد التضييق على أهلها، ولا قطع منفعتهم منها.
وسئل سحنون عن الرجل يكون له الأندر يدرس فيه، وفي جوار أندره أرض لرجل، فيبني الرجل في أرضه دارا أو بيوتا، فأضر ذلك بصاحب الأندر، وأكنه من الريح، ويمنعه ذلك من أن يدرس فيه، وكيف إن كان البناء قبل الأندر، ثم أحدث هذا الأندر فأضر ذلك بصاحب البنيان، ووقع تبنه في داره؟ وكيف

(9/261)


إن كانت جنانا أو مقصلة، فأضر تبنه بجنان هذا أو مقصلته؟ قال: ليس لصاحب الأندر أن يحدث على صاحب البنيان أندرا، إذا كان ذلك يضر به كما وصفت لك، وهو مثل الذي يحدث في جوار الرجل الأفران والحدادين، فيضر ذلك بجاره، فإنه يمنع من ذلك، ويقضى عليه بذلك، ثم ينظر في صاحب الأندر، فإن كان الأندر قبل البنيان، فلا يغير الأندر عن حاله، ولصاحب البنيان أن يبني، ولا يمنع من البنيان بما ذكرت من ريح ولا دراس، وإنما نظيرتها عندي لو بنى رجل، فرفع بنيانه حتى يمنع جاره الضوء والريح والشمس، لم يمنع من رفع بنيانه، قيل: فلو أن أندر الرجل في جوار أندر رجل نصب فيه قشاقيره، فقال له جاره: إن قشاقيرك تمنعني من الريح في أندري، فاقلعها عني، إن ذلك ليس له، ولا يقلع عنه زرعه إذا كان، إنما ينازعه في أرضه بعضه فوق بعض، وهو الصواب إن شاء الله.
وقال ابن نافع: لا أرى لأحد ممن لا حق له في الأندر أن يحدث عليه بنيانا يضر فيه بأصحاب الأندر، وليس للرجل أن يحدث على جاره بنيانا يضر به في أندره، ولينح ذلك إلى مكان لا ضرر فيه على صاحب الأندر. وقال عبد الله بن نافع: وسواء احتاج إلى البنيان، أو لم يحتج إليه؛ لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا ضرر ولا ضرار» ، قال سحنون مثل هذا القول يمنع من أراد أن يبني دارا من ناحية الريح، إذا كان الأندر قديما قبل بناء هذا، وهو أحسن من قوله الأول.

(9/262)


قال محمد بن رشد: ما يحدثه الرجل في ملكه مما يضر بغيره؛ ينقسم على ثلاثة أقسام؛ منه ما يمنع باتفاق، ومنه ما لا يمنع باتفاق، ومنه ما يختلف في وجوب الحكم بالمنع منه، فما يمنع باتفاق أن يحدث الرجل الأندر في جوار دار الرجل، أو جنانه فيضر به ما يقع في داره، أو جنانه من تبن أندره عند الذرو، ومن ذلك ضرر الدخان، مثل أن يحدث بقرب داره حماما، أو فرنا.
ومنه ضرر الروائح القبيحة مثل الدباغ يؤذي جاره بما يحدثه عليه من الدباغ، ومنه ما يضر بالجدرات، مثل أن يحدث كنفا إلى جانب حائط جاره، أو أرحية تضر بجدراته وما أشبه ذلك، ومنه ضرر الاطلاع، مثل أن يحدث كوة أو بابا يطلع منه على دار جاره، أو يتخذ عليه قصبة يشرف منها على عياله، وفي هذا اختلاف شاذ، قيل: إنه لا يمنع، ويقال لجاره: استر على نفسك في حقك إن شئت، روي ذلك عن أشهب وابن الماجشون، ومحمد بن مسلمة المخزومي، ومحمد بن صدفة الفدكي، من أصحاب مالك.
ومما لا يمنع باتفاق أن يحدث فرنا على مقربة من فرن آخر أو حماما على مقربة من حمام آخر، فيضر به في قلة عمارته وانتقاص غلته، ومن ذلك أن يبني في داره بناء يمنع به الضوء والشمس والريح عن دار جاره، ومن ذلك ضرر الأصوات كالحداد، والكماد، والنداف؛ حكى ابن حبيب: أنه لا يمنع، وقاله مالك في رواية مطرف عنه، وفي هذين الوجهين اختلاف شاذ. روى ابن أبي دينار، عن ابن نافع أنه يمنع من ضرر منع الضوء والريح والشمس، وذهب بعض الفقهاء

(9/263)


المتأخرين إلى أنه يمنع من ضرر الأصوات، واستدل بما روى من قول سعيد بن المسيب لبرد: اطرد هذا القارئ عني، فقد آذاني، يعني عمر بن عبد العزيز، وهذا لا دليل فيه، وقد مضى القول عليه في سماع أشهب، من كتاب الصلاة.
ومما يختلف في وجوب المنع منه أن يحدث الرجل في أرضه بناء بقرب أندر جاره، يمنعه به الريح عند الذرو، فقال ابن القاسم وابن نافع: إنه يمنع، واختلف فيه قول سحنون على ما وقع هاهنا، والأصل في هذا الاختلاف ما روي من أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا اجتمع ضرران نفى الأصغر الأكبر» ومنع الرجل من البناء في أرضه ضرر به، وإباحة ذلك له إذا حبس به الريح عن أندر جاره ضرر بجاره، فمن رأى باجتهاده ترك الرجل الانتفاع بالبناء في أرضه أحق عليه من ترك صاحب الأندر الانتفاع بأندره منعه من ذلك، ومن رآه أشد عليه لم يمنعه منه، والأظهر ألا يمنع من ذلك؛ لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد قال فيما روي عنه: «كل ذي مال أحق بماله، وكل ذي حق أحق بحقه، وكل ذي ملك أحق بملكه» ، فوجب ألا يمنع أحد من البناء في حقه، والانتفاع بملكه، إلا بيقين أن ذلك يضر بجاره أكثر مما يضر به هو؛ ترك ذلك.
ولا يقين في ذلك، بل الأظهر أن الضرر عليه في ذلك أشد؛ لأن المنفعة بالبنيان في البقعة متصل في جميع الأزمان، والانتفاع بالأندر إنما هو في زمان خاص من الأزمان، ووجه القول الآخر أن صاحب الأندر قد حاز منفعته بالسبق إليها، فليس لأحد أن يبطلها عليه، وقد رأيت لابن دحون أنه قال: لم يختلف في الكماد

(9/264)


والطحان بجوار الرجل أنهما لا يمنعان، وإن كان ذلك محدثا، يضر بأسماع الجيران، فإن أضر بالبناء منعا.
قال: وكذلك الدباغ والدقاق لا يمنعان، وإن أضرت الرائحة بالجيران، فإن أضرت بالبناء منعا. قال: فأما الفرن والحمام فإنهما يمنعان إذا كانا محدثين؛ لأن الدخان يسود الحيطان والأبواب والسقف، ولم يمنعا من أجل الضرر بأنوف الجيران، وإنما منعا من أجل الضرر بفناء الدار، وعلى هذا قياسه. فأما من أحدث بناء يستر عن جاره الضوء والريح وغيره، فلا يمنع من ذلك، إنما الريح حق في الأندر وحده. هذا نص قوله، وليس بصحيح على ما قد بان بما أوردته، وبالله التوفيق.

[: يقضي له القاضي بقرية ثم يموت القاضي أو يعزل قبل حوز المقضي به]
ومن كتاب الأقضية قال: وسألته عن الرجل يقضي له القاضي بنصف قرية أو بجزء من أجزائها، ثم يموت ذلك القاضي، أو يعزل قبل أن يحوز المقضي له بذلك القضاء، وإنما قضى له بجزء مفروز معروف ينسب إلى رجل كان المقضي له بذلك اشتراه من ذلك الرجل، فلما أراد الحوز والقبض لم يجد بينة تحوز له ذلك الجزء بعينه، وينكر أهل تلك القرية أن يكون للمقضي له أو المقضي عليه في تلك القرية حق، فيقوم له البينة أن ذلك الجزء كان معروفا للمقضي عليه إلى أن باعه من المقضي له، فيريد أن يقاسم أهل القرية كلهم؛ إذ لا يجد من يحوز جزءه ذلك، وقد ثبت له به

(9/265)


القضاء والاشتراء، قال: نعم، أرى له أن يقاسمهم، فيكون شريكا في جميع القرية بحسب ذلك الجزء، قلت له: أرأيت أهل القرية الذين بيد كل واحد منهم حق له معروف؛ إذ أمرت هذا المقضي له بمقاسمة أهل القرية كلهم أيأخذ من كل إنسان منهم سدس ما بيده إن كان الذي ثبت له من جميع القرية سدسها؟ أو على هذا الحساب في قدر ما قضي له به؟ وكيف إن خلطت الأرض كلها، فيقسم له منها الجزء الذي قضي له به، فوقع في ذلك الجزء الذي قسم له حظوظ رجال من أهل القرية، وبقي سائرهم لم يؤخذ مما في يديه شيء؟ فلم يجب في ذلك بشيء، ولم يفسر لي فيها وجها يقسم به.
قال القاضي: المعنى في هذه المسألة أن المقضي عليه كان له في القرية جزء مشاع سدس أو ربع أو نصف، أو ما كان من الأجزاء، فقاسم أشراكه في القرية، وقبض جزءه مفروزا، وحازه وباعه من رجل، ثم أنكر البيع فحاكمه إلى القاضي، وأثبت عنده ملك البائع لذلك الجزء بعينه، وأنه كان معروفا له وفي يديه، إلى أن باعه منه، فحكم له بذلك الجزء بعينه على ما يجب، وأشهد له على حكمه، فتوانى في القبض والحوز إلى أن مات القاضي أو عزل، فلما قام بعد موته أو عزله ليقبض ذلك الجزء الذي حكم له القاضي به أنكره أهل القرية، وقالوا: لم يكن للمقضي عليه في هذه القرية حق، فأقام البينة على حكم القاضي له بذلك الجزء بعينه على المقضي عليه بما ثبت عنده من أنه كان له إلى أن باعه منه، ولم يجد بينة تحوز له، فوجب أن يقاسمهم كما قال، فيكون شريكا لهم في جميع القرية بحساب ذلك الجزء، وكان وجه العمل في ذلك أن يكون شريكا

(9/266)


لكل واحد منهم بما بيده من القرية بحساب ذلك الجزء، على ما قاله في الرسم الذي بعد هذا، ولا تعاد القسمة في الجميع؛ إذ لم تنتقض القسمة فيما بينهم، وإنما وجب له منهم في القرية بوجه لا مدفع لهم فيه، فوجب أن يأخذ مما بيد كل واحد منهم سدسه، إن كان السهم السدس أو ما كان، كان أقل من ذلك أو أكثر، وإن كان بعض أهل القرية ورثة المقضي عليه، وفي أيديهم من القرية مثل ذلك الجزء، فأكثر أخذ المقضي له ذلك الجزء مما في أيديهم، ولم يكن له دخول على من سواه من أهل القرية على ما قاله أيضا في الرسم الذي بعد هذا.
وذهب سحنون في هذه المسألة إلى أنه لا شيء للمقضي له فيما في يد الأجنبيين إلا من كان في يده منهم زيادة على ذلك الجزء، أخذ المقضي له تلك الزيادة، فلو كانت القرية لرجلين بيد كل واحد منهما نصفها لم يقض له على واحد منهما بشيء، وكذلك لو كانت لثلاثة أنفس لكل واحد منهم ثلثها، والجزء الذي حكم له به الثلث فأقل لم يقض له على واحد منهم بشيء. هذا قول سحنون، ووجه ما ذهب إليه أن كل واحد منهم يقول: لا تأخذ مما بيدي شيئا إلا أن يثبت أن حقك فيه؛ إذ لعل حقك إن كان لك حق إنما هو في يد غيري، وقول ابن القاسم أظهر؛ لأنه قد ثبت أن حقه في القرية، فلا بد أن يوصل إليه، وليس بعضهم بأحق أن يؤخذ ذلك منه من بعض، فوجب أن يؤخذ من جميعهم، وبالله التوفيق.

[خاصم لبني أخيه في شيء فلم يحوزوا بذلك القضاء حتى مات القاضي]
ومن كتاب أوله أول عبد ابتاعه فهو حر قال: وسألته عن رجل خاصم لبني أخيه في نصف منزل كان لهم حتى قضي به، فلم يحوزوا بذلك القضاء حتى مات القاضي الذي حكم لهم به، ومات المقضي عليه، فلما طلب بنو أخي الرجل قبض ما قضي لهم به منعهم رجل من أهل القرية، وقال:

(9/267)


لم يكن للخصم الذي قضي عليه عندنا في هذه القرية قليل ولا كثير، فإن كان قضي لكم عليه بشيء كان بيده، فهاتوا بينة تحوز لكم وشأنكم به، وقال المقضي لهم: قد ثبت لنا القضاء بنصف المنزل، فإذا غيرتم حوزنا، ولا نجد من يقوم بحوزه لنا، فنحن أشراك لكم في جميع المنزل بالنصف.
فقال ابن القاسم: ينظر في القضاء الذي قضي به لهم، فإن كان قضي لهم بنصف المنزل، وهو معروفا في يد المقضي عليه وله، فقد ثبت لهم ما كان له، فإن كان الذي في يد المقضي عليه في يد ورثته، أو قوم قد اشتروه منهم دفع ذلك النصف الذي كان في يد الخصم المقضي عليه إلى هذا المقضي له، فإن تجاهل فيه أهل القرية وأخفوا حوزه نظر في أمرهم، فإن كان بعضهم ورثة الميت، وفي أيديهم مما ورثوا عنه نصف جميع المنزل فأكثر، أعطى المقضي له نصف جميع المنزل مما في أيدي ورثة المقضي عليه، وإن كانوا كلهم أجنبيين، وقد ثبت عليهم أن نصف المنزل الذي قضي لهؤلاء به كان معروفا في يد المقضي عليه حتى استحقه هؤلاء بالقضاء، فإنه شريك في جميع حوز المنزل الذي قضي به لهؤلاء، ولا يجمع له النصف في إحدى ناحيتي المنزل، ولكن يؤخذ من كل رجل من أهل تلك القرية نصف ما في يديه؛ لأنا لو جمعنا له النصف استوعب ما في أيدي بعضهم، ورجع بعضهم على بعض بأمر عسير في القسمة لا يحاط به، فأعدل ذلك أن يأخذ من كل رجل نصف ما بيده، حتى يوقعه على نصفه

(9/268)


بإقرار منهم وإظهار لحوزه، قال: وإن لم تقم له بينة أن نصف ذلك المنزل كان في يد المقضي عليه، ولا معروفا له يوم حكم به عليه، فلا شيء له في المنزل؛ لأنه إنما قضي له حينئذ على رجل بحق لا يملكه، وليس بشريك لأهل المنزل فيه، ولو جاز مثل هذا عند القضاة لم يشأ رجل أن يصنع لنفسه خصما، فيقضى له عليه بما ليس في يديه من أموال الناس ورباعهم إلا فعل، فلا أرى أن يلزم أهل القرية ما فسرت لك من مقاسمة المقضي له، حتى يثبت البينة أن ذلك الحق كان في يد الخصم وهو يوم قضي عليه.
قال محمد بن رشد: القول في هذه المسألة كالقول في التي قبلها، وما فيها من الزيادات عليها فنبينها، وإنما قال: إنه لا شيء للمقضي له بهذا الحكم، إلا أن تقوم بينة أن ذلك كان في يد المقضي عليه معروفا له يوم الحكم عليه به؛ لأن القضاء عليه إنما كان ما به باعه منه، إما ببينة قامت عليه بذلك، وهو منكر، وإما بإقراره به على نفسه، والبيع لا يوجب الملك للمشتري؛ إذ قد يبيع البائع ما ليس له، فإذا لم يجب الملك للمشتري بالشراء إلا بعد ثبوت ملك البائع لما باع يوم باع لم يتم القضاء للمحكوم له بالشراء إلا بعد ثبوت الملك للمحكوم عليه يوم الحكم، وقد مضى بيان هذا في أول رسم من سماع عيسى، وبالله التوفيق.

[: الجارية أو العبد يدعي الحرية وشهوده غير حضور]
من سماع عبد الملك بن الحسن وسؤاله
ابن القاسم وابن وهب وأشهب قال عبد الملك بن الحسن: سئل ابن القاسم عن الجارية أو العبد يدعي الحرية فيقال له: إيت بشهودك، فيقول: شهودي

(9/269)


في موضع كذا وكذا، وبها قاض فارفعني وإياه، فيقول صاحب الغلام أو الجارية: لا أرتفع معك، ولكن إيت بشهودك هاهنا، فيقول العبد: أنا أضعف عن ذلك، وليس أحد يقوم لي، ولا تأتيني ببينة، فهل يرفع إلى موضع بينته كان قريبا أو بعيدا، أحب ذلك السيد أو كره؟ وكيف الأمر في ذلك؟ قال ابن القاسم: لا أرى أن يرفع مع العبد، ولو جاز هذا للعبيد خرجوا من أيدي أربابهم بالتبطل عن أعمالهم، ولكن إن كان الذي ذكره العبد قريبا مسيرة اليوم ونحوه، فعسى به إن جاء بأمر يعرف، فلعل هذا يكتب له، أو يأتي بشاهد عدل وحميل بقيمته كتب له برفع بينته، وكذلك سمعت مالكا يقول: وإن لم يأت بحميل لم يمكن من ذلك.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة ناقصة ملتبسة، وتلخيص وجه الحكم فيها يفتقر إلى تفصيل، وذلك أنه لا يخلو ما ادعت الجارية أو العبد من الحرية أن يسببا له سببا، مثل الشاهد الواحد العدل، أو الشهود غير العدول، أو لا يسببان لذلك سببا.
فأما إذا سببا لذلك سببا؛ فإن السيد يوقف عن الجارية، ويؤمر أن يكف عن وطئها، إن كان مأمونا، وإن لم يكن مأمونا وضعت على يدي امرأة، ويضرب في ذلك أجل الشهرين أو الثلاثة، قاله مالك في رسم سلف، من سماع ابن القاسم، من كتاب الاستحقاق، وإن سألت أن ترفع مع سيدها إلى موضع بينتها، كان ذلك لها إن كان الموضع قريبا، وإن ادعت أن بينتها بموضع بعيد، فقيل: ترفع مع سيدها إلى موضع بينتها. وهو قول أصبغ في الواضحة، وقيل: إنه لا يلزم سيده أن يرفع معه إلى موضع بينته، ويقال له: ضع حميلا بقيمتك، واذهب إلى موضع بينتك، وهو ظاهر قول ابن وهب في رسم الأقضية، من سماع يحيى، من كتاب الشهادات، وإن لم يأت بحميل

(9/270)


طرح في السجن، ووكل من يقوم بأمره، قاله مالك فيما سأل عنه ابن كنانة لابن غانم، ومعناه إذا دعا لذلك السيد، وقال: أخشى أن يهرب لادعائه الحرية، وأما إذا لم يسبب لذلك سببا من بينة، ولم يأتيا بسوى الدعوى، فلا يخلو من أن يكون لما ادعيا وجه يشبه، ويعرف مثل أن يدعيا أنهما من أهل بلد، قد عرف واليه بالتعسف على أهل ذمة ذلك البلد وبيعه لهم، أو ينتسب إلى قوم معروفين، ويأتي على ذلك بأمارة ظاهرة وما أشبه ذلك، أو لا يكون لدعواهما وجه يشبه ويعرف، ولا يخلو من أن يكون موضع بينتهما قريبا، فإن الإمام يأخذ من سيدهما حميلا ألا يخرج به ولا يفوته، ويكتب له كتابا إلى ذلك الموضع.
فإن جاءه جواب كتابه بما يستوجب به الرفع مع سيده، أو الذهاب بحميل يأخذه منه بقيمته حكم بذلك، وإن لم يكن لما ادعيا وجه يعرف، وكان موضع بينتهما بعيدا لم يلزم سيدهما بشيء. واختلف إن لم يكن لما ادعيا وجه، وكان الموضع قريبا، فقيل: لا يلزم السيد بشيء، وهو دليل ابن القاسم في هذه الرواية، إن كان الذي ذكره العبد قريبا على مسيرة اليوم ونحوه، فعسى به إن جاء بأمر يعرف، فلعل هذا يكتب له، يريد ويؤخذ من سيده حميل، وهو قول ابن الماجشون، وقيل: يكتب لهما ويتخذ على سيدهما حميل ألا يفوتهما، وهو قول عيسى في كتاب الجدار.
واختلف أيضا إن كان لما ادعيا وجه، وكان الموضع بعيدا، فقيل: إنه لا يلزم السيد شيء، وهو دليل هذه الرواية؛ لأنه لم ير أن يكتب له إلا أن يكون الموضع قريبا، ويأتي بأمر يعرف، وقيل: إنه يكتب لهما، ويؤخذ من سيدهما حميل بهما، وهو قول ابن حبيب في الواضحة، عن مطرف وأصبغ. وانظر إذا أخذ من العبد حميل بقيمته، فذهب إلى موضع بينته فهرب أو مات في الطريق، أو قتل، أو حدث به عيب، ولم يصح له من دعواه شيء ما يكون الحكم في ذلك؟ والذي أراه فيه على ما يوجبه النظر والقياس أن يضمن الحميل قيمته إن أبق، أو قتل وما حدث به من العيوب بسبب سفره، ولا

(9/271)


يكون عليه شيء فيما حدث به من العيوب بغير سبب سفره، ولا في موته إن مات، وبالله التوفيق.

[مسألة: رجل أراد أن يطلب حقا له من مورث أو غيره ببلد غير بلده]
مسألة وسألت عبد الله بن وهب عن رجل أراد أن يطلب حقا له من مورث أو غيره ببلد غير بلده، فخاف أن يجهل أمره، ويكلف البينة على معرفته بعينه واسمه ونسبه، وله بينة يعرفونه على مسيرة يومين أو ثلاثة، ممن لا يعرف بالبلد الذي أراد الخصومة فيه، فذهب إلى موضع بينته تلك، وبها قاض من قضاة المسلمين، فأتى بشهوده أولئك الذين يعرفونه باسمه وعينه، ونسبه إلى قاضي ذلك البلد، فشهدوا عنده على معرفة الرجل بعينه ونسبه، وعلى أنه ورث الذي يطلب المورث من قبله، فقبلهم ذلك القاضي بمعرفة، أو بعدالة من عدلهم عنده، ثم كتب له بما ثبت عنده من نسبه بشهادة أولئك الشهود إلى القاضي الذي يطلب ببلده مورثه أو حقه، وذلك على مسيرة يومين أو ثلاثة، هل يرى القاضي الذي ورد عليه بذلك الكتاب أن يقبل ما أتاه به من ذلك الكتاب، ويكون ذلك الرجل بكتابه ذلك ثابت المعرفة والنسب، وخصمه الذي يطلب قبله ذلك الحق الذي ثبت له بذلك النسب، يقول للقاضي الذي ينظر في أمرهما: إن البينة التي أثبتت نسب هذا حتى جاز له بهم مخاصمتي، لم أحضر شهادتهم، ولعلي أن أدفع علمهم لو حضرته، ويقول له خصمه: إن بينتي لا تعرف إلا ببلدهم، وإنما هو نسبه أثبته عند ذلك القاضي، وكتب به إلى القاضي الذي أنا وأنت نختصم إليه؛ أترى على القاضي الذي يخاصمه إليه أن يكلفه البينة على معرفته ونسبه عنده، حتى تشهد

(9/272)


البينة بحضرة خصمه، ولا يكتفي بالكتاب الذي أتاه به؟ وكيف إن كانت تلك البينة التي شهدت على معرفته بعينه ونسبه، إنما يشهدون أن قاضيا من القضاة مثل قاضي إفريقية، أشهدهم أنه قد ثبت عنده معرفة فلان بن فلان بعينه ونسبه، وهم من موضع القاضي الذي يختصم إليه في هذا الأمر بمنزلة الإسكندرية من مصر، فشهد أولئك الشهود عند قاضي الإسكندرية أن قاضي إفريقية أشهدنا على أنه قد ثبت عنده معرفة فلان بن فلان بعينه ونسبه، وعرفهم به، فلما قدم عليهم ذلك الرجل، واحتاج إلى علمهم الذي أشهدهم عليه قاضي إفريقية، قاموا بشهادتهم عند قاضي الإسكندرية، فكتب بعلمهم قاضي الإسكندرية إلى قاضي مصر، فهل يثبت نسبه ومعرفته بذلك الكتاب؟ أو حتى يشهد أولئك الشهود بأعيانهم عند قاضي أهل مصر، حيث الخصومة وموضع الطلب بحضرة الخصوم؟ أو يكتفي القاضي بما أتاه في هذا وأشباهه بكتب القضاة، ويكون في إنفاذها سعة له؟
قال له: قد فهمت ما ذكرت، والشأن فيه أن يقبل القاضي ما جاءه به من ذلك، ويثبت عنده من ذلك، وأن يكتب له به حيث أحب، وأن يجيز ذلك المكتوب إليه به، ويحكم به إن كان الحكم فيه عنده، أو يكتب به أيضا إلى غيره إن كان إليه هكذا وإن كثر، وهذا أمر القضاة، وشأن الإسلام، لا يختلف في هذا أهل العلم ولا ينكرونه، وليس لمن جاءه بمثل هذا من القضاة أن يعنت بأن يقول: لا أعرف من شهد لك أو ثبتهم عندي، أو أشخصهم إلي كما ذكرت مما طلب الخصم وسأل، بل يمضي له ما كتب إليه به على ما كتب به القاضي

(9/273)


الكاتب أنه ثبت عنده، ثم شأن الخصم المقضي عليه بعد ذلك إن كان عنده مدفع لأولئك الشهود بدفع الحق، ويخرج إليه ما قضى له به، ثم يشخص إلى بلد الشهود والقاضي الكاتب، فيبطل ذلك عن نفسه إن شاء إن كان عنده مدفع، فإن فعل رجع في بينته، وإلا لم تكن له حجة، ولم يحبس هذا بحقه، ويظلم فيه حتى يجلب بينته كما قال الخصم، وسواء أقام ذلك عند قاضي إفريقية بما ثبت له عنده، فيكتب له به، أو أقام ذلك عنده، على الشهادة على قاضي مصر أنه أشهدهم أنه قد ثبت ذلك له عنده على ما سمى وفسر أنفذه له، فيحكم بذلك قاضي إفريقية، ويكتب له بذلك إلى حيث شاء يطلب صاحبه به.
وقال أشهب: إذا ثبت عند قاض من القضاة معرفة رجل بعينه ونسبه ببينة عدول، أنه فلان ابن فلان، فكتب بذلك القاضي إلى القاضي الذي بلده كذا طلبه الرجل أو مورثه، فإنه ينبغي للقاضي الذي ورد عليه بذلك الكتاب أن يكون بكتابه إليه ذلك الرجل ثابت المعرفة والنسب عنده، لا يكلفه إحضار بينة عنده إذا أتاه بكتاب من يرضاه من القضاة، ولا يبالي كان إثبات معرفته بعينه ونسبه عند قاضي إفريقية، وعند قاضي الإسكندرية إذا شهدت البينة عند قاضي الإسكندرية أن قاضي إفريقية أشهدنا أنه قد ثبت عنده معرفة فلان ابن فلان ونسبه، وعرفهم به كتب قاضي الإسكندرية إلى قاضي مصر بما ثبت عنده من شهادة الشهود الذين أشهدهم قاضي إفريقية، فكان ذلك الرجل عند قاضي مصر بكتاب قاضي الإسكندرية ثابت المعرفة والنسب، لا ينبغي للقاضي إذا أتاه كتاب

(9/274)


من يرضى من القضاة على معرفة رجل أن يقول له: أحضر البينة عندي، حتى يشهد بمحضر خصمك.
قال محمد بن رشد: قول أشهب هذا مثل قول ابن وهب سواء، فلو قال فيه: وقال أشهب مثله؛ لكان أحسن، وهو كله صحيح لا إشكال فيه، ولا اختلاف بين أحد من أهل العلم في أن القاضي يعمل بخطاب غيره من القضاة، ويحكم بما خاطبه به أنه ثبت عنده، أو أنه خاطبه به غيره، كان ذلك القاضي الذي خاطب من خاطبه قد ثبت ذلك عنده، أو خاطبه به أيضا غيره، وإن كثرت المخاطبات في ذلك من قاض إلى قاض، وليس للذي ورد عليه الخطاب بثبات حق لرجل على رجل أن يكلف الذي له الحق بشهادة البينة عنده بمحضر خصمه، بل يلزمه أن يقضي له عليه بحقه، إلا أنه يقول له: إن كان عندك مدفع فيمن شهد على الكتاب فادفع، فإن دفع بأمر تسقط به شهادتهم لم يحكم عليه، وإن لم يدفع حكم عليه، ويقول له أيضا: إن كان عندك مدفع في الذين شهدوا بنسب الطالب لك أو بحقه عليك، فائت بهم، فإن جاء بأمر تسقط به شهادتهم لم يحكم عليه، وإن ادعى المدفع في البلد الذي كتب فيه الكتاب بثبات النسب أو ثبوت الحق، قيل له: أد هاهنا ما ثبت عليك وامض، فإن دفعت شهادة من شهد لخصمك رجعت بما حكم به عليك، وبالله التوفيق.

[مسألة: الرجل يأبق منه العبد فيقضى فيه في بلد آخر]
مسألة وقال: سألت ابن وهب عن الرجل يأبق منه العبد، فيقع ببلده على مسيرة الأيام ثلاثة أو نحو ذلك، فيبلغ ذلك سيده، فيأتي إلى

(9/275)


قاضي بلده فيعلمه بإباق عبده، وبموضعه الذي هو به، ويأتيه ببينة عدول، يشهدون أنهم يعرفون له غلاما، يسمى فلانا من صفته كذا وكذا، ويصفون صفته يعرفونه في يديه حتى نشده آبقا.
هل ترى لذلك القاضي إذا شهد عنده العدول بهذا أن يكتب إلى قاضي البلد الذي به ذلك العبد إن وافقت صفته ما وصفه به الشهود أن يدفعه إلى سيده الذي يشهدون له أنه أبق منه، وإن كان العبد منكرا هنالك؛ لأن يكون الذي لحقه بموضعه ذلك كان سيده؟ أو لا ترى شهادتهم قاطعة حتى ينظروا إلى العبد فيعرفونه بعينه؟ وكيف إن ادعى العبد الحرية بالموضع الذي ألفي فيه، وقال: هذه بينتي على حريتي، وأقر أنه سيده، وقال سيده: لا أخاصمك هاهنا؛ لأنك إنما خرجت من يدي آبقا، فأنا أردك إلى مكاني الذي كنت به في يدي، ثم إن كانت لك بينة أو حجة فقم بها عند قاضينا؟
هل ترى أن يرد العبد في يد سيده حتى يرده إلى مكانه؟ أو يؤمر بمخاصمة العبد حيث أدركه، وحيث يزعم أن بينته به على حريته؟ وهل المعرفة به، وهو إن رد إلى مكان سيده لعله ألا يجد بينة تتبعه، وإن اتبعته لا يجد البينة من يعرفها، ولا يعدلها هنالك؟ ففسر لنا هذا الأمر فإنه كثير ببلدنا، أو يلفى العبد في يد رجل يزعم أنه غلامه، هل ينتفع طالبه بالبينة التي شهدت على صفة العبد واسمه، وهو غائب عن البينة، ويرد بذلك في يد سيده الذي أبق منه؟ فقال: نعم، إذا شهدوا عنده

(9/276)


على صفة وتحلية وجنس واسم، وكانوا عدولا، وشهدوا أن العبد الذي بهذه الصفة عبد لفلان ابن فلان، هذا المشهود له، لا يعلمونه باع ولا وهب ولا خرج من يده بوجه من وجوه الملك، أحلفه مع ذلك ما خرج من يده بوجه من وجوه الملك، ثم يكتب له إلى قاضي البلد الذي يزعم أنه بها، وأشهد له على الكتاب، وأنه قد أمضى له الحكم فيه، فإذا أتى الكتاب القاضي المكتوب إليه نظر، فإن لم يكن في البلد من هو بتلك الصفة والجنس والحلية غيره أمكنه منه ودفعه إليه، وإن كان العبد عبدا لرجل غيره بتلك البلدة أو حرا، يدعي الحرية كما ذكرت، فينظر له القاضي المكتوب إليه الذي هو بين ظهرانه في حجته وبينته، ولا يلجئه إلى غيره ولا يشخصه معه إن كانت له بينة، فإن صحت له بينة بحريته أعتقه وأطلقه حرا، وأبطل كتاب المستحق، وما ثبت له عند القاضي، وإن لم يثبت له ذلك دفعه إليه إن لم يكن في البلد بتلك الحالة التي كتب بها أحد غيره كما وصفت، فإن كان بها غيره بتلك الصفة لم يستحق شيئا، ولم يكن له شيء حتى يشهد له الشهود على بعضهم بعينه، وإنما مثل ذلك مثل الدين يثبته الرجل عند قاضي مصر على رجل بإفريقية يسمونه باسمه ونسبه وصفته، فيكتب له بذلك إلى قاضي إفريقية، فإن قاضي إفريقية إذا جاءه ذلك الكتاب كشف، فإن لم يجد بها أحدا غيره على ذلك الاسم والنسب والصفة أعداه عليه وأخذ له بحقه منه، وإن كان

(9/277)


بها غيره لم يعده على أحد منهم حتى يثبت حقه بإثبات من هذا من بينة تقدم له على رجل بعينه وما أشبه ذلك، وقال أشهب: أراه له إلا أن يكون بذلك البلد عبد يسمى بذلك الاسم، وله تلك الصفة، فلا يكون ذلك له، أو يدعي العبد الحرية من الذي استحقه في كتاب القاضي، فيقيم على ذلك البينة فيعتق.
قال القاضي: قول ابن وهب هذا: إن القاضي يكتب له بما أثبت عنده من صفة عبده الآبق، كما يكتب له في الدين يكون له على الغائب باسمه ونسبه وصفته، فتقوم الشهادة في ذلك على الصفة مقام الشهادة على العين، ويحكم له بها المكتوب إليه هو قول مالك وجميع أصحابه، حاشا ابن كنانة في المدنية: فإنه لم يجز في شيء من ذلك كله الشهادة على الصفة، وأجازها ابن دينار في الدين، ولم يجزها في الآبق، والفرق بينهما عنده أن الآبق لا يعرف موضعه، ومن تمام الصفة ذكر الموضع؛ ليستحسن هل في ذلك الموضع على تلك الصفة سواه أم لا؟ ولا تتم الشهادة حتى يقولوا: إنهم يعرفونه في يديه ملكا له، لم يزل ملكه عنه في علمهم حتى أنشده آبقا، ثم يحلفه القاضي أنه ما باع ولا وهب ولا تصدق، ثم يكتب له عند ذلك كتابا باستحقاقه لعبد صفته كذا وكذا، فإن كتب له ولم يحلفه حلفه القاضي وقضى له، وإن مضى بالكتاب وكيله لم يقض له به القاضي المكتوب إليه حتى يكتب إلى قاضي بلده، فيحلفه ويأتيه بذلك كتابه.
وقد مضى تحصيل القول في هذا في رسم العتق، من سماع عيسى، وإذا وصل بالكتاب إلى قاضي الموضع الذي هو به العبد؛ فإن الأمر لا يخلو من أربعة أحوال؛ أحدها: أن يجد العبد محبوسا، قد حبسه

(9/278)


القاضي بما ثبت عنده أنه آبق، أو غير محبوس إلا أنه يقر بالإباق، وينكر أن يكون هذا الذي لحقه هو سيده ولا يسمى سيده. والثاني: أن يقول: أنا عبد لفلان رجل حاضر أو غائب. والثالث: أن يقر للذي لحقه أنه عبده، ويدعي عليه أنه أعتقه. والرابع: أن يدعي الحرية.
فأما الوجه الأول فلا اختلاف في أن القاضي يحكم له به، ويدفعه إليه، على مذهب من يجيز الشهادة على الصفة، وعلى مذهب من لا يجيزها؛ لأنه لو ادعاه ووصفه دون بينة لأعطاه إياه بعد التلوم له واليمين؛ لأنه كاللقطة، وعلى ما في الآبق من المدونة في الأمتعة المسروقة.
وأما الوجه الثاني وهو أن يقول: أنا عبد لفلان رجل حاضر أو غائب، فإن كان حاضرا فقال: لا حق لي فيه، دفعه إلى طالبه، وإن ادعاه قيل له: إيت بالبينة، فإن أتى بها كان أحق به، وإن لم يأت ببينة قضي به للطالب، وإن كان غائبا كتب السلطان إلى ذلك الموضع، فإن كان كما قال، وإلا أسلم إليه العبد.
وأما الوجه الثالث فكما قال، إن كانت له بينة بحريته أعتقه، وأبطل كتاب المستحق، وإلا دفع إليه عبده.
وأما الوجه الرابع وهو أن يدعي الحرية، فقال في المدونة: إن القاضي المكتوب إليه الذي هو بين ظهرانيه ينظر له في حجته وبينته، ولا يلجئه إلى غيره.
ووجه العمل في ذلك أن ينظر، فإن كان واقعا بالبلد، ولم يكن من أهله معروفا بالحرية من أصله، ولم يكن له بذلك البلد من يشبهه في صنفه وجنسه واسمه، سئل المخرج بما ثبت عليه من رق هذا، فإن أتى بالمخرج عن ذلك بأن يثبت أنه حر من أصله، أو أنه أعتقه من

(9/279)


كان ملكا له بطل عنه الكتاب، وإن لم يأت بشيء دفع إلى هذا عبدا إلا أن يكون في البلد من يشبهه في صفته وجنسه واسمه، فلا ينتفع بالكتاب حتى تشهد البينة أنه هذا بعينه، ومثل هذا حكى ابن حبيب عن مطرف وأصبغ، وهو خلاف مذهب ابن القاسم؛ لأن من مذهبه على ما حكاه الفضل أن الشهادة على الصفة لا تتم إلا بذكر الموضع، والآبق لا يعرف له موضع.
وقوله: إن القاضي المكتوب إليه يكشف هل في ذلك البلد من هو على تلك الصفة والاسم سواه في الآبق والدين؛ صحيح لا اختلاف في أن هذا هو الذي يؤمر به أن يفعله، كما يؤمر بالسؤال والكشف عن أحوال الشهود عنده، فإن لم يفعل كان على المشهود له أن يعدل عنده شهوده الذين شهدوا له، فإن لم يكشف هو عن ذلك، فظاهر قول أشهب أن الحق لازم للموجود على تلك الصفة والاسم في البلد، إلا أن يثبت أن في البلد من هو على تلك الصفة سواه، وهو قول ابن القاسم في المدونة. وقيل: إنه لا يعدى طالب الحق عليه، إلا أن يثبت أنه ليس في البلد من هو على تلك الصفة سواه، وهو الذي يدل عليه قول ابن وهب، معناه على العلم. وقد مضى ذلك في رسم العتق، من سماع عيسى، وبالله التوفيق.

[مسألة: وكل رجلا على القيام له والخصومة عنه في حظ له ببلد من البلدان]
مسألة وسألته عن رجل وكل رجلا على القيام له والخصومة عنه في حظ له ببلد من البلدان، وفوض إليه ببيع حظه ذلك إذا استحقه له، وجعل لوكيله ذلك إن أحب أن يشتري ذلك الحظ بما يعطي فيه فذلك له، وإن كره أن يشتري باعه له واجتهد فيه،

(9/280)


فيقدم وكيله ذلك البلد الذي فيه طلب الرجل الذي وكله، فألفى حانوتا مما كان فيه حق لذلك الغائب قد بيع، فأثبت وكالته من ذلك الغائب عند القاضي وتفويضه إليه، وإن سهم ذلك الغائب في ذلك الحانوت، وكان رجل قد ابتاع الحانوت من غير ذلك الغائب، فتداعيا وكيل الغائب، والذي ابتاع الحانوت إلى الصلح في الحانوت فاصطلحا على أن أخذ الوكيل للغائب نصف قاع الحانوت وعلو الحانوت كله، فلما أحضر الشهود لوثيقة أحدهما من صاحبه، أشهدهم الوكيل أنه صالح على أنه أخذ لصاحبه نصف قاع الحانوت وعلو الحانوت، وأسلم للذي كان الحانوت في يديه نصف القاع، وشهد له بذلك الوكيل، وأشهد في ذلك المجلس أنه أخذ لنفسه ما صالح عليه الذي وكله من نصف القاع والعلو بكذا وكذا دينارا مع الصلح، فقال: إنني أصالحه على أن آخذ لصاحبي ما سميت، وإني اشتريت ذلك لنفسي بكذا وكذا، ولم يكن فيه شرط مصالحة، ثم أشهد أني أخذته لنفسي بكذا وكذا، فزعم الذي صولح على نصف القاع أنه قد صار شريكا لذلك الغائب بوكالته إياه، فهل ترى أن تكون الشفعة فيما اشترى صاحبه من حظ الغائب بنصف قاع الحانوت، وأن له في مثل هذا شفعة على ما فسرت لك في الوجهين جميعا أم لا؟ فقال: قد فهمت ما ذكرته، والشفعة لازمة للشريك ثابتة وهو عندي بين، وقال أشهب: لا أرى الشفعة فيه، وإنما منعه من الشفعة أنه بيع مفسوخ، إلا أن يجيز الذي له نصف الحانوت، ولو كان البيع جائزا؛ لكانت الشفعة للشريك في الحانوت، ولم

(9/281)


تكن له شفعة في علوه؛ وذلك لأن الشركة بينهما في بطن الحانوت، ولم تكن بينهما في علوه، وإن كان الصلح بينهما إنما وقع على أن يأخذه لنفسه، والصلح بينهما أيضا منتقض؛ لأن الشريك إنما رضي بمصالحته ليأخذ بالشفعة، فصار الوكيل قد أخذ لما أسلم إليه من الشفعة ثمنا، وذلك غير جائز.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة فيها نظر من قول ابن القاسم، وقول أشهب في مواضع، منها أنه أمضى الصلح على الموكل، ولم يذكر في التوكيل، ومن قولهم: إنه ليس للوكيل أن يتجاوز ما سمي له في التوكيل، ومنها أنه أمضى البيع عليه، وإنما أذن له أن يأخذه بما يعطي فيه، فأخذه بما أراد دون أن يسوقه أو يعطي فيه شيئا، ومن ذلك أنه أوجب للمصالح الشفعة إيجابا مجملا، ولم يخص سفلا من علو، والشفعة إنما تصلح أن تكون في السفلى الذي حصلت الشركة بينهما فيه بنفس الصلح، لا في العلو؛ إذ لا شركة بينهما فيه، فيصح قول ابن القاسم على أن يتأول على أنه أراد بقوله: إن الشفعة لازمة للشريك ثابتة، أي في نصف السفلى بما يقع عليه من الثمن إذا فض على العلو ونصف السفلى، فيصير للمصالح الشفيع جميع السفلى، نصفه بالصلح ونصفه بالشفعة، ويبقى للوكيل جميع العلو، ويكون معناه إذا أجاز الغائب للوكيل الصلح والبيع؛ لأن من حقه ألا يجيز شيئا من ذلك، وله أن يجيز جميعه، وله أن يجيز الصلح ويرد البيع، وهذا كله بين.
وقول أشهب: إنه لا شفعة في ذلك إلا أن يجيز الغائب البيع صحيح. وأما إجازته الصلح إذا تقدم البيع، ولم يكن معه في صفقة واحدة ففيه نظر على ما قلناه؛ إذ لم يذكر الصلح في التوكيل. وأما قوله: إنه إن وقع الصلح مع البيع في صفقة واحدة فهو منتقض، معناه إن أراد الغائب أن ينقض البيع، ولم يرد أن يجيزه للعلة التي ذكرها، وبالله التوفيق.

(9/282)


[: الرجل يكون له الزرع فتعبر فيه دواب الناس فتفسده]
من سماع أصبغ من ابن القاسم من كتاب الأقضية والحبس قال أصبغ بن الفرج: سألت ابن القاسم عن الرجل يكون له الزرع فتعبر فيه دواب الناس فتفسده، فيريد صاحب الزرع أن يحفر حول زرعه حفيرا لمكان الدواب، وقد تقدم إلى أصحابها وأنذرهم، فيحفر فيقع بعض تلك الدواب في ذلك الحفر فتموت، أترى عليه ضمانا؟ قال: لا شيء عليه، ولو لم ينذرهم، ولم يتقدم إليهم. وقاله أصبغ، وهو قول مالك إن شاء الله.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأنه إنما فعل ما يجوز له أن يفعله من الحفير في أرضه وحقه تحصينا على زرعه، لا لإتلاف دواب الناس، ولو فعل ذلك لإتلاف دواب الناس للزمه الضمان على ما قاله في المدونة، في الذي يصنع في داره شيئا ليتلف فيه السارق أو غير السارق أنه ضامن له، وبالله التوفيق.

[: الدار يكون لواحد سفلها وللآخر علوها على من يكون كنس تراب القاعة]
ومن كتاب الأقضية والوصايا قال أصبغ بن الفرج: سألت أشهب بن عبد العزيز عن الدار يكون لواحد سفلها، وللآخر علوها، على من يكون كنس تراب القاعة وما يجتمع فيها؟ قال: على الأسفل، وليس على الأعلى منه شيء. قال أصبغ: وإنما ذلك ما يجتمع فيها من كناستها من غير ما يطرحه الأعلى من عليته فيها، وليس للأعلى أن يلقي فيها من ترابه ولا كناسته شيئا ولا شيئا مما يلقيه، وكذلك قال لنا أشهب: إنه ليس له أن يطرح فيها شيئا، ولا إن كان يعز له

(9/283)


في موضع من سفلها ليحمله، فليس ذلك له، هذا معناه، ولا يشغل منها موضعا على صاحب الأسفل، إلا أن يكون له في قسمته أو حقه المرتفق بالقاعة أو المنافع فيها. وقال أصبغ: سئل أشهب على من عليه غلق باب الدار، قال: على الأسفل، وليس على الأعلى منه شيء. قال أصبغ: وسئل أشهب عن كنس المرحاض إذا كان المرحاض واحدا. فقال: على الأسفل، وليس على الأعلى منه شيء؛ لأنه للأسفل، وإنما للأعلى الحق فيه يطرح سقاطته، وإنما هو بمنزلة السقف، على الأسفل إصلاحه؛ لأنه سقفه، وللأعلى الانتفاع به فقط. قال أصبغ: مثله كله إلا كنس الكنيف، فإنه على الأسفل والأعلى على قدر الجماجم والمستعمل. قال أصبغ مثله. وسألت ابن وهب عن كنس المرحاض، فقال: أراه بينهما على الجماجم، وهو أحب القولين، وما سمعت إلي.
قال محمد بن رشد: أما أشهب فجرى على أصل واحد في غلق الباب، وكنس الكنيف، وكنس قاعة الدار، يريد إن من حقه في أصل ما اقتسموا عليه أن يرتفق بطرح سقاطته في قاعة الدار، أن ذلك كله على صاحب الأسفل، وعلى أصله هذا أوجب تنقية كنيف الدار المكتراة على رب الدار، وأما تفرقة أصبغ بين غلق الباب وكنس الكنيف فليس بقياس؛ لأن غلق الباب منفعة لهما جميعا، كما أن الكنيف منتفع لهما جميعا، فوجب أن يكون عليهما جميعا، ألا ترى أنه لو ترك صاحب

(9/284)


الأسفل غلق بابه لاستغنى به عنه؛ لكون أسفله خاليا من متاعه أو منه، ومن متاعه لم يجبر على ذلك عند أصبغ، وأما على مذهب أشهب فيجب عليه غلق الباب على كل حال، وقد قال ابن القاسم مثل قول أشهب في مسألة رسم باع شاة، من سماع عيسى، من كتاب جامع البيوع، وعليه يأتي ما روي عنه من أن كنس مراحيض الدور المكتراة على أرباب الدور. والمشهور عنه خلافه أن ذلك على المكتري، وهو على قياس قول أصبغ وابن وهب في هذه الرواية. وقد مضى القول على ذلك كله هناك، وبالله التوفيق.

[: القاضي يقضي بما يختلف فيه وينفذه ثم يريد بعد ذلك تغييره]
ومن كتاب الكراء والأقضية قال أصبغ: سألت ابن القاسم عن القاضي يقضي بما يختلف فيه وينفذه، ثم يريد بعد ذلك تغييره، قال: ذلك له يغيره إذا رأى أحسن منه. قلت: فإن عزل وولي غيره أيكون له أن يغيره؟ قال: لا، قلت: فإن عزل هو ثم رد، فأراد تغييره؟ قال: ليس ذلك له، وقاله أصبغ كله. وقال: عزله ورده كعزله وتولية غيره فيما يرجع وما لا يرجع، تولى بعد ذلك فأقره غيره بعد عزله قبل رده، أو رد بولاية ثانية قبل غيره، فذلك سواء، وليس له تغييره بعد ذلك، ولا ذلك من الفقه.
قال القاضي: لا اختلاف في أن الحكم الخطأ الصراح الذي لم يختلف فيه يرثه هو ومن بعده من القضاة والحكام، وأما ما اختلف فيه، فيرده هو إذا رأى أحسن منه على مذهب أصحاب مالك كلهم، حاشا ابن عبد الحكم، ولا يرده من بعده إلا أن يكون خلاف سنة قائمة، أو يكون الخلاف شاذا فيختلف في ذلك، وقد مضى القول على هذا المعنى مستوفى في رسم الجواب، من سماع عيسى، فلا معنى لإعادته.
وقوله

(9/285)


هاهنا: إن رده بعد عزله كتولية غيره فيما يرجع فيه، وما لا يرجع صحيح، لا أعلم فيه اختلافا، وبالله التوفيق.

[مسألة: يخرج لسفر فيستخلف على ماله رجلا فيأتي مستحق له]
مسألة قال أصبغ: وسألت ابن القاسم عن الرجل يخرج إلى سفر، فيستخلف على داره وأرضه رجلا، أو يستودعه غلاما أو دابة، ثم يأتي من يستحق بعض ذلك، هل يمكن منه؟ قال: أما الدابة والغلام فنعم، ينتزع منه للمستحق إذا ثبت حقه، ويدفع إليه؛ لأن الفوت يدخل ذلك، وأما الدار والمنزل فيستأنى به، ويكتب إلى الموضع الذي هو به لعله يكون له فيه خصومة أو حجة؛ لأنه أمر مأمون، إلا أن يطول زمان ذلك جدا ولا يوجد، أو تكون غيبته بالموضع البعيد المنقطع من الأرض، مثل الأندلس وخراسان، وما أشبه ذلك من المواضع التي لا يطمع فيمن به، فإني أرى السلطان أن ينظر في ذلك. قال أصبغ: نظر السلطان عند ذلك أن يمكنه من إثبات حقه ويسمع منه، ويجعل للغائب وكيلا إن لم يكن له وكيل يدفع عنه، ويقضي للطالب وعليه كمثل الغريم، وكمثل القضاء على غائب في الأموال وغيرها.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى تحصيل القول فيها في رسم سن، من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادة شيء من ذلك. وقول أصبغ: إذا حكم على الغائب البعيد الغيبة في الأصول يقيم له وكيلا هو مذهب ابن الماجشون، وعلى أصله في أن الغائب إذا حكم عليه لا

(9/286)


ترجى له حجة؛ لأنه قد أعذر إلى الوكيل الذي أقيم له، فكان ذلك كالإعذار إليه، خلاف ما ذهب إليه ابن القاسم أنه لا يقام له وكيل، ويكون على حجته، وكذلك على مذهبه يقيم للغائب المحكوم عليه في غير الأصول وكيلا يعذر إليه، فلا تكون له حجة إذا قدم، وقول ابن القاسم أظهر؛ لأن الوكيل المقدم له قد يجهل وجوه منافعه، فيكون الضرر الداخل عليه بانقطاع حجته إذا قدم أكثر من انتفاعه بالدفع عنه، وبالله التوفيق.

[: القاضي يشهد على قضاء قضائه وهو معزول أو غير معزول أتقبل شهادته]
ومن كتاب القضاء المحض قال أصبغ: وقال لي ابن القاسم في القاضي يشهد على قضاء قضائه وهو معزول أو غير معزول، أو يرفعه إلى إمام غيره: إن شهادته لا تقبل، ولا يجوز ذلك القضاء إلا بشهيدين عليه، غيره أنه قد قضى به، وقاله أصبغ.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة وقعت في بعض الروايات، وهي مسألة صحيحة، وفيها معنى خفي، وهو أن قول القاضي وهو على قضائه: حكمت لفلان بكذا لا يصدق إذا كان يعني الشهادة. قوله مثل أن يتخاصم الرجلان عند القاضي فيكون من حجته أن يقول: قد حكم لي قاضي بلد كذا وكذا بكذا وكذا، فيسأله البينة على ذلك، فيذهب إليه فيأتيه من عنده بكتابه: إني قد حكمت لفلان على فلان بكذا وكذا، أو أنه قد ثبت عندي لفلان على فلان كذا وكذا، فلا يجوز هذا، من أجل أنه على هذا الوجه شاهد. ولو أتى الرجل ابتداء إلى القاضي، فقال له: خاطب لي قاضي بلد كذا بما ثبت لي عندك على فلان، أو بما حكمت لي به عليه، فخاطبه بذلك؛ لجاز من أجل أنه مخبر، وليس بشاهد، كما يجوز قوله، وينفذ فيما يسجل له على نفسه ويشهد من الأحكام ما دام على قضائه.

(9/287)


وقد روى لابن الماجشون ومطرف وأصبغ في الأقضية من الواضحة ما يعارض رواية أصبغ هذه، وقد ذكرنا ذلك في أول سماع ابن القاسم، فلا وجه لإعادته، وبالله التوفيق.

[مسألة: المخالطة التي يستوجب بها المدعي على المدعى عليه اليمين ما هي]
مسألة قال أصبغ: سمعت ابن القاسم، وسئل عن المخالطة التي يستوجب بها المدعي على المدعى عليه اليمين ما هي؟ قال: يسالفه فيبيعه ويشتري منه، فقيل: أرأيت إن ادعى عليه وجاء شهود يشهدون أنه باع منه أمس، واشترى منه سلعة بمائة دينار، فقبض هذا المائة وهذا السلعة وتفاصلا؟ قال: لا أرى هذا مخالطة، إلا أن يكون قد باعه مرة ومرة ومرارا، فأرى هذا مخالطة، وإن كانا يتقابضان في ذلك كله الثمن والسلعة، ويتفاصلان قبل أن يتفرقا، فإن شهد عليه بذلك فأراها مخالطة، وقاله أصبغ، قال: وكل ما خالطه فثبت بتاريخ قديم يمكن المعاملات بينهما، ليس بعدهما، وإن لم تتصل وانقطعت فهي عندي مخالطة، ويستحلف بها بالله إن شاء الله، وسئل عنها سحنون فقال مثله، قال سحنون: ولا تكون المخالطة إلا في البيع والاشتراء بين الرجلين، ولو ادعى أهل السوق بعضهم على بعض لم تكن مخالطة حتى يقع البيع بينهم، قيل: فمثل أهل منزلك ومسجدك يجتمعون فيه للصلوات والأنس والحديث، فادعى بعضهم على بعض؟ قال: لا تكون هذه مخالطة إلا بمثل ما وصفت لك.

(9/288)


قال القاضي: مذهب مالك وكافة أصحابه: أن اليمين لا يحكم بها للمدعي على المدعى عليه بمجرد الدعوى دون خلطة، على ما جاء عن عمر بن عبد العزيز - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - من أنه لم يكن يحلف من ادعى على رجل دعوى، إلا أن تكون بينهما مخالطة وملابسة، وهو قول جماعة من علماء المدينة. روي عن القاسم بن محمد منهم أنه قال: إذا ادعى الرجل الفاجر على الرجل الصالح شيئا يعلم الناس فيه أنه كاذب، ولا يعلم أنه كان بينهما أخذ ولا عطاء لم يستحلف، فلم يحملوا قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «البينة على من ادعى، واليمين على من أنكر» على عمومه، في أن كل من ادعى على أحد دعوى وجبت له عليه اليمين، وخصصوا من ذلك من لم تكن له خلطة، فلم يشبه قوله وغلب على الظن كذبه، كما خصصوا من ذلك يمين الزوج والسيد في دعوى الطلاق والعتق.
وقد قال إسماعيل القاضي: إن معنى قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «البينة على من ادعى، واليمين على المدعى عليه» أنه لا يقبل قول المدعي فيما يدعيه مع يمينه، وأن المدعى عليه يقبل قوله مع يمينه، وإن لم تقم عليه بينة، لا أنه أراد بذلك العموم في كل من ادعى عليه دعوى أنه يجب عليه اليمين، فلا يجب اليمين على مذهب مالك وكافة أصحابه بمجرد الدعوى دون خلطة إلا في خمسة؛ الغريب في البلد يدعي أنه أودع الرجل الفاضل من أهل البلد وديعة؛ لأن الغريب يعمد إلى من بلغه عنه خير، فيودعه

(9/289)


وإن لم يعرفه قبل، والمسافر يدعي أنه قد أودع أحدا من أهل رفقته؛ إذ قد يفزع في سفره إلى من لم يخالطه، فيستودعه لأمر يخافه من آفات السفر، والرجل يدعي على الصانع الذي قد نصب نفسه للعمل أنه دفع إليه متاعا يصنعه، والرجل الغريب، أو من أهل البلد يدعي على أحد من أهل الأسواق الذين قد نصبوا أنفسهم للبيع والشراء أنه عامله باع منه أو اشترى.
روي ذلك عن سحنون، وهو دليل قوله في هذه الرواية، ولو ادعى أهل الأسواق بعضهم على بعض، لم تكن مخالطة حتى يقع البيع بينهم؛ لأن في ذلك ما يدل على أن دعوى غير أهل الأسواق على أهل الأسواق، خلاف دعوى أهل الأسواق بعضهم على بعض؛ لأن أهل الحوانيت والأسواق إنما نصبوا أنفسهم للبيع والشراء من غير أهل الأسواق، لا من أهل الأسواق، والرجل يذكر في مرضه الذي مات منه أن له دينا على رجل، ويوصي أن يتقاضى منه، فإن لورثته أن يحلفوه إن أنكر دون خلطة؛ إذ لا يعرفون من يشهد لهم بها.
روي ذلك عن مالك، ومثله في سماع عيسى، من كتاب المديان والتفليس، وقال في هذه الرواية: إن المبايعة الواحدة ليست بخلطة توجب اليمين حتى يبايعه مرة ومرة ومرارا، وفي بعض الكتب مرة ومرة ومرَّة، وهو صواب الكلام، وفي رسم الصبرة من سماع يحيى، من كتاب الشهادات ما ظاهره أن المعاملة الواحدة خلطة توجب اليمين، خلاف هذه الرواية. وقيل: إن رواية يحيى تفسير لهذه، فيكون المعنى فيها أنها قد تضاف إلى معاملة قبلها، فيصير بذلك خلطة.
قال محمد بن رشد: ولا أقول: إنها مخالفة لها، ولا مفسرة لها، وإنما أقول: إنها مسألة أخرى؛ لأنه تكلم في هذه الرواية على أنهما تقابضا وتناجزا، وتكلم في سماع يحيى على المبايعة بالدين، والمبايعة الواحدة لا توجب الخلطة إذا كانت بالنقد والتناجز على ما هاهنا، وتوجبها إذا كانت

(9/290)


المبايعة بالدين على ما في سماع يحيى، وإنما الخلاف عندي إذا كانت المبايعة الواحدة بالنقد، فلم يقع النقد ولا حصل التناجز، ففي الشهادات من المدونة: أنها ليست بخلطة، وفي كتاب ابن المواز: أنها خلطة، إلا أنه لم يوجب اليمين إذا لم يثبت ما قاله الغائب.
وقوله: وجاء بشهود يشهدون، الظاهر منه أن الخلطة لا توجب اليمين حتى يثبت بما يثبت به الحقوق من شاهدين أو شاهد وامرأتين، ومثله في نوازل سحنون من كتاب الشهادات، وفي المبسوطة لابن كنانة، وابن القاسم أن شهادة الشاهد الواحد بها توجب اليمين. وقال في سماع حسين بن عاصم، من كتاب الشهادات في بعض الروايات: إن شهادة شاهد واحد وامرأة واحدة بالخلطة توجب اليمين، وقد قيل: إنها توجب باليمين مع الشاهد.
وقد روي ذلك عن ابن نافع، وابن كنانة، وإذا ثبتت الخلطة، فلا يرتفع حكمها بانقطاعها على قول سحنون في هذه الرواية، وفي أحكام ابن زياد عن أصبغ وسحنون: أن اليمين لا تجب إلا بخلطة متصلة، وفي المبسوطة لابن نافع أنه قال: لا أدري ما الخلطة، ولا أراها، ولا أقول بها، وأرى الأيمان واجبة للمسلمين عامة بعضهم على بعض؛ لحديث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «البينة على من ادعى، واليمين على من أنكره» .
وذهب الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما، والثوري، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور؛ إلى أن اليمين واجبة بمجرد الدعوى في جميع الدعاوي من الأموال وغيرها، وحجتهم حديث ابن عباس: «لو يعطى ناس بدعواهم؛ لادعى قوم دماء قوم وأموالهم، ولكن البينة على من ادعى، واليمين على من أنكر» ؛ لأنهم تعلقوا بظاهره، فحملوه على عمومه، ولا حجة لهم

(9/291)


على مالك في تعلقهم بعموم الحديث؛ إذ لا بد لهم من أن يخصصوه في بعض المواضع بالمعنى الذي خصصه به مالك حيث خصصه، وذلك في مثل أن تريد المرأة أن تحلف زوجها في يوم واحد مرارا أنه ما طلقها، وإذا كان ذلك على عمومه كذلك، فلم تبق لهم حجة إلا مجرد قولهم بأن نظرهم أصح من نظره، وهذا ينعكس عليهم، فلا يجدون عن الخروج عنه محيصا، وبالله التوفيق.

[مسألة: الملد من الخصوم يعاقب]
مسألة وقال أصبغ في الملد من الخصوم، وأخبر بمحضرنا عن أبي الطاهر بن حزم القاضي أنه علقه على رجل واحد، فقيل لأشهب: أترى ذلك؟ فقال: أما الملد الظالم فنعم.
قال القاضي: هذا كما قال؛ لأن إلداد أحد الخصمين بصاحبه إضرار به، وواجب على الإمام أن يمنع من ذلك، ويعاقب عليه بما يؤديه اجتهاده إليه، وقد تقدم مثل هذا في رسم تأخير صلاة العشاء، من سماع ابن القاسم، وبالله التوفيق.

[مسألة: الرجل يحضر ببينة أيوقعها له القاضي بغير محضر الخصم]
مسألة وسئل عن الرجل يحضر ببينة أيوقعها له القاضي بغير محضر الخصم؟ فقال: ما أرى بذلك بأسا، قيل له: فإن أتى بعد ذلك الخصم، فقال للقاضي: اعرض علي شهادتهم، فإن كان فيها ما يضرني دفعته. فقال: أرى ذلك له. فقيل له: بغير محضر صاحبه؟ فقال: ما أبالي حضر أو لم يحضر، قال أصبغ: مثله، وهذا محض القضاء.

(9/292)


قال القاضي: هذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه؛ لأن من حق المشهود عليه أن يعرض عليه ما شهد به عليه، ويعذر إليه فيه، ولا حق للمشهود له في أن يكون ذلك بحضرته، كما أنه لا حق للمشهود عليه في أن يشهد الشهود عليه بحضرته، والله الموفق لا شريك له، اللهم عونك.

[: تخاصم النصرانيان إلى الأسقف فأبى الحكم وردهما لحكم المسلمين]
من مسائل نوازل سئل عنها سحنون قال سحنون: إذا تخاصم النصرانيان إلى الأسقف، فأبى الأسقف أن يحكم بينهما، وردهما إلى حكم المسلمين؛ فإنه من الجور عليهما، إذا كان النصرانيان لا يريدان أن يحكم بينهما حكم المسلمين، فلا يكون ذلك للأسقف، ولا ينبغي لحاكم المسلمين أن يحكم بينهما، وإن رضي النصرانيان جميعا أن يحكم بينهما حكم المسلمين، وأبى الأسقف أن يردهما إلى حكم المسلمين لم يكن ذلك له، وكان للنصرانيين أن يحكم بينهما حكم المسلمين، ولا يحكم بينهما الأسقف.
قال محمد بن رشد: لا اختلاف في أنه لا يجوز لحكم المسلمين أن يحكم بينهما برضا الأسقف إذا أبياهما من ذلك أو أحدهما، وأما إذا رضي النصرانيان أن يحكم بينهما حكم المسلمين، وأبى الأسقف، فقول سحنون: أنه لا يلتفت إلى إباية الأسقف، ولحكم المسلمين أن يحكم بينهما إذا رضيا وإن كره أسقفهما، وروى عيسى، عن ابن القاسم في رسم العارية من كتاب السلطان أنه لا يحكم بينهما إلا برضا منهما ومن أساقفتهما، وذلك يحمل على التفسير لما في المدونة؛ لأن تفسير قوله بقوله أولى

(9/293)


من تفسيره بقول سحنون، وهذا في البيوع والطلاق والعتق والحدود.
وأما فيما يتظالمون به، فلا اختلاف بين أحد من أهل العلم في أنه يجب عليه أن يحكم بينهم فيه، وإن لم يتحاكموا إليه، ولا رضوا بحكمه، وقد ذهب بعض أهل العراق إلى أنه يجب عليه أن يحكم بينهم إذا جاءوه ورضوا بحكمه، ومنهم من قال: إنه يجب عليه أن يحكم عليهم في الحدود شاءوا أو أبوا، وإن لم يحكموه ولا رضوا بحكمه.
ففي الحدود التي يجب على الإمام أن يحكم فيها على المسلمين وإن لم يترافعوا إليه فثلاثة أقوال؛ أحدها: أنه يجب عليه أن يحكم عليهم فيها، وإن لم يحكموه. والثاني: أن ذلك لا يجب عليه إلا أن يحكموه. والثالث وهو مذهب مالك: أن ذلك لا يجب عليه وإن حكموه.
وفي البيوع والنكاح والمعاملات وما أشبه ذلك، مما لا يجب على الإمام أن يحكم فيه على المسلمين إلا أن يترافعوا إليه قولان؛ أحدهما: أنه يجب عليه أن يحكم بينهم فيما إذا ترافعوا إليه ورضوا بحكمه. والثاني وهو مذهب مالك: أن ذلك ليس عليه بواجب، وله أن يحكم؛ لقول الله عز وجل: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ} [المائدة: 42] الآية وأما ما يتظالمون به، فلا خلاف بين أحد من المسلمين في أنه يجب عليه أن يحكم عليهم فيه، ويمنع من التظالم بينهم، شاءوا أو أبوا. وقد مضى في رسم لم يدرك، من سماع عيسى، من كتاب التجارة إلى أرض الحرب في هذه المسألة زيادة بيان، وبالله التوفيق، وهذه المسألة وقعت في بعض الروايات في أول نوازل سحنون هذه.

(9/294)


[مسألة: قامت المرأة طالبة النفقة على مال زوجها فيحكم لها بالنفقة وهو غائب]
مسألة قال سحنون: من الحجة على أهل العراق في القضاء على الغائب أن يقال لهم: أرأيت إذا قامت المرأة طالبة النفقة على مال زوجها، فمن قولهم: إنه يحكم لها بالنفقة وهو غائب، ومن الحجة عليهم أن الغائب لو وكل وكيلا على بيع ماله، فأقام الوكيل على وكالة الغائب إياه البينة، أيكون له البيع؟ فمن قولهم: أن نعم، فإذا أمكن الوكيل من البيع والتقاضي، فقد أجازوا الحكم على الغائب.
قال محمد بن رشد: أهل العراق لا يرون أن يحكم على الغائب، لا في الأصول، ولا في العروض، وسحنون يذهب إلى أنه يحكم عليه في جميع ذلك، وحجته على أهل العراق ما ذكره، ومالك يرى أن يحكم عليه في العروض، ولا يحكم عليه في الأصول، إلا أن تكون الغيبة بعيدة منقطعة، وقد مضى تحصيل القول في هذه المسألة، في رسم سن، من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته، ومضى أيضا في رسم الكراء والأقضية، من سماع أصبغ، طرف من التكلم عليها، وبالله التوفيق.

[مسألة: الرجل إذا أوجب نفقة أبوية أواجب عليه أن يضحي عنهما]
مسألة قلت: فالرجل إذا أوجب نفقة أبوية، أواجب عليه أن يضحي عنهما؟ قال: لا، وليس عليه أن يضحي عن امرأته، وذلك قول مالك.

(9/295)


قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه؛ لأن الضحية ليست من النفقة التي تجب عليه لأبويه إذا ألزم نفقتهما ولا لزوجته، وإنما هي سنة لا ينبغي له تركها، فإن أدخل زوجته في ضحيته أجزأها، وإلا كان عليها أن تضحي عن نفسها من مالها، وفي سماع ابن القاسم من كتاب طلاق السنة أن السلطان لا يكره أحدا على أن يحجم أباه، ولا على أن ينكحه، وقد مضى القول على ذلك هناك مستوفى، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.

[مسألة: القاضي يشهد عند ابنه أو ولد ولده على رجل]
مسألة قال سحنون في القاضي يشهد عند ابنه أو ولد ولده على رجل: لا أرى أن تجوز شهادته، إلا أن يكون الولد أو ولد الولد مبرز العدالة، بين الفضل، لا يشك فيه، فحينئذ أرى أن تجوز شهادته.
قال محمد بن رشد: شهادة الأب عند ابنه، أو الابن عند أبيه، وشهادة كل واحد منهما على شهادة صاحبه، وشهادة كل واحد منهما على حكم صاحبه، وشهادة كل واحد منهما مع شهادة صاحبه، هذه الأربعة مسائل الحكم فيها كلها سواء، والاختلاف فيها كلها واحد. قيل: إن ذلك جائز، وهو قول سحنون؛ لأنه أجاز في نوازله من كتاب الشهادات شهادة الأب على قضاء ابنه بعد عزله، وأجاز هنا شهادته عنده، إلا أنه شرط أن يكون مبرزا في العدالة، وذلك ينبغي أن يحمل على التفسير؛ لقوله في سائر المسائل المذكورة، فكذلك يجوز على مذهبه شهادته على شهادته،

(9/296)


وشهادته مع شهادته إذا كان مبرزا في العدالة، وهو قول مطرف؛ لأنه أجاز في الواضحة شهادة كل واحد منهما مع شهادة صاحبه، وشهادته على قضائه بعد عزله، وشهادته على شهادته، فكذلك شهادته عنده، لا فرق بين ذلك. وقيل: إن ذلك لا يجوز، وهو قول أصبغ؛ لأنه لم يجز في نوازله من كتاب الشهادات شهادة واحد منهما على شهادة صاحبه، وذلك الذي يأتي على مذهبه في سائر المسائل المذكورة، وفرق ابن الماجشون بين شهادة كل واحد منهما مع صاحبه، وشهادته على شهادته، وبين شهادته على حكمه بعد عزله، فأجاز شهادته مع شهادته، ولم يتهم الآخر منهما على أنه إنما أراد إتمام شهادة ابنه وأبيه وتحقيقهما، وشهادته على شهادته، ولم يتهمه على أنه إنما أراد إحياء شهادته، ولم يجز شهادته على حكمه بعد عزله، وذلك تناقض من قوله.
وأما تعديل واحد منهما لصاحبه، فلا يجوز عند واحد من أصحاب مالك فيما علمت، إلا ابن الماجشون فإنه قال: إذا لم يكن التعديل نزعه، وليس له قام، وإنما الذي نزعه وقام به أحيا شهادته، فلا بأس أن يصفه بالذي تتم به شهادته من عدالته، وفيه بعد، والله أعلم.

[مسألة: القوم يكونون في المنزل فيحجر الرجل على حق له وأرض يغرسها]
مسألة وسألته عن القوم يكونون في المنزل، فيحجر الرجل على حق له، وأرض يغرسها، وقد كان أهل المنزل يسلكون طريقا فينهاهم وغيرهم، فقاموا عليه فقالوا: قطعت طريقنا فأنكر أن يكون طريقا لهم لازمة، فتنازعوا إلى الحكم، فأتى الذين زعموا أنها طريق لهم ببينة، فشهدوا أنهم يعرفونها طريقا يسلكها الناس منذ عشرين سنة، ويأتي الذي في أرضه الطريق ببينة، فشهدوا أنها طريق محدثة بلا حق، فأي البينتين أحق أن يقبل؟ قال

(9/297)


سحنون: هذا كثير ما يكون بين المنازل، ويختصر الناس في الأراضي، وربما قطعها الحرث حتى ربما كانت القرية تؤتى من غير طريق، وربما تساهل الناس في أرضهم لاستبعادهم عن ذلك، فإذا ثبت أن هذه الطريق من تلك الأرض، فليست بلازمة لصاحب الأرض، إلا أن تكون الطريق الحاملة التي تركت من غير وجه، ويطول ذلك ويقطع مدة كونه الزرع في اتساعها، وطول زمانها الخمسين والستين سنة. فأما الطريق المختصرة فليست بحجة على صاحبها، إذا ثبت ذلك كما ذكرت لك.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة المعنى، لا أعرف ما يخالفها، ولا ما يعارضها، وبالله التوفيق.

[مسألة: يكون له الداران على فيريد رفع غرفة على جداري داريه]
مسألة قال سحنون في الذي يكون له الداران عن يمين الطريق ويساره، فيريد أن يرفع على السكة غرفة، أو يتخذ عليها مجلسا على جداري داريه، فقال: ذلك له، وهذا ما لا يمنع منه أحد أن يتخذه، إنما يمنع من الإضرار في التضييق في السكة إذا أدخل عليها ما أضر بها أو يضيقها، فأما ما لا ضرر فيه على السكة، ولا على أحد من المسلمين فلا يمنع.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: إن ذلك له، ولا يمنع منه؛ إذ لا ضرر في ذلك على الطريق، ولا على المارين فيه إذا رفع البناء رفعا يتجاوز رءوس المارة فيه من الركبان، ونحو هذا في الزاهي لابن شعبان،

(9/298)


قال: والأجنحة الشارعة ترفع عن رءوس الركبان رفعا بينا، وإذا اختلف البانيان المتقابلان في الفحص فيما يجعل للطريق أو تشاحا، فأراد كل واحد منهما أن يقرب جداره من جدار صاحبه جعلا الطريق سبع أذرع بالذراع المعروفة بذراع البنيان، فإن شاكل واحد منهما فيما يبني ميزابا على الطريق للمطر لم يمنع، وبالله التوفيق.

[مسألة: الذين يعتقون على الرجل إذا ملكهم هم أهل الفرائض في كتاب الله]
مسألة قال سحنون: الذين يعتقون على الرجل إذا ملكهم هم أهل الفرائض في كتاب الله هم: ولده، وولد ولده من قبل الرجال والنساء، والدراية يلزمه في ولده، وولد ولده، والتغليظ يلزمه في ولده وولد ولده من الرجال والنساء، ولا ينعقد نكاحه في كل ملك هو لهم، وينعقد نكاحهم في ملك هو له، ولا يكون لهم دراية في ماله، ولا يلزمهم تغليظ فيما فعلوا، وحالهم في هذا حال الأجنبي، ولا تجوز شهادته لمن ذكرت من ولده وولد ولده من قبل الرجال والنساء ولا شهادتهم له، وكذلك إذا كان قاضيا، ووقف موقف الشهادة.
قال محمد بن رشد: قوله الذين يعتقون على الرجل إذا ملكهم هم أهل الفرائض في كتاب الله: ولده وولد ولده من قبل الرجال والنساء، كلام غير محصل ولا صحيح؛ لأن قوله الذين: يعتقون عليه إذا ملكهم ولده وولد ولده من قبل الرجال والنساء يقتضي أنه لا يعتق عليه سواهم، ولا اختلاف عند الجميع في أنه يعتق عليه أبواه، ولا في مذهب مالك في أنه يعتق عليه جميع إخوته، فهو كلام خرج على غير تحصيل.
وقوله في ولده

(9/299)


وولد ولده من قبل الرجال والنساء: إنهم أهل الفرائض في كتاب الله تعالى غير صحيح؛ لأن أولاد البنات لا يرثون عند الجميع؛ فليسوا من أهل الفرائض في كتاب الله، وقد وقع هذا اللفظ في المدونة؛ أعني قوله: وهم أهل الفرائض في كتاب الله، إلا أنه ذكره فيها بعد أن ذكر الإخوة فيصح قوله فيها، وهم أهل الفرائض في كتاب الله تعالى بإعادته إلى الآخر أقرب المذكرين إليه دون من سواهم ممن ذكر معهم ممن لا يرث، فكلام سحنون هذا، إنما يصح بإسقاط الذين، وإسقاط هم أهل الفرائض في كتاب الله، ويكون الوجه فيه على ما وقع أنه قاله بعد أن ذكر الآباء والأجداد والإخوة وهم أهل الفرائض، فأراد أن الذين يعتقون على الرجل سوى هؤلاء المذكورين ولده وولد ولده من الرجال والنساء.
وقوله: إنه يعتق عليه ولده وولد ولده من قبل الرجال والنساء، هو ظاهر ما في المدونة، ونص ما في سماع أشهب، من كتاب العتق، وكذلك يعتق عليه أجداده وجداته كلهم من قبل الأم، ومن قبل الأب على ما في المدونة والواضحة وغيرهما، وما في سماع أبي زيد من كتاب الولاء أنه يعتق عليه الجدات الأربع، وقوله: والدراية يلزمه في ولده وولد ولده، معناه أنه يدرأ عنه الحد إن وطئ أمة واحد منهم بالشبهة؛ لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أنت ومالك لأبيك» ، وقوله: والتغليظ يلزمه في ولده وولد ولده من الرجال والنساء؛ يريد أنه يغلظ عليه الدية في جنايته عليهم عمدا، قيل في ماله، وقيل على العاقلة، ويدرأ عنه القصاص إلا أن يعمد إلى ذلك، مثل أن يضجعه فيذبحه، أو يأخذ منه سكينا فيقطع يده، وما أشبه ذلك، وهو مذهب ابن الماجشون.
ووقف ابن القاسم في الجد للأم، ورآه أشهب كالأجنبي في وجوب القصاص منه، فعلى قياس قوله: لا يعتق عليه، وينعقد نكاحه في ملكه، والله أعلم.

(9/300)


[مسألة: القاضي يثبت عنده الحق للرجل فيريد أن يسجل له كتابا بما ثبت عنده]
مسألة قال سحنون في القاضي يثبت عنده الحق للرجل، فيريد أن يسجل له كتابا بما ثبت عنده بمحضر خروج الإمام غازيا، فيأمر القاضي بأن لا ينظر لأحد إلى انصرافه، فيكون من رأى القاضي الإشهاد والتسجيل لصاحب الحق، فيفعل بعد تقدم الإمام إليه، أذلك له جائز؟ أم لا ترى حكمه ماضيا؟ قال: نعم، أراه لازما ماضيا.
قال القاضي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هذا بين على ما قال؛ لأنه لم يعزله، وإنما نهاه عن الحكم، والتسجيل ليس بحكم، فله أن يسجل بما قد تقدم حكمه قبل أن يأمره بالتوقف عن الحكم، وفي الواضحة أن الإمام إذا أمر القاضي أن يدع الحكم في أمر قد شرع فيه عنده، فله أن يدع ذلك إن لم يتبين له حق أحدهما، وإن تبين له حق أحدهما، فلا يدع ذلك إلا أن يعزل، وهو قول سحنون، هذا وبالله التوفيق.

[مسألة: القاضي يأتيه رجلان بكتاب مكتوب مختوم فيه شهادتهما]
مسألة وسألته عن القاضي يأتيه رجلان بكتاب مكتوب مختوم فيه شهادتهما، فيجد في داخله أن فلان ابن فلان أوصى إلى هذين الرجلين الذين أتياه بالكتاب بما كان له من مال أو غير ذلك، أترى للقاضي أن يجيز شهادتهما، ويقرهما على الوصية أم كيف الأمر فيه؟ قال سحنون: أرى أن يقول لهما القاضي أتقبلان الوصية؟ فإن قالا: نعم، لم تقبل شهادتهما، وإن قالا: لا، نقبلها، أمضى شهادتهما في الوصية، ووكل القاضي عليهما من رآه أهلا.

(9/301)


قال محمد بن رشد: قول سحنون هذا صحيح بين على قياس القول بأنه لا تجوز شهادة الرجل أن الميت أوصى إليه بالنظر في تنفيذ وصيته، وهو المنصوص عليه في المدونة. قال فيها: لا تجوز شهادة الموصى إليه، وإن كان طالب المال غيره. وقال فيها أيضا: إن شهادة الشاهدين لا تجوز بأن الميت أوصى لابنه، وإذا لم تجز شهادتهما بأنه أوصى لابنه فشهادتهما بأنه أوصى إليه أحرى ألا تجوز، وقد قيل: إن شهادتهما بذلك جائزة، وهو دليل قوله في المدونة في الذي شهد أن الميت أوصى لقوم بوصايا، وأوصى للشاهد. قال ابن القاسم: فسمعت مالكا يقول: إن كان الذي شهد به لنفسه تافها يسيرا لا يتهم عليه، فشهادته جائزة، فأجاز شهادته إن كان الذي شهد به لنفسه يسيرا مع أنه أوصى إليه، فعلى هذا تجوز شهادتهما في الوصية قبلاها أو لم يقبلاها، فإن قبلاها نظرا فيها، وإن لم يقبلاها وكل القاضي عليها من رآه أهلا لها، والله الموفق لا رب غيره، تم الكتاب الثاني من الأقضية، بحمد الله.

(9/302)