البيان
والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة [: كتاب
الشهادات الثاني] [مسألة: شهدا على رجل
بمائة دينار فحكم عليه القاضي ثم رجع أحدهما]
(10/5)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين من سماع عيسى بن دينار من
ابن القاسم قال: سألت ابن القاسم عن الرجلين شهدا على رجل بمائة دينار فحكم
عليه بها القاضي وقبضت منه، ثم رجع أحدهما فقال: وهمت أو قال: قد كان
قبضها، فقال: إن قال: كان قد قبضها ولكن وهمت فلا شيء عليه، ولا يرد
القضاء، وإن قال: إني شهدت بزور فعليه نصف الحق، قال ابن القاسم: وإنما
يغرم الشاهد فيما تعمد إلا في الديات، قلت: ففي القتل إذا ادعى الشهود
الوهم أو الشبه أيكون ذلك على العاقلة؟ قال: لا يكون من ذلك على العاقلة
شيء.
قال محمد بن رشد: قوله: إنما يغرم الشاهد فيما تعمد إلا في الديات فإنه
يغرم في العمد والخطأ؛ لأنه استثناء منقطع، وتقديره على الاتصال وإنما يغرم
الشاهد فيما تعمد ولا يغرم فيما لم يتعمد إلا في الديات، وقوله: إنه لا
يغرم فيما عدا الديات إلا أن يتعمد الشهادة بزور هو خلاف ظاهر ما في كتاب
السرقة من المدونة؛ لأن الظاهر من قول ابن القاسم فيه أن الشاهد يضمن ما
أتلف بشهادته من المال، ويكون في الديات الدية في ماله إذا رجع عن شهادته
بعد الحكم، وإن زعم أنه شبه عليه ولم يتعمد الزور، وهو ظاهر ما مضى في أول
رسم من سماع ابن القاسم ونص
(10/7)
ما حكاه ابن حبيب في الواضحة عن مطرف وابن
القاسم وأصبغ خلاف رواية عيسى هذه في الأموال وموافق لها في الحدود،
وتفرقته في الأموال بين أن يتعمد الزور أو يشبه عليه هو قول ابن الماجشون،
حكى ذلك ابن حبيب عنه، وأنه قال: وهو قول جميع أصحابنا المغيرة وابن دينار
وابن أبي حازم وغيرهم.
وأما الديات ففيها أربعة أقوال؛ أحدها: أن الدية في مال الشاهدين إذا رجعا
عن شهادتهما بعد الحكم تعمدا الزور أو شبه عليهما، وهو قول ابن القاسم في
هذه الرواية، وفي الواضحة وقول مطرف وأصبغ فيها، وظاهر ما في كتاب السرقة
من المدونة.
والثاني: أنه إن تعمدا كان عليهما القصاص، وإن شبه عليهما كانت الدية في
أموالهما، وهو قول ابن نافع وأشهب، وروي ذلك عن علي بن أبي طالب - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ -.
والثالث: أنهما إن تعمدا كانت الدية من أموالهما، وإن شبه عليهما كانت على
عواقلهما، وهو قول أصبغ في سماعه من كتاب الديات.
والرابع: أنهما إن تعمدا كانت الدية في أموالهما، وإن شبه عليهما كان هدرا،
وهو قول ابن الماجشون والمغيرة وابن دينار وابن أبي حازم وغيرهم، فيتحصل في
التعمد قولان؛ أحدهما: القصاص، والثاني: الدية في المال، وفي التشبيه ثلاثة
أقوال؛ أحدها: أن الدية في المال، والثاني: أنها على العاقلة، والثالث:
أنها هدر، وإذا رجع أحد الشاهدين بعد الحكم فوجب عليه الغرم غرم نصف المال
أو نصف الدية، فإن كان الشهود ثلاثة فرجع أحدهم لم يلزمه شيء، واختلف إن
رجع بعد ذلك أحد، فقيل: يكون عليه وعلى الراجع قبله نصف المال، وهو قول ابن
القاسم ومطرف وابن الماجشون وأصبغ، وقيل: يكون عليهما ثلثا المال، وهو قول
ابن وهب وأشهب، فإن رجعوا ثلاثتهم كان المال عليهم أثلاثا، فلا خلاف إذا
رجع الشهود كلهم في أن المال يكون عليهم على عددهم، ولا اختلاف أيضا في أنه
لا شيء على من رجع إذا بقي من الشهود شاهدان فأكثر، وإنما الاختلاف إذا كان
الشهود أكثر من اثنين مثل أن يكونوا عشرة فيرجع منهم تسعة فقيل: إنه يكون
عليهم نصف المال، فإن رجع العاشر كان جميع المال على جميعهم بالسواء، وقيل:
بل يكون عليهم تسعة أعشاره، فإن رجع العاشر كان عليه العشر الباقي على
(10/8)
حسب ما ذكرناه، واختلف أيضا فيما استحق
بشاهد ويمين فرجع الشاهد بعد الحكم وأقر أنه شهد بزور فقيل: عليه نصف الحق؛
لأن اليمين مقام الشاهد الآخر، وهو قول ابن الماجشون، وقيل: عليه جميع
الحق، وهو قول ابن القاسم وابن وهب واختيار ابن حبيب.
وإذا رجع الشاهد عن شهادته وكان قد شهد بزور ولم يشبه عليه فلا تجوز شهادته
فيما يستقبل كان رجوعه قبل الحكم أو بعده، وأما إن كان شبه عليه ولم يتعمد
الزور فلا ترد شهادته فيما يستقبل كان رجوعه قبل الحكم أو بعده، هذا قول
ابن حبيب في الواضحة، وحكاه عن مطرف وابن عبد الحكم وأصبغ وهو قول سحنون في
سماع يحيى من هذا الكتاب، وظاهر ما في كتاب الأقضية من المدونة أن شهادته
لا تجوز فيما يستقبل إذا كان رجوعه بعد الحكم، وإن كان قد شبه عليه ولم
يتعمد الزور، وبالله التوفيق.
[مسألة: قولهما إنا رأينا فلانا يزني ومعنا
فلان وفلان]
مسألة وعن رجلين شهدا على رجل بالزنى، وقالا: معنا شاهدان آخران فلان وفلان
وهما في البلد هل يمكنا أن يأتيا بهما أم يحدان إذا لم يأتوا جميعا، قال:
أرى أن يحدا، وذلك أن قولهما: إنا رأينا فلانا يزني ومعنا فلان وفلان إنما
يقولان: سلوا فلانا وفلانا يصدقان ما قلنا فإن قالا: نعم ثبتت شهادتهما،
وإن قالا لا كانا قاذفين، فليس هذا وجه الشهادة إلا أن يأتوا جميعا، وقد
بلغني ذلك عن مالك.
قال القاضي: علل ابن القاسم في هذه المسألة ضعف الشهادة وإيجاب الحد على
الشاهدين بعلتين؛ إحداهما: تفرق الشهود في الشهادة فقال: ليس وجه الشهادة
إلا أن يأتوا جميعا، والثانية: قول الشاهدين اللذين شهدا معنا فلان وفلان؛
لأنهما حصلا بقولهما هذا في معنى من قام على رجل بالزنى وشهد عليه به فلا
يجزئه أن يأتي بثلاثة شهود سواه، ويحد إلا أن يأتي بأربعة شهداء، فكذلك
هذان يحدان إن لم يأتيا على تصديق
(10/9)
شهادتهما عليه إلا بشاهدين، وقوله: فإن
قالا: نعم ثبتت شهادتهما، وإن قالا: لا كانا قاذفين هو من قول ابن القاسم
على سبيل الإنكار بعد تمام ما حكي من معنى قولهما، كأنه قال: أثبتت
شهادتهما إذا قالا نعم، وإلا كانا قاذفين هذا ما لا يصح، بل هما قاذفان على
كل حال يحدان، وقد قيل: إن الشهادة على الزنى جائزة وإن تفرق الشهود ولم
يأتوا معا، وعلى هذا القول يأتي ما وقع لابن القاسم في أول رسم المكاتب من
سماع يحيى بعد هذا، وهو قول ابن الماجشون، واختلف أيضا إن كان الشهود في
الزنى هم القائمون على المشهود عليه به، فقال ابن القاسم في رسم أوصى من
هذا السماع: إن شهادتهم لا تجوز، وحكى ابن حبيب عن مطرف وابن الماجشون
وأصبغ أن شهادتهم جائزة، وإن كانوا هم القائمين بذلك مجتمعين جاءوا أو
مفترقين إذا كان افتراقهم قريبا بعضهم من بعض، وبالله التوفيق.
[مسألة: طلق امرأته وأشهد رجلين فأمسكا عن ذلك
زمانا ثم أرادا أن يشهدا]
مسألة وعن الرجل يطلق امرأته ويشهد على ذلك رجلين فأمسك الشاهدان عن ذلك
زمانا وكانا مسخوطين أو غير ذلك، ثم أرادا: أن يشهدا فقالا: إن أعلمنا
الحاكم أنه طلق منذ كذا وكذا لم تقبل شهادتنا، ولكننا نثبت الشهادة عليه
الساعة؛ لأنا نشك أنه طلق ألبتة، قال: لا أرى أن يشهدا إلا على ما شهدا
يسوقان ذلك على وجهه.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما مضى في رسم الشجرة من سماع ابن القاسم خلاف ما
في سماع سحنون ونوازله، والذي يأتي على ما في سماع سحنون ونوازله، وهو أصح
القولين إن أثبتوا الشهادة عليه بالطلاق ولا يجبروا فيها بما يسقطها ويؤدي
إلى إبطالها فيستباح بذلك وطء الحرام ووجه القول الآخر: أنه لا ينبغي
للشاهد أن يقر الحكم بإعمال شهادة من لا تجوز شهادته، وهو ضعيف، وبالله
التوفيق.
(10/10)
[مسألة: يشهد
عليه فيقول المشهود عليه للقاضي سله عن الوضوء]
مسألة وعن الرجل يشهد على الرجل فيقول المشهود عليه للحكم سله لي عن الوضوء
والتيمم فهل يسأله؟ قال: لا، وإنما هذا من كلام أهل الأهواء.
قال محمد بن رشد: يريد سله عن الوضوء والتيمم والصلاة هل ذلك واجب أم لا؟
فهل ترى أن يسأل الشاهد عن ذلك إذ لا يقول: إن ذلك غير واجب إلا أهل
الأهواء، يريد المرجئة منهم، ولا يتهم من ظهر منه الخير والصلاح باعتقاد
البدعة إلا أن يظهر منه ما يوجب اتهامه بذلك أو يذكر عنه أنه من أهل
الأهواء في دينه مثل الإباضية والمرجئة فلا تقبل شهادته إذا توطأ الكلام
عليه بذلك، وإن لم يتحقق ذلك بشهادة العدول إلا أن تأتي منه توبة ونزوع
ظاهر بيِّن، حكى ذلك ابن حبيب في الواضحة وحكاه عن مطرف وابن القاسم وأصبغ،
وبالله التوفيق.
[مسألة: يستفتي العالم فيذكر له من أمره ما
يوجب عليه طلاقا]
مسألة وعن الرجل يأتي مستفتيا في أمر ينوّى فيه ولو أقر بذلك عند الحاكم أو
قامت عليه بينة فرق بينه وبين امرأته فيفتى أن لا شيء عليه، ومن كتاب كراء
الدور والمزارع من سماع يحيى بن يحيى عن ابن القاسم قال يحيى: وسألته: عن
المفتي يأتيه الرجل مستفتيا فيخبره أنه ابتلي بيمين يسأله عنها فيرى عليه
حنثا أو يسأله عن أمر ارتكب أو عامل فيه أحدا يجب عليه فيما ساق من قضيته
التي زعم أنه صاحبها حق لبعض الناس ثم يناكر صاحبه فيستشهد صاحبه بالمفتي
أيلزمه أن يشهد عليه أم لا؟ فقال: نعم، ذلك واجب عليه، قال يحيى: وقلت له:
وعلى من حضره حين سأل؟ قال: نعم إذا سمعوا القصة كلها حتى لا يخفى عليهم
منها ما إن
(10/11)
تركوه خافوا أن يكون في ذلك ما يفسد
الشهادة، فربما سمع الرجل آخر كلام الرجل وفيه مقطع حق، ولو سمع الأول كان
الأول يسقط الآخر فلا أرى لأحد أن يشهد عليه حتى يسمع الكلام كله أو يستشهد
على شيء بعينه فيقوم به.
قال القاضي: أما الذي استفتى العالم في أمر ينوى فيه إذا أتى مستفتيا ولا
ينوى إذا حضرته البينة فلا اختلاف في أنه لا يجوز له ولا لمن حضر استفتاءه
إياه أن يشهد عليه أنه حلف بكذا، فإن شهدا عليه أو أحدهما باء بالإثم وكانا
قد شهدا بزور إذا لم يؤديا الشهادة على وجهها بأن يقول العالم: استفتاني
فلان في كذا وكذا ويقول الذي حضر سمعت فلانا يستفتي فلانا في كذا وكذا فلا
يقطع شهادتهما عليه على هذا الوجه ما يجب من تنويته في يمينه، وأما الذي
يستفتي العالم فيذكر له من أمره ما يوجب عليه طلاقا أو عتاقا أو حدا أو حقا
لأحد من الناس فقال في رواية يحيى: إن العالم يلزمه أن يشهد عليه بما أقر
به عنده إذا دعي إلى الشهادة عليه، وكذلك من حضره إذا سمع القصة كلها
واستوعبها ولم يفته منها ما يخشى أن يكون فيه إبطالا للشهادة فليس رواية
يحيى بخلاف لرواية عيسى؛ لأنهما مسألتان: مسألة رواية عيسى لا يجوز له أن
يشهد فيها باتفاق، ومسألة رواية يحيى يلزمه أن يشهد فيها، وكل من سمع القصة
واستوعبها، وذلك على مذهب ابن القاسم في المدونة، وأحد قولي مالك فيها؛ لأن
مالكا لا يجيز في قوله الآخر للشاهد أن يشهد على الرجل بما سمع منه، وإن
استوعب كلامه حتى يشهده على نفسه، وهي رواية ابن الماجشون عن مالك وقوله
وقول ابن أبي حازم [وقع] في الثمانية، قال عبد المالك:
(10/12)
كان رجل من قريش صديقا لي، وكانت بينه وبين
وكيله محاسبة، وأجلسني مع رجل من أصحابنا لها ثم قال للوكيل: تكلم، فقال:
قبضت منك كذا وكذا، ودفعت أيضا كذا وكذا، فقال القرشي: ما دفعت إلي شيئا،
ثم قام وقال لي ولصاحبي: اشهدا لي بما سمعتما منه، فإنه كان جحدني حقي،
فقلت له: لا والله ما لك عندنا شهادة ولا جلسنا لها ولا نشهدها، قال: فاذهب
بنا إلى مالك، فإن أمرك أن تشهد فاشهد وإلا فدع، فقلت: لو أمرني أن أشهد ما
شهدت؛ لأني لم أقعد للشهادة، فقمت معه إلى مالك، فلقيني عبد العزيز بن أبي
حازم فقال له: يا أبا تمام، إن عبد الملك يكره أن يشهد لي وقص عليه القصة،
فقال: ليس لك عنده شهادة، ثم دخلنا على مالك فقص عليه القصة فقلت: أمتع
الله بك يا أبا عبد الله، الأمر على ما ذكر، فقال لي: يا عبد الملك، لا
تشهد له، قال أصبغ: قال ابن القاسم: قال مالك: لا يعجلا بالشهادة حتى يريا
صاحبه فيعلماه [أنه] إن لم يفعل شهدا عليه، فإن أضرم ولم ينصف شهدا عليه،
وبالله التوفيق.
[مسألة: قالا سمعنا فلانا يذكر أنه شاهد لفلان
في كذا وكذا وقد مات]
مسألة قال عيسى: قال ابن القاسم في رجلين قالا: سمعنا فلانا يذكر أنه شاهد
لفلان في كذا وكذا، وقد مات، أيشهدان على ذلك؟ قال: ما أحب أن يشهدا. قيل:
فإن شهدا أتقبل شهادتهما؟ قال: لا.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في المدونة، وهو أمر متفق عليه، لا اختلاف في
أنه لا يجوز لأحد أن يشهد على شهادة أحد بما سمع منه دون أن يشهده، وإنما
اختلف إذا سمعه يشهد غيره على شهادته،
(10/13)
[فقيل: إنه يجوز له أن يشهد على شهادته إذا
سمعه يشهد على شهادته بها، وقيل: إنه لا يجوز أن يشهد على شهادته] حتى
يشهده هو، وقد مضى القول على هذا المعنى في رسم الشجرة من سماع ابن القاسم،
وبالله التوفيق.
[مسألة: شهد رجلان على كتاب رجل]
مسألة وقال: إذا شهد رجلان على كتاب رجل جاز، وحلف مع ذلك، وإن شهدا على
كتاب اثنين جاز وكانا بمنزلة الشاهدين، قال: فإن شهد رجل على كتاب ذكر حق
أنه كتاب الذي عليه الحق بيده حلف صاحب الحق مع ذلك، وإن شهد على ذلك اثنان
جاز وسقطت اليمين عنه، كذلك قال مالك.
قال القاضي: هذه مسألة قد مضى القول فيها مستوفًى في رسم الشجرة من سماع
ابن القاسم، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[: يشهدعليه أنه طلق في رمضان ويشهد آخر أنه
طلق في شوال]
ومن كتاب العرية وسئل: عن رجل شهد على رجل أنه صالح امرأته وشهد آخر أنه
طلقها واحدة، قال: لا شهادة لهما؛ لأن شهادتهما قد افترقت، وليس هذا مثل
الذي يشهد عليه أنه طلق في رمضان ويشهد آخر أنه طلق في شوال؛ لأن شهادة
هؤلاء على الطلاق نفسه وشهادة هذين في أمرين مختلفين مثل أن يقول أحدهما:
إنه حلف بالطلاق إن دخل دار فلان، وشهد آخر أنه حلف بالطلاق ألا يكلم رجلا
فكلمه، فشهادتهما باطلة؛ لأنهما شهدا على أمرين مختلفين، قال:
(10/14)
ويحلف مع شهادة كل واحد منهما على تكذيبه.
قال أصبغ عن ابن القاسم: وكذلك لو شهد شاهد أنه طلقها ألبتة وشهد آخر أنه
صالحها، قال ابن القاسم: لا تجوز شهادتهما في ذلك كله ولا شيء منه؛ لأنه قد
اختلف، وقال أصبغ مثله.
قال الإمام القاضي: هذه المسائل وما كان في معناها من الشهادة على الأقوال
تنقسم على أربعة أقسام: قسم تلفق فيه الشهادة باتفاق، وهو أن يختلف اللفظ
ويتفق المعنى، وقسم لا تلفق فيه الشهادة باتفاق، وهو أن يختلف اللفظ
والمعنى وما يوجبه الحكم، وقسم المشهور فيه [أن الشهادة] تلفق، وقيل: إنها
لا تلفق، وهو أن يتفق اللفظ والمعنى، وتختلف الأيام والمجالس، وقسم المشهور
فيه أن الشهادة لا تلفق، وقيل: إنها تلفق، وهو أن يختلف اللفظ والمعنى
ويتفق ما يوجبه الحكم، فقوله في الرجلين يشهد أحدهما على رجل أنه صالح
امرأته ويشهد الآخر أنه طلقها واحدة أنه لا شهادة لهما صحيح لا اختلاف فيه؛
لأنه من القسم الذي يختلف فيه اللفظ والمعنى وما يوجبه الحكم، والحكم في
ذلك أن يحلف على تكذيب كل واحد منهما، فإن نكل عن اليمين حبس حتى يحلف،
وقيل: تطلق عليه طلقة بائنة، وذلك على اختلاف قول مالك في المدونة، وقوله:
وليس هذا مثل الذي يشهد عليه أنه طلق في رمضان، ويشهد هذا أنه طلق في شوال
يريد أنه ليس مثله على المشهور من أن الشهادة تلفق في ذلك، إذ قد قيل: إنها
لا تلفق على ما ذكرناه، وهو قول ربيعة في كتاب الأيمان بالطلاق من المدونة،
ويقوم ذلك من قول ابن القاسم في رسم حمل صبيا من سماع عيسى بعد هذا أنه إذا
شهد عليه شاهدان أنه طلق في يوم كذا وشاهدان أنه طلق في كذا لزمته ثلاث
تطليقات ولم ينو، وقوله: وشهادة هذين في أمرين مختلفين مثل أن يقول أحدهما:
إنه حلف بالطلاق إن دخل دار فلان وشهد
(10/15)
آخر أنه حلف بالطلاق أن لا يكلم فلانا
فكلمه إلى آخر قوله يريد أنه مثله على المشهور من أن الشهادة لا تلفق في
ذلك، إذ قد قيل: إنها تلفق على ما ذكرناه؛ لأنه من القسم الذي يختلف فيه
اللفظ والمعنى ويتفق ما يوجبه الحكم، فعلى القول المشهور إنها لا تلفق يحلف
المشهود عليه مع شهادة كل واحد منهما على تكذيبه حسبما قاله فيكون عليه
يمينان وقوله من رواية أصبغ عن ابن القاسم: وكذلك لو شهد شاهد أنه طلقها
البتة وشهد آخر أنه صالحها لم تجز شهادتهما يريد أيضا على المشهور من أن
الشهادة لا تلفق في ذلك، إذ قد قيل: إنها تلفق على ما ذكرناه؛ لأنها من
القسم الذي يختلف فيه اللفظ والمعنى ويتفق ما يوجبه الحكم؛ لأن شهادتهما
متفقة على وجوب التفرقة بينهما فيفرق بينهما بشهادتهما على هذا القول،
ويحلف على رواية أصبغ أنه صالحها وأنه ما طلقها، فإن نكل طلقت عليه
بالبتات، وقيل: يحبس حتى يحلف، فإن طال سجنه خلي سبيله ولم يكن عليه شيء،
اختلف في ذلك قول مالك، ومثله مسألة سماع سحنون ومحمد بن خالد في الصبي
يموت أبوه فيقوم له شاهد عدل أن أباه تصدق عليه بعبد وقبضه له، وشهد له
شاهد آخر أنه نحله إياه؛ لأن شهادتهما متفقة على وجوب العبد له مختلفة في
اللفظ والمعنى، فيقضى له به دون يمين على القول بأن الشهادة تلفق، وهو قول
ابن الماجشون على قياس قوله في سماع محمد ابن خالد في الشاهدين يشهدان لرجل
بمائة دينار فيقول أحدهما: هي من بيع، ويقول الآخر: هي من سلف أن الشهادة
تامة؛ لأنهما قد اجتمعا على إخراجها من يد المشهود عليه، ولا يقضى له به
حتى يبلغ فيحلف مع أي الشاهدين شاء على القول بأن الشهادة لا تلفق، وهو قول
ابن القاسم في سماع محمد بن خالد؛ لأن معنى قوله فيه يحلف مع شاهده على
الصدقة إنما هو إذا ادعى أن الشاهد على الصدقة هو المحق منهما مخافة أن
يكون أبوه قد أشهد في صحته على اعتصاره، فإذا حلف على الصدقة بطل إشهاد
أبيه به على الاعتصار، ومثله مسألة سماع أبي زيد وفي رسم القضاء المحض
(10/16)
من سماع أصبغ فيمن شهد عليه شاهد واحد أنه
حلف على شيء أنه إن فعله فامرأته طالق وشهد آخر أنه إن فعله فإحدى امرأتيه
طالق؛ لأنها شهادة اختلف فيها المعنى واللفظ واتفق ما يوجبه الحكم، فقال
ابن القاسم: إنه لا شهادة لهما على قياس القول بأن الشهادة لا تلفق، وقال
أصبغ على قياس القول بالتلفيق إنهما يطلقان جميعا إن أنكر كما لو أقر ولا
نية له، وهو مذهب ابن الماجشون على ما وقع له في سماع محمد بن خالد، ومن
هذا المعنى ما قال ابن سحنون عن أبيه إذا جرح الشاهد رجلان كل واحد بمعنى
غير الآخر قال: هي جرحة لاجتماعهما على التجريح إنه رجل سوء، وقد قال أيضا:
إنه لا يجرح حتى يجتمع رجلان على معنى واحد إما كذاب، وإما شارب خمر، أو
آكل حرام، ونحوه، والله الموفق.
[: الأب يشهد على ابنه في حقوق أو طلاق أو عتاق]
ومن كتاب يوصي بمكاتبه وسألته: عن الأب يشهد على ابنه أو الابن يشهد على
أبيه في حقوق أو طلاق أو عتاق، قال: أما شهادة الأب على ابنه فهي تجوز في
جميع ما ذكرت إلا أن تكون عداوة تعلم، وشهادة الابن على أبيه جائزة في
الحقوق والعتاق، وأما في الطلاق فإنه إن شهد على أمه أو على غير أمه إذا لم
تكن أمه حية فهي جائزة إلا أن تكون عداوة تعلم، وإن شهد على غير أمه وأمه
حية كانت تحته أو طلقها فلا تجوز شهادته عليه في طلاق التي تحته، قال
سحنون: إذا شهد على أبيه أنه طلق أمه فإن كانت أمه مدعية للفراق طالبة له
فلا تجوز شهادته، فإن كانت منكرة لذلك جاحدة
(10/17)
له جازت شهادته؛ لأنه شهد عليهما جميعا،
وإذا كانت الأم طالبة لذلك لم تجز؛ لأنه شاهد لأمه.
قلت: أرأيت إن شهد رجل على امرأة من نساء أبيه أنه طلقها وهي من ضرائر أمه
هل تجوز شهادته؟ فقال: لا تجوز شهادته إلا أن تكون المرأة هي الطالبة
للفراق فتجوز شهادته، قال أصبغ: شهادة الابن على أبيه بطلاق أمه جائزة إلا
أن يكون بينهما عداوة أو يعلم أنها طالبة للفراق فلا تجوز شهادة الابن لها،
فإن كانت عداوة الابن بينه وبينهما جميعا سقطت عنهما بالعداوة كالأجنبيين،
وقد قال الله تعالى: {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا
لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن: 14] قال القاضي: لا اختلاف في جواز شهادة
الأب على ابنه والابن على أبيه في الحقوق والعتاق، وأما شهادته عليه في
الطلاق فقوله: إنه إن شهد على أمه أو غير أمه إذا لم تكن أمه حية فهي جائزة
إلا أن تكون عداوة تعلم معناه إلا أن تكون أمه مدعية للطلاق على ما قاله
سحنون وأصبغ؛ لأن قولهما تفسير لقوله، وقوله: إن شهد على غير أمه وأمه حية
كانت تحته أو طلقها فلا تجوز شهادته عليه في طلاق التي تحته معناه إلا أن
تكون المرأة هي الطالبة للفراق على ما قاله بعد ذلك؛ لأن قوله يبين بعضه
بعضا، فلا خلاف بين ابن القاسم وأصبغ وسحنون في شيء من هذا كله، ولأصبغ في
الواضحة إن شهادته على أبيه بطلاق غير أمه جائزة وإن كانت أمه حية إذا لم
تكن في عصمته، فتحصيل هذه المسائل أن شهادته على أبيه بطلاق أمه جائزة إلا
أن تكون طالبة للطلاق، وأن شهادته عليه بطلاق غير أمه جائزة إن كانت أمه
ميتة، وغير جائزة إن كانت حية في عصمته إلا أن تكون المرأة هي الطالبة
للفراق، والنظر عندي ألا تجوز شهادته عليه
(10/18)
بطلاقها وإن كانت هي الطالبة للفراق إذا
كانت [أمه] حية في عصمته، واختلف إن كانت أمه حية في غير عصمته، فقيل: إن
شهادته لا تجوز إلا أن تكون المرأة هي الطالبة للفراق وهو قول ابن القاسم
في هذه الرواية، وقول مطرف وابن الماجشون، وقيل: إنها جائزة وإن لم تكن
طالبة للطلاق، وهو قول أصبغ.
وقد قال بعض أهل النظر على قياس قول ابن القاسم في هذه المسألة: ولو شهد
الابن على أبيه أنه طلق زوجتيه جميعا إحداهما أمه، فإنه ينظر في ذلك، فإن
كانت أمه غير طالبة للطلاق والزوجة الأخرى طالبة له طلقتا جميعا، كانت
الشهادة واحدة أو مفترقة، إذ لا تهمة في ذلك، وإن كانت الأم طالبة للطلاق
والأخرى غير طالبة له لم تطلق واحدة منهما، كانت الشهادة واحدة أو مفترقة؛
لأنه يتهم في أمه أن يشهد لها فيما ترغب، ويتهم في ضرة أمه أن يشهد عليها
بما تكره طلبا لرضا أمه إذ هي ضرتها، وإن كانتا جميعا كارهتين للطلاق لم
تجز شهادته إن كانت الشهادة واحدة؛ لأنها تسقط في زوجة أبيه للتهمة فيها
بسبب أمه، وتسقط في أمه لاتهامه في بعض الشهادة، وتجوز إن كانت مفترقة في
أمه، ولا تجوز في الأخرى للتهمة فيها بسبب أمه، وإن كانتا جميعا طالبتين
للطلاق لم تجز شهادته إن كانت الشهادة واحدة؛ لأنها تسقط في أبيه للتهمة
فيها، وتسقط في الأخرى لاتهامه في بعض الشهادة، وتجوز إن كانت الشهادة
مفترقة لغير أمه فتطلق إن كان معه غيره، ويحلف أبوه إن لم يكن معه غيره،
ولا تجوز لأمه؛ لأنه شاهد لها بالطلاق الذي تطلبه، وبالله التوفيق.
[مسألة: المشهود على شهادته إذا أنكر الشهادة
وزعم أنه لم يشهدهما عليه]
مسألة قال ابن القاسم: إذا شهد الرجلان على شهادة رجل غائب فقطع بشهادتهما
الحق مع شاهد ويمين وصاحب الحق إن كان
(10/19)
شاهد شيء يجوز فيه شاهد ويمين أو شاهدان ثم
جاء الذي شهد على شهادته فأنكر أن يكون شهد بتلك الشهادة، قال: الحكم ماض،
ولا غرم عليهما إن [قال] : شهدا علي بباطل.
قلت: فلو كان قدم قبل شهادتهما؟ فقال: هذا القول قال: فلا شهادة لهما،
ويستحلف صاحب الحق مع شهادة الباقي منهما.
قال محمد بن رشد: هذه المسألة وقعت في بعض الروايات في أثناء المسألة التي
قبلها فكتبتها بعدها ليتصل الكلام فيها بعضه ببعض، ووقعت أيضا في سماع أبي
زيد وفي رسم الأقضية من سماع يحيى، وزاد فيها في سماع يحيى من قول مالك: إن
القضاء يفسخ خلاف قول ابن القاسم، فوجه قول ابن القاسم أنه جعل إنكار
المشهود على شهادته للشهادة بعد الحكم كرجوع الشاهد عن الشهادة بعد الحكم
في أن الحكم لا يرد لاستواء المسألتين في أن الحاكم حكم بما يجوز له من
الشهادة، ولم يكن منه تفريط، فوجب ألا يرد حكمه، ووجه قول مالك في الفرق
بين المسألتين هو أن المشهود على شهادته إذا أنكر الشهادة وزعم أنه لم
يشهدهما عليه لا يخلو من أن يكون صادقا أو كاذبا، فإن كان صادقا بطلت
الشهادة بصدقه أنهما كذبا عليه في الشهادة، وإن كان كاذبا بطلت شهادته
لكذبه، إذ لا تجوز شهادة الكاذب، فلما كانت تبطل في كل وجه ولم يمكن أن
يضمن الشاهدان على الشهادة لثبوتهما على شهادتهما ولا المشهود على شهادتهما
إذا لم يثبت عليه أنه أشهدهما على شهادته ثم رجع عنها وجب أن يرد القضاء
لئلا يتلف على المقضي عليه ماله، والشاهدان إذا رجعا عن شهادتهما مقران على
أنفسهما بالعداء على المحكوم عليه فوجب أن يضمنا، ولم يصح للحاكم أن يرد
الحكم
(10/20)
برجوعهما؛ لأن الجرحة ثبتت عليهما بنفس
الرجوع، فوجب ألا يصدقا فيه كما لا يصدقان فيما يشهدان به بعد ذلك، وأما
إذا أنكر المشهود على شهادته الشهادة قبل أن يحكم بها وقطع على أنه لم يشهد
عليها فلا اختلاف في أنه لا يحكم بها، ولو لم ينكرها ولا قطع على أنه لم
يشهد عليها، وإنما قال: لا أذكرها وأنا شاك فيها لتخرج ذلك على اختلافهم في
العمل بالحديث إذا رواه الراوي فتوقف فيه المروي عنه وشك فيه ولم يقطع على
أنه لم يحدث به، وبالله التوفيق.
[مسألة: يوصي له ببقية الثلث فتحوط الوصايا
بالثلث وهوشاهد على الوصية]
مسألة وسألته: عن رجل يوصي له ببقية الثلث فتحوط الوصايا بالثلث وهو شاهد
على الوصية هل تجوز شهادته ولم يبق له من الثلث شيء؟ قال ابن القاسم: إن
كان الميت رجلا يداين الناس ويشك في أمره أن يكون له ديون على الناس يقينا
فلا أرى شهادته تجوز، وإن كان لا يداين الناس فشهادته جائزة.
قال محمد بن رشد: هذا بيّن على ما قاله؛ لأنه متهم في شهادته، وإن أحاطت
الوصايا بالثلث إذا كان مما يرجى أو يطرأ له مال يبقى له من ثلثه بقية،
وبالله التوفيق.
[مسألة: النصرانيين يختصمان إلى حكم المسلمين
في مال فرضيا بشهادة نصرانيين]
مسألة وسألته: عن النصرانيين يختصمان إلى حكم المسلمين في مال فرضيا بشهادة
نصرانيين، قال ابن القاسم: لا يحكم بينهما
(10/21)
بشهادة النصري ويتراضيان فيما بينهما على
ما أحبا.
قلت: وكذلك المسلمان يرضيان بشهادة المسخوطين؟ قال: لا يحكم بينهما بشهادة
المسخوطين وليرضياهما بما أحبا، قلت: فإن تراضيا بشهادة مسخوطين ثم أبى
أحدهما بعدما شهدا عليهما؟ قال ابن القاسم: إذا علما بشهادتهما ورضيا فإن
ذلك يلزمهما، وليس لهما أن ينكصا، وهما بمنزلة ما لو رضيا بغير شهادتهما.
قال محمد بن رشد: قوله: إنه لا يحكم بينهما بشهادة النصري، ولا بشهادة
المسخوطين معناه إذا رضيا أن يحكم بينهما بشهادتهم دون تعيين بأن يقولا: قد
رضينا أن يحكم بيننا بشهادة شاهدين من النصارى أو ممن لا تجوز شهادته من
المسخوطين المسلمين، وهذا ما لا اختلاف فيه؛ لأن رضاهما بذلك غرر، والحكم
به لا يجوز؛ لأنه خلاف ما أمر الله به من استشهاد من يرضى من الشهداء، وأما
لو رضيا بما يشهد به عليهما شاهدان مسخوطان سمياهما في أمر اختلفا فيه فلما
شهدا عليهما أبى أحدهما، فقال ابن القاسم في هذه الرواية: إذا علما
بشهادتهما ورضيا فإن ذلك يلزمهما يريد أن ذلك إنهما يلزمها إذا رضيا بما
شهدا بعد الشهادة والعلم بما شهدا، وقد قيل: إنهما إذا رضيا قبل الشهادة
بما يشهدان لزمهما ما يشهدان به ولم يكن لهما ولا لأحدهما أن ينكصا عن ذلك،
وقد
(10/22)
مضى القول في هذه المسألة مستوفى في رسم
الشجرة من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[: صاحب السوق أخذ سكران فسجنه وشهد عليه هو
وآخر معه]
ومن كتاب أوصى أن ينفق على أمهات أولاده وقال في صاحب السوق أخذ سكران
فسجنه وشهد عليه هو وآخر معه، قال: لا أرى أن تجوز شهادته؛ لأنه قد صار
خصما حين سجنه، ولو رفعه إلى غيره قبل أن يسجنه وشهد مع الرجل جازت شهادته.
قال محمد بن رشد: إنما جازت شهادته عليه وإن أخذه فرفعه ما لم يسجنه؛ لأن
ما فعل من أخذه ورفعه لازم له من أجل أنه موكل بالمصلحة ولو لم يكن صاحب
سوق موكلا بالمصلحة فأخذه سكران فرفعه إلى غيره لم تجز شهادته عليه على ما
قال في المسألة التي بعدها، وبالله التوفيق.
[مسألة: أربعة نفر شهدوا على رجل بالزنى
فتعلقوا به فأتوا به إلى السلطان وشهدوا عليه]
مسألة وقال في أربعة نفر شهدوا على رجل بالزنى فتعلقوا به فأتوا به إلى
السلطان وشهدوا عليه فقال: لا أرى أن تجوز شهادتهم، وأراهم قذفة، ورواها
أصبغ في كتاب الحدود.
قال محمد بن رشد: إنما لم تجز شهادتهم عليه؛ لأن ما فعلوا من أخذه وتعلقهم
به ورفعهم إياه إلى السلطان لا يلزمهم ولا يجب عليهم، بل هو مكروه لهم؛ لأن
الإنسان مأمور بالستر على نفسه وعلى غيره، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أصاب من هذه القاذورات شيئا فليستتر بستر الله
تعالى، فإنه من يبدلنا صفحته نقم عليه كتاب الله» ، وقال لهزال: «يا هزال،
لو سترته بردائك لكان خيرا لك» ، فلما فعلوا ذلك كانوا طالبين له ومدعين
(10/23)
الزنى عليه وقذفة له، فوجب عليهم الحد له
إلا أن يأتوا بأربعة شهداء سواهم على معاينة الفعل كالمرود في المكحلة، ولو
كانوا أصحاب شرط موكلين بتغيير المنكر ورفعه أو أحدهم فأخذوه فجاءوا به
وشهدوا عليه لقبلت شهادتهم؛ لأنهم فعلوا في أخذه ورفعه ما يلزمهم على قياس
قوله في المسألة التي قبلها، وفي الواضحة لمطرف وابن الماجشون وأصبغ أنه
إذا شهد أربعة بالزنى على رجل جازت شهادتهم وإن كانوا هم القائمين بذلك
مجتمعين جاءوا أو مفترقين إذا كان افتراقهم قريبا بعضه من بعض، ووجه ذلك
أنه لما كان ما فعلوا من قيامهم عليه مباحا لهم، وإن كان الستر أفضل لم
يكونوا خصما إذ لم يقوموا لأنفسهم، وإنما قاموا لله، فوجب أن تجوز شهادتهم،
وقد مضى هذا الاختلاف مجردا على التوجيه، في أول رسم من السماع، ولو كانت
الشهادة فيما يستدام فيه التحريم من حقوق الله كالطلاق والعتق لجازت
شهادتهما [في ذلك] وإن كانا هما القائمين بذلك؛ لأن القيام به متعين
عليهما، وقد قال بعض المتأخرين: لا يجوز ذلك على مذهب ابن القاسم وقوله في
هذه المسألة خلافا لمطرف وابن الماجشون، ووجهه بأن كل من قام في حق يريد
إتمامه فمتهم أن يزيد في شهادته ليتم ما قام فيه، وهو عندي بعيد، وبالله
التوفيق.
[مسألة: شهادة النساء على الولادة والاستهلال]
مسألة وسئل: عن المرأتين تشهدان على استهلال الصبي أتجوز شهادتهما؟ قال:
نعم، قيل: فشهدتا أنه غلام [أتجوز] ؟ قال: لا
(10/24)
أراه إلا وسيكون مع شهادتهما اليمين كأنه
يرى ذلك، قال أصبغ: قال لي ابن القاسم: والقياس أن لا تجوز شهادتهما؛ لأنه
يصير نسبا قبل أن يصير مالا.
قلت: مات بأي شيء يرث ويورث؟ قال: بأدنى المنزلتين إلا أن يكون لا يبقى
ويخاف عليه الحوالة إن احتبس إلى أن يوجد رجال يشهدون على رؤيته فتجوز
شهادة النساء فيه حينئذ، قال ابن القاسم: وكذا المرأة تلد ثم تهلك هي
وولدها في ساعة يحلف أبو الصبي أو ورثته مع شهادة النساء أن الأم ماتت قبله
فيستحقون ميراثه من أمه؛ لأنه مال، قال سحنون: وإنما تجوز شهادة النساء على
الولادة والاستهلال إذا كان البدن قائما ورأى الناس أن قد تم أمره وكمل
جسده، وكذا شهادتهن في القتل.
قال محمد بن رشد: أجاز ابن القاسم في هذه الرواية شهادة امرأتين على
استهلال الصبي وعلى أنه غلام مع اليمين، وهذا يدل من مذهبه على أن شهادتهما
على الاستهلال جائزة وإن غاب البدن وفات، إذ لو كان حاضرا لاستغنى عن شهادة
النساء فيه إنه غلام بنظر الرجال إليه، وكذلك القتل الخطأ لا يشترط في
إجازة شهادة النساء فيه حضور البدن على مذهبه، قال في المدونة: لأنه مال،
وشهادة النساء في المال جائزة خلاف قول ربيعة وسحنون في المدونة إن شهادة
النساء لا تجوز على الاستهلال ولا على أهل الخطأ إلا مع حضور البدن، وعلى
قولهما لا تجوز شهادتهن في أنه ذكر أو أنثى، وهي رواية مطرف عن مالك وأشهب
عن مالك أيضا في كتاب ابن سحنون، وهو قول ابن هرمز، وهو القياس
(10/25)
على ما قاله ابن القاسم ههنا في رواية أصبغ
عنه؛ لأنه في الاستهلال فيصير نسبا قبل أن يصير مالا على ما قاله وفي القتل
الخطأ، وإن كان مالا، فإذا جوزت شهادة النساء فيه مع مغيب البدن آل ذلك إلى
جواز شهادتهن فيما عدا المال من الموت الذي يقطع العصمة بينه وبين أزواجه
فيكون لهن أن يتزوجن، وقد يكون له أمهات أولاد ومدبرون فيعتقون، وقد يوصى
بعتق وبتزويج بناته فتؤول إجازة شهادتهن في مثل الخطأ إذا لم يعرف الموت
بحضور البدن ميتا إلى أن تجوز في ذلك كله، وشهادتهن فيما عدا المال لا تجوز
ففي ذلك من قول ابن القاسم نظر، وهو استحسان، والقياس قول سحنون وربيعة ألا
تجوز شهادتهن إلا في صفة القتل إذا عرف الموت لا في القتل إذا لم يعرف
الموت، وكذلك الشاهد الواحد يشهد على مثل الخطأ فلا تجوز إلا أن يعرف الموت
بحضور البدن ميتا، وأما شهادة النساء في المرأة تلد ثم تهلك هي وولدها في
ساعة على أيهما مات أولا فلا اختلاف في إجازتها؛ لأنها شهادة على مال لا
تتعدى إلى ما سوى المال، وقول سحنون وكذلك شهادتهن في القتل يريد في القتل
الخطأ على ما مضى القول فيه، وبالله التوفيق.
[مسألة: الشهادة على الشهادة في الزنى]
مسألة قال ابن القاسم: في الشهادة على الشهادة في الزنى لا تجوز حتى يشهد
أربعة على أربعة في موضع واحد ويوم واحد وساعة واحدة في موقف واحد على صفة
واحدة.
قال محمد بن رشد: ليس من شرط صحة الشهادة على الزنى تسمية الموضع ولا ذكر
اليوم والساعة، وإنما من شرط صحتها عند ابن
(10/26)
القاسم ألا تختلف الشهود في ذلك، فإذا شهد
أربعة على رجل بالزنى فقالوا: رأيناه معا يزني بفلانة غائبا فرجه في فرجها
كالمرود في المكحلة تمت الشهادة، وإن قالوا: لا نذكر اليوم ولا نحد الموضع،
وإن قالوا في موضع كذا وساعة كذا من يوم كذا كان أتم في الشهادة، وإن
اختلفوا في الموضع أو في الأيام فقال بعضهم: كان [ذلك] في موضع كذا، وقال
بعضهم: بل كان في موضع كذا، أو قال بعضهم: كان في يوم كذا، وقال بعضهم: بل
في يوم كذا بطلت شهادتهم عند ابن القاسم وجازت عند ابن الماجشون، قال:
لأنهم اختلفوا فيما لو لم يذكروه لتمت الشهادة ولم يلزم الحاكم أن يسألهم
عنه، فيحتمل أن يريد أنه لا يلزمه أن يسألهم عن ذلك إذا اتفقوا على أن
رؤيتهم إياه إنما كانت معا في زنى واحد، ويحتمل أن يريد أنه لا يلزمه أن
يسألهم عن ذلك بحال إذا شهدوا عنده فقال كل واحد منهم: إنه رآه يزني
كالمرود في المكحلة، ويكون من مذهبه أن الأفعال تلفق في الشهادة كما تلفق
الأقوال خلاف ما ذهب إليه ابن القاسم من أنها لا تلفق كما تلفق الأقوال،
والأول أبين، ولا تجوز شهادة أربعة على أربعة في الزنى إلا إن شهد الأربعة
معا على شهادتهم كل واحد من الأربعة أنهم رأوه معا يزني بفلانة فرجه في
فرجها كالمرود في المكحلة، وإن تفرق إشهادهم لهم مثل أن يشهدوا اليوم
أحدهم، وغدا الثاني، وبعد غد الثالث، والذي يليه الرابع، وأما إن تفرقوا في
الإشهاد مثل أن يشهد أحدهم اليوم على شهادته جميع الأربعة ثم يشهدهم الثاني
غدا، ثم الثالث بعد غد ثم الرابع في الذي يليه فلا يجوز ذلك إلا على القول
بجواز تفرق الشهود في تأدية الشهادة على الزنى، وقد مضى ذكر الخلاف في ذلك
في أول رسم من هذا السماع؛ لأن الإشهاد على الشهادة كتأدية الشهادة فيما
يلزم فيها، وإن لم يسمع الأربعة من جميع الأربعة وإنما سمعوا من بعضهم
(10/27)
جاز أن يسمع من الباقين شاهدان كان الباقون
واحدا أو اثنين أو ثلاثة، فلا بد في الشهادة على الشهادة من أربعة على جميع
الأربعة أو اثنين اثنين على كل واحد منهم إن تفرقوا فلا يجزئ أقل من أربعة،
ولا يحتاج [إلى] أكثر من ثمانية، ويجوز في تعديلهم أيضا اثنان على كل واحد
منهم أو أربعة على جميعهم، هذا مذهب ابن القاسم، وبه قال ابن الماجشون وابن
عبد الحكم وأصبغ، وقال مطرف عن مالك: لا يجوز في الشهادة على الشهادة في
الزنى إلا ستة عشر شاهدا أربعة على كل واحد من الأربعة تفرقوا أو اجتمعوا،
ولا يجزئ في تعديلهم إلا أربعة على كل واحد منهم فيكونون ثمانين فيما بين
الشهود والمعدلين، ويريد ابن القاسم بقوله في موضع واحد ويوم واحد وساعة
واحدة أن يكون الزنى الذي شهد عليه الأربعة زنى واحدا، ويريد بقوله في موقف
واحد أن يشهدوا كلهم معا على شهادتهم لكل واحد من الشهود الأربعة وأن يؤدي
الشهود الأربعة الشهادة على الشهادة عند الحكم معا غير مفترقين، وقد قيل:
إنهم إن تفرقوا في ذلك جاز، وقد تقدم ذكره، فإن شهد أربعة على أقل من أربعة
أو أقل من أربعة على أربعة كانوا قذفة يحدون إلا أن يأتوا بما يوجب الحد
على المشهود عليه، وذلك أربعة سواهم يشهدون على شهادة أربعة أو على معاينة
الزنى على القول: بأنه لا يجوز تفرق الشهود في تأدية الشهادة في الزنى،
وأما على القول بأنه جائز فيجزئهم إن كانوا ثلاثة أن يأتوا بشاهد يشهد معهم
على شهادة الأربعة أو على شهادة نفسه، وقد زدنا هذا المعنى بيانا وتحصيلا
في كتاب الرجم من كتاب المقدمات، وبالله التوفيق.
(10/28)
[: أمي قرئ
عليه كتاب فقال أشهد على ما فيه]
ومن كتاب أوله إن خرجت من هذه الدار سئل عن رجل أمي قرئ عليه كتاب فقال:
أشهد على ما فيه، أتجوز شهادته وهو لا يصف ما فيه حتى يقرأ عليه؟ قال: نعم،
تجوز شهادته، وليس كل الناس يسوقون كل ما أشهدوا عليه وإن كان ممن يكتب حتى
يقرأ الكتاب، فإذا قرأه عرف شهادته وحفظها، ولو قيل له بعدما يقرأها
أيستظهرها ما استظهرها، فإن كان عدلا وأثبت ما قرئ عليه جازت شهادته.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: إنه ليس على الشاهد أن يستظهر الكتاب الذي
وضع فيه شهادته، وحسبه أن يعرف ما تضمنه إذا قرئ أو قرأه فيقول: أشهد بما
فيه، وهذا في الاستراعاءات التي تكتب على معرفة الشاهد فيضع فيه شهادته ثم
يشهد بما تضمنت، وهذا إذا كان الشاهد من أهل اليقظة والفهم بمعاني ما تضمنه
الكتاب إذا قرأه أو قرئ عليه، وأما إذا كان على غير هذه الصفة فلا ينبغي
للحاكم أن يجيز شهادته إلا أن يؤديها لفظا فيقيدها عند الحاكم أو كاتبه على
ما يشهد بها، وأما ما يشهد به المتعاملان على أنفسهما فليس على الشاهد أن
يقرأ الكتاب ولا أن يقرأ عليه إن كان أميا، وحسبه إذا ذكر الشهادة أن يقول:
أشهدني فلان وفلان على ما في هذا الكتاب عنهما وإن لم يقرأه ولا عرف ما فيه
إلا أن يكون الشاهد من أهل العلم فيستحسن له إذا شهد على شيء مكتوب في كتاب
أن يقرأه لئلا يكون فيه فساد، فإن رأى فيه فسادًا نبّه عليه فاستدرك فسخه
قبل فواته، وبالله التوفيق.
(10/29)
[مسألة: الذي
يبيع الخمر لا تجوز شهادته]
مسألة سئل: عن رجل شهد بشهادة على رجل فقال المشهود عليه: إن هذا الشاهد
علي له حوانيت يؤاجرها من الخمارين، وأتى عليه بشهيدين، وذكر الشاهد أنه
[قد] حبس تلك الحوانيت على امرأته وأتى عليه بشهود، قال: إن شهدوا عليه أنه
يتولى كراءها ردت شهادته ولم تقبل ولا نعمى عين؛ لأن الذي يلي الحرام لغيره
كالذي يليه لنفسه، بل الذي يليه لنفسه لو كان يعذر لكان أعذر فلا تقبل
شهادته ولا ينعم عينا.
قال محمد بن رشد: في هذه المسألة ثلاثة أقوال؛ أحدها: هذا أنها جرحة تبطل
شهادته.
والثاني: قول محمد بن إبراهيم بن دينار الذي في المدونة والمبسوطة أنها
ليست بجرحة تبطل شهادته، قال: أما الذي يبيع الخمر فلا تجوز شهادته ولا
ينعم عينا، وعليه العقوبة الموجعة، وأما الذي يكري بيته فلا أرى أن ترد
شهادته.
والثالث: قول ابن القاسم في المدنية والمبسوطة أيضا أن شهادته لا تجوز إلا
أن يعذر بجهل، قال: أما الذي يكري بيته من خمار أو يبيعه ممن يبيع فيه خمرا
فإنها لا تقبل شهادته
(10/30)
إلا أن يعذر بجهل، وإنما لم يجز ابن القاسم
شهادة من يكري حانوته ممن يبيع فيها خمرا؛ لأن فعل ذلك عون على ما لا يحل
من بيع الخمر التي لعن الله عز وجل على لسان نبيه - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من استباحه فقال: «لعن الله الخمر وعاصرها ومعتصرها
وبائعها ومبتاعها وحاملها والمحمولة إليه وشاربها وساقيها وآكل ثمنها»
فالعون على ما لا يحل لا يحل، قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ
وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:
2] . لا أنه رأى الكراء عليه حراما كثمن الخمر، وذلك بين من قوله: لأن الذي
يلي الحرام لغيره مثل الذي يليه لنفسه إلى قوله: لكان أعذر؛ لأن الكراء لو
كان عليه حراما كثمن الخمر لكان الذي يتولاه لنفسه أشد من الذي يتولاه
لغيره لا محالة، ولما لم يكن الكراء عليه حراما كثمن الخمر لم يسقط ابن
دينار شهادته، وجعله من الذنوب التي لا تسقط الشهادة، وقول ابن القاسم
أظهر؛ لأن مثل هذا ليس من شيم أهل العدالة لا سيما وقد قيل: إن الكراء عليه
حرام لا يحل له كثمن الخمر، والأظهر أنه ليس هو عليه حرام كثمن الخمر،
وإنما يؤمر بالصدقة به على سبيل التورع ويفعل ذلك الإمام به على سبيل الأدب
له، ووجه قول ابن القاسم في المدنية والمبسوطة أنه لما كان هذا الفعل قد
يمكن أن يظن الجاهل أنه سائغ له وأن الإثم فيه إنما هو على بائع الخمر في
الحانوت لا عليه؛ لأنه أكرى منه ما يجوز له كراؤه من غير عذره بالجهل، وهو
أعدل الأقوال وأولاها بالصواب، وأما الذي يبيع الخمر فلا اختلاف في أن
شهادته لا تجوز، وكذلك في كتاب الرجم من المدونة أن الذي يعصر الخمر
ويبيعها لا تجوز شهادته وإن كان لا يشربها، قال مالك في المجموعة وكتاب ابن
المواز ولو باعها عصيرا لم ترد شهادته، وبالله التوفيق.
(10/31)
[مسألة: شهادة
الشريك على شريكه]
مسألة وسئل: عن الرجلين يكونان شريكين جميعا متفاوضين يبيع أحدهما من رجل
سلعة ويوجهها له وشريكه حاضر شاهد على بيعه ثم يخالف إلى السلعة ذلك الشريك
الذي باعها فيبيعها من رجل آخر وينفذها له فيبيع المشتري الأول السلعة وليس
له شاهد على الشراء إلا الشريك في السلعة الذي حضر حين باعها، هل ترى
شهادته جائزة؟ أم هل ترى له أن يأخذ من فضل ما باعها به شريكه على الثمن
الأول الذي كان باعها به أولا إذا جحد شريكه البيع وهو شاهد عليه؟ وكيف إن
كان للمشتري الأول بينة على الشراء وقد باع المشتري السلعة بفضل هل يكون له
ذلك الفضل؟ فقال: شهادة الشريك غير جائزة على شريكه، وأرى إن كان قد باعها
شريكه بأكثر من الثمن الأول أن لا يأخذ من ذلك الفضل شيئا وإن كان للمشتري
بينة على الشراء منه وقد فاتت [السلعة] من يد الذي اشتراها بفضل باعها به
فأرى ذلك الفضل للمشتري الأول؛ لأنه ثمن سلعته، والمشتري مخير إذا كانت له
بينة، وقد فاتت في قيمتها وفي الثمن الذي باعها به يكون مخيرا في ذلك على
بائعها.
قال القاضي: قوله: إن شهادة الشريك غير جائزة على شريكه يريد في نقض البيع
الثاني ورد السلعة إلى المشتري الأول صحيح؛ لأن ما باع شريكه فكأنه هو قد
باعه؛ لأن شريكه وكيل له على البيع، ويد الوكيل كيد الموكل فصار في شهادته
كمن باع سلعة من رجل ثم شهد لغيره أنه باعها
(10/32)
منه قبل ذلك، وأما شهادته على الفضل
للمشتري الأول فذلك جائز؛ لأنه شهد على نفسه وعلى شريكه بفضل في أيديهما
أنه للمشتري الأول، فعليه أن يدفع إليه حصته من الربح ويحلف مع شهادته على
الشريك فيأخذ منه نصف الربح الآخر؛ لأن السلعة سلعته فله أن يجيز البيع
ويأخذ الثمن، وهذا بين، وأما إن كان للمشتري بينة على الشراء منه وقد فاتت
السلعة من يد الذي اشتراها بفضل باعها به، فقوله: إن الفضل للمشتري الأول؛
لأنه ثمن سلعته بين صحيح، وقوله: إن المشتري مخير إذا كانت له بينة وقد
فاتت في قيمتها وفي الثمن الذي باعها به يريد في قيمتها يوم تعدى عليها
البائع وفي الثمن الذي باعها به وإن كان المبتاع الثاني قد باعها ففاتت في
يد المبتاع الثالث كان مخيرا في أخذ أي ثمن شاء، وفي أن يضمن البائع الأول
قيمتها، فإن ضمن البائع الأول قيمتها وأخذ منه الثمن جازت البيعتان جميعا،
وإن أخذ الثمن الثاني انتقضت البيعة الأولى؛ وإن ألفاها قائمة بيد المشتري
الثالث كان مخيرا بين أن يأخذ سلعته فتنتقض البيعتان جميعا أو يأخذ الثمن
[الأول فتجوز البيعتان جميعا، أو يأخذ الثاني] فتنتقض البيعة الأولى،
وبالله التوفيق.
[مسألة: توفي فقامت تدعي ما في البيت من متاع
النساء والرجال]
مسألة وسئل: عن الذي يشهد لامرأته إن كان شيء تغلق عليه باب بيتها فهو لها،
فقال: سواء أشهد لها أو لم يشهد لها، ما في البيت مما يعرف أنه متاع النساء
فهو لها إلا أن يكون اشترى لها من متاع الرجال شيئا فأشهد لها أنه إنما
يشتريه لها.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة أن المشهد لامرأته بهذه الشهادة
توفي فقامت تدعي ما في البيت من متاع النساء والرجال فلم ير لها فيما أشهد
لها به منفعة إذ لم يشهد لها على شيء بعينه أنه لها،
(10/33)
وإنما أشهد لها بما في بيتها، ولعل ما
تدعيه من متاع الرجال لم يكن في بيتها يوم الإشهاد فقال: سواء أشهد لها أو
لم يشهد لها، ما في البيت مما يعرف أنه من متاع النساء فهو لها، يريد وما
كان فيه من متاع الرجال فهو لورثته إلا أن يكون اشترى لها من متاع الرجال
شيئا فأشهد لها أنه إنما يشتريه لها، وفي قوله: إلا أن يكون اشترى لها إلى
آخر قوله، دليل على أنه لو أشهد لها على شيء بعينه من متاع الرجال أنه لها
لم يكن لها، وفي ذلك نظر؛ لأنه إن لم يعلم أصل الملك له صح الإقرار لها،
وإن علم أصل الملك له كان إقراره هبة تصح لها بحيازتها إياها؛ لكونها في
بيتها وتحت يدها إلا على ما في سماع أشهب من كتاب الصدقات والهبات في نحو
هذه الحيازة والقياس على مذهب ابن القاسم؛ لأن يد الزوج عنده هي المغلبة
على يد الزوجة إذا اختلفا فيما هو من متاع الرجال والنساء، ولو قامت في
حياته تدعي ما في بيتها من متاع الرجال وتحتج بما أشهد لها به من أن جميع
ما في بيتها لها، فناكرها في ذلك وادعاه لنفسه وزعم أنه لم يكن في بيتها
يوم أشهد لها بما أشهد وأنه إنما اكتسبه بعد ذلك لوجب أن ينفعها الإشهاد
ويكون القول قولها مع يمينها إلا أن يقيم هو البينة أنه اكتسب ذلك بعد
الإشهاد، ويحتمل أن يكون معنى المسألة أنه أشهد لها بذلك في مرضه الذي مات
منه فلا يكون في بطلان الشهادة إشكال، ولا في أنها لا يكون لها من متاع
الرجال إلا ما أشهد عند اشترائه أنه إنما يشتريه لها كلام، وبالله التوفيق.
[: قال امرأته طالق واحدة إن دخل دار عمرو بن
العاص]
ومن كتاب حمل صبيا على دابة قال ابن القاسم في رجلين شهدا على رجل أنه
أشهدهما في رمضان أنه طلق امرأته واحدة، وشهد رجلان آخران أنه أشهدهما في
شوال أنه طلق امرأته واحدة، وشهد رجلان آخران
(10/34)
أنه أشهدهما في ذي القعدة أنه طلق امرأته
واحدة أنها ثلاث تطليقات، ولا يدين إذا اختلفت الأيام والمجالس، وكذلك إذا
شهدوا أنه أشهدنا على طلقة طلقة لزمت ثلاث ولا يدين، قال: وكذلك أيضا لو
قال امرأته طالق واحدة إن دخل دار عمرو بن العاص، ثم قال من الغد عند قوم
آخرين امرأته طالق واحدة إن دخل دار عمرو بن العاص، ثم قال من الغد عند قوم
آخرين امرأته طالق واحدة إن دخل دار عمرو بن العاص أنه تلزمه ثلاث تطليقات،
وهو بمنزلة لو أن رجلا أشهد على نفسه قوما أن عليه لفلان مائة دينار، ثم
أشهد آخرين من الغد أن لفلان عليه مائة دينار، ثم أشهد آخرين من الغد أن
عليه لفلان مائة دينار أنه يلزمه ثلثمائة دينار إن طلبها ولي الحق، وفي
سماع أصبغ في النكاح الأول قال أصبغ: يعني إذا شهدوا عليه بمائة ثم مائة
مفترقين وادعى أنها مائة واحدة، قال أصبغ: وأنا أرى غير ذلك كله، أما
الطلاق فأرى أن يحلف ويدين ولا يكون عليه إلا طلقة واحدة إلا أن يجدد
الطلاق عند كل شهيدين فيقول: اشهدوا أنها طالق ويقع الإشهاد عليه كذلك
فتكون الشهادات طلاقا طلاقا فيكون بتاتا، وأما أن يقول: اشهدوا أني قد
طلقتها فيدين ويترك، وأما الحق فإني أرى إن كان له كتاب في كل شهادة فهي
أقوال مختلفة، وإن كان كتابا وأحدا فهو حق واحد، وإن كان بغير كتاب أصلا
إنما كان يشهد مجملا ههنا وههنا فمائة واحدة ويحلف، وكذلك إذا تقارب ما بين
ذلك مثل أن يشهد ههنا، ثم يقوم إلى موضع آخر، فيشهد، ثم يتحول إلى موضع آخر
فيشهد آخرين.
(10/35)
قال محمد بن رشد: قوله في هذه الرواية: إنه
يلزمه ثلاث تطليقات ولا يدين إذا شهد عليه شاهدان بطلقة وشاهدان بطلقة
وشاهدان بطلقة في أوقات مختلفة [يأتي على قياس قول ربيعة في المدونة أنه
إذا شهد عليه شاهد بطلقة وشاهد بطلقة وشاهد بطلقة في أوقات مختلفة] إن
الشهادة لا تلفق في ذلك ويحلف ما طلق ولا يلزمه شيء، وأما على القول بأن
الشهادة تلفق فيلزمه طلقة واحدة لاجتماع الشاهدين عليها ويحلف فيما زاد،
وهو مذهب ابن القاسم في المدونة، وقوله في رسم القطعان بعد هذا فينوى في
هذه المسألة، وهو قول مالك في رسم الأقضية من سماع أشهب من كتاب الأيمان
بالطلاق، وقد مضى القول على ذلك هنالك مستوفى، وكذلك قوله في هذه الرواية
إن الرجل إذا أشهد على نفسه شهودا بمائة دينار لفلان ثم أشهد آخرين من الغد
بمائة، ثم أشهد من الغد آخرين له بمائة تلزمه ثلثمائة إن طلبها ولي الحق
يأتي على القول بأن الشهادة لا تلفق إذا شهد للرجل شاهد أن فلانا أقر له
بمائة في يوم كذا، وشهد شاهد آخر أنه أقر له من الغد بمائة وشهد ثالث أنه
أقر له من الغد بمائة فيحلف مع كل شاهد ويستحق ثلثمائة، وأما على القول بأن
الشهادة تلفق في هذه المسألة فيأخذ مائة واحدة باجتماع الشهود عليها بتلفيق
الشهادة ويحلف المطلوب ما له عليه شيء، أو ما له عليه إلا مائة واحدة أشهد
له بها شاهدا بعد شاهد بعد شاهد ولا يلزمه شيء غيرها فيأخذ في مسألة الكتاب
مائة واحدة ويحلف المطلوب أنه ما له عليه إلا مائة واحدة أشهد له عليها
شهودا بعد شهود، فإن نكل عن اليمين حلف الطالب أنها ثلاثة حقوق وأنها
ثلثمائة، وإن أنكر أن يكون له عليه شيء أصلا أدى الثلثمائة ولم يكن على
الطالب يمين، وقوله في الكتاب: إنه يلزمه ثلثمائة إن طلبها ولي الحق يريد
بعد يمينه أنها ثلاثة حقوق، فإن نكل عن اليمين حلف المطلوب أنها حق واحد
وأدى مائة واحدة.
وتفرقة أصبغ بين أن يقول أشهدكم أنها طالق أو
(10/36)
أشهدكم أني قد طلقتها واحدة ينبغي أن يحمل
على التفسير لقول ابن القاسم، وإن كانت مخالفة لظاهره، وأما تفرقته في الحق
بين أن يكون كتاب واحد في جميع الشهادات أو كتاب في كل شهادة فهي تفرقة
صحيحة لا اختلاف في أن الرجل إذا أتى [إلى القوم] بكتاب عليه فيه مائة
دينار فأشهدهم على نفسه به، ثم أشهد على الكتاب بعينه بعد مدة قوما آخرين،
ثم بعد مدة قوما آخرين أنه حق واحد، وكذلك لا اختلاف في أن الرجل إذا أتى
بكتاب عليه فيه مائة دينار إلى قوم فأشهدهم على نفسه به، ثم أتى بكتاب آخر
إلى قوم آخرين عليه أيضا فيه مائة دينار فأشهدهم على نفسه به، ثم أتى بكتاب
آخر إلى قوم آخرين [عليه] فيه أيضا مائة دينار فأشهدهم على نفسه فقام
الطالب بالكتب الثلاثة أنه يقضي له بثلثمائة دينار، وإنما مسألة الخلاف إذا
أشهد شهودا بعد شهود بغير كتاب وبينهما مدة من الزمان، وإن كتب صاحب الحق
بما أشهد عليه كل جماعة كتبا على حدة لم يخرج بذلك عن الخلاف، وبالله
التوفيق.
[: خير الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن
يسألها]
ومن كتاب أوله شهد على شهادة ميت وسئل عن شاهد شهد على مال من الأموال غير
الفروج والحرية من حيوان أو عقار يعلمه لرجل ويرى الذي هو بيده يبيعه ويهبه
ويحوله عن حاله فلا يقوم بعلمه ثم يشهد عند القاضي أن هذه الدار والعرية
يعلمها لفلان، فيقول له القاضي: ما منعك أن تقوم حين رأيت هذا المتاع يباع
ويحول عن حاله بهبة أو صدقة؟ فيقول له الشاهد: لم يسألني أحد عن علمي، ولم
أر فيها فرجا يوطأ ولا حرا يستخدم، ولم أكن علي أن أقاتل الناس ولا
(10/37)
أخاصمهم، هل تدفع شهادته بذلك؟ أم هل
الفروج والأموال في ذلك سواء؟ قال ابن القاسم: لا أرى شهادته مقبولة إذا
كان حاضرا يرى الدار تباع والعقار لا يقوم بعلمه، وكذلك هو أيضا في الفروج
والحيوان وغير ذلك إذا كانت هذه الأشياء تحول عن حالها بعلمه، وقال ابن
وهب: بلغني عن ربيعة أنه قال في رجل شهد في عتق أو طلاق فأخفى شهادته حتى
يبيع العبد واستحل في ذلك الحرام ثم جاء بعد ذلك يشهد وهو عدل لا بأس به
قال: لا شهادة له إذا كان عالما أنه لا شهادة عنده لما أقر وأخبر ثم شهد
[بعد ذلك] أن عنده شهادة فهو الذي لا شهادة له، ولعله ألا يسلم لما اجتمع
من قوله وعلمه.
قال القاضي: قوله: لا أرى شهادته مقبولة إذا كان حاضرا يرى الدار تباع
والعقار لا يقوم بعلمه معناه إذا كان المشهود [له] حاضرا لم يعلم بشهادة
الشاهد؛ لأنه إن كان حاضرا عالما بشهادة الشاهد فهو الذي أضاع ماله إذ لم
يقم بحقه فيدعو الشاهد إلى تأدية الشهادة إذ لا اختلاف في أنه لا يلزم
الشاهد أن يقوم بشهادته لحاضر في المال حتى يدعوه إلى ذلك، قال الله عز
وجل: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282] وإنما
الذي يلزمه ويحق عليه إذا رأى المال يفوت ويحول عن حاله أن يعلمه بأن له
عنده شهادة، فإن لم يفعل كان ذلك جرحة فيه وبطلت شهادته على هذه الرواية،
وكذلك قال مطرف وابن الماجشون، إنما تسقط شهادة الشهود إذا لم يكن عند طالب
الحق علم بذلك، وأما إذا علم طالب الحق بعلمهم ولم يقم بهم فلا يضرهم،
فقولهما تفسير لهذه الرواية في أن شهادة الشهود لا تبطل بتركهم القيام
بالشهادة؛ إذ لا يصح لهم القيام بها مع حضور المشهود له
(10/38)
حتى يدعوهم إلى القيام بها، وإنما تبطل
بتركهم إعلامه بشهادتهم له، وكذلك الشاهد الواحد أيضا تبطل شهادته إذا أمسك
عن أن يعلمه بشهادته على القول بالقضاء باليمين مع الشاهد في الأموال، وهو
مذهب مالك لم يختلف فيه قوله، وأما على قول من لا يرى القضاء باليمين مع
الشاهد فلا تبطل شهادته إذا أمسك عن إعلامه إلا أن يعلم أن معه شاهدا آخر،
وما لم ير الشهود العقار والمال يفوت ويحال عن حاله فلا تبطل شهادتهم
بالإمساك عن إعلام؛ لأن الإخبار بشهادتهم في هذا الموضع ليس بواجب وإنما هو
مستحب؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خير
الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها أو يخبر بشهادته قبل أن يسألها» ،
قال غير ابن القاسم في المجموعة وكذلك إذا كان المشهود له غائبا تبطل شهادة
الشهود إذا رأوا المال والعقار يباع ويحول عن حاله فلم يقوموا بشهادتهم.
قال محمد بن رشد: وهذا على القول بأن السلطان يوكل من يقوم للغائب بحقه،
وهو أحد قولي ابن الماجشون، وروي ذلك عن أصبغ، وأما على القول بأن السلطان
لا يمكن أحدا من القيام على غائب في حق يطلبه له ولا يسمع له بينة إلا
بوكالة يثبتها عنده، وهو قول ابن الماجشون في الواضحة وقول مطرف حسبما مضى
القول فيه في رسم الأقضية الثالث من سماع أشهب من كتاب الأقضية، فإنما على
الشهود أن يخبروا الجيران بتعدي من تعدى على مال الرجل ويشهروا ذلك
ويذيعوه، فإن فعلوا ذلك لم تبطل شهادتهم، وقد وقع لأشهب في المبسوطة ما
ظاهره أن شهادة الشهود لا تبطل بالإمساك عن القيام بالشهادة كان الحق لله
تعالى في طلاق أو حرية أو لمخلوق في مال من الأموال خلاف قول ابن القاسم في
هذه الرواية في الوجهين، وهو بعيد؛ لأن ما يستدام فيه التحريم يلزم الشاهد
القيام فيه بشهادته، ويأتي على ظاهر قول أشهب أنه لا يلزمه أن يقوم في ذلك
بشهادته حتى يدعى إليها، وفي المسألة قول ثالث وهو الفرق بين حقوق الله
تعالى وحقوق المخلوقين، وهو قول سحنون، قال: لست أرى
(10/39)
ما قال ابن القاسم من ذلك يريد هذه
الشهادة، ولا أرى ذلك إلا فيما هو لله وما يلزم الشاهد أن يقوم به وإن كذبه
المدعي لذلك ويلزم الحاكم الحكم به، وذلك في الحرية والطلاق وأشباه ذلك،
وأما العروض والرباع والحيوان التي يدعيها بعض الناس على بعض فلا تبطل
شهادته في ذلك من قبل أن صاحبها إن كان حاضرا يرى ماله يباع ويوهب فهو الذي
أضاع حقه وتركه، وإن كان رب المال غائبا لم يكن للشاهد شهادة إن قام بها،
فمن أجل ذلك لم يضره ترك القيام بشهادته، وقول سحنون هذا هو أظهر الأقوال؛
لأن الحرية والطلاق وما أشبههما من حقوق الله يلزم الشاهد القيام بشهادته
في ذلك، وإن لم يدع إلى القيام بها؛ لأنه يعلم بما عنده من الشهادة أن
الحرام يستدام بإمساكه عن الشهادة ويقطع على ذلك فهو بتركه القيام مبيح
للحرام، فالجرحة بذلك بينة، وما سوى ذلك من حقوق المخلوقين التي لا يتعلق
لله بها حق كالعقار يعلمه للرجل فيراه بيد غيره يتصرف فيه بما يتصرف ذو
الملك في ملكه لا يقطع بما عنده من الشهادة أنه ظالم ومتعد لاحتمال أن يكون
الذي يعلمه له قد باعه منه أو وهبه له فلا يكون لهذا الاحتمال مجرحا بترك
إعلام المشهود له بما له عنده من الشهادة إن كان حاضرا ولا بترك رفع شهادته
إلى السلطان إن كان غائبا، وبيان هذا الذي ذكرناه أن الشهادة تنقسم على
خمسة أقسام: شهادة لا يصح القيام بها إلا بعد الدعاء إليها وهي الشهادة
للحاضر بالمال، فهذه الشهادة تبطل شهادة الشاهد فيها على هذه الرواية بتركه
إعلامه المشهود له لا بترك رفعه شهادته إلى السلطان، وشهادة يلزم الشاهد
القيام بها وإن لم يدع إليها وهي الشهادة بما يستدام فيه التحريم من الطلاق
والعتق وشبه ذلك، فهذه تبطل شهادة الشاهد فيها بتركه رفع شهادته إلى
السلطان إلا على ظاهر قول أشهب، وشهادة يختلف في وجوب القيام بها وفي رفع
شهادته إلى السلطان إلا على ظاهر قول أشهب، وشهادة يختلف في وجوب القيام
بها وفي صحته إذا لم يدع إليها، وهي الشهادة بالمال لغائب، فهذه الشهادة في
بطلان شهادة الشاهد فيها بتركه الرفع إلى السلطان على القول بوجوب الرفع
وصحته قولان، وشهادة لا يلزم القيام بها إذا لم يدع إليها وهي
(10/40)
الشهادة على ما مضى من الحقوق التي لا
يتعلق بها حق لمخلوق كالزنى وشرب الخمر وما أشبه ذلك، فهذا لا يلزم فيه
القيام ويستحب فيه الستر إلا في المستهتر فلا تبطل شهادة الشاهد في ذلك
بترك رفع شهادته إلى السلطان وإن كان المشهود عليه مستهترا باتفاق، وشهادة
لا يجوز للشاهد القيام بها وإن دعي إليها وهي الشهادة التي يعلم الشاهد من
باطنها خلاف ما يوجبه ظاهرها، وذلك مثل أن يأتي الرجل إلى العالم فيقول:
حلفت بالطلاق ألا أكلم فلانا فكلمته بعد ذلك بشهر إلا أني كنت نويت في
يميني ألا أكلمه شهرا، فهذا إن دعته امرأته إلى أن يشهد لها فيما أقر به
عنده من أنه حلف بالطلاق ألا يكلم فلانا وأنه كلمه بعد شهر لم يجز له أن
يشهد عليه بذلك، وقد مضى هذا في أول رسم من سماع عيسى، والله تعالى الموفق.
[مسألة: الولادة لا يشهد فيها إلا النساء]
مسألة قال ابن القاسم: ومن قال أول ولد تلدينه فهو حر فولدت توأما فأرى
شهادة النساء فيه جائزة؛ لأن الولادة لا يشهد فيها إلا النساء، وكذلك
الاستهلال وكل ما لا يحضر ذلك من أمور النساء إلا النساء فإن شهادتهن جائزة
وإن لم يثبت النساء شهادتهن لعتقا؛ لأنه يعتق من كل واحد منهما نصفه، فإذا
كان يعتق من كل واحد منهما نصفه بالقضاء عتق عليه النصف الثاني بالسنة، كذا
يقول أهل العلم.
قال القاضي: قوله: إن شهادة النساء تجوز فيمن ولد منهما أولا صحيح لا
اختلاف فيه؛ لأن الولادة لا يحضرها إلا النساء، فجازت شهادتهن
(10/41)
في ذلك كما تجوز في الاستهلال، وقوله:
إنهما يعتقان جميعا إذا لم يثبت النساء أيهما ولد أولا صحيح أيضا، وأما
تعليله لذلك بأنه لما كان يعتق من كل واحد منهما نصفه بالقضاء عتق عليه
النصف الباقي بالسنة فهو تعليل غير صحيح، وإن كان ابن الماجشون قد جامعه
عليه، فقال: يعتق نصف كل واحد منهما بالقول الأول ويعتق النصفان الباقيان
بالاستتمام كمن أعتق نصف عبده فإنه يعتق عليه كله، وذلك أنه لم يعتق نصف كل
واحد منهما، وإنما أعتق الذي ولد منهما أولا، فلما لم يعلم من ولد منهما
أولا وجب أن يعتقا جميعا؛ إذ لا يحل استرقاقهما مع العلم بأن أحدهما حر،
ولا استرقاق أحدهما لاحتمال أن يكون هو الذي وجبت له الحرية بولادته أولا،
كمن أعتق أحد عبديه أو طلق إحدى امرأتيه ثم شك فلم يدر أي عبديه أعتق ولا
أي امرأتيه طلق أن العبدين يعتقان وأن المرأتين تطلقان، وكمن قال: أول
عبيدي يدخل هذه الدار فهو حر فدخلها عبيده واحدا بعد واحد وجهل الأول منهم
أنهم يعتقون كلهم، ولو كان يعتق أنصافهما بالقول الأول وباقيهما بالاستتمام
لوجب إن لم يحكم بذلك حتى مات ألا يستتم عتقهما بعد الموت، وهذا لا يصح في
هذه المسألة، فبان بهذا ضعف هذا التعليل، ومن أهل العلم من يقول: إنهما
يعتقان جميعا ويكون عليهما نصف قيمتهما، ولم ير ذلك مالك ولا قال به هو ولا
أحد من أصحابه، وبالله التوفيق.
[مسألة: الشهيدين يشهدان عند القاضي فيزكي
أحدهما صاحبه]
مسألة وعن الشهيدين يشهدان عند القاضي فيزكي أحدهما صاحبه هل يجوز ذلك؟
قال: لا تجوز تزكيته له؛ لأن التزكية شهادة، وقال مالك: لأنه إذا شهد وزكى
فإنما هو الذي أثبت الحق وحده.
قال محمد بن رشد: هذا بيّن على ما قاله؛ لأنه إذا زكى أحد الشاهدين صاحبه
فلم يتم الحكم إلا بشهادة المزكي وحده، ولو زكيا جميعا شاهدا وشهد على
شهادة آخر في ذلك الحق جاز ذلك على ما في نوازل سحنون، وبالله التوفيق.
(10/42)
[: القاضي إذا
عزل وقد شهد الشهود عنده وأثبت ذلك في ديوانه ولم يقم على ذلك بينة]
ومن كتاب أوله جاع فباع امرأته وسئل: عن القاضي يأمر ببيع التركة فتباع أو
يقضي بالقضية ثم يعزل هل تجوز شهادته فيما قضى أو أمر به من بيع التركة؟
قال: قال مالك: لا تجوز شهادته وحده ولا مع غيره، قيل له: فإن قام شاهد
واحد على أمر القاضي وقضائه هل يحلف مع شاهده؟ قال: لا يحلف مع شاهده على
شهادته ولا يجوز في ذلك إلا شهيدان؛ لأنه من وجه الشهادة على الشهادة،
والشهادة على قضاء القاضي شهادة على شهادة، فلا يجوز في ذلك إلا شهيدان.
قال الإمام القاضي: قوله: إن القاضي لا تجوز شهادته إذا عزل فيما قضى فيه
أو أمر به من بيع التركة هو مثل ما في كتاب الأقضية من المدونة، وليس في
ذلك ما يدل على أنه تجوز شهادته في ذلك قبل أن يعزل، بل لا تجوز في ذلك
شهادته عزل أو لم يعزل، وإنما يجوز له قبل أن يعزل أن يسجل فيما قضى به
ويشهد على ذلك ويخاطب بذلك ابتداء على وجه الإعلام والإخبار لا على وجه
الشهادة، وقد مضى بيان هذا في رسم القضاء المحض من سماع أصبغ من كتاب
الأقضية، وأما قوله: إن المقضي له لا يحلف مع الشاهد على أمر القاضي وقضائه
فهو على خلاف أصله في المدونة؛ لأنه قال في الأقضية منها: إن القاضي إذا
عزل وقد شهد الشهود عنده، وأثبت ذلك في ديوانه ولم يقم على ذلك بينة إن
المشهود عليه يحلف بالله ما هذه الشهادة في ديوان القاضي مما شهدت به
الشهود علي، فإن نكل عن اليمين حلف المشهود له وثبت له الشاهدان، فإذا كان
يستحق ذلك باليمين مع النكول فأحرى أن يستحقه باليمين مع الشاهد، ولا فرق
بين ذلك وبين الحكم؛ لأنه شعبة من الحكم، ونحوه ما في كتاب النكاح الثاني
منها أن الزوجين إذا اختلفا في فريضة القاضي كان القول قول الزوج إذا أتى
بما يشبه، فإن لم يأت بما يشبه يريد أو نكل عن اليمين كان القول قول المرأة
إن أتت بما يشبه، فإذا كانت المرأة تستحق القضاء باليمين مع النكول
(10/43)
وجب أن تستحقه باليمين مع الشاهد، وقد تأول
بعض الناس أن مذهب ابن القاسم في هذه المسألة أنه لا يمين على الزوج إذا
أتى بما يشبه، ولا على الزوجة إذا ادعى الزوج ما لا يشبه وأتت هي بما يشبه،
قاله على قياس قول ابن القاسم في هذه الرواية، وفي الواضحة بأن حكم الحاكم
لا يستحق باليمين مع الشاهد، وهو من التأويل البعيد، فالظاهر من مذهبه في
المدونة أن حكم الحاكم يستحق باليمين مع الشهادة بخلاف الشهادة على
الشهادة، وهو قول مطرف وأصبغ والأظهر في النظر؛ لأن اليمين مع الشاهد على
الحكم يمين على المال لاستحقاقه بذلك المال بخلاف اليمين مع الشاهد على
الشهادة إذ لا يستحق بذلك المال، ويجوز في الشهادة على حكم القاضي على مذهب
ابن القاسم شاهد وامرأتان؛ لأنه إذا أجاز ذلك في الشهادة على الشهادة وفي
الشهادة على الوكالة فأحرى أن يجيزه في حكم القاضي إذ قد أجيز فيه الشاهد
واليمين، ولا اختلاف في أنه لا يجوز شاهد ويمين في الشهادة على الشهادة ولا
في الشهادة على الوكالة، وسحنون وابن الماجشون لا يجيزان شاهدا وامرأتين في
شيء من ذلك كله على أصلهما في أنه لا يجوز شاهد وامرأتان إلا فيما يجوز فيه
شاهد ويمين، وأما كتاب القاضي إلى القاضي فلا اختلاف في أنه لا يجوز في ذلك
شاهد ويمين؛ لأنه كالشهادة على الشهادة، وقد وقعت المسألة لمالك - رَحِمَهُ
اللَّهُ - في هذا الرسم في بعض النسخ، قال مالك في كتاب القاضي إلى القاضي
لا يشهد عليه إلا شاهد واحد فيريد صاحب الحق أن يحلف مع شاهده قال: لا يجوز
في هذا إلا شاهدان، وذلك لأنها شهادة على شهادة، فليس يكون في مثل هذه
الشهادة على الشهادة شاهد ويمين، ولا ينفذ إلا بشهيدين، وبالله التوفيق.
[مسألة: الصبي يكون له شاهد على حقه فيستحلف له
الذي عليه الحق]
مسألة وسئل: عن الصبي يكون له شاهد على حقه فيستحلف له الذي عليه الحق
فيكبر الغلام فيقول له: احلف مع شاهدك وخذ،
(10/44)
فيقول: أنا أريد أن أحلف ويبرأ فقال: ليس
عليه أن يحلف ثانية، قد حلف مرة.
قال القاضي: وقعت هذه المسألة في رسم البيوع من سماع أصبغ من كتاب المديان
والتفليس، وزاد فيها قال أصبغ: لأنه قد برئ يوم حلف وهو بريء أبدا حتى يحلف
الصبي فيكون حلفه كالشهادة الحادثة القاطعة، فعلى قول أصبغ هذا لا يجب
توقيف الدين، وقد قيل: إنه إذا حلف الذي عليه الحق أخذ الدين منه فوقف حتى
يكبر الصبي فيحلف ويأخذه، ومعنى ذلك إذا لم يكن مليا وخيف عليه العدم، وهو
في القياس صحيح، إذ لو كان المدعي فيه شيئا بعينه لوجب توقيفه أو بيعه
وتوقيف ثمنه إن خشي عليه على ما يأتي لابن القاسم في سماع محمد بن خالد،
وإذا وقف الدين أو العرض فضمانه من الصبي إن حلف ومن الغريم إن نكل ولم
يحلف؛ لأنه إنما وقف لمن يجب له منهما بتمام الحكم ببلوغ الصغير، فإن حلف
لم يجب لأحدهما على صاحبه شيء حلف أو نكل؛ لأنه إن حلف وجب له وكانت مصيبته
منه، وإن نكل عن اليمين وجب للمدعى عليه وكانت مصيبته منه، وقد قيل: إنه
يحلف ثانية إذا بلغ الصبي فأبى أن يحلف، وهو بعيد، ووجهه أن يمينه أولا لما
لم تكن واجبة ليسقط عنه بها الحق كانت إنما أفادت تأخير الحكم إلى بلوغ
الصغير، فإذا بلغ استؤنف الحكم، واختلف إن بلغ الصغير وهو سفيه فينكل عن
اليمين وحلف الذي عليه الحق وبرئ هل له إذا رشد أن يحلف؟ فقال: ليس ذلك له
لأنه ما كان له أن يحلف مع شاهده بخلاف الصغير له أن يحلف مع شاهده، وهو
قول ابن القاسم وأصبغ في رسم الكراء والأقضية من سماع أصبغ، وقيل ذلك له
مثل الصغير؛ لأنه يقول: إنما نكلت لسفهي، وهو قول ابن كنانة ومطرف، ولا
اختلاف في أن الذي عليه الحق إذا نكل يغرم، ولا يجب على الصغير إذا بلغ أن
يحلف؛ لأن نكوله كالإقرار، وكذلك الوكيل الغائب يقيم شاهدا واحدا على حق
الغائب فيقضى على الذي عليه الحق باليمين إلى أن يقدم
(10/45)
الغائب فيحلف مع شاهده أنه إن نكل عن
اليمين غرم ولم يكن على الغائب إذا قدم وليس لولي الصغير أن يحلف مع شاهده
ويستحق له حقه، واختلف هل ذلك للأب أم لا؟ فالمشهور المعلوم من قول ابن
القاسم وروايته عن مالك أن ذلك ليس له، وقال ابن كنانة: ذلك له لأنه يمونه
وينفق عليه، وهذا فيما لم يل الأب أو الوصي المعاملة؛ لأن ما ولي أحدهما
فيه المعاملة فاليمين عليه واجبة؛ لأنه إن لم يحلف غرم، وقد مضى هذا المعنى
في أول رسم من سماع ابن القاسم من كتاب النكاح، وقد وقع في كتاب تجمعت فيه
أقضية مالك والليث أن الصغير يحلف مع شاهده كالسفيه، وهو بعيد؛ لأن القلم
عنه مرفوع فلا يحرج من الحلف على باطل، وبالله التوفيق.
[مسألة: شهادة الرجل لابن امرأته]
مسألة وسئل: عن شهادة الرجل لابن امرأته فقال: لا أرى أن تجوز ولا شهادته
لامرأة أبيه ولا لامرأة ابنه؛ لأنه كأنه إنما يشهد لامرأته أو لابنه أو
لأبيه؛ لأنهم يجرون في ذلك لأنفسهم، وليس ذلك بمنزلة شهادة الأخ لأخيه،
وشهادة الأخ لأخيه قد تجوز وتسقط، وإنما تجوز إذا كان منقطعا عنه وليس في
عياله ولا يناله معروفه ولا صلته، وكانت له الحال الحسنة، وكان عدلا، فليس
يتهم هذا إذا كان بهذه الصفة أن يجر إلى نفسه، وقد خرج من التهمة، وأولئك
التهم فيهم بينة ولهم لازمة وإن كانوا منقطعين عمن شهدوا له؛ لأنهم يستجرون
ذلك إلى من يتهمون عليه، قال سحنون: تجوز شهادة الرجل لأم امرأته ولأبيها
ولولدها إلا أن تكون المرأة ممن ألزم السلطان ولدها النفقة عليها لضعف
زوجها عن النفقة عليها، وتجوز شهادة الرجل لزوج ابنته ولابن زوجها ولأبيه
وأمه.
قال محمد بن رشد: أما شهادة الرجل لابن زوج ابنته وأبويه فلا
(10/46)
يخالف ابن القاسم سحنون في أن شهادته لهم
جائزة؛ لأن التهمة فيهم بعيدة، وإنما يخالفه في شهادته لزوج ابنته ومن
أشبهه، وقد مضى القول في معاني هذه المسألة كلها مستوفى في أول رسم من سماع
ابن القاسم، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[: يشهد لبعض ولده على بعض]
ومن كتاب الجواب وسألته: عن الرجل يشهد لبعض ولده على بعض لصغير على كبير
أو لكبير على صغير، قال: إن شهد لصغير أو لكبير سفيه في حجره على كبير فلا
يجوز؛ لأنه يتهم بالجر إلى نفسه لمكان الذي في حجره وولايته، وإن شهد لكبير
على صغير أو لكبير على كبير جازت شهادته إذا كان عدلا إلا أن يكون المشهود
له ممن يتهم على مثله لانقطاع يكون منه إليه والأثرة له والحب له على غيره
والآخر ليس بتلك المنزلة عنده أو عرف منه الشنآن له والجفوة عنه دون الآخر
فلا يجوز ذلك، وروى سحنون عن ابن القاسم مثله، وقال سحنون: وأنا أقول: لا
تجوز شهادة الأب لابنه على حال لا لكبير على صغير ولا لصغير على كبير.
قال محمد بن رشد: أما إذا شهد لصغير أو سفيه في حجره على كبير أو لمن له
إليه انقطاع على من ليس له إليه انقطاع، أو كانت بينه وبين المشهود عليه من
بنيه عداوة فلا اختلاف في أن شهادته في ذلك كله غير جائزة، وإنما الاختلاف
إذا شهد لكبير على كبير، أو على من في حجره من صغير أو سفيه، أو لمن في
حجره من صغير على من في حجره من صغير أو سفيه، فأجاز ذلك ابن القاسم ولم
يجزه سحنون، وحكى ابن عبدوس عنه أنها جائزة مثل قول ابن القاسم، وله في
كتاب ابنه أنه رجع عن ذلك فقال: لا تجوز مثل قوله ههنا، ولو شهد لولده على
ولد ولده لم نجز شهادته له قولا واحدا، ولو شهد لولد ولده على ولده جازت
شهادته له
(10/47)
قولا واحدا والله أعلم، ومن هذا المعنى
شهادته لأحد أبويه على الآخر، وشهادته على أبيه بطلاق أمه أو غير أمه وأمه
حية، وشهادته لأبيه على ولده أو لولده على أبيه، وقد مضى هذا القول على ذلك
كله مستوفى في أول سماع أشهب وفي رسم يوصي لمكاتبه من سماع عيسى هذا، فلا
معنى لإعادة شيء من ذلك، وبالله التوفيق.
[مسألة: الفار من الزحف هل تجوز شهادته]
مسألة وسألته: عن الفارّ من الزحف هل تجوز شهادته؟ وهل ترد حتى يتوب؟ أم لا
تقبل أبدا؟ وهل على الناس إذا فروا من الزحف شيء إذا فر إمامهم؟ قال ابن
القاسم: تقبل شهادته إذا تاب وعرفت توبته وظهرت وإلا لم تقبل شهادته إذا فر
مما لا يفر من مثله، وحد الفرار من الزحف الفرار من الضعف كما قال الله عز
وجل: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا}
[الأنفال: 66] إلى قوله: {مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 66] فلا يحل
الفرار من المثلين، فإذا زادوا على ذلك وكثروا فلا بأس بالفرار إذا خافوا
الضعف، ولا يحل للناس إذا فر إمامهم أن يفروا إذا كانوا مثليهم على ما فسرت
لك.
وتجوز شهادة الفار من الزحف إذا تاب وعرفت التوبة منه والاجتهاد والبر
واختبر بزحف ثان بعد ذلك فلم يفر منه أو لم يختبر به غزا بعد ذلك أو لم يغز
إذا ظهرت توبته وعرفت، قال أصبغ عن ابن القاسم مثله..
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأن الفرار من الزحف إذا كان
(10/48)
العدو ضعف المسلمين في العدة على هذه
الرواية أو في الجلد والقوة على قول ابن الماجشون وروايته عن مالك من
الكبائر، وقد روي ذلك عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ومن
أتى كبيرة من الكبائر وجب ألا تجوز شهادته حتى تعرف توبته منها، ومن الناس
من ذهب إلى أنه ليس من الكبائر، وأن قول الله عز وجل: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ
يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى
فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ
الْمَصِيرُ} [الأنفال: 16] خاص في أهل بدر؛ لأنهم لم يكن لهم أن يتركوا
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وينهزموا عنه، فأما فيما
بعد ذلك فلهم الانهزام.
قال يزيد بن حبيب: أوجب الله عز وجل لمن فر يوم بدر النار، ثم كانت أحد
بعدها فأنزل الله فيها: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ
الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا
كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ}
[آل عمران: 155] ثم كانت حنين بعدها فأنزل الله فيها: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ
اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ} [التوبة: 25] إلى
قوله: {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 27] فنزل العفو فيمن تولى من
بعد يوم بدر، والصحيح أن الفرار من الزحف ليس بمخصوص بيوم بدر وأنه عام في
كل زحف إلى يوم القيامة، وكان الله تعالى به نبيه موسى - عَلَيْهِ
السَّلَامُ - وشرعه له على ما جاء عن النبي عليه
(10/49)
السلام في تفسير قوله عز وجل: {وَلَقَدْ
آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} [الإسراء: 101] ثم لم ينسخه بعد
ذلك حتى صار من شريعتنا، ومن الدليل على أن الوعيد المذكور في الآية ليس
بخاص لأهل بدر ما روي عن عبد الله بن عمر أنه قال: «كنت في سرية من سرايا
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فحاص الناس حيصة فكنت ممن
حاص، فقلنا: كيف نصنع وقد فررنا من الزحف وبؤنا بالغضب؟ فقلنا: لو دخلنا
المدينة فبتنا فيها وعرضنا أنفسنا على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -، فإن كانت لنا توبة وإلا ذهبنا فأتيناه قبل صلاة الغداة، فخرج
فقال: من القوم؟ فقلنا: نحن الفرارون فقال: بل أنتم العكارون» يريد
بالعكارين الكرارين؛ لأن عبد الله بن عمر إنما لحق بالمقاتلة يوم الخندق
بعد أن رده النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قبل ذلك، وهذا بعد بدر، فدل ذلك
على أن حكم الفرار من الزحف بغير تحرف إلى قتال أو تحيز إلى فئة باق إلى
يوم القيامة وداخل في الكبائر، والله الموفق.
[مسألة: قبلت شهادته في أمر ثم شهد بعد ذلك في
أمر آخر]
مسألة وسألته: عن رجل قبلت شهادته في أمر ثم شهد بعد ذلك في
(10/50)
أمر آخر فطلب المشهود عليه أن توضع فيه
العدالة هل ترى أن توضع فيه العدالة؟ قال ابن القاسم: إن كان ذلك قريبا من
شهادته الأولى وتعديله فيها الأشهر وما أشبهها ولم يطل ذلك جدا فلا أرى
ذلك، وإن كان قد طال رأيت أن توضع فيه وأن يسأل عنه طلب ذلك المشهود عليه
أو لم يطلبه، والسنة عندي في مثل هذا طويل كثير؛ لأن في ذلك ما تتغير
الحالات وتحدث الأحداث.
قال أصبغ: إلا أن يكون الرجل المعروف بالخير المشهور الذي لا يحتاج مثله
إلى ابتداء السؤال فلا يسأل عنه ثانية ولا ينصب عنه.
قال محمد بن رشد: قوله: وسألته عن رجل قبلت شهادته في أمر معناه وسألته عن
رجل مجهول الحال غير معروف بالعدالة فقبلت شهادته في أمر بعد أن عدل، ثم
شهد بعد ذلك في أمر آخر هل يكتفي بالتعديل الأول أو يطلب فيه التعديل
ثانية؟ فقال: إن كان ذلك قريبا من شهادته الأولى بالأشهر اكتفي بالتعديل
الأول، وإن كان الأمر قد طال طلب فيه بالتعديل ثانية؛ لأن الأحوال قد تتغير
في الطول من الزمان والسنة طول، وفي نوازل سحنون أن التعديل يطلب فيه كلما
شهد قرب ذلك أو بعد حتى يكثر تعديله وتشتهر تزكيته، وقول ابن القاسم
استحسان، وأما قول سحنون فإنه إغراق في الاستحسان، فإن طلب القاضي التعديل
فيه ثانية بعد السنة على قول ابن القاسم أو بالقرب والبعد على قول سحنون
فعجز المشهود له عن أن يعدله ثانية إذ لعله لا يعرفه غير الذين عدلوه أولا
وقد ماتوا أو غابوا وجب أن تقبل شهادته ولا يردها فيبطل حقا وقد شهد به من
قد زكى وثبتت عدالته؛ لأن ما فعل من طلب العدالة إنما هو استحسان غير واجب،
والقياس في ذلك أن يكون محمولا على التعديل الأول ما لم يتهم بأمر أو يغمز
(10/51)
بشيء أو يستراب في أمره لوجه يظهر منه، وهو
قول مطرف وابن الماجشون في الواضحة، وأما الشاهد المعروف بالعدالة الذي قبل
من غير تزكية فلا يطلب فيه تزكية إذا شهد ثانية كما لم يطلب فيه أولا، فقول
أصبغ مفسر لقول ابن القاسم غير مخالف له، ومثله لمالك في كتاب ابن سحنون
قال: أما الرجل المشهور عدالته فلا يكلف التعديل ثانية، وإن لم يعرفه
القاضي إلا أنه صح عنده أنه عدل شهرته وبالله التوفيق.
[: شهد رجلان على رجل بطلاق امرأته أو فرية أو
شرب الخمر في أيام مختلفة]
ومن كتاب القطعان قال ابن القاسم: قال مالك: إذا شهد رجلان على رجل بطلاق
امرأته أو فرية أو شرب الخمر في أيام مختلفة فقال هذا: أشهد أنه طلق
امرأته، أو رأيته يشرب الخمر، أو قذف فلانا في شوال، وشهد آخر على مثل ذلك
إلا أنه قال في رمضان، فإنه يضرب في الفرية والخمر ويطلق عليه، وكذلك رأى
ابن القاسم.
قال الإمام القاضي: إذا اختلف الوقت في شهادة الشهود على القول لفقت
الشهادة وجازت على المشهور من مذهب ابن القاسم حسبما ذكرناه في رسم العرية،
وإذا اختلف الوقت في شهادة الشهود على الفعل لم تلفق الشهادة وبطلت عند ابن
القاسم حسبما ذكرناه في آخر رسم أوصى أن ينفق على أمهات أولاده، فإنما قال
ابن القاسم في هذه الرواية إنه يحد في الشرب إذا قال أحد الشاهدين: رأيته
شرب الخمر في شوال، وقال الآخر: رأيته يشربها في رمضان من أجل أن الشهادة
في هذا على الفعل مسندة إلى القول إذ هو المعتبر به فيها؛ لأنه إنما يجب
عليه في الشرب حد القذف؛ لأنه كما قال علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ -: إذا شرب سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى فلم يخرج ابن القاسم
في هذه المسألة عن أصله في أن الأفعال لا تلفق إذا اختلفت الأوقات، وهذا
نحو قوله في الأيمان
(10/52)
بالطلاق من المدونة إذا شهد شاهدان على رجل
أنه حلف بالطلاق أن لا يدخل دار عمرو بن العاص، وشهد أحدهما أنه دخلها في
رمضان، وشهد آخر أنه دخلها في ذي الحجة أنها تطلق عليه؛ لأنه لفق الفعل لما
كان ما يوجبه مسندا إلى القول، قال مالك في المبسوطة: وأما شهادة أحدهما
على أنه شرب في رمضان والثاني في شوال بمنزلة أن لو قال أحدهما: رأيته يشرب
الخمر بقدح نضار، وقال الآخر: بل كان شربها في قدح قوارير، ومحمد بن مسلمة
وابن نافع يقولان: إنه لا يحد في الشرب حتى يجتمع الشاهدان فيه على وقت
واحد، وهو الأظهر على حقيقة أصل ابن القاسم في أن الأفعال لا تلفق، وبالله
التوفيق.
[: الحكم لو شهد رجل وغابت المرأتان فشهد على
شهادتهما امرأتان]
ومن كتاب العشور قال ابن القاسم في امرأتين شهدتا على شهادة امرأتين ومع
ذلك رجل شاهد في أصل الحق يشهد مع المرأتين الغائبتين: إنه لا يجوز ذلك إلا
أن يكون مع المرأتين رجل، وإنما تجوز شهادة المرأتين بأبدانهما فلا بد أن
يكون مع المرأتين رجل، قال: واحتج في ذلك بشهادة الرجل أنها لا تجوز ببدنه
ويحلف معه، وإنه إذا غاب بدنه لم يجز أن يشهد على شهادة رجل واحد إلا
رجلان، ثم يكون ذلك كشاهد يحلف معه، وفي سماع أصبغ من كتاب القضاء المحض
قال أصبغ: وأنا لا أرى ذلك ولا يعجبني أرى ما جازت فيه شهادتهن تامة بلا
رجل ولا يمين مثل الاستهلال وعيوب النساء وما تحت الثياب أن تجوز شهادتهن
فيه على شهادة مثلهن بلا رجل معهن كما لو شهدن هن أنفسهن.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم: إن الحق إذا كان عليه شاهد وامرأتان فشهد
الرجل وغابت المرأتان فشهد على شهادتهما امرأتان أن ذلك لا يجوز إلا أن
يكون معهما رجل كما أن الشاهد الواحد إذا غاب لا يشهد
(10/53)
على شهادته إلا رجلان، يريد أو رجل
وامرأتان، هو معنى ما في الشهادات من المدونة، بل نصه خلاف قول ابن
الماجشون وسحنون في أن شهادة النساء لا تجوز إلا فيما يجوز فيه شاهد ويمين،
ولم يتكلم ابن القاسم في الشهادة على شهادة النساء فيما تجوز فيه شهادتهن
دون رجل إلا أن في قول أصبغ في كتاب القضاء المحض: وأنا لا أرى ذلك ولا
يعجبني وأرى أن تجوز شهادتهن فيه على شهادة مثلهن بلا رجل معهن كما لو شهدن
هن أنفسهن يدل على أن الذي رواه عن ابن القاسم أنه لا بد في الشهادة على
شهادتهن من رجلين أو رجل وامرأتين، وأنه لا يجوز في ذلك شهادة النساء
وحدهن، وهو القياس؛ لأن شهادتهن إنما جازت على الأصل وحدهن بلا رجل للضرورة
إلى ذلك ولا ضرورة إلى انفرادهن في الشهادة على شهادتهن فوجب ألا يجزئ في
ذلك إلا رجلان أو رجل وامرأتان، وظاهر قول أصبغ أنه يجزئ في ذلك امرأتان
على امرأتين؛ لقوله كما لو شهدن هن أنفسهن، وقد قال بعض أهل النظر وأراه
ابن لبابة: معنى قول أصبغ: أنه لا تقوم امرأتان بشهادة امرأتين حتى، يكن
أربعة فيقمن بشهادة امرأتين على مذهب أصبغ، وهو تأويل بعيد لا وجه له في
النظر، ووجه ما ذهب إليه أصبغ أن المرأتين لما أقيمتا فيما لا يحضره الرجال
مقام رجلين أقام هو المرأتين في الشهادة على شهادتهما مقام رجلين، وليس ذلك
بصحيح؛ لأن شهادة الرجال على شهادتهن غير ممتنع، فوجب ألا ينفردن بذلك
دونهم، وبالله التوفيق.
[: إقرار المريض في مرضه بدين لمن لا يتهم عليه]
ومن كتاب أوله باع شاة وسألته: عن رجل أقر عند موته أنه شهد على فلان هو
وفلان وفلان فقطعت يده وأنا شهدنا بالزور فما لزمني فأدوه عني، قال ابن
القاسم: لا أرى عليه شيئا؛ لأنه قد بقي على الشهادة اثنان، فالشهادة قائمة،
ولو أقر واحد من الشهيدين الباقيين بعد إقرار هذا كان نصف دية اليد على
الميت وعلى النازع منهما، ولو أقر الثالث كان على كل واحد منهم ثلث الدية،
وكان الذي أقر به
(10/54)
الميت في رأس ماله، قلت: فلو كان لم يقر
أحد غيره وبقيت الشهادة قائمة كما هي حتى قسم مال الميت ثم نزع أحد
الشهيدين الباقيين؟ قال: يكون ذلك بمنزلة دين طرأ على الميت يؤخذ ما ينوبه
من ذلك من الذي للورثة، كذلك القتل لو أقر أنه شهد على رجل مع رجلين فقتل
بشهادتهم ثم نزع عند الموت.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة على أصولهم في أن إقرار المريض في مرضه
بدين لمن لا يتهم عليه جائز، فإذا كان هذا الذي أقر له بأنه شهد عليه
بالزور فقطعت يده ممن لا يتهم على الإقرار له في مرضه وجب أن يؤخذ من رأس
ماله ما يلزمه بالإقرار، وليس في قوله: وأنا شهدنا عليه بالزور دليل على
أنه لو قال: إنا شبه علينا لم يلزمه شيء؛ لأن ذلك إنما هو في السؤال لا في
الجواب، فلا دليل فيه، وهو سواء على مذهبه، قال: إنا شهدنا بالزور أو شبه
علينا، وقد مضى هذا والاختلاف فيه في أول سماع عيسى، وقوله: لا أرى عليه
شيئا؛ لأنه قد بقي على الشهادة اثنان صحيح لا اختلاف فيه، قد ذكر ذلك صاحب
الاتفاق والاختلاف أن هذا مما أجمع عليه مالك وأصحابه، وقد رأيت لابن دحون
أنه قال: وقد قيل: إنه يلزمه ثلث دية اليد في ماله، فإن رجع آخر لزمه الثلث
أيضا، فإن رجع الثالث لزمه الثلث، وأما قوله: ولو أقر واحد من الشهيدين
الباقيين بعد إقرار هذا كان نصف الدية على الميت وعلى النازع منهما فإن هذا
موضع يختلف فيه؛ لأن ابن وهب وأشهب يقولان: إنه يلزمهما الثلثان، وفي قوله:
إنه لو نزع أحد الشهيدين الباقيين بعد أن قسم المال كان ما ينوب المقر من
ذلك كدين طرأ بعد القسمة يؤخذ ما ينوبه من ذلك من الذي للورثة ما يدل على
أنه لا يلزم توقيف شيء من المال لإقراره على نفسه أنه شهد بالزور مخافة أن
يقر الشهيدان الباقيان أو أحدهما بمثل ما أقر به هو، إذ ليس في رجوعه هو
دليل على أنه سيرجع من سواه منهما، وكذلك لو نزع الشاهد الباقي بعد ذلك
لكان فضل ما بين الثلث والربع كدين طرأ أيضا عليه يؤخذ ذلك من ورثته، وذلك
أنه يجب عليه برجوع أحد الشهيدين نصف الدية،
(10/55)
وهو الربع، ويجب عليه برجوع الشاهد الثاني
ثلث جميع الدية، وبالله التوفيق.
[مسألة: شهادة المختفي]
مسألة وسئل: عن رجلين أدخلهما رجل في بيت وأمرهما أن يسمعا ويحفظا ما سمعا،
ثم قعد برجل آخر من وراء البيت فاستنطقه حتى أقر له بماله عليه، فشهد
الرجلان بذلك، هل يلزمه ما شهدا به عليه على هذه الصفة أم لا يلزمه حتى يقر
على نفسه بالمال وهو ينظر إلى الرجلين اللذين يشهدان عليه؟ قال: أما الرجل
الذي يشهد عليه مثل الضعيف أو المخدوع أو الخائف الذي يخاف أن يكون إنما
استجهل أو استضعف أو خدع فلا أرى ذلك ثابتا عليه، ويحلف ما أقر بذلك إلا
لما يذكر ولا يدري ما يقول، وأما الرجل الذي يقر على غير ما وصفت لك
ولإقراره ذلك وجه من الأمر عسى أن يقول في خلوته تلك أنا أقر لك خاليا ولا
أقر لك عند البينة بأمر يعرف وجه إقراره وناحية ما طلب منه فإنه عسى أن
يثبت ذلك عليه، وقال عيسى بن دينار: أرى ذلك ثابتا عليه.
قال محمد بن رشد: لا إشكال في أنها لا تجوز على القول بأن شهادة السماع لا
تجوز، وهي أن يشهد الشاهد على الرجل بما سمع من إقراره دون أن يشهده على
نفسه، وهو أحد قول مالك في المدونة وقول ابن أبي حازم وابن الماجشون
وروايته عن مالك في المدنية ومثله لمالك في كتاب ابن المواز قال: لا يشهد
الرجل على الرجل بما سمع من إقراره على نفسه دون أن يشهده على ذلك إلا أن
يكون قاذفا، فإنما اختلف في شهادة المختفي الذين يجيزون شهادة السماع، وهو
قول ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة أن الشاهد يشهد على الرجل بما
(10/56)
سمع من إقراره وإن لم يشهده إذا استوعب
كلامه، وهو قول أشهب وسحنون وعيسى بن دينار، وعامة أصحاب مالك وأكثر أهل
العلم، فهؤلاء منهم من أجاز شهادة المختفي على الإطلاق وأباح له الاختفاء
بحملها، وهو قول عمرو بن حريث، حكى ذلك البخاري عنه في كتابه، قال: وكذلك
يفعل بالكاذب الفاجر، واحتج لإجازة ذلك بحديث ابن عمر: «أن رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انطلق وأبي بن كعب يوما إلى النخل
التي فيها ابن صياد، حتى إذا دخل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - الحائط طفق يتقي بجذوع النخل وهو يختل أن يسمع من ابن صياد
شيئا قبل أن يراه وابن صياد مضطجع في فراشه في قطيفة له فيها رمرمة أو
زمزمة فرأت أم ابن صياد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو
يتقي بجذوع النخل فقالت لابن صياد: أي صاف هذا محمد فتناهى ابن صياد، قال
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لو تركته بين» ومنهم من
لم يجزها على
(10/57)
الإطلاق، وإلى هذا ذهب سحنون، وذلك أنه سئل
عن شهادة المختفي فقال: حدثني ابن وهب أن الشعبي وشريحا كانا لا يجيزانها،
ومنهم من كره له الاختفاء لتحملها وقبلها إذا شهد بها وهم الأكثر، وهو ظاهر
قول عيسى بن دينار ههنا خلاف قول ابن القاسم في تفرقته بين من يخشى أن
ينخدع لضعفه وجهله بما يقربه على نفسه، وممن يؤمن ذلك منه لنباهته ومعرفته
بوجه الإقرار على نفسه، ولعله يقول: إنما أقر لك حيث لا يسمعني أحد، فيتبين
أنه إنما يذهب إلى اقتطاع حقه، ولو أنكر الضعيف الجاهل الإقرار جملة للزمته
الشهادة به عليه، وإنما يصدق عنده مع يمينه إذا قال إنما أقررت لوجه كذا
مما يشبه، وبالله التوفيق.
[مسألة: يشهدان على صبي أنه جرح إنسانا
والشاهدان أعداء لوصي الصبي]
مسألة وسئل ابن القاسم: عن الرجلين يشهدان على صبي أنه جرح إنسانا
والشاهدان أعداء لوصي الصبي هل تجوز شهادتهما؟ قال ابن القاسم: أرى
شهادتهما جائزة، وكذلك أيضا إذا شهدا على الميت بدين عليه أن شهادتهما
جائزة، ولا ينظر إلى عداوة الشهداء للوصي، وأما إذا شهدا على صغير أو كبير
حائز لأمره والشهداء أعداء لأبي المشهود عليه فشهادتهما غير جائزة ولو كانا
مثل أبي شريح وسليمان بن القاسم، قيل لسحنون: فإن شهد رجل بيني وبينه عداوة
على أبي أو على ابني أو على أخي بمال هل تجوز شهادته عليه؟ فقال: نعم
شهادته على والدك وابنك وأخيك جائزة بالمال، قيل: فإن شهد عليهم بقصاص أو
حد؟ قال: لا تجوز شهادته وليس القصاص كالأموال، وكذلك في الجرحة لا تجوز
شهادته في تجريح أبيك أو ابنك أو أخيك.
قال محمد بن رشد: معنى إجازة ابن القاسم شهادة أعداء الوصي على الصبي بجرح
إذا لم يكن له بيد الوصي مال يؤخذ منه دية الجرح، أو
(10/58)
إذا كانت دية الجرح الثلث فصاعدا؛ لأن عمد
الصبي خطأ، فالعاقلة تحمل منه ما بلغ الثلث، وكذلك إجازته لشهادتهم بدين
على الميت معناه إذا كانت الشهادة قبل أن يصير المال بيد الوصي، وأما إذا
شهدوا بعد أن صار المال بيده فشهادتهم عليه غير جائزة؛ لأنهم يتهمون على
إخراج المال من يده بالعداوة، وكذلك حكى ابن حبيب في الواضحة عن مطرف وابن
الماجشون وأصبغ، وذلك تفسير لقول ابن القاسم، وأما شهادة أعداء الرجل على
ابنه أو على أبيه فقال ابن القاسم فيها: إنها غير جائزة يريد في المال
والجراح، وذلك على أصله الذي تقدم له في رسم جاع من أن شهادة الرجل لا تجوز
لامرأة أبيه ولا لامرأة ابنه ولا لزوج ابنته [ولا لابن زوجته] ولا لأبويها،
وقال سحنون فيها: إنها جائزة في الأموال دون الجراح والقتل والحدود، وذلك
على أصله أيضا في أن شهادة الرجل تجوز لامرأة أبيه وامرأة ابنه وزوج ابنته
وابن زوجته وأبويها في المال، إذ لا فرق بين شهادة الرجل لولد من لا تجوز
له شهادته وبين شهادة الرجل على ولد من لا تجوز عليه شهادته، فمنع ابن
القاسم من إجازة الشهادة في الوجهين، وأجازها سحنون في الوجهين، ولا اختلاف
بينهما في أنها لا تجوز فيما عدا المال من الجراح والقتل والحدود، وحكى
محمد بن سحنون: أن محمد بن رشيد خالف أباه سحنونا في الجراح فساوى بينها
وبين المال في جواز الشهادة بخلاف القتل والحدود فلا اختلاف بينهم في أنها
لا تجوز في القتل والحدود، وأما التجريح في ذلك فيجري على الاختلاف في ذلك
ولا يخالف ابن القاسم سحنونا في أن شهادة العدو تجوز في المال على أخي
عدوه، وبالله التوفيق.
[مسألة: يشهد على الرجل بأربعين دينارا ثم يقول
الحق خمسون]
مسألة قال عيسى: سألت ابن القاسم عن الذي يشهد على الرجل
(10/59)
بأربعين دينارا فيقضى عليه بشهادته، ثم
يأتي بعد ذلك فيقول: الحق خمسون، ولكني نسيت، وقد كان ادعى ذلك صاحب الحق
أو لم يدعه، هل يقبل ذلك منه وتقبل شهادته؟ قال ابن القاسم: إن كان عدلا
مشهور العدالة ممن لا يتهم رأيت أن تجوز؛ لأنه يقول: ذكرت وإن كان على غير
ذلك لم أر أن تجوز.
قال القاضي: هذه مسألة ستأتي بكمالها في أول سماع يحيى، فهناك يأتي الكلام
عليها إن شاء الله، وقد مضى طرف منه في أول رسم من سماع ابن القاسم، وبالله
التوفيق.
[مسألة: يهجر الرجل فيسلم عليه ولا يكلمه هل
تراه قد خرج من الشحناء]
مسألة وعن الرجل يهاجر الرجل ثم يبدو له فيسلم عليه من غير أن يكلمه في غير
ذلك وهو مجتنب لكلامه هل تراه قد خرج من الشحناء؟ قال: سمعت مالكا يقول: إن
كان مؤذيا له فقد برئ من الشحناء، قال ابن القاسم: وأرى إن كان غير مؤذ له
أنه غير بريء من الشحناء، قلت: فهل ترى شهادته غير جائزة عليه باعتزاله وهو
غير مؤذ له؟ فقال: لا تقبل شهادته عليه.
قال الإمام القاضي: معنى قول مالك وابن القاسم: إن المسلم يخرج من الشحناء
إن كان المسلم عليه مؤذيا للذي ابتدأ بالسلام ولم يضر الذي ابتدأ بالسلام
تركه لكلام المؤذي، وإن كان المسلم عليه غير مؤذ للذي ابتدأ بالسلام فلا
يخرج الذي ابتدأ بالسلام سلامه من الشحناء حتى يكلمه إذ لا عذر له في ترك
كلامه، فإذا كان مؤذيا له جازت شهادته عليه إذا سلم عليه، وإن لم يكن مؤذيا
له لم تجز شهادته عليه حتى يرجع إلى كلامه، وحكى ابن حبيب عن مطرف وابن
الماجشون أنه إن كان الذي بينهما خاصا فلا يخرج من الهجران ولا تجوز شهادته
عليه حتى يرجع إلى كلامه، وإن لم يكن الذي بينهما خاصا برئ من الهجران
بالسلام وإن لم
(10/60)
يكلمه وجازت شهادته عليه، وقد مضى هذا
المعنى في أول رسم من سماع أشهب، وبالله التوفيق.
[: بينهما عبد فشهد كل واحد منهما على صاحبه
أنه أعتق نصيبه وهما منكران جميعا]
ومن كتاب العتق وسئل ابن القاسم: عن رجلين بينهما عبد أو عبدان فشهد كل
واحد منهما على صاحبه أنه أعتق نصيبه وهما منكران جميعا، قال: لا أرى أن
تجوز شهادة واحد منهما على صاحبه، وبلغني عن مالك أنه قال ذلك.
قلت لابن القاسم: فيحلفان؟ قال: لا أرى موضع اليمين؛ لأنه لا تجوز شهادة
واحد منهما على صاحبه، قال: وقد قال مالك: كل من شهد على رجل بشهادة فكان
غير عادل في شهادته أو متهما فيها فإنه لا يمين على المشهود عليه بشهادته.
قال محمد بن رشد: لا اختلاف في أن شهادة كل واحد منهما غير جائزة على صاحبه
إذا لم يكن لهما مال سوى العبد إذ لا تهمة على الشاهد منهما في شهادته على
صاحبه إذا لم يكن للمشهود عليه مال، فإن كان معه شاهد آخر تمت الشهادة وقضي
عليه بعتق نصيبه، وإن لم يكن معه شاهد غيره لزمته اليمين بشهادته أنه ما
أعتق نصيبه، ولا اختلاف أيضا في أن شهادة كل واحد منهما على صاحبه بعتق
نصيبه لا تجوز إذا كان للمشهود عليه مال يلزمه فيه التقويم؛ لأن الشاهد
يتهم على أنه إنما شهد عليه ليقوم له عليه نصيبه [وإنما الاختلاف إذا لم
تجز شهادته هل يعتق عليه نصيبه أم لا؟ فقيل: إنه لا يعتق عليه، وهو ظاهر
قول ابن القاسم في هذه الرواية، ودليل قول غيره في العتق الثاني من المدونة
ودليل أحد قولي ابن القاسم فيه أيضا، وقيل: إنه يعتق عليه نصيبه] لأنه مقر
على نفسه بوجوب عتقه
(10/61)
على شريكه بالتقويم، وهو المنصوص لابن
القاسم في المدونة وفي رسم المكاتب من سماع يحيى بعد هذا من هذا الكتاب،
واختلف إذا لم تجز شهادته عليه لملائه هل تلزمه اليمين بشهادته أم لا؟
فقيل: إنه لا تلزمه يمين، وهو قوله في هذه الرواية وفي رسم الشجرة من سماع
ابن القاسم المتقدم وفي نوازل سحنون، وقيل: إن ذلك آكد من الخلطة فتجب عليه
اليمين، وقد مضى القول على ذلك في رسم الشجرة من سماع ابن القاسم المتقدم
فلا معنى لإعادته.
[مسألة: حضره الموت فقال ما شهد به ابني علي من
دين فهو مصدق]
مسألة وسئل مالك: عن رجل قال عند موته أو في حياة منه وصحة: ما شهد به علي
فلان فهو مصدق في ديون الناس قبلي، والمسمى عبد له أو لغيره أو رجل محدود
أو نصراني أو امرأة قال: سمعت مالكا يقول في رجلين تنازعا في أمر فقال
أحدهما لصاحبه: فلان يشهد عليك بما أقول، فقال الآخر: اشهدوا أن ما قال
فلان حق وأنا أرضى به، فسئل فشهد فقال: ما أقر ولا أرضى به ولا ظننت يشهد
بمثل هذا، قال مالك: لا يلزمه شيء مما قال، قال ابن القاسم: يريد أن يرد
إلى وجه ما يحكم به الحاكم، ولا يلزمه رضاه بالرجل، وسئل عن رجل حضره الموت
فقال: ما شهد به ابني علي من دين أو شيء فهو مصدق من دينار إلى مائة دينار
أو لم يوقت وقتا ثم مات فشهد ابنه بذلك لقوم بديون، وشهد لبعض الورثة بدين
أيضا، قال: لا يثبت ذلك عندي إلا بيمين إن كان عدلا قال: ومذهبه عندي مذهب
القضاء، قال: وإن لم يكن عدلا أو نكل المشهود له عن اليمين لزم الشاهد قدر
ميراثه من هذا
(10/62)
الدين، وإن كان سفيها لم يجز إقراره في
ميراثه ولم يحلف طالب الحق.
قلت: وهذا قول مالك في السفيه إن إقراره لا يلزمه؟ قال: نعم.
قال محمد بن رشد: كذا وقعت هذه المسألة: وسئل مالك عن رجل قال عند موته أو
في حياة منه وصحة: ما شهد به علي فلان فهو مصدق إلى آخر السؤال، وهو غلط؛
لأن المسئول إنما هو ابن القاسم، وذلك أنه سئل عن الرجل يشهد على نفسه في
صحته أو في مرضه أن فلانا مصدق فيما يشهد به علي من ديون الناس، فذهب إلى
أن ذلك لا ينفذ عليه ولا على ورثته بعده ولا يلزمهم ذلك إلا على وجه ما
يحكم به من شهادة الشاهد العدل، واحتج لذلك بما سمعه من مالك في الرجلين
يتنازعان في الأمر فيرضى أحدهما فيه بشهادة رجل أن ذلك لا يلزمه، وقد مضى
في رسم الشجرة من سماع ابن القاسم تحصيل الاختلاف في مسألة الرجلين
يتنازعان في الشيء فيرضى أحدهما في ذلك بشهادة رجل هل يلزمه ما شهد عليه أم
لا؟ ولا يدخل شيء من ذلك الاختلاف عندي المسألة التي سئل عنها ابن القاسم؛
لأن قوله في صحته أو في مرضه: ما شهد به علي فلان وهو ممن تجوز شهادته أو
لا تجوز من ديون الناس قبلي فهو مصدق في ذلك حكم على ورثته، فلا يجوز له أن
يوصي بذلك، ولم يرد ابن القاسم بما احتج به من قول مالك المساواة بين
المسألتين، وإنما وجه ما ذهب إليه أن مالكا إذا قال في مسألة المتنازعين إن
التصديق لا يلزم فيه وإن كان قد قيل: إنه يلزم فأحرى ألا يلزم في مسألة
الذي أوصى أن يصدق فلان فيما يشهد به عليه من الديون، وكذلك مسألة الذي
حضره الموت فقال، ما شهد به ابني علي من دين أو شيء فهو مصدق من كذا إلى
كذا أو دون توقيف لا يدخل الاختلاف المذكور فيه لما ذكرنا من
(10/63)
أنه حكم على ورثته وإن كان أصبغ قد أنكر
هذه الرواية في الواضحة، وقال: لا أعرفها من قوله، ولكن يصدق من جعل إليه
التصديق كان عدلا أو كان غير عدل كقول مالك فيمن قال: وصيتي عند فلان فما
أخرج فيها فأنفذوه أن ذلك نافذ، وما استثنى مالك عدلا من غير عادل، وذلك
سواء ما لم يسم من يتهم عليه تهمة بينة من أقاربه ممن هو كنفسه فإنكاره ليس
بصحيح إذ لا يشبه مسألة الوصية التي شبهها بها مسألة التصديق في الشهادة
بالدين لوجوه منها أن الثلث له حيا وميتا، فله أن يوصي به لمن شاء من غير
الورثة بخلاف إقراره بالديون، وأيضا فإن الوصية قد خفف أمر الشهادة فيها
بخلاف غيرها فأجيز فيها شهادة الموصى له فيها بالشيء اليسير، وأجاز بعض أهل
العلم فيها شهادة الكافر في السفر، وقول أصبغ: إن مالكا لم يشترط العدالة
في مسألة الوصية ليس بصحيح أيضا؛ لأن الذي له في رسم البر من سماع ابن
القاسم من كتاب الوصايا اشتراط العدالة، وسحنون هو الذي قال: إن قول الذي
قال الميت صدقوه مصدق عدلا كان أو غير عدل وهو ظاهر ما في المدونة
والموازية، وبالله التوفيق.
[مسألة: هلك وترك ابنين فاختلفا في وصية ألف
دينار لرجل]
مسألة وسألته: عن رجل هلك وترك أربعة من الولد فشهد اثنان لرجل بألف دينار،
وقال الآخران: هي لفلان لغير ذلك الرجل وصية، قال: يقضى بأعدل الشهود، قلت:
فإن استويا في العدالة؟ قال: تقسم الألف بينهما، قلت له: فرجل هلك وترك
ابنين فاختلفا في وصية ألف دينار لرجل قال أحدهما: هو فلان، وقال الآخر: بل
فلان؟ قال: يدعى اللذان أوصى لهما بالألف إلى الأيمان فإن حلفا كلاهما مع
شهادة الابنين لهما اقتسما الألف، وإن نكل أحدهما كانت الألف لمن حلف
منهما. قلت: فإن نكلا عن اليمين وقالا: لا علم لنا؟ قال: أرى أن يدفع كل
واحد منهما من الابنين الذي يصيبه من الألف إذا قسمت على الورثة إلى من
(10/64)
شهد له، قال: وإن لم يكن غيرهما وكانت تخرج
من الثلث أذياها، وإن كان معهما غيرهما لم يكن عليهما أكثر مما صار في
أيديهما منها.
قال محمد بن رشد: قوله في المسألة الأولى يقضى بأعدل الشهود صحيح على مذهب
ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة وغيرها؛ لأن البينة قد كذبت بعضها
بعضا في عين المشهود له وفيما شهدت له به إن كان دينا أو وصية، وأما قوله:
إن الألف تقسم بينهما إذا استويا في العدالة فمعناه إن حملها الثلث ولم يكن
للميت وارث غيرهم، مثال ذلك أن يترك المتوفى ثلاثة آلاف دينار ولم يترك من
الورثة سوى الأربعة بنين، فإنه يقال للابنين اللذين شهدا بالوصية: ادفعا
إلى الذي شهدتما له خمسمائة دينار ثلث ما ورثتماه، ويقال للآخرين اللذين
شهدا بالدين: ادفعا إلى الذي شهدتما له نصف دينه؛ لأنكما قد ورثتما نصف مال
المتوفى؛ وذلك لأن البينتين إذا تكافأتا في العدالة سقطتا ووجب على كل واحد
من الشهود أن يعطي الذي شهد له ما يجب له في حظه من الميراث لو ثبت ما شهد
له به ولم يجب على سائر الورثة شيء إن كان للميت وارث سواهم، بيان هذا أنه
لو ترك المتوفى ألفي دينار وأربعمائة دينار وترك ثمانية من الولد فشهد
اثنان منهم لرجل بألف دينار، وقال آخران منهم: بل هي لفلان لغير ذلك الرجل
وصية لوجب على اللذين شهدا بالوصية أن يدفعا إلى الذي شهدا له بها ثلث ما
يجب لهما بالميراث وذلك مائتا دينار؛ لأنه يجب لكل واحد منهما ثلثمائة
دينار، ولو وجب على اللذين شهدا بالدين أن يدفعا إلى الذي شهدا له ربع ما
يجب لهما بالميراث، وذلك مائة وخمسون دينارا خمسة وسبعون من نصيب كل منهما؛
لأنه يجب لكل واحد منهما ثلثمائة دينار، ولم يجب على سائر البنين فيما
ورثاه شيء إذا لم تثبت الشهادة لواحد منهما وبطلت بتكذيب بعضها بعضا، وقد
رأيت لابن دحون أنه قال: ولو كان الثلث لا يحمل الألف لبطلت شهادة اللذين
شهدا أنها وصية، وكانت الألف للذي شهد له الآخران بها دينا؛ لأن اللذين
شهدا أنها وصية يجران إلى أنفسهما؛ لأن ما لم يحمل الثلث من الألف يكون على
قولهما ميراثا لهما ولسائر الورثة
(10/65)
فيتهمان على ذلك، وهما كما قال إذا تقدمت
الشهادة بالدين، وأما إن تقدمت الشهادة بالوصية أو جاء الشهود معا فلا وجه
للتهمة في ذلك، ويأتي على رواية المدنيين عن مالك أن تعمل الشهادتان جميعا
حمل الثلث الألف أو لم يحملها، فيقضي بالألف من رأس المال للذي شهد له
الابنان أنها دين له، ويقضي بالألف من ثلث بقية المال للذي شهد له الآخران
أنها له وصية إن حملها الثلث وإلا فما حمل منها، ولو كان المشهود له رجلا
واحدا فقال الابنان: أوصى له بألف دينار وصية، وقال الآخران: بل أقر له بها
دينا لكانت له الألف بشهادتهما جميعا حملها الثلث أو لم يحملها على القول
بأن الشهادة تلفق إذا اتفقت فيما يوجبه الحكم وإن اختلفت في اللفظ والمعنى،
وعلى القول بأنها لا تلفق يقضي بأعدل البينتين فإن استوتا في العدالة سقطتا
ووجب على كل واحدة من البينتين للمشهود له ما يجب له في نصيبه بإقراره له،
وكذلك لو كانا ابنين فشهدا له بألف، وقال أحدهما: هي وصية، وقال الآخر: بل
هي دين لتخرج الأمر أيضا على الاختلاف في تلفيق الشهادة، فعلى القول بأنها
تلفق تكون له الآلف بشهادتهما إن حملها الثلث، وإن لم يحملها الثلث كان
المشهود له بالخيار إن شاء أخذ ما حمل الثلث من الألف دون يمين، وإن شاء
حلف مع شهادة الذي شهد له بها أنها دين وأخذ جميعها، وعلى القول بأنها لا
تلفق لا بد له من اليمين فيحلف مع أيهما شاء ويأخذ ما وجب له بشهادته، وقد
مضى في رسم العرية تحصيل القول فيما يلفق من الشهادات المختلفات مما لا
يلفق منها فلا معنى لإعادته، وأما المسألة الثانية فهي صحيحة بينة في
المعنى، وفيما مضى ما فيه بيان لها؛ لأن الشهود إذا اختلفوا في أعيان
المشهود لهم فقد أكذب بعضهم بعضا، وإنما قال: إن الموصى لهما يحلف كل واحد
منهما مع شهادة الابنين لهما أو يحلف كل واحد منهما مع الذي شهد له منهما؛
لأن الشاهدين لا تبطل شهادتهما بتكذيب بعضهما بعضا، ولو كانوا أربعة فشهد
اثنان منهم أنه أوصى لرجل بألف، وقال الآخران: بل إنما أوصى بها لفلان رجل
آخر لسقطت الشهادتان جميعا ولم يكن لواحد من المشهود لهما إلا ما يجب له في
نصيب الذي شهد له بإقراره، وبالله التوفيق.
(10/66)
[مسألة:
الشهادة لا تثبت إلا برجلين أو رجل وامرأتين]
مسألة وسألته: عن امرأتين شهدتا على شهادة رجل وشهد معهما امرأتان على حق
من الحقوق هل يجوز ذلك؟ قال مالك: تسقط شهادة المرأتين على شهادة الرجل
ويحلف صاحب الحق مع شهادة المرأتين اللتين شهدتا على أصل الحق، قال: ولا
تجوز شهادة النساء على شهادة رجل لو كن ألفا إلا مع رجل؛ لأن الشهادة لا
تثبت إلا برجلين أو رجل وامرأتين، وامرأتان وألف امرأة سواء حيث لا تجوز
شهادتهن إلا مع رجل.
قال محمد بن رشد: هذا معلوم مشهور من مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك في
المدونة وغيرها أنه لا تجوز شهادة امرأتين على شهادة رجل إلا مع رجل، ولا
شهادة امرأتين على شهادة امرأتين إلا مع رجل، فلا يشهد على شهادة رجل ولا
على شهادة امرأتين إلا رجلان أو رجل وامرأتان خلاف مذهب ابن الماجشون
وسحنون في أن شهادة النساء لا تجوز ألا فيما يجوز فيه شاهد ويمين، وقد مضى
هذا في رسم العشور.
[مسألة: شهد على شهادة نفسه]
مسألة وسألته: عن رجل شهد على شهادة نفسه وشهد مع آخر على شهادة رجل في ذلك
الأمر نفسه، قال: لا أرى أن تجوز شهادته إلا على شهادة نفسه، وأما على
شهادة رجل يشهد بمثل ما شهد به فلان فإنه لا يجوز؛ لأنه كأنه عاد في تحقيق
شهادته.
قال القاضي: هذا بين على ما قاله؛ لأنه إذا شهد بشهادة وشهد مع آخر على
شهادة رجل بتلك الشهادة فلم يتم الحكم إلا بشهادته وحده، وهذا نحو ما تقدم
في رسم شهد على شهادة ميت في الشاهدين بالحق يزكي أحدهما صاحبه.
(10/67)
[مسألة: تعديل
الأخ أخاه وشهادته له]
مسألة قلت لابن القاسم: هل يجوز أن يعدل الرجل امرأته والمرأة زوجها والأخت
أخاها والأخ أخته؟ قال مالك: لا تعدل المرأة أحدا لا امرأة ولا رجلا لا
فيما تجوز شهادتهن ولا في غيره، قال: والرجل لا يقبل منه تعديل امرأته كما
لا تجوز شهادته لها.
قلت: فالأخ لأخته؟ قال: نعم؛ لأن شهادته تجوز لها إذا كان عدلا.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: إنه من لا يجوز للرجل أن يشهد له فلا يجوز
له أن يعدله؛ لأنه إذا اتهم في شهادته له فهو أحرى أن يتهم في تعديله إياه،
ألا ترى أنه قد اختلف في تعديل الأخ أخاه وشهادته له جائزة، وقد مضى تحصيل
الاختلاف في ذلك في أول رسم من سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادته.
[مسألة: شهادة الوارث فيما وهب من مال موروثه
في مرضه]
مسألة وسألته: عن رجل حضره الموت وله أخوان شاهدان في ذكر حق، فقال لهما:
إنه لا شاهد لي غيركما، وأنتما ترثاني وابنتي فلانة، فلو أسلمتما لها
ميراثكما مني أو وهبه أحدكما صاحبه ليكون الواهب شاهدا ففعل وتصدق على أخيه
بموروثه، ثم هلك الرجل، قال: لا تجوز شهادته؛ لأنه حق قد ثبت لهما في
المرض، فلا أراه يجوز.
قال محمد بن رشد: لم يجز ابن القاسم في هذه الرواية شهادة الوارث فيما وهب
من مال موروثه في مرضه، وأعتل لبطلانها بأن ذلك حق وجب له في مرض الميت فلم
تجز شهادته فيه إذ لا تجوز شهادة أحد فيما وهب من ماله لابنه؛ لأنه يتهم في
تصحيح هبته، وفي قوله لأنه حق قد ثبت لهما في المرض نظر إذ لا يجب لهما
الميراث إلا بعد موته، وإنما يجب
(10/68)
لهما في مرضه التحجير فيما زاد على الثلث،
وفي الوصية لوارث، وقد أجاز أصبغ في نوازله بعد هذا من هذا الكتاب شهادتهما
في ذلك، وأعتل لهما بأنهما خرجا عنه بالهبة قبل أن يصير إليهما بالملك
التام، فتأول بعض الناس عليه أن الهبة على تعليله لا تلزمهما، وليس ذلك
بصحيح، إذ لو لم تلزمهما الهبة إلا أن يجيزاها بعد موته لما صح أن تجوز
شهادتهما؛ لأن إجازتهما لهبتهما بعد موته كابتداء الهبة، وإجازته لهبتهما
ولشهادتهما بين من قوله فلا أعرف نص خلاف في أن هبة الوارث لميراثه في مرض
الموروث جائزة وهو بين من قول ابن القاسم في هذه الرواية ونص من قوله في
رسم الأقضية والحبس من سماع أصبغ من كتاب الصدقات والهبات؛ لأنه قال فيه:
إن ذلك يلزمه إلا أن يقول: كنت أظنه يسيرا لا أعلم أنه يبلغ هذا القدر
ويشبه ذلك من قوله فيحلف على ذلك ولا يلزمه، ومثله لمالك في الموطأ؛ لأنه
قال فيه: إن الميت إذا قال لبعض ورثته إن فلانا- لأحد من ورثته- ضعيف، وقد
أحببت أن تهب له ميراثك فأعطاه إياه أن ذلك جائز إذا سماه له الميت، إذ لا
فرق بين أن يهب أحد الورثة ميراثه لمن سواه من الورثة أو لأجنبي من الناس
ولا بين أن يسميه له الميت أو لا يسميه له، وما في رسم نقدها من سماع عيسى
من كتاب الصدقات والهبات محتمل للتأويل على ما سنذكره إذا مررنا به إن شاء
الله، ومن الناس من ذهب إلى أن هبة الوارث لميراثه هي مرض الموروث لا تجوز؛
لأنه وهب ما لم يملك بعد على ما في المدونة من أن المريض إذا استأذن ورثته
في أن يوصي لبعضهم، فأذنوا له لزمهم إذ لم يحكم له بحكم المالك في الميراث
للمرض، وإنما كان له التحجير على موروثه فيه، فإذا رفع عنه التحجير بالإذن
لزمه وإن لم يكن مالكا للمال، وقال: إن ذلك يقوم أيضا من قول مالك في
الموطأ إن الوارث إذا وهب لموروثه في مرضه ميراثه منه فمات قبل أن يقضى فيه
أنه يرد إليه، إذ لو أجاز هبته له لقال: إنه لا يكون له من ذلك إلا ميراثه
منه، قال: فكما لا تجوز هبته له من أجل أنه لم يتقرر له
(10/69)
عليه ملك فكذلك لا تجوز لغيره، وليس ذلك
بصحيح، والفرق بينه وبين غيره أنه إذا وهبه له فقد علم أن القصد في ذلك
إنما هو ليرفع الحجر عنه في أن يصرفه إلى من أحب من الورثة، إذ لا يحتاج
إلى هبته إن صح ولا ينتفع بها إن مات، فإذا لم يقض فيها بشيء حتى مات رجعت
إلى الواهب، وإذا وهبه لغيره فقد ملكه بالهبة ما وهبه إياه، ولا يقال إن
ذلك لا يجوز من أجل أنه وهبه ما لم يملكه بعد؛ لأنه لم يثبت له الآن، وإنما
وهبه له بشرط ملكه له بموت موروثه، كما لو قال: إن ملكت فلانا فهو حر أو إن
ملكته فهو لفلان، فلا فرق في وجه القياس بين صحة الموروث ومرضه في هبة
الوارث لميراثه منه، والتفرقة في ذلك بين الصحة والمرض استحسان، ويتحصل على
هذا في المسألة ثلاثة أقوال: الجواز، والمنع، في الحالين، والفرق بينهما
وبالله التوفيق.
[مسألة: من كان عدلا مؤتمنا فلا يحتاج إلى
اختبار صدقه]
مسألة وسئل: عن رجل يعرف الدابة أو الرأس ويشهد له على ذلك هل يجمع له دواب
أو رقيق فيدخل فيهم، ثم يقول للشهود أخرجوها؟ قال: لا ليس ذلك على أحد في
دواب ولا رقيق ولا ثياب ولا غير ذلك، وهذا خطأ ممن يفعله إذا كان الشهود
عدولا لا يشك في عدالتهم قبل شهادتهم، ولم يلتمس منهم غير ذلك.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأن من لا يؤتمن في قوله حتى يختبر
صدقه من كذبه فليس ممن تجوز شهادته، ومن كان عدلا مؤتمنا في قوله مقبول
الشهادة فلا يحتاج إلى اختبار صدقه من كذبه، وبالله التوفيق.
[مسألة: شهد لرجل بحق على رجل وعلى الشاهد نفسه
حق عليهما جميعا]
مسألة وسئل: عن شاهد شهد لرجل بحق على رجل وعلى الشاهد
(10/70)
نفسه حق عليهما جميعا وليس للمشهود له
عليهما أيهما شاء أخذه بحقه قضاه أحدهما ثم شهد له صاحبه، قال: تجوز شهادته
إذا كان عدلا على ما ذكرت، وليس في هذا تهمة إذ لم تقع شهادته على المشهود
عليه بشيء ينتفع به الشاهد أو يكون عليه.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأنه إذا لم يكن بعضهما حميلا ببعض
فلا منفعة للشاهد الذي لم يقض ما عليه في قضاء صاحبه ما عليه، إذ لا يلزمه
إلا ما عليه، قضى صاحبه ما عليه أو لم يقض، وبالله التوفيق.
[مسألة: الترجيح بين البينتين هل يكون بزيادة
العدالة خاصة]
مسألة وسئل ابن دينار: عن الرجلين يدعيان الشيء فيأتي كل واحد منهما ببينة
لا يعرفها الإمام إلا بالتعديل فيعدل هل يقضي بذلك الشيء لمن هو أعدل
معدلين بمنزلة الشهداء إذا كان بعضهم أعدل من بعض، فقال: ما علمت ذلك إلا
في الشهداء ولا أرى ذلك في المعدلين.
قال محمد بن رشد: هذا قول ابن الماجشون في الواضحة، وروى مطرف عن مالك فيها
أنه يؤخذ بأعدل المعدلين، وهذا الاختلاف مبني على الترجيح بين البينتين هل
يكون بزيادة العدالة خاصة أو بزيادة العدالة وبما يغلب به على الظن صحة
الشهادة من كثرة الشهود وما أشبه ذلك، فمن ذهب إلى أن الترجيح لا يكون إلا
بزيادة العدالة خاصة وهو مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك يقول: إنه يقضي
بأعدل المعدلين؛ لأن زيادة عدالة [أحد] المعدلين لا يفيد زيادة عدالة
المعدلين، وإنما يفيد زيادة غلبة
(10/71)
الظن بصحة عدالة المعدلين، وهو قول ابن
الماجشون وابن دينار، ومن ذهب إلى أن الترجيح يكون بزيادة العدالة وبما
يغلب به على الظن صحة الشهادة من كثرة العدد وما أشبه ذلك يقول إنه يقضى
بأعدل المعدلين؛ لأن زيادة عدالتهم وإن لم تفد زيادة عدالة المعدلين، فإنها
تفيد زيادة غلبة الظن بصحة عدالتهم ككثرة العدد الذي يفيد زيادة غلبة الظن
بصحة الشهادة، وهو قول مالك في رواية مطرف عنه في هذه المسألة، وبالله
تعالى التوفيق.
تم كتاب الشهادات الثاني بحمد الله تعالى
(10/72)
|