البيان
والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة [: كتاب
الشهادات الأول]
[: شهد عليه رجال بحق فحلف بالطلاق إن كانوا
شهدوا علي بحق وإنه لباطل]
كتاب الشهادات الأول
(9/419)
من سماع ابن القاسم عن مالك بن أنس من كتاب
أوله قطع الشجر قال: أخبرنا سحنون، عن ابن القاسم، عن مالك، أنه قال فيمن
شهد عليه رجال بحق فحلف بالطلاق إن كانوا شهدوا علي بحق، وإنه لباطل، قال:
لا يفرق بينه وبينها، فإن شهد عليه غيرهم طلقت عليه امرأته، قال ابن
القاسم: وأصل قول مالك في هذا أن من حلف تكذيبا للشهود سموا أو لم يسموا،
ثم شهدوا أنه لا يلزمه ذلك الطلاق، مثل أن يقال له: إن فلانا وفلانا يشهدان
عليك، وإن ثم شهودا يشهدون عليك، فيقول: امرأته طالق البتة إن شهدوا علي
إلا بزور، وإن لم تكن شهادتهم باطلا، أو كذبوا علي في شهادتهم، ثم شهدوا
فلا شيء عليه، وإن شهدوا فقال هذا القول بعدما شهدوا فلا شيء عليه، فأما أن
يقول امرأتي طالق البتة إن كنت تسألني حقا أو إن كنت شربت خمرا، ولا فعلت
(9/421)
كذا وكذا، مثل أن يقول: لم أدخل دار فلان
ولم أكلم فلانا، ثم شهد عليه قوم أنه فعله حنث.
قال ابن القاسم: قال لي مالك: ولو أنه أقر أنه فعل شيئا من ذلك عند نفر ثم
حلف بطلاق امرأته البتة إن كان فعله دين ولم يكن عليه طلاق، ولو أنه أقر
أنه حلف بطلاق امرأته على شيء ألا يفعله، ثم شهد عليه أنه قد فعله، ثم زعم
أنه قد كذب بما أقر به طلق عليه ولم يصدق، ولو شهد عليه نفر في حق فحلف
بعدما شهدوا أن امرأته طالق إن كان له علي شيء لم يلزمه طلاق، قال ابن
القاسم: لأن يمينه هاهنا بعدما شهدوا تكذيبا للشهادة، وسمعت مالكا يقول:
ولو سئل عن أمر ذكر له أنه حلف فيه بالطلاق ألا يفعله، وقد رئي يفعله فجحده
ثم أقر بعد ذلك أنه قد كان قاله، يريد الذي قال إني قد كنت حلفت، لزمه
الطلاق.
قال محمد بن رشد: هذه المسائل صحاح كلها، وأصلها في كتاب الأيمان بالطلاق
من المدونة وتكررت في رسم يشتري الدور والمزارع للتجارة من سماع يحيى من
كتاب الأيمان بالطلاق بزيادة اليمين في الموضع الذي يدين فيه منها، ومثله
في المدونة ولا اختلاف في شيء أحفظه منها.
وتلخيصها أن اليمين على الفعل بالطلاق كان ببينة أو بإقرار إذا تقدم على
الإقرار بالفعل أو الشهادة عليه به طلقت عليه امرأته، وإن تقدم الإقرار
بالفعل أو الشهادة به عليه على اليمين كان ببينة أو بإقرار لم تطلق عليه،
والفرق بين أن يتقدم اليمين على الفعل، أو الفعل على اليمين، هو أن اليمين
إذا تقدم ببينة أو بإقرار فقد لزم حكمه، ووجب ألا
(9/422)
يصدق في إبطاله، وإذا تقدم الفعل بيمينه أو
بإقرار لم تثبت اليمين بتكذيب ذلك حكما إذا لم يقصد الحالف إلى إيجاب حكم
الطلاق الذي حلف به على نفسه، وإنما قصد إلى تحقيق نفي ذلك الفعل، وبالله
التوفيق.
[مسألة: شهادة الأخ لأخيه في الفرية]
مسألة قال مالك: لا تجوز شهادة الأخ لأخيه في الفرية، ولا في الحد وأشباه
ذلك.
قال محمد بن رشد: يريد بالفرية هاهنا الفرية التي لا توجب الحد وإنما توجب
الأدب، مثل أن يقول له: يا سارق أو يا شارب الخمر أو يا آكل الربا وما أشبه
ذلك، بدليل قوله: ولا في الحد، يريد بالحد مثل أن يقذف في بدنه أو ينفى عن
أبيه، وإن كان ليس بأخيه لأبيه، قال في رسم أول عبد ابتاعه من سماع يحيى:
أو يقذف أمه وإن كان ليس بأخيه لأمه، ومعنى ذلك إذ قام بحدها إما بعد موتها
وإما في حياتها بتوكيلها، وكما لا تجوز شهادته له في الحدود لا تجوز في
نفيها عنه، مثل أن يشهد عليه أنه قذف رجلا فشهد هو أن ذلك الرجل عبد أو ما
أشبه ذلك، ويريد بقوله: وأشباه ذلك ما يشبه في وقوع الحمية فيه والتهمة
بالعصبية، مثل أن يجرح عمدا.
قال في الرسم المذكور من سماع يحيى أو يقتل، يريد عمدا وإن كان له أولاد
فكان إنما يشهد لهم؛ لأن القتل مما تقع فيه الحمية، وأجاز أشهب في سماع
زونان شهادة الأخ لأخيه في الجراح خطئها وعمدها، وإذا أجازها في جراح العمد
ولم يراع ما يقع في ذلك من الحمية فيلزم على قياس قوله إجازتها في الحدود
والقتل، وأما جراح الخطأ وقتل الخطأ فتجوز شهادته له في ذلك؛ لأنه مال ولا
اختلاف في جواز شهادته له في الحقوق والأموال وإن عظمت، إذا لم يكن الشاهد
منهما لأخيه في عيال المشهود له، ولا يضر أن يكون المشهود له في عيال
الشاهد، وقيل: إذا كان مبرزا
(9/423)
في العدالة وهو قول ابن القاسم في المدونة،
وقيل: إذا كان جائز الشهادة لا بأس بحاله وهو قول مالك في رواية ابن وهب
عنه، ولم يفرقوا في شهادته له بالمال بين أن يكون أبواه حيين أو لا يكونا
حيين، والذي يأتي على قياس قول ابن القاسم في أنه لا تجوز شهادة الرجل
لزوجة ابنه، ولا لزوجة أبيه، ولا لابن زوجته، ولا لأبيها، ولا تجوز شهادته
له إذا كان أبواه حيين أو أحدهما، أو أبوه إذا كان أخاه لأبيه، أو أمه إذا
كان أخاه لأمه؛ لأنه يجر بذلك نفعا إلى أبويه، أو إلى أحدهما فيها فيدخل
عليهما من السرور بالشهادة لابنهما، وهذا هو المعنى عنده في أنه لا تجوز
شهادته لابن زوجته ولا لأبيها ولا لزوجة ابنه، خلاف مما ذهب إليه سحنون على
ما يأتي من اختلاف قولهما في ذلك في رسم جاع من سماع عيسى.
وأجاز ابن القاسم شهادته له في النكاح، ومنع من ذلك سحنون إذا نكح إلى من
يتزين بنكاحه إليهم، وهو يحمل على التفسير لقول ابن القاسم، وإلى هذا ذهب
ابن دحون، وخالفه غيره في ذلك وذهب إلى أنه خلاف له، قال: لأنه يشهد له في
المال وهو مما يشرف به، وليس بصحيح؛ لأنه لا يشرف هو بشرف أخيه بالمال
ويشرف بشرفه بالنكاح، هذا مما لا يخفى الوجه به.
واختلف في تعديله ونفي التجريح عنه على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يعدله
ويجرح من جرحه وهو الظاهر من مذهب ابن القاسم ومن قول مطرف وابن الماجشون
في الواضحة.
والثاني: أنه لا يعدله ولا يجرح من جرحه، وهو قول ابن نافع وأشهب وأصبغ
وأحد قولي ابن الماجشون.
والثالث: أنه يعدله ولا يجرح من جرحه وهو قول ابن الماجشون في الواضحة،
واختيار ابن حبيب.
وهذا إذا جرح بالإسفاه، وأما إذا جرح بالعداوة فيجوز أن يجرح من جرحه بها.
قال (ذلك) سحنون في نوازله، وهو صحيح على مذهب من يجيز تعديله، وبالله
التوفيق.
(9/424)
[مسألة: سئل عن
شهادة عنده وهو مريض فأنكرها]
مسألة قال مالك، فيمن سئل عن شهادة عنده وهو مريض فأنكرها، وقال: كل شهادة
أشهد بها بين فلان وفلان فهي باطل، ثم شهد بها بعد ذلك بينهما، قال: يسأل
لم قال ذلك؟ فإن قال: كنت مريضا فخشيت ألا أكون أثبت ما أشهد به وما أشبه
هذا من القول الذي له وجه يعرف، فأرى أن تجوز شهادته إذا كان عدلا لا يتهم.
قال القاضي: قوله إذا كان عدلا لا يتهم معناه إذا كان عدلا مبرزا في
العدالة.
وهذا إذا كان إنما سئل في مرضه عن الشهادة لتنقل عنه إلى الحكم أو ليشهد
على شهادته بها تحصينا لها، وكذلك إذا سئل عنها عند الحكم ليشهد بها
فأنكرها، وقال: لا علم عندي منها، ثم جاء يشهد على ما في رسم الكبش من سماع
يحيى.
وأما لو لقيه الذي عليه الحق فقال له: بلغني أنك تشهد علي بكذا، فقال: لا
أشهد عليك بذلك ولا عندي منه علم، وإن شهدت به عليك فشهادتي باطلة، ثم جاء
فشهد، لم يقدح ذلك في شهادته ولم يضرها، وإن كان على قوله بينة، قال ذلك
ابن حبيب في الواضحة، وهو يحمل على التفسير لقول مالك هذا، ولقول ابن
القاسم في سماع يحيى.
والفرق بين الموضعين أن له أن يقول في الوجه الثاني إنما قلت ذلك معتذرا
ولم أزل عالما بما شهدت به، وفي الوجه الأول لا عذر له فيما أقر به على
نفسه من الجهل بالشهادة فوجب أن تبطل شهادته، إلا أن يأتي بأمر يشبه من أنه
تذكر الشهادة بعد ذلك، وأنه خشي ألا يقوم بها في مرضه فيصدق في ذلك إذا كان
مبرزا في العدالة، وكذلك إذا زاد في شهادته أو نقص منها بعد أن شهد بها لا
تجوز شهادته إلا أن يكون مبرزا
(9/425)
في العدالة، وهذه إحدى المسائل الست التي
يشترط فيها التبريز في العدالة على مذهب ابن القاسم.
والثانية: شهادة الأخ لأخيه.
والثالثة: شهادة الأجير لمن استأجره إذا لم يكن في عياله.
والرابعة: شهادة المولى لمن أعتقه.
والخامسة: شهادة الصديق الملاطف لصديقه.
والسادسة: شهادة الشريك المفاوض لشريكه في غير مال المفاوضة.
وسيأتي في أول رسم الكبش من سماع يحيى القول على الذي يزيد في شهادته أو
ينقص منها قبل الحكم بها أو بعد ذلك مستوفى إن شاء الله تعالى.
[مسألة: أقر الشاهد ببطلان شهادته]
مسألة قيل لسحنون: أرأيت رجلا شهد عليه رجل فلقيه المشهود عليه فقال: بلغني
أنك شهدت علي بكذا وكذا، فقال له الشاهد: إن كنت شهدت عليك بذلك فأنا فيه
مبطل. وقد كان شهد بذلك، هل ترى شهادته ساقطة؟
قال: أرى هذا رجوعا إذا كان على قوله بينة، وتسقط شهادته، ولا تجوز ولا
يثبت بها شيء إذا كان رجوعه قبل القضاء، وإن كانت هذه المعاملة منه بعد
القضاء ضمن ما استهلك من المال.
قال محمد بن رشد: حكى ابن حبيب في هذه المسألة عن مطرف وابن الماجشون وأشهب
وأصبغ أن قوله هذا لا يضره في شهادته ولا يكون رجوعا عنها، وإن كانت عليه
بينة إلا أن يرجع عن شهادته رجوعا بينا، كما إذ قال ذلك له قبل أن يشهد لما
وقفه على ما بلغه عنه من أنه يريد أن يشهد عليه، ووجه ما حكاه عنهم أن قوله
لما كان محتملا أن يكون أراد به تكذيب نفسه في الشهادة والرجوع عنها، وأن
يكون لم يرد به شيئا من ذلك، وإنما قاله معتذرا وجب ألا يبطل الحاكم شهادته
إلا بيقين، ولم يجب عليه أن يسأله هل أراد بذلك الرجوع عن شهادته أم لا؟ إذ
لو
(9/426)
أراد ذلك لفعله، إذ لا ضرر عليه فيه؛ لأنه
لا يضمن إذا رجع قبل نفوذ الحكم، ولم يصدقه سحنون أنه أراد بذلك الاعتذار،
وجعله رجوعا يريد بعد الإعذار إلى المشهود له في البينة التي شهدت عليه
بذلك القول، ولو شهد عليه أنه قال ذلك ابتداء دون أن يعاتب على الشهادة
لكان ذلك رجوعا عنها باتفاق بعد الإعذار إلى المشهود له إن كان قبل الحكم،
وإلى الشاهد إن كان ذلك بعد الحكم؛ لأنه ضامن، والحكم ماض على قوله في هذه
الرواية، وفي المدونة خلاف ما في أول رسم من سماع عيسى من أنه لا يضمن إذا
شبه عليه ولم يتعمد الزور، وسيأتي القول على ذلك هنالك إن شاء الله، وبه
التوفيق.
[مسألة: رجل طلب من رجل حقا له عنده فشهد له
رجل به وأنه حميل به]
مسألة وقال مالك: لو أن رجلا طلب من رجل حقا له عنده فشهد له رجل أنه ظل
يسأله ذلك الحق وأنه حميل به، رأيت شهادته غير جائزة، ولا يبطل ما أقر به
من الحمالة، ويغرم ما أقر به الحميل، قال ابن القاسم: إن كان هذا المدعي
قبله الحق مليا جازت شهادة الحميل، وإن كان عديما لم تجز شهادة الحميل،
وإنما بطلت شهادته لأن الحميل إذا غرم المال أعديناه عليه، فكانت تهمة.
قال محمد بن رشد: الاختلاف في جواز شهادة الحميل بالدين الذي أقر أنه تحمل
به جار على اختلافهم في لزوم الحمالة له، إذا كان الذي عليه الدين منكرا،
وقد اختلف في ذلك، فقيل: تلزمه الكفالة ويجب عليه الغرم ولا يكون له أن
يرجع على الغريم إلا أن يثبت عليه الدين، وهو قول ابن القاسم في رواية يحيى
عنه من كتاب الكفالة والحوالة، فعلى هذا إن
(9/427)
شهد الحميل بالدين لم تجز شهادته؛ لأنه
يشهد لنفسه ليسقط عنه الغرم، أو ليرجع على الغريم بما غرم، وهو قول مالك في
هذه الرواية.
وقيل: إنه لا تلزمه الكفالة لإنكار الذي عليه الدين، وقد تأول ذلك على ما
في كتاب الكفالة من المدونة وليس هو عندي بتأويل صحيح، فعلى هذا القول إن
شهد الحميل بالدين جازت شهادته، إذ لا يجر إلى نفسه بها منفعة، بل يوجب
عليها مضرة، وهي لزوم الحمالة له، وهي رواية أشهب عن مالك، وقيل: تلزمه
الكفالة، ولا يؤخذ بها إلا في عدم الغريم، بمنزلة أن لو كان مقرا على ما
اختاره ابن القاسم من قولي مالك في ذلك، فعلى هذا إن شهد الحميل بالدين
جازت شهادته إن كان الغريم مليا، ولم تجز إن كان معدما، وهو قول ابن القاسم
في الرواية، وقد تأول على ما في سماع عيسى من كتاب الكفالة والحوالة، أن
الحوالة لا تلزمه وإن أقر الغريم بالحق حتى يثبت عليه، وأقامه بعض الناس من
قوله في المدونة إذا أثبت ما بايعه به في مسألة من قال أنا ضامن لما بايعت
به فلانا، وذلك كله عندي غير صحيح؛ لأنها مسائل مفترقة لا اختلاف من القول،
فإذا قال الرجل أنا كفيل لفلان بمائة دينار له على فلان، وفلان منكر لزمه
غرم المائة، وقيل: لا يلزمه غرمها إذا كان منكرا.
وقيل: يلزمه غرمها إذا كان معدما وإن كان منكرا، وإذا قال الرجل: لي على
فلان مائة دينار، فقال له رجل: أنا لك بها كفيل، لم يلزمه غرمها بالكفالة
إلا أن يقر بها المطلوب قولا واحدا، وإذا قال الرجل: لي على فلان حق، فقال
له الرجل: أنا لك به كفيل، فقال المطلوب له: على مائة دينار لم يلزم الكفيل
غرم المائة دينار بالكفالة إلا أن تثبت المائة على المطلوب بالبينة قولا
واحدا أيضا، بمنزلة من قال لرجل: أنا ضامن لما بايعت به فلانا، فهذا تحصيل
القول في هذه
(9/428)
المسألة والله الموفق.
[مسألة: شهادة الوارث في العتاقة والصدقة]
مسألة قال عبد العزيز بن أبي سلمة في شهادة الوارث في العتاقة والصدقة:
إنها جائزة في حصته منها، وإن كان عدلا جازت شهادته على من تصدق به عليه،
فأما العتق فلا يحلف فيه ولا يقوم عليه، قال ابن القاسم، وقال مالك: لا
يعتق منه شيء إلا أن يشتريه فيعتق عليه.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال إن العتق لا يحلف فيه العبد مع الذي شهد له
بالعتق من ورثة سيده؛ لأن العتق لا يكون فيه شاهد ويمين، وقد اختلف فيما
يلزم الشاهد في حظه من العبد إذا لم تجز شهادته لانفراده بها، أو لكونهما
إن كانا اثنين غير جائز في الشهادة، أو متهمين في شهادتهما بجر الولاء إلى
أنفسهما دون من يرث الميت ممن لا ولاء له على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه لا يعتق عليه حظه منه، ويستحب له أن يبيعه فيجعله في عتق، فإن
ملك العبد يوما ما عتق عليه إن حمله الثلث، أو كانت الشهادة في الصحة، وهو
قول مالك هاهنا وفي المدونة.
والثاني: أنه يعتق عليه حظه منه، وهو قول عبد العزيز بن أبى سلمة هاهنا،
وقول المغيرة قرب آخر نوازل سحنون.
والثالث: أنه يعتق عليه حظه منه، ويقوم عليه حظوظ أشراكه فيه، وهو الذي
يأتي على قول أصبغ في نوازله في الرجلين يشتريان العبد من الرجل ثم يشهد
أحدهما على البائع أنه قد كان أعتقه، ولكل قول منها حظ من النظر، فوجه قول
مالك أن العتق لا يصح تبعيضه للضرر الداخل في ذلك على العبد وعلى الأشراك
فيه، فإذا لم يلزم أن يقوم على الشاهد نصيب أشراكه إذ ليس بمعتق لحظه وإنما
هو شاهد على غيره وجب ألا يعتق عليه حظه لِمَا في ذلك من الضرر بالعبد
(9/429)
وسائر الورثة.
ووجه قول عبد العزيز والمغيرة أن الحر لا يحل ملكه لمن علم أنه حر وهو مقر
أن حظه من العبد حر، فوجب أن يعتق عليه، إذ لا يحل ملك الحر، ولم يلزم أن
يقوم عليه بقيته إذ ليس بمعتق، وقول عبد العزيز على قياس القول بأن من أعتق
حظه من عبد يقوم عليه حظ شريكه على أن نصفه حر، ووجه قول أصبغ أنه متهم في
شهادته على أنه إنما أراد أن يعتق حظه من العبد، ولا يقوم عليه بقيته،
والاختلاف في وجوب تقويم حظوظ أشراكه عليه جار عندي على اختلافهم في الولاء
لمن يكون؟ هل له أو للمشهود عليه؟ وأما شهادة الوارث على الميت بالصدقة فلا
اختلاف في أنها لازمة له في حظه إن كان مالكا لأمر نفسه، وجائزة على سائر
الورثة للمتصدق عليه إن كان جائز الشهادة، يحلف معه ويستحق جميع الصدقة على
ما قاله عبد العزيز.
ومعنى قوله: وإن كان عدلا جازت شهادته على من تصدق به عليه، أي جازت شهادته
لمن تصدق به عليه، فحلف معه واستحق صدقته، والعرب قد تبدل حروف الخفض بعضها
من بعض، فعلى هذا يخرج هذا اللفظ، والله تعالى هو الموفق المعين بفضله.
[: شهادة البدوي للحضري في الحقوق والجراح]
ومن كتاب القبلة وقال، في شهادة البدوي للحضري في الحقوق والجراح: أما في
الحقوق فإني لا أراها جائزة، وذلك أن الناس لم يتركوا أن يتوثقوا لأنفسهم
ويشهدون العدول، والذي يشهد بدويا ويترك جيرانه من أهل الحاضرة عندي مريب،
وأما الجراح فإني أرى إن كان البدوي عدلا أن تجوز شهادته، وذلك لأن الجراح
تلتمس لها الخلوة وموضع غير أهل العدل من الشهداء، ولا يستطيع من أصابه ذلك
أن يحضر لذلك شهداء، فهذا موضع لشهادته، قال ابن القاسم: وتجوز شهادتهم
-يريد: أهل البادية- في رؤية الهلال إذا كانوا عدولا.
وسئل مالك: عن قروي خرج إلى بادية فسكن فيها معهم، قال: إذا كان قد انقطع
إليهم وسكن معهم فأرى شهادتهم
(9/430)
له جائزة، فقيل له: إنه في معدن، فقال: أين
أهل ذلك المعدن؟ فقال: انتقلوا وانقطع نيله وسكنه الأعراب، قال: إذا كان
ذلك المعدن بهذه الحال فشهادتهم جائزة.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا أن أهل البادية لا تجوز شهادتهم فيما يقصد
إلى إشهادهم عليه دون أهل الحاضرة فيما يقع في الحاضرة من المبايعات
والمناكحات والهبات والأكرية والإجارات والوصايا والعتق والتدبير وما أشبه
ذلك؛ لأن القصد إلى إشهادهم دون أهل الحاضرة ريبة، فلا شهادة للبدوي في
الحضر على حضري ولا على بدوي لحضري إلا في الجراح والقتل والزنا والشرب
والضرب والشتم، وما أشبه ذلك مما لا يقصد إلى الإشهاد عليه، وتجوز شهادتهم
فيما يقع في البادية من ذلك كله على الحضري، والبدوي للحضري والبدوي إذا
كانوا عدولا لا ريبة في القصد إلى شهادتهم في البادية.
هذا تحصيل القول في هذه المسألة على معنى هذه الرواية مما حكاه ابن حبيب في
الواضحة عن مطرف وابن الماجشون وغيرهما من أصحاب مالك وعن مالك أيضا، فعلى
هذا الأصل لو حضر أهل البادية شيئا مما يقع في الحاضرة بين أهلها وغيرهم من
المعاملات وغيرها دون أن يحضروا لذلك أو يقصد إلى إشهادهم فشهدوا بما حضروه
لجازت شهادتهم إذا كانوا عدولا، وقد وقع في المبسوطة من رواية ابن القاسم
عن مالك، وقول ابن وهب من رأيه خلاف هذا، أنه لا تجوز شهادة البدوي على
الحضري لما في ذلك من الظنة والتهمة، يريد والله أعلم إذا شهد على حضري
لبدوي مثله في شيء من الأشياء كان في الحاضرة أو البادية.
قال ابن وهب فيها: وقد اختلف في شهادة الحضري على البدوي، فرأى قوم أنها لا
تجوز، وأنا أرى أنها جائزة، إلا أن يدخلها ما دخل شهادة البدوي على الحضري
من الظنة فلا
(9/431)
تجوز حينئذ، ومن الدليل على هذا القول ما
روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تجوز
شهادة البدوي على القروي» .
وقد قال بعض من أجاز شهادته عليه، وصحح الحديث: معناه في أهل البادية الذين
لا يجيبون إذا دعوا، وليسوا على شرط أهل العدالة من أهل الحاضرة، وليس ذلك
ببين، إذ لو كان معنى الحديث هذا، لقال فيه لا تجوز شهادة البدوي مطلقا.
ومن هذا المعنى شهادة العالم على العالم، وقع في المبسوطة من قول عبد الله
بن وهب لا تجوز شهادة القارئ على القارئ؛ لأنهم أشد الناس تحاسدا وتباغيا،
وقاله سفيان الثوري ومالك بن دينار.
[: غلام بالبادية ادعى على سيده الميت التدبير
وأقام شهودا من البادية]
ومن كتاب أوله كتب عليه ذكر حق وسئل مالك: عن رجل كان يتجر في البادية فهلك
بها، فقام غلام له كان معه فادعى التدبير، وأقام شهودا من البادية، فقال:
إذا كانوا عدولا جازت شهادتهم.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال وهو مما لا اختلاف فيه، وقد مضى في
المسألة التي قبل هذه بيان ذلك، فلا معنى لإعادته، بالله التوفيق.
[: الرجل يأتي بشهداء عدول على الرجل في حق
فيجرحهم الآخر]
ومن كتاب أوله الشجرة تطعم بطنين في السنة وسئل مالك: عن الرجل يأتي بشهداء
عدول على الرجل في حق، ويأتي المشهود عليه بشهود على الذين شهدوا عليه أنه
بينه وبينهم عداوة فترد شهادتهم عنه، أفترى أن يحلف؟ قال: إذا ردت شهادتهم
فهم بمنزلة من لم يشهد عليه، وكأنه رأى أن لا يحلف، وقال سحنون مثله.
(9/432)
قال محمد بن رشد: لم ير مالك في هذه
الرواية البينة إذا سقطت بالتجريح شبهة توجب اليمين كالخلطة، ومثله في رسم
العتق من سماع عيسى في نوازل سحنون، وقد قيل: إن ذلك آكد من الخلطة فيجب
عليه به اليمين، ذكر ذلك ابن أبي زيد في المختصر، وبه قال أبو بكر بن محمد،
والاختلاف في هذا عندي جار على اختلافهم في الخلطة هل لا تثبت إلا بما ثبت
به الحقوق من شاهدين أو شاهد وامرأتين أو يجتزأ فيها بالشاهد الواحد
والمرأة الواحدة حسبما مضى القول فيه في رسم القضاء المحض من سماع أصبغ من
كتاب الأقضية، وبالله التوفيق.
[مسألة: شهد عليه وبينهما عداوة فاحتاج أهل
الشهادة إليها فأخبرهم أنه عدو له]
مسألة وسئل مالك: عن رجل شهد على رجل بينه وبينه عداوة فاحتاج أهل الشهادة
إليها فأخبرهم أنه عدو له، قالوا: فإنا نحب أن تشهد لنا، قال مالك: فإني
أرى أن يشهد ويخبر مع شهادته بعداوته إياه لا يكتم ذلك.
قال القاضي: هذا مثل ما في رسم من سماع عيسى، خلاف ما في سماع سحنون
ونوازله.
وأصح القولين في النظر أنه لا يجوز له أن يخبر بعداوته إياه؛ لأنه يجرح
بذلك نفسه فتسقط شهادته، ويبطل حق ما يعلم صحته، ووجه القول الأول: أنه لا
ينبغي له أن يقر الحكم بإعمال شهادة من لا تجوز شهادته، وهو ضعيف، وبالله
التوفيق.
[مسألة: تنازعا في شيء يظنانه لهما وكل واحد
منهما يظنه لنفسه]
مسألة وقال في الرجلين يدعيان الشيء فيقول أحدهما: قد رضيت
(9/433)
بشهادة فلان بيني وبينك، فيشهد الرجل على
أحدهما، فيقول المشهود عليه: ظننت أنك تقول الحق الذي تعلم أنه الحق، فأما
إذ شهدت علي بغير الحق فلا أرضى فذلك له، والشهادة غير جائزة.
قال سحنون: وقال ابن دينار: إذا تنازع رجلان في شيء يظنانه لهما، وكل واحد
منهما يظنه لنفسه من غير يقين، فيسألان الرجل فيشهد أنه لأحدهما، قال: ذلك
جائز ولا يشبه ذلك مسألة مالك وهو الذي تعلمناه.
قال محمد بن رشد: حكى ابن عبدوس عن ابن كنانة نحو قول ابن دينار إنه إن كان
نازعه في شيء ليس عنده علم مثل حدود أرض، أو دين على أبيه، أو ما أشبه ذلك،
قال له: فلان يشهد لي، فقال: إن شهد لك فقد رضيت، فشهد لزمه، وإن كان نازعه
في قول قاله، أو فعل فعله، زعم صاحبه أن فلانا رآه حين فعله أو سمعه حين
قاله، فقال له: إن شهد علي فلان بذلك فقد رضيت على وجه التبكيت له والإنزاه
عن الكذب، كالقائل: إن فلانا لا يقول ذلك فشهد عليه بذلك لم يلزمه.
وقال ابن القاسم في المبسوطة: لا يلزمه ذلك في الوجهين، وهو قول عيسى بن
دينار، ومثله حكى ابن حبيب في الواضحة عنه، وعن ابن الماجشون وأصبغ، وعليه
يأتي ما في رسم يوصي من سماع عيسى من هذا الكتاب على ما نتأوله عليه إذا
وصلنا إليه إن شاء الله، وحكى عن مطرف: أن له أن ينزع عن الرضا به ما لم
يشهد، فإذا شهد عليه لم يكن له أن ينزع، ولزمه ما شهد به عليه، قال: وسواء
نفر إليه لعلمه بما جهلاه مما اختصما فيه، أو لمعرفته بحدود ذلك إن كانت
أرضا أو على أي وجه نفر إليه ما لم يكن على وجه التبكيت لصاحبه والتنزيه
للشاهد عن الكذب.
(9/434)
والذي يتحصل في هذه المسألة أنه إن قال ذلك
على وجه التبكيت لصاحبه والإنزاه للشاهد عن الكذب فلا اختلاف في أنه لا
يلزمه ما شهد به عليه، وإن لم يقل ذلك على وجه التبكيت، ففي ذلك ثلاثة
أقوال:
أحدها: أنه لا يلزمه ما شهد به عليه كان يحقق علم ما نازع فيه خصمه من ذلك
أو لا يحققه إلا أن يحكم به عليه مع شاهد آخر أو مع يمين المدعي، وهو قول
ابن القاسم وابن الماجشون وأصبغ وعيسى بن دينار.
والثاني: أنه يلزمه ما شهد به عليه نازعه فيه خصمه، ولا يلزمه إن كان يحقق
معرفة ذلك، وهو قول ابن دينار وابن كنانة، واختيار سحنون هذا، وقوله في آخر
نوازله: وسواء كان الشاهد في هذا كله عدلا أو مسخوطا أو نصرانيا، وقد قيل:
لا يلزم الرضا بشهادة النصراني، بخلاف المسخوط، وإذا لم يتبين من صورة
تراجعهما التبكيت من غير التبكيت فهو فيما نازعه فيه من قول قاله، أو فعل
فعله محمول على التبكيت حتى يتبين منه الرضا بقوله، والتزام الحكم به على
نفسه على كل حال، وفيما نازعه من حدود أرض أو دين على أبيه أو ما أشبه ذلك
محمول على غير التبكيت حتى يتبين منه التبكيت.
ولا اختلاف في أن له أن يرجع على الرضا بقوله في جميع الوجوه قبل أن يشهد،
وذلك بخلاف الرضا بالتحكيم في الوجهين، إذ لا يختلف في أنه ليس لواحد منهما
أن ينزع بعد الحكم، ويختلف هل يكون لمن شاء منهما أن ينزع قبل الحكم؟ فقال
مطرف: له النزوع قبل الحكم، وقال ابن الماجشون وأصبغ عن ابن القاسم: ليس
ذلك له، ولا يجوز أن يحكم النصراني ولا الصغير الذي لا يعقل، واختلف في
العبد والمرأة والمسخوط والمولى عليه، والصغير الذي يعقل، فأجاز أصبغ
تحكيمهم كلهم، ومنع مطرف من تحكيمهم كلهم، وأجاز ابن الماجشون في أحد قوليه
تحكيم المرأة والعبد منهم، وكذلك المولى عليه على قياس قوله، وأجاز أشهب
تحكيم المرأة والعبد والمولى عليه والمسخوط. فلمن يصح تحكيمه - على مذهب
مطرف - سبعة أوصاف، وهي: البلوغ، والعقل، والإسلام، والحرية، والعدالة،
والذكورية، وعدم الولاية.
وعلى مذهب أصبغ وصفان، وهما: العقل،
(9/435)
والإسلام. وعلى مذهب أشهب ثلاثة أوصاف وهي:
البلوغ، والعقل، والإسلام. وعلى مذهب ابن الماجشون أربعة أوصاف، وهي:
البلوغ، والعقل، والإسلام، والعدالة.
ومن معنى هذه المسألة أعني مسألة الرضا بشهادة الشاهد مسألة رسم العتق من
سماع عيسى بعد هذا من هذا الكتاب في الذي يوصي أن ما شهد به عليه ابنه من
دين أو شيء فهو فيه مصدق، وسيأتي الكلام عليها في موضعها إن شاء الله.
[مسألة: الذي يأتي بشاهد واحد في حق لأبيه كيف
يحلف]
مسألة وسئل مالك: عن الذي يأتي بشاهد واحد في حق لأبيه كيف يحلف؟ أعلى
البتات أم على العلم؟ قال: على البتات إنه حق، ولكن إن جاء بشاهدين أحلف
بالله إن أباه اقتضاه، ويحلف مع الشاهد على الحق بالبتات، ومع الشاهدين على
العلم.
قال محمد بن رشد: قوله إنه يحلف مع الشاهد على البتات صحيح؛ لأن يمينه تقوم
مقام الشاهد الآخر، فكما يشهد الشاهد على البت، كذلك يحلف هو على البت إن
الحق حق، كما شهد به الشاهد، لا يحكم له بالحق إلا بذلك، ولا يقبل منه أن
يحلف على العلم، فيقول: بالله ما نعلم الشاهد شهد لي بباطل، ولا يصح له
فيما بينه وبين خالقه أن يحلف على البتات إلا أن يوقن بصحة ما شهد به
الشاهد بأسباب يقع له اليقين بها هو أعلم بها فيدين في ذلك، ويمكن من
اليمين. وقد مضى هذا في رسم كتب عليه ذكر حق من سماع ابن القاسم من كتاب
الأيمان بالطلاق.
وأما قوله: إنه يحلف مع الشاهدين على العلم فلا يصح ذلك إذا كان المشهود
عليه منكرا، وإنما يصح إذا أقر بما شهدا به عليه، وادعى أنه قد قضى الميت،
وهذا كبير يظن أنه قد علم به، وقد قيل: إنه لا يمين عليه إلا
(9/436)
أن يدعي عليه العلم، والقولان في المدونة،
وإن كان الدين ثبت على ميت لميت وارثه كبير حلف على القول الأول، وإن لم
يدع ورثة الذي ثبت الدين عليه أنه قد كان قضاه، وأن وارثه قد علم، ولم يحلف
على القول الثاني إلا أن يدعوا قضاء وأن هذا قد علم، والاختلاف في هذا على
اختلافهم في لحوق يمين التهمة دون تحقيق الدعوى، وفي المكان الذي يجب فيه
اليمين مع الشاهدين ما علم أنه اقتضاه، لا بد أن نزيده في يمينه مع الشاهد
الواحد، فهذا بيان هذه المسألة، وبالله التوفيق.
[مسألة: رجلان شهدا لرجل في مسكن له فشهد رجل
أنه مسكنه والآخر أنه حيزه]
مسألة وسئل مالك: عن رجلين شهدا لرجل في مسكن له، فشهد رجل أنه مسكنه، وشهد
آخر أنه حيزه، أترى هذه شهادة واحدة؟ فإن خصمه احتج بأن يقول له إن هذه
شهادة مختلفة؟ قال مالك: أرى حيزه ومسكنه شهادة واحدة لا تفترق، وربما كانت
الشهادة الكلام فيها مختلف، والمعنى فيها واحد، وأراها شهادة واحدة، ولا
أرى أن يدفع عن حقه لما اختلف من الكلام والمعنى واحد، وأراها شهادة واحدة.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة منصوصة في كتاب الغصب من المدونة بينة
المعنى؛ لأن الأحكام إنما تتعلق بالمعاني، لا بالألفاظ، فإذا اختلف اللفظ
في الشهادة واتفق المعنى فيها لفقت باتفاق، مثل أن يشهد الشاهدان للرجل،
فيقول أحدهما: أشهد أن الدار
(9/437)
داره، ويقول الآخر: أشهد أن المنزل منزله،
أو يشهد في الطلاق على الرجل أحد الشاهدين ببراءة والثاني بخلية وما أشبه
ذلك كثيرا، وإن اختلف اللفظ والمعنى، واتفق ما يوجبه الحكم مثل أن يشهد أحد
الشاهدين في دار بيد رجل أنها لرجل، ويشهد آخر أنه غصبها إياه؛ لأن الحكم
يتفق في كلتي الشهادتين على أن يقضي للمشهود له بالدار، وإن كان للغصب
أحكام تختص به دون الاستحقاق من غير غصب، ومثل أن يشهد شاهد على رجل أنه
طلق امرأته ثلاثا، ويشهد آخر أنه صالحها؛ لأن الحكم يتفق في كلتي الشهادتين
على إيجاب التفرقة بينهما. وإن اختلف فيما سوى ذلك، وبالله التوفيق.
[مسألة: إذا شهد عليه شاهدان أنه كتابه بيده
يؤخذ منه الحق]
مسألة وسئل مالك: عن رجل كتب عليه رجل ذكر حق، وأشهد فيه رجلين، فكتب الذي
عليه الحق شهادته على نفسه بيده في ذكر الحق، فهلك الشاهدان، ثم جحد، فأتى
رجلان فقالا: نشهد أنه كتابه بيده، قال مالك: إذا شهد عليه شاهدان أنه
كتابه بيده، رأيت أن يؤخذ منه الحق، ولا ينفعه إنكاره، وإنما ذلك عندي
بمنزلة ما لو أقر ثم جحد وشهد عليه رجلان بإقراره، فأرى أن يغرم، فقال له
رجل: ألا ترى هذه تشبه رجلا يشهد عليه رجلان بشهادة فأنكرها فلم تجز شهادة
الرجلين؟ قال: لا يشبه، قيل له: أترى عليه يمينا مع شهادة الرجلين على
شهادته بكتابه بيده أنه كتابه؟ قال: لا يمين عليه، وإنما اليمين مع الشاهد،
وهذا قد استوجب حقه، ولا يمين عليه، وأرى أن يغرم له.
(9/438)
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأن
شهادة الرجل على نفسه إقرار عليها، وإقراره على نفسه شهادة عليها، فإذا كتب
الرجل شهادته في ذكر الحق المكتوب عليه، أو كتب ذكر الحق ولم يكتب فيه
شهادته، فقد أقر على نفسه، إذ لا فرق بين أن يكتب لفلان علي كذا وكذا، أو
لفلان على فلان كذا، ويسمي نفسه، وإن كتب ذكر الحق على نفسه بيده، فقال:
فيه لفلان على فلان كذا وكذا ثم كتب فيه شهادته، فهو أقوى في الإقرار؛ لأنه
إقرار بعد إقرار، وإنما يختلف إذا كتب شهادته في ذكر حق على أبيه، ثم مات
أبوه، وهو وارثه، فقام صاحب الحق عليه بذكر الحق على أبيه، وفيه شهادته
فأقر بالشهادة، وزعم أنه كتبها على غير حق، أو أنكرها، فشهد على خطه، فقال
مطرف وأصبغ: يؤخذ بالحق؛ لأن مال أبيه لما صار إليه فكأن الشهادة على نفسه.
وقال ابن الماجشون: ليس ما شهد به على غيره وإن صار ماله إليه كما لو شهد
على نفسه، ولا يؤخذ منه الحق إلا بإقرار سوى خط شهادته، ومحمله محمل
الشهادة لا محمل الإقرار، واختار ابن حبيب قول مطرف وأصبغ، وقول ابن
الماجشون أقيس.
والشهادة على خط المقر كالشهادة على إقراره، سواء عند من يجيز الشهادة في
ذلك على الخط أن يشهد على خطه شاهد واحد كانت مع شهادته اليمين، وإن شهد
على خطه شاهدان أخذ المشهود له حقه بشهادتهما دون يمين، والمشهور في المذهب
أن الشهادة على الخط في ذلك جائزة عاملة لم يختلف في ذلك قول مالك ولا قول
أحد من أصحابه فيما علمت، إلا ما يروى عن محمد بن عبد الحكم من أنه قال لا
تجوز الشهادة على الخط مجملا، ولم يخص موضعا من موضع.
ونزلت هذه المسألة في أيام ابن لبابة فأفتى فيها جميع معاصريه بإعمال
الشهادة، وقال هو: إنها لا تجوز، وحكى ذلك عن مالك من رواية ابن نافع، وفي
المبسوط من قول ابن نافع وروايته عن مالك أنها جائزة، كالمعلوم من مذهبه،
خلاف ما حكاه عنه ابن لبابة، فأرى حكايته غلطا، والله أعلم.
وأما الشهادة على خط الشاهد الميت أو الغائب، فلم يختلف في الأمهات
المشهورة قول مالك في إجازتها وإعمالها، وقد قيل: إنها لا تجوز، وروي ذلك
عن مالك، وإلى هذا ذهب محمد بن المواز،
(9/439)
وجعل الشهادة على خطه كالشهادة على شهادته
إذا سمعها منه ولم يشهده عليها بقول، فكما لا يجوز له أن يشهد على شهادته
إذا سمعها يقول لفلان على فلان كذا وكذا حتى يشهده على قوله، إذ قد يخبر
الرجل بما لا يتحقق تحققا يتقلد الشهادة به، فكذلك لا يجوز له أن يشهد إذا
رأى شهادته بخط يده في وثيقة بحق لفلان على فلان حتى يشهده على خطه، إذ قد
يكتب شهادته من لا يتقلد الشهادة بها، ومن إذا دعي إليها استراب فيها وتوقف
عنها. ومن لا يعرف المشهود عليه إلا بعينه، وقد لا يعرفه بعينه ولا باسمه.
ووجه من أجاز الشهادة على خطه، وفرق بين ذلك وبين الشهادة على شهادته إذا
سمعها منه ولم يشهده عليها: أن الرجل قد يخبر بما لا يتحققه، ولا ينبغي
للرجل أن يكتب شهادته حتى يتحقق ما يشهد عليه ويعرف من أشهده بالعين
والاسم، مخافة أن يموت أو يغيب فيشهد على خطه، فأشبه ذلك من سمع رجلا يؤدي
شهادته عند الحكم، أو يشهد عليها غيره أنه يشهد على شهادته بما سمع منه،
وإن لم يشهده عليها، والقول الأول أظهر، إذ قد قيل، وهو قول ابن المواز:
إنه لا يجوز له أن يشهد على شهادته حتى يشهده عليها وإن سمعه يؤديها عند
الحكم، أو يشهد عليها غيره، مع أن وضع الشاهد شهادته في الكتب لا تقوى قوة
ذلك، وقد قال ابن زرب: لا تجوز الشهادة على خط الشاهد حتى يعرف أن المشهود
على خطه كان يعرف من أشهده معرفة العين، وذلك صحيح لا ينبغي أن يختلف فيه،
لما قد تساهل الناس فيه من وضع لشهادتهم على من لا يعرفون.
وقد اختلف في حد الغيبة التي تجوز فيها الشهادة على خط الشاهد عند من
يجيزها، فقيل: ما تقصر فيه الصلاة، وهو قول ابن الماجشون، وقال ابن سحنون
عن أبيه: الغيبة البعيدة، ولم يحد قدرها، وحدها أصبغ فيما حكى عنه ابن
مزين، فقال: مثل أفريقية من مصر، أو مكة من العراق، أو نحو ذلك.
والذي جرى به العمل عندنا على ما اختاره الشيوخ إجازتها في الأحباس، وما
جرى مجراها مما هو حق لله وليس بحد.
وأما شهادة الشاهد على خطه إذا لم يذكر الشهادة فكان مالك أول زمانه يقول:
إنه يشهد إذا كان الكتاب نقيا ولم يكن فيه شيء ولا محو يريبه، ثم رجع فقال:
لا يشهد وإن صف خطه حتى يذكر
(9/440)
الشهادة أو بعضها، أو ما يدله على حقيقتها
وينفي التهمة عنه فيها، فأخذ بقوله الأول عامة أصحابه: مطرف، وابن
الماجشون، والمغيرة، وابن أبي حازم، وابن دينار، وابن وهب وإليه ذهب ابن
حبيب، وهو اختيار سحنون في نوازله.
قال مطرف: وعليه جماعة الناس. قال مطرف وابن الماجشون: وليقيم بالشهادة
تامة بأن يقول ما فيه حق، وإن لم يحفظ مما في الكتاب عددا ولا مقعدا ولا
يعلم السلطان بأنه لا يعرف غير خطه، فإن أعلمه بذلك وأنه لم يرتب في شيء
لزم الحاكم رده.
وروى ابن وهب عن مالك في موطأه أنه إذا قال: هذا كتابي ولا يذكر الشهادة
أنه يجيزها ويحكم بها.
وأخذ ابن القاسم وأصبغ بقول مالك الآخر أنه لا يشهد وإن عرف خطه حتى يذكر
الشهادة، واختلف على هذا القول، هل يرفع شهادته أم لا؟ فقال مالك في
المدونة: إنه يؤديها كما علم ولا تنفع، وهذا من مذهبه يدل على القول بتصويب
المجتهدين، وقال ابن المواز: إنه لا يرفعها، وهو القياس على قول من قال: إن
المجتهد قد يخطئ الحق عند الله، وإن لم يقصر في اجتهاده وامتثل أمر الله
فيه، واختلف كيف يؤديها؟ فقيل: إنه يقول: هذه شهادتي بخط يدي ولا أذكرها.
وفي رسم الأقضية الثالث من سماع أشهب يقول: أرى كتابا يشبه كتابي، وأظنه
إياه، ولست أذكر شهادتي، ولا متى كتبتها، وعلى معنى هذا الاختلاف يأتي
اختلافهم في الشهادة على خط المقر؛ لأن المعنى في ذلك إنما هو هل الخط رسم
يدرك بحاسة البصر أم لا؟ وهذه المسألة يتحصل في المذهب فيها خمسة أقوال:
أحدها: أنها شهادة جائزة يؤديها ويحكم بها. والثاني: أنها شهادة غير جائزة
فلا يؤديها ولا يحكم بها إن أداها. والثالث: أنها شهادة غير جائزة إلا أن
يؤديها ولا يحكم بها. والرابع: أنها إن كانت في كاغد لم يجز له أن يشهد،
وإن كانت في رق جاز له أن يشهد، يريد - والله أعلم - إذا كانت الشهادة في
بطن الرق، ولم تكن
(9/441)
على ظهره؛ لأن البشر في ظهر الرق أخفى منه
في الكاغد، والخامس: أنه إن كان ذكر الحق والشهادة بخطه جاز له أن يشهد،
وإن لم يكن بخطه إلا الشهادة لم يجز له أن يشهد، حكى هذين القولين ابن
الحارث، وقد ذكر سحنون في نوازله أن جميع أصحاب مالك يقولون شهادته جائزة
إذا كان هو خط الكتاب وكتب شهادته، وهذه التفرقة استحسان، والقياس أن لا
فرق بين أن يكون بخطه ذكر الحق والشهادة، وبين ألا يكون بخطه إلا الشهادة
على المعنى الذي ذكرناه في الخط، هل هو رسم يدرك بحاسة البصر أم لا؟
فالوجوه التي تختلف في إجازة الشهادة على الخط فيها ثلاثة: الشهادة على خط
المقر وهو أقواها في جواز الشهادة، وتليها الشهادة على خط الشاهد، وتليها
شهادة الشاهد على خط نفسه وهو أضعفها في إجازة الشهادة، فمن لا يجيز
الشهادة على خط المقر لا يجيز الشهادة على الخط في شيء من الوجوه الثلاثة،
ومن يجيز شهادة الشاهد على خط نفسه يجيز الشهادة علي الخط في الوجوه كلها.
ويتحصل في الجملة أربعة أقوال: أحدها: أن الشهادة على الخط لا تجوز في شيء
من الأشياء، والثاني: أنها لا تجوز إلا على خط المقر على نفسه، والثالث:
أنها لا تجوز إلا على خط المقر على نفسه وعلى خط الشاهد، والرابع: أنها
تجوز في الثلاثة المواضع على خط المقر على نفسه، وعلى خط الشاهد الميت أو
الغائب، وشهادة الشاهد على خط نفسه، وبالله التوفيق.
[مسألة: شهادة المولى لمولاه جائزة]
مسألة وسئل مالك: عن رجل أشهد لمولى له هو أعتقه وعنده أخوات له، هل ترى أن
موضع أخواته عنده ممالك مما يخرج شهادته؟ قال: إن كان غير متهم وهو عدل
مرضي جازت شهادته.
(9/442)
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأن
شهادة المولى لمولاه جائزة على ما في المدونة وغيرها إذا كان مبرزا في
العدالة، وهو معنى قوله في هذه الرواية إذا كان عدلا مرضيا غير متهم، ولا
يقدح في شهادته له كون أخوات المشهود له مماليك له، إذ لا ينجر إليه بذلك
منفعة، والله الموفق.
[مسألة: من صور الشهادة على الشهادة]
مسألة وسئل: عن الرجلين يشهدان على الرجل، فقال أحدهما: حرام علي ما حل لي
إن فرق بيني وبينك إلا ابن أبي سلمة، فشهد واحد على هذه الشهادة، وشهد
الآخر أنه قال: إن استأذنت عليك إلا ابن أبي سلمة، فأنكر وقال: إنما قلت إن
فارقتني حتى تعطيني حقي، قال: أرى أن يحلف أن الذي قالا ليس بحق، ولا
أعرفه؛ لأني إنما أردت ألا تفارقني حتى تعطيني حقي.
قال القاضي: وقع في هذه المسألة في الأم إن استأذنت عليك ابن أبي سلمة،
فقال فيه ابن أبي زيد: إنه غلط وأصلحه إلا ابن أبي سلمة، وهو على ما قاله
مسألة فيها نظر؛ لأن المعنى في قوله: إن فرق بيني وبينك إلا ابن أبي سلمة
أو إن استأذنت عليك إلا ابن أبي سلمة سواء، وهو قد قال في السؤال: إن
الحالف المشهود عليه أنكر الشهادة، وقال: إنما قلت إن فارقتني حتى تعطيني
حقي، فكان الواجب في ذلك على أصولهم ألا ينفعه إنكاره، ويلزمه ما شهدا به
عليه، وإن اختلف لفظهما في الشهادة، إذ قد اتفق المعنى فيها، فتحرم عليه
امرأته إن فارق غريمه ولم يستأذن عليه ابن أبي سلمة، ولا يقبل منه نية إن
كان قضاه قبل أن يفارقه، فقال: إنما
(9/443)
نويت إن لم تقضني حقي من أجل أنه قد أنكر،
إلا أنه قد قيل: إنه تقبل منه البينة بعد الإنكار، وهو قول مالك في كتاب
التخيير والتمليك من المدونة، وفي رسم كتب عليه ذكر حق من سماع ابن القاسم،
وفي رسم الطلاق من سماع أشهب، وفي رسم الكبش من سماع يحيى منه، ومن كتاب
الأيمان بالطلاق، فيحتمل أيضا أن يتأول جوابه في هذه المسألة على هذا
القول؛ لأنه قال فيه: أرى أن يحلف أن الذي قالا ليس بجوابي الذي شهدا به
علي من أني قد حنثت فيما حلفت به، إذ قد فارقت غريمي ولم أرفعه إلى ابن أبي
سلمة ليس بحق؛ لأني إنما أردت ألا يفارقني حتى يعطيني حقي، فنواه في يمينه
وهو قد أنكرها، وساق يمينه على المعنى، والنص فيها أن يقول: بالله ما أردت
أن استئذاني عليه إلا إن لم يعطني، وذلك هو الذي نويت في يميني، وقد أعطاه
إياه فلا حنث عليه، وبالله التوفيق.
[مسألة: شهادة الأعمى]
مسألة وسئل مالك: عن شهادة الأعمى هل تجوز شهادته؟ قال: نعم، إذا عرف ذلك
وأثبته، وقد كان ابن أم مكتوم رجلا أعمى إماما مؤذنا على عهد رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإذا أثبت الأعمى ما شهد عليه جازت
شهادته، قال مالك: وكذلك الرجل إذا شهد على المرأة من وراء الستر قد عرفها،
وعرف صوتها، وأثبتها قبل ذلك فشهادته جائزة عليها.
قال مالك: وقد كان الناس يدخلون على أزواج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد موته وبينهم حجاب يسمعون منهن ويحدثون عنهن، وقد
سأل أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام وأبوه، عائشة وأم سلمة، وهما
من وراء الحجاب، ثم أخبرا عنهما.
قال الإمام القاضي: مثل هذا في كتاب اللعان من المدونة
(9/444)
وهو مما لا اختلاف فيه أحفظه في المذهب،
وما احتج به مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - من إجازة شهادة الرجل على المرأة
بما سمع منها من وراء الستر إذا كان قد عرف صوتها ليحدث أصحاب رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن أزواج النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ
- بعد موته بما سمعوا منهن من وراء الحجاب صحيح، لا خروج لأحد عنه، وكذلك
احتجاجه على إجازة الشهادة على الصوت بكون ابن أم مكتوم مؤذنا إماما صحيح؛
لأن الإمام يقتدى بأذانه من يسمعه ولا يراه في أوقات الصلوات وطلوع الفجر
في رمضان إذا علم عدالته، وقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «إن بلالا ينادي بليل، فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم»
.
فألزم الناس الاعتبار بأذانهما على ما عرفوا من أصواتهما، ولا معنى لقوله:
وقد كان ابن أم مكتوم رجلا أعمى؛ لأن الحجة إنما هي في كونه إماما مؤذنا
يقتدي به في صلاته وأذانه من لا يراه إلا في كونه رجلا أعمى، وقد قال
ربيعة: لو لم تجز شهادة الأعمى ما جاز له وطء أمته ولا زوجته، وقوله صحيح
ظاهر؛ لأنه لا يعرفها إلا بكلامها.
قال المغيرة: وسواء ولد أعمى أو لم يولد، شهادته مقبولة، والله الموفق ولا
رب غيره ولا خير إلا خيره.
[الرجل يشهد للرجل على رجل وللشاهد على المشهود له حق]
ومن كتاب أوله اغتسل على غير نية وسئل مالك: عن
الرجل يشهد للرجل على رجل وللشاهد على المشهود له حق، قال: لا يضر
ذلك شهادته وهي جائزة، قال ابن القاسم: بلغني عنه أنه إذا كان المشهود له
موسرا قبلت شهادته، وإن كان معدما لم تقبل؛ لأنه إنما شهد لنفسه. قال
سحنون: قال ابن القاسم: وكذلك لو شهد رجل لرجل وللمشهود له على الشاهد حق
أنه إن كان مليا جازت شهادته، وإن كان معدما لم تقبل ولم تجز.
(9/445)
قال محمد بن رشد: ما بلغ ابن القاسم عن
مالك من تفرقته إذا كان الدين للشاهد على المشهود له بين أن يكون المشهود
له مليا أو معدما مفسر لما سمعه منه من إجازته شهادته له مجملا، إذ لا يصح
أن يختلف في أن شهادته له لا تجوز إذا كان معدما؛ لأن شهادته إنما هي
لنفسه، وهذا إذا كان الدين حالا أو كان حلوله قريبا، وأما إن كان حلوله
بعيدا فشهادته له جائزة كما تجوز إذا كان مليا، وشهادته له جائزة، فيما عدا
الأموال، قال ذلك بعض أهل النظر وهو صحيح.
وأما إن كان الدين للمشهود له على الشاهد فأجاز أشهب في سماع زونان شهادته
له مليا كان أو معدما، خلاف قول ابن القاسم هاهنا: إن شهادته لا تجوز إذا
كان معدما، يريد: والدين حال أو قريب الحلول؛ لأنه يتهم أن يكون إنما شهد
له ليوسع عليه في الدين ويؤخره به، وسواء كانت شهادته له بمال أو بغير مال،
ولم ير أشهب هذه تهمة ترد بها شهادة الشاهد العدل، وأما إن كان الدين
للشاهد على المشهود عليه، أو للمشهود عليه على الشاهد، أو للمشهود له على
المشهود عليه، أو للمشهود عليه على المشهود له، فلا يقدح شيء من ذلك في
الشهادة.
واختلف في المال القراض يكون بيد المشهود له للشاهد، أو بيد الشاهد للمشهود
له - على ثلاثة أقوال:
أحدها: أن شهادة كل واحد منها لصاحبه جائزة، مليا كان العامل بالمال أو
معدما، وهو ظاهر قول أشهب وقول ابن القاسم في سماع أصبغ عنه.
والثاني: أنه إن كان العامل بالمال مليا جازت شهادته لرب المال، وشهادة رب
المال له، وإن كان معدما لم تجز شهادة واحد منهما لصاحبه، وهو الذي يأتي
على قول ابن وهب.
والثالث: أن شهادة كل واحد منهما لا تجوز لصاحبه إن كانت قبل أن يحرك
العامل المال وينشبه في سلع، ويجوز له إن كان قد حركه وشغله في سلع؛ لأن
المال إن كان ناضا في يد العامل اتهم في شهادته لرب المال أن يقر المال
بيده ولا يأخذه منه، واتهم رب المال في شهادته له أن يعمل
(9/446)
بالمال ولا يصرفه عليه، وهو الذي يأتي على
قياس قول سحنون، فهذا معنى ما وقع من ذلك كله في سماع زونان من هذا الكتاب،
وبالله التوفيق.
[: شهادة الابن لأبيه على أمه]
من سماع أشهب وابن نافع عن مالك قال سحنون: قال لي أشهب، وابن نافع: سئل
مالك عن شهادة الابن لأبيه على أمه، فقال: لا يجوز ذلك؛ لأن الابن يهاب
أباه ويتقيه، وربما ضربه، قيل له: فشهادته لأمه على أبيه، قال: لا تجوز
أيضا شهادته على أبيه، لا تجوز لأبيه ولا لأمه، إلا أن يكون الرجل العدل
المنقطع في الصلاح جدا، وإنما تجوز شهادته لهما إذا كان الوالد عدلا منقطعا
في الصلاح إن كان الذي شهد عليه الشيء اليسير، وذلك يختلف في القليل
والكثير.
قال محمد بن رشد: لا خلاف أعلمه من قول مالك وأصحابه أن شهادة الرجل لا
تجوز لأبويه، ولا لأحد من أجداده وجداته وإن علوا، ولا لولده الذكور
والإناث، ولا لأحد من أولادهم وإن سفلوا، والأصل في ذلك قول رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا تجوز شهادة خصم ولا ظنين ولا جار
إلى نفسه» .
والظنين المتهم فرأى أهل العلم أن الرجل متهم في شهادته لأبويه وأجداده
وجداته وإن علوا وولده وولد ولده، فإن سفلوا فلم يجيزوا شهادته لواحد منهم،
ولا شهادة واحد منهم له، وأجازوا شهادته على كل واحد منهم، وشهادة كل واحد
منهم عليه إذا لم يكن بين الشاهد والمشهود عليه
(9/447)
عداوة تعرف، أو يكون يجر إلى نفسه بشهادته
نفعا، مثل أن يشهد على أبيه أنه قتل عمدا، أو أنه زنى وهو محصن وله مال أو
ليس له مال وهو فقير قد ألزمه السلطان نفقته؛ لأنه يتهم على إرادة ميراثه
والاستراحة من النفقة عليه.
وأما شهادته بعضهم على بعض ففي ذلك تفصيل، قال في هذه الرواية: لا تجوز
شهادة الرجل لأبيه على أمه، ولا لأمه على أبيه، إلا أن يكون الرجل العدل
المنقطع في الصلاح جدا ويكون الذي شهد به لأحدهما على الآخر شيئا يسيرا؛
لأن معنى قوله: وإنما تجوز شهادته لهما، أي لأحدهما على الآخر، وأما شهادته
لأحدهما على أجنبي فلا تجوز على حال يسير ولا كثير.
وحكى ابن عبدوس عن ابن نافع: أن شهادة الابن لأمه على أبيه أو لأبيه على
أمه جائزة، إذا كان عدلا، إلا أن يكون الابن في ولاية الأب أو يكون الأب
تزوج على الأم فأغارها فيتهم الابن، أو يكون غضب لأمه ووجد لها فلا تجوز
شهادته حينئذ لها، وسيأتي في رسم يوصي من سماع عيسى القول في شهادته على
أبيه بطلاق أمه أو غيرها من نسائه.
ولو شهد لأبيه على ولد أو لولده وليس في حجره على أبيه لتخرج ذلك على
الاختلاف المذكور في شهادته لأحد أبويه على الآخر، ولو شهد لأبيه على جده
أو لولده على ولد ولده لا ينبغي ألا تجوز شهادته قولا واحدا، ولو شهد لجده
على أبيه أو لولد ولده على ولده لا ينبغي أن تجوز شهادته قولا واحدا، وقد
اختلف في شهادته لبعض ولده على بعض إذا لم يكن المشهود له في ولايته، فقيل:
إنها جائزة، وقيل: إنها لا تجوز على ما يأتي في رسم الجواب من سماع عيسى،
وبالله التوفيق.
[مسألة: يختصمان في خصومة ثم يمكثان مدة فيشهد
أحدهما على صاحبه]
مسألة وسئل: عن الرجلين يختصمان في الخصومة ثم يمكثان بعد ذلك سنين، ثم
يشهد أحدهما على صاحبه بشهادة، قال: إن كان
(9/448)
أمرهما آل إلى سلامة وصلح، فذلك جائز.
قال محمد بن رشد: ظاهر هذه الرواية أن مجرد الخصومة في القليل والكثير توجب
العداوة بين المتخاصمين وتسقط شهاده أحدهما عن صاحبه؛ لأنه لم يرها جائزة
عليه وإن طال الأمد حتى يئول أمرهما إلى سلامة وصلح، وهو أن يرجعا إلى ما
كانا عليه قبل الخصومة، ومثله في سماع سحنون ونوازل أصبغ.
ولو سلم كل واحد منهما على صاحبه، ولم يعودا إلى ما كان عليه قبل المحاكمة
من التكلم لم تجز شهادة أحدهما على صاحبه، ولم يخرجه ذلك من الهجران إذا لم
يكن مؤذيا له على ما يأتي في رسم باع شاة من سماع عيسى، وقال مطرف وابن
الماجشون: إذا لم يكن الذي بينهما خاصا فيخرج بالسلام عن الهجرة وتجوز عليه
شهادته وإن ترك كلامه، وقد قيل: إن شهادة كل واحد منهما على صاحبه بعد
الخصومة جائزة في غير الشيء الذي تخاصما فيه، إلا أن تكون خصومتهما في
الأمر الجسيم الذي يورث الحقد والعداوة، وهو قول ابن كنانة، قال: وهذا
تفسير الحديث: «لا تجوز شهادة خصم ولا ظنين» . واختلف في الظنين، فقيل: هو
المتهم في دينه. وقيل: هو المتهم في شهادته.
وقد قيل: إن شهادة كل واحد منهما على صاحبه جائزة بعد الخصومة وإن لم
يصطلحا ما لم يقع بينهما فيها مشاتمة، وهو قول يحيى بن سعيد في نوازل سحنون
من هذا الكتاب، قال: وإذا كانت بينهما عداوة معلومة فاصطلحا جازت شهادة كل
واحد منهما على صاحبه، وقال مطرف وابن الماجشون، وابن عبد الحكم وأصبغ:
وذلك إذا طال الأمر واستحق الصلح وظهرت براءتهما من دخل العداوة؛ لأنه يتهم
إذا شهد عليه بقرب ما صالحه على أنه إنما صالحه ليشهد عليه، فلا تجوز
شهادته عليه، وسيأتي في رسم باع شاة من سماع عيسى إذا كان الشهود أعداء لا
في المشهود
(9/449)
عليه أو لوصيه، وبالله التوفيق.
[مسألة: السؤال عن الشهود سرا]
مسألة وسئل: عن المسألة عن الشهود سرا، أترى ذلك؟ قال: نعم، ولكن لا يسأل
إلا العدول.
قال محمد بن رشد: المسألة عن العدول في السر تعديل السر وهو مما ينبغي
للقاضي أن يفعله، ولا يكتفي بتعديل العلانية دونه، وله أن يكتفي بتعديل
السر دون تعديل العلانية، وحكى هذا ابن حبيب عن مطرف وابن الماجشون وأصبغ،
ومعناه في الاختيار دون اللزوم على ما في المدونة وغيرها.
وتعديل السر يفترق من تعديل العلانية في وجهين: أحدهما: أنه لا إعذار في
تعديل السر. والثاني: أنه يجزي فيه الشاهد الواحد، وإن كان الاختيار اثنين
بخلاف تعديل العلانية في الوجهين، وقد روي عن سحنون: أنه لا يقبل في تزكية
السر إلا اثنان، وهو ظاهر ما في المدونة ومعناه في الاختيار، فلا اختلاف في
أن الشاهد الواحد يجزي في تعديل السر، وإن كان الاختيار اثنين، وقد حمل ذلك
بعض الناس على أنه اختلاف من القول وليس بصحيح، وإنما كان تعديل السر أقوى
من تعديل العلانية؛ لأن الشاهد قد يسأل التزكية فيستحيي من التوقف عنها،
وروي عن ابن شبرمة أنه قال: أنا أول من سأل في السر، كان الشاهد إذا أتى
القوم ليزكوه استحيوا منه، وتعديل السر هو أن يبتدئ القاضي بالسؤال عن
الشاهد، فيسأل عنه من يظن أنه خبير بحاله من جيرانه وأهل خلطته ومكانه، أو
يتخذ رجلا يوليه السؤال عن الشهود فيقبل ما أخبره به وحده، ولا
(9/450)
ينبغي له هو أن يكتفي بسؤال رجل واحد مخافة
أن يكون بينه وبين الشاهد عداوة، وتعديل العلانية هو أن يقول القاضي
للمشهود له: لا أعرف شهودك، فعدلهم عندي، فهذا لا يجوز فيه إلا شاهدان،
ويلزم الإعذار فيهما إلى المشهود عليه، هذا معنى ما في المدونة والواضحة
وغيرهما من الدواوين، ولا خلاف في شيء منه، والله الموفق.
[مسألة: المولى عليه هل تجوز شهادته وهو عدل]
مسألة وسئل عن المولى عليه، هل تجوز شهادته وهو عدل؟
فقال: إن كان عدلا فماله لم يدفع إليه ماله؟ قيل له: هو عدل وشهادته نزلت،
فقال: إن كان عدلا جازت شهادته.
قال محمد بن رشد: مثل هذا في كتاب ابن المواز لمالك من رواية ابن عبد الحكم
عنه، وهو على قياس المعلوم من قول ابن القاسم في ترك الاعتبار بالولاية على
اليتيم البالغ في جواز أفعاله وردها، والذي يأتي على المشهور في المذهب
المعلوم من قول مالك وأصحابه في أن المولى عليه لا تنفذ أفعاله وإن كان
رشيدا في جميع أحواله ألا تجوز شهادته، وإن كان مثله لو طلب ماله أعطيه،
وهو نص قول أشهب في المجموعة، ونحو قوله في سماع أصبغ من كتاب النكاح أنه
لا يكون وليا في النكاح، وإن كان عدلا، وقد حكى ابن حبيب في الواضحة عن
مالك وأصحابه أن القاضي إذا حكم بشهادة المولى عليه أو العبد ثم انكشف ذلك
بعد الحكم ردت القضية، بخلاف إذا انكشف أنه مسخوط أو سفيه، وروى مثله أبو
زيد عن ابن الماجشون، وقال أصبغ: إذا قضى بشهادته ثم تبين أنه مولى عليه
مَارِقٌ فَاسِدٌ بَيِّنُ الفساد، أو مسخوط بين الفسق
(9/451)
والفساد ردت قضيته كما ترد إذا تبين أنه
عبد، والله الموفق.
[مسألة: الشاهد يعدله رجلان ويأتي المشهود عليه
برجلين يجرحانه]
مسألة وسئل: عن الشاهد يعدله رجلان، ويأتي المشهود عليه برجلين يجرحانه بأي
ذلك يؤخذ؟ قال: ينظر في ذلك إلى الشهود أيهم أعدل، اللذان عدلاه أم اللذان
جرحاه؟ قيل له: ألا ترى أن شهادة اللذين جرحاه أثبت؛ لأنهما علما ما لم
يعلم الآخران؟ قال: لا، هذا رجل عدل أيقبل قولهما؟ ولكن يقال لهما: أي شيء
تجرحانه به؟ فينظر في ذلك أمعروف مشهور ذلك؟ ولعل الذي يجرحانه به شيء
قديم، وقال ابن نافع: إذا كان هذان اللذان يجرحانه عدلين فهما أولى ويسقط
التعديل، وقال سحنون مثله.
قال محمد بن رشد: قول ابن نافع وسحنون: هو دليل ما في كتاب السرقة من
المدونة ورواية عيسى عن ابن القاسم عن مالك، وفي المسألة قول ثالث حكاه
صاحب المبسوطة عن مطرف وابن وهب، وهو أن التعديل أولى من التجريح، والتزكية
بالفضل أولى من القول بالشر، وهذا الاختلاف إنما هو إذا لم يبين المجرحون
الجرحة وتعارضت الشهادة في الظاهر بأن يقول المعدلون: هو عدل جائز الشهادة،
ويقول المجرحون: هو مسخوط غير جائز الشهادة، فأما إذا بين المجرحون الجرحة
فلا اختلاف أن شهادتهم أعمل من شهادة المعدلين وإن كانوا أقل عدالة منهم،
ولكل قول منها وجه، فوجه القول بأنه يؤخذ بأعدل البينتين هو أن الشاهد
المجهول الحال ليس بمحمول على الجرحة ولا العدالة، إذ لو حمل على العدالة
لجازت شهادته دون تعديل، ولو حمل على الجرحة لما جازت شهادته وإن
(9/452)
عدل؛ لأن المعدل لا يقطع أنه لا جرحة فيه،
وإنما يشهد بما يظهر إليه من عدالته، وإن جرح ردت شهادته. فوجب إذا قال
قوم: إنه عدل، وقال آخرون: إنه مسخوط - أن ينظر إلى أعدل البينتين، فإن
استوتا في العدالة سقطتا، وبقي على ما كان عليه قبل الشهادة من التوقيف في
أمره. ووجه القول أن شهادة المجرحين أعمل: هو أن المجرحين كأنهما قد زادا
في شهادتهما؛ لأنهما علما منه ما لم يعلم المعدلون، وهذا هو أظهر الأقوال
وأولاها بالصواب، ووجه القول بأن شهادة المعدلين أعمل: هو أن شهادتهم توجب
حكما وهو قبول الشهادة، وشهادة المجرحين لا توجب حكما؛ لأن شهادة الشاهد
المجهول الحال غير مقبولة حتى يُعَدَّل، فوجب أن تكون شهادة من أوجب الحكم
أعمل من شهادة من نفاه، وبالله التوفيق.
[: الشهادة بما في كتاب يزاد فيه شهود]
ومن كتاب الأقضية الثاني قيل: أرأيت إن أُتيت بكتاب، فقيل لي: اشهد فيه،
وذهب بالكتاب يزاد فيه شهود، ثم أقام عني يوما أو يومين، ثم أتيت به أشهد
فيه؟ فقال: أليس تعرف الكتاب؟ قال: بلى، قال له: فاشهد فيه.
قال محمد بن رشد: هذا بيّن على ما قاله؛ لأن الكتاب عرض من العروض يعرف
بعينه إذا غيب عليه، فإذا عرف أنه هو بعينه شهد فيه، وإن شك لم يشهد، وإن
كان إنما يعرفه بالخط فيدخل في ذلك من الخلاف ما دخل في الشهادة على خط
المقر، وقد مضى بيان ذلك في رسم الشجرة من سماع ابن القاسم، والله الموفق.
(9/453)
[مسألة: كيف
يوقف الذي يشهد في ذكر الحق]
مسألة قال أشهب: وسئل مالك: كيف يوقف الذي يشهد في ذكر الحق؟ أيجزي عنه أن
يقول هذه شهادتي أعرفها بخط يدي؟ فقال: يقال له: أتشهد أن حق هذا حق؟ فإما
أن يقول إذا أشهد: إن هذه شهادتي بخط يدي، وإن هذا كتابي، فلا يقال له: إن
كنت تحفظ شهادتك فاشهد أن حقه لحق، فإما أن تشهد أن هذا كتابه فلا، قال:
مالك: وكان شريح القاضي إذا جاءه الشاهدان بشهادة، قال لهما: إني بشهادتكما
أقضي أتشهدان الحق لهذا؟ فإذا قالا: نعم، أجاز شهادتهما.
قال محمد بن رشد: لم يجز مالك للشاهد في هذه الرواية أن يثبت الشهادة على
الحق من جهة معرفته بالخط، ولا أجازها إن شهد على معرفة الخط ولم يثبت
الشهادة، وهو الذي ذهب إليه شريح فيما حكى عنه مالك من قوله للشاهدين.
وقد اختلف في الوجهين جميعا، وقد مضى تحصيل القول في ذلك في رسم الشجرة من
سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: شهدا في وصية أوصي لأحدهما فيها بستين
دينارا وللآخر فيها بثوبين]
مسألة قال مالك، عن رجلين شهدا في وصية أوصي لأحدهما فيها بستين دينارا
وللآخر فيها بثوبين، قال: أما الذي أوصي له بالستين فلا تجوز شهادته، وأما
الذي أوصي له بالثوبين فإن كانا ثوبين لهما بال مرتفعين لم تجز شهادته أيضا
إذا كان الشيء الذي له
(9/454)
بال، وإن كان الشيء التافه اليسير فإنها
جائزة، قيل له: فإن الذي أوصى له بالستين دينارا شهد في وصيته بعدما أحدثها
الميت وأوصى فيها لناس ولم يوص فيها للشهداء بشيء، وقد أوصى لهم في الأولى،
قال: ولا تجوز شهادتهما في الآخرة إذا كان قد أوصى لهم في الأولى، قيل له:
إنه ليس لهما في الوصية الآخرة شيء، إنما وصيتهما في الأولى، فقال: لا تجوز
شهادتهما في الآخرة كما لم تجز في الأولى، قيل له: إنه ليس لهما في الآخرة
شيء، فقال: لكن في الأولى، فهو يقول أنا أشهد في أخرى، ثم في أخرى، قيل له:
فإن الذي أوصى له بالثوبين معه شاهد عدل على تلك الوصية، فقال: إن كان
الثوبان يسيري الثمن لا بال لهما، وكان الشاهد الذي معه عدلا فأرى الشهادة
جائزة.
قال محمد بن رشد: قوله إن الذي أوصى له بالستين لا تجوز شهادته، وكذلك الذي
أوصى له بالثوبين إن كانت قيمتهما مرتفعة يريد أنه لا تجوز شهادته لنفسه
ولا لغيره، وهو المشهور من الأقوال، ويأتي على قياس قول أصبغ في نوازله في
العبدين يشهدان بعد عتقهما أن الذي أعتقهما غصبهما من رجل مع مائة دينار،
إن شهادتهما تجوز في المائة، ولا تجوز في غصب رقابهما؛ لأنهما يتهمان أن
يريدا إرقاق أنفسهما أن تجوز شهادة الموصى له بالستين لغيره، ولا تجوز
لنفسه.
وقوله: وإن كان الشيء التافه اليسير فإنها جائزة، يريد أن الوصية تثبت
بشهادتهما ويأخذ هو ماله بغير يمين، فإن لم يكن على الوصية شاهد غيره حلف
الموصى لهم مع شهادته أن ما شهد به من الوصية حق، فتثبت الوصية بشهادته مع
أيمانهم، ويأخذ هو ماله فيها؛ لأنه يسير في حيز التبع لجملة الوصية، هذا
معنى قوله، وهو مذهب ابن القاسم في المدونة، ورواية مطرف عن مالك
(9/455)
في الواضحة، أن شهادته تجوز له ولغيره، وقد
قيل: إن شهادته تجوز لغيره ولا تجوز لنفسه، فإن كان وحده حلف الموصي لهم مع
شهادته، واستحقوا وصاياهم ولم يكن له هو شيء، وإن كان معه غيره ممن أوصى له
فيها أيضا بيسير تثبت الوصية بشهادتهما لمن سواهما، فأخذوا وصاياهم بغير
يمين، وحلف كل واحد منهم مع شهادة صاحبه فاستحق وصيته، وإن كان معه من لم
يوص له فيها بشيء تثبت الوصية بشهادتهما لمن سواه وحلف هو مع شهادة صاحبه
واستحق وصيته، وهو قول ابن الماجشون في الواضحة، وقيل أيضا: إن شهادته تجوز
له ولغيره إن كان معه شاهد غيره، ولا تجوز له، وتجوز لغيره إن لم يكن معه
شاهد غيره، فإن كان معه شاهد غيره ثبتت الوصية بشهادتهما، وأخذ هو ماله
فيها بغير يمين، فإن لم يكن معه شاهد غيره حلف غيره مع شهادته واستحق وصيته
ولم يكن له هو شيء، وهو قول يحيى بن سعيد في المدنية.
وفي المسألة قول رابع: إن شهادته لا تجوز لنفسه ولا لغيره لأنه يتهم في
اليسير كما يتهم في غير الوصية، وهي رواية ابن وهب عن مالك في المدونة،
وهذا كله إذا كانت الشهادة على وصية مكتوبة في كتاب، وللشاهد فيها وصية،
وأما إن كان الموصي أشهد على وصية لفظا بغير كتاب، فقال: لفلان كذا ولفلان
كذا، ولفلان كذا، والشاهد أحدهم، فإن كان الذي شهد به لنفسه يسيرا لم تجز
شهادته لنفسه وجازت لغيره، وقد يقال: إنه لا تجوز شهادته لنفسه ولا لغيره
بتأويل ضعيف، وأما إذا كان الذي شهد به لنفسه كثيرا فلا تجوز شهادته لنفسه
باتفاق، ولا لغيره على رواية أشهب هذه؛ لأنه قال فيها: إن الذي أوصى له
بالستين لا تجوز شهادته في وصية بعدما أحدثها الميت، وهو قول ابن المواز:
إنها لا تجوز في الثانية، إلا أن يشهد أنه نسخ الأولى، وتجوز لغيره على قول
مطرف وابن الماجشون في الواضحة.
وإذا جازت عندهما لغيره والوصية في مجلس واحد فأحرى أن تجوز لغيره في وصية
أحدثها الميت بعد ذلك، وهو قول سحنون إن الشهادة إنما سقطت في الأولى
بالظنة، فلا ينبغي أن تسقط في الثانية، خلاف رواية أشهب هذه، وبالله
التوفيق.
(9/456)
[مسألة: توهين
الشهادة]
مسألة وسئل: أترى إذا شهد القوم عند القاضي وعدلوا أن يقول للذي شهدوا عليه
دونك فجرح، فقال: إن فيها لتوهينا للشهادة، ولا أرى إذا كان عدلا أو عدل
عنده أن يفعل، قال ابن نافع: أرى أن يقول ذلك للمشهود عليه، ويمكنه من
التجريح؛ لأن الرجل ربما كان عدلا، فلعله أن يكون بينه وبين المشهود عليه
عداوة أو ما أشبه ذلك.
قال الإمام القاضي: لم ير مالك للإمام أن يقول للمشهود عليه: دونك فجرح،
لما في ظاهر قوله هذا من إغرائه بتجريحهم، وإنما الواجب أن يبيح له ذلك،
ويمكنه منه بأن يقول له: قد شهد عليك فلان وفلان، فإن كان عندك ما تدفع
بشهادتهم عن نفسك فجئ به وإلا حكمت عليك، ويعلمه بأن له أن يجرحهم إن كان
ممن يجهله على ما قاله في كتاب السرقة من المدونة، وهذا ما لا اختلاف فيه،
ولم ير ابن نافع قول القاضي للمشهود عليه دونك فجرح إغراء له بتجريحهم،
فرأى أن يقول ذلك له على سبيل الإعلام بما يجب له من تجريحهم إن شاء،
والتمكن له من ذلك، فحصل الخلاف بينه وبينه في جواز نص القول المذكور لا في
شيء من معنى المسألة، والله أعلم.
ومن الدليل على ذلك أن في المجموعة لمالك مثل قول ابن نافع، وإذا كان
الشاهد مبرزا في العدالة فلا يباح للمشهود عليه أن يجرحه بالإسفاه إن دعا
إلى ذلك وإنما يباح له تجريحه بالعداوة والهجرة إذ قد يكون ذلك في الصالح
(9/457)
البارز في الفضل والصلاح، قال ذلك أصبغ في
الواضحة، وهو تفسير لقول من أجمل القول في ذلك كسحنون في نوازله وغيره من
أصحاب مالك، وقد روي عن مالك: أنه لا يباح تجريح المبرز في العدالة بعداوة
ولا غيرها وهو بعيد والله أعلم، ويجرح الشاهد بالعداوة من هو مثله وفوقه
ودونه، واختلف في تجريحه بالإسفاه، فقال ابن الماجشون: لا يجرح به إلا من
هو فوقه في العدالة، وهذا إذا نصوا في الجرحة على التجريح، وأما إن قالوا:
هو غير عدل ولا جائز الشهادة فلا يجوز ذلك إلا للمبرزين في العدالة
العارفين بوجوه التعديل والتجريح، وبالله التوفيق.
[مسألة: الرجل يشهد أيجرح شهادته رجل واحد]
مسألة وسئل: عن الرجل يشهد أيجرح شهادته رجل واحد؟ قال: لا.
قال الإمام القاضي: هذا كما قال وهو مما لا اختلاف فيه أن الحاكم إذا أعذر
إلى المشهود عليه في شهادة من شهد عليه فلا يجرحه إلا بشاهدين عدلين، وإنما
يجرح بالواحد ويعدل به إذا كان الحاكم هو الذي يبتدئ بالسؤال فيسأل عن
الشاهد من يثق به، قال ذلك ابن حبيب في الواضحة وحكاه أصبغ عن ابن القاسم
وهو صحيح على أصولهم، واختلف إن أراد الشاهدان على الجرحة أن يشهدا سرا لما
يجر ذلك من العداوة بينهما وبين المجرح، فقال ابن حبيب: لا تقبل الشهادة
منهما إلا علانية لأنهما شاهدان، ولا بد من الإعذار في شهادتهما إلى
المشهود له الأول، وحكى ابن عبدوس عن ابن القاسم أن الشهادة تقبل منهما في
السر لعلة العداوة، وهو قول سحنون، قال: التزكية علانية والتجريح سرا ولا
آمرهم أن يسبوا الناس، وبالله التوفيق.
(9/458)
[: امرأة حلفت
بعتق رقيقها إن كلمت إنسانا سنة وكان عندها أربع نسوة]
ومن كتاب الأقضية الثالث وسئل: عن امرأة حلفت بعتق رقيقها إن كلمت إنسانا
سنة، وكان عندها أربع نسوة، فقلن لها: إنك قد استثنيت في يمينك، فقالت: إلا
أن أرى خيرا من رأيي هذا، أترى أن تكلمه؟ فقال: لا أدري ما قولهن لها، لا
أرى لها أن تعمل بشهادتهن في ذلك، ولا أرى أن يقبل قولهن، ولا أرى أن تعمل
بشهادتهن.
قال الإمام: قوله: لا أرى أن يقبل قولهن، ولا أن تعمل بشهادتهن إن كانت لا
تخشى أن يحكم عليها بالعتق إن كلمته - استحسان، لا إيجاب؛ لأن قولهن لها
قبل أن تكلمه إنما هو إخبار لا شهادة، فلها أن تعمل بما أخبرنها به إن كن
عدولا، أو واحدة منهن، وإنما كان يكون قولهن شهادة لو قلن ذلك لها بعد أن
كلمته ووجب عليها العتق بكلامه؛ لأن العتق إذا وجب لم يصح رده إلا بشهادة
شاهدين عدلين، ويحتمل أن يريد بقوله: لا أرى أن يقبل قولهن ولا يعمل
بشهادتهن مخافة أن تؤخذ بالعتق إن كلمته فلا تنتفع بشهادة النساء، وقد مضى
في رسم الأقضية من سماع أشهب من كتاب النذور، وفي رسم العرية من سماع عيسى
منه ما يشبه هذا المعنى ويؤيد تأويلنا في هذه المسألة، وبالله التوفيق.
[مسألة: الرجل يؤتى بخط يده على شهادة ولا يذكر
منها شيئا]
مسألة وسئل: عن الرجل يؤتى بخط يده على شهادة ولا يذكر منها شيئا.
قال: أرى أن يرفع شهادته إلى السلطان على وجهها، قيل له: يقول هذه شهادتي
بخط يدي إلا أني لا أذكر من
(9/459)
الشهادة شيئا، قال: بل يقول أرى كتابا يشبه
كتابي، وأظنه إياه ولست أذكر شهادتي ولا متى كتبتها فيرفع شهادته على
وجهها.
قيل له: أرأيت إن كان جلدا أبيض لا محو فيه ولا شيء، وعرف خطه؟ قال: إنه
ربما ضرب على الخط والكتاب، فأرى أن يرفع شهادته إلى السلطان على وجهها.
قال محمد بن رشد: يريد ولا يحكم بها إذا رفعها على هذه الصفة كذا قال في
المدونة إنه لا يحكم بها إذا رفعها على هذه الصفة وقد مضى القول على هذه
المسألة مستوفى، فلا معنى لإعادة شيء من ذلك، وبالله التوفيق.
[مسألة: امرأة تشهد بشهادة أيقبل في تزكيتها
النساء]
مسألة وسئل: عن امرأة تشهد بشهادة، أيقبل في تزكيتها النساء؟ فقال: لا، في
رأيي لا تقبل إلا تزكية الرجل.
قال القاضي مثل هذا في آخر سماع عيسى، وفي سماع سحنون، وفي كتاب الشفعة من
المدونة أن النساء لا تقبل تزكيتهن في وجه من الوجوه لا فيما تجوز فيه
شهادتهن، ولا فيما لا تجوز فيه، لا يزكين الرجال ولا النساء.
وإنما لم يجز أن يزكين الرجال فيما تجوز شهادتهن فيه على القول بأن شهادتهن
جائزة فيما جر إلى المال، كالوكالة على المال وشبه ذلك؛ لأن الشاهد إذا زكي
شهد في المال وغير المال فيئول ذلك إلى إجازة شهادتهن في غير المال، وقد
قيل: إنهن يزكين الرجال إذا شهدوا فيما
(9/460)
تجوز شهادتهن فيه، وهو قول ابن الماجشون،
وابن نافع في المبسوطة.
وأما تزكيتهن النساء فكان القياس أن تجوز على قياس قول مالك بأن
شهادتهن تجوز في الوكالات على الأموال وما جر إليها؛ لأن النساء إذا
زكين لا يشهدن على عتق ولا طلاق فلا تئول تزكيتهن النساء إلى إجازة
شهادتهن فيما لا تجوز فيه شهادة النساء على حال، والفرق عنده بين
الموضعين أن التزكية يشترط فيها التبريز في العدالة، وهي صفة تختص
بالرجال لنقصان مرتبة النساء في الشهادة، إذ جعلت شهادة امرأتين كشهادة
رجل واحد، ولم تجز في عتق، ولا طلاق، ولا نكاح، ولا حد، وبالله
التوفيق.
[مسألة: حكم شهادة النساء في الارتجاع]
مسألة وسئل: عن شهادة النساء في الارتجاع، أتجوز؟ قال: لا.
قال القاضي: وهذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه؛ لأن الارتجاع من
ناحية النكاح، وشهادتهن في النكاح لا تجوز، وبالله التوفيق.
[مسألة: امرأة أشهدت على رقيق لها أنهم
صدقة على ابنتها]
مسألة وسئل: فقيل له: إن امرأة دعتنا فشهدتنا على رقيق لها أنهم صدقة
على ابنتها، وكتبنا شهادتنا على أنها أمانة عندنا بأمانة الله، لا نشهد
بها أبدا ما دامت حية حتى تموت، فشهدنا على ذلك، وكتبنا شهادتنا على
أنها أمانة فاحتاجت إلى تلك الشهادة ابنتها التي كانت الصدقة عليها.
أترى لنا أن نقوم بها؟ قال: أراها قد قالت لكم لا تشهدوا بها حتى أموت،
وهذه الشهادة لا تنفع ابنتها، فقيل: لا تنفع ابنتها، قال: لا.
قال محمد بن رشد: تكررت هذه المسألة في كتاب الصدقات والهبات، والمعنى
في بطلان هذه الشهادة بين؛ لأنها لما تصدقت بالرقيق
(9/461)
على ابنتها وأبت من الإشهاد لها إلا على
هذا الشرط، دل على أنها لم ترد أن تبتلها لها في حياتها وإنما أرادت أن
تصيرها إليها بعد موتها من رأس مالها: وذلك لا يحل لها ولا لابنتها، إذ
ليس لها بعد موت أمها من مالها إلا ما فرضه الله لها من ميراثها، فلا
يحل للشاهد أن يقوم بهذه الشهادة ولا يشهد بها في حياتها ولا بعد
وفاتها، والله الموفق.
[مسألة: الرجل يشهد له الرجل والمرأة على
أنه وارث أيحلف مع الشهادة]
مسألة وسئل: عن الرجل يشهد له الرجل والمرأة على أنه وارث فلان لرجل قد
مات، أيحلف مع شهادتهما ويكون له الميراث؟ فقال: يستأني بمثل هذا حتى
يأتي ببينة ويطلب، قيل له: فإذا طلب فلم يجد إلا هذين، أترى أن يحلف
معهما ويكون ذلك له؟ قال: نعم، ذلك له أن يحلف ويكون ذلك له، قال أشهب:
سمعت المسألة كلها، وجواب مالك إلا قول السائل يشهد أنه وارث فلان فإني
لم أسمعه، فأخبرني السائل وغيره أنه هكذا سأل.
قال أشهب: وإنما يحلف الرجل في مثل هذا مع الشاهد الواحد، والشاهد
والمرأة إذا كان نسبه قبل ذلك ثابتا لازما لهذا الهالك، فيكون هذا
الشاهد يشهد أنه وارثه لا يعلم له وارثا غيره، فيحلف مع شهادته، ويكون
ذلك له؛ لأنه إنما يشهد له على مال، ولم يشهد له على نسب، وأما لو شهد
له على نسب لم يثبت له، ولم تجز له شهادته أبدا، ولو شهد مع الشاهد
مائة امرأة؛ لأنه لا تجوز شهادة الرجل الواحد في الأنساب ولا شهادة
النساء.
(9/462)
قال محمد بن رشد: قول مالك إنه يحلف مع
شهادة الرجل والمرأة، ويستحق الميراث وإن لم يثبت له النسب بعد
الاستيناء واليأس من أن يجد شاهدا آخر يثبت له به النسب هو مثل قوله في
كتاب الشهادات من المدونة، وكتاب الولاء والمواريث منها في الميت يدعي
رجل أنه مولاه ويأتي على ذلك بشاهدين على السماع، أو بشاهد واحد على
أنه مولاه أعتقه - أنه يحلف مع الشاهد الواحد أنه أعتقه، أو مع
الشاهدين على السماع، فَيُقْضَى له بالمال بعد الاستيناء، ولا يجر بذلك
الولاء وذهب أشهب إلى أنه لا يقضي له بالمال إلا بعد ثبوت النسب أو
الولاء وإلى أن الولاء يثبت بشهادة السماع، هذا قوله في كتاب الولاء
والمواريث من المدونة، فقوله هاهنا وإنما يحلف الرجل في مثل هذا مع
الشاهد الواحد، والشاهد والمرأة إلى آخر قوله هو على أصله، وقياس قوله
خلاف لقول مالك المتقدم في هذه الرواية، وخلاف لقول ابن القاسم وروايته
عن مالك في المدونة، وبالله التوفيق.
[: كتب القضاة يقدم عليها بشهادة قوم
يشهدون إنا لا نعلم لفلان وارثا إلا فلانا]
ومن كتاب الأقضية لابن كنانة وسأل ابن كنانة مالكا: عن كتب القضاة يقدم
عليها بشهادة قوم يشهدون إنا لا نعلم لفلان بأرض مصر وارثا إلا فلانا،
وذلك الميت مات بإفريقية، قال: اكتب إليه لا تجوز شهادتهم إلا أن
يقولوا: نشهد إنا لا نعلم لفلان وارثا من الناس في شيء من الأرض إلا
فلانا وفلانا، فيدفع ذلك إليه نفسه ويستحلف، ولا أرى أن يدفع ذلك إلى
وكيله إذا قدم عليهم بالمغرب.
(9/463)
قال محمد بن رشد: قوله إن شهادتهم لا تجوز
إلا أن يقولوا نشهد أنا لا نعلم لفلان وارثا من الناس في شيء من الأرض
إلا فلانا صحيح؛ لأن في قولهم لا نعلم له وارثا بأرض مصر إلا فلانا
دليلا أنهم يعلمون له وارثا سوى فلان في غير أرض مصر، فإذا شهدوا أنهم
لا يعلمون له وارثا من الناس في شيء من الأرض إلا فلانا، وأنهم لا
يعلمون له وارثا إلا فلانا ولم يقولوا في شيء من الأرض صحت الشهادة،
ووجب أن يدفع إليه ميراثه، قال في الرواية: ويستحلف، قيل: على البت في
الموضع الذي شهد فيه الشهود على العلم، قياسا على يمين المستحق ما باع
ولا وهب، من أجل أن الشهود إنما شهدوا بذلك على العلم، فيقول في يمينه:
بالله الذي لا إله إلا هو ماله وارث غيري، أو ماله وارث غيري في شيء من
الأرض، ولما وجب عليه اليمين على هذا لم ير أن يدفع المال إلى وكيله
حتى يكتب إلى موكله، فيحلف في الموضع الذي هو فيه.
وفي نوازل عيسى من كتاب الوكالات بيان هذا، والذي أقول به: إنه لا يحلف
إلا على العلم، فيقول: بالله الذي لا إله إلا هو ما نعلم له وارثا
غيري، إذ لا يصح له القطع على أنه ليس له وارث غيره.
وقد قال ابن دحون: قوله: ويستحلف - حرف سوء حائل، كيف يستحلف من شهد له
أكثر من واحد على ميراث، وقالوا في شهادتهم: لا نعلم له وارثا من الناس
في شيء من الأرض إلا فلانا، لا اختلاف أنه لا يحلف مع بينته، وقوله لا
يدفع ذلك إلى وكيله قول حائل، كيف لا يوكل من له مال غائب على قبض
ماله، لا اختلاف في جواز ذلك إذا أثبت الوكالة على سنتها قبض الوكيل
مال الموكل من ميراث كان أو غيره.
قال محمد بن رشد: وإنكار ابن دحون اليمين، وقوله لا اختلاف أنه لا يحلف
مع بينته ليس ببين لأن لإيجاب اليمين عليه وجها ظاهرا وذلك
(9/464)
أنه لو ادعى أحد أنه وارثه، وادعى عليه أنه
يعلم ذلك للزمته اليمين أنه ما يعلم أنه وارثه باتفاق، ولو لم يدع عليه
العلم بذلك للزمته اليمين على اختلاف في لحوق يمين التهمة، فلما كانت
اليمين تجب عليه لو ادعى ذلك أحد عليه كان من تمام الحكم إيجاب اليمين
عليه بذلك كيمين الاستحقاق، ومن أثبت دينا على غائب أو مفلس لا يقضي له
به إلا بعد اليمين يحلف في الاستحقاق أنه ما باع ولا وهب، وفي الدين
أنه ما قبض ولا أحال ولا وهب، والذي جرى به العمل ألا يمين في ذلك، ولا
وجه لما أنكر أيضا من قول مالك: لا يدفع ذلك إلى وكيله إذا قدم عليه
بالمغرب؛ لأنه لم يرد أن الوكالة لا تصح في ذلك، ولا يجب له القبض بها،
وإنما أراد أنه لا يدفع إليه المال حتى يحلف موكله بما وجب عليه به
اليمين حسبما ذكرنا، وبالله التوفيق.
[مسألة: شهادة الرجل على من لا يعرف]
مسألة وسئل مالك: أترى أن يشهد الرجل على من لا يعرف؟ قال: إن أحب إلي
ألا يفعل، وإن الناس يشهدون بكون بعضهم يعرفه وفي ذلك بعض السعة.
قال الإمام القاضي: أما إذا أشهد الرجل على نفسه جماعة يعرفه بعضهم،
فلمن لا يعرفه منهم أن يضع شهادته عليه، وهو من ذلك في سعة إذ قد أمن
بمعرفة بعضهم له أن يكون تسمى باسم غيره، وأما إذا لم يكن يعرفه أحد
منهم فيكره لهم أن يضعوا شهادتهم عليه في الكتاب، مخافة أن يكون قد
تسمى باسم رجل غيره، فيقر أنه قد باع داره من هذا، أو يقر له على نفسه
بحق فيكتبون شهادتهم عليه، فيشهد على خطوطهم بعد موتهم فتجوز الشهادة،
وتؤخذ الدار من صاحبها، أو الحق بغير حق، قال ذلك
(9/465)
مطرف، وابن الماجشون، وأصبغ.
وذلك على مذهب من يجيز الشهادة على خط الشاهد، وقد مضى الاختلاف في ذلك
في رسم الشجرة من سماع ابن القاسم.
وقد قال ابن عبدوس: يخشى في ذلك أن يجد الرجل شهادته في كتاب على من لا
يعرف ويكون الشاهد قليل المعرفة، فيقول: أشهد على ما في الكتاب، والعلة
الأولى هي الصحيحة؛ لأنه وإن كان ممن لا يجهل أنه لا يجوز له أن يشهد
على خطه، وهو لا يعرف عين الذي أشهده فلا يأمن أن يموت فيشهد على
شهادته، وهو لا يعرف عينه، وإذا كتب الرجل شهادته على من لا يعرفه
بالعين والاسم فلا يصح له أن يشهد بها بعد موته، ولا يؤدي إلا في حياته
على عينه، وكذلك لا يشهد على شهادته بها إلا على عينه، وهذا كله مما لا
اختلاف فيه، فإن علم أنه لا يقف على عين المشهود له إذا غاب عنه فهي
شهادة لا منفعة فيها، وإنما تسامح العلماء والخيار في موضع شهادتهم على
من لا يعرفونه بعين ولا اسم سياسة منهم في نفع العامة، ولئلا ينهوهم
على وَهْنِ شهادةِ مَنْ أوقع شهادته على من لا يعرف، فيجترئون على جحد
الحقوق المنعقدة عليهم، إذا علموا أن الشهادة عليهم لا تصح إذا أنكروا،
ففي جهلهم بالحقيقة في ذلك صلاح عظيم، وتحصين للحقوق؛ لأن المشهود عليه
يهاب الوثيقة ويسبق إليه أن كلهم يشهد عليه إن جحد فيقر ولا يجحد، قال
ابن القاسم في المجموعة: وإذا دعا الرجل ليشهد على امرأة لا يعرفها
ويشهد عنده رجلان أنها فلانة فلا يشهد، قال في سماع حسين بن عاصم في
بعض الروايات: لا يشهد إلا على شهادتهما، وقال ابن نافع فيه: أن يشهد،
وذكره عن مالك.
قال القاضي: والذي أقول به: إنه إن كان المشهود له أتى بالشاهدين ليشهد
له عليها بشهادتهما عنده أنها فلانة فلا يشهد إلا على شهادتهما، وإن
كان هو سأل الشاهدين فأخبراه أنها فلانة فليشهد عليها،
(9/466)
وكذلك لو سأل عن ذلك رجلا واحدا يثق به أو
امرأة لجاز له أن يشهد، ولو أتاه المشهود عليه بجماعة من لفيف النساء
فشهدن عنده أنها فلانة لجاز له أن يشهد إذا وقع له العلم بشهادتهن،
فهذا وجه القول في هذه المسألة، وبالله التوفيق.
[مسألة: اجتماع الشهادتين]
مسألة وسأله رجل، فقال: شهد لي شاهدان أني وارث فلان، فشهد أحدهما أنه
لا وارث له غيري، وشهد الآخر أني وارثه ولا وارث له غيري وامرأته، فقد
اجتمعت الشهادتان أني وارثه، فقال: أرى أحدهما يكذب الآخر، وما أرى أن
تقبل شهادة من شهد هكذا بحتم، فقال: لا أشهد أن فلانا وارث فلان، لا
وارث له غيره ما يدريه بهذا، ولربما كان ذلك في العبد الآبق، والجمل
الشارد، فإذا وجد عند بعض من اشتراه جاء صاحبه الأول بمن شهد له أنه
عبده أو جمله، ما باع ولا وهب ما يدريهم بهذا، فلا أرى شهادة من شهد
هكذا تجوز، ولا أرى أن يشهد في مثل هذا إلا أنه لا يعلم له وارثا غيره،
أو أنه جمله أو عبده لا نعلم أنه وهبه ولا باعه، فإذا شهدوا هكذا رأيت
الشهادة جائزة جيدة، ومن القضاة من يكلف الناس البينة، ولا أرى ذلك
جائزا ولا يقبل منهم هذا الأخذ، وهذا الذي أرى أنا جائزا.
قال: فإذا شهدوا هكذا على العلم كان جائزا.
قال: نعم، فقيل له: فإن شهد هذان الرجلان، فقال أحدهما: أشهد أنه وارثه
ولا أعلم له وارثا غيره،
(9/467)
وقال الآخر: أشهد أنه وارثه ولا أعلم له
وارثا غيره وزوجة له، قال: هذا جائز، وأرى أن يوقف المال حتى يتبين من
ذلك أنه مع الوارث زوجة أم لا.
قيل له: إنما مات بمصر، قال: يكتب إلى ذلك البلد حتى يتبين ذلك، قلت:
ولا يحبس حق الزوجة فقط، ويدفع إلى هذا حظه، قال: لا، ولكن يحبس المال
كله حتى يتبين من ذلك، قال أشهب: أرى الوارث بالخيار، إن شاء حلف مع
شهادة الذي شهد له أنه لا يعلم له وارثا غيره، وأخذ المال كله، فإن أبى
اليمين عزل من المال ما كان ينوب الزوجة لو كانت ثبت لها أنها زوجته،
وصار للوارث ما بقي من المال بغير يمين.
قال سحنون: سئل ابن القاسم: عن الشاهدين يشهدان أن فلانا وارث فلان لا
يعلم له وارثا غيره، ويقول أحدهما أو كلاهما وزوجة بموضع كذا وكذا،
فقال: إن شهدا على الزوجة كلاهما ثبتت شهادتهما، ولم يقسم شيء من المال
حتى تحضر الزوجة أو توكل أو يقسم لها القاضي، وإن كان أحدهما قال ذلك
لم يعجل في قسم شيء من المال حتى يتبين ما قال الشاهد، فإن طال ذلك
أعطي الوارث المال كله.
قال محمد بن رشد: لم يجز في هذه الرواية شهادة الشهود إذا شهدوا أنه لا
وارث لفلان إلا فلان، وذلك يقضي بصحة تأويل من حمل ما في كتاب الشهادات
وكتاب العارية من المدونة على ظاهره، من
(9/468)
أن شهادة الشهود إذا شهدوا أنه ما باع ولا
وهب شهادة لا تجوز، إذ قال فيها: إنها غموس وباطل، خلاف ما ذهب إليه
ابن لبابة من أنها على مذهبه جائزة، وإن سماها غموسا وباطلا بدليل قوله
عقب ذلك: وأرى أن يحلف. والأظهر أن قوله: وأرى أن يحلف - إنما يعود على
ما قبل ذلك من الشهادة الصحيحة، فوقع في الكلام تقديم وتأخير.
وابن الماجشون من أصحاب مالك لا يجيز الشهادة في ذلك على العلم بأن
يقولوا في الاستحقاق ما نعلمه باع ولا وهب، وفي الوراثة ما نعلم له
وارثا غيره، ولا يرى الحكم بها حتى يشهدوا أنه ما باع ولا وهب ولا وارث
له غيره، وهو مذهب أهل العراق؛ لأنهم يقولون: العلم كيفما وصل وكيفما
أمكن وصوله من معرفة أو غلبة ظن يؤدي إلى اليقين، والقولان محتملان،
وذلك أنه لا يصح للشاهد في الوراثة أن يشهد أن فلانا وارث فلان لا يعلم
له وارثا غيره، إلا أن يكون قد تيقن أنه لا وارث له سواه (يقينا) لا
يدخله فيه شك ولا ارتياب، فإن دخله في ذلك شك أو ارتياب من وجه من
الوجوه، أو لم يداخله فيه شك ولا يحصل فيه عنده يقين لم يصح له أن يشهد
أنه لا يعلم له وارثا سواه، وإن كان صادقا في قوله إنه لا يعلم له
وارثا غيره، فخشي ابن الماجشون إذا شهد أنه ما يعلم له وارثا غيره ألا
يكون عنده بذلك يقين، ولذلك لم يجز شهادته حتى يشهد أنه لا وارث له
سواه، ولم يجز له مالك أن يشهد أنه لا وارث له سواه، إذ لا يصح له
القطع على ذلك، لاحتمال أن يكون له وارث لم يعلم به، واكتفى منه بهذه
العلة
(9/469)
أن يشهد أنه ما يعلم له وارثا سواه.
وقول ابن الماجشون أظهر؛ لأن اليقين يقرب من العلم، وإن لم يكن حقيقته
علما، ولا حرج على من قال فيما يتيقنه ولا يصح أن يعلمه علما يصح له به
القطع عليه أعرف كذا وكذا، مثال ذلك: أن الرجل يشهد في الرجل المسلم
الظاهر الخير والصلاح أنه مؤمن عدل رَضِيٌّ، فلا يكون كاذبا في قوله
بحصول اليقين عنده بإيمانه وعدله، وإن كان لا يقطع على حقيقة أمره،
لاحتمال أن يبطن خلاف ما يظهر، ولا يعلم ما يبطن سواه إلا الله عز وجل
المطلع على ما في القلوب من الاعتقادات.
ولو قيل في هذه المسألة: إن الشهود إن كانوا ممن يعلم أن الشهادة على
العلم لا تصح إلا مع اليقين قبلت منهم على العلم، وإن كانوا ممن يجهل
ذلك لم يقبل منهم إلا على البت؛ لأن الجاهل يظن ما يتيقنه ويعتقد صحته
بغالب ظنه علما لكان قولا، فبهذا أقول، وإذا شهد أحد الشاهدين في الميت
أنه لا يعلم له وارثا غير فلان، وشهد الآخر أنه لا يعلم له وارثا غيره
وغير امرأته، فاتفقت رواية أشهب عن مالك وسحنون عن ابن القاسم أن المال
كله يوقف حتى يتبين أمر الزوجة، فإن طال ذلك أعطى الوارث المال كله على
ما قاله ابن القاسم، وهو مفسر لقول مالك، يريد بعد أن يحلف أنه ما يعلم
له زوجة، واليمين هاهنا لا ينبغي أن يختلف فيها من أجل الشاهد بالزوجة،
سواء لم توجد المرأة حتى طال الأمد أو وجدت ولم تجد شاهدا آخر يشهد لها
حتى طال الأمد لأن الوارث قد ثبت نسبه بشهادة الشاهدين فوجب أن يعطى
جميع المال إذا طال الأمد.
ولو لم يكن للميت وارث ثابت النسب فادعت امرأة أنها زوجته، وشهد لها
بذلك شاهد واحد لحلفت مع شاهدها وأعطيت ميراثها بعد الاستيناء على مذهب
ابن القاسم وروايته عن مالك، وما مضى في آخر الرسم الذي قبل هذا من قول
مالك خلاف قول أشهب، وإنما لم ير أن يوقف حق الزوجة خاصة ويدفع إلى
الوارث حقه مخافة أن يتلف ما وقف لها فتجد شاهدا آخر وقد استهلك الوارث
ما قبضه وهو عديم فيذهب حقها، ويكون هو قد ورث دونها.
وأما قول أشهب: إن الوارث بالخيار بين أن يحلف مع شاهده الذي شهد له
أنه لا يعلم له وارثا غيره، ويأخذ المال
(9/470)
كله، وبين أن يأخذ منه ما سوى حق الزوجة
بغير يمين، فالوجه فيه: أن الذي شهد له أنه لا يعلم له وارثا غيره شهد
له بجميع المال، والذي شهد أنه يعلم له زوجة، شهادته بالزوجة لا تجوز؛
لانفراده بالشهادة لها بحصول شهادته أنه شهد له بثلاثة أرباع المال، أو
بسبعة أثمانه إن كان ابْنًا، فَأَشْبَهَ ذلك الرجل يشهد له شاهد بمائة
وشاهد بخمسين أنه إن شاء حلف مع شاهده بالمائة ويأخذها، وإن شاء أخذ
الخمسين بغير يمين، وقوله: إنه إن شاء أن يأخذ ما سوى حق الزوجة بغير
يمين، خلاف قول مالك في أول الرسم لابن كنانة أنه يستحلف، وقد مضى
القول على ذلك، وقول مالك وابن القاسم أصح من قول أشهب وأولى بالصواب؛
لأن الذي شهد بالزوجية علم ما لم يعلم الشاهد الآخر فيبعد أن يحلف
الوارث مع الشاهد الآخر، وأن يقاس ذلك على الذي شهد له شاهد بمائة
وشاهد بخمسين؛ لأن الذي شهد بالمائة بت له الشهادة بها، وزاد في شهادته
على الذي شهد بالخمسين، والذي شهد أنه لا يعلم له وارثا غيره لم يبت له
الشهادة بجميع المال، ولا زاد في شهادته على الآخر بل نقص، إذ لم يعلم
من أمر الزوجة ما علم هو، وبالله التوفيق.
[مسألة: حكم شهادة الرجل المرضي ولكنه يشرب
النبيذ]
مسألة وسئل: عن الرجل المرضي في كل حالة لا تعرف له زلة إلا أنه يشرب
نبيذ التين، قال: إن كان مسكرا فأرى أن ترد شهادته.
قال محمد بن رشد: قوله فأرى أن ترد شهادته إن كان يسكر، يريد: إن كان
النبيذ يسكر، فأرى أن ترد شهادته وإن شرب منه قليلا لا
(9/471)
يسكر، وهذا بين على ما قال، لقول رسول الله
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما أسكر كثيره فقليله حرام» ،
وهذا إذا شربه غير متأول ولا متمذهب بمذهب من أباح منه ما دون السكر،
وهو مذهب أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن، فأما إذا شربه متمذهبا
بمذهبهم معلوم بالصلاح والفضل، غير متهم باستباحة ما لا يحل له، فلا
ترد شهادته إلا أن يسكر منه، وهكذا قرأناه إن كان يسكر بضم الياء وكسر
الكاف، ويحتمل أن يقرأ يسكر بفتح الياء والكاف، أي: كان هذا الرجل الذي
يشرب النبيذ المسكر فيسكر، فأرى أن ترد شهادته، وإن كان على الصفة التي
وصفت من الرضا في جميع أحواله، إذ لا اختلاف بين الأمة في أن السكر من
جميع الأنبذة حرام كالسكر من خمر العنب والتمر، وبالله التوفيق.
[الرجل يأتي على الرجل بشاهد واحد هل يحلف
معه]
ومن كتاب القضاء لأشهب وسئل: عن الرجل يأتي على الرجل بشاهد واحد أنه
شتمه أيكون له أن يحلف مع شاهده ويستحق ذلك عليه؟ أم يستحلف المدعى
عليه ويبرأ؟
فقال: ما أرى أن يحلف في مثل هذا مع الشاهد، وليس في هذا يمين مع
الشاهد، ولكن أرى إن كان الشاتم معروفا بالشتم والسفه أن يعزر، ولا
يكون على المدعي يمين مع شاهده، ولا أرى أن يحلف مع الشاهد في مثل هذا،
قلت: إنك لا ترى في مثل هذا يمينا مع الشاهد، أفترى على المدعى عليه
يمينا؟ قال: نعم، ولعسى به أن أكون أرى عليه
(9/472)
اليمين، ولعساني أن أكون أراه، ولكن ليس
كلما أُرِيَ المرء أراد أن يجعلوه سنة يذهب به إلى الأمصار.
قال محمد بن رشد: تفسير قول مالك في هذه الرواية هو أن الرجل إذا ادعى
على الرجل أنه شتمه، وأقام على ذلك شاهدا واحدا لم يحلف مع شاهده، ونظر
في المدعى عليه فإن كان معروفا بالشتم والسفه عزر ولم يستحلف، وإن لم
يكن معروفا بذلك استحلف، إلا أنه ضعف اليمين، فقال: ولعساني أن أكون
أرى اليمين ولكن ليس كلما أُرِيَ المرء أراد أن يكون سنة يذهب بها إلى
الأمصار.
والأظهر على أصولهم إيجاب اليمين، فتضعيفها ضعيف، وقد قيل: إن المدعى
عليه يستحلف إذا كان للمدعي شاهد على دعواه، كان معروفا بالشتم والسفه
أو لم يكن، وهو ظاهر ما في رسم الشجرة من سماع ابن القاسم من كتاب
الحدود، وما في رسم الحدود من سماع أصبغ منه، فإن حلف برئ، وإن نكل ففي
سماع ابن القاسم المذكور أنه يسجن أبدا حتى يحلف، وفي سماع أصبغ
المذكور: أنه إن طال سجنه جدا ولم يحلف خلي سبيله ولم يؤدب.
وقال أصبغ: إن كان معروفا بالأذى والفحش أدب، وإلا فأدبه حبسه الذي
حبس، فهذه الرواية موافقة لما في السماعين المذكورين من كتاب الحدود في
أن المدعي لا يحلف مع شاهده مخالفة لما فيهما من إيجاب اليمين على
المدعى عليه على ضعف في حال دون حال، وقد قيل: إنه يحلف مع شاهده ويحد
له، وروي ذلك عن مطرف، وهو شذوذ أن يحد في الفرية بالشاهد مع اليمين.
ويتخرج في المسألة قول ثالث: إنه لا يحلف مع شاهده في الفرية، ويحلف
معه فيما دون الفرية من الشتم الذي يجب به الأدب.
وكذلك اختلف في القصاص من الجراح العمد بالشاهد مع اليمين، على ثلاثة
أقوال: أحدها: أنه يقتص بالشاهد مع اليمين، وهو قول مالك في كتاب
الأقضية من المدونة، والثاني: أنه لا يقتص بالشاهد مع اليمين،
(9/473)
وهو قول ابن القاسم في كتاب الشهادات منها،
والثالث: أنه يقتص بالشاهد مع اليمين فيما صغر من الجراح ولا يقتص بذلك
فيما عظم منها، مثل قطع اليد وشبهه، وهو قول ابن الماجشون وروايته عن
مالك واختيار سحنون.
وكذلك اختلف أيضا إن لم يأت المدعي بشاهد ولا سبب على دعواه في الشتم
أو في جراح العمد على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لا يمين على المدعى
عليه، وهو قول مالك في رسم الشجرة من سماع ابن القاسم من كتاب الحدود،
قاله في دعوى الفرية.
والثاني: أن عليه اليمين، وهو قول مالك في رسم العقول والجنائز من كتاب
الجنايات.
والثالث: أنه لا يمين عليه إلا أن يكون مشهورا بذلك، وهو قول ابن
القاسم في أول سماع أصبغ من كتاب الجنايات.
فإن حلف على رواية أشهب، أو على رواية أصبغ إذ كان مشهورا بذلك برئ،
وإن نكل عن اليمين سجن حتى يحلف ما لم يطل ذلك، فإن طال خلي سبيله ولم
يؤدب، وقال أصبغ: إنه يؤدب إن كان معروفا بالأذى على أصله المتقدم،
قال: وإن كان مبرزا في ذلك أي مشتهرا به مبرزا فيه خلد في السجن، فهذا
تحصيل القول في هذه المسألة وتلخيصه، وبالله التوفيق.
[مسألة: كتب إليها زوجها بطلاقها مع من لا
شهادة له هل تشهد على الخط]
مسألة وسئل مالك: عن امرأة كتب إليها زوجها بطلاقها مع من لا شهادة له،
فوجدت المرأة من يشهد أن هذا خط يد زوجها، فقال: إن وجدت من يشهد لها
على ذلك نفعها ذلك.
قال محمد بن رشد: مثل هذا في مختصر ابن عبد الحكم، وحكى ابن حبيب في
الواضحة عن مطرف وابن الماجشون وأصبغ: أن الشهادة على الخط لا تجوز في
طلاق، ولا عتاق، ولا نكاح، ولا حد من
(9/474)
الحدود، ولا في كتاب القاضي إلى القاضي،
ولا في كتاب القاضي بالحكم، ولا تجوز إلا فيما كان مالا من الأموال
كلها خاصة، ووقعت الشاهدة عليها بعينها، وحيث لا تجوز شهادة النساء ولا
اليمين مع الشاهد فثم لا تجوز الشهادة على الخط، وحيث يجوز هذا، يجوز
هذا، فكان يمضي لنا عند من أدركنا من الشيوخ أن ما حكى ابن حبيب من هذا
عن مطرف وابن الماجشون وأصبغ فهو مذهب مالك لا خلاف فيه، وإن صح معنى
قوله في هذه الرواية، وفي مختصر ابن عبد الحكم بمعنى ذلك، أي: يكون لها
شبهة توجب لها اليمين على الزوج أنه ما طلق.
والذي أقول به: إن معنى ما حكى ابن حبيب عن مطرف وابن الماجشون وأصبغ
إنما هو أن الشهادة لا تجوز على خط الشاهد في طلاق ولا عتاق ولا نكاح،
لا أنها لا تجوز على خط الرجل أنه طلق أو أعتق أو نكح، بل هي جائزة على
خطه بذلك، كما تجوز على خطه بالإقرار بالمال، وذلك بين من قوله: ولا
تجوز إلا فيما كان مالا من الأموال ووقعت الشهادة عليها بعينها إلى آخر
قوله.
فالصواب أن يحمل قول مالك: نفعها ذلك - على ظاهره من الحكم لها بالطلاق
عليه إذا شهد على خطه به شاهدان عدلان، وذلك إذا كان الخط بإقراره على
نفسه بأنه قد طلق زوجته، مثل أن يكتب إلى رجل يعلمه أنه قد طلق زوجته،
أو يكتب لزوجته بذلك على هذا الوجه فيشهد لها فيه على خطه.
وأما إن كان الكتاب إنما هو بطلاقه إياها ابتداء فلا يحكم عليه به إلا
أن يقر أنه كتبه مجمعا على الطلاق. وفي قبول قوله: إنه كتبه غير مجمع
على الطلاق بعد أن أنكر أن يكون كتبه - اختلاف، والله الموفق.
[مسألة: رجل شهد على رجل أنه حلف بطلاق
زوجته في حق عليه فحنث]
مسألة وسئل: عن رجل شهد على رجل أنه حلف بطلاق زوجته في حق له عليه
ليرفعنه إليه فحنث، فقال: ما هو بجائز الشهادة عليه.
(9/475)
قال محمد بن رشد: ليس إسقاط شهادته في هذا
ببين، وكان الأظهر أن تجوز شهادته عليه إذا شك عليه أنه قد حنث؛ لأن
وقوع الطلاق عليه لا يدعوه إلى أن يعجل له حقه، وإنما يدعوه إلى ذلك
اليمين بالطلاق ليقضينه إلى أجل مخافة أن يقع عليه الطلاق إن لم يقضه
قبل الأجل، لكنه لما كان لو شهد عليه بذلك قبل أن يحنث والحق عليه لم
يدفعه لم تجز شهادته، لاتهامه أن يكون إنما شهد عليه ليعجل له القضاء
فلا يحنث، لم تجز شهادته عليه إذا شهد عليه أنه قد حنث، لاحتمال أن
يكون قد ادعى ذلك عليه قبل الحنث فأراد أن يحقق دعواه عليه قبل الحنث
بشهادته عليه بعد الحنث، وهو ضعيف، والله الموفق.
[مسألة: شهادة الصبيان المماليك بعضهم على
بعض في الجراح]
مسألة وسئل: عن شهادة الصبيان المماليك، وشهادة الصبيان الجواري بعضهم
على بعض في الجراح، أتجوز شهادتهم فيما بينهم كما تجوز شهادة الصبيان
الأحرار بعضهم على بعض في الجراح فيما بينهم؟ فقال: لا تجوز شهادة
بعضهم على بعض، ولا الصبيان من الجواري، ولا تجوز إلا شهادة الغلمان
الأحرار بعضهم على بعض.
قال محمد بن رشد: أما الصبيان المماليك فلا أحفظ في المذهب اختلافا في
أن شهادتهم لا تجوز، وكذلك الصبيان من أهل الذمة، وإنما تجوز شهادة
الغلمان الأحرار من المسلمين.
قيل: في الجراح دون القتل، وهو دليل هذه الرواية، وقول غير واحد من
كبار أصحاب مالك في المدونة.
وقيل: في الجراح والقتل وهو قول ابن القاسم وروايته عن مالك في
المدونة، ولا يجوز على مذهبه وروايته عن مالك في ذلك
(9/476)
شهادة صبي واحد، ولا شهادة الإناث، وقد
قيل: إنه تجوز شهادة صبي واحد مع يمين المشهود له، قيل: إذا بلغ، وقيل:
يحلف والده عنه ويستحق له ما شهد له به الشاهد من ذلك، وقع ذلك لابن
الماجشون وابن نافع في المبسوطة.
وقيل أيضا في شهادة الإناث: إنها جائزة في الجراح دون القتل، وقيل: بل
في القتل والجراح، وهو قول المخزومي في المدونة على أحد التأويلين في
قوله، قيل: وحدهن دون صبي، كما تجوز شهادة امرأتين دون رجل فيما لا
يحضره الرجال، وهو قول ابن الماجشون، وقيل: لا تجوز منهن شهادة اثنتين
إلا مع صبي وهو قول مطرف، وقول سحنون في نوازله بعد هذا من هذا الكتاب.
فوجه من لم يجز شهادتهن بحال هو أن السنة إنما جاءت عن علي بن أبي طالب
وعبد الله بن الزبير في شهادة الصبيان، وهم الذين يقع بينهم الجراح في
غالب الأحوال، ونفي الصبايا على الأصل في المنع من قبول شهادتهن.
ووجه من أجاز شهادتهن دون صبي هو أن العادة عنده أنهن لا يختلطن مع
الصبيان في لعبهن، فوجب أن تجوز شهادة اثنتين منهن دون صبي، إذ ليس
موضعا يحضره الصبيان في الغالب.
ووجه من لم يجز شهادتهن إلا مع صبي هو أن العادة عنده أنهن يختلطن مع
الصبيان في اللعب، فوجب أن تقام الصبيتان مقام صبي فلا تجوز إلا مع
صبي، وإنما تجوز شهادة الصبيان الذكور دون الإناث، وكل واحد منهما دون
صاحبه، أو الإناث مع الذكر الواحد ما لم يتفرقوا أو يخببوا، فإن تفرقوا
فلا تجوز شهادتهم إلا أن يكون قد أشهد العدول على شهادتهم قبل أن
يتفرقوا، وهذا ما لا اختلاف فيه.
واختلف هل من شرط جواز شهادتهم ألا يحضره غيرهم من الرجال العدول؟ فذهب
ابن حبيب إلى أن ذلك من شرط جواز شهادتهم، وهو مذهب ابن سحنون في
نوازله، خلاف ما يقوم من قول أصبغ في نوازله،
(9/477)
وخلاف ما في ظاهر المدونة عندي، ولا تجوز
شهادة الصبيان عند من أجازها الكبير على كبير، وتجوز الصغير على صغير،
واختلف في إجازتها لكبير على صغير، ولصغير على كبير، فلم يجز ذلك ابن
القاسم، وأجازه ابن الماجشون، وقد وقع لمطرف في المبسوطة أن الصبيان لا
تجوز شهادتهم بحال لا على صغير ولا على كبير في جرح ولا قتل؛ تعلقا
بظاهر قول الله عز وجل {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ}
[البقرة: 282] ، إذ ليس الصبي يرضى في شهادته، وذلك خلاف المشهور في
المذهب المعلوم فيه.
ووجه إجازتها على المعلوم في المذهب: الإتباع لما جاء في ذلك عن السلف
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، مع أن له حظا من النظر، وهو أن الشهادة
لما كان طريقها اليقين لغالب الظن بصحتها، دون العلم بمغيبها جاز أن
يكتفي فيها بشهادة الصبيان في الموضع الذي لا يحضره إلا الصبيان، كما
يكتفي بشهادة النساء في الموضع الذي لا يحضره إلا النساء، وإن شهد
الصبيان على الصبي أنه جرح صبيا فَنُزِيَ فِي جرحه فمات لم يكن في ذلك
قسامة عند ابن القاسم، خلاف قول ابن نافع في المدونة.
واختلف إن شهد رجل على صبي أنه قتل رجلا أو صبيا، فقيل: لا قسامة في
ذلك، وهو ظاهر ما في المدونة ونص ما في الأسدية، وقيل: فيه القسامة،
وهو قوله
(9/478)
في كتاب ابن المواز، وأما إن شهد رجل على
كبير أنه قتل صبيا أو كبيرا فلا اختلاف في وجوب القسامة في ذلك، وبالله
التوفيق والحمد لله رب العالمين وهو حسبي ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة
إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وآله وسلم.
(9/479)
|