البيان
والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة
كتاب السلطان
(9/303)
من سماع ابن
القاسم من مالك من كتاب الرطب باليابس
قال سحنون : اخبرني ابن القاسم قال : سمعت
مالكا ، قال : لا أرى للرجل أن يبيع في السوق
الذي يجلب إليه الطعام أن يبيع بدون بيع الناس
، قال سحنون يريد ما يباع من صنف سلعته في
جودتها مما قد جرس سعره ، وقام على شيء ، وليس
الردئ من هذا في شيء أن يبيع الجيد بسعر الردئ
، ليس ذلك عليه ولكن ذلك بمثله .
قال محمد بن رشد : قوله إنه لا يجوز للرجل أن
يبيع الطعام في السوق بدون بيع الناس ، معناه
بدون بيع الناس في المثمون لا في الثمن ، وذلك
مثل أن يكون الناس يبيعون مثل ذلك الطعام
أربعة بدرهم ، فلا يجوزله هو أن يبيع ثلاثة
بدرهم ، وقد بين ذلك في رسم باع شاه من سماع
ابن القاسم وهو بين أيضا من تفسير سحنون .
قوله يريد ما يباع من صنف سلعته في جودتها
وليس عليه أن يبيع الجيد بسعر الردئ ، يقول
إنه إذا كان الناس يبيعون أربعة بدرهم وكان
طعامه هو أجود من طعامهم فليس عليه أن يبيع
طعامه الجيد بما يبيعون به طعامهم الردئ ،
وكذلك قال ابن
(9/305)
حبيب إنما ذالك
إذا استوى الطعام أوتقارب ، وأما إن اختلف
فزاد صاحب الجيد على صاحب الردئ الدرهم
والدارهمين في المدي فلا يمنع من ذلك ،
وتحديده الدرهم والدرهمين في المدي فيما بين
الجيد والردئ إنما هو على ما يعرف بالأندلس من
أنه ليس بين قمحها من الاختلاف مثل ما
بأقريقية ، ولا مثل ما بمكة حيث يجتمع
والمحمولة قاله الفضل وهو صحيح ، وإذا كان
الردئ (كان الاختلاف ) بزيادة اليسير الواحد
والإثنين والثلاثة ونحو ذلك أقر الأكثر على ما
يبيعون (فيضم الأقل إليهم حتى يونوا كثيراً )
فإن كانوا كثيراً قيل للباقين وإن كانوا أكثر
منهم : إما أن تبيعوا ما يبيع هولاء ، وإما أن
ترفعوا من السوق ، فلا يرد الكثير إلى القليل
، ويرد إلى الكثير القليل ، والكثير إذا كان
الكل قليلاً ،فالأقل منهم تبع للأكثر إذا كان
الأكثر يبيعون أرخص ، وإن كان الأكثر هم الذين
يبعون أغللى ، ترك كل واحد منهم على ما يبيع ،
وقد ذهب بعض الناس تاويلاً على رواية ابن
القاسم هذه وما كان مثلها أن الواحد والاثنين
من أهل السوق ليس لهم أن يبيعوا بأرخص مما
يبيع أهل السوق ، لأنه ضرر بهم . وممن ذهب إلى
ذلك أبو محمد عبد الوهاب بن نصر البغدادي ،
وهو غلط ظاهر ، إذ لا يلام أحد على المسامحة
[في البيع ] والحطيطة فيه ، بل يشكر على ذلك
إن فعله لوجوه الناس ، ويؤجر الله وبالله
التوفيق .
مسألة
وسئل مالك عمن حلف ليجلدن امرأته خمسين سوطاً
، قال لو استشارني السلطان لأمرته أن يمنعه من
ضربها ، ولأمرته أن يطلقها ، ولا آمره أن
يجلدها أجعلها به .
(9/306)
قال محمد بن
رشد : المعنى في هذه المسألة أن يمينه كانت
بطلاق امرأته ليجلدنها سوطاً فألزمه الطلاق
الذي حلف به ، ولم يمكنه من البر بضربها خمسين
سوطاً ، وكذلك حكى ابن حبيب في الواضحة أن من
حلف بطلاق أمرأته ليضربنها أكثر من عشرة أسواط
مثل الثلاثين أو نحوها أن السلطان يطلقها عليه
إذا كان ذلك لغير شيء تستوجبه ، وإن لم يرفع
ذلك إليه حتى فعل بر ، وعوقب بالزجر والسجن
ولم تطلق عليه إلا أن يكون بها من الضرر آثار
كثير مشتهر بمثلها من الحرائر ، فتطلق عليه
للضرر إذا تبين ذلك وتفاحش ، ولو حلف بطلاقها
ليضربنها العشرة الأسواط ونحوها يريد ويصدق في
أنها قد صنعت ما تستوجب به ذلك الآدب ، لا أنه
يكون له ذلك دون سبب ، وكذلك من حلف بحرية عبد
ليضربنه ضرباً يسيراً دون شيء أذنبه لم يمكن
من ذلك ، وقد قال ابن أبي زيد : إنه يمكن من
ذلك ، وهو بعيد ، فلا يصح أن يقال ذلك في
الحرة والله أعلم . وقوله : أجعلها به معناه ،
أجعل به الطلاق الذي حلف به وألزمه إياه ،
وكذلك لو كانت يمينه بطلاق امرأة له أخرى ، أو
بعتق عبده أو ما أشبه ذلك مما يقضى به عليه
لجعل السلطان ذلك به وحنثه ولم يمكنه من البر
بضرب خمسين سوطاً ، إلا أن يثبت عليها أنها
فعلت ما تستوجب به ذل ولو كانت يمينه على ذلك
بالله أو بصيام أو بمشي أو صدقة أو ما أشبه
ذلك ، مما لا يقضى به عليه إذا حنث فأبت
المرأة من المقام معه ، مخافة أن يضربها ليسقط
عن نفسه بضربها ما حلف به من الصيام أو المش
أو الصدقة أو الكفارة لوجب أن يكون ذلك لها من
أجل أنه لا يؤمن على غيبها ، وأن يطلقها عليه
السلطان طلقة بائنة كالخلع ، وقد وقع في بعض
الكتب ولأمرته أن يطلقها ( ولا آمره أن يجلدها
) أخلعها به ، وهو يتأول على هذا إذ لم يذكر
في المسألة يمينه ما هي وبالله التوفيق .
(9/307)
مسألة
قال وسمعته قال : أكره أن يعطي الرجل الحجام
شعر رأسه لأنه يجعلون منه القصص .
قال محمد بن رشد : يريد أنهم يصنعون منها
القصص المنهى عنها في حديث معاوية إذ خطب
الناس بالمدينة فتناول قصة من شعر كانت بيد
حرسي فقال : يا أهل المدينة أين علماؤكم ؟
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم " ينهى عن
مثل هذه ، وقال : إنما هلكت بنو إسرائيل حين
اتخذ هذه نساؤهم " وهي تشبه الجمة تضعها
المرأة التي لا شعر لها على رأسها ترى أنه
شعرها ، وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم
" الواصلة والمستوصلة " (وهذا من ) ذلك المعنى
. فإذا كان الحجام يأخذ منه الشعر ليصنع ذلك
منه فلا ينبغي أن يترك ذلك له ، كما قال مالك
، لأنه فعل ما نهى النبي عليه السلام عن فعله
وذلك ما لا يحل ولا يجوز ، قال تعالى : {
وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على
الاثم والعدوان } .
ومن كتاب أوله حلف ألا يبيع رجلاً سلعة سماها
وسئل عن البدوي يقدم فيسأل الحاضر عن السعر
أترى أن يخبره ؟ قال : يكره ذلك ، قيل : أفترى
أن يشري له ؟ قال : لا بأس بذلك ، إنما يكره
أن يبيع له ، فأما الاشتراء له فلا بأس .
قال محمد بن رشد : لم يختلف أهل العلم جميعهم
في أن المعنى
(9/308)
عن نهي النهي
عليه السلام عن أن يبيع حاضر لباد إنما هو
إرادة نفع أهل الحاضرة ليصيبوا من أهل البادية
بجهلهم بالأسعار ، وقد جاء هذا مفسراً في بعض
الآثار أنه قال : " لا يبع حاضر لباد ، دعو
الناس يرزق الله بعضهم من بعض " . فإذا كان
المعنى في أنه لا يجوز أن يبيع الحاضر للبادي
إنما هو ليصيب أهل الحاضرة غرة أهل البادية
لجهلهم بالأسواق وجب أن لا يجوز أن يخبروا
بالأسعار لما في ذلك من الضرر بأهل الحاضرة في
قطع المرفق الذي جعله رسول الله صلى الله عليه
وسلم لهم في الاصابة منهم ، لأنهم إذا لم
يعلموا السعر لعلهم أن يرضوا بالبيع بأقل من
القيمة ، وهذا ما لا اختلاف فيه أعلمه في مذهب
مالك ، وذهب الأوزعي إلى أنه لا بأس أن يخبره
بالسعر وإن لم يجز أن يبيع له ، وأما أبو
حنيفة وأصحابه فذهبوا إلى أجازة بيع الحاضر
للبادي ، وقالوا : قد عارض النهي عن ذلك قوله
صلى الله عليه وسلم " الدين النصيحة لكل مسلم
" وهذا لا يلزم ، لأن الخاص يقضي على العام ،
فقول النبي عليه السلام : " لا يبع حاضر لباد
" يخصص عموم قوله : " الدين النصيحة " ويبينه
ولا يعارضه ، وأجاز مالك رحمه الله أن يشتري
له لأن النهي إنما ورد في البيع له ، فلم يقس
عليه الشراء . ومنه من ذلك ابن الماجشون
قياساً على البيع ، وإياه اختار ابن حبيب قال
: لأن العرب تقول بعت في معنى اشتريت
قال : طرفة " ويأتيك بالأنباء من لم تبع له
لتاتا . يعني من لم تشتر له زاداً .
وقال الخطيئة : وبعت لذبيان العلاء بما لك .
يقول اشتريت الشرف لقومك بما لك ، قال مع أنه
قد روى أيضاً " لا يشتر حاضر لباد " وقول مالك
أولى لأن الصحيح في الحديث لا يبع حاضر
(9/309)
لباد ، والسنة
إذا عارضها أصل وجب أن تستعمل في موضعها ولا
يقاس عليها . واختلف قول مالك في أهل البادية
الذين لا يجوز للحضري أن يبيع لهم على ثلاثة
أقوال : احدها أنهم أهل العمود خاصة دون أهل
القرى المسكونة التي لا يفارقها أهلها ، وهي
رواية أبي قرة موسى بن طارق عنه ، والثاني
أنهم أهل العمود وأهل القرى دون أهل المدن .
والثالث أنه لا يجوز للحاضر أن يبيع للجالب
وإن كان من أهل المدن و الحواضر ، فرأى على
هذا القول أن المعنى في النهي إنما هو على أن
يبيع الحاضر للباد ، ولأن قوله لا يبع حاضر
لباد إنما خرج على الأعم في أن أهل البادية هم
الذين يجلبون إلى الحاضرة ، وهذان القولان في
رسم تأخير صلاة العشاء بعد هذا ، واختلف أيضاً
في حكم بيع الحاضر للبادي إذا وقع ، وسيأتي
القول فيه في رسم يوصي من سماع عيسى إن شاء
الله وبالله التوفيق .
مسألة
قال مالك سألني صاحب السوق عن رجل فجر في
السوق يريد جعل في مكياله زفتا فأمر به أن
يخرجه منه ولا يتركه فيه ، وذلك أشد عليه من
الضرب .
قال محمد بن رشد : قوله : وذلك أشد عليه من
الضرب ، يريد أن ذلك أردع لهم ، لأن أهل
الفجور والغش قلما ينكلهم الضرب ، وظاهر قوله
: أنه يخرج من السوق أدباً له ، وإن لم يكن
معتاداً للغش خلاف ما حكى ابن حبيب عن مطرف
وابن الماجشون أن من غش في أسواق المسلمين
يعاقب بالسجن والضرب وبالإخراج من السوق إن
كان معتاداً للغش ولا يرجع إلى السوق حتى تظهر
توبته وتعرف . وقول ابن حبيب : إن المعاد للغش
، يريد الذي قد أدب عليه فلم يردعه الأدب عنه
وعاد إليه
(9/310)
يخرج من السوق
ولا يرجع إليه حتى تظهر توبته وتعرف ، صحيح إذ
لم يخرج من السوق أدباً له ، وإنما أخرج لقطع
ضرره عن الناس إذ قد أدب فلم ينفع فيه الأدب ،
وأما إذا أخرج عنه أدباً له من غير أن يكون
معتاداً للغش على ظاهر قول مالك هذا ، فلا
يمتنع أن يرد إليه بعد مدة يرجى أن يكون قد
تأدب بها ، وإن لم تظهر منه توبة . قال بعض
أهل النظر : وإنما يؤدب الغاش بالإخراج من
السوق إذا كان لا يمكن أن يرجع إليه دون أن
يعرف ، وأما إذا كان يمكن أن يرجع إليه ولا
يعرف ذلك لا تساع السوق فإنه يؤدب بالضرب
والأصل في إخراج المعاد بالغش عن السوق ما جاء
من أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إلى
أمير الأجناد ألا يتركوا النصارى بأعمالهم في
أسواق المسلمين جزارين ولا صرافيين ، لأنه
يخشى من المتعاد للغش أن يغش المسلمين بما ظهر
من استباحته له ، كما يخشى من النصراني أن
يربي مع المسلمين بما يعلم من استحلاله له ،
وقد قال سحنون قياساً على قول عمر بن الخطاب :
إنه يمنع من السوق من لا يبصر [ البيع ] من
المسلمين حياطة له وللمسلمين ، فالذي يغش
المسلمين وقد اعتاد ذلك وأدب عليه فلم يردعه
الأدب أحق بذلك وأولى وبالله التوفيق .
مسألة
قال مالك : أشرت على قاض منذ دهر أن ينهى
الناس أن يتزوجوا على الشروط ، وألا يتزوجوا
إلا على دين الرجل وأمانته، وأنه كان كتب بذلك
كتاباً وصيح به في الأسواق وعابها عيباً
شديداً .
قال محمد بن رشد : يريد الشروط بيمين كطلاق
الداخلة ،
(9/311)
وعتق السرية ،
وما أشبه ذلك ، فهذه الشروط هي التي يكرهها
مالك ، فإذا وقع النكاح عليها مضى ولم يفسخ
قبل الدخول ولا بعده ، ولزم الشرط . ووجه
الكراهة في ذلك أن المرأة قد حطت من صداقها
بسبب الشروط ، ولا يدرى هل يفعل ذلك الزوج أم
لا ؟ فأشبه ذلك الصداق الفاسد ، وقد روي عن
سحنون لهذه العلة أنه نكاح فاسد يفسخ قبل
الدخول ويثبت بعده ، ويكون فيه الصداق المسمى
. وللخروج من هذا الاختلاف يعقد الناس هذه
الشروط في صدقاتهم على الطوع ، وذلك إذا وقع
الشرط في أصل النكاح على تسمية الصداق ، وأما
إذا أنكحها نكاح تفويض على الشرط فلا اختلاف
في أن النكاح لا يفسخ ، وأما الشروط التي ليست
مقيدة بيمين فهي كلها غير لازمة ، ومنها ما لا
يفسد به النكاح ، ومنها ما يفسد به فيفسخ قبل
وبعد ، ومنها ما يفسد به فيفسخ قبل و لا يفسخ
بعد ، ومنها ما يختلف في فساد النكاح بها ،
ومنها ما يختلف في الفسخ فيه ، هل يكون قبل
وبعد ، أو إنما يفسخ قبل ويقر بعد ، وليس هذا
موضع ذكرها ، إذ قد مضت في مواضعها من كتاب
النكاح . ومن الشروط المقيدة بتمليك ما يختلف
في فساد النكاح بها اختلافاً كثيراً وهي التي
تتزوج على أنه إن لم يأت بصداقها إلى أجل كذا
وكذا فأمرها بيدها ، أو على إن رأت منه ما
تكره فأمرها بيدها ، وقد مضى القول على ذلك في
سماع ابن القاسم من كتاب النكاح في أول رسم
منه وفي رسم المحرم يتخذ الخرقة لفرجه ، فلا
معنى لذكر شيء من ذلك هنا وبالله التوفيق .
مسألة
وسئل عن التبن يجعل تحت القمح عندما يخزن ،
فقال : لا
(9/312)
بأس بذلك ،
وليس هذا مثل الذي يغشون به ، وقد أخبرت أن
أصحاب السفن يعملون ذلك عندما يحملون ، ولم أر
بذلك بأساً .
قال محمد بن رشد : [ هذا كما قال : إنه لا بأس
به ] لأنه إنما يفعل للاصلاح ، لا للغش
والفساد ، ومثله ما في سماع أشهب بعد هذا من
طرح الماء في اللبن لاستخراج زبده ، ومن طرح
الماء في العصير ليتعجل به تحليله ، ومضى مثله
أيضاً من قول مالك في رسم إن خرجت من سماع
عيسى من كتاب جامع البيوع وبالله التوفيق .
مسألة
وسئل مالك عن صاحب السوق يريد أن يسعر على
الناس السوق ، فيقول لهم إما بعتم بكذا وكذا
بسعر يسميه لهم وإما قمتم ، قال : لا خير في
هذا . قيل له : إنه يأتي الرجل يكون طعامه ليس
بالجيد ، وقد بدل سعراً فيقول لغيره : إما
بعتم مثله وإما رفعتهم ، قال : لا خير في ذلك
، ولكن لو أن رجلاً أراد بذلك فساد السوق فحط
عن سعر الناس لرأيت أن يقال له : إما لحقت
بسعر الناس وإلا رفعت ، فأما أن يقول للناس
كلهم فليس ذلك بالصواب ، وذكر حديث عمر بن عبد
العزيز في أهل إيلة حين حط سعرهم لمنع البحر
أن كتب في ذلك أن خل بينهم وبين ذلك ، فإنما
السعر بيد الله .
قال محمد بن رشد : [ هذا كما قال : إنه لا بأس
به ] أما الجلاب فلا اختلاف في أنه لا يسعر
عليهم شيء مما جلبوه للبيع ، وإنما يقال لمن
(9/313)
شذ منهم فحط من
السعر أو باع بأغلى مما يبيع به عامتهم : إما
أن تبيع بما يبيع به العامة وإما أن ترفع من
السوق ، كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه
بحاطب بن أبي بلتعة إذ مر به وهو يبيع زبيباً
له في السوق ، فقال له : إما أن تزيد في السعر
، وإما أن ترفع من سوقنا ، لأنه كان يبيع
بادرهم أقل مما كان يبيع به أهل السوق ، وأما
أهل الحوانيت والأسواق الذين يشترون من الجلاب
وغيرهم جملا ويبيعون ذلك على أيديهم مقطعاً
مثل اللحم والإدم والفواكه ، فقيل : إنهم
كالجلاب لا يسعر عليهم شيء من بياعتهم وإنما
يقال لمن شذ منهم وخرج عن الجمهور : إما أن
تبيع كما يبع الناس وإما أن ترفع من السوق ،
وهو قول مالك في هذه الرواية في رسم باع شاة
من سماع عيسى . وممن روي ذلك عنه من السلف عبد
الله بن عمر ، وقيل : إنهم في هذا بخلاف
الجلاب لا يتركون على البيع اختيارهم إذا غلوا
على الناس ولم يقنعوا من الربح بما يشبه ، وإن
على صاحب السوق الموكل على مصلحته أن يعرف بما
يشترون ، فيجعل لهم من الربح ما يشبه وينهاهم
أن يزيدوا على ذلك ، ويتفقد السوق أبداً ،
فيمنعهم من الزيادة على الربح الذي جعل لهم
كيف ما تقلب السعر من زيادة أو نقصان ، فمن
خالف أمره عاقبه بما يراه من الأدب وبالإخراج
من السوق إن كان معتاداً لذلك مستسراً به ،
وهو قول مالك في رسم البيوع الأول من سماع
أشهب ، وإليه ذهب ابن حبيب ، وقاله من السلف
جماعة منهم : سعيد بن المسيب ، ويحيى بن سعيد
، وهو مذهب الليث ، وربيعة ابن أبي عبد الرحمن
، ولا يجوز عند أحد من العلماء أن يقول لهم :
لا تبيعوا إلا بكذا وكذا ربحتم أو خسرتم من
غير أن ينظر إلى ما يشترون به ، ولا أن يقول
لهم فيما قد اشتروه لا تبيعوه إلا بكذا وكذا
مما هو مثل الثمن الذي اشتروه به أو أقل ،
وإذا ضرب لهم الربح على قدر ما يشترون به ،
(9/314)
مثل أن يقول
لهم تربحون في المدى كذا وكذا ، فلا يتركهم أن
يغلوا في الشراء وإن لم يزيدوا في الربح ، إذا
قد يفعلون ذلك ويتساهلون فيه إذ لا ينتقصهم
بذلك من ربحهم شيئاً ، وإذا علم ذلك منهم ضرب
لهم الربح على ما يعلم من مبلغ السعر ، وقال
لهم : لا سبيل لكم أن تبيعوا إلا بكذا وكذا ،
فلا تشتروا إلا على هذا ، وهو قول مالك في رسم
البيوع الأول من سماع أشهب : ليس بأيديكم شيء
تعتلون به اشتروا على ثلث رطل يسعره عليكم من
الضأن ، وعلى نصف رطل يسعره عليكم من الإبل ،
لأن ذلك إنما يجوز له أن يفعله إذا علم أنهم
يتساهلون في الشراء ويزيدون على القيمة
ويقولون له : لا حجة لك علينا إذ لا نربح أكثر
مما سميت لنا ، فهذا تأويل الرواية والله أعلم
.
مسألة
وسئل عن خمر تعمل من القز ثم يبل لها الخبز
فيرش عليها لتشتد وتصفق . قال لا خير في هذا ،
هذا غش ولا يعجبني .
قال محمد بن رشد : هذا بين على ما قاله ، إن
ذلك من الغش ، لأن المشتري يظن أن شدتها إنما
هو من ذاتها وصفاقة نسجها ، فإن علم المشتري
أنها مرشوشة بماء الخبز ، وأن ذلك يشدها
ويصفقها لم يكن له كلام ، وإن لم يعلم أنها
مرشوشة بذلك كان بالخيار بين أن يمسك أو يرد ،
فإن فاتت ردت إلى القيمة إن كانت القيمة أقل
من الثمن ، وكذلك إن علم أنها مرشوشة بذلك ولم
يعلم أن ذلك يشدها ويصفقها . وسيأتي في رسم
البيوع الأول من سماع أشهب نحو هذا ، وهذا على
ما قاله ابن حبيب من أن ما يصنعه حاكة الديباج
من تصميغها غش ، لأنه وإن كان التصميغ لا يخفى
على المشتري فقد يخفى عليه قدر ما أحدث فيه من
الشدة
(9/315)
والتصفيق ، وقد
قال في الفراء يترب وجوه الفراء ليحسنها ويغيب
ما فيها من العيوب أن المشتري إن علم بتتريبها
فليس له ردها إلا أن يجد بها عيباً . وقاله
ابن القاسم في رسم الجواب من سماع عيسى من
كتاب العيوب ، لأنه رأى تأثير التتريب غير خاف
على من علم التتريب بخلاف التصميغ والله أعلم
، ومما يشبه هذا ما قاله ابن حبيب أن من الغش
ما يفعل النعال من تغليظهم حواشيها قبل أن
تحذا ليواروا بذلك رقتها ويزيدوا في تحسينها .
قال : وعلى الإمام العادل تأديب من فعله ،
وللمشتري أن يرد ما اشترى منها قبل حذوها وبعد
حذوها والله الموفق ز
مسألة
وسئل عن الرجل يبيع نصف الوصيفة أو نصف الدابة
من الرجل ويشترط عليه نفقتها سنة ، وأن له
عليه إن ماتت الدابة أخذ ذلك منه ، أو باعهما
أو ماتتا فذلك له عليه ثابت ، وإن بقيت إلى
ذلك فهو حقه استوفاه منه ، قال لا باس بذلك .
أنكرها سحنون .
قال محمد بن رشد : وقعت هذه المسألة متكررة في
هذا الرسم من هذا السماع من كتاب جامع البيوع
، ومضى القول عليها هناك مستوفى فلا وجه
لإعادته وبالله التوفيق .
ومن كتاب أوله شك في طوافه
وسئل مالك عن النفر من التجار يخرجون إلى
الريف فيشترون أغناما فياتون بها قريباً من
الفسطاط على قدر الميل ونحوه ، فيجعلونها في
مراعي ترعى فيه ويشتد عليهم دخولها
(9/316)
الفساد ويكون
ذلك أرفق بهم ، فيدخل الرجل المدينة فيدعو
رجلاً منهم يأمنه فيبيعه إياها ثم يدخل
المشتري لها قليلاً قليلاً فيبيعها هو ، قال :
إني أخاف أن يكون من التلقي ، وعندنا رجال
يفعلونه ببلدنا . قلت له أفتكرها ؟ قال : نعم
، أكره أن يعمل به وأراه من تلقي السلع .
قال محمد بن رشد : هذا كما قال إن ذلك من تلقي
السلع ، لأن المعنى في النهي عن تلقي السلع
عند مالك ، إنما أريد به نفع أهل الحاضرة ،
كما أريد بالنهي عن أن يبيع حاضر لباد نفع أهل
الحاغضرة بأن يكون البادي والجالب هو المتولي
البيع في السوق على ما هو عليه من الجهل
بالسوق ، فيشتري أهل الحاضرة منه في السوق بما
يرضى به من قليل الثمن وكثيره ، فإذا باع
الغنم الجالب لها من رجل من أهل الحاضرة قبل
أن يصل إلى السوق فكان هو الذي يقوم به
ويبيعها على معرفة فقد قطع عن أهل الحاضرة
الحق الذي جعله رسول الله صلى الله عليه وسلم
لهم في ذلك والله الموفق .
مسألة
وسئل عن العبد يشكو العزبة فيسأل سيده أن
يبيعه لذلك ويقول قد وجدت موضعا ، قال : ليس
ذلك على سيده ، ولو جاز ذلك لقال ذلك الخدم .
قال محمد بن رشد : هذا كما قال أنه ليس على
الرجل واجباً أن يبيع عبده ممن يزوجه إذا سأله
ذلك وشكا العزبة ، وإنما يرغب في ذلك ويندب
إليه ، وليس امتناعه منه من الضرر الذي يجب به
بيعه عليه ، كما ليس عليه أن يزوجه واجباً إذا
سأله ذلك ، لأن قول الله تعالى : { وأنكحوا
الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإيمائكم }
(9/317)
ليس على الوجوب
إنما هو أمر بالإنكاح على سبيل الحض والترغيب
، وإنما يباع عليه إذا تبين ضرره به في تجويعه
وتعريته وتكليفه من العمل مالا يطيق ، وضربه
في غير حق ، إذا تكرر ذلك منه أو كان شديداً
منهكاً . وسيأتي هذا المعنى في رسم حلف ليرفعن
أمراً ، ورسم صلى نهاراً وفي سماع أصبغ عن
أشهب ، وهذا ما لا أعلم فيه اختلافاً والله
أعلم .
مسألة
وسئل مالك عن الرجل يكتب ذكر الحق في المسجد ،
قال : أما ما كان خفيفاً فلا بأس به ، وأما
الشيء يطول فلا أحبه .
قال محمد بن رشد : هذا كما قال ، لأن المساجد
إنما وضعت لذكر الله والصلاة ، قال الله عز
وجل : { في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها
اسمه يسبح له فيها بالغدو والاصال رجال لا
تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله } فواجب أن
ترفع وتنزه عن أن تتخذ لغير ما وضعت له ، وقد
اتخذ عمر بن الخطاب رضي الله عنه رحبة بناحية
المسجد ، فقال من كان يريد أن يلغط أو ينشد
شعراً أو يرفع صوته فليخرج إلى هذا الرحبة ،
وكان عطاء إذا مر به بعض من يبيع في المسجد
دعاه فسأله ما معه ، وما يريد ، فإذا أخبره
أنه يريد أن يبيعه ، قال : عليك بسوق الدنيا ،
فإنما هذا سوق الآخرة وبالله التوفيق .
مسألة
وسئل مالك عن الرجل يشتري الزعفران فيجده
مغشوشاً
(9/318)
أترى أن يرده ؟
قال : نعم ، أرى أن يرده ، وليس عن هذا سألني
صاحب السوق ، إنما سألني أنه أراد أن يحرق
المغشوش بالنار لما فيه من الغش فنهيته عن ذلك
. وسئل مالك عما يغش من اللبن ، أترى أن يراق
؟ قال : لا ، ولكن أرى أن يتصدق به على
المساكين من غير ثمن إذا كان هو الذي غشه .
قيل له : فالزعفران أو المسك أتراه مثله ؟ قال
: ما أشبهه بذلك إذا كان هو الذي غشه فأراه
مثل اللبن . وسئل ابن القاسم عن هذا ، فقال :
أما الشيء الخفيف من ذلك فلا أرى به بأساً ،
وأما وسئل ابن القاسم عن هذا ، فقال : أما
الشيء الخفيف من ذلك فلا أرى به بأساً ، وأما
إذا كثر ثمنه فلا أرى ذلك ، وأرى على صاحبه
العقوبة ، لأنه يذهب في ذلك أموال عظام .
قال محمد بن رشد : لم ير مالك أن يحرق
الزعفران المغشوش ، ولا أن يراق اللبن المغشوش
بالماء على الذي غشه ، قال في رسم الأقضية
الثاني من سماع أشهب : وأرى أن يضرب من أنهب
أو انتهب ، و أرى أن يتصدق بذلك على المساكين
أدباً له ، سواء على مذهبه كان ذلك يسيراً أو
كثيراً ، لأنه ساوى في ذلك بين الزعفران
واللبن والمسك ، والمسك قليله كثير ، وخالفه
ابن القاسم ، فلم ير أن يتصدق من ذلك إلا بما
كان يسيراً وذلك إذا كان هو الذي غشه، وأما من
وجد عنده من ذلك شيء مغشوش لم يغشه هو وإنما
اشتراه أو وهب له أو ورثه فلا اختلاف في أنه
لا يتصدق بشيء من ذلك ، والواجب أن يباع ممن
يؤمن أن يبيعه من غيره مدلساً بذلك ، وكذلك ما
وجب أن يتصدق به من المسك والزعفران على الذي
غشه ، يباع ممن يؤمن أن يغش به ويتصدق بالثمن
أدباً للغاش الذي غشه . وقول ابن القاسم في
أنه لا يتصدق من ذلك على الغاش إلا بالشيء
اليسير أحسن من قول مالك ، لأن الصدقة بذلك من
العقوبات في الأموال ،
(9/319)
والعقوبات في
الأموال أمر كان في أول الإسلام ، من ذلك ما
روى عن النبي عليه السلام في مانع الزكاة "
إنما آخذها منه وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا
" وما روى عنه في " حريسة الجبل أن فيها غرامة
مثليها وجلدات نكال " وما روي عنه من " أن من
أخذ بصيد في حرم المدينة شيئاً فلمن أخذه سلبه
" ومن مثل هذا كثير ، ثم نسخ ذلك كله بالإجماع
على أن ذلك لا يجب ، وعادت العقوبات في
الأبدان ، فكان قول ابن القاسم أولى بالصواب
استحساناً ، والقياس أن لا يتصدق من ذل بقليل
ولا كثير ، وبالله التوفيق .
مسألة
وسئل عن أصحاب القلانس يجعلون مع القطن صوفا
يخلطونه به أو يجعلونه من تحته ، قال : لا خير
في هذا ، وأراه من الغش ، فقيل له : فالقطن
الخلق مع الجديد ، قال : لا خير فيه ، قيل له
: فإن أهل الحار يقدمون علينا بالقمح مغلوثاً
، يريد الكثير التبن فيؤمرون بغربلته قبل أن
يبيعوه ، قال : هو من الحق ، قال : وأرى أن
يؤخذ الناس به .
قال محمد بن رشد : أما خلط الصوف مع القطن ،
أو القطن الخلق مع الجديد ، أو جعله من تحته
في القلانس أو غيرها فلا إشكال في أن ذلك من
الغش الذي لا يحل ولا يجوز ، ولو اشترى رجل
قلنسوة فوجد
(9/320)
حشوها صوفاً
لان له أن يردها ، وكذلك لو وجد حشوها قطناً
بالياً إلا أن تكون من القلانس التي العرف
فيها أنها لا تحشى إلا بالقطن البالي فلا يكون
له أن يردها على قياس ما قال في أول رسم من
سماع أشهب من كتاب العيوب في الذي يشتري
القلنسوة السوداء فيجدها من ثوب ملبوس ، وقد
مضى القول على ذلك هناك ، وأما غربلة القمح من
التبن والغلث عند البيع فذلك واجب إن كان
التبن والغلث فيه كثير ، يقع في أكثر من الثلث
، لأن بيعه على ما هو عليه من الغرر ، ويستحب
إن كان التبن والغلث فيه يسيراً وبالله
التوفيق .
مسألة
وسئل مالك عن أجنة النخيل والأعناب التي تكون
حوالى الفسطاط ، فيخرج التجار إليها فيشترونها
ويحملونها في السفن فيبيعونها في الفسطاط ،
قال : لا بأس بذلك .
قال محمد بن رشد : قول مالك هذا خلاف قوله في
رواية أشهب عنه في أول سماعه بعد هذا ، مثل
قول أشهب فيه من رأيه ، ولكلا القولين وجه :
فوجه قول مالك هذا اتباع ظواهر الآثار في أنها
إنما وردت في تلقي الجلب قبل وصوله ، ووجه قول
أشهب مراعاة معنى الآثار في ان المعنى فيها
نفع أهل الحاضرة بأن يتولى الجالب إليها بيع
ما يجلب فيبيع بما يرضى به من قليل الثمن
وكثيره ، على سعر الحاضرة أو جهله وبالله
التوفيق .
(9/321)
مسألة
وسئل مالك عن الطحانين يشترون الطعام فيغلون
بذلك أسعار الناس ، قال : أرى أن كل ما أضر
بالناس في أسعارهم أن يمنعه الناس ، فإن أضر
ذلك بالناس منعوا منه .
قال محمد بن رشد : في شراء الطحانين الطعام
جملة من الجلاب وبيعه على أيديهم دقيقاً رفق
بعامة الناس لمشتقة الطحين عليهم إذا اشتروا
القمح ، فإن كان ذلك يغلي عليهم الأسعار ،
فالواجب أن ينظر السلطان في ذلك ، فإن كان لا
يفي المرفق الذي للعامة في ذلك بما يغليه من
أسعارهم منع من ذلك ، وإن كان يفي به أو يزيد
عليه فيما يراه باجتهاده لم يمنع من ذلك ،
وأما شراء أهل الحوانيت الدقيق من الجلاب
وبيعه على أيديهم من الناس ، وشراء الطعام
وبيعه على أيديهم غير مطحون فلا وجه من الرفق
في ذلك لعامة الناس ، فينبغي أن يمنع من ذلك
إذا كان فيه تغلية للأسعار ، ويباح إذا لم يضر
ذلك بالأسعار على مذهب من يجيز فيه الاحتكار ،
وهو مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك ، وعليه
يأتي إباحة ذلك في رسم يسلف بعد هذا ، وقد قال
ابن حبيب : إنه يمنع من ذلك في كل ما لا يجوز
احتكاره من الطعام ، وقد مضى تحصيل الاختلاف
فيما يجوز احتكاره من الطعام مما لا يجوز في
رسم البيوع الأول من سماع أشهب من كتاب جامع
البيوع وبالله التوفيق .
ومن كتاب أوله الشجرة تطعم بطنين في السنة
وسئل مالك عن الحزم للأنباط أترى أن يلزموا
ذلك ؟ قال : إني أحب لهم الذلة والصغار ، فقال
:قد كانوا يلزمون ذلك فيما مضى . قيل له :
أفيكنون ؟ قال : إني لأكره أن نرفع بهم ، وقد
كان قبل ذلك يرخص فيه . قال ابن القاسم : وأنا
أرجو أن
(9/322)
يكون خفيفاً .
وحدثني مالك عن هشام بن حكيم بن حزام مثل ما
حدثني به أول ، قال كما عمر بن الخطاب إذا سئل
الأمر الذي لا ينبغي يقول : أما ما بقيت أنا
وهشام فلا يكون ذلك ، وقال هشام لبعض أمراء
الشام وقد رأى نبطياً قد أقيموا في الشمس
لخراجهم ، فقال لهم : أشهد لسمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الله ليعذب في
الآخرة الذين يعذبون الناس في الدنيا " . وكان
هشام قد تبتل وترك نكاح النساء ، وكان في حاله
شبيهاً بالسياحة ، لا أهل له ولا مال .
قال محمد بن رشد : ما رأى مالك من أن يلزم
الأنباط الحزم صحيح لوجهين : أحدهما ما ذكره
من استحباب الذلة والصغار لهم لقوله عز وجل :
{ قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم
الآخر إلى قوله حتى يعطوا الجزية عن يد وهم
صاغرون } والثاني أن يعرفوا بذلك من المسلمين
حتى لا يبدأوا بالسلام ، لنهي النبي عليه
السلام عن ذلك ، على ما جاء من أنه صلى الله
عليه وسلم قا ل: " إنا راكبون غداً إن شاء
الله إلى يهود فلا تبدأوهم بالسلام ، وإذا
سلموا عليكم فقولوا وعليكم " وروي عنه صلى
الله عليه وسلم أنه قال : " لا تبدأوا اليهود
والنصاري بالسلام ، وإذا لقيتموهم في طريق
فاضطرهم إلى أضيقها " وقال إبراهيم النخعي ،
لا بأس إذا كانت لك حاجة إلى النصراني الكحال
فأتيته أن تبدأه بالسلام ، قال عبد
(9/323)
الملك : هي
رخصة عند الاضطرار ، وكذلك ينبغي في سائر أهل
الذمة من اليهود والنصارى أن يلزم النصارى
منهم الحزم ، واليهود علامة يعرفون بنها،
إذلالا لهم وصغاراً وحذراً للمسلمين من أن
يظنوهم من المسلمين فيبدأوهم بالسلام . روي عن
عمر بن الخطاب أنه كتب إلى أمراء الأجناد
يأمرهم أن يمختموا في رقاب أهل الجزية بالرصاص
، ويظهروا مناطقهم ، ويجزوا نواصيهم ويركبوا
على الآكاف عرضاً ، ولا يد عونهم يشبهون
المسلمين في لباسهم ، وكراهيته لتكنيتهم صحيح
أيضاً ، لأن تكنيتهم إكرام لهم ، وترفيع بنهم
، وذلك خلاف ما يستحب من إذلالهم وإصغارهم
لمحادتهم الله ورسوله ، قال تعالى : { لا تجد
قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من
حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم
أو إخوانهم أو عشيرتهم } وترخيصه قبل ذلك في
ذلك قريب من كراهيته لذلك ، لأن الترخيص إنما
يكون في المكروه لا في المباح ، وكذلك قول ابن
القاسم : وأنا أرجو أن يكون خفيفاً هذا نحو
قول مالك من أجل أن المكروه لا إثم في فعله ،
ويؤجر تاركه على تركه ، ولا حجة لأحد في إباحة
ذلك دون كراهة لقول النبي صلى الله عليه وسلم
لصفوان بن أمية : " انزل أبا وهب " . لأنه
إنما قال له ذلك استئلافاً له رجاء إسلامه ،
وكذلك قوله للذي كان يقبل عليه بحديثه من
عظماء المشركين إذ دخل عبد الله بن أم مكتوم :
يا أبا فلان هل ترى بما ألو باساً ؟ لأنه إنما
أقبل عليه بحديثه وكناه رجاء إسلامه وإسلام من
وراءه بإسلامه ، وإنما تكون تكنية الكافر
مباحة إذا لم يقصد بذلك ترفيعه ، وكانت الكنية
كالاسم الذي يعرف به ، وقد قال الله في كتابه
: { تبت يدا أبي لهب } ز فذكره بكنيته ولم يكن
ذلك ثناء من الله عليه بذلك ولا ترفيعاً له ،
بل مقته بذلك وأوعده بما أوعده به وبالله
التوفيق .
(9/324)
مسألة
وسئل عن الأدب للناس في حلفهم بالطلاق ، فقال
: لقد سألني زياد عن الذي سألتني عنه ، فقلت
له : إنه الناس عن ذلك ، فقال لي : إنهم لن
ينتهوا غلا أن أضربهم ، فقلت له : فافعل
اضربهم .
قال محمد بن رشد : الأدب في ذلك واجب لوجهين :
أحدهما ما ثبت من قول النبي عليه السلام : "
من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت " . وما
روي عنه أنه قال : " لا تحلفوا بالطلاق
والعتاق ، فإنهما من أيمان الفساق " . ذكر ذلك
ابن حبيب في الواضحة . والثاني أنه من اعتاد
الحلف به لم يكد يخلص من الحنث به فتكون زوجته
تحته مطلقة من حيث لا يشعر ، وقد قال مطرف
وابن الماجشون : إن من لزم ذلك واعتاد فهو
جرحة فيه ، وإن لم يعرف حنثه ، وقيل لمالك :
إن هشام بن عبد الملك . كتب أن يضرب في ذلك
عشرة أسواط ، فقال : أحسن إذ أمر فيه بالضرب ،
وروي أن عمر كتب أن يضرب في ذلك أربعين سوطاً
وبالله التوفيق .
مسألة
قال سحنون : وحدثنا ابن القاسم قال : حدثنا
مالك أن أبا أيوب الأنصاري نزل منزلاً من قرى
الشام وكان فيها مواليه ، وكان ينهى عن الخمر
فمرت به قطار تحمل الخمر ، فقال إليها برمحه
فبعج تلك الزقاق التي فيها الخمر فذهب ما فيها
، فقال صاحب
(9/325)
تلك الأرض يا
أبا أيوب إن هذا يكسر خراجها ، فقال أبو أيوب
لن أسكنها وخرج عنها .
قال محمد بن رشد : كان القطار التي مرت بأبي
أيوب لأهل ذمة تلك القرية والله أعلم ، وإنما
بعجها لإظهارهم الخمر في قرية يسكنها المسلمون
معهم { وهذا هو الواجب ألا يباح لأهل الذمة
إظهار الخمر والخنازير في موضع يسكنها
المسلمون معهم ] إلا أن يكونوا هم الغالبين
عليهم . وإنما معهم من المسلمين الواحد
والاثنان والقليل . وذلك فيما بعد من الحاضرة
على ما يأتي بعد هذا في رسم البيوع الثاني من
سماع أصبغ ، وكذلك لا يباح لهم أن يحملوها من
قرية من قراهم إلى قرية من قراءهم إلا بعد أن
لا يسلكوا بها على شيء من حواضر الإسلام
وقراهم . وما ظهر إلى الإمام من خمرهم فعليه
أن يهرقها ويضرب حاملها ، كان منهم أو من
غيرهم ، وإن خرج منهم رجل سكران في جماعة
المسلمين كان عليه أن يضربه على ذلك ، وكذلك
يمنعون من إظهار صليبهم في أعيادهم واستسقائهم
في جماعة المسلمين فإن فعلوا كسرها وضربهم .
قاله ابن حبيب وغيره . وقول صاحب الأرض لأبي
أيوب إن هذا يكسر خراجها ، يقول : إذا فعل هذا
بأهل القرية ضعفوا عن أداء ما لزمهم من الخراج
فأحفظه قوله غضباً لله وحلف ألا يسكنها تنزهاً
عن سكنى موضع تظهر فيه الخمر وتورعاً عن ذلك
رحمة الله عليه ورضوانه .
مسألة
وسئل عن الرجل يبيع البز والطعام والغنم وغير
ذلك من
(9/326)
السلع فإذا كان
ذلاك على مسيرة اليوم واليومين جاءه خبر ذلك
وصفته فيخبر الناس بذلك فيقول له رجل بعينه
أترى ذلك جائزاً ؟ قال : لا أراه جائزاً ،
وأراه من التلقي ، قيل له : فالبز من هذا .
قال : نعم ، البز مثل الطعام ، ولا ينبغي أن
يعمل في أمر واحد بأمرين مختلفين ، وأكره ذلك
، وأراه من تلقي السلع ، ولا أرى أن يباع حتى
يقدم به .
قال محمد بن رشد : المعنى في هذه المسألة
كالمعنى في أول مسألة من رسم شك في طوافه ،
وقد مضى القول عليها هناك فلا معنى لإعادته
وبالله التوفيق .
ومن كتاب أوله حلف ليرفعن أمراً إلى السلطان
وسئل مالك عن نفخ اللحم كما يصنع الجزارون ،
فقال : إنى لأكرهه ، وأرى أن يمنعوا ، وهو
يغير طعمه ، وقال أشهب في كتاب العتق : سمعت
مالكاً يقول : أرى أن يؤدب الجزارون الذين
ينفخون اللحم ، وأرى أن يمنعوا من ذلك .
قال محمد بن رشد : يعني بهذا النفخ ، النفخ
بعد السلخ الذي إنما يفعلونه ليظهر اللحم به
سميناً فيكره لوجهين : أحدهما ما ذكره من أنه
يغير طعم اللحم ، والثاني أنه من الغش المنهي
عنه في البيوع ، قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : " من غشنا فليس منا " ، أي ليس على
هدينا وطريقتنا، ولو اشترى
(9/327)
المشتري اللحم
المنفوخ ولم يعلم أنه منفوخ لكان له أن يرده
من ناحية الغش ، ومن ناحية تغيير رائحته أيضاً
، ورده من جهة الغش أبين . وأما نفخ الذبيحة
قبل السلخ فلا كراهة فيه لأنه يحتاج إليه ،
وفيه صلاح ومنفعة وبالله التوفيق .
مسألة
وسئل مالك عن الدراهم النقص يبتاع الناس بها
في أسواقهم ، أترى أن تغير ؟ فقال : بل أرى أن
تترك ، وأرى في ذلك رفقاً للناس ، حتى أن
الرجل ليأتي بالدرهم الوازن فما يعطى به إلا
شبه ما يعطى بالناقص ، والمرأة تأتي بغزلها
وما أشبهة فأرى أن يتركوا ولا يمنعا وهو مرفق
بالناس .
قال محمد بن رشد : رأى تعيير الدراهم الناقصة
ومنع الناس من التجارة بها تضييقاً على الناس
، لأنهم يتسامحون فيها ، فإن قطعت بارت على
الناس ، فلم ينتفعوا بها ، ولا سومحوا فيها ،
والمسامحة في البيع والشراء محمودة ، قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم : " رحم الله عبداً
سمحاً إن باع سمحاً إن ابتاع سمحاً إن اقتضى
.. " وقوله والمرأة تأتي بغزلها يريد أن
المرأة قد تأتي بغزلها تبيعه وتأخذ الدينار
الناقص لجوازه بجواز الوازن أو قرب ما بينهما
، فإن غيرت النواقص وقطع التجر بها بار عليها
دينارها الناقص الذي أخذته في مغزلها فأضر ذلك
بها فليس للإمام ( أن يمنع ) الناس من أن
يتجروا بالناقص ويأخذوه باختيارهم ، ولا له
(9/328)
أيضاً أن
يلزمهم أن يتجروا به ويأخذوه بغير اختيارهم ،
وذلك بين في رسم يسلف بعد هذا من سماع ابن
القاسم وبالله التوفيق .
مسألة
وقال مالك في عجوز أكلت لحم جاريتها قيل له :
يا أبا عبد الله نيبته ؟ قال : لا ، ولكن
مضغته وأثرت بجلدها – وأشار بيده - أثراً
شديداً فأمرت صاحب السوق أن يبيعها ، ولم ير
في ذلك عتقاً .
قال محمد بن رشد : ولو نيبتها لم تعتق ، قال
ذلك أشهب وسحنون ، ومثله في كتاب ابن المواز
أن المثلة إنما تكون فيما لا ينجبر ، وأما
العضة والتنيب فليس بمثلة تعتق بها ، ولكن
يؤدب السيد ، وكذلك الحرق بالنار لا يكون مثلة
إلا أن يتفاحش منظره ، قاله في المدونة ،
وكذلك حلق رأس الجارية ولحية الغلام ليس بمثلة
، إلا في العبد النبيل التاجر ، والأمة
الرائعة . قاله ابن الماجشون عن مالك في
الواضحة ، وإن كتب في جبهة عبده بنار أو مداد
وإبرة عبد فلان عتق عليه . وقال أشهب لا يعتق
عليه ، ولا اختلاف في أنه يعتق عليه إذا قطع
جارحة من جوارحه أنملة فما فوقها ، إلا الضرس
الواحدة والسن الواحدة ، فإن أصبغ لم ير ذلك
مثلة ، وقال : لا يعتق عليه إلا في رجل
الأسنان وجل الأضراس . وأما بيعها عليه فهو
صحيح ، لأن ما فعلته بها ضرر بين بها ،
فالواجب أن تخرج عن ملك من أضربها ، كما تطلق
المرأة على زوجها إذا أضر بها ولم يؤمن على
غيبها وبالله التوفيق .
(9/329)
ومن كتاب أوله
حديث طلق
وسئل مالك عن رجل له داران وهما في رحبة وأهل
الطريق ربما ارتفقوا بذلك الفناء إذا ضاق
الطريق على الأحمال وما أشبهها ، فدخلوا فيه ،
فأراد أن يجعل عليه نجافاً وباباً حتى تكون
الرحبة له فناء ولم يكن على الرحبة باب ولا
نجاف قال ليس ذلك له .
قال محمد بن رشد : هذا كما قال ، إنه ليس له
ان يجعل على الرحبة نجافاً وباباً ليختص
بمنفعتها ، ويقطع ما للناس من الحق في
الارتفاق بها ، لأن الأفنية لا تتحجر ، إنما
لأربابها الانتفاع بها ، وكراؤها فيما لا
يضيقها على المارة فيه من الناس ، ولا يضر بهم
فيه على ما يأتي في رسم تأخير صلاة العشاء بعد
هذا ، وقد اختلف أن يحجر من الفناء الواسع
الشيء اليسير الذي لا يضر تحجيره بمن يمر في
الطريق ، هل يقر ذلك له أو يهدم عليه على ما
يأتي في سماع زونان وسماع أصبغ بعد هذا وبالله
التوفيق .
مسألة
وسألته عن بيع العهدة أترى أن يحمل عليها أهل
الأمصار ؟
فقال : وددت ذلك ، ولكنهم لا يعبأون بها .
ولقد كان ربيعة يقول : لوددت أن أمير المؤمنين
جمع العلماء فاستشارهم في أمر الأحكام حتى
يكتب لهم كتاباً يجعله في الناس ، يجملهم عليه
كلهم حتى يكون ذلك أمراً واحداً ، وقال مالك
في بيع الجواري
(9/330)
اللائي يراد
بهن الوطء ينبغي للإمام أن يتقدم إلى الناس في
ذلك حتى يحملوا على المواضعة ، وذكر ذلك عند
ما كلمته في بيع أهل منى ، وأهل مصر عند
الخروج إلى الحج في الغرباء الذين يقدمون فداء
أن يحملوا على ذلك على ما أحبوا كرها . وروى
أشهب عن مالك في كتاب الأقضية الثاني ، قال :
سألت مالكاً عن عهدة السنة والثلاث ، أترى أن
يحمل أهل الآفاق على ذلك ؟ فقال : ما أرى ذلك
، وأرى أن يتركوا على حالهم ، وليس في مثل هذا
شيء ، وهذا مثل بيع البراءة عندنا وهم هاهنا
بمكة أقرب إلينا لا يعملون به ، وأرى أن يقروا
، وذلك مثل بيع البراءة عندنا ، قلت له :
أرأيت الجواري ؟ قال ك لا أرى أن يبعن كذلك ،
وأرى فيهن المواضعة في الحيضة بمنى وغيرها .
قال محمد بن رشد : هذه مسألة قد مضى القول
فيها مستوفى في رسم الأقضية الثانيى من سماع
أشهب من كتاب العيوب ، فلا معنى لإعادته
وابلله التوفيق .
مسألة
وسئل مالك عن المرأة تسأل زوجها أن تسلم أخيها
أو أبيها فيمنعها من ذلك ، أترى ذلك له ؟ قال
: لا ليس له أن يمنعها من ذلك ، ما لم تكن
تكثر ، وللأمور التي يريد أن يمنعها
(9/331)
لها وجوه ،
وليس كل النساء سواء ، فأما المرأة المتجالة
فلا أرى ذلك له ، ورب إمرأة لا تؤمن في نفسها
، فأرى ذلك له ، فقيل له : أفتأذن له في ذلك
وإن كره ؟ قال : نعم ، وإن هذا الأمر عندنا
كثير يختصمون فيه ، ولقد استشرت فيه فرأيت أن
يؤذن لهن إلا أ، يكثرن من ذلك ، أو يأتي من
ذلك أمر لا يؤمن فيه ، ولقد جاءني رجل فقال لي
عن امرأة كان لها مال وكانت تعف به على زوجها
، ( ثم إنها قطعت ذلك عنه ) وأراد سفراً وكانت
في دار ليس معها فيها أحد إلا ذو محرم منها .
فقال لها عند خروجه وحرم عليها ألا تخرج من
عتبة بيته فأمرته أن تخرج إليهم ، ورأيت ذلك
ضرراً من فعله .
قال محمد بن رشد : قوله : إنه ليس له أن يمنع
زوجته من الخروج إلى ابيها وأخيها ، وأنه يقضى
عليه بذلك هو مثل ما في رسم الطلاق الثاني من
سماع أشهب من كتاب الأيمان بالطلاق ، خلاف ما
ذهب إليه ابن حبيب من أنه لا يقضى عليه حتى
يمنعها من الخروج إليه ويمنعهم من الدخول
إليها ، فحينئذ يقضى عليه بأحد الوجهين ، كما
أنهلا يحنث إذا حلف تى يحلف على الطرفين فيحنث
في أحدهم ، وهذا الخلاف عندي إنما هو في
الشابة المأمونة ، وأما المتجالة فلا اختلاف
في انه يقضى لها بالخروج إلى زيارة أبيها
وأخيها وأما الشابة غير المأمونة في نفسها فلا
اختلاف في أنه لا يقضى لها بالخروج إلى ذلك
ولا إلى الحج . وروى ذلك ابن عبد الحكم عن
مالك ، والشابة محمولة على
(9/332)
أنها مأمونة
حتى يثبت عليها بأنها غير مأمونة . هذا تحصيل
القول في هذه المسألة على ما تدل عليه هذه
الرواية وغيرها . ويلزم الرجل أن يأذن لامرأته
في أن يدخل عليها ذوات رحمها من النساء ، ولا
يكون ذلك من الرجال إلا في ذي المحرم منهم
خاصة . وقد مضى في أول رسم من سماع أشهب من
كتاب الصلاة تحصيل القول في خروج النساء إلى
الجنائز والمساجد والعيدين ، فلا معنى لإعادته
وبالله التوفيق .
مسألة
قال مالك كان زياد بن عبيد الله يبعث شرطاً في
الأمر يكون بين الناس في المناهل ويجعل لهم في
أمواله . فنهيته عن ذلك وقلت : إنما هذا على
السلطان يرزقهم ، قيل له : فإن صاحب السوق جعل
لمن ولى عليهم شركاً معهم فيما اشتروا . فقال
ما أشرت به ولا أمرته بذلك ، ثم قال : إن هذه
الأمور يخاف فيها ما يخاف ، وفسر فيها تفسيراً
.
قال محمد بن رشد : هذا كما قال : إن الواجب أن
يجعل للشرط المتصرفين بين أيدي القضاء في أمور
الأحكام رزقاً من بيت المال ، لأن ذلك من
المنافع التي تعم المسلمين ، فإن لم يفعل كان
جعل الغلام المتصرف بين الخصمين على الطالب في
إحضار خصمه المطلوب ، إلا أن يلد المطلوب
ويختفي ويغيب تعنيتاً بالطالب فيكون الجعل في
إحضاره عليه ، وأما جعل صاحب السوق لمن ولى
على أهل السوق شركاً معهم فيما اشتروا
فالمكروه فيه بين ، وذلك أنه إذا كان له معهم
شرك فيما اشتروا سامحهم في الفساد لما له فيه
من النصيب وبالله التوفيق .
(9/333)
ومن كتاب أوله
سن رسول الله
وسئل مالك عن الاشتراء من أهل الذمة وهم
يلزمون بالخراج ، فقال : إني لأكره الاشتراء
منهم على هذه الحال وعلى وجه الضعطة ، فأما
إذا لم يكن على هذه الحال فلا أريبه بأساً ،
وقال ابن القاسم : قا مالك في الذي يضغط في
الخراج فيبيع بعض متاعه على وجه الضغطة . قال
ابن القاسم أرى : أن يرد عليه ما باع بغير ثمن
يؤخذ منه إذا كان بيعه إياه على عذاب أو ما
أشبهه من الشدة ، لأن أخذه الذهب على تلك
الحال ليس بأخذ ، ولا أرى لمشتري ذلك أن
يستحله ولا يحبسه .
قال محمد بن رشد : إنما يرد عليهم ما اشتري
منهم على وجه الضغطة إذا كان الذي يطلبون به
ويضغطون فيه ظلماً وتعدياً أو كانوا فقراء لا
يلزمهم ما وجب عليهم حتى يوسروا ، فيبيع عليهم
ما لايلزم بيعه ، كثوب يستتر به وشبهه ، فهذا
يلزم مشتريه رده ، لأنه بيع عليه ظلماً . فأما
أن يباع عليه شيء في حق واجب عليه من جزيته أو
من غير جزيته تحت الضغط والإكراه فلا يرد عليه
وهو سائغ لمن اشتراه منه ، وقد كان ينبغي أن
يترفق بهم في تقاضي ذلك منهم ، وألا يعذبوا ،
وسبيل المضغوط من المسلمين على بيع متاعه في
غير حذ سبيل الذمي في رد ما له عليه بغير ثمن
، بل هو في المسلم أشد ، لأن حرمته أعظم ، قال
ذلك ابن حبيب ، وحكاه عن مالك من رواية ابن
القاسم عنه ، وعن مطرف ، وابن عبد الحكم وأصبغ
، وسواء علم المشتري في ذلك أنه مضغوط أو لم
يعلم ، قال ذلك ابن القاسم عن مالك في
المبسوطة ، وسواء وصل الثمن من المبتاع إلى
المضغوط فدفعه المضغوط إلى الظالم ، أو جهل هل
دفعه إليه أو أدخله في منافعه ، ( أو كان )
الظالم هو الذي تولى قبضه من المبتاع ،
للمضغوط في
(9/334)
ذلك كله أن
يأخذ ماله من المشتري أو ممن اشتراه من
المشتري بغير ثمن ويرجع المشتري من المشتري من
المضغوط على الظالم الضاغط ، إلا أن يعلم أن
البائع أدخل الثمن في منافعه ، ولم يدفعه إلى
الظالم فلا يكون له إلى ذلك سبيل حتى يدفع
الثمن إلى المشتري . قال ذلك كله ابن حبيب في
الواضحة ، وحكاه عن مطرف وابن عبد الحكم وأصبغ
، وذهب سحنون إلى أنه إذا كان المضغوط هو
البائع القابض للثمن فلا سبيل له إلى ما باع
إلا بعد غرم الثمن ، وحكاه عن مالك ، وقال ابن
كنانة : بيعه لازم له , غير مفسوخ عنه ، وهو
أحرى لوجوبه عليه ولزومه إياه ، لأن أنقذه مما
كان فيه من العذاب و السجن . والذي مضى عليه
عم القضاة أنه من تصرف للسلطان في أخذ المال
وإعطائه أنه إذا أضغط فيه فبيعه جائز ، ولا
رجوع له فيه ، وإن كان ممن لم يتصرف في أخذ
المال وإعطائه فلا يشترى منه إذا أضغطه ، فإن
اشترى منه فله القيام وهو صحيح ، لأنه إذا ضغط
فيما خرج عليه من المال الذي تصرف فيه أو تبين
أنه حصل عنده فلم يضغط إلا فيما صار عنده من
أموال المسلمين وذلك حق وبالله التوفيق .
مسألة
قال مالك : أرى للإمام أن يتقدم إلى الصناع في
قعود النساء إليهم ، وأرى ألا تترك المرأة
الشابة تجلس إلى الصناع ، فأما المرأة
المتجالة ، والخادم الدون التي لا تتهم على
القعود ، ولا يتهم من تقعد عنده فإني لا أرى
بذلك بأساً .
(9/335)
قال محمد بن
رشد : وهذا كما قال من أنه يجب على السلطان
تفقد مثل هذا والنظر فيه ، لأنه مسؤول عنه ،
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الإمام
راع وهو مسؤول عن رعيته ، والمرأة راعية في
بيت زوجها وهي مسؤولة عن رعيتها ، والعبد راع
في مال سيده وهو مسؤول عن رعيته . ألا وكلكم
راع وكلكم مسؤول عن رعيته " وقد قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : " ما تركت أضر على
الرجال من النساء " وقال : " باعدوا بين أنفاس
الرجال والنساء ط
، وبالله التوفيق .
ومن كتاب أوله أخذ يشرب خمراً
وسئل مالك وكلم صاحب السوق في رطب يبيعونه
مغمقاً أن يتقدم إليهم ألا يبيعوه ، وأن يضرب
الذي استعمله عليهم إن غيب لهم في ذلك ، وقد
قال أيضاً في كتاب أوله حلف ليرفعن أمرتً إلى
السلطان : وأنا أكره أن ينقش البسر بالمدية
حتى يصير رطباً ، وإنما كره لموضع الفساد
للثمرة ورأى ذلك فساداً للثمرة . وقوله ينقش
يعجلهاغ عن إبلاغ طيبها من غير رش ، وقوله
مغمقاً يرشونه بالخل ويغمونه ليسرع طيبه .
قال محمد بن رشد : وقع هذا التفسير في بعض
الكتب وهو صحيح ، لأن النقش هو أن يؤثر في
البشرة أثراً كالجرح فيسرع إليه الترطيب ،
والتغمم هو أن يرش البسر بالخل ثم يغم فيسرع
إليه الترطيب ، وذلك كله فساد وغش للثمرة في
الموضع الذي يرطب فيه البسر إذا
(9/336)
ترك ، وأما في
مثل الأندلس الذي لا يرطب فيه البسر ويفسد إن
ترك فجائز أن يجد بسراً ويغم بعد الرش بالخل ،
وأن ينقش ، لأن ذلك صلاح له وليس بغش فيه ،
لاستواء معرفة الناس في ذلك ، وهذا نحو ما قال
في سماع أشهب من كتاب جامع البيوع من أن الموز
الذي لا يطيب حتى يقطع جائز أن يباع قبل أن
يطيب ، وقد مضى القول على ذلك هنالك ، فلا
معنى لإعادة ذكر ذلك وبالله التوفيق .
ومن كتاب أوله يسلف في المتاع والحيوان
وسئل مالك عن أهل السوق الذين يبيعون على
أيديهم يشترون الطعام والقطاني من أهل السوق
فيبيعون ؛ قال مالك : لم يزل ذلك من أمر الناس
، ولا أرى به بأساً مثل أهذ الحوانيت الذين
يبيعون بالفلوس ويشترون من أهل السواحل أو أهل
الجمل .
قال محمد بن رشد : إنما أجاز ذلك ولم ير به
بأساً إذا كان ذلك لا يضر بالأسعار على أصل
مذهبه في إباحة الاحتكار في الطعام في وقت
كثرته إذا لم يغل ذبك الأسعار على المسلمين
ولا كان فيه ضرر عليهم ، وقد مضى هذا المعنى
وذكر الاختلاف فيه في آخر رسم شك ، فلا معنى
لإعادته والله الموفق .
مسألة
وقال مالك أكره للرجل المسلم أن يحضر ابنه في
كتاب العجم فيتعلم الوقف كتاب الأعجمية ،
وأكره للمعلم المسلم أن يعلم أحداً من النصارى
الخط أو غيره .
(9/337)
قال الإمام
القاضي أبو الوليد : الكراهية في هذا كله بينة
. أما تعليم الرجل إبنه كتاب العجم فللاشتغال
بما لا منفعة فيه ولا فائدة له عما له منفعة
وفائدة مع ما فيه من إدخال السرور عليهم
بإظهار المنفعة بكتابهم والرغبة في تعليمه
وذلك من توليهم ، وقد قال تعالى : { ومن
يتولهم منكم فإنه منهم } . وأما تعليم المسلم
النصراني ، فلما فيه من الذريعة إلى قراءتهم
القرآن مع ما هم عليه من التكذيب له والكفر به
، وقد قال ابن حبيب في الواضحة : إن ذلك ممن
فعله مسقط لإمامته وشهادته ، وقد مضى ذلك في
سماع أشهب من كتاب الجعل والإجارة والله
الموفق .
مسألة
وسئل مالك عن صياح الإمام في الناس بجواز
ذهبهم كلها ، فقال : ما يعجبني ذلك وما أرى أن
يفعل ذلك بالناس ، ولا أحب أن يكره الناس على
ذلك ، وأرى أن لا يكره الناس إلا بما أحبوا من
النقد ، فقلت له : يا أبا عبد الله - : إن
عندنا دنانير دمشقية توضع في عيونها درهم لكل
دينار ، وذلك أن الصيارفة ردوها ليأخذوا على
عيوبها وهي عندكم جارية فلا ترى مثل هذا
للإمام أن يقصر الناس عليه . قال مالك : لا
أرى ذلك يبيع الرجل بأي نقد أحب ، ولا يكره
أحد على شيء .
قال محمد بن رشد : معنى ما سأله عنه من صياح
الإمام في الناس بجواز ذهبهم كلها هو أن
يجوزوا فيما بينهم جميع الأذهاب إذا لم تكن
مغشوشة ولا يردوا منها شيئاً وأن اختلفت
أعيانها ، فكره الصيارفة
(9/338)
بعضها وردوها
إذا كان ردهم إياها لغير غش . وقوله في المنع
من ذلك صحيح ، إذ لا يلزم أحداً أن يبيع إلا
بما يرضى به من النقد ، قال تعالى : { إلا أن
تكون تجارة عن تراض منكم } وقد مضى هذا المعنى
في رسم حلف وبالله التوفيق .
مسألة
وسألت مالكاً عن أيام الحصاد يدخل الناس
أطعماتهم بالفسطاط ويخزنونها ثم يحتاج إليها
بعد ذلك أهل الريف والسواحل ، أترى أن يتركوا
أن يشتروا من الفسطاط ؟ فقال : إن كان عندهم
ما يغنيهم فلا أرى ذلك ، وإن لم يكن عندهم ما
يغنيهم واحتاجوا إلى الطعام رأيت أن يشتروا .
قال محمد بن رشد : قوله في أهل الريف والسواحل
إنه إن كان عندهم ما يغنيهم فلا أرى أن يتركوا
أن يشتروا من الفسطاط ظاهره أنه إن كان عندهم
ما يغنيهم فلا يتركوا أن يشتروا للحكرة من
الفسطاط وإن لم يضر ذلك بأهل الفسطاط ، ولا
على عليهم أسعارهم ، ومذهبه في المدونة أنهم
لا يمنعون أن يحتكروا من الفسطاط إن لم يضر
ذلك بهم ولا على عليهم أسعارهم ، فعلى ما في
المدونة يحتكر أهل الريف والسواحل من الفسطاط
إن لم يضر ذلك بهم ، كما يحتكر أهل الفسطاط من
الريف والسواحل ؛ وعلى هذه الرواية لا يحتكر
أهل السواحل والريف من الفسطاط ويحتكر أهل
الفسطاط من الريف والسواحل . ووجه ذلك أن
الحواضر فيها يوجد الطعام عند الشدائد فهي
غياث للبوادي ، وقوله وإن لم يكن عندهم ما
يغنيهم يريد أهل السواحل والريف واحتاجوا رأيت
أن يشتروا ، يريد وإن أضر ذلك بأهل الفسطاط .
وأما أهل القرى التي فيها الأسواق فحكمها حكم
(9/339)
الفسطاط ، وقد
نص على ذل في المدونة فلا يحتكر هؤلاء من
هؤلاء ولا هؤلاء من هؤلاء إذا أضر ذلك هم وغلى
عليهم أسعارهم ،ومن احتاج منهم ولم يكن عنده
ما يغنيه كان له أن يشتري ما يحتاج إله لقوت
هؤلاء من هؤلاء وهؤلاء وإن أضر ذلك بهم وغلى
عليهم أسعارهم ، لأن المواساة بين جميع
المسلمين واجبة عند الحاجة وبالله التوفيق .
مسألة
وسئل مالك عن الكنائس التي في الفسطاط المحدثة
في خطط الإسلام ، إن أعطوهم العرض وأكروها
منهم يبنون فيها الكنائس ، قال مالك : أرى أن
تغير وتهدم ، و لا يتركوا ذلك ولا خير فيه .
قال محمد بن رشد : هذا مثل ما فيه المدونة
وغيرها وهو مما لا اختلاف فيه أعمله ، والأصل
في ذلك ما روي أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال : " لا ترفعن فيكم يهودية ولا
نصرانية " يعني البيع والكنائس ، وإنما يكون
لأهل الصلح أن يحدثوا الكنائس في قراهم التي
صالحوا عليها وإن يرموا كنائسهم القديمة ، إذا
كانوا منقطعين عن دار الإسلام وحريمه ، ولم
يسكن المسلمون معهم في موضعهم ، وإن لم
يشترطوه . قال ذلك ابن حبيب في الواضحة ،
وحكاه عن مطرف وابن الماجشون ، وأما إذا كانت
قراهم في بلاد الإسلام فليس ذلك لهم ، إلا أن
يكون لهم أمر أعطوه ، قال مالك في المدونة ،
واختلف في أهل العنوة ، فقال ابن القاسم : ليس
ذلك
(9/340)
لهم ، وقال
غيره : ذلك لهم ، والقولان في الجعل والإجارة
من المدونة وبالله التوفيق .
ومن كتاب أوله تأخير صلاة الإمام في الحرس
وسئل مالك عن الرجل من أهل المدينة يقدم
بتجارة إلى مصر أيقوم معه المصري في بيعها ؟
قال : " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن
يبيع حاضر لباد " قيل : أفترى مصرياً بادياً ؟
قال : وكذلك المدني يقدم مصر فيقوم معه في بيع
سلعته ، فلا أرى أن يقوم مصري مع مدني ، ولا
مدني مع مصري يبيع له ، ولا يشير عليه قيل له
أو يبتاع له ؟ قال : إني لأخفف أن يبتناع له ،
ولا أحب أن يبيع له ، قال ابن القاسم : وقد
قال لى مالك قبل ذلك : إنما أكره من المدنيين
والمصريين غير أهل المدائن ، فأما من كان منهم
من القرى الذين يشبهون أهل البادية ، ولا أرى
أن يباع لهم ، فأما في أهل المدائن ويبيع
بعضهم لبعض فأرجو أن يكون ذلك خفيفاً ، وهو
أحب قوله إلى .
قال ابن القاسم : ومن كان من أهل البادية أو
القرى الذين يشبهون أهل البادية فلا يباع لهم
، ولا يشار عليهم ، ولا بأس أن يشترى لهم .
(9/341)
محمد بن رشد :
قد مضت هذه المسألة والقول فيها مستوفى في أول
رسم من كتاب حلف ليرفعن رجلاً ، فلا معنى
لإعادة ذلك وبالله التوفيق .
مسألة
وسئل مالك عن الأفنية التي تكون في الطرق
يكريها أهلها أترى ذلك لهم وهي طريق للمسلمين
؟ فقال : أما كل فناء ضيق إذا وضع فيه شيء أضر
ذلك بالمسلمين في طريقهم فلا أرى أن يمكن أحد
من الانتفاع به وأن يمنعوا ، وأما كل فناء إن
انتفع به أهله لم يضيق على المسلمين في ممرهم
شيئاً لسعته لم أر بذلك بأساً قال النبي صلى
الله عليه وسلم : " لا ضرر ولا ضرار " فإذا
وضع في طريق المسلمين ما يضيق به عليهم فقد
أضر بهم .
قال محمد بن رشد : هذا كما قال ، إن لأهل كما
قال ، إن لأهل الأفنية أن يكروها ممن يضع فيها
ما لا يضيق به الطريق على المارة فيه : لأنه
إذا كان لهم أن ينتفعوا بها على هذه الصفة
وكانوا أحق بذلك من غيرهم كان لهم أن يكروها
لأن ما كان للرجل أن ينتفع به كان له أن يكريه
، وهذا ما لا أعلم فيه اختلافاً ، وإنما الذي
لا يباح لصاحب الفناء أن يقتطعه ويدخله في
داره ، فإن فعل وكان ذلك يضر بالطريق هدم عليه
وأعيد إلى حاله ، واختلف إن كان لا يضر ، فقيل
: إنه يهدم عليه أيضاً ، وهو قول أشهب وابن
(9/342)
وهب في سماع
زونان ، وقيل إنه لا يهدم عليه ، وهو قول أصبغ
وروايته عن أشهب في رسم الأقضية والحبس من
سماع أصبغ ، وقد مضى ذكر هذا في رسم طلق قبل
هذا وبالله التوفيق .
مسألة
وسئل اعن النصراني يستكتب ، فقال : لا أرى ذلك
، إن الكاتب يستشار ، فيستشار النصراني في
أمور المسلمين وغير ذلك فما يعجبني أن يستكتب
.
قال محمد بن رشد : هذا بين على ما قاله ،
ومثله في الأقضية من المدونة ولا ينبغي أيضاً
أن يستكتب القاضي من المسلمين إلا العدول
المرضيين وبالله التوفيق .
مسألة
وسئل عن الرجل يقضي الرجل ذهباً في المسجد ،
فقال : لا أرى به بأساً ، وأما ما كان على وجه
التجارة والصرف فلا أحبه .
قال محمد بن رشد : هذا نحو ما مضى في رسم شك
في طوافه في كتاب ذكر الحق في المسجد ،
والمعنى فيه بين ، على ما ذكرته هناك وبالله
التوفيق .
مسألة
وسئل عن الرجل ينظر في النجوم فيقول : الشمس
تكسف
(9/343)
غداً والرجل
يقدم غداً ، أو ما أشبه هذا . قال : أرى أن
يزجر عن ذلك ، فإن لم يفعل أدب في ذلك ، ثم
قال : وإني لأرى هؤلاء المعالجين الذين
يعالجون المجانين ويزعمون أنهم إنما يعالجون
بالقرآن وقد كذبوا ليس كما قالوا . ولو كانوا
يعلمون ذلك لعلمته الأنبياء ، قد صنع لرسول
الله صلى الله عليه وسلم [ سم ] فلم يعرفه حتى
أخبرته الشاة وإني لا أرى هذا ينظر في الغيب
وإنها عندي لمن حبائل الشيطان .
قال محمد بن رشد : ليس قول الرجل الشمس تكسف
غداً أو القمر ليلة كذا ، من جهة النظر في
النجوم وعلم الحساب بمنزلة قوله من هذا الوجه
فلان يقدم غداً في جميع الوجوه ، لأن الشمس
والقمر مسخران لله تعالى في السماء يجريان في
أفلاكهما من برج إلى برج على ترتيب وقدر وحساب
لا يتعديانه ، قال الله تعالى : { والقمر
قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم} وقال :
{ الشمس والقمر بحسبان } وقال : { في فلك
يسبحون } فالقمر سريع الذهاب يقطع جميع برج
السماء في شهر واحد ، ولا تقطعها الشمس إلا في
اثني عشر شهراً ، فهو يدرك الشمس في آخر كل
شهر ، ويصير بإزائها من البرج الذي هي فيه ثم
يخلفها ، فإذا بعد عنها استهل ، وكلما زاد
بعده منها زاد ضوءه إلى أن ينتهي
(9/344)
في البعد ليلة
أربعة عشر ، فتكمل استدارته وضوؤه لمقابلته
الشمس ، ثم يأخذ في القرب منها ، فلا يزال
ضوؤه ينقص إلى أن يدرك الشمس فيصير بإزائها
على ما أحكمه خالق الليل والنهار ، لا إله إلا
هو ، فإذا قدر الله تعالى على ما أحكمه من
أمره و قدره من منازله في مسيره أن يكون بإزاء
الشمس في انهار فيما بين الأبصار وبين الشمس
ستر جرمه عنا ضوء الشمس كله إن كان مقابله ،
أو بعضه إن كان منحرفاً عنها ، فكان ذلك هو
الكسوف للشمس ، آية من آيات الله تعالى يخوف
الله بها عباده كما قال عز وجل : { وما نرسل
بالآيات إلا تخويفاً } ، ولذلك أمر النبي عليه
السلام بالدعاء عند ذلك ، وسن له صلاة الكسوف
، فليس في معرفة وقت الكسوف بما ذكرناه من جهة
النجوم وطريق الحساب إدعاء علم غيب ولا ضلالة
وكفر على وجه من الوجوه ، وكلنه يكره الاشتعال
به ، لأنه مما لا يعني ، وقد قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم ك " من حسن إسلام المرء
تركه ما لا يعنيه " وفي الإنذار به قبل أن
يكون ضرر في الدين ، لأن من سمعه من الجهال
يظن أن ذلك من علم الغيب ، وأن المنجمين
يدركون علم الغيب من ناحية النظر في النجوم ،
فوجب أن يزجر عن ذلك قائله ويؤدب عليه كما قال
، لأن ذلك من حبائل الشيطان . وأما قوله :
فلان يقدم غداً فهو من التخرص في علم الغيب
والقضاء بالنجوم ، وقد اختلف في المنجم يقضي
بتنجيمه ، فيقول : إنه يعلم متى يقدم فلان
ووقت نزول المطر ، وما في الأرحام ، وما يستتر
الناس به من الأخبار ، وما يحدث من الفتن
والأهوال ، وما أشبه ذلك من المغيبات ، فقيل :
إن ذلك كفر يجب به القتل دون استتابة ، لقول
الله تعالى : { ولقد صرفناه بينهم ليذكروا
فأبى أكثر الناس إلا كفوراً }
(9/345)
ولقول النبي
عليه السلام : قال تعالى : { أصبح من عبادي
مؤمن بي وكافر بي فأما من قال مطرنا بفضل الله
ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب ، وأما من
قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن
بالكوكب } وقيل : إنه يزجر عن ذلك ويؤدب عنه ،
وهو قوله في هذه الرواية ، والذي أقول به إن
هذا ليس باختلاف قول في موضع واحد ، وإنما
اختلاف في الأحكام بحسب اختلاف الأحوال ، فإذا
كان المنجم يزعم أن النجوم واختلافها في
الطلوع والغروب هي الفاعلة لذلك كله ، وكان
مستسراً بذلك فحضرته البينة قتل بلا استتابة
فهو كافر زنديق ، وإن كان معلناً بذلك غير
مستتر به يظهره ويحاج عليه استتيب ، فإن تاب
وإلا قتل كالمرتد سواء ، وإن كان مؤمناً بالله
تعالى مقراً بأن النجوم واختلافها في الطلوع
والغروب لا تاثير لها في شيء مما يحدث في
العالم ، وأن الله تعالى هو الفاعل لذلك كله ،
إلا أنه جعلها أدلة ما يفعله ، فهذا يزجر عن
اعتقاده ويؤدب عليه أبداً حتى يكف عنه ويرجع
عن اعتقاده ويتوب عنه ، لأن ذلك بدعة يجرج بها
فتسقط إمامته وشهادته على ما قاله سحنون في
نوازله من كتاب الشهادات ، ولا يحل لمسلم أن
يصدقه في شيء مما يقول ، وأنى يصح أن يجتمع في
قلب مسلم تصديقه مع قوله تعالى : { قل لا يعلم
من في السموات والأرض الغيب إلا الله } .
وقوله : { عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً
إلا من ارتضى من رسول }
(9/346)
. وقوله { إن
الله عنده علم الساعة وينزل اغيث ويعلم ما في
الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غداً ، وما
تدري نفس بأي ارض تموت } . وروي عن النبي عليه
السلام أنه قال : " من صدق كاهناً أو عرافاً
أو منجماً ، فقد كفر بما أنزل على قلب محمد "
. ويمكن أن يصادف في بعض الجمل وذلك من حبائل
الشيطان ، فلا ينبغي أن يغتر أحد بذلك ويجعله
دليلاً على صدقه فيما يقول ، كما لا ينبغي أن
يصدق المعالجون الذين يعالجون المجانين فيما
يزعمون من أنهم يعالجون بالقرآن فلا يعلم
الأمور الغائبة على وجهها وتفاصيلها إلا علام
الغيوب ، أو من أطلعه عليها علام الغيوب ليكون
ذلك دليلاً على صحة نبوته ، قال عز وجل في
كتابه حاكياً عن عيسى بن مريم عليه الصلاة
والسلام : { وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في
بيوتكم ، إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين }
. فادعاء معرفة ذلك والإخبار به على الوجه
الذي تعرفه الأنبياء وتخبر به تكذيب لدلالتهم
، وفي دون هذا كفاية لمن شرح الله صدره وهداه
، ولم يرد إضلاله وإغواء ه ، والذي ينبغي أن
يعقد فيما يخبرون من الجمل فيصيبون مثل ما روي
عن هرقل أنه أخبر أنه نظر في النجوم فرأى ملك
الختان قد ظهر إن ذلك إنما هو على معنى
التجربة التي قد تصدق في الغالب من نحو قول
النبي صلى الله عليه وسلم : " إذا نشأت بحرية
ثم تشاءمت فتلك عين غديقة " وبالله التوفيق .
(9/347)
ومن كتاب أوله
كتب عليه رجل ذكر حق
وسئل مالك عن طبيب عالج رجلاً فأتي علي يديه
فيه ، قال : إن كان الطبيب ليس له علم ووجد
بينة أنه دخل في ذلك ظلماً وجرأة ، وأنه ليس
ممن يعمل مثل هذا وليست له به معرفة ، فأى أن
يستأذن عليه ، وإني لأحب للإمام أن يتقدم إلى
هؤلاء الأطباء في قطع العروق وما أشبهه ألا
يقدم أحد منهم على عمله إلا بإذنه ، فإني لا
أزال أسمع بطبيب قد عالج رجلاً فقطع عرقه أو
صنع به شيئاً فأعنته فمات منه ، ثم قال : أتى
على يدي ولم أره يجعل على الذي عرف بالعلاج
فيعالج بما يعرف شيئاً ولكنه يستحب أن ينهى عن
الأشياء التي فيها هلاك الناس إلا بإذن الإمام
. قال عيسى : غر من نفسه أو لم يغر ذلك خطأ ،
وديته على عاقلته .
قال محمد بن رشد : تحصيل القول في هذه المسألة
أن الطبيب إذا عالج الرجل فسقاه فمات من سقيه
، أو كواه فمات من كيه ، أو قطع منه شيئاً
فمات من قطعه ، أو الحجام إذا ختن الصبي فمات
من ذلك ، أو قلع ضرس الرجل فمات من ذلك فلا
ضمان على واحد منهما في ماله ولا على عاقلته
إذا لم يخطئا في فعلهما ، إلا أن يكون قد تقدم
السلطان إلى الأطباء والحجامين ألا يقدموا على
شيء مما فيه غرر إلا بإذنه ، ففعلوا ذلك بغير
إذنه فأتى على أيديهم فيه بموت أو ذهاب حاسة
أو عضو ، فيكون عليهم الضمان في أموالهم ، هذا
ظاهر ما في رسم العقول بعد هذا في سماع أشهب .
وقال ابن دحون : إن ذلك يكون على العاقلة إلا
(9/348)
فيمادون الثلث
، وذلك خلاف الرواية المذكورة ، وأما إذا أخطآ
في فعلهما مثل أن يسقي الطبيب المريض ما لا
يوافق مرضه فيموت من ذلك ، أو تزل يد الخاتن
أو القاطع فيتجاوز في القطع ، أو يد الكاوي
فيتجاوز في الكي ، أو يكون ما لا يوافقه الكي
فيموت منه ، أو يقلع الحجام غير الضرس التي
أمر بها وما أشبه ذلك ، فإن كان من أهل
المعرفة ولم يغر من نفسه فذلك خطأ يكون على
العاقلة، إلا أن يكون أقل من الثلث فيكون ذلك
في ماله ، وأما إن كان لا يحسن وغر من نفسه
فعليه العقوبة من الإمام بالضرب والسجن .
واختلف في الدية ، فقيل إنها تكون عليه في
ماله ، ولا يكون على العاقلة من ذلك شيء ، وهو
ظاهر قوله في هذه الرواية ، وقيل إن كان ذلك
خطأ يكون على العاقلة إلا أن يكون أقل من
الثلث فيكون ذلك في ماله ، وأمام إن كان لا
يحسن وغر من نفسه فعليه العقوبة من الإمام
بالضرب والسجن . واختلف في الدية ، فقيل إنها
تكون عليه في ماله ، ولا يكون على العاقلة من
ذلك شيء ، وهو ظاهر قوله في هذه الرواية ،
وقيل إن كان ذلك خطأ يكون على العاقلة إلا أن
يكون أقل من الثلث فيكون في ماله ، وهو قول
عيسى بن دينار هاهنا ، وظاهر رواية أصبغ عن
ابن القاسم في كتاب الديات ، لأنه قال في
الطبيب يسقي النصراني أو المسلم الدواء فيموت
منه : إنه لا شيء عليه إلا أن يعلم أنه أراد
قتله ، لأن تأويل ذلك أن الدية على عاقلته مثل
قول عيسى ها هنا ، وظاهر رواية أصبغ عن ابن
القاسم ، والكفارة تابعة للدية حيث ما لزمت
الدية العاقلة لكون القتل خطأ محضاً أو في
المال لما فيه من شبهة العمد لزمت الكفارة ،
وحيث ما لم تلزم الدية لم تلزم الكفارة إلا
استحساناً ، حسبما قاله مالك في رسم البز من
سماع ابن القاسم من كتاب الديات في الصبي
تسقيه أمه الدواء فيشربه فيموت . وإذا تقدم
السلطان إلى الأطباء إلا يداوي أحدهم ما يخاف
منه وفيه غرر إلا بإذنه ، فوجه العمل في ذلك
إذا استؤذن أن جمع أهل تلك الصناعة فإن رأواه
أن يداوى العليل بذلك الدواء المخوف داواه به
، ولم يكن عليه شيء ولا على عاقلته إن مات منه
، وإن رأوا ألا يجبر عليه بذلك الدواء المخوف
نهاه عن سقيه إياه فإن تعدى ضمن في ماله ،
وقيل على العاقلة وبالله التوفيق .
(9/349)
ومن كتاب أوله
اغتسل على غير نية
وقال مالك : التناجش أن يكون الرجل يعطي الرجل
السوم وهو ليس من حاجته لأن يقتدي به أحد من
أهل الاشتراء فيغتر به فهذا التناجش .
قال محمد بن رشد : فإن فعل ذلك أحد ليس من قبل
البائع ولا كان له فيه سبب لزم المشتري البيع
ولم يكن له فيه خيار ، وباء الناجش بالإثم في
ذلك ، وأما إن كان البائع دس الناجش ليزيد في
سلعته أو كان من سببه مثل عبده أو أجيره أو
شريكه أو ما أشبه هؤلاء ممن هو من ناحيته
فالمشتري بالخيار في رد السلعة إن كانت قائمة
أو التمسك بها الثمن الذي اتشراها به ، وإن
فاتت في يديه ردت إلى القيمة إن كانت القيمة
أقل من الثمن الذي اشتراها به ، قال ذلك ابن
حبيب في الواضحة ، وهو صحيح على أصولهم وبالله
التوفيق .
مسألة
وقال مالك في تفسير لا يبع حاضر لباد : أهل
البادية وأهل القرى ، وأما أهل المدائن من أهل
الريف فإنه ليس بالبيع لهم بأس ممن يرى أنه
يعرف السوم إلا من كان منهم يشبه البادية فإني
لا أرى لأحد أن يبيع لهم .
قال محمد بن رشد : قد تقدمت هذه المسألة
والاختلاف فيها في رسم أو له تأخير صلاة
العشاء في الحرس ، ومضى تحصيله في رسم حلف ألا
يبيع سلعة سماها ، فلا معنى لإعادة ذلك وبالله
التوفيق .
(9/350)
ومن كتاب البز
وسئل مالك عن بيع المدر الذي يأكله الناس ،
فقال : ما يعجبني ذلك أن يباع ما يضر بالناس ،
فإنه ينبغي للإمام أن ينهي الناس عما يضرهم في
دينهم وديناهم ، ثم قال يقول الله تعالى : {
يسالونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطبيات }
أفالطين من الطيبات ؟ إني لأرى لصاحب السوق أن
يمنعهم من بيعه وينهى عنه .
قال الإمام القاضي أبو الوليد : هذا كما قال ،
إنه إذا كان الناس يأكلونه وهو مضر بهم فلا
ينبغي أن يباع ، ويجب على الإمام أن ينهى عن
ذلك ، وهذا إذا لم يكن له وجه إلا الأكل ،
لأنه إذا لم يكن له وجه إلا الأكل وكان يضر
الآكلين له بكل حال فهو كالسم الذي قد أجمع
الناس على تحريم بيعه . وقال سحنون في كتاب
الشرح : لا يحل بيعه ، ولا ملكه . وأما إن
كانت به منفعة لغير الأكل فلا ينبغي أن يمنع
بيعه جملة ، وإنما ينبغي أن يباع ممن يصرفه في
غير الأكل ، ويؤمن أن يبيعه من يأكله . وقد
قال ابن المواز : أكره أكله ، فأما بيعه فلا
أدري ، قد يشترى لغير وجه . وقال ابن الماجشون
: أكله حرام ، وفي احتجاج مالك بالآية التي
احتج بها على أنه لا يستباح إلا ما أحل الله
نحو قول ابن الماجشون . وروى عنه ابن القاسم
في الجامع قال : كل أمر أحله الله فاتبعوه ،
ونهي نهى الله عنه فاجتنبوه ، وعنه عفا الله
عنه فدعون ، وقد قيل : إن المسكوت عنه مباح ،
وإلى هذا ذهب أوب الفرج . وجه القول الأول من
طريق النظر أنه قد ثبت أن الأشياء ملك لمالك
والأصل أنه لا يستباح ملك أحد إلا بإذنه ،
ووجه القول الثاني أن خلق الله تعالى له دليل
على الإباحة ، إذ لا يجوز أن يخلقه عبثاً لغير
وجه منفعة ، وبالله التوفيق .
(9/351)
ومن كتاب أوله
باع غلاماً بعشرين ديناراً
قال مالك : إذا غلا الطعام واحتيج إليه وكان
بالبلد طعام فلا أرى بأساً أن يأمر الإمام
أهله فيخرجوا إلى السوق فيباع إذا احتاج الناس
إليه ، وإنما يكون ذلك عند حاجة الناس وليس في
كل زمان .
قال محمد بن رشد : هذا كما قال ، ومثله في
كتاب ابن المواز ، وهو أمر لا أعلم فيه خلافاً
، لأن هذا وشبه مما يجب الحكم فيه للعامة على
الخاصة ، إذ لا يصح أن يترك الناس يجوعون وفي
البلد طعام عند من لا يريده إلا للبيع ، ومما
يشبه هذا من منفعة العامة قول النبي عليه
السلام : " لا يبع حاضر لباد " " ولا تلقوا
السلع حتى يهبط بها إلى الأسواق " ، فلما رأى
رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ذلك يصلح
للعامة أمر فيه بذلك ، ولما حكم صلى الله عليه
وسلم بالشفعة للشريك على المشتري ، ووجب أن
يؤخذ منه الشقص الذي اشترى بالثمن شاء أو أبى
لمنفعة الشريك بذلك وإزاحة ضرر الشركة عنه ،
كان أحق أن يؤخذ الطعام من الذي هو عنده
بالثمن لمنفعة عامة الناس بذلك ، وإزاحة الضرر
عنهم ، ولا ضرر في ذلك على البائع ، إذ لم
يؤخذ منه إلا بالثمن الذي يسوى في السوق
وبالله التوفيق .
مسألة
قال مالك : كتب عمر بن الخطاب إلى أمراء
الأجناد : إن
(9/352)
الله قد أغنى
بالمسلمين فلا تجعلوا النصراني في أعمالكم ،
يريد ألا يكونوا جزارين ولا صرافين مع
المسلمين ، لأن الله قد أغنى بالإسلام وكثروا
. وفي أهل الإسلام ما جزأ من تباعاتهم . قال
سحنون ويمنع من السوق كل من لا يبصر البيع من
المسلمين .
قال محمد بن رشد : هذا من معنى ما تقدم في
المسألة التي قبلها في الحكم على الخاصة بما
فيه منفعة للعامة ، وإزاحة الضرر عنهم ، لأنه
إذا كان يجب النظر لهم على الخاصة في أمور
الدنيا كان في أمر الدين أولى ، لأن النصارى
يستحلون الربا والجهال يقعون فيه ، إذ لا
يمكنهم التوقي منه بجهلهم وذلك يضر بعامة
الناس ، فوجب أن يحكم لهم بذلك عليهم ، ولهذا
المعنى يجب إخراج من تعود الغش من المسلمين
ولم يردعه الأدب عنه من السوق ، وقد مضى هذا
المعنى في رسم حلف إلا يبيع رجلاً سلعة سماها
وبالله التوفيق .
ومن كتاب أوله صلى نهاراً ثلاث ركعات
وسئل مالك عن الأمة إذا استباعت من ساداتها ،
قال : ينظر في ذلك فإن كان ضرراً بيعت ، وإن
كان ليس بضرر ما هي فيه لم تبع .
قال محمد بن رشد : هذا بين على ما قال ، إذ
ليس في مقدار الضرر الذي يجب به أن تباع على
ساداتها حد إلا الاجتهاد ، وقد مضى هذا المعنى
في رسم شك ورسم حلف ليرفعن أمراً ويأتي أيضاً
في سماع أصبغ وبالله التوفيق .
(9/353)
ومن كتاب أوله
مساجد القبائل
وسئل مالك عن قتل الكلاب أترى أن تقتل ؟ قال :
نعم ، أرى أن يقتل ما يؤذي منها في المواضع
التي لا ينبغي أن يكون فيها . قلت له : في مثل
قيروان الفسطاط ، قال ( نعم ) أرى أن يؤمر
بقتل ما يؤذي منها . وأما كلاب الماشية فلا
أرى ذلك .
قال محمد بن رشد : ذهب مالك رحمه الله في قتل
الكلاب إلى ما رواه في موطأه عن نافع عن عبد
الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
أمر بقتل الكلاب " ومعنى ذلك عنده وعند سواه
ممن أخذ بالحديث في الكلاب المنهي عن اتخاذها
، وقد جاء ذلك مفسراً في الأحاديث ، فلا
اختلاف في أنه لا يجوز قتل كلب الماشية ،
والصيد والزرع . ومن أهل العلم من ذهب إلى أنه
لا يقتل من الكلاب إلا الكلب الأسود البهيم ،
لما روي عن عبد الله بن معقل قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : " لو لا أن الكلاب أمة
من الأمم لأمرت بقلتها فاقتلوا منها الأسود "
وقال من ذهب إلى هذا المذهب : الأسود البهيم
من الكلاب أكثر أذى وأبعدها من تعلم ما ينفع .
وروى أيضاً أنه شيطان أي بعيد من الخير
والمنافع ، قريب من الضرر والأذى ، وهذا شان
الشياطين من الجن والإنس ، وقد كره الحسن
وابراهيم صيد الكلب الأسود ، وقال طائفة : إنه
يقطع الصلاة ، وذهب كثير من العلماء إلى أنه
لا يقتل من الكلاب أسود ولا غيره ، إلا أن
يكون عقوراً
(9/354)
مؤذياً ،
وقالوا : الأمر بقتل الكلاب منسوخ ، بقوله صلى
الله عليه وسلم : " لا تتخذوا شيئاً فيه الروح
غرضاً " فعم ولم يخص كلباً من غيره ، واحتجوا
بالحديث الصحيح في الكلب الذي كان يلهث عطشاً
فسقاه الرجل فشكر الله له وغفر له ، وقال : {
في كل ذي كبد رطب أجر } قالوا : فإذا كان
الأجر في الإحسان فالوزر في الإساءة إليه ،
ولا اساءة إليه أعظم من قتله . قالوا : وليس
في قول النبي عليه السلام : الكلب البهيم
شيطان ما يدل على قتله ، لأن شياطين الإنس
والجن كثير ، ولا يجب قتلهم ، وقد رأى رسول
الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يتبع حمامة
فقال : " شيطان يتعب شيطانة " ، وما ذهب إليه
مالك أولى ( فإن الأمر ) بقتلها قد جاء عن أبي
بكر ، وعمر وعثمان ، وعبد الله بن عمر ،
وبالله التوفيق .
ومن كتاب أوله نذر سنة بصومها
وسئل مالك عن السوق إذا أفسده أهله حطوا سعره
، أترى لمن وليه أن يسعره وبخيرهم أن يبيعوا
أو يقوموا أو لا يلزمهم ذلك ؟ فكره التسعير
ولم يره وأنكره .
قال محمد بن رشد ك معنى قوله حطوا (سعره ) أي
حطوا من
(9/355)
المثمون لا من
الثمن ، لأن إفساد السوق لا يكون إلا بذلك ،
لا بالحط ( من الثمن ) وقد مضى القول على ذلك
في أول مسألة من السماع ومضى في الرسم الذي
بعده التكلم على حكم التسعير وما يجوز منه مما
لا يجوز ، فلا معنى لإعادة ذلك وبالله التوفيق
.
ومن كتاب أوله (المحرم ) يتخذ الخرقة لفرجه
وسئل مالك عما يعصر النصارى من الخمر فيتخلل
أيوكل ؟ قال : نعم . قيل له : أفبلغك أن عمر
بن عبد العزيز كتب في كسر معاصير الخمر ؟ قال
: نعم . قيل : معاصير المسلمين وأهل الذمة .
قال : لا أرى ذلك إلا في التي للمسلمين .
قال محمد بن رشد : قوله : إن ما تخلل من خمر
النصارى يؤكل صحيح بين لا إشكال فيه ، إذ لا
اختلاف في أن الخمر إذا تخللت تؤكل ، فسواء
كانت لمسلم أو نصراني إلا ما ذهب إليه ابن
لبابة من أن الخمر مختلف في نجاستها ، وأنها
لا تؤكل إذا تخللت إلا على القول بأنها طاهرة
لا تنجس ما وقعت فيه من ماء أوطعام وهو غلط
ظاهر ، وقوله : في المعاصر التي كتب عمر بن
عبد العزيز أن تكسر لا أرها إلا في التي
للمسلمين صحيح ، لأن معاصير أهل الذمة لا يجب
كسرها عليهم ، لأنهم إنما بذلوا الجزية على أن
يقروا في ذمتهم على ما يجوز لهم في دينهم ،
فلا يمنعوا من عصر الخمر إذا لم يظهروها في
جماعة المسلمين ،وقد مضى هذا في رسم الشجرة
وبالله التوفيق .
(9/356)
ومن سماع أشهب
وابن نافع عن مالك من كتاب الأقضية
مسألة في شراء الثمار في الحوائط وبيعها في
المدينة ، قال أشهب وابن نافع : قيل لمالك سئل
الأمير عن منع هؤلاء الذين يشترون الثمار في
الحوائط ثم يدخلون بها المدينة يبيعونها على
أيديهم ، فأشار عليه بعضهم بمنعهم من ذلك ،
وأشار عليه بعضهم ألا يفعل ، فقال مالك : بأي
ذلك أخذ ؟ فقال : بمنعهم فقال مالك : " نهى
رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تلقي السلع
حتى بهبط بها الأسواق ، فمن التلقي أن يذهب
هؤلاء إلى أهل الحوائط فيشترون منهم ثم يأتون
( به ) ها هنا فهذا منه ، " ونهي رسول الله
صلى الله عليه وسلم أن يبيع حاضر " لباد فمنه
أن يذهب هذا الحاضر إلى هذا البادي فيشتري منه
ثم يأتي فيبيع ، أرى أن يمنعوا من ذلك ، قيل
له : أفترى من التلقي أن يخرج أهل المدينة إلى
أهل الحوائط فيشترون منهم ؟ قال : ما أشبههم
به ، قال أشهب : لا بأس به ، وليس هذا يتلق
ولكنه اشترى من موضعه ، وإنما التلقي أن يتلقي
الجلاب قبل أن يهبط بذلك الأسواق كائناً ذلك
الجلب ما كان ، طعاما أو حيوانا أو غير ذلك من
الأشياء كلها .
قال محمد بن رشد : قد مضت هذه المسألة والقول
فيها في رسم شك في طوافة من سماع ابن القاسم
فلا معنى لإعادته وبالله التوفيق .
(9/357)
مسألة
وسئل مالك عن شراء الخصيان ، فقال : أما الرجل
يشتري لنفسه الخصي والإثنين فلا أرى بذلك
بأساً ، وأما أن ينفق لهم فلا أحبه ، قد رغب
فيهم الملوك وأكثر الناس منهم . قيل لمالك
أفتكره أن يقف الرجل المسلم على الرومي فيقول
أخص هذا ؟ فقال :وما بأس هذا ؟ قيل : إنهم
يقولون : إذا قلت هذا ذهبوا بهم فخصوهم ، قال
هو أعلم بهذا منك .
قال محمد بن رشد : قوله أن ينفق لهم معناه
يشتريهم للتجارة ، ويتخذهم متجراً ،وهذا مثل
ما في سماع أشهب من كتاب جامع البيوع .
قوله فيه ترك التجارة في الخصيان أحب إلي .
وأما تحريمه فلا ، قيل له : لأن شراءهم قوة
على خصائهم ، قال : نعم ، وذلك بين على ما
قاله ، ولم ير شراء الرجل الواحد والإثنين مما
ينفقهم ويكون قوة على خصائهم أي سبباً للإكثار
من ذلك ، لأنه قد علم أنه لا يشتريهم ويتخذهم
إلا القليل من الناس ، فإذا كان القليل من
الناس لا يشتري منهم إلا الواحد والإثنين لم
يكن ذلك تنفيقاً لهم ، وقد كان لمالك خصي ،
ولعمر بن عبد العزيز وبالله التوفيق .
مسألة
وسئل عما يخلط الناس اللبن بالماء لاستخراج
زبدة ما ترى به بأساً ؟ قال : لا بأس بذلك
وذلك يصنع عندنا ، وأما الذي أكره من ذلك الذي
يخلط به الماء بعد ذلك ، فأما هذا الذي يصلح
به فلا بأس به .
(9/358)
قال محمد بن
رشد : هذا كما قال إن خلط الماء باللبن
لاستخراج زبدة ، وبالعصير ليتعجل تخليله لا
بأس بذلك ، لأنه إنما يفعل للإصلاح لا للغش
والإفساد ، وكذلك التبن يجعل تحت القمح عندما
يخزن على ما مضى في رسم حلف من سماع ابن
القاسم ، ولما صحت عند سحنون عليه مالك في
جواز خلط الماء باللبن لاستخراج زبدة ،
وبالعصير ليتعجل تخليله لا بأس بذلك ، لأنه
إنما يفعل للإصلاح لا للغش والإفساد ، وكذلك
التبن يجعل تحت القمح عندما يخزن على ما مضى
في رسم حلف من سماع ابن القاسم ، ولما صحت عند
سحنون علة مالك في جواز خلط الماء باللبن
لاستخراج زبدة قاس عليها خلط الماء بالعصير
لاستعجال تخليلة ، فإنما قاس ( على ) علته لا
على مجرد قوله دون الاعتبار بعلته ، فقوله
قياساً على قول مالك معناه قياساً علة قول
مالك ، وقد وقع ذلك لمالك نصاً في رسم إن خرجت
من سماع عيسى من كتاب جامع البيوع ، وهو دليل
على صحة قياس قول سحنون وبالله التوفيق .
ومن كتاب الأقضية الثاني
وسألته عن إفراغ صاح السوق اللبن إذا مزج بماء
وإنها به متاع أهل السوق إذا خالفوا ما أمرهم
به ، فقال : لا يحل ولا ينبغي أن ينتهب مال
أحد ، ولا ( يحل ذلك ) في الإسلام ، ولا يحل
ذنب من الذنوب مال الإنسان ما يحل ماله وإن
قتل نفساً ، وأرى أن يضرب من أنهب ومن انتهب .
قال محمد بن رشد : قد مضى هذا المعنى والقول
فيه في رسم شك في طوافه من سماع ابن القاسم
فلا معنى لإعادته وبالله التوفيق .
(9/359)
ومن كتاب
الأقضية الثالث
وسئل مالك فقيل له : إن أموراً تكون عندنا
علانية من حمل المسلم الخرم علانية ومشيه مع
المرأة الشابة في الطريق يحادثها ن فإذا كلم
فيها قال : هي مولاتي ، أليس يجب أن يتقدم في
مثل هذا ويمنع منه ؟ فقال : وددت أن بعض الناس
يقوم في مثل هذا ويمنع منه ، وإني لأحب ذلك
وأراه . قيل له : أرأيت إن كان بعض من يريد
القيام في مثل هذا لا يقوى عليه إلا بسلطان
فأتى سلطاناً فأنهى ذلك إليه وأخبره بعظيمه ،
فقال له السلطان : ما أجد لهذا أحد أثق به
فدونك ، فقبل ذلك منه على أنه لا يجلس في موضع
معروف ، ولا ينظر في حد ولا يوقع حداً ولكن
أمر ونهي أتحب له أن يدخل في ذلك بأمر السلطان
؟ فقال : إن قوي على ذلك وأصاب العمل فما أحس
ذلك فليفعل .
قال محمد بن رشد : الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر واجب على كل مسلم بثلاثة شروط : أحدها
أن يكون عالماً بالمعروف والمنكر ، لأنه إن لم
يكن عارفاً بهما لم يصح له أمر ولا نهي ، إذ
لا يأمن أن ينهي عن المعروف ويأمر بالمنكر .
والثاني أن يأمن من أن يؤدي إنكاره المنكر إلى
منكر أكبر منه ، مثل أن ينهي عن شرب خمر فيؤول
نهيه عن ذلك إلى قتل نفس وما أشبه ذلك ، لأنه
إن لم يأمن ذلك لم يجز له أمر ولا نهي .
والثالث أن يعلم أو يلغب على ظنه أن إنكاره
المنكر مزيل له ، وأن أمره بالمعروف مؤثر
ونافع ، لأنه إن لم يعلم ذلك ولا غلب على ظنه
لم يجب عليه أمر ولا نهي ، فالشرطان الأول
والثاني مشترطان في الجواز ، والشرط الثالث
مشترط في الوجوب ، فإذا عدم الشرط الأول
والثاني لم يجز
(9/360)
أن يأمر ولا
ينهي ، وإذا عدم الشرط الثالث ووجد الشرطان
الأول والثاني جاز له أن يأمر وينهى ، ولم يجب
ذلك عليه ، والدليل على وجوب ذلك بالشرائط
المذكورة قول الله تعالى : { المؤمنون
والمؤمنات بعضهم أولياء بعض ، يامرون بالمعروف
وينهون عن المنكر } وقوله : { الذين إن مكناهم
في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا
بالمعروف ونهو عن المنكر وقول رسول الله صلى
الله عليه وسلم : " والذي نفسي بيده لتأمرن
بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد
السفيه ولتأطرنه على الحق أطراء ، أو ليصرفن
الله قلوب بعضكم على بعض ويلعنكم كما لعن بني
إسرائيل ، ان إذا عم العامل منهم بالخطيئة
نهاه الناهي تغريراً فإذا كان من الغد جالسه
وآكله وشاربه وكأنه لم يره على خطيئة بالأمس ،
فلما رأى الله ذلك صرف قلوب بعضهم على بعض ،
ولعنهم على لسان نبيهم داود وعيسى صلى الله
عليهما " " ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون " وحمل
الرجل الخمر علانية ومشيه مع المرأة الشابة
يحادثها وما أشبه ذلك من المناكر الظاهرة لا
يقدر على تغييرها جملة إلا السلطان ، فواجب
عليه أن ينكرها ويغيرها جهده ، بأن يولي من
يجعل إليه تفقد ذلك والقيام ( به ) قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله لا يعذب
العامة بعمل الخاصة . ولكن إذا عمل المنكر
جهاراً ستحقوا العقوبة كلهم " . ويستحب لمن
دعاه الإمام إلى ذلك أن يجيبه إليه إذا علم أن
فيه قوة عليه كما قال مالك رحمه الله ، لما في
ذلك من التعاون على فعل الخير قال تعالى : {
وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على
الإثم والعدوان }
(9/361)
ومن لم يدع إلى
ذلك فيجب عليه أن ينكر من ذلك ما أطلع عليه
مما مر به واعترضه في طريقه على الشرائط
الثلاث . وأما الانتداب إلى ذلك والقيام
بتفقده وتغيره فلا يجب على أحد في خاصة نفسه
سوى الإمام ، وإنما يستحب ذلك له إذا قوي عليه
، وهو قول مالك في هذه الرواية ، وددت أن بعض
الناس يقوم في مثل هذا ويمنع منه . وقول الله
تعالى : { يأيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا
يضركم من ضل إذا اهتديتهم } معناه في الزمان
الذي لا ينتفع فيه بالأمر بالمعروف ولا بالنهي
عن المنكر ، ولا يقوى من ينكره على القيام
بالواجب في ذلك فيسقط عنه الفرض فيه ، ويرجع
أمره إلى خاصة نفسه ، ولا يكون عليه سوى
الانكار بقلبه ولا يضره مع ذلك من ضل ، يبين
هذا ما روى عن أنس بن مالك قال : " قيل : يا
رسول الله متى نترك الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر ؟ قال : إذا ظهر فيكم ما ظهر في بني
إسرائيل ، قيل : وما ذاك يا رسول الله ؟ قال :
إذا ظهر الادهان في خياركم ، والفاحشة فش
شراركم ، وتحول الملك في صغاركم والفقه في
أراذلكم } . والذي كان ظهر في بني إسرائيل هو
ما تقدم في الحديث الذي قبل هذا ، ويريد
بالملك السلطان الذي إليه إقامة أمر الإسلام
من إقامة الجمعة والجماعات ، وجهاد العدو،
وسائر ذلك مما يرجع أمر الشرع إلى الإمام
فليزم العامة الاقتداء به . وما روى عن وما
روى عن أبي أمية قال : سألت أبا ثعلبة الخشنى
فقلت كيف نصنع في هذه الآية ؟ قا : اية آية ؟
قلت : " يأيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا
يضركم من ضل إذا اهتديتم } فقال
(9/362)
لي : أما والله
سألت عنها خبيراً عنها رسول الله صلى الله
عليه وسلم فقال : بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا
عن المنكر حتى إذا رأيت شحاً مطاعاً ، وهوى
متبعاً ، ودنيا مؤثرة ، وإعجاب كل ذي رأي
برأيه ، ورأيت أمراً لا يدلك به ، فعليك بنفسك
، وإياك أمر العوام إن من ورائكم أيام الصبر
فيهن صبر على مثل قبض على الجمر للعامل يؤمئذ
منهم كأجر خمسين رجلاً يعملون مثل عمله " وما
أشبه زماننا بهذا الزمان ، تغمدنا الله بعفو
منه وغفران ، فإذا كان الزمان زمانا يوجد على
الحق فيه معين لله ، فلا يسع أحداً السكوت على
المناكر وترك تغييرها . قال عمر بن الخطاب رضي
الله عنه : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول : " إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا
على يديه يوشك أن يعمهم الله بعقاب " وبالله
التوفيق .
مسألة
قال مالك وحدثني العلاء بن عبد الرحمن أن عمر
بن الخطاب قال : لا يتجر هؤلاء العجم ولا
يبيعون في سوقنا ينقصون المكيال والميزان .
قال محمد بن رشد : قد مضى القول في هذا المعنى
في رسم حلف ليبيعن رجلاً سلعة سماها ، ورسم
باع غلاماً من سماع ابن القاسم فلا معنى
لإعادته والله الموفق .
(9/363)
ومن كتاب مسائل
البيوع
قال وسألته عن الذين يكون منزله على طريق
الجلاب يشتري منهم . قال لا يعجبني أن يشتري
منهم إلا الضحايا وما يريد أن يأكل ، فأما أن
يشتري ما يريد بيعه فلا أرى ذلك ، وذلك من
التلقي . قلت له : أفرأيت الذي يخرج من
المدينة فيتلقي السلع فيشتري ثم يقدم بها
المدينة فيبيع أو يمسك ؟ قال : لا خير فيه باع
أو أمسك ، إنما يجوز ذلك للذي يكون على طريقها
منزله يشتري لغير البيع لنفسه ، وإنما كره
التلقي في أن يذهب الرجل من البلد قد عرف
أسعارها فيشتري ثم يقدم فيبيع على معرفة .
وسألته عن تلقي السلع في داخل المدينة بأفواه
الطرق ، فقال : إن ذلك ليفعل بالمدينة يتلقون
بأفواه الطرق ، فلا أرى أن يصلح ذلك ، وأرى أن
يمنعوا منه حتى يهبد بها إلى السوق ، وبعض من
يحدث يقول في حديثه : حتى يهبط بها الأسواق :
فلا أرى ذلك حتى يهبط بها إلى السوق فينالها
الضعيف والقوي .
قال محمد بن رشد : أجاز للذي يكون منزله على
طريق الجلاب ( وبينه ) يريد أو بين المدينة
والحاضرة . الأميال أن يشتري منهم ما يحتاج
إليه ليأكله أو يضحي به لما عليه من المشقة في
النهوض إلى الحاضرة ، ولم يجز لمن كان في
الحاضرة أن يشتري ما مر به من ذلك إذ لا مؤونة
عليه في النهوض إلى السوق لقربه منه ، وكذلك
لا يجوز له أن يتلقى شيئاً منها بالمدينة
بأفواه الطرق ، لأن ذلك بمنزلة أن يخرج من
الحاضرة إلى الطرق فيشتري ما يأتي من الجلائب
وهو التلقي المنهي عنه في الحديث ، وأما ما
يريد به التجارة فلا يشتريه بالطريق ، و إن مر
به
(9/364)
في منزله
بقريته ، وبينه وبين الحاضرة التي توجه
بالمتاع نحوها الأميال . قال ابن حبيب في
الواضحة أو الأيام ، وقد مضى بيان هذا والقول
فيه في رسم حلف ألا يبيع رجلاً سلعة سماها من
كتاب الضحايا ، وسيأتي في رسم يوصي لمكاتبه من
سماع عيسى بعد هذا من هذا الكتاب القول في
الحكم في ذلك إذا وقع وبالله التوفيق .
ومن كتاب البيوع الأول
(قال ) وسألته عم يلقى الجزر أتحب أن يشتري من
لحمها ؟ قال : لا أحب أن يشتري من لحمها .
قال محمد بن رشد : إنما كره الشراء من لحمها
مراعاة لقول من يرى أن البيع فاسد يجب فسخه ،
وأن البيع الفاسد كلا بيع ، ولا ينتقل به ملك
البائع ، وتكون المصيبة منه إن تلف عند
المشترىي ببينة هو قول شاذ ، إلا أنه موجود في
المذهب ، رواه أبو زيد عن ابن القاسم في كتاب
جامع البيوع ، ويقو أيضاً من سماع يحيي من
كتاب الجعل والإجارة ، فيكون على هذا القول من
اشترى منه كأنه اشترى لحم شاة مغصوبة ،
والقياس أن الشراء من لحمها جائز على المشهور
في المذهب من أنها تعرض على أهل الأسواق ، إذ
قد فات ذلك فيها بالذبح ، وعلى القول أيضاً
بأنه بيع فاسد لملطابقته للنهي ، إذ قد فات
بالذبح أيضاً ، ووجب أن يمضي بالثمن أو تر إلى
القيمة ، فإنما اشترى من حلم شاه قد صح ملكه
لها ودخلت في ضمانه ، ولم يكن في عينها حق
لبائعها ولا لأهل السوق وبالله التوفيق .
مسألة
وسئل مالك عن التجارة في عظام على قدر الشبر
يجعل لها
(9/365)
وجوه ، فقال
الذي يشتريها ما يصنع بها ؟ فقيل يبيعها .
فقيل ما يصنع بها ؟ قيل يلعب بها الجوري
يتخذنها بناتاً . قال : لا خير في الصور ، ولا
هذا من تجارة الناس .
قال محمد بن رشد : قوله : لا خير في الصور
وليس هذا من تجارة الناس يدل على أنه كره ذلك
ولم يحرمه ، لأن ما هو حرام لا يحل ، فلا يعبر
عنه بأنه لا خير فيه ، لأن ما لا خير فيه
فتركه خير من فعله ، وهذا هو حد المكروه ، لأن
المكروه ما في تركه ثواب ، وليس في فعله عقاب
، فهو لا خير فيه ، ومعنى ذلك إذا لم تكن
صوراً مصورة مخلوقة مخروطة مجسدة على صورة
الإنسان ، وإنما كانت عظاماً غير مخلوقة على
صورة الإنسان ، إلا أنه عمل فيها شبه الوجوه
بالتزويق فأشبه الرقم في الثوب ، وإلى هذا نحا
أصبغ في سماعه من كتاب الجامع ، فقال : ما أرى
بأساً ما لم تكن ثماثيل مصورة (مخلوقة )
مخروطة ، إلا أنه علل ذلك بعلة فيها نظر ، قال
: لأنها تبقى ، قال : ولو كانت فخاراً أو
عيداناً تنكسر وتبلى رجوت أن تكون خفيفة إن
شاء الله ، كمثل رقوم الثياب بالصور لا بأس
بها ، لأنها تبلى وتمتهن ، والصواب ألا فرق في
ذلك بين ما يبقى أو ما يبلى فلا يبقى مما هو
تمثال فجسد ، له ظل قائم مشبه بالحيوان الحى ،
لكونه على هيئته ، وإنما استخفت الرقوم في
الثيا من أجل أنها ليست بتماثيل مجسدة لها ظل
قائم تشبه الحيوان في أنها مجسدة على هيئتها ،
وإنما هي رسوم لا أجساد لها ولا تحيا في
العادة ما ان على هيأتها ، فالمحظور ما كان
على هيئة ما يحيا ويكون له روح بدليل قوله في
الحديث : " إن أصحاب هذه الصور يعذبون ، ويقال
لهم يوم القيامة : أحيوا ما خلقتم " .
والمستخف ما كان
(9/366)
بخلاف ذلك مما
لا يحيا في العادة ما كان على هيئته ،
فالمستخف من هذه اللعب المصورة للعب الجواري
لما جاء من أن عائشة رضي الله عنها كانت تعلب
بها بعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا
ينكر ذلك عليها ، بل كان ينتدب الجواري إليها
، ما كان مشبها بالصورة وليس بكامل التصوير ،
وكلما قل الشبه قوي الجواز ، وكلما جاز اللعب
به جاز عمله وبيعه ، قال ذلك أصبغ في سماعه (
من الجامع وبالله التوفيق .
مسألة
وسأله صاحب سوق المدينة عنه إن جاء إلى أهل
السوق فقال : ليس بأيديكم شيء تعتلون به علينا
. اشتروا على ثلث رطل يسعره عليكم من الضأن
وعلى نصف رطل يسعره عليكم من الإبل ، وإلا
فأخرجوه من سوقنا ولا تشتروا شيئاً . فقال :
والله ما كنت أرى بهذا بأساً إذا سعر عليهم
شيئاً يكون قدر لحمهم واشترائهم ولم يشتط
عليهم ، وعلى قدر ما يقوم لهم ، لا أرى بهذا
بأساً ، ولكن أخاف أن يقوموا من السوق .
قال محمد بن رشد : هذه مسألة قد مضى القول
فيها مستوفى في رسم سلعة سماها من سماع ابن
القاسم فلا معنى لإعادته وبالله التوفيق .
مسألة
وقيل لمالك إن صاحب الجار أراد أن يسعر على
أصحاب
(9/367)
السفن ، فذهبوا
إلى جدة ، فقال : بيس ما صنع صاحب الجار إن
كان فعل .
قال محمد بن رشد : هذا كما قال ، وهو مما لا
اختلاف فيه أنه لا يسعر على الجلاب ، وقد مضى
ذلك في رسم سماها ، فلا معنى لإعادته وبالله
التوفيق .
ومن كتاب العقول
قال وسألته على الذي يسقيه الطبيب فيموت ، وقد
سقى أمة بالمدينة فماتت من ساعتها . أعليه غرم
؟ فقال : ما أرى عليه غرماً ، ولكن لو تقدم
إليهم الآن في ذلك ضمنوا لكان نعم الشيء ،
يقال لهم أيما طبيب سقى إنساناً أو بطه فمات
فعليه الضمان ، وأرى أن يفعل ذلك بهم ويتقدم
إليهم ألا يداوي أحد لا يعلم . يعمد أحدهم إلى
الصحيح الذي ليس به بأس فيسقيه شيئاً فيقتله
قال مالك : قال لي ربيعة غيرة مرة ولا مرتين :
ولا تشرب من دواء هؤلاء ألأطباء إلى شيئاً
تعرفه . قال مالك : وإني بذلك لمستوص . قال
مالك وإني لأرى شيئاً تعرفه . قال مالك : وإني
بذلك لمستوص ز قال مالك : وإني لأرى للإمام أن
لو نهى هؤلاء الأطباء عن الدواء إلا طبيباً
معروفاً ، وأرى أن يقول لهم من داوى إنساناً
فمات فعليه ديته ، وأرى ذلك عليهم إذا أنذر
مثل أن يسقي إنساناً صحيحاً فموت مكانه فهذا
سم ، فأرى إذا تقدم إليهم أن يغرموا ، ومثل
الذي يقطع عرقاً فلا يزال يسيل دمه حتى يموت ،
فأما الذي يداوي المريض فمنهم من يموت ومنهم
من
(9/368)
يعيش فليس ذلك
هذا ، وهذا سقى جارية بها بهق فماتت من ساعتها
فهل هذا الإ سم .
قال محمد بن رشد : هذه مسألة قد مضى تحصيل
القول فيها في رسم كتب عليه ذكر حق من سماع
ابن القاسم فلا معنى لإعادته وبالله التوفيق .
ومن كتاب البيوع الأول
قال أشهب وابن نافع سئل مالك عن الذي يشتري
المتاع فيه الخلل والسقط فيستأجر ( عليه ) كما
دين فيكمدونه حتى يصفق فينسد كل خلل أو سقط ،
ثم يبيعونها أترى بذلك بأساً ؟ قال لا خير في
الغش وأنا أكره مثل هذا . قيل له أفرأيت الرجل
يأتي بطعامه التمر وما أشبهه فيصبره صبراً
فيكون حشفة داخله وظاهره فيجمع ما على وجه
الصبرة فيلقيه ناحية لا يدخله في جوف الصبرة ؟
قال : لا يفعل مثل هذا . هذا التزيين ولا
يعجبني ذلك ، قلت : أرأيت الذي يصب صبرته فيها
الحشف فيكون في داخلها وعلى وجهها ؟ قال : لا
بأس بذلك إذا لم يزين أعلاها فيكون داخلها
مخالفاً لخارجها .
قال محمد بن رشد : هذا بين على ما قال ، إن
كمد المتاع ليصفق وينسد ما فيه من سقط وخلل من
الغش الذي لا ينبغي ، فيكون للمشتري أن يرد إن
لم يعلم أن الكمد يصفقه ويسد خلله وسقطه ما
كان المتاع قائما، فإن فات رد إلى القيمة إن
كانت أقل من الثمن على ما مضى في رسم سلعة
سماها في مسألة خمر القز ترش بماء الخبز لتشتد
وتصفق ، وكذلك تنقية ظاهر الصبرة من الحشف ،
لأن المشتري يظن أن باطنها في
(9/369)
النقاء من
الحشف مثل ظاهرها ، وأما إذا لم ينق أعلى
الصبرة من الحشف فلا كلام للمشتري ، لأنه
يستدل بظاهرها على باطنها وبالله التوفيق .
ومن كتاب أوله القراض
وسأل ابن كنانة مالكاً لابن غانم ، فقال : إن
القضاة كانوا قبلي يتخذون رجلاً لقياس جراحات
الناس ، فما رفع إليهم قبلوه قبلي يتخذون
رجلاً لقياس جراحات الناس ، فما رفع إليهم
قبلوه منه ، أتى أن يجزي في ذلك رجل واحد أم
لا يجزي فيه إلا رجلان ؟ فقال : اكتب إليه إن
وجد رجلين فيجعلهما ويقبل ذلك منهما ، وإن لم
بجد إلا رجلاً واحداً فأرى ذلك مجزئاً عنه إذا
كان عدلاً .
قال محمد بن رشد : هذا مثل ما في المدونة في
استخلاف المرأة ومثل ما مضى في رسم الأقضية
لابن غانم من سماع أشهب من كتاب ( الأقضية )
في الترجمان ، ومثل ما في سماع أصبغ من كتاب
الحدود في الاستنكاه وهو مما لا اختلاف فيه ،
إن كان ما يبتدئ القاضي فيه بالسؤال ، ولم يكن
على وجه الشهادة فيكتفي فيه بالواحد ،
والإثنان أولى وأحسن وبالله التوفيق
ومن كتاب الجامع
وسئل مالك عن حلاق الصبيان قصة وقفاء ، فقال :
ما يعجبني ، قلت له : من الجواري والغلمان .
فقال : ما يعجبني من الجواري ولا من الغلمان
إن كانوا يريدون أن يدعوا شعره كله فليدعوه ،
وإن انوا يريدون أن يحلقوه فيحلقوه كله ، وقد
كاتبت
(9/370)
في ذلك يعض
الأمراء وأمرته أن ينهى عن القصة . فسئل عن
القصة وحدها بلا قفاء ، فقال مثل قوله في
القصة والقفاء .
قال محمد بن رشد : حلاق الصبي القصة وقفاء هو
أن يحلق وسط رأسه ويبقى مقدمه مقصوصاً على
وجهه ، ومؤخره مسدولاً على قفاه وحلاقة قصة
بلا قفاء هو أن يحلق وسط رأسه إلى قفاه ، و
يبقى مقدمه مقصوصاً على وجهه ، وذلك كله مكروه
للصبيان كما قال ، لما جاء من أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم : " نهى عن القزع " وهو
حلق بعض الرأس دون بعض ، فعم ولم يخص صغيرا من
كبير ، ولم يكره مالك القصة للصغيرة إذا لم
يحلق بعض رأسها على ظاهر هذه الرواية كما كرهه
للكبيرة ، ففي تاب جامع المسائل والحديث لأصبغ
قال : سمعت ابن القاسم يقول : كره مالك القصة
لشعر المرأة كراهية شديدة . قال : وكان فرق
الرأس أحب إلى مالك فيما أظن .
قال محمد بن رشد : وإنما كره ذلك ( لها )
والله أعلم . لما جاء من " أن أهل الكتاب
كانوا يسدلون شعورهم ، وكان المشركون يفرقون ،
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب موافقة
أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه ، فسدل رسول الله
صلى الله عليه وسلم ناصيته ثم فرق بعد " "وروى
عيسى عن ابن القاسم عن مالك قال : رأيت عامر
بن عبد الله بن الزبير ، وربيعة بن أبي عبد
الرحمن ، وهشام بن عروة يفرقون شعورهم ، وكان
لهشام جمة إلى كتفيه " ، وروي أن عمر بن عبد
العزيز كان إذا انصرف من الجمعة أقام على باب
المسجد حرساً يجزون كل من لم يفرق شعره وقد "
روى أن شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم كان
دون الجمة وفوق الوفرة " ، " وروى أنه كان إلى
شحمة
(9/371)
أذنه" . وروى
أنه كان بين أذنه وعاتقه ، وروى أنه كان يضرب
منكبيه " ، وهذا يدل على أن اتخاذ الشعر أحسن
من جزه وإحفائه ، وذهب الطحاوي إلى أن جزه
وإحفاءه أحسن من اتخاذه واستعماله ، واحتج بما
روي من أن أبا وائل بن حجر " أتى رسول الله
صلى الله عليه وسلم وقد جز شعره ، فقال له :
هذا أحسن " . قال : لأن ما قال فيه رسول الله
صلى الله عليه وسلم إنه أحسن فلا شيء أحسن منه
، ومعقول أن قد صار إليه وترك ما كان عليه قبل
ذلك ، إذ هو أولى بالمحاسن كلها من جميع الناس
، وهذا في الرجال ، وأما في المرأة فلا اختلاف
. في أن جز شعرها مثلة ، وفي كتاب المدينين
سئل ابن نافع هل كره للمسلمة أن تفرق قصتها
كما يصنع نساء أهل الكتاب ؟ قال : لا ، وبالله
التوفيق .
مسألة
وسئل مالك عمن أحفى شاربه ، فقال : يوجع ضرباً
وليس هذا حديث النبي صلى الله عليه وسلم
بالإحفاء ، وكان يقال : يبدو حرف الشفتين
الإطار . وقال لم يحلق شاربه . هذه بدع تظهر
في الناس ، وذكر زيد بن أسلم أن عمر كان إذا
أكربه أمر نفخ يقول أواه أواه ، قال فجعل رجل
يراده وهو يفتل شاربه بيده ، قال فلو كان
شاربه منموصاً ما وجد ما يفتل . هذه بدع قد
ظهرت في الناس .
قال محمد بن رشد : إنما سئل مال عمن أحفى
شاربه لما جاء من أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم أمر بإعفاء اللحاء وإحفاء الشوارب ،
والاحفاء الاستئصال بالحلق . وجمله جماعة من
العلماء على ظاهر وعمومه ،منهم أبو حنفية
(9/372)
والشافعي
وأصحابهما . فقالوا : إحفاء الشوارب أفضل من
قصها . وإلى هذا ذهب أحمد بن حنبل ، فكان يخفى
شاربه إحفاءً شديداً . ويقول : السنة فيه أن
يحفي كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" أحفوا الشوارب " ، وذهب مالك رحمه الله إلى
أن السنة فيه أن يقص ويؤخذ منه حتى يبدو طرف
الشفة : الإطار ، ولا يستأصل جميعه بالحلق
لأنه روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : "
من لم يأخذ شاربه فليس منها " ، وأنه قال :
خمس من الفطرة . فذكر منها قص الشارب ، فجعل
ذلك من قوله مبيناً بإحفاء الشوارب ، فقال :
معناه أن يقص حتى يحفي منه الإطار لا جميعه .
قوله صحيح ، لأن استعمال الأحاديث وحمل بعضها
على التفسير لبعض أولى من الأخذ ببعضها
والاطراح لسائرها ، لاسيما وفي العمل المتصل
من السلف بالمدينة بترك إحفاء الشوارب دليل
واضح على أنهم فهموا عن النبي - عليه السلام -
انه إنما أراد بإحفاء الشوارب قصها والأخذ
منها وألا تعفى كما يفعل باللحاء وهو دليل
واضح ، لذلك قال : إن حلق الشارب مثلة ، وحكم
له بأنه بدعة ، ورأى أن يؤدب من فعل ذلك لما
فيه من تقصي السلف المتقدم في مخالفتهم ظاهر
الحديث والجهل به وهم ما جهلوه ولا خالفوه ،
لكنهم تأولوه على ما تأوله عليك مالك والله
أعلم . ولا يصح أن يكون المتأخر أعلم بمراد
النبي عليه السلام من السلف المتقدم ، وقد قال
بعض المتأخرين : إن الشارب لا يقع إلا على ما
يباشر به شرب الماء ، وهو الإطار ، فذلك الذي
يحفى ، والصحيح أن الشارب ما عليه الشعر من
الشفة العليا إلا أن المراد بإحفائها إحفاء
بعضها وهو الإطار منها . لا إحفاء جميعها ،
بدليل الحديثين الآخرين ، وقد روي عن ابن
القاسم أنه كان يكره أن يؤخذ من أعلاه ،
(9/373)
ويقول تفسير
حديث النبي عليه السلام في إحفاء الشارب إنما
هو الإطار ، والأظهر أن ذلك ليس بمكروه ، وأنه
مستحسن ، فيقص جميع الشارب لما جاء في الحديث
من أن قصة من السنة ، ويحفى الإطار منه ، لما
جاء في الحديث من الأمر بإحفاء الشوارب .
من سماع عيسى بن دينار من كتاب نقدها نقدها
قال وسمعته يقول في المصحف بقرآءة ابن مسعود
التي تذكر عنه ، قال : أرى أن يمنع الإمام من
بيعه ويضرب من قرأ به يمنعهم أن يقرأوا به
ويظهروه .
قال محمد بن رشد : إنما قال ذلك لأنها قراءة
لم تثبت ، إذ إنما نقلت نقل آحاد ، ونقل الآحد
غير مقطوع به ، والقرآن إنما يؤخذ بالنقل
المقطوع به ، وهو النقل الذي تنقله الكافة عن
الكافة بما لم يقطع عليه أنه قرآن ، إذ حمكه
حكم ما يروى عن النبي عليه السلام من الأحاديث
والأخبار ، فلا تجوز الصلاة به ، وكذلك قال في
المدونة أن من صلى خلف من يقرأ بقراءة ابن
مسعود أعاد في الوقت وبعده ، وإن علم وهو في
اصلاة قطع وخرج ، فوجب على الإمام من أجل هذا
أن يمنع منه ويضرب عليه ، ولا يثبت قراءة سوى
ما ثبت بين اللوحين في مصحف عثمان ، وقد قيل
في القراءة التي تنسب إلى ابن مسعود إنها
قراءة كان يقرؤها على وجه التفسير لأصحابه ،
لا على أنها قرآن ، فإن كان كذلك فالمعنى في
المنع من قراءة المصحف المكتوب على هذا وبيعه
بين لا يخفى وبالله التوفيق .
(9/374)
ومن كتاب أوله
العرية
قال عيسى : وقال ابن القاسم : لا أرى لحكم
المسلمين أن يمنع النصارى واليهود من الوصايا
في أموالهم ، وإن أحاطب الوصايا بأموالهم
ويتركون على شرائعهم ، وإن تحاكموا إلى
المسلمين ورضي الخصمان وقساوستهم حكم بينهم
بحكم الإسلام ، ولم يجز وصاياهم إلا في الثلث
، وكذلك مواريثهم ، وكذلك كل شيء رضي به
النصارى فيما بينهم بحكم الإسلام فلا يكون ذلك
ولا يحكم بينهم إلا برضى من أساقفتهم ، فإن
كره أساقفتهم ذلك ، فلا يحكم الملمون بنيهم ،
وإن رضي أساقفتهم بحكم الإسلام وأبي ذلك
الخصمان أو أحدهما لم يحكم المسلمون عليهم ،
وسئل عنها سحنون وقيل له : النصراني أله أن
يوصي بجميع ماله ؟ فقال : ذلك يختلف ، أما إذا
كان من أهل العنوة فليس ذلك له ، لأن ورثته
المسلمون إذا مات ، فليس له ان يفر بميراثه
وماله لأنه من أهل العنوة ، ومن كان أيضاً من
أهل الصلح ممن عليه الجزية على جمجمته ، وكل
واحد إنما عليه شيء يؤديه عن نفسه ليس يؤخذ
غنيهم بمعدمهم ، فإن ذلك أيضاً ليس له أن يوصي
بجميع ماله ، وليس له أن يوصي إلا بثلثه إذا
كان لا وارث له من أهل دينه ، لأن ورثته
المسلمون ، وأما إذا كان من أهل الصلح صالحوا
على أن عليهم وظيفة معلومة من الخراج ليس
ينقصون منه أبداً لموت من مات منهم ، أو عدم
من إعدام منهم ، وبعضهم مأخوذ ببعض ، فليس
يعرض لهم في وصاياهم ، وليس لنا أموالهم إن
مات منهم أحد ولا وراث له ، وكان لأهل خراجه
يتقوون به في خراجهم ، لأنههم هم المأخوذون
بخراجه ، وبعضهم قوة لبعض في الخراج .
(9/375)
قال محمد بن
رشد : قول ابن القاسم إنه لا يمنع النصارى ولا
اليهود من الوصايا في أموالهم وإن أحاطت بجميع
أموالهم ، معناه إذا كان لهم ورثة من أهل
دينهم وهو صحيح ، إذ لا اختلاف في أن ميراثهم
لورثتهم من أهل دينهم ، فلا ضرر على المسلمين
فيما يوصون به من أموالهم ، وسواء كانوا من
أهل الصلح أو من أهل العنوة على مذهب ابن
القاسم ، فهو نص قوله في سماع يحيي من كتاب
التجارة إلى أرض الحرب ، ومن كتاب الاستلحاق
أنه في مواريثهم وأهل الصلح سواء ، وهو على
قياس رواية عيسى عنه في كتاب التجارة إلى أرض
الحرب أن لهم حكم الأحرار في دية من قتل منهم
وفي تزويج نسائهم والنظر إلى شعورهن ، ويأتي
على قيا س ما في سماع سحنون من كتاب التجارة
إلى أرض الحرب من أنهم في حكم العبيد المأذون
لهم في التجارة أن يكون ميراثهم للمسلمين و إن
كان لهم ورثة من أهل دينهم وألا يجوز لهم وصية
بثلث ولا غيره ، وهو ظاهر قول سحنون ، لأنه لم
يقصد إلى التكلم على الوصية بجميع المال ،
فيكون في قوله دليل على إجازة الوصية بالثلث ،
وقد يتأول قوله على أنه لا وارث لهم من أهل
دينهم فلا يكون قوله خلافاً لقول ابن القسام .
قوله : وان تحاكموا إلى المسلمين ورضي الخصمان
وقساوستهم حكم بينهم بحكم الإسلام ولم تجز
وصاياهم إلا في الثلث ، معناه إن شاء أن يحكم
بينهم ، إذ لا يلزمه ذلك على مذهب مالك لقول
الله تعالى : { فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض
عنهم } وإنما يخالف في هذا بعض أهل العراق ،
وقد مضى هذا في نوازل سحنون من كتاب الأقضية
ومضى تحصيل القول فيه في رسم لم يدرك من سماع
عيسى من كتاب التجارة إلى أرض الحرب ، وشرط
ابن القاسم رضى قساوستهم مع رضاهم يحلم على
التفسير لما في المدونة خلاف قول سحنون في
نوازله من كتاب الأقضية إنه لا يلتف في ذلك
إلى رضى أساقفتهم إذا رضوا هم بأن يحكم
(9/376)
بينهم حكم
المسلمين ، وإذا لم يكن لليهودي أو النصراني
ورثة من أهل دينه فليس له أن يوصي بأكثر من
ثلثه ، لأن ورثته المسلمون . وهو قول ابن
القاسم في سماع أبي زيد من كتاب الوصايا ، قال
: إذا أوصى النصراني بجميع ماله في الكنيسية
ولا وارث له ، قال يدفع ثلثه إلى أساقفتهم
فيجعله حيث أوصى به ويكن ثلثاه للمسلمين ،
وهذا إذا كان من أهل العنوة أو من أهل الصلح
والجزية على جماجمهم ، وأما إن كان من أهل
الصحل والحزية مجملة عليهم لا ينقصون عنها
لموت من مات منهم ، ولا لعدم من أعدم ، فيجوز
له أن يوصي بجميع ماله لمن شاء ، لأن ميراثه
لأهل دينه على مذهب ابن القاسم ، وهو قول
سحنون خلاف ما ذهب إليه ابن حبيب من أن ميراثه
للمسلمين إذا لم يكن له وارث من أهل دينه على
كل حال وبالله التوفيق .
ومن كتاب أوله يوصى لمكاتبه
وسئل عن الرجل يتلقى السلعة فيشتريها ، قال
ابن القاسم : إذا أدركت في يده وكانت من السلع
التي ليس لها أهل راتبون في السوق فيشترونها
في حوانيتهم ويبيعونها من الناس ، وإنما جل
أمرها وشأنها إنما يبيعها جالبها من الناس
كافة ، فإنما تؤخذ من يده وتوقف للناس في لسوق
ليشتروها بما اشتراها به لا يزيدونه شيئاً ،
فإن لم يجدوا من يشتريها إلا بأنقص من ذلك
الثمن ردت عليه ، وإن كانت من السلع التي لها
أهل راتبون في السوق يشترونها ممن يجلبها
ويبيعونها من الناس فإنها تؤخذ منه ، ويشرك
فيها أهل تلك السلعة الذي يشترونها من أهلها
ويبيعونها
(9/377)
من الناس إن
أحبوها ، وإن أبوها بالثمن ردت عليه . قلت :
فإن فاتت بيده ؟ قال : إن كانت متعوداً لذلك
أدب وزجر ، وإن كان ليس متعوداً نهي وأمر ألا
يعود . قلت : أفلا ترى أن يتصدق بربح إن كان
فيها ؟ قال : ما أراه بالحرام البين ، ولو
احتاط فتصدق به لم أر به بأساً . قال سحنون
سألت ابن القاسم عن الذي يتلقى الركبان فيشتري
منهم ، قال : أرى أن تعرض السلعة على أهل
الأسواق بالثمن الذي اشتراها به ، فإن أخذوها
به و إلا ردوها عليه ، ولم أردها على بائعها ،
وأود به ضرباً وجيعاً إلا أن يعد باجهالة ،
وقال لي غير ابن القاسم يفسخ البيع في هذا وفي
بيع الحاضر للبادي ، وفي الذي يسوم على سوم
أخيه ، وفي هذه الأشياء كلها وترد السلع على
أربابها . قال أصبغ وسألت ابن القاسم عمن تلقى
سلعة أو باع لباد ، فقال : أما الذي تلقى فأرى
أن تعرض في السوق لمن احتاج من أهل تلك السلعة
أو غيرها ممن يشتري فتباع لنهي النبي صلى الله
عليه وسلم عن تلقي السلع ، وأما من باع لباد
فأرى أن يفسخ البيع ، لأن المشتري ابتاع
حراماً قد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم
عنه ، وسئل عن البيع للبدوي هل يختلف عندك إن
كان حاضراً معه أو غائباً ؟ قال : البيع له
مكروه ، حضر البادي أو غاب عنه . روى أصبغ عن
ابن القاسم في كتاب البيوع والعيوب ، قيل لابن
القاسم : أترى أهل نبا وأبو صير من أ÷ل
البوادي ؟ قال : لا لأنهما أهل مدائن ، إنما
يراد بهذا أهل القرى ، يريد به الحديث الذي
جاء عن النبي عليه السلام ، " لا يبع حاضر
لباد " . ونبا و أبو صير كورتان من كور أهل
مصر .قال عيسى : وقال ابن القاسم : إذا باع
الحاضر للبادي فسخ البيع إن
(9/378)
أدرك . قلت :
فإن فات ، قال : إن كان رجلاً متعوداص بذلك
أدب وزجر ، وإن كان على غير ذلك نهى عن ذلك
ولم يكن عليه شيء . وسئل عنها سحنون فقال :
سألت عنها ابن القاسم ، فقال : إذا باع حاضر
لباد فأرى أن يمضي البيع ، وأن يؤدب أهله ،
قال زونان : وسئل ابن وهب عن الحاضر يبيع
للبادي عالماً بمكروهه ، أو غير عالم ، هل ترى
للسلطان أن يؤدبه ؟ فقال : لا يؤدب ، ولكن
يزجر عن ذلك .
قال الإمام القاضي رحمه الله : فرق ابن القاسم
في رواية عيسى وأصبغ عنه بين شراء المتلقي
وبيع الحاضر للبادي فأجاز شراء المتلقي ولم
يفسخه ، إلا أنه رأى أن تعرض السلعة على أهل
تلك التجارة بالثمن الذي اشتراها به إذا أدركت
في يده ، أو على جميع الناس بالسوق إن لم يكن
لها أهل . وقوله : إن أدركت بيده معناه إذا
أدركت بيده قائمة إن لم يكن لها أهل ، واختلف
بماذا تفوت في ذلك ، فقيل : إنها تفوت فيه بما
يفوت به البيع الفاسد ، وقيل : إنها لا تفوت
إلا بالعيوب المفسدة ، ولم يجز بيع الحاضر
للبادي ، فقال : إنه يفسخ ما لم يفت ، يريد ما
يفوت به البيع الفاسد ، وساوى في رواية سحنون
عنه بين البيعتين في أنهما لا يفسخان إذا
وقعتا إذ لا غرر فيهما ، ولا فساد في ثمن ولا
مثمون ، إلا أنه رأى في شراء المتلقي أن تعرض
السلعة على أهل الأسواق بالثمن الذي اشتراها
به ، ويلزم على قياس ذلك في بيع الحاضر للبادي
أن يكون للمشتري الرد إن شاء إذا لم يعلم أن
حاضراً باع له وقال : ظننته بادياً أشتري منه
رخيصاً ، ولم ير ذل له في ظاهر قوله ، وذلك
تعارض بين الوجهين ، وساوى غير ابن القاسم
بينهما في أنهما يفسخان ، قال : وكذلك الذي
يسوم على سوم أخيه ، وهو قول مالك في رواية
ابن نافع وأشهب عنه ، فقول ابن القاسم في سماع
سحنون عنه على القول بأن النهي لا يقتضي فساد
المنهي عنه ، وقول غيره ومالك في رواية أشهب
وابن نافع عنه على القول بأن النهي يقتضي فساد
المنهي عنه ، فقد قيل إنه يقتضيه من جهة وضع
اللغة ، لأن
(9/379)
النهي ضد الأمر
فلما كان الأمر يدل علي الجواز والصحه وجب أن
يدل النهي على عدمهما ووجوب ضدهما ، وهو
البطلان والفساد ، وقيل : إنما يقتضيه بدليل
الشرع ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال : " من عمل عملا ليس على أمرنا فهو رد : .
فوجب أن يرد كل بيع نهى عنه رسول الله صلى
الله عليه وسلم ، ما لم تقترن به قرينة تدل
على جوازه وأمام تفرقة ابن القاسم في رواية
عيسى عنه فلا يحملها القياس ، لأنه جعل النهي
مقتضياً للفساد في بيع الحاضر للبادي ، ولم
يجعله مقتضياً له في البيع من التلقي ، فهي
استحسان ، ووجهها أن النهي عن أن يبيع حاضر
لباد متناول للبيع نصاً ، والنهي عن تلقي
الركبان لا يتناول البيع نصاً وإنما يتناوله
بالمعنى ، ولا يقوى المعنى قوة النص مع أنه قد
اختلف في فساد البيع بمجرد النص ، وكذلك قول
من قال إن البيوع المطابقة للنهيى دون أن يخل
فيها شرط من شروط صحتها تفسخ ما لم تفت ، فإن
فاتت مضت بالثمن هو استحسان على غير قياس .
وتحصيل الاختلاف في هذا النوع من البيوع أن
نقول فيها ثلاثة أقوال : أحدها أن البيع يفسخ
فيها كلها . والثاني أنه لا يفسخ في شيء منها
. والثالث أنه يفسخ فيما تناول النهي فيه منها
البيع نصاً ولا يفسخ فيما تناوله منها بالمعنى
. واختلف على القول بانه يفسخ إلى أي حد يفسخ
؟ فقيل : إنه إنما يفسخ ما كان قائماً ، فإن
فات بما يفوت به البيع الفاسد مضى بالثمن ،
وقيل : إنه يفسخ في القيام ، ويرد إلى القيمة
في الفوات ، واختلف على القول بأنه لا يفسخ ،
هل يكون فيه حق لمن كان النهى بسببه أو لا ؟
كالنهي عن تلقي الركبان ، وعن أن يبيع حاضر
لباد ، لأن المعنى في النهي عن ذلك إنما هو
الرفق على أهل الحاضرة عند مالك وجميع أصحابه
ز فقيل : إن له في ذلك حقاً وتعرض السلعة في
التلقي على أهل الحاضرة في السوق بالثمن ، فإن
قبلوها وإلا ردت عليه ،
(9/380)
للحق الذي لهم
في ذلك ، ويكون المشتري في بيع الحاضر للبادي
بالخيار بين أخذها وردها ، إن لم يعلم أن
حاضراً باعها منه للحق الذي له في ذلك أيضاً .
وقيل : إنه لا حق له في ذلك ، فلا تعرض السلعة
في التلقي على أهل السوق ، ولا يكون للمشتري
من البادي إذا باع منه حاضر ولم يعلم خيار في
ردها ز وقد حكى ابن حبيب أن بيع الحاضر للبادي
يفسخ ، لأن عقده وقع بما نهى عنه رسول الله
إلا أن يشاء المشتري أن يتمسك ، قال : وهو قول
مالك ، وقوله بعيد خارج عن الأصول ، لأن العقد
إذا كان فاسداً بالنهي فلا يجوز للمشتري
التمسك به ، وإنما الكلام إذا لم يكن فاسداً
بالنهي على القول بأن النهي لا يقتضي فساد
المنهي عنه ، فقيل : إنه يلزم المشتري ولا
خيار له ، وقيل : إنه يكون بالخيار إذا لم
يعلم أن حاضراً باع منه على ما ذكرناه . وقد
ذهب بعض الشيوخ إلى أن يجعل قول ابن حبيب
مفسراً لرواية أصبغ وعيسى عن ابن القاسم في
هذا الرسم ، وذلك غير صحيح ، لأنه قد نص فيها
أنه بيع حرام لنهي النبي عليه السلام عنه ،
فكيف يصح أن يقال في البيع الحرام إن المشتري
فيه بالخيار ، فرواية سحنون عن ابن القاسم
مخالفة لرواية عيسى وأصبغ عنه في ثلاثة مواضع
، أحدها أن بيع الحاضر للبادي لا يفسخ .
والثاني إيجاب الأدب فيه وفي بيع التلقي إذا
لم يعذر بجهل ، لأن ابن القاسم في رواية عيسى
وأصبغ عنه لا يرى في ذلك الأدب إلا ( أن )
يكون معتاداً بذلك ، وهو قول ابن وهب في رواية
زونان عنه ، والثالث ما ذكرته من تعارض قوله
في وجوب عرض السلعة في التلقي على أهل السوق .
وأما قوله في رواية أصبغ في أهل نبا وأبو صير
أنهما كورتان من كور أهل مصر فهما كأهل
المدائن في جواز البيع لهم ، فقد مضى الاختلاف
في ذلك ، والقول فيه في رسم حلف وفي رسم تأخير
صلاة العشاء من سماع ابن القاسم ، فلا معنى
لإعادة ذلك وبالله التوفيق .
(9/381)
مسألة
قال زونان وسئل أشهب عن الحضري يأتي البدوى في
باديته فيسأله عن سعر ( السوق ) سوق السلع هل
ترى للحضري أن يخبره ويشير عليه ؟ قال : لا
أرى ذلك ، وسألت عنها ابن وهب فقال لي مثله .
قال محمد بن رشد : هذا بين على ما قال ، إذ لا
فرق بين أن يخبره بذلك في باديته أو في
الحاضرة إذا قدم ، وقد مضى القول على ذلك في
رسم حلف من سماع ابن القاسم ، فلا معنى
لإعادته والله التوفيق .
مسألة
وسئل أشهب وأنا أسمع عن رجل من أهل البادية
أتى بسلعة إلى الحضر فعرضت له علة . هل ترى
للحاضر أن يبيع سلعته ؟ قال : لا
قال محمد بن رشد : هذا كما قال ، لأنه إذا
أصابته علة يقدر على أن يتربص ببيع سلعته حتى
تذهب علته أو يدفع إلى من قدم معه من أهل
البادية يبيعها له ، إلا أن تكون من السلع
التي تفسد إن بقيت وليس معه من جيرانه ورفقائه
من أهل البادية من يتولى بيعها ( له ) فتكون
هذه ضرورة تبيح للحاضر بيعها له إن شاء الله
وبالله التوفيق .
ومن كتاب أوله الرهون
وسئل ابن القاسم عن بيع أشياء يغش بها
المسلمون ، قال :
(9/382)
ما كان من ذلك
ليس له وجه ( إلا ) الغش فلا أحب لأحد أن
يبيعه ، وما كان من ذلك فيه منفعة فمن أراد أن
يغش به أحداً فلا بأس أن يبيعه ممن لا يدري ما
يصنع به ، فإذا علم أنه يريد به الغش فلا
يبيعه منه .
قال محمد بن رشد : هذا كما قال ، إن ما ( كان
) لا منفعة فيه إلا الغش به فلا يجوز بيعه على
حال ، وذلك بخلاف الدرهم المغشوش فيجوز أن
يبيعه ممن يكسره وممن يعلم أنه لا يغش به
إلاعلى اختلاف ضعيف ، ويكره أن يبيعه ممن لا
يأمن أن يغش به ، ويختلف هل يجوز أن يبيعه ممن
لا يدري ما يصنع به ، فأجاز ذلك ابن وهب
وجماعة من السلف ، ولم يجزه ابن القاسم ، وقد
مضى القول على ذلك كله في رسم النسمة من سماع
عيسى من تاب الصرف ، وأما ما كان فيه منفعة
ويمكن أن يغش به فجائز أن يباع ممن لا يدري ما
يصنع به ، ويكره أن يباع ممن يخشى أن يغش به ،
ولا يجوز أن يباع مما يعلم أنه يغش به وبالله
التوفيق .
ومن كتاب الجواب
وسألته عن الغش غش النساء يصنعنه فيضعنه على
رؤوسهن ثم ينزعنه كهيأة القلنسية ولكنه شعر ،
قال ابن القاسم لا خير في ذلك كان من شعر أو
وبر ، فإن النساء يضعنه من وبر الإبل كما
زعموا فلا خير فيه ، كان من شعر أو بر ، قيل
لأصبغ : فشيء يعمله النساء في رؤوسهن يسمينه
النونة أترى به بأساً ؟ قال : ما
(9/383)
أرى به بأساً
ما لم يعظمنه جداً كأسنة البخت العجاف ، فهي
إذا عظمت شبيهة بذلك ، فأما ما كان مقتصداً
فلا بأس بذلك كان شكل النساء عندنا قديماً ثم
تركنه ، وأراه من شكل نساء العرب قديماً .
قال محمد بن رشد : أما الغش الذي ذكر أن
النساء يضعنه فالكراهة فيه بينة ، لأنه القصة
المنهي عنها في حديث معاوية ، إذ خطب الناس
بالمدينة فتناول قصة من شعر كانت بيد حرسي ،
فقال : يا أهل المدينة أين علماؤكم ؟ سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهي عن مثل هذه
، وقال : " إنما هلك بنو إسرائيل حين اتخذ هذه
نساؤهم " ، وهي شبه الجمة من الشعر أو الوبر ،
تضعها المرأة التي لا شعر لها ، أو التي لها
شعر لطيف على رأسها تراءى به أنه شعرها : وقد
لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الواصلة
والمستوصلة ، هذا من ذلك المعنى . وإنما
النونة التي لم ير بها أصبغ بأساً للمرأة ( ما
لم ) تعظمه جداً حتى يكون كسنام البعير الأعجف
فهو شيء كان النساء يصنعنه فيضعنه على رؤوسهن
تحت ( أخمرتهن ) هيأة من هيئاتهن لا تشبه به
أنه شعرها فلا وجه للكراهة فيه ، وإنما كره ما
عظم منه لخوجه عن شكل نساء العرب ، وكونه تشبه
شكل نساء العجم ، والتزيي بزي العجم مكروه
للنساء كما هو للرجل ، فهذا وجه قوله عندي
والله أعلم .
مسألة
وسئل عن الجزار يكون عنده اللحم السمين واللحم
(9/384)
المهزول
فيخلطهما جميعاً فيبيعها بوزن واحد مخلوطاً
والمشتري يرى ما فيه من المهزول والسمين ، غير
أنه لا يعرف وزن هذا من هذا ، قال ابن القاسم
: إذا كانت الأرطال اليسيرة الخمسة والستة ،
ومثل ما يشتري الناس على المجاز بالدرهم
والدرهمين ونحو ذلك ، فلا أرى به بأساً ، وإن
كثرت الأرطال مثل العشرين والثلاثين وما أشبه
ذلك فلا خير فيه ، وأرى أن يمنع الجزارون من
مثل هذا أن يخلطوا السمين والمهزول ، وأراه من
الغش ، ولا أرى ذلك يجوز لهم .
قال محمد بن رشد : هذا كما قال ، لأن البيوع
لا تنفك عن الغرر اليسير فهو مستخف فيها
مستجاز ، ومن الدليل على ذلك أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر ، والبيع لا
يوصف بأنه بيع غرر حتى يكون الغرر ظاهراص فيه
وغالباً عليه ، وإنما يجوز شراء الأطال
اليسيرة من اللحم المخلوط السمين بالمهزول إذا
اشتراه كله ، فرأى ما فيه من السمين والمهزول
، وإن لم يعرف حقيقة ما يقع من هذا ، لأن
الغرر في هذا خفيف يسير ، فأما إن كان إنما
يشتري منه وزناً معلوماً على أن يعطيه إياه من
السمين والمهزول وهو لا يدري قدر ما يعطيه من
كل واحد منهما ، ولا يراه حتى يزنه فلا يجوز
قليلاً كان أو كثيراص ، إلا أن يقع شراؤه على
أنه في الخيار فيه حتى يفرزه ويزنه ، وعلى هذا
المعنى يجوز عندنا شراء التين الأخضر على العد
، لأنه لو اشترى منه من جمل تينه مائة تينة في
التمثيل على أن يعدها له البائع ، أو على أن
يعدها المبتاع لنفسه ليختارها لم يجز
(9/385)
لأن البيع إن
وقع بينهما على أن يعدها له البائع كان غرراً
، إذ لا يدري المبتاع ما يعطيه البائع لأنه
يتفاوت تفاوتاً بعيداً في الصغر والكبر والنضج
والطيب ، وإن وقع بينهما على أن يعدها المبتاع
لنفسه ويختار دخله التفاضل فيما لا يجوز
التفاضل فيه ، وبيع الطعام قبل استيفائه ،
لأنه مخير بين أن يأخذ الصغير أو الكبير فكأن
قد باع أحدهما بالآخر ، فلا يجوز البيع في ذلك
إلا على أن يكون المبتاع بالخيار حتى ( يعد )
له ما يعد فإن رضي أخذ وإلا ترك ، وهذه
المسالة تحمل على جواز صبرتين صغيرتين
مختلفتين في الجودة ، أو في النوع على كل واحد
، فإن كانتا كبيرتين لم تجز لأنه خطر ، إذ لا
يدرى قدر ما في كل واحدة ، فإن كثرت الجيدة
غبن البائع ، وإن قلت غبن المشتري ، فإن صغرتا
حتى يعلم قدر كل واحدة جاز على ما قال في
اللحم ، فهو قياسه وبالله التوفيق .
مسألة
وسألته عن الرجل يخط الزيت الرديء بالجيد ،
والقمح الرديء بالجيد ، هل يحل شيء من هذا ؟
قال ابن القاسم : لا خير في هذا ولا يحل ،
وهذا من الغش فلا يحل ، وإن كان يريد أن (
يبين ) إذا باع فلا خير في ذلك ، ولا يحل له
خلطه ، ولا أدري كيف سألت عن هذا ؟ وقال لي
مالك مرة في شيء سألته عنه : أنت حتى الساعة
ها هنا تسأل عن مثل هذا .
قال محمد بن رشد : هذا كما قال : إن خلط الجيد
بالرديء للبيع من الغش الذي لا يجوز لأحد أن
يفعله ، وإن بين عند البيع أنه مخلوط ،
(9/386)
وينبغي للإمام
أن يمنع منه ويضرب عليه ، فإن فعل كان للمشتري
أن يرد وإن ين أنه مخلوط جيد برديء ، إلا أن
يبين مقدار الرديء الذي خلطه بالجيد وصفتهما
جميعاً قبل الخلط حتى يستوي علمهما فيه ، فلا
يون للمشتري حينئذ أن يرد ن ويكون هو قد باء
بالإثم في خلطه ، إذ قد يغش به غيره ، لأنه
مما يمكن الغش به ، وإنما يجوز له أن يبيه على
هذا البيان غيره ، لأنه مما يمكن الغش به ن
وإنما يجوز له أن يبيعه على هذا البيان التام
ممن يعلم أنه لا يغش به ، أو ممن لا يدري ما
يصنع به ، ويكره له أن يبيعه ممن يخشى أن يغش
به ، ولا يجوز له أن يبيعه ممن يعلم أنه يغش
به على ما مضى القول فيه في رسم الرهون . وهذا
في الصنف الذي يختلط ولا يمتاز بعد الخلط جيده
من رديئه كالزيت والسمن والعسل وشبه ذلك ،
وأما الصنفان اللذان يمتازان بعد الخلط إلا
أنه ا يعلم مقدار كل واحد منهما من صاحبه
كالقمح والشعير ، أو السمن والعسل أو الغلث
والطعام وما أشبه ذلك فإن كان أحد الصنفين
منهما يسيراً جداً تبعاً لصاحبه جاز أن يبيع
ولا يبين ، لأن المشتري يراه ويعرفه ، وإن لم
ين أحدهما يسيرا ولا تبعا لصاحبه ، فلا يخلو
من أن يكون يمكن تمييزه أو لا يمكن تمييزه ،
فإن كان مما يمن تمييزه كالغلث مع الطعام ،
واللحم السمين مع المهزول وما أشبه ذلك ، فلا
يجوز أن يباع الكثير من ذلك على ما هو عليه
حتى يميز أحدهما عن صاحبه ، ويجوز أن يباع
القليل منه على ما هو عليه على ما قاله في
المسألة التي قبل هذه في اللحم السمين
والمهزول ، وإن كان مما لا يمكن تمييز أحدهما
من صاحبه كالسمن من العسل ، والقمح من الشعير
، والماء من اللبن ، وما أشبه ( ذلك ) ممن
يأكله ويؤمن أن يغش به . قاله ابن حبيب في
الواضحة في اللبن والعسل المغشوش بالماء ،
وقيل : إن ذلك لا يجوز ، وهو قول مالك في
الواضحة . وكتاب ابن المواز أن من خلط قمحاً
بشعير لقوته فيكره له أن يبيع ما فضل له منه ،
يريد إلا أن يبين مقدار الشعير فيه من القمح ،
وقيل : إن ان خلطه للبيع لم يجز أن يبيعه ،
وإن ان خلطه للأكل جاز له أن يبيعه وهو قول
ابن القاسم في كتاب ابن
(9/387)
المواز ، وقيل
: إنه لا يجوز له أن يبيعه إلا أن يكون يسيرا
خلطه للكل ، وهو قول مطرف وابن الماجشون في
الواضحة فهذا تحصيل القول في هذه المسألة
وبالله التوفيق .
مسألة
وسألته عن البدوي يبعث إلى احضري بمتاع يبيعه
له ، هل يصلح له ذلك ؟ قال ابن القاسم : لا
يصلح أن يبيعه له ، ولا يشير عليه في البيع إن
قدم ، ولا بأس أن يشير عيه في الاشتراء ، وإن
يشتري له ، وأن يجهز له عيه ورواها أصبغ وقال
: لا بأس أن يشتري لرسوله .
قال محمد بن رشد : هذا كما قال ، إنه لا يجوز
له أن يبيع له متاعه الذي بعث به ، ما لا يجوز
( له ) أن يبيعه له إذا قدم به ، لأن رسول
الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يبيعه حاضر
لباد ( فعم ) ولم يخص حاضرا من غائب ، فوجب أن
يحمل على عمومه ( في الوجهين ) الاشتراء
لرسوله يجوز كما يجوز الاشتراء له ، وقد مضى
القول على ذلك في رسم سلعة سماها من سماع ابن
القاسم ، فلا معنى لإعادته وبالله التوفيق .
ومن كتاب القطعان
وقال ابن القاسم لا بأس أن يقطع الرجل
الدنانير والدراهم حلياً لبناته ونسائه ، وقال
ابن وه مثله .
(9/388)
قال محمد بن
رشد : هذا كما قال ، لأن الكراهية في قطع
الدنانير إنما هي لما يوجب ذلك من فساد النقود
التي يبتاع الناس بها ، وقد مضى في رسم شك في
طوافة ، ورسم تأخير العشاء من سماع ابن القاسم
من كتاب الصرف بيان ما لا يجوز من ذلك ( وما
يكره ) وما يجوز منه وما يتفق عليه من ذلك ،
وما يختلف فيه ، فلا معنى لإعادة شيء من ذلك
ها هنا ، فقطعها ليعمل منها على خارج عن ذلك
كله جائز باتفاق ، ولا وجه للكراهية فيه ،
وبالله التوفيق .
مسألة
وسئل ابن القاسم عن الذي يعمل الدوامات
للصبيان يبعها منهم ، فقال : أكرهها له .
قال محمد بن رشد : إنما كره ذلك له من أجل
بيعه إياها من الصبيان ، ولا يدري هل إذن لهم
في ذلك آباؤهم أم لا ؟ إلا أنه لما كان الأظهر
أنهم مطلقون على ذلك ليساره ثمنه كرهه ولم
يحرمه ، ولو علم رضي آبائهم بذلك لم يكن
لكراهيته وجه ، وإن اللعب مباح لهم لا يمنعون
منه ، قال ذك ابن شعبان وهو صحيح ، لقول الله
تعالى – حاكيا عن إخوة يوسف لأبيهم في يوسف
أخيهم – { أرسله معنا غدا نرتع ونلعب } وبالله
التوفيق .
ومن كتاب أوله باع شاة
وسئل عن السوق وما يباع فيه ، هل يقوم على
أهله ؟ قال ابن القاسم ؛ قال مالك : لا يقوم
عليهم شيء ، وإنما يصنع فيه
(9/389)
كما صنع عمر بن
الخطاب بحاطب بن أي بلتعة ، قلت : فالبقول
والكراث والبصل والزيت والعسل واللحم وجميع
الأشياء لا يقوم عليهم شيء من ذلك ؟ قال : لا
، قلت لا على أصحاب الحوانيت ولا على غيرهم ؟
قال : نعم ، لا على أصحاب الحوانيث ولا غيرهم
، وإنما يقال لمن حط السعر وأدخل على الناس
فساداً إما أن تلحق بأسعار الناس وإما أن ترفع
من سوقنا . قلت : فلو أن واحداً قام واللحم
ثلاثة أرطا فباع أربعة ، هل يقام له الناس ؟
قال : لا يقام له الناس ، لا لواحد ولا لاثنين
ولا لثلاثة ولا لأربعة ولا . لخمسة ، ولو رفع
لواحد لاشترى سلع الناس بحكمه ، غذ لا يبيع
معه أحد ، فيدخل على الناس في ذلك ضرر ، ولكن
يبيع هو ويبيع الناس معه ، ولا يقام لواحد ،
وإنما يقام الواحد والاثنان إذا كان جل الناس
على سعر ، فقام الواحد أو الاثنان فحطوا من
السعر فأدخلوا الفساد فأولئك يقامون من السوق
أو يلحقون بسعر الناس .
قال محمد بن رشد : هذه مسألة قد مضى القول
عليها مستوفي في رسم حلف ألا يبيع رجلاً سلعة
سماها من سماع ابن القاسم فلا وجه لإعادته هنا
مرة أخرى وبالله التوفيق .
ومن كتاب العتق
وسئل ابن القاسم عن الأجذم الشديد الجذام ،
أيحال بينه وبين وطء رقيقه ؟ فقال : نعم ، إذا
كان في ذلك ضرر ، رأيت أن يمنع من ذلك ، وإنما
فرق بينه وبين الحرة حين حدث ذلك به ،
(9/390)
وهي عنده لموضع
الضرر ، وسئل عنها سحنون غير مرة ، فقال : لا
أرى أن يحال بين الأجذم ووطء إمائه .
( قال محمد ) بن رشد : قياس ابن القاسم الأمة
في هذا على الحرة صحيح ، فهو أظهر من قول
سحنون وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(( لا عدوى ولا هام ولا صفر ولا يحل الممرض
على المصح وليحل المصح حيث شاء ، قالوا يا
رسول الله صلى الله عليه وسلم وما ذاك ؟ قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنه أذى " وما
نهي عنه رسول الله ، وقال فيه : إنه أذى
فالمنع منه واجب ، وقد مر عمر بن الخطاب
بامرأة مجذومة وهي تطوف بالبيت ، فقال لها :
(( يا أمة الله لا تؤذي الناس لو جلست في بيتك
فجلست } . وإذا وجب بهذا وما أشبه من الأحاديث
أن يحال بين المجذومين وبين اختلاطهم بالناس
لما في ذلك من الإذاية لهم والضرر بهم كان منع
الرجل المجذوم من وطء إمائه أوجب ، لأن الضرر
بذلك عليهن أثر ، ووجه قول سحنون إن المجذوم
يحتاج إلى النساء ، فرأى الضرر الداخل على
المجذوم في ترك وطء إمائه أكثر من الضرر
الداخل
(9/391)
عليهن في وطئه
إياهن ، إذ قد يؤل ذلك به إلى العنت ، فرأى
ألا يحال بينه وبين ذلك لقول النبي عليه
السلام : (( إذا اجتمع ضرران نفي الأصغر
للأكبر )) وبالله التوفيق .
من سماع يحيى بن يحيى من ابن القاسم
قال يحيى : وسألت ابن القاسم عن جدار رجل بين
داره ودار جاره مال ميلاً شديداً حتى خيف
انهدامه ، أترى للسلطان إذا شكا ، ذلك ( جاره
) وما يخاف من ضرره وإذائه أن يمر صاحبه بهدمه
؟ فقال : نعم ، ذلك وأجب عليه أن يأمره بهدمه
، قلت : فعلى من بنيانه ؟ قال : يقال لجاره إن
شئت فاستر على نفسك أودع ، ولا يجبر صاحب
الجدار على بنيانه ، قيل له : أيبني جاره ما
يستتر به في موضع الجدار ؟ فقال : ليس ذلك له
، وإنما يقال له : إن شئت أن تبني في أرضك
وحوز دارك وتستر وإلا فدع . قيل : فإن شكا
إليه ما يخاف من انهدام الجدار فلم يهدمه حتى
انهدم على إنسان أو دابة أو بيت لضيق به ،
فقتل أو هدم ما سقط عليه أيضمن ذلك صاحب
الجدار ؟ قال : نعم ، يضمن كل ما أصاب الجدار
بعد الشاية إليه والبيان له . قال يحيى : وإن
لم يكن ذلك بسلطان فإنه ضامن إذا تقدم إليه
وأشهد عليه .
قال محمد بن رشد : قوله إن الحائط إذا هدمه
بأمر السلطان خوف سقوطه أنه لا يلزمه إعادته ،
خلاف قوله في سماع يحيى من كتاب الأقضية ،
ومثل قوله في رسم إن خرجت من سماع عيسى منه ،
وقد مضى
(9/392)
هناك تحصيل
القول في هذا المعنى فلا وجه لإعادته . وقول
يحيى إنه ضامن لما أفسد الحائط إن انهدم بعد
التقدم إليه والإشهاد عليه ، وإن لم يكن ذلك
بسلطان مفسر لقول ابن القاسم ، ومثل ما في
المدونة . وقد قيل : إنه لا ضمان عليه إلا
فيما فسد بانهدامه بعد أن قضى عليه السلطان
بهدمه ففرط في ذلك ، وهو قول عبد الملك ، وقول
ابن وهب في سماع زونان بعد هذا من هذا الكتاب
، وقد قيل : إنه ضامن لما أصاب إذا تركه بد أن
بلغ حداً كان يجب عليه هدمه وإن لم يتقدم في
ذلك إليه ولا أشهد عليه ، وهو قول أشهب وسحنون
. وما أصاب الجمل الصئول والكلب العقور في
الموضع الذي يجوز اتخاذه فيه يجري على هذا
الاختلاف ، والضمان في ذلك لا يتعدى المال إلى
العاقلة عند ابن القاسم ، كذلك روي عيسى عنه
في رسم لم يدرك من كتاب الديات ، وهو ظاهر
قوله في ظاهر هذه الرواية ، وروي زونان في
سماعه عن ابن وهب أن العاقلة تحمل من ذلك
الثلث فصاعداً ،وهو قول مالك ، رواه عنه أشهب
وابن عبد الحكم وبالله التوفيق .
ومن كتاب المدينين
قال وسئل عن الرجل يفتح في جداره الكوة إلى
الدار أو الزقاق للضوء والشمس فيبنى رجل آخر
جداره فيرفعه حتى تظلم تلك الكوة أو لا تدخلها
الشمس . قال مالك : ذلك له ، لا يحال بينه
وبين ذلك ، ولو كان ذلك لا يجوز كان أول ما
يفتح الكوة تسد عليه .
قال محمد بن رشد : هذا صحيح على معنى ما في
المدونة ،
(9/393)
وفي ذلك اختلاف
قد مضى تحصيله وذره في رسم المكاتب من سماع
يحيى من كتاب الأقضية فاغنى ذلك عن إعادة ذكره
ها هنا وبالله التوفيق .
ومن سماع سحنون من ابن القاسم
قال سحنون : سألت ابن القاسم عن الذي يبيع على
بيع أخيه ، أو يخطب على خطبة أخيه ، أو يتلقى
الركبان فيشتري منهم ، أو يبيع حاضر لباد .
قال : أما إذا باع على بيع أخيه أو خطب على
خطبة أخيه لم أر أن يفسخ ، ورأيته أن يؤدب
صاحب هذا ، وأما أن يبيع حاضر لباد ، فأرى أن
يمضي البيع وأن يؤدب أهله ، وأما إذا تلقى
الركبان فإني أرى أن تعرض السلعة على أهل
الأسواق بالثمن الذي اشتراها به ، فإن أخذوها
وإلى ردوها عليه ، ولم أردها على بائعها ،
وأؤدبه ضرباً وجياً إلا أن يغرر بالجهالة ،
وقال غيره : تفسخ هذه الأشياء كلها وترد السلع
على أربابها .
قال محمد بن رشد : قد مضى القول على هذه
المسألة مستوفي في رسم يوصي من سماع عيسى فلا
معنى لإعادته مرة أخرى وبالله التوفيق .
مسألة
وسئل عن الذي يبيع العنب ممن يعصره خمراً أو
يكري حانوته ممن يبيع الخمر ، أو يكري دابته
إلى الكنيسة ، أو يبيع شاته ممن يذبحها لأعياد
النصارى ، قال : أما بيع العنب من يعصره خمراً
، أو كراء البيت ممن يبيع الخمر ، فأرى أن
يفسخ
(9/394)
الكراء ويرد
البيع ما لم يفت ، فإن فات تم البيع ولم أفسخه
، وأما كراء الدابة قول مالك ، فمن ثم رأيت له
ذلك . وبلغني عن أشهب أنه سئل عن الذي يبيع
كرمه من النصراني ، فقال : أرى أن تباع على
النصراني ، بمنزلة شرائه العبد المسلم .
قال محمد بن رشد : إنما قال في الذي يبيع
العنب ممن يعصره خمراً أو يري حانوته ممن يبيع
فيه الخمر إن الكراء يفسخ ، والبيع يرد ما لم
يفت ، فإن فات مضى ولم يفسخ ، من أجل أنه بيع
وكراء لا غرر فيه ولا فساد في ثمن ولا مثمون ،
فأشبه البيع الذي طابقه النهي ، كالبيع يوم
الجمعة بعد النداء ، وبيع الحاضر للبادي ، وما
أشبه ذلك من البيوع التي لا تجوز مع سلامتها
من الغرر والمجهول ، فيدخل في ذلك من الاختلاف
ما يدخل في هذه البيوع : قيل : إنها تمضي
بالثمن إذا فاتت ، وقيل : إنها ترد إلى القيمة
، وقيل : إنها لا تفسخ وإن كانت قائمة . فعلى
قياس هذا القول لا يفسخ بيع العنب ممن يعصر
خمراً ، ولا كراء الحانوت ممن يبيع فيه الخمر
وإن أدرك قبل الفوت ، فإن كان المشتري
نصرانياً منع من بيع الخمر في الحانوت ، وبيع
عليه العنب ، وإن كان مسلماً منع من جميع ذلك
ولم يفسخ منه شيء ، وقال : إن البيع إذا فات
تم ولم يفسخ ، ولم يتكلم على ما يجب على
البائع والمكري في الثمن والكراء فأما ثمن
العنب فيسوغ له ، إلا أن يون ازداد فيه بسبب
بيعه للعصر فيجب أن يتصدق بالزيادة ، وأما
الكراء فيتصدق بجميعه ، قيل : لأنه لا يحل له
كثمن الخمر ، وقيل : أدباً له ، لا من أجل أنه
عليه حرام كثمن الخمر ، وهو ظاهر هذه الرواية
. وسواء في العنب باعه ممن يعصره خمراً بتصريح
، أو باعه منه وهو يعلم أنه يعصره خمراً .
وأما كراء البيت فقال ابن حبيب فيه :
(9/395)
إنه إن أكراه
وهو يعلم أنه يبيع فيه الخمر لهم ، يفسخ
الكراء بخلاف العنب ، والفرق بينهما عنده أن
العنب يغاب عيه فلا يمكن ( منعه ) من عصره ،
بخلاف بيع الخمر في الحانوت ، وقال ابن القاسم
: يفسخ الكراء في الحانوت إذا أكراه وهو يعلم
أنه يبيع فيه الخمر ، كما يفسخ البيع في العنب
إذا باعه ممن يعلم أنه يعصهر خمراً ، وقد مضى
في رسم شك في طوافة من سماع ابن القاسم من تاب
الذبائح والصيد وجه اختلاف قول مالك في كراء
الدابة وبيع الشاة والحكم في ذلك إذا وقع ،
فمن أحب الوقوف عليه هناك تأمله هناك ، وقياس
بيع الكرم من النصراني على بيع المسلم منه
صحيح قاسه أشهب عليه ، قال : إنه يباع عليه
على مذهبه في أنه يباع عليه العبد المسلم إذا
اشتراه ولا يفسخ فيه البيع ، وقاسه سحنون عليه
في نوازله من كتاب جامع البيوع فقال : إن
البيع يفسخ على مذهبه في أنه إذا اشترى العبد
المسلم فسخ البيع فيه وبالله التوفيق .
ومن سماع محمد بن خالد وسؤاله ابن القاسم
قال محمد سالت ابن القاسم عن الواي يلي بعد
وال آخر كان قبله فيزيد في المكائل قال : إن
كان في ذلك للمسلمين نظر بموافقة حق لا يكره
الناس على البيع به فلا أرى به بأساً .
قال محمد بن رشد : هذا بين على ما قاله إنه
إذا كان في ذلك نظر للمسلمين بموافقة حق كان
له أن يفعله ، وأما قوله : لا يكره الناس على
البيع به فقيه نظر ، لأن له أن يحمل الناس على
التبايع به إذا رأى ذلك نظراً للمسلمين ،
فمعنى قوله لا يكره الناس على البيع به ، أي
لا يحجره جملة حتى لا يجيز لأحد بيعاً إلا به
، وبالله التوفيق .
(9/396)
مسألة
من سماع عبد الملك بن الحسن
قال عبد الملك : سألت ابن وهب عن الدابة
الصئول تعدو على الصبي المملوك فتقتله ، وقد
كان جيران صاحب الدابة شكوا إلى صاحبها أمر
دابته وما كانوا خافوا منها على صبيانهم
وأنفسهم قبل ذلك ، وتقدموا واستنهوا منها فلم
يبها حتى عدت على صبي مملوك فقتلته ، أو كانت
مربوطة أو أفلتت من رباطها فقتلت الصبي ، أو
كان سلطان تقدم إلى صاحب الدابة حين استنهى
جيرانه منها وقال له : إن آذت بعد يومها هذا
ضمنتك ما آذت فيه ، فهل الأمران واحد إذا قدم
السلطان إليه أو جيرانه أو أشهدوا عليه ؟ وه
يضمن صاحب الدابة ما عقرت دابته بعد هذا ؟
فقال الدابة الصئول عندي في هذا بمنزلة الكلب
العقور ، لا ضمان على ربها حتى يتقدم إليه
السلطان ، فإذا تقدم إليه بعد المعرفة بالصئول
والعقر فلم يحبسها عن الناس ، أو يغربها عنهم
فعقرت ضمن ، وهو قول مالك في الكلب على ما
وصفت لك ، فإن كان دون الثلث ففي ماله ، وما
كان الثلث فصاعداً حملته العاقلة ، وهو من
الخطأ إن كان المعقور حراً ، وإن كان عبداً
ففي مال رب الدابة والكلب على كل حال . وقول
أشهب : لا ضمان على صاحب الدابة على أي الوجوه
، كان تقدم السلطان إليه أو استنهى جيرانه (
منه ) .
(9/397)
قال محمد بن
رشد : قوله : لا ضمان على صاحبها حتى يتقدم
إليه السلطان خلاف ما في المدونة وخلاف ما مضي
في سماع يحيى قبل هذا من أنه يضمن إذا أنهى
إليه وأشهد عليه وإن لم ين ذلك بسلطان ، وقيل
: إنه ضامن وإن لم يتقدم إليه ولا أشهد عليه ،
قاله أشهب وسحنون في الحائط إذا بلغ مبلغاً
يجب عيه هدمه فتركه ، وكذلك يجب على مذهبهما
في الدابة الصئول والكلب العقور إذا علم
بحالهما فلم يغربهما ولا حبسهما حتى عديا على
أحد فقتلاه . وقول أشهب ها هنا ( في الدابة )
قول رابع في المسألة . ووجهه أنه حمل قول
النبي صلى الله عليه وسلم : (( جرح العجماء
جباراً )) على عمومه في كل حال . وهذا
الاختلاف كله إنما هو إذا حبس الدابة الصئول
حيث يجوز له حبسها فيه ، واتخذ الكلب العقور
حيث يجوز له اتخاذه فيه ، وأما إن اتخذ الكلب
العقور أو حس الدابة الصئول حيث لا يجوز له فو
ضامن لما أصابا ، وإن لم يتقدم إليه قولاً
واحداً ، وقد مضى في سماع يحيى ذكر الاختلاف
في هل تحمل العاقلة من ذل في الأحرار ما بلغ
الثلث فلا معنى لإعادته .
مسألة
قال : وسألت ابن وهب عن رجل وجد في زرعه مهرين
فساقهما إلى داره فأدخلهما داره ، فلما كان من
جوف الليل خرقا داره أو خرقا زرب الدار فخرجا
منها فعقرتهما السباع ، فهل يضمنهما الذي
ساقهما إلى داره ؟ أو إن كانا في داره وعقرهما
(9/398)
السبع في الدار
أيضمنهما صاحب الدار ؟ قال : أراه ضاماً إذا
عقرا أو أصيبا في الأمر الذي سببه وأصله منه ،
ولم ين له سوقهمها وحبسهما في داره ، وإنما له
إتيان السلطان إذا كان السلطان قريباً
والاستنهاء إلى صاحبهما أو ردهما عن زرعه ،
فإذا ترك ذلك وساقهما إلى داره وربطهما أو
حبسهما فأراه متعدياً ، وارى عيه ضمانهما إن
أصيبا في ذلك ، وقال أشهب : فهو ضامن لهما
أبداً حتى يرجعا إلى صاحبهما ماتا في داره أو
عقرا خارجا من داره .
قال محمد بن رشد : قول أشهب مثل قول ابن وهب ،
فلو قال فيه وقال أشهب مثله لكان أحسن ،
والمسألة كلها بينة لا موضع للقول فيها إلا
قوله : إنما له إتيان السلطان إن كان السلطان
قريباً . فمعناه إذا كان الإذاء والرعي في
الليل أو بالنهار في موضع لا يصح إهمال
الأنعام والمواشي فيها دون راع يذودها . وأما
إذا كان ذلك بالنهار في موضع لأصحاب المواشي
إهمال مواشيهم فيه دون رعاة يرعونها وذواد
يذودنها ، فليس له إنيان السلطان ولا رفع
الأمر إليه ، لأن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قضى أن على أهل الحوائط والزرع حفظهما
بالنهار ، وأن على أهل المواشي حفظها باللي ؛
فما أفسدت فيه ضمنوه ، وقد مضى بيان هذا
والقول فيه في رسم كتاب الأقضية لابن غانم من
سماع أشهب من كتاب الأقضية فمن أحب الوقوف
عليه تأمله هناك وبالله التوفيق .
مسألة
قال وسألت ابن وهب عن الرجل يبني في داره غرفة
فيفتح لها باباً على دار جاره فيشتكي جاره
ضرورة ذلك الباب ، هل يمنع صاحب الغرفة من ذلك
الباب ويؤمر بسده أم لا ؟ قال : إن كان فتحه
الباب مضراً لجاره مثل أن يكون ليس له مصرف
ولا مدخل
(9/399)
ولا مخرج إلا
بالتشريف عليه والنظر في منزله والتطلع على
عياله منع ولم يكن له فتحه ، وإن كان ليس كذلك
، وإنما هو أمر يخاف أن يتطلع منه ، وليس على
ما وصفت لك لم يمنع من ذلك ، وقيل له : أستر
على نفسك إن شئت ، أو يعلم ما قلت من تطلعه
فيمنع من ذلك ويزجر عنه ويؤدب عليه بعد
التقدمة ولا يغلق بابه على حال ، وإنما ذلك
بمنزلة ظهر القصر وسطحه ، والبنيان يرفعه عليه
فيحتج أيضاً فيقول : أخاف أن يتطلع على منه ،
أو الكوة يفتحها الرجل في منزله للضوء والروح
فيحتج بمثل ذلك فليس له في ذلك حجة إذا كان
على ما وصفت لك . وقال أشهب : إذا كان يناله
المار فأرى أن يمنع من ذلك حتى يرفع بقدر ما
لا يناله ، وإن نظر منه المار لم ين ذلك له ،
فإن تطلع منه أو تشرف لغير حاجة فإنه يمنع من
ذلك .
قال محمد بن رشد : قول ابن وهب إن كان فتحه
الباب مضراً بجاره مثل أن يكون ليس له مصرف
ولا مدخل إلا بالتشريف عليه والنظر في منزله
والتطلع على عياله منع ، وهو مثل قول أشهب إن
كان يناله المار فأرى أن يمنع ، ومثل ظاهر ما
في كتاب حريم البير من المدونة على معنى ما
جاء عن عمر بن الخطاب أنه كتب في ذلك أن يوضع
وراء تلك الكوة سرير ويقوم عليه رجل فإن كان
ينظر إلى ما في دار الرجل منع من ذلك ، وإن
كان لا ينظر لم يمنع من ذلك ، لأن الأسرة مما
يتخذها الناس في بيوتهم ، فإذا كان من قام
عيها أطلع على جاره منع من ذلك ، فالمعنى في
هذا كله أن ما كان من الإطلاع لا يصل إليه
المطلع إلا بكلفة ومئونة وقصد إلى الإطلاع
بتكلف صعود لا وجه له إلا ذلك لم يمنع من ذلك
،
(9/400)
وقيل للذي يشكو
الإطلاع : أستر على نفسك ، فإن أثبت عليه أنه
أطلع عليه بقصد إلى ذلك كان حقا على الإمام أن
يؤدبه على ذل ويزجره حتى لا يعود إليه . وقد
أفتى الشيوخ عندنا فيمن فتح في قصبة له باباً
لا يطلع منها على دار جاره إلا بأن يخرج رأسه
من الباب ( ليطلع ) أو يخرج إلى السقف بين يدي
الباب ، أو يجعل على الباب شرجياً وثيقاً يمنع
من أن يخرج منه إلى السقف ، و يخرج أحد منه
رأسه ليطلع ، وهو حسن من الفتوى ، فإذا ثبت
الإطلاع فقيل : يحكم بسده وإزاله أثره لئلا
يكون له بعد مدة دليلا على القدم فيكون له
إعادته ، يقوم ذلك من قول مالك في أول رسم من
سماع أشبه من كتاب الأقضية ، وقال ابن
الماجشون في الواضحة : لا يلزم سده ، ويكون له
أن يجعل أمام ذلك ما يستره ويواريه ، وقد قيل
إن الإطلاع ليس من الضرر الذي يجب قطعه على
حال ، وعلى الذي يطلع عليه أن يستر على نفسه
بما يقدر عليه ، وقد ذرنا ذلك في رسم المكاتب
من سماع يحيى من كتاب الأقضية ، فمن أحب
الوقوف عليه تأمله هناك . وإنما يمنع من ضرر
الإطلاع ما كان محدثاً ، قال في كتاب تضمين
الصناع من المدونة : ومن كانت له على جاره كوة
قديمة أو باب قديم فليس له سد ذلك عليه ، وإن
لم يكن له في ذلك منفعة وعليه فيه مضرة ،
وكذلك قال ابن الماجشون إن الأبواب والكوى
التي يطلع منها إن كانت قديمة قبل بناء الدار
المطلع عليها لم يمنع من ذلك . قال ولو أراد
صاحب العرصة أن يمنعه من فتح باب على عرصته
قبل بنائها لضرر ذلك عليه إذا بنى لم ين ذلك
له ، وقال مطرف : له أن يمنعه قبل البناء
وبعده ، لأنه حق له يذب عنه . قال : ولو ترك
أن يمنعه قبل أن يبني كان له أن يمنعه إذا بنى
ولا يكون تركه الذب على حقه قبل أن يبني
مانعاً له
(9/401)
منه إذا بنى
إلا أن يكون صاحب العرصة اشتراها على ذلك ،
فليس له أن يسدها عليها ، وإنما له أن يمنعه
من الإحداث . وقال أصبغ بقول مطرف ، واختاره
ابن حبيب ، واختلف على معنى ما في المدونة إن
أشكل هل هو قديم و حادث ؟ ففي أحكام ابن زياد
أنه محمول على أنه محدث حت يثبت أنه قديم ،
وفي كتاب ابن سحنون أنه محمول على أنه قديم
حتى يثبت أنه محدث ، والله تعالى الموفق .
مسألة
وسألت ابن وهب عن الرجل تكون داره لاصقة بسكة
نافذة أو غير نافذة ، فأراد أن يحول باب داره
من موضعه ذلك إلى موضع من داره هو أرفق به
فمنعه جاره الذي يلي داره وقال إن ما بين بابك
وبابي مجلس وموقف لدابتي ومنزل لأحمالي ، فإذا
أدنيت بابك مني لم أقدر على أن أقعد على بابك
ولا تقف دابتي على باب وانقطع عني المرفق الذي
كنت أرتفق به فيما بين بابي وبابك ، وقال
الآخر الجدار جداري كله لي ، وهو لاصق بالطريق
فأنا أفتح في جداري إلى طريق بابي ، ولا أمنع
من مرفقي لما تريد أنت أن توسع على نفسك في
الفناء ، وهما جميعا في ناحية واحدة من الطريق
متجاوران ، فهل يمنع فتح بابه حيث يريد ؟ فقال
: إن انت السكة غير نافذة ، وكان فتحة الباب
قبالة باب صاحبه حتى يكون الداخل والخارج وما
يكون يقاعه الدار وخلف الباب بعينه ، أو كان
الفتح قريباً من بابه وكان مضرا به
(9/402)
ضرراً بينا
يعرف ويستبان منع من ذلك ، ولم يكن له فتحه
ولا تحويله عن حاله إلى مثل هذا ؛ ون كان
طريقاً سالكاً وسكة واسعة حتى يكون هو وغيره
من المارة في فتح داره وإن فتح والمرور والنظر
سواء ، ولا يكون مضرا به في غير ذلك لم يمنع
من ذلك وخلي بينه وبينه . وقال أشهب : إذا كان
تقديمه ذلك يضر بجاره على ما وصفت فليس ذلك له
، وإن كان إنما تقديمه تقديما يون فيما بقي ما
لا يقطع عليه فيه المرفق ، ويتسع هو حتى لا
يون مضطرا إلى أكثر منه ، فليس له أن يمنعه
إذا سد الباب الأول ، وذلك إذا كان في زقاق
غير نافذ ، فأما إن كان في سكة مسلوكة فله أن
يفتح ما شاء من أبواب ي جداره ، ويقدم ما شاء
من باب ويؤخره . قال : وسألت ابن وهب عن الرجل
يفتح في ناحية من داره حوانيت إلى سكة من سكك
الناس ولرجل مقابل تلك الحوانيت دار وباب
مفتوح في ذلك الزقاق مقابل الحوانيت التي فتح
عليها جاره فشا أن الحوانيت تضره فيمن يخرج من
خدمه وأهله إلى حوائجهم ، وأهل الحوانيت قوم
مرابطون لا يديمون ، فهل له سبيل إلى ذلك أم
يمنع منه ؟ فقال سبيل الحوانيت سبيل ما وصفت
لك قبل ذلك في السكة النافذة وغير النافذة على
ما فسرت لك إن شاء الله . قال أشهب : له أن
يفتح ما شاء من حوانيت ، ويفعل ما أراد إن
كانت سكة نافذة .
قال محمد بن رشد : قول ابن وهب وأشه هذا في
تحويل الباب وفتحه في السكة النافذة وغير
النافذة مثل قول ابن القاسم وروايته عن
(9/403)
مالك ي آخر
كتاب القسمة من المدونة حاشا موضعين : أحدهما
قول ابن وهب ، وإن كان طريقاً سالكاً وسة
واسعة لم يمنع من ذل ، وخلى بينه وينه إذا لم
يشترط ي المدونة سعة السكة ، وإنما قال فيها :
وإن كانت السكة نافذة فله أن يقيم ما شاء ،
ويحول بابه إلى أي موضع شاء ، والموضع الثاني
قول أشهب في الزقاق الذي ليس بنافذ أن له أن
يحول بابه إلى موضع لا يضر بجاره إذا سد الباب
الأول ، لأن في قوله إذا سد الباب الأول دليلا
على أنه ليس له أن يفتح فيه باباً زائداً على
حال ، وإنما له أن ينقله من موضعه إلى موضع لا
ضرر فيه ولا تضييق على جاره ، ودليل ما في
المدونة أن له أن يفتح فيها باباً زائداً في
موضع لا ضرر فيه على جاره ، وأن ينقل بابه
إليه ، وقد قيل في الزقاق النافذ إنه لا يجوز
لأحد أن يفتح فيه باباً ، ولا يتخذ مجلساً
قبالة باب جاره إلا أن ينك عن ذلك قليلاً ،
وهو قول سحنون ، روي ذلك ( عنه ) حبيب وابنه
محمد ، وذهب ابن زرب إلى أنه لا يجوز لأحد في
الزقاق الذي ليس بنافذ أن يفتح فيه باباً ولا
أن يحو بابه فيه من موضع إلى موضع على حال إلا
بإذن جميع أهل الدرب ، قال : لأنهم لهم
مشتركون فيه ، بدليل ما قال في المدونة في
الدارين تكون إحداهما في جوف الأخرى ، ولأهل
الدار الداخلة الممر في الدار الخارجة ، فيقسم
أهل الدار الداخلة دارهم فيريد كل واحد منهم
أن يفتح لداره بابا في الدار الخارجة ، إن ذلك
ليس لواحد منهم ، وإنما لهم الممر الذي كانوا
يمرون عليه قبل القسمة .
فيتحصل في فتح الرجل الباب أو تحويله عن موضعه
في الزقاق الذي ليس بنافذ ثلاثة أقوال : أحدها
أن ذلك لا يجوز بحال إلا بإذن جميع
(9/404)
أهل الزقاق ،
وهو الذي ذهب إليه ابن زرب قياساً على مسألة
المدونة المذكورة ، وبه جرى العمل بقرطبة ،
والثاني أن ذلك له فيما لم يقابل دار جاره ولا
قرب منه فقطع به مرفقاً عنه وهو قول ابن
القاسم في المونة ، وقول ابن وهب ها هنا .
والثالث أن له تحويل بابه على هذه الصفة إذا
سد الباب الأول ، وليس له أن يفتح فيه باباً
لم يكن قبل بحال ، وهو دليل قول أشهب ها هنا .
ويحصل أيضاً في فتح الرجل باباً أو حانوتاً في
مقابلة باب جاره في الزقاق النافذ ثلاثة أقوال
أحدها أن ذلك له جملة من غير تفصيل إلا أن
ينكب عن ذلك وهو قول سحنون . والثالث أن ذلك
له إذا كانت السكة واسعة ، وهو قول ابن وهب ها
هنا ، والسكة الواسعة ما كان فيها سبعة أذرع
فأكثر ، لما جاء من أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال : (( الطريق سبعة أذرع )) وقع
ذلك في مسند ابن أبي شيبة من رواية ابن عباس ،
فوجب أيكون ذلك حد سعة الطريق وبالله التوفيق
.
مسألة
وسألته عن الرجل يتزيد في داره من طريق
المسلمين ذراعاً أو ذراعين ، فإذا بنى جداراً
وأنفق فيه وجعله بيتاً قام عليه جاره الذي هو
مقابله من جانب الطريق فأنكر عليه ما يريد ،
ورفه إلى السلطان وأراد أن يهدم ما زاد من
الطريق ، وزعم أن سعة الطريق كان رافقاً به ،
لأن ذلك أن فناء له ومربطاً لدابته ، وفي بقية
الطريق ممر للناس ، وكان فيما بقي من سعة
الطريق ثمانية أذرع أو تسعة أذرع ، هل لذل
الجار إلى هدم بنيان جاره الذي بنى سبيل ؟ أو
رفع ذلك بعض من كان يسلك تلك الطريق وفي بقية
(9/405)
سعته ما قدم
أعلمتك ؟ فقال : نعم ، يهدم ما بنى كان في سعة
الطريق ثمانية أذرع أو تسعة على ما وصفت ، لا
ينبغي لأحد التزيد من طريق المسلمين ، وينبغي
للقاضي أن يتقدم في ذلك إلى الناس ويستنهي
إليهم ألا يحدث أحد بنيانا في طريق المسلمين ،
وذكر أن عثمان بن الحكم الجذامى حدثه عن عبيد
الله بن عمر عن أبي حازم أن حداداً ابتنى
كيراً في سوق المسلمين قال : فمر عمر بن
الخطاب فرآه فقال : لقد انتقصتم السوق ثم أمر
به فهدمه ، قال أشهب : نعم يأمر السلطان بهدمه
رفع ذلك إليه من كان يسلك الطريق أو رفع ذلك
جيرانه ، لا ينبغي لأحد التزيد من طريق
المسلمين ، كان في الطريق سعة أو لم تكن ، كان
مضراً ما تزيد أو لم يكن مضراً ويؤمر بهدمه ،
وينبغي للسلطان أن يتقدم في ذلك إلى الناس ألا
يزيد أحد من طريق المسلمين .
قال محمد بن رشد : اتفق مالك وأصحابه فيما
علمت أنه لا يجوز لأحد أن يقتطع من طريق
المسلمين شيئاً فيزيده ويدخله في بنيانه وإن
كان الطريق واسعاً جداً لا يضره ما اقتطع منه
، ولم ير بذلك مالك بأساً في المسجد ، وحكى
ابن وهب عن ربيعه في المجموعة أنه لا يجوز لمن
بنى مسجداً في طائفة من داره أن يتزيد فيه من
الطريق . واختلفوا إن تزيد في داره من الطريق
الواسعة جداً ما لا يضر بها ولا يضيقها على
المارة فيها . فقال ابن وه وأشهب ها هنا : إنه
يهدم عليه ما تزيد من الطريق وتعاد على حالها
، وهو قول مالك في رواية ابن وهب عنه ، وقول
(9/406)
مطرف وابن
الماجشون في الأبرجة يبنيها الرجل في الطريق
ملصقة بجداره ، واختار ابن حبيب على ظاهر ما
جاء عن عمر بن الخطاب في الكير الذي ابتني في
السوق فأمر به فهدم . وقيل : إنه لا يهدم عليه
ما يزيد من الطريق إذا كان ذلك لا يضر به
لسعتها لماله من الحق فيه ، إذ هو فناؤه له
الانتفاع به وكراؤه على ما مضى في رسم تأخير
صلاة العشاء من سماع ابن القاسم . والأصل في
ذلك ما جاء من أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه
قضى بالأفنية لأرباب الدور ، أفنيتها ما أحاط
بها من جميع نواحيها ، فلما كان أحق بالانتفاع
به من غيره لم يكن لأحد أن ينتفع به إلا إذا
استغنى هو عنه وجب أن لا يهدم عليه بنيانه ،
فيذهب هداراً ماله وهو أعظم الناس حقا في ذلك
الموضع ، بل لا حق لأحد معه فيه إذا احتاج
إليه ، فكيف إذا لم يوصل إلى أخذه منه مع
حاجته إليه لا بهدم بنيانه وتلف ماله ، وهذا
بين ، لا سيما ومن أهل العلم من يبيح له ذلك
ابتداء ، في المجموعة من رواية أهلها بنيان
عرصتها أن الأقربين إليها يقتطعونها على قدر
ما شرع فيها من رباعهم بالحصص ، فيعطي صاحب
الربع الواسع بقدره ، وصاحب الصغير بقدره ،
ويتركون لطريق المسلمين ثمانية أذرع .
قال محمد بن رشد : وإنما قالوا ثمانية أذرع
احتياطاً والله أعلم ليستوفي فيها السبعة
الأذرع المذكورة في الحديث على زيادة الذراع
ونقصانه . ووجه القول أن الطريق حق لجميع
المسلمين كالحبس ، فوجب أن يهدم على الرجل ما
يزيده في داره منها ، كما يهدم عليه ما يزيد
من أرض محبسة على طائفة المسلمين ، أو من ملك
لرجل بعينه ، والقول الأول أظهر ، والقائلون
بالثاني أكثر ، وكل مجتهد مصيب . وقد نزلت
بقرطبة قديما واختلف الفقهاء فيها فأفتى ابن
لبابة وأبو صالح أيوب بن سليمان ، ومحمد ابن
وليد بالقول الأول ألا يهدم ما تزيد من الطريق
إذا كان ذلك لا يضربها ،
(9/407)
وأفتى عيد الله
ابن يحيى وأبنه يحيى ، ويحيى بن عبد العزيز ،
وسعد بن معاذ وأحمد بن بيطير بالقول الثاني أن
يهدم ما تزيد منه على كل حا وبالله التوفيق .
مسألة
وسألت ابن وهب عن الرجل يغرس في داره شجرة
فتطول حتى يشرف على دار جاره ، فإذا طلع فيها
من يحني ثمرها نظر إلى ما في داره جاره ، أو
يغرسها قريباً في جدار جاره فيزعم جاره أن
موضع الشجرة مضر به ، وهو يخاف أن يطرق من تلك
الشجرة فيدخل عليه في داره ، وهو يشتكي من يطل
عليه منها . هل يقطع عنه ما يؤذيه من طولها ؟
أو تقطع الشجرة التي يخاف أن يطرق منها لقربها
من جداره أم لا ؟ وتكون الشجرة قد تقادمت ومضى
لها أعوام وهي تزيد في كل عام ، فإذا رفع
أمرها وما أضرت به إلى السلطان هل يؤمر بقطعها
لما يؤذيه ويشرف منها على عياله ؟ فقال : إن
لم يكن ضرره إلا ما شكا وذكر مما يخاف من
الطروق من ناحيتها ، أو طلوع من يجنيها لم ين
ذلك شيئا ولم تكن له فيه حجة ، ومنع من يجنيها
من التطلع والإضرر إن علم ذلك منهم ، وأما
قطعها فليس له قطعها ولكن إن انتشرت وعظمت حتى
تخرج فروها من أرض صاحبها وحدوده وتقع في أرض
جاره وحدوده ويضربه قطع ذلك الذي أضر به ووقع
في حده وأذاه فقط .
قال محمد بن رشد : هذا كما قال ، وهو مما لا
اختلاف فيه أن
(9/408)
الرجل إذا غرس
في داره شجرة فلجاره أن يقطع ما طال من
أغصانها فأذاه في جداره ودخل في حصته وهوائه
له أن يقطع الشجرة أيضاً إن كان غرسها بموضع
يضر غرسها بالجدار لقربها منه ، وأما ما يخاف
من أن يطرق منها ، أو من يطلع عليه منها من
يجنيها فلا حجة له في ذلك ، وأما إن كانت
الشجرة قديمة من قبل بناء الجدار فليس له أن
يقطعها وإن أضرت بالجدار . واختلف هل له أن
يقطع ما طال من أغصاانها فأضر بجدار جاره ؟
فقال ابن الماجشون : ليس ذلك له : لأنه قد علم
أن هذا يكون من شأن الشجرة ، فقد صار ذلك من
حريمها وهوائها قبل بناء الجدار ، وقال مطرف
وأصبغ : ذلك له ، وهو أظهر ، وإياه اختار ابن
حبيب ، وإذا كانت لرجل شجرة في أرضه ، وإلى
جانبها أرض لجاره فله أن يقطع ما طال وانبسط
وامتد من فرعها على أرضه ، ومن كانت في أرضة
شجرة لغيره فليس له أن يقطع ما طال وانبسط
منها ، قاله ابن القاسم وغيره .
مسألة
وسئل عن المبتلى يكون في منزل له فيه سهم ،
وله حظ في شرب فأراد من معه في المنزل إخراجه
منه ، وزعموا أن استسقاء الماء من مائهم الذي
يشربون منه مضرة بهم فطلبوا إخراجه من المنزل
، فقال ابن وهب : إذا كان له مال أمر بأن
يشتري لنفسه من يقوم بأمره ، ويخرج له في
حوائجه ويلزم بيته ولا يخرج . قيل : فإن لم
يكن له مال ؟ قال : يخرج من المنزل إذا لم يكن
فيه شيء وينفق عيه من يبت مال المسلمين .
(9/409)
قال محمد بن
رشد : هذا كما قال إنه إذا ان له مال أمر بأن
يشتري لنفسه من يقوم بأمره ويخرج له ويستسقي
له ماءه أو يستأجر له من يفعل له ذلك كله ،
فإن لم يكن له مال كان من الحق على الإمام أن
يقوم له بذلك من يبيت مال المسلمين ، لأن
استسقاءه الماء معهم من مائهم ضرر بهم ، فإن
لم يكن ثم إمام يقوم له بذلك لم يمنعوا من
استسقاء الماء فيموتوا عطشاء ، ولا من مخالطة
الناس في مجتمعاتهم وأسواقهم لسؤالهم وقضاء
حوائجهم فيهلكون ضياعاً ، وإنما اختلف في منعم
من المساجد والجوامع ، فقال عيسى بن دينار في
نوازله من هذا الكتاب ، وفي بعض الروايات إنهم
لا يمنعون من ذلك بحم ، لأن عمر بن الخطاب لم
يعزم بالنهي على المرأة المجذومة التي رآها
تطوف بالبيت مع الناس ، وإنما قال لها يا أمة
الله لو جلست في بيتك كان خيراً لك ، ونحو ذلك
حكى ابن حبيب في الواضحة عن مطرف وابن
الماجشون أنهم لا يمنعون من مساجد الجماعة
لشهود الجمعة المفروضة لأنها على من قوي على
شهودها ، كما هي على غيرهم ، قال : وأما غير
الجمعة فلا بأس أن يمنعوا إلا الواحد بعد
الواحد ، وقال سحنون فيه : يمنعون من ذلك
وتسقط إلا الواحد بعد الواحد ، وقال سحنون فيه
: يمنعون من ذلك وتسقط الجمعة عنهم ، واستدل
على ذلك بحديث النبي عليه السلام : (( من أكل
من هذه الشجرة فلا يقرب مساجدنا يؤذينا بريح
الثوم " . وبحديث عمر في قوله للمرأة المجذومة
لو جلست في بيتك كان خيراً لك ، لأنه قضي في
طلبها فجلست في بيتها ، فلما مات قيل لها : إن
الذي نهاك قد مات ، فقالت : ما كنت لأطيعه
حياً وأعصيه ميتاً وقوله أظهر ، لأن المنع من
إذاية
(9/410)
المسلمين واجب
، وإذا كان المنع من إذايتهم بريح الثوم
واجباً بالسنة ، فأحرى أن يكون واجباً من
إذايتهم بمخالطة الجذماء لهم ، وقد قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم في حلول المرض على
المصح إنه أذى ، وفي قول عمر رضي الله عنه
للمجذومة يا أمة الله لا تؤذي الناس دليل على
أنه أراد بقوله : لها لو جلست في بيتك الأمر
لها بذلك والقضاء عليها به ، لكنه رفق بها في
الأمر رحمة بها وحناناً عيها ، وتوسم فيها
أنها تكتفي بذلك وتنتهي فلم تخب فراسته فيها
وأطاعته حياً وميتاً ، واختلف في إخراجهم عن
الحاضرة إلى ناحية منها . قال ابن حيب عن مطرف
وابن الماجشون : أما الواحد والنفر القليل من
المرضى فلا يخرجون عن حاضرة ولا عن قرية ، ولا
عن سوق ولا عن مسجد جامع ولا غير جامع ، فإذا
كثروا في الحاضرة اتخذوا لأنفسهم موضعاً كما
صنع بمرضى مكة عند النعيم موضعهم وبه جماعتهم
، وأما مرضى القرى فإنهم لا يخرجون عنها وإن
كثروا ، إلا أنهم يمنعون من أذاهم في مسجدهم
إذا شكوا ضرر ذلك بهم ، وقال أصبغ : لا يقضي
عليهم في الحاضرة بالخروج إلى ناحية منها ولكن
إن كفوا مؤناتهم يجري ذلك عليهم منعوا من
مخالطة الناس بلزوم بيوتهم أو التنحي ناحية .
قال عبد الملك : والحكم عيهم بتنحيتهم ناحية
إذا كثروا أحب إلى ، وهو الذي عيه الناس . قال
مطرف وابن الماجشون : ولا يمنعون من الأسواق
لتجارتهم وما يحتاجون إليه من حوائجهم والتطرق
للمسألة إلا أن يجري عليهم الإمام أرزاقهم في
فيء المسلمين وبالله التوفيق .
مسألة
وسئل ابن وهب عن بيع رقيق اليهود من النصارى
أو بيع رقيق النصارى من اليهود ، فقال : أكرهه
للعداوة التي بينهم ، وسئل عنها سحنون فقال
مثله .
(9/411)
قال محمد بن
رشد : قد مضى التكلم على قول ابن وهب في هذا
السماع من كتاب جامع البيوع فإنه وقع هنالك
أكمل وأبين ، فمن أحب الوقوف عليه تأمله هناك
والله الموفق لا رب غيره .
من سماع أصبغ بن الفرج
قال اصبغ : سمعت أشهب وسئل عن العبد يستبيع من
سيده لضرورته ، قال : إن كان ضرراً قد عرف
وكثر بيع عليه ، وإن كان إنما هي الزلة
والفلتة من سيده كف عنه ونهى حسبة ، قال : مرة
بعد مرة ، فإن عاد بيع عليه .
قال محمد بن رشد : هذا بين على ما قاله وقد
مضى هذا المعنى في رسم شك في طوافه ، ورسم حلف
ليرفعن أمراً ورسم صلى نهاراً ثلاث ركعات فلا
معنى لإعادته شيء من ذلك وبالله التوفيق .
مسألة
وسئل عن المدبر يضربه سيده ويؤدبه ، قال يخرج
من يديه ويؤاجر عليه ، قال أصبغ : ولا يباع
لأن المدبر لا يباع على حال في الحياة ، ولا
تنقض الضرورة التدبير لأنه عتق .
قال محمد بن رشد : هذا بين على ما قاله قياساً
على مدبر النصراني يسلم أنه يؤاجر ولا يباع
عليه ، كما يباع عليه عبده إذا أسلم وبالله
التوفيق .
ومن كتاب الأقضية والحبس
قال أصبغ سألت أشهب عن الرجل يهدم داره وله
الفناء الواسع فيزيد فيها من الفناء يدخله من
بنيانه ثم يعلم بذلك ، قال
(9/412)
لا يعرض له إذا
كان الفناء واسعاً رجراجاً لا يضر الطريق ،
وقد كره مالك ، وأنا أكرهه ولا آمر به ، ولا
أقضي عليه أن يهدمه إذا كان واسعاً رجراجاً
ولا يضر ذلك بشيء منه ولا يحتاج إليه ولا
يقاربه المشي ، قال أصبغ في الرجل يبني داراً
له فيأخذ من طريق المسلمين شيئاً يزيده فيها .
كان ذلك مضراً بطريق المسلمين أو لا يضر ،
أترى ذلك جائزاً وهل تجوز شهادة من فعل مثل
هذا قال أصبغ : إن كان اقتطعه اقتطاعاً مما
يضر بالطريق والمسلمين وأدخله في بنيانه ،
وكان إدخاله فيما يرى بمعرفة لا بجهالة ، أو
وقف عليه فلم ينته ، فلا أرى أن تجوز شهادته
ويهدم بنيانه إذا أضر جداً ، وإن كانت الطريق
واسعة جداً كبيرة ، وكان الذي أخذ الشيء
اليسير جداً الذي لا يضر ولا يكون فساداً في
صغير ما أخذ وسعة الطريقة وكثرته فلا أرى أن
يهدم بنيانه ولا يعرض له ، وقد سألت أشهب عنها
بعينها ونزلت عندنا فكان هذا رأيي فيها ،
فسألته عنها فقال لي مثله .
قال محمد بن رشد هذا من قول أصبغ وروايته عن
أشه خلاف ما مضي قبل هذا في سماع زونان وقد
مضى القول على ذلك هنالك مجوداً مستوفي فلا
وجه لإعادته هنا ، والله الموافق .
ومن كتاب البيوع الثاني
قال أصبغ : وسمعته يقول لا يترك النصارى
يبيعون الخمر بالجزيرة لأن الجزيرة من الفسطاط
، قلت له : فالقنطرة ؟ قال : لا ولا القنطرة .
قلت فيتركون في قراهم يبيعونها ، قال : نعم ،
قلت : وإن كان فيها مسلمون ؟ قال : نعم فمتى
علم أنه يبيع من المسلمين منع ، قال أصبغ :
هذا في غير المدن من القرى التي
(9/413)
هي مساكنهم ،
وهم الغالبون عليها ، ليس للمسلمين فيها إلا
قليل فلا يعرض لهم .
قال محمد بن رشد : قول أصبغ سمعت أشهب يقول في
رجل حلف ، يحمل على التفسير لقول ابن القاسم ،
وتفسير قوله أن ما كان من مواضعهم قريباً من
الفسطاط ، كالجزيرة والقنطرة فلا يتركون أن
يبيعوا فيها الخمر وإن لم يكن معهم فيها من
المسلمين أحد مخافة أن يتناولها منهم أحد من
الفسطاط . وما بعد من قراهم عن الفسطاط ، فكان
منها على مثل الميل ، وإن كان دون فرسخ فلا
يمنعون من إدخالها وبيعها وشربها وبيعها بعضهم
من بعض ، وإن كان بين أظهرهم مسلمون . قال ذلك
أصبغ في مجالسه ، وهو قوله ها هنا . وقال أيضا
في مجالسه : إنه لا يباع لهم ذلك إلا ألا يسن
معهم في قراهم أحد من أهل الإسلام ، وقد مضى
هذا في رسم الشجرة من قول ابن القاسم وبالله
التوفيق .
ومن كتاب الجامع
قال أصبغ سمعت أشهب يقول في رجل حلف ليقضين
رجلاً حقه فيأبى أن يقبله ، أتراه في سعة من
هذا ؟ قال : هذا يأتي السلطان قيل له أفيجبر
السلطان صاحبه على أخذه ؟ قال : نعم ، صاغراً
ويقيمه .
قال محمد بن رشد : لا يخلو الحالف ليقضين
رجلاً حقه من ثلاثة أوجه : أحدها أن يكون معنى
ما حلف عيه وأراده أن يقضيه حقه ليبرئ ذمته من
دينه . والثاني أن يكون معنى ما حلف عليه
وأراده ألا يحبس عليه حقه ويمطله به ، مثل أن
يقضيه حقه فيقول ، أقضيكه غداً ، فيقول : أخشى
(9/414)
ألا تفعل ،
فيحلف ليقضينه غداً وما أشبه ذلك . والثالث
ألا يكون يمينه بساط يحمل عليه ، ولا يون له
فيها نية ولا إرادة . فأما الوجه الأول فلا
يبر فيه إلا بأن يقبض منه حقه ، فإن أبى من
قبوله كان من حقه أن يجبره على ذلك ليبرئ ذمته
من دينه فيبر في يمنه . وأما الوجه الثاني
فيبر فيه بأن يأتيه بحقه قبله أو لم يقبله ،
فإن كانت يمينه بطلاق أو عتاق أو ما أشبه ذلك
مما يقضي به عليه القاضي فأتاه بحقه فأبى
قبوله أشهد عليه بذلك ولم يلزمه شيء . وأما
الوجه الثالث فيتخرج على قولين : أحدهما أنه
لا يبر إذا أبي من قبوله إلا بأن يرفع ذلك إلى
السلطان يدفع إليه حقه شاء أو أبى . والثاني
أنه يبر إذا أتاه يحقه فأبى أن يقبله منه دون
أن يجبره على قبضه منه ، وقد مضى ما يبين هذا
المعنى في رسم أسلم من سماع عيسى من كتاب
الأيمان بالطلاق وبالله التوفيق .
مسألة
وسئل عن رجل أتى بمكة إلى زمزم فوجد رجلاً معه
قدح ، فقال ناولني قدحك هذا ، فقال : إني أخاف
عليه ، فقال : هذا كسائي عندك حتى أعود إليك
به ، فوضع الكساء وأخذ القدح ثم رجع فلم يجد
الرجل ، قال : لو أتى السلطان حتى يأمره إن
كان صادقاً أن يبيع القدح ويقبض ثمنه من ثمن
الثوب ، قيل له : هو صادق ، وهذا صحيح ألا
يقبضه لنفسه دون السلطان ؟ قال : لا ، قيل له
: ويأمره السلطان ؟ قال : نعم ، يأمره من غير
حكم على الغائب ، ويقول له : إن كنت صادقاً
فافعل ، فإن جاء الرجل كان على خصومته .
قال محمد بن رشد : هذه المسألة وقعت في بعض
الروايات وهي صحيحة على أصولهم ، وعلى معنى ما
في كتاب طلاق السنة من المدونة ،
(9/415)
وعلى ما في
نوازل سحنون من كتاب المديان والتفليس ، فإن
باع القدح بأمر السلطان وقبض ثمنه من ثمن
كسائه أي من قيمته فقدم صاحب القدح بالكساء
وأقر بما قال البائع للقدح بأمر السلطان لم
يكن له إلا ما باع به القدح لبيعه إياه بأمر
السلطان ، ولو باعه بغير أمره كانت له قيمته ،
وإن أدعى القدح وأنكر رهن الكساء حلف في
الكساء وأخذ قدحه ، وإن أقر بالكساء وأدعى
القدح وأنكر الرهن فيه حلف على إنكار الرهن
ورد الكساء ، وأخذ قيمة قدحه أيضاً ، وهذا
خلاف ما جرى به العمل من أن القاضي لا يحكم
للمرتهن ببيع الرهن حتى يثبت عنده الدين
والرهن وملك الراهن له ويحلف مع ذلك أنه ما
وهب دينه ولا قبضه ولا أحال به وأنه لم يزل في
ذمته إلى حين قيامه ، والذي جرى به العمل من
هذا هو على أصل مطرف وابن الماجشون في كتاب
طلاق السنة من المدونة التي أشرنا إليها
وبالله التوفيق .
من سماع أبي زيد بن أبي الغمر من ابن القاسم
قال أبو زيد : قال ابن القاسم : سئل مالك عن
فاسد يأوي إليه أهل الفسق والخمر ما يصنع به ؟
قال : يخرج من منزله وتحرز عليه الدار والبيوت
، فقال : فقلت لا تباع ، قال لا ، فلعله يتوب
فيرجع إلى منزله ، قال ابن القاسم يتقدم إليه
مرة أو مرتين فإن لم يتب أخرج وأكرى عليه .
قال محمد بن رشد : قد قال مالك في الواضحة
إنها تباع عليه ، خلاف قوله في هذه الرواية ،
وقوله فيها يصح لما ذكره من أنه قد يتوب فيرجع
إلى منزله ، ولو لم تكن الدار له وكان فيها
بكراء أخرج منها وأكريت
(9/416)
عليه ولم يفسخ
كراؤه فيها ، قاله في كراء الدور من المدونة
وقد روي عن يحيى بن يحيى أنه قال : أرى أن
يحرق بيت الخمار ، وقال : وقد أخبرني بعض
أصحابنا أن مالكاً كان يستحب أن يحرق بيت
المسلم الذي يبيع الخمر ، قيل : وقبل النصراني
يبيع الخمر من المسلمين ، قال : إذا تقدم إليه
فلم ينته فأرى أن يحرق عليه بيته بالنار ، قال
: وحدثني الليث أن عمر بن الخطاب حرق بيت
رويشد الثقفي لأنه كان يبيع الخمر ، وقال له :
أنت فويسق ولست رويشند وبالله التوفيق .
تم الكتاب بحمد الله
(9/417)
|