البيان
والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة [: كتاب
الشهادات الثالث]
[: العدل يشهد عند القاضي ثم يعود فيزيد في
شهادته أوينقص]
كتاب الشهادات الثالث
(10/73)
من سماع يحيى بن يحيى من ابن القاسم من
كتاب الكبش قال يحيى: سألت ابن القاسم عن العدل يشهد عند القاضي ثم يعود
فيزيد في شهادته أو ينقص، فقال: إذا كان منقطع العدالة ممن لا يتهم في عقله
فما زاد أو نقص قبل أن يقع الحكم بعلمه فهو مقبول منه، وأما ما رجع عنه أو
نقصه فيما كان شهد به أو زاد كلاما فيه نقص الشهادة الأولى وذلك بعد أن
يحكم بشهادته فهو غير مقبول، ولا يفسخ الحكم الذي كان من تحويله شهادته،
ولا لما زاد أو نقص، وأما ما زاد بعد الحكم مما زعم أنه كان نسيه مثل أن
يكون شهد لرجل على رجل بثلاثين دينارا ثم يذكر أنها كانت خمسين فجاء يشهد
بتمام الخمسين، فإن ذلك يقبل منه وتجوز شهادته فيه.
قال محمد بن رشد: قوله: إذا كان منقطع العدالة ممن لا يتهم في عقله فما زاد
أو نقص قبل أن يقع الحكم بقوله فهو مقبول منه، يريد أنه يقبل قوله في أنه
شبه عليه فتجوز شهادته فيما يستقبل ولا يؤدب، ولو كان على غير ذلك من ظهور
عدالته لم يقبل قوله في أنه شبه عليه وردت شهادته فيما يستقبل، هذا دليل
قوله في هذه الرواية وظاهر ما في كتاب السرقة من المدونة، قال فيه ولو ودب
لكان لذلك أهلا، ومثله حكى ابن حبيب في
(10/75)
الواضحة عن مطرف وابن الماجشون وابن عبد
الحكم وأصبغ إلا أنه لم يذكر الأدب خلاف ظاهر ما في كتاب الأقضية من
المدونة أنه يقبل قوله في أنه شبه عليه، وإن لم يكن مبرزا في العدالة فتجوز
شهادته فيما يستقبل إلا أن يعرف منه كذب في شهادته فترد شهادته في هذا
وفيما يستقبل، يريد ويؤدب، وقال سحنون: لا يؤدب الراجع عن شهادته قبل الحكم
لئلا يمتنع من شهد على باطل عن الرجوع عن شهادته خوف العقوبة، كالمرتد إذا
تاب لم يعاقب، وقوله: فهو غير مقبول في الذي رجع بعد الحكم عن شهادته أو
نقص شيئا منها أو زاد كلاما فيه نقص الشهادة يريد أن قوله: لا يقبل في أنه
شبه عليه فيسقط عنه الغرم، بل يغرم وإن شبه عليه، وهو ظاهر ما في أول رسم
من سماع ابن القاسم ومثل ما في كتاب السرقة من المدونة، وقيل: معناه أن
قوله غير مقبول في فسخ الحكم؛ لأنه يمضي ولا يفسخ برجوعه عن شهادته باتفاق،
وقيل: معناه أن شهادته لا تقبل فيما يستقبل، وإن شبه عليه، وهو قول مالك في
كتاب الأقضية من المدونة خلاف قول سحنون: إنها لا ترد فيما يستقبل إذا شبه
عليه، فتحصيل القول في هذه المسألة أن الشاهد إذا رجع عن شهادته، وقد كان
شبه عليه فإن كان ذلك قبل الحكم بشهادته قبل رجوعه وجازت شهادته فيما
يستقبل، وإن كان ذلك بعد الحكم بها لم يرد الحكم، واختلف هل يضمن أم لا؟
وهل ترد شهادته فيما يستقبل أم لا؟. ويقبل قوله إنه شبه عليه إذا كان مبرزا
في العدالة باتفاق، وإذا لم يكن مبرزا فيها على اختلاف، وإذا رجع عن شهادته
أو عن شيء منها ولم يأت في رجوعه بما يشبه وتبين أنه تعمد الزور أدب ولم
تقبل شهادته فيما يستقبل كان رجوعه قبل الحكم أو بعده، وقيل: إنه لا يؤدب
إذا كان رجوعه قبل الحكم ويضمن ما أتلف بشهادته إذا كان رجوعه بعد الحكم،
ولا يرد الحكم، وبالله التوفيق.
[مسألة: ادعى عليه أنه شهد في ذكر حق له على
فلان فقال ما أذكر ثم ذكر]
مسألة قلت: فإن سئل وهو عند القاضي فقيل له: إن فلانا قد ادعى أنك تشهد في
ذكر حق له على فلان، فقال: ما أذكر أنه
(10/76)
أشهدني عليه بشيء وماله عندي علم، ثم انصرف
فذكر فعاد إلى القاضي بعد أيام فشهد في ذلك الحق أيقبل قوله؟ قال: نعم،
وتجوز في ذلك شهادته إن كان ممن لا يشك في عدله ولا يتهم في شيء من علمه،
ومثل ذلك المريض يسأل في مرضه عن علم كان عنده فيقول: مالك عندي علم، فيصح
فيشهد في ذلك الحق، فيقال: ما منعك أن تشهد إذ سألك وأنت مريض؟ فيقول: خفت
على نفسي الخطأ والوهم في الزيادة والنقصان لشدة ما كان بي من المرض إن ذلك
يقبل منه إذا كان لا يتهم لعدله وصلاح حاله، فتجوز في ذلك الحق شهادته.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول فيها مستوفى في أول رسم من سماع
ابن القاسم، فلا معنى لإعادته مرة ثانية، وبالله التوفيق.
[مسألة: استقال الشاهد قبل القضاء أو بعده
وادعى أنه غلط ثم تذكر]
مسألة قال سحنون: وأنا أقول إذا استقال الشاهد قبل القضاء أو بعد القضاء
وادعى أنه غلط ثم تذكر أو شبه عليه قبل قوله، وأقيل في شهادته فيما يستقبل
إذا كان عدلا مرضيا.
قال محمد بن رشد: أما إذا كان ذلك قبل القضاء فلا اختلاف في أنه يقبل قوله
فتجوز شهادته فيما يستقبل ولا يؤدب إذا كان عدلا مرضيا، وأما إذا استقال
بعد الحكم فقيل: إنه لا تجوز شهادته فيما يستقبل وإن شبه عليه، وهو قول
مالك في الأقضية من المدونة خلاف قول سحنون هذا إنه تجوز شهادته فيما
يستقبل إذا شبه عليه، وكذلك يختلف أيضا في وجوب الغريم [عليه] إذا شبه
عليه، وأما الأدب فلا يجب عليه إذا شبه عليه، وقد مضى فوق هذا القول على
ذلك كله مستوفى، وبالله التوفيق.
(10/77)
[مسألة: للقاضي
أن يكتب في تعديل من شهد عنده]
مسألة وسألته: عن القاضي يشهد عنده الرجل من بعض أهل الكور التي قد استقضى
لأهلها قاض، فإن سأله من يعدله لم يقدر الشاهد على ذلك، ولعله أن يكون من
أهل العدالة حيث يعرف بكورته، أترى للقاضي أن يكتب إلى قاضي بلده أن يعدل
عنده ثم يكتب إليه بالذي ثبت عنده من تعديله، والقاضي الذي شهد عنده يخاف
أن يكون قضاة الكور غير محتاطين في تعديل من قبلهم، فلعل الشاهد إن كان غير
عدل أن يتعدل لضعف حال القضاة، فقال: لا ينبغي للقاضي إذا شهد عنده من لا
يعرف أن يكتب في تعديله إلا إلى قاض يرضى حاله ويثق باحتياطه ويكون على
يقين من حسن نظره لنفسه في دينه، وما حمل من أمر من ولي النظر له، فإن كان
لا يثق به حتى لا يكون في نفسه مأمونا في دينه فطنا في نظره غير مخدوع
لغفلة فلا يكتبن إليه في تعديل أحد يشهد عنده، وإن كان في الكور رجال يرضى
القاضي حالهم ويعرف صلاحهم فليكتب إليهم سرا أن يسألوا له عن الشاهد سؤالا
حثيثا، قال: فإن كان عندهم مشهورا بالعدالة معروفا بالصلاح فكتبوا إليه
بذلك وهو بناحيتهم واثق أجاز شهادته وإلا تركه حتى يتعدل عنده بمن يرضى.
قال محمد بن رشد: قال في هذه الرواية وفي سماع زونان بعد هذا إنه لا يجوز
للقاضي أن يكتب في تعديل من شهد عنده إلا إلى قاض يرضى حاله ويثق باحتياطه
ولم ينص في شيء من ذلك هل يلزمه أن يكتب إليه في تعديل من شهد عنده إذا كان
من أهل العدالة والرضى أم لا يلزمه ذلك، والذي أقول به أنه يلزمه ذلك إذا
كان ذلك القاضي من أهل عمله على ما قاله في رسم الأقضية لابن غانم من سماع
أشهب من كتاب
(10/78)
الأقضية، ولا يلزمه ذلك إلا أن يشاء إذا لم
يكن ذلك القاضي من أهل عمله على ما يأتي في رسم الأقضية من هذا السماع بعد
هذا، إلا أن يكون المطلب في حق هو لله من طلاق أو عتق أو ما أشبه ذلك؛ لأنه
يلزمه أن يحتاط في الفروج بما يجد إليه السبيل من الكتاب إلى من يعلم
عدالته من القضاة، وأما ما لم يكن فيه حق لله فلا يلزمه السؤال عن الشاهد
إلا في موضعه، ويستحب له أن يكتب إلى أهل عمله من القضاة وإلى عدول موضع
الشاهد؛ لأن الكشف عن البينة على القاضي الذي شهدت عنده، فإذا عجز عن ذلك
كلف المشهود له تزكيتهم عنده، فهذه الروايات كلها يفسر بعضها بعضا، وقد حمل
بعض أهل النظر ما في هذا الرسم من هذا السماع وما في سماع زونان على أنه
يلزمه أن يكتب في تعديل من شهد عنده إلى قاضي موضعه، وإن لم يكن من أهل
عمله كما لو كان من أهل عمله، وهو من التأويل البعيد، وبالله التوفيق.
[مسألة: القاضي لا يقبل الشاهد إذا لم يعرفه]
مسألة وسئل ابن القاسم: عن الشاهد لا يعرفه القاضي بعدالة منقطعة ولا بحال
فاسدة وهو ممن يشهد الصلوات في المساجد ولا يعرف بأمر قبيح، أيجيز شهادته
أم لا؟ فقال: لا ينبغي له أن يقبل إلا عدلا ثابت العدالة.
قلت له: فصف لي الذين ينبغي أن يجيز شهادتهم على علمه بهم والذين يردهم على
علمه بهم ومن يجوز له الوقوف في أمره حتى يعدل عنده فقال: من عرفه بعدالة
ممن لو لم يكن قاضيا لزمه أن يعدله عند غيره إذا شهد ولم يسعه الوقوف في
تعديله أجاز شهادته إذا شهد عنده، ومن عرفه بسوء حال ممن لو لم يكن قاضيا
لزمه أن يجرحه عند غيره إذا استشهد به عليه رد شهادته إذا شهد عنده، ومن
كان لا يجيزه حسا فهو يرى ظاهرا
(10/79)
صالحا وليس بمداخل له ولا مختبرا حاله ولا
هو في نفسه بحال رضى ولا هو مطلع منه على شيء قبيح فليسأله من يعدله ممن هو
أخبر به منه، فإن لم يأت بمعدلين ممن يرضى وسعه ألا يجيز شهادته.
قال محمد بن رشد: قوله: إن القاضي لا يقبل الشاهد إذا لم يعرفه بعدالة ولا
سخطة، وإن كان ظاهر الصلاح بمشاهدة الصلوات في المساجد، وبأنه لا يعرف بأمر
قبيح هو قول جمهور أهل العلم ومذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجميع أصحابه
لا اختلاف بينهم فيه؛ لقول الله عز وجل: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ
الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] إذ لا يرضى إلا من تعرف عدالته، ومن أهل العلم
من قال: إن الشاهد محمول على العدالة بظاهر الإسلام فتجوز شهادته ويحكم
الحاكم بها إلا أن يجرحه المشهود عليه، وهو قول الحسن ومذهب الليث بن سعد
على ظاهر قول عمر بن الخطاب: " المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلودا في
حد أو مجربا عليه شهادة زور أو ظنينا في ولاء أو قرابة "، وقد أجاز ابن
حبيب شهادة من ظاهره العدالة بالتوسم فيما يقع في الأسفار بين المسافرين من
المعاملات والتجارات والأكرية بينهم وبين المكارين مراعاة لهذا القول، وحكي
ذلك عن مالك وأصحابه، وهو خلاف ظاهر قول ابن القاسم وروايته عن مالك في
المدونة إذ لم تجز شهادته للقرباء دون أن تعرف عدالتهم إلا أنه رخص في وجه
تعديلهم فأجاز فيهم التعديل على التعديل، وروي عن يحيى بن عمر أنه أجاز
شهادة من لم تعرف عدالته في الشيء اليسير، وذلك أيضا استحسان مراعاة لقول
الليث ومن ذهب مذهبه، ولما سأله عن حد العدالة التي إذا علمها القاضي من
الشاهد لزم قبول شهادته، قال: هو الذي يعلم من عدالته ما لو دعي إلى
(10/80)
تزكيته لزمه أن يزكيه، وليس بجواب مقنع؛
لأن السؤال يبقى عليه في حد العدالة التي إذا عرفها لزمته التزكية، وأحسن
ما يقال في حد العدالة التي تلزم بها التزكية وإجازة الشهادة هو أن يكون
الرجل مجتنبا للكبائر، متوقيا من الصغائر، متصاونا عن الرذائل؛ لأن ارتكاب
شيء من الكبائر فسوق، فمن أتى بكبيرة من الكبائر لم تجز شهادته حتى تعرف
توبته منها، والصغائر لا يمكن السلامة منها من جميعها بدليل قول الله عز
وجل لنبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: {لِيَغْفِرَ لَكَ
اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2] وقول
الخضر لموسى: واستكثر من الحسنات، فإنك لا بد مصيب السيئات، واعمل خيرا
فإنك لا بد عامل شرا، فمن لم يتوق منها ولا بالى بها لزمه اسم الفسق
بالإكثار منها، والكبائر قيل فيها: إنها سبع لحديث أبي هريرة عن النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «اجتنبوا السبع الموبقات،
قيل: وما هن يا رسول الله؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم
الله إلا بالحق، وآكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات
الغافلات المؤمنات» وسقط عن الراوي لهذا الحديث السابع وهو الزنى على ما
جاء في غيره من الأحاديث، وقد جاء أن من الكبائر عقوق الوالدين وأكل الربا
وشهادة الزور واستحلال بيت الله الحرام، ومما لا يختلف فيه أنه من الكبائر
شرب الخمر والحرابة والسرقة، وما أشبه ذلك كثير، وقد جاء عن بعض أصحاب
«النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه سئل عن الكبائر فعد منها
سبعة وقال: هن إلى السبعين أقرب» ولا يقال في شيء مما يعصي الله به إنه
صغير إلا بالإضافة إلى ما هو أكبر منه؛ لأن كل ما استوجب به فاعله العقاب
عليه من الله فهو كبير، هذا تحقيق القول في الصغائر والكبائر، وإنما شرطنا
في صفة الشاهد أن يكون متصاونا عن الرذائل؛ لأن صيانة العرض من الدين فمن
لم يصن عرضه لم يصن دينه، والله أعلم، وقوله ولم يسعه الوقوف عن تعديله يدل
على أن من دعي إلى تعديل شاهد يعلم عدالته وجب عليه أن يعدله فرضا واجبا
كما أنه
(10/81)
يلزمه فرضا واجبا أن يشهد بما علمه إذا دعي
إلى الشهادة لقول الله عز وجل: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ
يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283] وهو نص قول ابن
القاسم في المبسوطة، قال: إن وجد من يعدله غيره فهو في سعة وإلا لم يسعه
إلا أن يعدله ولا يبطل حق امرئ مسلم، وقال ابن نافع: إن أراد الذي يعرفه أن
يعدله فحسن، ووجه ذلك أنه لما كانت العدالة لا يقطع بها، وإنما يشهد أنه
عدل بما يظهر إليه من حاله بطول اختباره وسعة التوقيف عن الشهادة لاحتمال
أن يكون حاله على خلاف ما اختبر منه، وقول ابن القاسم أظهر؛ لأن الشهادة في
هذا طريقها غلبة الظن، إذ لا سبيل فيها إلى حقيقة العلم، فإذا غلب على ظنه
عدالته بطول الاختبار وجب عليه أن يزكيه كما يجب عليه أن يقبله ويحكم
بشهادته إذا شهد عنده، وبالله التوفيق.
[: القاضي يضرب الرجل ثم يعزل فيشهد على
المضروب في حق يعلمه قبله]
ومن كتاب الصبرة وسألته عن القاضي أو غيره من أهل العدل من ولاة السوق أو
الشرطة يضرب الرجل على ما ثبت عنده من نية ثم يعزل فيشهد على المضروب في حق
يعلمه قبله فيريد رد علمه عنه للذي كان من ضربه إياه أيكون ذلك له؟ فقال:
إن كان القاضي أو صاحب الشرطة أو صاحب السوق من أهل القناعة والعدل ممن لا
يتهم أن يكون ضربه تعديا عليه ولا يضرب مثلهم إلا في حق واجب على من ضربوا
فشهادة كل واحد منهم جائزة على من ضرب إذا شهد عليه بعد عزله أو في ولايته.
قلت له: أرأيت إن كان إنما شهد عليه في الأمر الذي
(10/82)
ضرب فيه أو لذلك الخصم الذي ضربه له في تلك
الخصومة بعينها أترى شهادته جائزة عليه؟ قال: لا أرى ذلك ولا أحب أن أجيز
علمه عليه في تلك الخصومة ولا ما جر إليها.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله إذ لا تهمة عليه في شهادته عليه في
غير ما ضربه فيه، ويتهم إذا شهد عليه في الخصومة التي ضربه فيها أو في شيء
مما جر إليها أنه إنما شهد عليه ليحقق عليه المعنى الذي ضربه من أجله فيسقط
عن نفسه الظنة في ضربه إياه، قال أصبغ في الواضحة: ولو شهد المضروب عند وال
غيره على حق فأعلمه أنه غير عدل، وأني قد ضربته حدا من حدود الله فإني أرى
أن ترد شهادته بقوله وحده، وأما بعد عزله فلا يجوز ذلك عليه شهادته ليجرحه
بذلك؛ لأنه يريد أن ينفذ حكمه عليه بشهادته، وقول أصبغ هذا نحو قول ابن
الماجشون في كتاب القاضي إلى القاضي بتعديل الشاهد من أهل عمله معارض
لرواية أصبغ عن ابن القاسم في كتاب الأقضية، وقد مضى القول على ذلك مشروحا
فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: العدل يشهد على الرجل فيريد المشهود
عليه أن يجرحه]
مسألة وسألته عن الرجل العدل يشهد على الرجل، فيريد المشهود عليه أن يجرحه
بأن زعم أن الشاهد ينتمي إلى أب لم يلحق به نسبه فيكشف القاضي أمره، فإذا
الشاهد ابن أمة رجل مات عنها وقد ولدت هذا الشاهد في حياته أو هي حامل
فولدت بعد موته فزعمت أن حملها كان من سيدها فأقره الورثة وأقروا أمه ولم
يقروا لها [بإلحاق] هذا الشاهد بأبيهم ولم يقسموا له ميراثا غير أنهم
(10/83)
لم يدعوا رقبته ولا رقبة أمه، سكت الورثة
عنها فانتسب لهذه الشبهة، ولم ينكر عليه بنو الرجل إذ لم يكلفهم سهمه فكان
أمرهم على أن سكت بعضهم عن بعض.
فقلت: أتراه مجرحا بهذا الانتماء وهو معروف بالعدالة؟ فقال: أرى أن يسأل
عنه بنو الميت، فإن أقروا له بالنسب لم يضره ترك الميراث وجازت شهادته، وإن
لم يقروا له ولم تقم له بينة على إقرار الميت بوطء الأمة رأيته مجرحا بهذا؛
لأن عتاقته لا تثبت إلا بثبات النسب.
قلت: أرأيت إن كان الورثة أعتقوه وأمه وهم ينكرون نسبه وهو عدل غير أنه
مقيم على الانتماء إلى الميت أترى ألا تجوز شهادته ما كان مقيما على
الانتماء الذي لم يثبت له؟ قال: إني أراه مستحقا بذلك وما أحب أن تمضي
شهادة مثل هذا.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة، والمعنى فيها أن الأمة كانت ممن لا
تصلح للفراش، فلذلك لم يلحق السيد ولدها، ولو كانت ممن تصلح للفراش للحقه
الولد وورث إلا أن يشهد عليه أنه مات على استبرائها أو أنه لم يطأ فلا
يلزمه الولد حيا كان أو ميتا وإن كانت تصلح للفراش، قاله ابن دحون، وهو
صحيح، وبالله التوفيق.
[مسألة: يدعي المقضي عليه أنه وجد عدولا يجرحون
بعض الذين قطع القاضي بشهادتهم]
مسألة وسألته: عن القاضي يقضي للرجل ويسجل له بذلك ويشهد له عليه فيدعي
المقضي عليه أنه وجد عدولا يجرحون بعض الذين قطع القاضي بشهادتهم ذلك الحق
عليه، أترى أن يمكنه من ذلك؟ فقال: نعم، إن رأى القاضي لذلك وجها فيما يحتج
به الخصم ويدعيه مثل أن يقول: والله ما كنت علمت بسوء حال
(10/84)
هؤلاء الذين شهدوا علي، ما كان سكوتي عنهم
إلا جهالة بحالهم، فلما أنبأني بحالهم عدول ممن يعرفهم ادعيت فسادهم، فإذا
ادعى هذا ونحوه وتبين للقاضي أنه غير ملد نظر له.
قلت: أرأيت إن مات القاضي أو عزل أيجوز للذي ولي بعده أن يدعو بالتجريح
الذي كان ادعاه عند الأول؟ قال: نعم، هو في ذلك بمنزلة الذي كان قبله، قال:
ولو لم يدعه القاضي الأول بالتجريح ما كان للذي خلف مكانه أن يمكنه من ذلك
ولا يتعقب النظر في قضاء قاض عدل قد أنفذه قبله، قلت: أرأيت إن ادعى عند
القاضي الذي ولي بعد الأول الجهالة بحال الشهداء مثل الذي ادعى عند الأول
حين رأيت أن ينظر له الأول بعده، فادعى مثل ذلك عند القاضي الثاني أترى أن
ينظر له ولم يدع ذلك عند الأول؟.
قال الإمام القاضي: قوله: إن القاضي يمكن المقضى عليه بعد التسجيل عليه
بالقضاء من التجريح إذا كان لما ادعاه وجه هو مثل ما في الأقضية من
المدونة، وسكت عن الجواب إذا قام بذلك عند من ولي بعده دون أن يدعي ما قام
به عند الأول، وفي ذلك اختلاف، قيل: إنه يمكنه مما دعا إليه كما كان يمكنه
الأول منه، وكذلك وقع في بعض الروايات، يفعل في هذا مثل ما كان يفعل في
الأول، وقال ابن المواز وغيره ليس ذلك له؛ لأنه حكم قد وقع، وقد قيل: إن
الأول لا يمكنه من ذلك بعد أن ابتدأ الحكم عليه بالقضاء، فيتحصل في المسألة
ثلاثة أقوال؛ أحدها: أنه يمكنه من ذلك هو ومن بعده.
والثاني: أنه لا يمكنه من ذلك لا هو ولا من بعده.
والثالث: أنه يمكنه من ذلك هو ولا يمكنه منه من بعده، وهذا في المطلوب،
وأما الطالب ففيه قول رابع سوى هذه الثلاثة الأقوال، وهو قول
(10/85)
ابن الماجشون؛ لأنه فرق بين أن يعجز في أول
قيامه قبل أن يجب على المطلوب عمل، وبين أن يعجز بعد أن وجب على المطلوب
عمل ثم رجع على الطالب، وقد مضى هذا في رسم النكاح من سماع أصبغ من كتاب
النكاح، وهذا الاختلاف كله إنما هو إذا عجزه القاضي بإقراره على نفسه
بالعجز، وأما إذا عجزه السلطان بعد التلوم والإعذار وهو يدعي أن له حجة فلا
يقبل منه ما أتى به بعد ذلك من حجة؛ لأن ذلك قد رد من قوله قبل نفوذ الحكم
عليه، فلا يسمع منه بعد نفوذه عليه، وبالله التوفيق.
[مسألة: شهادة شاهدين من المسلوبين على الذين
سلبوهم]
مسألة وسئل: عن الرجلين يعرض لهما اللصوص فيسلبونهما فيشهدان أن هؤلاء
اللصوص سلبونا هذا المتاع وهذه الدواب لمتاع أو دواب قائمة في أيدي اللصوص
بعينها، فقال: يقام عليهم بشهادتهما حد المحاربين ولا يستحقان ذلك المتاع
والدواب إلا بشهيدين سواهما أو بشاهد يحلفان معه.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة اختلف في تأويلها، فقيل فيها: إنها مخالفة لما
في المدونة إذ لم يقل فيها: إنه يحلف كل واحد منهما مع شهادة صاحبه ويستحق
متاعه ودوابه على قياس قوله في كتاب السرقة منها إنه يقام على المحاربين
الحد بشهادة الذين شهدوا عليهم أنهم قطعوا عليهم الطريق وأخذوا أموالهم
ويعطوا المال بشهادة بعضهم لبعض ولا يقبل شهادة أحد منهم في مال نفسه أنه
أخذ منه، وقيل: إنها ليست مخالفة لها والمعنى فيها أنهما شريكان في المتاع
والدواب، فلذلك لم تجز شهادة واحد منهما لصاحبه، إذ لا يختص بشيء من المتاع
والدواب دونه، وقيل: إنهما يستحقان الدواب والمتاع بشهادتهما، وإن كانا
شريكين فيهما، وهو الذي يأتي على ما حكى ابن حبيب عن مطرف وروايته عن مالك
في أن شهادة شاهدين من المسلوبين على الذين سلبوهم جائزة في الحد وفي المال
لأنفسهما ولأصحابهما؛ لأن شهادتهما إذا جازت في الحد جازت في المال
(10/86)
لأنفسهما ولغيرهما، إذ لا يصح أن يجاز بعض
الشهادة ويرد بعضها، وقد قيل: إن شهادتهما لا تجوز في الحد ولا في المال
لغيرهما إذا لم تجز لأنفسهما؛ لأن من اتهم في بعض شهادته بطلت [شهادته]
كلها، وهو قول أصبغ، فيتحصل في شهادة المسلوبين على السالبين بالسلب والمال
أربعة أقوال؛ أحدها: أن شهادتهم عليهم جائزة بالسلب والمال لأنفسهم ولمن
سواهم فيقام الحد على السالبين بشهادتهم ويقضى بما شهدوا به من المال لهم
ولمن سواهم، وهو قول مطرف وروايته عن مالك.
والثاني: أن شهادتهم لا تجوز لا في الحد ولا في المال لا لأنفسهم ولا لمن
سواهم، وهو قول أصبغ.
والثالث: أن شهادتهم تجوز في الحد وفي المال لغيرهم ولا تجوز لأنفسهم، فإن
كان الشهود أربعة قضي للاثنين منهم بشهادة الاثنين وللاثنين بشهادة
الاثنين، وإن كانوا اثنين قضي لكل واحد منهما بشهادة صاحبه مع يمينه، وهو
قول ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة.
والرابع: أنه لا يجوز في ذلك أقل من أربعة شهداء، وإنما تجوز شهادتهم في
الحد وفي أموال الرفقة ولا تجوز في أموال الشهداء، وهذا كله إنما هو إذا
شهدوا فقالوا: سلبونا فأخذوا منا هذا المال وهذا المتاع والجارية لفلان
والدابة لفلان والثوب لفلان وكذا لفلان وكذا لفلان وكان الذي شهد به الشهود
من ذلك لأنفسهم كثيرا، وأما إن كان الذي شهدوا به لأنفسهم من ذلك يسيرا لا
يتهمون عليه فشهادتهم جائزة في الجميع لهم ولغيرهم، ولا يدخل في هذا
الاختلاف الذي في الوصية لموضع الضرورة في ذلك ولموضع الضرورة فيه وقع
الاختلاف المذكور إذا كان الذي يشهد به الشاهد لنفسه كثيرا، فمن لم يراع
الضرورة وأعمل التهمة أبطل الشهادة في الجميع، ومن راعى الضرورة وأسقط
التهمة أعمل الشهادة في الجميع، وعلى هذا يأتي ما في المدونة؛ لأنه لم يبطل
شهادة الشاهد لنفسه من جهة التهمة، وإنما أبطلها من أجل أنه لا تجوز في
السنة شهادة أحد لنفسه، والشهادة إذا بطل بعضها للسنة لم يبطل جميعها على
المشهور في
(10/87)
المذهب، ولو شهد على السالبين بالسلب دون
المال لم يختلف في إجازة شهادتهم عليهم في الحد ولا في شهادة بعضهم لبعض
بعد ذلك فيما وجد بأيديهم من المال، وسيأتي من هذا المعنى في نوازل سحنون
ونوازل أصبغ، وبالله التوفيق.
[مسألة: الشهود الأربعة إذا اختلفوا في الطلاق]
مسألة قال: وسمعت مالكا قال في أربعة نفر كانوا في مجلس واحد فأتوا السلطان
فشهد رجلان منهم أن رجلا كان معهم جالسا حلف بطلاق امرأته البتة أو اثنتين،
وقال الآخران: نشهد أنه ما طلق إلا واحدة، وكلهم يزعم أن طلاقه الذي سمعوا
منه إنما كان في كلام واحد، فقال: تطلق عليه بشهادة اللذين أثبتا الأكثر من
الطلاق، وكذلك لو قال اثنان: نشهد أنه أعتق غلاميه زيدا وميمونا، وقال
الآخران: نشهد لما تقول ولا تكلم بغير عتاقة زيد وحده إنه يعتق عليه زيد
وميمون بشهادة اللذين أثبتا ذلك عليه، قال: وإنما مثل ذلك عندنا كمثل رجل
ادعى أنه أسلف رجلا عشرين دينارا فجاء بأربعة شهداء عدول مرضيين أشهدهم
عليه في مجلس واحد حين دفع السلف إليه فشهد اثنان بالله لأسلفه عشرين
دينارا بحضرتنا جميعا، وقال الآخران: نشهد بالله لما أسلفه يومئذ بحضرتنا
حتى افترقنا إلا عشرة دنانير، فوجه الجواب الذي مضى به الأمر في هذا أن
يؤخذ بالعشرين الدينار؛ لأن اللذين شهدا له بها أثبتا وحفظا ما أغفله
الآخران أو نسياه، فالشاهدان بالأكثر أحق بالتصديق؛ لأن البينة على المدعي
فيما جاء به من شاهد على تصديق دعواه حكم له بشهادته إذا كان عدلا، قال ابن
القاسم:
(10/88)
ولكن لو أن أربعة نفر شهد منهم رجلان على
رجل أنه طلق امرأته وشهد الآخران أنه لم يتفوه في مجلسه ذلك بشيء من الطلاق
ولكنه حلف بعتق غلام له سمياه لم أر لهم شهادة أجمعين لا في طلاق ولا في
عتاق؛ لأن بعضهم أكذب بعضا، وهو الذي سمعناه، قال: وإن اختلفوا فقال بعضهم:
نشهد أنه طلق امرأته فلانة أو أعتق غلامه فلانا، وقال الآخران: نشهد أنه ما
ذكر امرأته فلانة حتى تفرقنا، وما حلف بطلاقها، ولكنه حلف بطلاق امرأته
فلانة يريدون امرأة أخرى، وقالوا: نشهد ما أعتق الذي شهدتم له بالعتاقة،
دلكنه أعتق فلانا آخر فإن الشهادة تبطل وتسقط من قول الأولين والآخرين في
العتاق والطلاق على هذا النحو؛ لأن بعضهم أكذب بعضا.
قال محمد بن رشد: قوله: في الشهود الأربعة إذا اختلفوا في الطلاق فشهد
الاثنان منهم أنه حلف بطلاق امرأته البتة أو اثنتين، وقال الآخران: لم يطلق
إلا واحدة أنه يؤخذ بشهادة اللذين أثبتا الأكثر من الطلاق يدل على أن البتة
عنده تتبعض، وهو قول أشهب وسحنون، وعليه يأتي ما في كتاب الأيمان بالطلاق
من المدونة من تلفيق شهادة الشهود إذا شهد أحدهم بالثلاث والآخر بالبتة
خلاف قول أصبغ في نوازله من كتاب الأيمان بالطلاق وما حكى ابن حبيب عن ابن
القاسم وما في كتاب ابن المواز وفي المبسوطة لمالك من أن البتة لا تتبعض،
وقوله: إنه يؤخذ بشهادة اللذين أثبتا الأكثر من عدد الطلاق أو عدد المال هو
المشهور من مذهب ابن القاسم، وقد رأى ذلك في أحد قوليه تكاذبا وتهاترا،
والقولان قائمان من المدونة، وفي المسألة قول ثالث وهو الفرق بين أن تكون
الزيادة بزيادة لفظ مثل أن يشهد الشاهدان أنه أقر له بعشرين، ويقول
الآخران: بل أقر له بأحد وعشرين، أو بغير زيادة لفظ مثل أن يقول الشاهدان:
أقر له بتسعة عشر، وقال الآخران: بل أقر له بعشرين، وهي تفرقة لها وجه من
النظر.
وفي قوله: شهد اثنان بالله لأسلفه، وقال الآخران: نشهد بالله لما أسلفه
إجازة الشهادة
(10/89)
مع اليمين خلاف ما في كتاب ابن شعبان من
أنه لا تقبل شهادة من شهد وحلف، والصواب: أن لا تبطل بذلك شهادته إلا أن
يتبين من يمينه أن له شهودا قبل المشهود عليه؛ لأن الله تبارك وتعالى قد
أمر نبيه باليمين فيما أمره به من الشهادة في غير ما آية من كتابه فقال:
{قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} [التغابن: 7] وقال: {قُلْ إِي
وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [يونس: 53] وأما
إذا شهدت إحدى البينتين بخلاف ما شهدت به البينة الأخرى مثل أن تشهد
إحداهما بعتق، والثانية بطلاق، أو إحداهما بطلاق امرأة، والثانية بطلاق
امرأة أخرى، أو إحداهما بعتق عبد والثانية بعتق عبد آخر، أو إحداهما بعرض
والثانية بعتق وما أشبه ذلك فهذا لم يختلف فيه قول ابن القاسم ولا قول مالك
في رواية المصريين عنه في أن ذلك تكاذب وتهاتر يحكم به بأعدل البينتين، فإن
تكافأتا في العدالة سقطتا جميعا.
وروى المدنيون عن مالك أنه يقضي بالبينتين جميعا استوتا في العدالة أو كانت
إحداهما أعدل من الأخرى، وقد مضى هذا المعنى في نوازل أصبغ من كتاب التخيير
والتمليك، وسيأتي في نوازل سحنون من هذا الكتاب، وبالله التوفيق.
[مسألة: تكون بينهما الجارية فيشهد أحدهما أن
شريكه وطئها فأحبلها]
مسألة وسئل: عن الرجلين تكون بينهما الجارية فيشهد أحدهما أن شريكه وطئها
فأحبلها، قال ابن القاسم: إن كان المشهود عليه مليا فلا سبيل للشاهد إليها؛
لأنه إنما جحده ما كان يحكم عليه به من نصف قيمتها، وإن كان معدما كان له
نصف رقبتها ولم يكن له إلى ولدها سبيل، واتبعه بنصف قيمة الولد إن أقر به
يوما ما.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم في هذه المسألة إن المشهود عليه إن كان
مليا فلا سبيل للشاهد إليها؛ لأنه إنما جحده ما كان يحكم له به
(10/90)
عليه من نصف قيمتها صحيح لا يدخل فيه
اختلاف قول ابن القاسم في هل يعتق نصيبه عليه إذا شهد على شريكه أنه أعتق
نصيبه وهو موسر أم لا يعتق عليه ويبقى بيده ملكا له حسبما مضى القول فيه في
رسم العتق من سماع عيسى، وسيأتي في رسم المكاتب من هذا السماع، إلا أنه لم
يبين ماذا يكون الحكم في نصيبه إذا لم يكن له إليه سبيل، والحكم في ذلك أن
يكون موقوفا؛ لأنه مقر لشريكه وشريكه ينكر ذلك، ويقول: بل هو لك ملكا، فإن
أقر الشريك بأنه أحبلها كانت أم ولد له وغرم له نصف قيمتها، وإن لم يقر حتى
يموت عتق حينئذ النصف الموقوف، وإنما لم يعتق في حياة المشهود عليه من أجل
أنه إن أقر كانت له أم ولد وغرم القيمة للشاهد فكيف يعتق أم ولد رجل لكن
يوقف ذلك النصف ويبقى نصفها الثاني بيد المشهود عليه رقيقا يبيعه إن شاء
ويفعل به ما شاء مما يفعله ذو الملك في ملكه هو وورثته بعده.
وأما قوله: إن كان معدما كان له نصف رقبتها واتبعه بنصف قيمة الولد إن أقر
به يوما ما فهو على القول بأن الأمة بين الشريكين إذا وطئها أحدهما فأحبلها
ولا مال له يباع نصفها للذي لم يطأ في نصف القمة، فإن كان فيه نقصان عن نصف
قيمتها يوم حملت اتبعه بما نقص من نصف القيمة واتبعه أيضا بنصف قيمة الولد،
وأما على القول: بأنه يتبعه بنصف قيمتها يوم حملت ولا يكون له عليه شيء من
قيمة الولد فالجواب في ذلك على ما تقدم إذا كان مليا سواء، وهذان القولان
في الأمة بين الشريكين يطؤها أحدهما فتحمل ولا مال له لمالك - رَحِمَهُ
اللَّهُ - في آخر كتاب أمهات الأولاد من المدونة، وبالله التوفيق.
[مسألة: يأتي القوم بذكر حق كتبه على نفسه لرجل
غائب فيشهدهم على نفسه بما فيه]
مسألة وقال في رجل يأتي القوم بذكر حق كتبه على نفسه لرجل غائب فيشهدهم على
نفسه بما فيه، قال: لا أرى للقوم أن يكتبوا شهادتهم في الذكر الحق يكون على
هذا الوجه في غيبة من كتب لأني أخاف أن يريد هذا الكتاب الذي كتبه على نفسه
للغائب أن
(10/91)
يستوجب مخالطته لتجب عليه اليمين إن ادعى
بشيء عليه يريد أن يعنته بتلك اليمين فعسى أن يفتدي منه بأضعاف ما أقر له
به على نفسه مما لم يحضره ولم يقبل إقراره له فيه، ولكن ليكتب القوم القصة
على حالها يذكرون إقراره لهذا الغائب بما أقر له به ويذكرون مغيب الآخر
عنه، فإن جاء الغائب فصدقه وأراد قبض ما أقر له به لزم المقر إقراره ولزمت
الغائب بذلك مخالطته واستوجب به إن ادعى قبله شيئا استحلافه، وإن أنكر ما
كان من إقراره له وترك اقتضاءه ذلك لم يلزمه بالذي صنع المقر خلطة يستوجب
بها إحلافه إن ادعى شيئا قبله، وهي في سماع ابن القاسم في كتاب أوله حلف
ألا يبيع سلعة سماها.
قال محمد بن رشد: ظاهر هذه الرواية أن المعاملة الواحدة خلطة توجب اليمين
خلاف رواية أصبغ عن ابن القاسم في رسم القضاء المحض من سماع أصبغ من كتاب
الأقضية، وقد قيل: إن رواية يحيى هذه تفسير رواية أصبغ فيكون المعنى فيها
أنها قد تضاف هذه المعاملة إلى معاملة قبلها فتصير بذلك خلطة، ولا أقول
إنها مخالفة لها ولا إن رواية أصبغ مفسرة لها، وإنما أقول إنها مسألة أخرى؛
لأنه تكلم في رواية أصبغ على أنهما تقابضا وتناجزا، وتكلم في هذه الرواية
على المبايعة بالدين، فالمبايعة الواحدة لا توجب الخلطة إذا كانت بالنقد
والتناجز على رواية أصبغ يوجبها إذا كانت بالدين على هذه الرواية، وإنما
الخلاف عندي إذا كانت المبايعة الواحدة بالنقد فلم يقع النقد ولا حصل
التناجز، وقد مضى القول على هذه المسألة مستوفى في سماع أصبغ المذكور من
كتاب الأقضية، فلا معنى لإعادة شيء منه، وبالله التوفيق.
[مسألة: يوصي بثلث ماله لرجل ولم يشهد إلا شاهد
واحد]
مسألة وقال في الرجل يوصي بثلث ماله لرجل: إنه إن لم يقم
(10/92)
بذلك إلا شاهدا واحدا حلف الموصى له مع
شاهده واستحق الوصية، قال: وإن أوصى به في سبيل الله أو المساكين أو
القبيلة من القبائل أو ما أشبه ذلك من الأمر المفترق والذي لا يحاط بعدة
أهله ولا يشهد على الوصية إلا شاهد واحد إنه ليس لأحد من الغزاة أن يحلف مع
الشاهد ويستحق بذلك ما أوصى به الرجل في سبيل الله، وليس لأحد من المساكين
أن يحلف عن جميع المساكين ولا عن نفسه يريد أن يستحق الوصية بيمينه مع
الشاهد؛ لأنه لا يدري ما يصير له من ذلك لو ثبت، وكذلك ما أوصى به لقبيلة
أو لكل ما لا يحصى عددهم ولا يحاط بعلمهم..
قال الإمام القاضي: أما الموصى له الواحد فلا اختلاف أنه يحلف مع الشاهد
ويستحق وصيته، وكذلك الجماعة المعينون المسمون يحلف كل واحد منهم ويستحق
حقه من الوصية، وإن مات واحد منهم حلف كل واحد من ورثته واستحق ما يجب له
من الوصية، وأما إذا أوصى للمساكين أو في السبيل أو لبني زهرة أو لبني تميم
أو لقريش أو للأنصار أو ما أشبه ذلك مما لا يحصى ولا يعرف، وإنما الواجب أن
تكون الوصية لمن حضر منهم على الاجتهاد، فلا اختلاف في أنه لا يمين في ذلك
مع الشاهد، ويختلف إذا أوصى لمن يحصرهم العدد كإلى فلان ومساكين إلى فلان
وما أشبه ذلك، فقيل: إنه يحلف جلهم ويستحقون الوصية لأنفسهم ولمن غاب منهم،
وقيل: إنه لا يمين في ذلك مع الشاهد، والقولان قائمان من كتاب الوصايا
الثاني من المدونة في الذي يوصي لأخواله وأولادهم، وكذلك يختلف في الحبس
المعقب، ففي كتاب ابن المواز أن اليمين لا تصلح فيه مع الشاهد، وقال عبد
الملك عن مالك إذا حلف الجل منهم نفذت الوصية عليهم وعلى غائبهم إن قدم
ومولودهم إذا ولد وفي السبيل بعدهم، وروى عنه ابن حبيب قال: يحلف من أهل
الصدقة رجل واحد مع
(10/93)
الشاهد وتنفذ له ولأهلها ولمن يأتي.
قال عن مالك أيضا: وإن باد شهودها ولم يثبت إلا بالسماع حلف أيضا واحد من
أهلها مع الذين شهدوا بالسماع بأنهم لم يزالوا يسمعون من العدول أنها حبس
على بني فلان ثم تستحق حبسا، وبالله التوفيق.
[: الصبي يقوم له شاهد أن أباه كان تصدق عليه
بغلام ويشهد آخر أن أباه كان نحله إياه]
ومن كتاب كراء الدور والمزارع قال يحيى: قال ابن القاسم في الصبي يقوم له
شاهد أن أباه كان تصدق عليه بغلام ويشهد آخر أن أباه كان نحله إياه.
قال محمد بن رشد: هذه المسألة وقعت ههنا ساقطة الجواب، ووقعت في سماع سحنون
ومحمد بن خالد كاملة الجواب، وقد مضى القول عليها مستوفى في رسم العرية من
سماع عيسى فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: يشهدان على حكم قاض فيقول أحدهما
بشهادتي حكم القاضي مع غيري]
مسألة وفي الشهيدين يشهدان للرجل أن قاضيا من القضاة مات أو عزل وقضى له
بكذا وكذا، وأن ذلك القاضي إنما قضى بذلك الحق بشهادتهما فيه، قال: أرى
شهادتهما جائزة، وما أرى أمرا أتهمهما فيه، قيل له: أما ترى أنهما قد شهدا
لأنفسهما بأن القاضي الأول قد قبل شهادتهما وقطع الحق بهما فيتهمان من أجل
ذلك؟ فقال: ما أرى هذه تهمة أرد بها شهادتهما، وما أراهما جرا إلى أنفسهما
شيئا يتهمان فيه، وسئل عنها سحنون فقال: سمعت ابن القاسم يقول في الرجلين
يشهدان على حكم قاض فيقول أحدهما بشهادتي حكم القاضي مع غيري فلا تجوز
شهادتهما على الحكم؛ لأنه يريد إمضاء شهادته، قال ابن القاسم: ولو كان
اللذان شهدا على الحكم قالا بشهادتهما حكم القاضي عليه وأشهدنا على
(10/94)
حكمه رأيتها جائزة؛ لأنه كان يحكم
بشهادتهما لو لم يشهدا على الحكم، فمن ثم رأيتها جائزة.
قال القاضي: ظاهر رواية سحنون أن شهادتهما لا تجوز على الحكم وتجوز على أصل
الشهادة فيحكم القاضي الذي شهدا عنده بشهادتهما، وهو قول مطرف في الواضحة،
وقال ابن الماجشون وابن نافع وأصبغ لا تجوز في ذلك شهادتهما على حال لا على
أصل الشهادة ولا على [أصل] الحكم بها؛ لأنها إذا سقطت في الحكم بما اتهما
فيه سقطت كلها، واختار ذلك ابن حبيب، وظاهر رواية يحيى أن الشهادة على
الحكم جائزة، بل هو نص جلي، فهي ثلاثة أقوال في المسألة أظهرها كلها رواية
يحيى لبعد التهمة فيها؛ لأن قولهما إن ذلك القاضي إنما قضى بذلك الحق
بشهادتهما فيه زيادة لو سكتا عنها لم تفتقر إليها الشهادة فوجب ألا تؤثر في
إبطال الشهادة، ولبعد التهمة فيها قصرها في رواية سحنون على موضعها خاصة
ولم يعدها إلى أصل الشهادة كما لا تعد إلى غيرها، ووجه القول الثالث: أن
أصل الشهادة وفرعها كشيء واحد، فإذا بطلت في البعض بطلت في الكل، وبالله
التوفيق.
[: ثلاثة نفر شهدوا على رجل أنهم رأوه يزني
فجلدوا الحد فجاء من الغد رابع]
ومن كتاب المكاتب قال يحيى: وسألته عن ثلاثة نفر شهدوا على رجل أنهم رأوه
يزني فجلدوا الحد فجاء من الغد رابع عدل زعم أنه كان معهم إذ رأوه يزني،
أترى أن تقبل شهادتهم بعد الضرب ويكونون عدولا على حالهم قبل أن يضربوا؟
فقال: نعم، تقبل شهادتهم وتشهر عدالتهم ويعلم الناس أن قد سقط التجريح عنهم
وتمت شهادتهم بالرابع.
قال الإمام القاضي: هذا خلاف ما مضى من قوله في أول رسم من
(10/95)
سماع عيسى، فليس هذا وجه الشهادة إلا أن
يأتوا جميعا، فالذي يأتي على ما في سماع يحيى أن يحد الرابع إلا أن يأتوا
جميعا، وهو قول محمد بن المواز، ولو جاء الشاهد الرابع على رواية يحيى هذه
قبل أن يحد الثلاثة سقط الحد عنهم وحد المشهود عليه بالزنى، وقد نص على ذلك
ابن القاسم في كتاب ابن المواز، وقد مضى بقية القول في هذه المسألة في سماع
عيسى فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: يشهد كل واحد منهما على صاحبه أنه أعتق
نصيبه وينكران ذلك]
مسألة وسألته: عن الشريكين في العبد يشهد كل واحد منهما على صاحبه أنه أعتق
نصيبه وينكران ذلك، فقال: إن كان لا مال لهما غيره فلا شيء على واحد منهما،
وإن كانا موسرين فلا ينبغي لواحد منهما أن يسترقه، وذلك أن كل واحد منهما
مقر أنه حر يعتق على صاحبه يغرم نصف قيمته، فإنما كل واحد منهما متبع
لصاحبه بالقيمة التي لو أقر بالذي شهد به عليه غرمها له وكان العبد حرا
كله، قال: وإن كان أحدهما موسرا والآخر معسرا فلا شيء على الموسر، وأما
المعسر فلا ينبغي أن يسترق منه شيئا؛ لأنه قد شهد أنه حر على صاحبه، قلت:
أرأيت إن ملكه أحدهما يوما ما ملكا تاما؟ قال: أراه عتيقا كله وولاؤه
لشريكه الذي كان شهد هو عليه إلا أن يملكه الموسر الذي شهد على المعسر فلا
يعتق منه إلا النصف الذي كان تملكه المعسر، وذلك أنه لو أقر بالذي شهد عليه
لم يعتق عليه منه إلا نصفه.
قال محمد بن رشد: قوله: إنهما إن كانا موسرين لم يسترق واحد منهما نصيبه،
وإن كان أحدهما موسرا والآخر معسرا استرق الموسر نصيبه ولم يسترق المعسر
نصيبه هو [مثل] أحد قولي ابن القاسم في كتاب
(10/96)
العتق الثاني من المدونة، وقد مضى القول
على هذا المعنى مبينا مشروحا في رسم العتق من سماع عيسى، وقوله: أرأيت إن
ملكه أحدهما يوما ما ملكا تاما [معناه أرأيت إن ملك الشاهد منهما نصيب
المشهود عليه قبل أن يعتق عليه نصيبه إن كان المشهود عليه موسرا فكمل جميعه
له] قال: أراه عتيقا كله وولاؤه لشريكه الذي كان شهد هو عليه، معناه أنه
يعتق كله عليه، نصف القديم بالشهادة على شريكه أنه أعتق نصيبه وهو موسر لما
يوجب ذلك من تقديمه عليه وعتقه فكان إنما جحده القيمة، والنصف الذي اشتراه
من شريكه بإقراره أنه حر يعتق شريكه إياه وولاؤه كله للشريك المشهود عليه؛
لأنه مقر أنه حر من عتاقته، وأما إن كان المشهود عليه معسرا فاشترى الشاهد
نصيبه فلا يعتق عليه إلا النصف الذي اشتراه من شريكه المعسر كما قال لأن
نصيبه الذي كان له أولا لا شيء عليه فيه بشهادته على معسر، وبالله التوفيق.
[: شهادة السائل المتكفف]
ومن كتاب الأقضية قال يحيى: وسألت ابن وهب عن الرجل الحسن الوجه الظاهر
الصلاح يسأل الصدقة مما يتصدق به على أهل الحاجات، أو يأتي الرجل الشريف
فيسأله أن يتصدق عليه، أتجوز شهادته وهو لا يتكفف الناس إذا كان عدلا، وهو
معروف بالمسألة غير أنه لا يتكفف العامة، قال: إذا كان معروفا بالمسألة فهو
غير جائز الشهادة، وإن لم يتكفف وإن كان عدلا، وسألته بعد يوم أجاب في ذلك
فكان فيما كتب إليه أن سأله عن الرجل الذي لا بأس به وهو ممن يتصدق عليه
ويطلب الأخذ من الصدقة إذا خرجت من عند إمام أو فرقت وصية الرجل أو ما
أشبهه، يطلب الأخذ من مثل
(10/97)
هذا الوجه بكل ما يقدر عليه وليس يتكفف
الناس، فقال: ما أرى مثل هذا إلا متعففا عن المسألة غير متكفف الناس ولا
يسأل في عامتهم، فلا أرى أن ترد شهادة مثل هذا إذا كان عدلا وإنما ترد
شهادة السائل المتكفف، فأما المعترض لإخوانه المتعفف والآخذ من مثل ما وصفت
فلا أرى أن ترد شهادته بذلك.
قال محمد بن رشد: إنما اختلف جواب ابن وهب في هاتين المسألتين لاختلاف
السؤال فيهما، وذلك أنه سأله في السؤال الأول عن الذي يسأل سؤالا مصرحا دون
تعريض حتى يعرف بالسؤال فرأى ألا تجوز شهادته، ومعنى ذلك إذا سأل لغير سبب
يعرف فقال في المجموعة: وأما من نزلت به مصيبة ألجأته فيسأل بعض إخوانه
وليس بالمشهور بالمسألة فلا ترد شهادته، وقال ابن كنانة في المجموعة وكتاب
ابن سحنون وكذلك إن رزىء برزية مثل دية وقعت عليه وشبهه من العذر لم ترد
شهادته بذلك إذا كان عدلا.
وسأله في السؤال الثاني عن الذي يأخذ من الصدقات ويطلب الأخذ منها بكل ما
يقدر عليه من التلطف والتعرض مع التستر عن السؤال المصرح المكشوف فرأى أن
تجوز شهادته، وهذا بين من ألفاظ المسألتين إذا اعترت، وقد ذهب بعض الشيوخ
إلى أن ذلك اضطراب من قول ابن وهب في هذه المسألة فقال: اضطرب ابن وهب في
هذه المسألة، وجواب الآخر أشكل بالأولى وجواب الأولى أشكل بالأخر فإن كان
ثقل عليه سؤال الرجل الأول من الرجل الشريف أو ما يتصدق به على أهل الحاجة
فكان ينبغي أن يثقل عليه أكثر طلب الثاني من وصية أو إمام كما ذكر أو ما
أشبه ذلك بكل ما يقدر عليه، وكلاهما سائل لا محالة،
(10/98)
والأول أعذر عندي وأخف؛ لأنه ليس في قوله
بكل ما يقدر عليه، قال تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا}
[البقرة: 273] إلى قوله: {إِلْحَافًا} [البقرة: 273] فدل على أنهم يسألون
بغير إلحاف، والعائد على نفسه وعلى عياله بالحلال هو في سبيل الله، وهذه
صفة عنهم، والله أعلم، مع أنه قد توجهت المدحة من الله عز وجل لهم، والذي
أرى أن لا ترد شهادتهما إذا كانا عدلين، وفي هذا كفاية إن شاء الله.
قال محمد بن رشد: هذا نص قول محمد بن حارث في هذه المسألة، وإلى قوله كان
يذهب من أدركنا من الشيوخ في تأويل [قول] ابن وهب فيقولون: المسألة العامة
تبطل شهادة الشاهد باتفاق، والمسألة الخاصة تبطلها على أحد قولي ابن وهب،
ولا يميزون بين التصريح بالسؤال وبين التعريض به والتلطف فيه مع التستر به،
وما ذهبنا إليه في تأويل المسألة من أن من عرف بالتصريح بالسؤال في خاص أو
عام ردت شهادته إلا أن يكون لذلك سبب يعذر به، ومن لم يصرح بالسؤال جازت
شهادته، وإن أخذ الصدقات بكل ما يقدر عليه من التعريض والإلطاف مع التستر
عن السؤال أولى، وبالله التوفيق.
[مسألة: شهادة لمتعرض للولاة الطالب لجوائزهم]
مسألة وسألته: عن المتعرض للولاة الطالب لجوائزهم على حال ما يلتمس قبلهم
من الصلات والأعطية إذا كان عدلا أترى أن ترد شهادته بما تعرض مما في
أيديهم؟ فقال: إن طالب ما في أيدي الولاة المتعرض لهم المعروف به لغير عدل
عندي؛ لأن حالات
(10/99)
الولاة في زمانك ما تعلم، [فإذا كان بالطلب
منهم والتعرض لهم معروفا فما أرى إلا أن ترد شهادته.
قال محمد بن رشد: أحاله من أمر الولاة على ما يعلم بقوله: لأن حالات الولاة
في زمانك ما تعلم] ولم يبين ما ذلك الذي يعلم، والذي أراد، والله أعلم، قبح
أحوالهم وسوء طريقتهم فيما يحمون، وتعديهم في كثير مما يأخذون مع تفويض
الأمر إليهم في قسمة المال وإعطاء الجائزة منه لمن يستحقها، ولذلك شرط في
رد شهادة من قبل جوائزهم أن يكون معروفا بالطلب لهم يريد مكثرا للأخذ منهم،
ولو كانوا على غير هذا من التحجير عليهم في إعطاء المال باجتهادهم لسقطت
شهادة من قبل جوائزهم وإن لم يتكرر ذلك من فعلهم إلا أن يعذروا في ذلك
بجهلهم، وما يأتي لسحنون في آخر سماعه بعد هذا يبين هذا، وبالله التوفيق.
[مسألة: لشاهد يشهد عند القاضي فيسأله المشهود
له أن يكتب إلى قاضي الكورة]
مسألة وسألته عن الشاهد يشهد عند القاضي فيسأله المشهود له أن يكتب إلى
قاضي الكورة التي يعرف بها الشاهد أن يعدل عنده ثم يكتب إليه بما ثبت من
أمره أيلزم القاضي أن يفعل ذلك به؟ فقال: لا يلزم القاضي الذي شهد عنده
الرجل أن يكتب إلى غيره من القضاة في تعديل الشاهد، وليس مثل هذا عليه،
وعلى من شهد له شاهد بموضع من المواضع وعند قاض من القضاة أن بعدل شاهده
حيث شهد وعند من شهد، ولكن استحب في حال النظر من القاضي المتفقد الذي يريد
أن ينتهي إلى استبراء
(10/100)
ما استراب أن يتخذ في نواحي الكور رجالا
عدولا مرضيين ممن يثق بحسن نظرهم ويأمن غفلتهم فيكتب إليهم يسألهم عن صلاح
من شهد عنده من أهل نواحيهم، فإن جاءه بما يرضى من عدالة الشاهد أمضى بذلك
شهادته، وإن لم يكن في كور الشاهد من يفزع إليه ويأمن ناحيته ويرضى صلاحه
ممن يريد مساءلته عن الشاهد عنده فلا يكتبن إلا إلى أهل القناعة والرضى،
وعلى المشهود له أن يعدل شاهده حيث شهد أو يدع.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول فيها في رسم الكبش قبل هذا فلا
معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: ادعت ما لا يثبت إلا بشهادة شهيدين فإن
جاءت بشاهد عدل]
مسألة وسألت ابن وهب: عن الجارية تدعي الحرية والمرأة الضعيفة تدعي حقا
فتزعمان أن بينتهما ببلد من نواحي الكور تريد أن ترفع إلى موضع شهادتها؛
لأنها لا تقدر لضعفها على جلب البينة أفترفع أم لا يلزم ذلك خصمها؟ فقال:
أما الأمة فإن جاءت بشاهد واحد عدل استوجبت به الرفع إلى موضع شاهدها الآخر
ويتخذ عليها حميل ثقة بقيمتها إلى الأجل الذي يوقفها السلطان حين يرفعها،
وإن لم تأت بشاهد عدل على ما ادعت من حريتها لم تستوجب ما أرادت من رفعها
ولم تخرج من يد سيدها ولم يمنع من شيء مما أحله الله له منها إذا لم يكن
إلا دعواها فقط، وأما المرأة التي تدعي حقا فإن كان ما تدعي مما يستحق
باليمين مع
(10/101)
الشاهد فإن جاءت بشاهد واحد حلفت مع شاهدها
واستحقت حقها، مضت بذلك السنة، ولا رفع في مثل هذا؛ لأنها لا تستوجب الرفع
إلا بعد شهادة شاهد، فإذا شهد لها شاهد استحقت حقها باليمين مع الشاهد
واستغنت عن الرفع، وإن كانت ادعت ما لا يثبت إلا بشهادة شهيدين فإن جاءت
بشاهد عدل استوجبت الرفع إلى موضع شاهدها، وإن لم تأت بشاهد عدل لم ترفع.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى بيانها وتحصيل القول فيها في سماع عبد
الملك بن الحسن من كتاب الأقضية، فمن أحب الوقوف عليه تأمله هناك، وبالله
التوفيق.
[مسألة: يكون في يده المنزل فيدعيه رجل]
مسألة وسألته: عن الرجل يكون في يده المنزل فيدعيه رجل ويزعم أنه غصبه إياه
وغلبه عليه، فيسأله السلطان البينة على ما ادعى فيأتي بشهداء عدول على ما
ادعى من الغصب، فيدعي الذي هو في يده أنه اشتراه من الذي قامت له البينة
على الغصب اشتراء صحيحا، فيسأله السلطان البينة على ما ادعى من اشترائه
فيأتيه على ذلك ببينة عدول لعلهم أعدل من الذين شهدوا على الغصب، قال: قلت:
أيهما أحق بالمنزل؟ قال: أرى أن من حاز منزلا وصار معروفا في يده وقامت له
بينة على اشترائه من مدعيه قبله بالغصب الذي ذكرت أحق به وأولى بالقضاء له
فيه من المدعي له قبله ليس في يديه شيء، وإن جاء بالبينة على الغصب لحيازته
إياه وعدالة شهدائه على اشترائه منه.
قال محمد بن رشد: وقعت هذه المسألة في رسم الجواب من سماع عيسى من كتاب
الغصب فقال فيها: إن بينة الشراء أحق وأولى وإن
(10/102)
علم أن الغصب كان قبل الشراء، وحكى ابن
حبيب في الواضحة مثله عن مطرف وابن القاسم وأصبغ إلا أنه [زاد] من قولهم
متصلا بآخر المسألة إلا أن يكون الشهود الذين شهدوا على الشراء إنما شهدوا
أنه اشترى منه وهو مغصوب بحاله لم يرد إليه ولم يملكه فيكون شراء مفسوخا
مردودا بالغصب الذي كان قبله، ويرد الثمن الذي أخذ فيه، وقال محمد فيها:
وهذا إذا علم أنه اشتراه وهو في ملك المستحق، وروى زياد عن مالك: أن من غصب
منزلا أو شيئا من الأشياء فلا يجوز له أن يشتريه حتى يرده في يد أهله ويخرج
منه، وقاله المدنيون، وتحصيل القول في هذه المسألة عندي أن شراء الغاصب
الشيء المغصوب وهو في يده لا يخلو من ثلاثة أحوال؛ أحدها: أن يشتريه وهو
على حاله من الامتناع به عن صاحبه يعلم أنه لا يرده إليه إن لم يبعه منه،
فهذا لا اختلاف في أنه بيع فاسد.
والثاني: أن يشتريه وهو قد طاع برده إلى صاحبه يعلم أنه إن لم يبعه منه
صرفه عليه، فهذا لا اختلاف في أنه بيع صحيح.
والثالث: أن لا يتحقق هل صحت عزمة الغاصب على رد الشيء المغصوب على ربه قبل
الشراء أم لا؟ فهذا هو موضع الخلاف في المسألة، يحكم بفساد البيع فيه على
رواية زياد عن مالك، وبذلك حكم ابن بشير في أرحا الخزان التي عند قرطبة،
ولم يبح للسلطان شراءها حتى صحت لصاحبها ستة أشهر، فحكم فيه بجوازه على
ظاهر هذه الرواية ورواية عيسى عن ابن القاسم في كتاب الغصب وظاهر ما في
كتاب الصرف والغصب من المدونة وعلى ظاهر ما حكاه ابن حبيب أيضا عن مطرف
وابن القاسم وأصبغ من أن البيع جائز وإن كان في يد الغاصب إلا أن يكون
الشهود شهدوا أن الشراء وقع والغصب قائم بحاله، وقول محمد وهو إذا اشتراه
وهو في ملك المستحق محتمل للقولين، وقد قيل: إن قوله في هذه الرواية اشتراء
صحيحا معناه بالشهادة على أن البيع وقع بعد رجوعه إلى يد ربه، فهو مثل
رواية زياد عن مالك، والتأويل الأول أظهر، وأما بيع الشيء المغصوب من غير
الغاصب وهو في يد الغاصب فإن
(10/103)
كان الغاصب ممن لا تأخذه الأحكام مقرا
بالغصب أو منكرا له فالبيع فاسد، وإن كان مقرا بالغصب ممن تأخذه الأحكام
فالبيع جائز، وإن كان منكرا للغصب ممن تأخذه الأحكام يخرج ذلك على اختلاف
في جواز شراء ما فيه خصومة، والقولان قائمان من المدونة، وبالله التوفيق.
[مسألة: يشهدون على شهادة رجل غائب فيقطع الحق
بشهادتهم على شهادته]
مسألة وسألته: عن القوم يشهدون على شهادة رجل غائب فيقطع الحق بشهادتهم على
شهادته ثم يقدم الشاهد الغائب فينكر أن يكون قبله من ذلك العام شيئا أو
يكون أشهد أحدا على شهادته فيما شهدوا به على شهادته أيمضي القاضي القضاء
بهذه الشهادة؟ قال: سمعت مالكا يقول: يفسخ القضاء الذي قضى به في مثل هذا
الوجه، وقال: كيف يقطع حق شهادة على شهادة رجل وهو ينكرها وينكر أن يكون
أشهدهم عليها؟ فلا أرى أن يجوز مثل هذا ولا يمضي به حكم، وقد قال ابن
القاسم في سماع عيسى: إذا شهد رجلان على شهادة رجل فقطع بشهادتهما الحق مع
شاهد أو يمين صاحب الحق إن كان شيئا يجوز فيه شاهد ويمين أو شاهدان ثم جاء
الذي شهد على شهادته فأنكر أن يكون شهد بتلك الشهادة، قال: الحكم ماض ولا
غرم عليهما ولا يقبل قول الشاهد إنهما شهدا عليه بباطل، قلت: فلو كان قدم
قبل أن يحكم بشهادتهما فقال هذا القول فقال: لا شهادة لهما، ويستحلف، صاحب
الحق مع شهادة الثاني.
قال الإمام القاضي: قد مضت هذه المسألة والقول فيها مستوفى في
(10/104)
رسم يوصى لمكاتبه من سماع عيسى، فلا وجه
لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: لا نكاح إلا بولي وشهيدي عدل]
مسألة قال يحيى: سألت ابن وهب عن رجل كان مقرا في صحته بنكاح امرأة وتسأل
المرأة أيضا عما يزعم الرجل من نكاحه إياها فتصدقه وتقر بمثل إقراره وليس
على أصل تناكحهما بينة، فمات الرجل وهو مقيم على إقراره بنكاحها فطلبت
ميراثها منه أيجب لها ميراث بهذا الإقرار؟ قال: لا ميراث بينهما إلا أن
تقوم بينة على أصل النكاح أو يطول زمان ذلك جدا وهما مقران كما ذكرت
ومناكحتهما فاشية بقول الجيران وظاهر الذكر فأرى الميراث بينهما بذلك الذكر
الفاشي مع طول الزمان، وإلا فلا ميراث بينهما، قلت: أرأيت إن كانت المرأة
تخبر في حياة الرجل وصحته بما يدعيه من نكاحها ويقر به من ذلك فتنكر قوله
وتجحد دعواه، فلما مات أقرت وطلبت ميراثها؟ قال: لا شيء لها؛ لأنها إنما
طلبت مالا تريد أخذه بدعواها بلا بينة تقوم على أصل نكاحها، وسألت عن ذلك
ابن القاسم فقال لي مثل قول ابن وهب غير أنه لم يستثن مع إقرارهما طول
الزمان وظهور ذكر ذلك في الجيران ولم يره نكاحا حتى يثبت أصله بالبينة لقول
عمر بن الخطاب: "لا نكاح إلا بولي وشهيدي عدل " وسألت عن ذلك أشهب فقال لي
مثل قول ابن القاسم غير أنه لم يذكر قول عمر ولم يحتج به.
قال محمد بن رشد: أما الولي فهو شرط في صحة العقد، وأما الإشهاد فليس بشرط
في صحته ولكنه لا يتم عند المناكرة إلا به، فقول عمر بن الخطاب: " لا نكاح
إلا بولي وشهيدي عدل " معناه لا نكاح يتم عند المناكرة إلا أن يكون بولي
ويشهد عليه شاهدان، فإذا تقار الرجل والمرأة
(10/105)
على النكاح ولم تقم على أصله بينة وهما غير
طارئين فلا يخلو الأمر من وجهين؛ أحدهما: أن تكون المرأة في ملكه وتحت
حجابه.
والثاني: أن تكون بائنة منه منقطعة عنه، فأما إذا كانت في ملكه وتحت حجابه
فالميراث بينهما قائم والزوجية بينهما ثابتة إذا طال كونه معها واشتهر؛
لأنه إذا لم يطل ذلك ويشتهر فوجوده معها ريبة توجب عليهما الأدب والحد إن
تقارا على الوطء ولم تكن لهما بينة على النكاح على اختلاف في وجوب الحد إذا
لم يقرا بزنى، وإنما أقرا بما لو أقاما عليه البينة لم يكن عليهما شيء، ولا
يؤخذ أحد بأكثر مما أقر به على نفسه، وهو أصل أشهب، وكذلك إن لم يعلم منها
إقرار بما كان يقر هو به ويذكره من نكاحها بكون الميراث بينهما قائما
والزوجية بينهما ثابتة؛ لأن كونها في ملكه وتحت حجابه كالإقرار منها
بالنكاح أو أقوى، وأما إذا كانت بائنة منقطعة عنه فقال: إنه لا ميراث
بينهما وإن طال ذلك وفشا ذكره في الجيران، و [هو] ظاهر قول ابن القاسم
وأشهب في هذه الرواية، وهو بعيد؛ لأن النكاح مما تصح فيه الشهادة على
السماع إذا طال الأمر ومضى من الزمان ما يبيد فيه الشهود على اختلاف بينهم
في حد ذلك، وقيل: إنهما يتوارثان إذا طال ذلك وفشا ذكره في الجيران فشهدوا
فيه على السماع، وهو قول ابن وهب في هذه الرواية أن الميراث بينهما بالذكر
الفاشي مع طول الزمان يريد الطول الذي يبيد فيه الشهود، وأما إن لم يمض من
المدة ما يبيد فيه الشهود وتجوز فيه شهادة السماع فلا اختلاف في أن الميراث
لا يكون بينهما إلا أن تقوم بينة على أصل النكاح، ولو اشتهر الأمر اشتهارا
يخرج عن حد الشهادة على السماع إلى حد التواتر الذي يوجب العلم لجاز للشاهد
أن يشهد بذلك على انقطاع قولا واحدا، وإن لم يطل الأمر، فالاختلاف إنما هو
إذا طال الأمر وشهد الشهود العدول فيه على السماع لا على القطع من ناحية
(10/106)
السماع، ويحتمل أن يكون ابن وهب تكلم على
أن الأمر اشتهر واستذاع حتى يشهد فيه الشهود على القطع، وأن ابن القاسم
وأشهب إنما تكلما إذا شهد الشهود على السماع لا على القطع فلا يكون بينهما
اختلاف، ويحتمل أن يكون الخلاف بينهما إنما يرجع إلى حد الطول الذي يجوز
فيه شهادة السماع لا إلى نفس إجازة شهادة السماع في ذلك.
وقوله في الرواية: إن المرأة إذا كانت في حياته تنكر قوله وتجحد دعواه فلما
مات أرادت أن ترثه بإقراره لها بالنكاح إن ذلك لا يكون لها، يريد وإن طال
ذلك وفشا في الجيران فشهد به على السماع، صحيح بين لا إشكال فيه ولا كلام
لأنها قد كذبت البينة وأقرت على نفسها أنه لا ميراث لها فيه، وإنما الكلام
إذا لم يعلم منها في حياته إقرار ولا إنكار، فلما مات ادعت صحة ما كان يقر
به من نكاحها مع طول ذلك واشتهاره في الجيران والشهادة [به] على السماع،
فالصحيح في النظر أنها ترثه بذلك إذا لم يعلم منها إنكار أو يرثها هو أيضا
بذلك أعني بالشهادة على السماع مع الطول خلاف ظاهر ما في رسم الكبش من سماع
يحيى من كتاب النكاح، وقد مضى هناك، وفي رسم الجواب من سماع عيسى من كتاب
الأقضية طرف من القول على هذه المسألة، وبالله التوفيق.
[: لم يكن له شاهد فقضي على المدعي عليه
باليمين فنكل عنها]
ومن كتاب أوله: أول عبد ابتاعه فهو حر وسألته: عن الرجل يقيم الشاهد الواحد
على حق له قبل رجل فقال له: احلف واستحقه، فيرد اليمين على المطلوب فيحلف
ويبرأ، ثم يجد صاحب الحق شاهدا آخر أيلحقه بشهادة الأول ويستحق حقه أم لا
يكون ذلك له؟ فقال: ليس ذلك له إذا عرض عليه استحقاق حقه بيمينه مع شاهده
فلم يقبل بذلك قطع
(10/107)
بحقه، وليس هو مثل الذي لا يجد بينة أو
تغيب بينته فيقضي على خصمه باليمين ثم يجد البينة على حقه، أو يقدم شهداؤه
الغيب فهذا الذي يستحق حقه لما يحدث له من إحضار بينته.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة فيها أربعة أقوال؛ أحدها: ظاهر قوله في هذه
الرواية إن نكوله عن اليمين مع شاهده ويمين صاحبه قطع بحقه فلا يكون له
شيء، وإن أتى بشاهدين سوى الأول، وهو قول ابن كنانة وابن القاسم في
المبسوطة.
والثاني: أنه إن جاء بشاهدين سوى الأول قضي له بهما، وإن أتى بشاهد واحد لم
يقض له بشيء.
والثالث: أنه إن أتى بشاهدين سوى الأول قضى له بهما وإن أتى بشاهد واحد قضى
له به مع الشاهد الأول وأخذ حقه دون يمين، وهو قول عيسى بن دينار ورواية
ابن الماجشون عن مالك.
والرابع: أنه إن أتى بشاهدين قضى له بهما، وإن أتى بشاهد واحد سوى الأول
استؤنف له الحكم فحلف معه، واختلف على هذا القول إن نكل عن اليمين، فقيل:
يحلف المطلوب ثانية، روي ذلك عن ابن القاسم، وقيل: لا يرد اليمين على
المطلوب ثانية؛ لأنه قد حلف عليه مرة، وهو قول أحمد بن ميسر، وهذا الاختلاف
إنما هو إذا لم يعلم أن له شاهدا سوى شاهده أو علم به وهو بعيد الغيبة في
الموضع الذي يكون له أن يقدم ببينته إذا استحلف المدعى عليه ولا شاهد له.
قال ابن دحون: فإن اشترط عند يمين المطلوب أنه يقوم إن وجد شاهدا آخر أو
شاهدين على ذلك وحلف المطلوب فله ذلك عند الجميع، ومعنى قوله عندي إذا رضي
المطلوب أن يحلف على ذلك، وأما إن لم يرض فلا يلزمه الرضى كما لا يلزمه
الرضى بذلك إذا لم يكن للطالب شاهد، بل هو هنا أحرى ألا يلزمه، واختار أصبغ
القول الأول، قال: ومما يبين ذلك أن لو لم يكن له شاهد فقضي على المدعي
عليه باليمين فنكل عنها فردت على المدعي فنكل عنها فلم يأخذ شيئا ثم وجد
بينة على دعواه أنه يقضى له بها.
قال أصبغ: وهذا الذي لا أعرف غيره من قول أصحاب مالك يريد أصبغ أن المدعي
كان قادرا على أن يأخذ حقه بيمينه عند نكول المدعى عليه كما كان قادرا على
أخذ حقه ببينة مع شاهده، وتنظيره بين المسألتين صحيح، وإن لم
(10/108)
يوجد في المسألة التي احتج بها نص اختلاف
بين أصحاب مالك كما زعم فإن الاختلاف عندي داخل فيها بالمعنى، فعلى قياس
القول الأول لا يقضى له ببينة إن جاء بها ولا بشاهد مع يمينه، وعلى القول
الثاني يقضى له ببينته إن جاء بها ولا يقضى له بشاهد مع يمينه لنكوله أولا
عن اليمين، وعلى القول الثالث يقضى له ببينته إن جاء بها وشاهد مع يمينه إن
جاء بشاهد واحد، وكذلك أيضا لو نكل المدعى عليه عن اليمين فغرم بعد يمين
المدعي ثم وجد بينته على القضاء أو شاهدا واحد فأراد أن يحلف معه ويسترجع
ما غرم لجرى الأمر في ذلك على الأقاويل الثلاثة، وقد ذهب بعض الناس إلى أن
هذه المسألة معارضة لأول مسألة من رسم المكاتب، وليس ذلك عندي بصحيح،
والفرق بين المسألتين أن الطالب في هذه المسألة قد رضي بترك حقه في أن يحلف
مع شاهده واستحلف المطلوب فصار ذلك حكما له باليمين فلا تبطل على أحد
القولين، ومسألة كتاب المكاتب الحق فيها إنما هو لله، ولا يجوز فيه إلا
أربعة شهداء، فإذا شهد فيه أقل من أربعة شهداء لم تجز شهادتهم ولا كان لها
حكم يتعلق بالمشهود عليه ولا بالمشهود له القائم بالشهادة، فوجب إذا جاء
شاهد رابع أن يضاف إلى الثلاثة فيقام الحد على المشهود عليه ولا يحد
الثلاثة إن كانوا لم يحدوا بعد، وهذا على القول بأنه ليس من شرط صحة
الشهادة على الزنى أن يأتي الشهود جميعا؛ لأنه على هذا القول بمنزلة من
أقام شاهدا واحدا على نسب أو على عتق فلم يحكم بشهادته، إذ لا يجوز في ذلك
أقل من شهادة شاهدين حتى جاء بشاهد آخر، ولا اختلاف في أنه يضاف إلى الشاهد
الأول فيحكم بشهادتهما، وقد مضى في رسم الصبرة القول في إتيان المحكوم عليه
ببينة لم يعلم بها، وهي من شرح هذه، وبالله التوفيق.
[مسألة: يقتل أخوه وللمقتول أولاد هم ورثته
فشهد الأخ على رجل أنه قتل أخاه]
مسألة وسألته: عن الأخ العدل المشهور بالصلاح يقتل أخوه وللمقتول أولاد هم
ورثته، فشهد الأخ على رجل أنه قتل أخاه
(10/109)
ذلك أتجوز شهادته؟ قال: لا أرى ذلك، قلت:
لم؟ وإنما وارثه بنو أخيه، فشهادته الآن ليست لأخيه، إنما هي لبني الأخ،
قال: أعظم إجازة شهادته في دم أخيه أو ما يجر إلى ذلك، قال: ولا تجوز
شهادته أيضا في الحدود إن قذف في بدنه أو قذفت أمه، وإن كان ليس بأخيه
لأمه، قال: وأجيز شهادته له في النكاح والحقوق إذا كان عدلا.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول فيها مستوفى في أول رسم من سماع
ابن القاسم، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[: أربعة أولاد لرجل شهدوا على أبيهم بالزنى
وأبوهم معدم وهم عدول]
من سماع سحنون وسؤاله ابن القاسم وأشهب قال سحنون: سئل أشهب عن أربعة أولاد
لرجل شهدوا على أبيهم بالزنى، وأبوهم معدم، وهم عدول، قال: يرجم الأب، قيل
لأشهب: فإن كان الأب موسرا؟ قال: لا تجوز شهادتهم لمكان الميراث، وقال
أصبغ: إلا أن يكون الأب إذ زنى كان بكرا فتقبل شهادتهم مليا كان أو معدما
ويجلد، قال سحنون: قلت لأشهب: وكذلك لو شهدوا على أبيهم أنه قتل فلانا
عمدا؟ قال: نعم والمعسر أيضا لا تجوز شهادتهم عليه؛ لأنهم يريدون الاستراحة
منه لمكان النفقة عليه.
قال محمد بن رشد: مساواة أشهب في هذه المسألة بين أن يشهدوا على أبيهم بزنى
أو بقتل فيها نظر؛ لأن شهادتهم عليه بالقتل إذا دعوا إلى الشهادة عليه
واجبة عليهم، لقول الله عز وجل:
(10/110)
{وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ
يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283] وقوله عز وجل: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ
لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النساء: 135] الآية، ومستحبة لهم إذا
لم يدعوا إليها لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
«خير الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها الحديث» فوجب إذا شهدوا عليه
بالقتل أن تجوز شهادتهم عليه دعوا إلى الشهادة عليه أو لم يدعوا إليها إلا
أن يتهموا بجر ميراثه إلى أنفسهم، أو بالاستراحة من النفقة عليه، وشهادتهم
عليه بالزنى مكروه لهم؛ لأنهم مأمورون في ذلك بالستر على أنفسهم وعلى
الناس، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أصاب من
هذه القاذورات شيئا فليستتر بستر الله، فإنه من يبدلنا صفحته نقم عليه كتاب
الله» وقال لهزال: «يا هزال لو سترته بردائك لكان خيرا لك» فالصواب أن لا
تجوز شهادتهم عليه بالزنى؛ لأن ذلك عقوق منهم له إلا أن يعذروا في ذلك بجهل
أو يكونوا قد دعوا إلى الشهادة عليه مثل أن يقذفه رجل بالزنى فيقوم عليه
بحده فيسأل القاذف بنيه أن يشهدوا له بزناه ليسقط عنه حد القذف، وعلى هذا
ينبغي أن يحمل قول أشهب، والله أعلم، وإذا سقطت شهادتهم عنه بأي وجه سقطت
وجب الحد عليهم، وقد قاله سحنون إذا سقطت شهادتهم بالظنة، ولا فرق بين أن
تسقط بالظنة أو بالجرحة، ورأى ابن لبابة شهادتهم عليه مما يوجب قتله جائزة
مليا كان أو معدما، قال: ولا يتهم العدول بالميراث ولا بطرح النفقة، وهو
قول له وجه في المبرز في العدالة
(10/111)
البائن في الفضل في الموضع الذي يتعين عليه
فيه الشهادة، ويأتي على قياس قول ابن القاسم في الإمام يشهد عنده على
المرأة المحصنة أربعة بالزنى أحدهم زوجها فلا يعلم بذلك حتى يقيم عليها حد
الرجم إن له الميراث منها ويحد إلا أن يلاعن خلاف قول أصبغ في أنه لا ميراث
له منها، وبالله التوفيق.
[مسألة: الصغير يموت أبوه فيقوم له شاهد عدل أن
أباه تصدق عليه بعبده فلان]
مسألة قال ابن القاسم في الصغير يموت أبوه فيقوم له شاهد عدل أن أباه تصدق
عليه بعبده فلان وقبضه له وشهد له آخر أن أباه نحله إياه، قال: لا أرى
شهادته واحدة، وأراها مختلفة؛ لأن النحل يعتصر، والصدقة لا تعتصر، فهذان
أمران مختلفان، ثم قال: أرأيت لو أن رجلا قام له شاهد على رجل أنه أسلفه
مائة دينار وقام آخر فشهد له أيضا أن له عليه مائة دينار من ثمن جارية،
فكذلك مسألتك الأولى، وأرى أن يحلف مع شاهديه مع كل واحد منهما ويستحق
مائته.
قال محمد بن رشد: وقعت هذه المسألة ههنا وفي سماع محمد ابن خالد، ووقعت
أيضا في رسم كراء المزارع والدور من سماع يحيى ساقطة الجواب، وقد مضى القول
عليها مستوفى في رسم العرية من سماع عيسى، فلا معنى لإعادته، وبالله
التوفيق.
[مسألة: الرجل الواحد هل يعدل الرجل أو يجرحه]
مسألة وسألت ابن القاسم: عن الرجل الواحد هل يعدل الرجل أو يجرحه؟ قال
مالك: لا، قلت له: فالقاضي إذا كان له من يسأل في السر؟ قال: لا أحب للقاضي
أن يسأل في السر أقل من اثنين، ولا يقبل في التعديل أقل من اثنين، ولا يقبل
في السر إلا اثنين، وكذلك في العلانية.
(10/112)
قال الإمام القاضي: قد مضى القول في هذه
المسألة مستوفى في أول رسم من سماع أشهب، فلا معنى لإعادته، وبالله
التوفيق.
[مسألة: تزكية النساء]
مسألة وقال ابن القاسم: لا تجوز تزكية النساء ولا تجريحهن ولا شهادتهن في
الهلال في رمضان ولا في الحج ولا في الفطر.
قال محمد بن رشد: هذه المسألة قد مضى القول فيها مستوفى في رسم الأقضية
الثاني من سماع أشهب وفي غيره من المواضع، فلا معنى لإعادته، وبالله
التوفيق.
[مسألة: ثبوت شهادة الشاهد بشاهد ويمين]
مسألة وقال أشهب في الرجل يقيم شاهدا على رجل أن فلانا وكله على حق له
يطلبه قبل هذا الرجل أيحلف الوكيل مع شاهده أنه وكيل قال: لا يحلف الوكيل
مع شاهده، وكذلك سمعت، ولا تثبت الوكالة إلا بشاهدين.
قال محمد بن رشد: قوله: إن الوكالة لا تثبت بشاهد ويمين يريد وإن كانت
الوكالة في المال صحيح على معنى ما في المدونة وغيرها من أنه لا يجوز أن
يشهد على شاهد ويحلف المدعي مع هذا الشاهد على شهادة ذلك الشاهد؛ لأن
المعنى فيهما جميعا سواء، ألا ترى أن سحنون علل في المدونة المنع من ثبوت
شهادة الشاهد بشاهد ويمين بأن الشاهد ليس بمال، فكذلك الوكالة ليست بمال،
فعلى تعليله لا تثبت بشاهد ويمين كما لا تثبت شهادة الشاهد بشاهد ويمين،
وقد قال ابن دحون: إنه يلزم من أجاز شهادة النساء على الوكالة في المال أن
يجيز شاهدا ويمينا على الوكالة في المال؛ لأنها تئول إلى المال، وليس ذلك
بصحيح، إذ ليس كل موضع يجوز فيه شاهد وامرأتان يجوز فيه شاهد ويمين، وإنما
الذي يقول سحنون
(10/113)
وابن الماجشون أن كل موضع يجوز فيه شاهد
ويمين يجوز فيه شاهد وامرأتان، وهما لا يجيزان شهادة النساء في الوكالة على
المال إنما يجيزانها على نفس المال وفيما لا يحضره إلا النساء، وبالله
التوفيق.
[مسألة: يشهد على الرجل وهو من أهل العدل فلا
يحكم القاضي بشهادته]
مسألة وسألت ابن القاسم: عن الرجل يشهد على الرجل وهو من أهل العدل فلا
يحكم القاضي بشهادته حتى يقع فيما بينه وبين المشهود عليه خصومة، أترى أن
ترد شهادته بذلك؟ قال: لا وإنما يرد كل ما شهد به بعد الخصومة.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول فيها مستوفى في أول رسم من سماع
أشهب وفي رسم باع شاة من سماع عيسى، ويأتي في نوازل أصبغ فنتكلم عليها إذا
مررنا بها إن شاء الله، وبالله التوفيق.
[مسألة: يشهد عليه أنه وجد به ريح شراب فيقول
المتهم للقاضي إنه عدو لي]
مسألة وسئل ابن القاسم: عن الرجل يشهد على الرجل أنه وجد به ريح شراب فيقول
المشهود عليه للقاضي إنه عدو لي مصارم، فيسأل القاضي عن ذلك رجلا والرجل
يعلم أن الشاهد عدو للمشهود عليه والشاهد عدل، أترى أن يجيزه بذلك؟. قال:
نعم، قيل له: فإن كان الرجل المسئول قد أقر عنده الذي وجد به ريح شراب أنه
شراب أترى إذا سأله القاضي عن الشاهد أنه عدو للمشهود عليه أترى أن يجيزه
بذلك؟ قال: لا يجيز بذلك حتى يقام على المشهود عليه الحد، ثم قال: أرأيت لو
أن رجلا أقر عنده رجل أن لفلان عنده دنانير فشهد على ذلك الرجل بذلك الحق
رجال هم أعداؤه وهم عدول، فقال المشهود عليه هم أعدائي فسأل القاضي الذي
أقر عنده أهم أعداؤه وهو يعلم أينبغي
(10/114)
له أن يعلمه بذلك؟ فقال: لا أرى ذلك.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما يأتي لسحنون في نوازله بعد هذا وخلاف ما مضى
في رسم الشجرة من سماع ابن القاسم وفي أول رسم من سماع عيسى، وقد مضى القول
على ذلك في الموضعين، وبالله التوفيق.
[مسألة: شهادة امرأتين في جراح العمد]
مسألة قال ابن القاسم: لا تجوز شهادة امرأتين في جراح العمد إنما تجوز في
جراح الخطأ وقتل الخطأ، وسئل عنها سحنون، فقيل له: إنها ذكرت بمصر فقال:
شهادة النساء في جراح العمد جائزة، وأصل قولنا في هذا أن كل ما جاز فيه
اليمين مع الشاهد فشهادة النساء فيه جائزة، وما لا تجوز فيه اليمين مع
الشاهد فشهادة النساء فيه ساقطة، فوجدنا اليمين مع الشاهد جائزة في جراح
العمد، فمن ثم جازت شهادة النساء فيه، وهو قول ابن الماجشون، وكذلك لو شهدت
امرأتان ورجل، أن رجلا أوصى بوصية للمساكين لم تجز الوصية؛ لأنه ليس فيها
يمين مج الشاهد؛ لأن النساء إنما تجوز شهادتهن في كل موضع يكون فيه اليمين
مع الشاهد، وهذا موضع لا يجوز فيه اليمين مع الشاهد.
قال محمد بن رشد: هذا الأصل الذي التزمه سحنون وابن الماجشون من أن كل موضع
يجوز فيه اليمين مع الشاهد تجوز فيه شهادة النساء لم يلتزمه ابن القاسم؛
لأنه لم يجز في هذه الرواية شهادة امرأتين في جراح العمد وهو يجيز القصاص
في جراح العمد باليمين مع الشاهد، ويحتمل أن يتأول مذهبه على ذلك؛ لأن قوله
اختلف في القصاص من
(10/115)
الجراح باليمين مع الشاهد على ما ذكرنا
وحصلنا القول فيه في رسم القضاء من سماع أشهب، واختلف قوله أيضا في إجازة
شهادة النساء في ذلك أيضا فقال في هذه الرواية: إن شهادتهن لا تجوز في ذلك،
ووقع في المجموعة وكتاب ابن سحنون اختلاف قول ابن القاسم في ذلك، وأن الذي
رجع إليه أنها لا تجوز، فيحتمل أن يقال: إنه إنما أجاز شهادة النساء في ذلك
على القول بأن اليمين تكون في ذلك مع الشاهد، وأنه إنما منع من إجازة شهادة
النساء في ذلك على القول بأن اليمين مع الشاهد لا يكون في ذلك [عنده] وأما
قول ابن الماجشون في المنع من إجازة شهادة النساء في الوصية بالمال
للمساكين فهو إغراق على طرد أصله، وليس بثابت في جميع الروايات، والصواب
إجازة شهادة النساء في ذلك على أصله؛ لأن اليمين مع الشاهد إنما امتنع من
أجل أن صاحب الحق غير معين لا من أجل أن الوصية بالمال لا تستحق باليمين مع
الشاهد، فمذهب ابن الماجشون وسحنون أن شهادة النساء لا تجوز إلا فيما يجوز
فيه الشاهد واليمين، وأن الشاهد واليمين لا يجوز إلا فيما يجوز فيه شهادة
النساء، فكل موضع يجوز فيه هذا يجوز فيه هذا، وكل موضع لا يجوز فيه هذا لا
يجوز فيه هذا.
وأما على مذهب ابن القاسم المشهور عنه فكل موضع يجوز فيه اليمين مع الشاهد
يجوز فيه شهادة النساء، وليس كل موضع يجوز فيه شهادة النساء يجوز فيه
اليمين مع الشاهد، فما يجوز فيه شهادة النساء أعم وأكثر مما يجوز فيه
الشاهد واليمين؛ لأن شهادة النساء تجوز عنده على الوكالة في المال وعلى
شهادة الشاهد بالمال، ولا يجوز عنده في شيء من ذلك شاهد ويمين، وإذا قلنا
على، مذهبه في هذه الرواية إنه يجيز القصاص باليمين مع الشاهد ولا يجيز
شهادة النساء في ذلك فليس أيضا كل موضع يجوز فيه اليمين مع الشاهد تجوز فيه
شهادة النساء، فعلى هذا من الأشياء ما يجوز فيه هذا وهذا، ومنها ما لا يجوز
فيه هذا ولا هذا، ومنها ما يجوز فيه هذا ولا يجوز فيه هذا، وبالله التوفيق.
(10/116)
[مسألة: لاعب
الشطرنج أما المدمن عليها فلا تجوز شهادته]
مسألة وكتب إلى سحنون يسأل عن الحديث الذي ذكر عن عمر في قوله: " والمسلمون
عدول بعضهم على بعض إلا مضروبا حدا أو مجرحا في شهادة زور أو ظنينا في ولاء
أو قرابة " وكتب يقول: ما الحال التي يستوجب بها الرجل المسلم أن يكون عدلا
يلزم من عرفه من الحكام قبول شهادته ويلزم من عرفه من أهل العدل تعديله حتى
يقول فيه عند القاضي هو عندي عدل، وأنتم لا تجيزون من المعدل غير هذا
القول، فقد يكون الرجل ظاهر الصلاح من أهل المساجد، وربما كان مع ذلك من
أهل الحج والجهاد لا يعلم منه من جاوره إلا خيرا، أو لعله لم يخالطه في
الأخذ والإعطاء فيعرف به قبح دينه، وربما كان على هذه الصفة وهو يقارب بعض
الأشياء المكروهة غير الكبائر والمستشنع من الأمور، فإن قلت: إنه لا يجوز
لمن قارب الذنوب أن يوصف بالعدالة والرضا، فمن هذا الذي يسلم من مقاربة
الذنوب والزلل، وقد قيل: اتقوا زلة العالم، وانتظروا فيئته، فما هي هذه
الزلة من العالم؟. وهل هو إذا واقعها بها مجرح ساقط الشهادة، فقد ذكر في
وصية الخضر لموسى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حيث يقول:
«واستكثر من الحسنات فإنك مصيب السيئات واعمل خيرا فإنك لا بد عامل شرا» ،
وهو نبي مرسل، فكيف بمن دونه من الناس؟ وقد يكون الرجل يقبل
(10/117)
صلة السلطان ويأكل طعامه، وسلاطين هذا
الزمان من قد علمت، أتراه [لذلك] مجرحا ساقطا الشهادة؟ فإن قلت: إن ذلك
لجرحة في شهادته فقد قبل جوائز السلطان من قد علمت من أئمة الهدى والعلم،
قد أخذ ابن عمر جوائز الحجاج، والحجاج من قد علمت، وأخذ ابن شهاب جوائز عبد
الملك بن مروان وغيره من الخلفاء، وأخذ مالك جوائز أبي جعفر، فإن قلت: إنهم
كانوا يأخذون ذلك على الخوف فإن منهم من يأمن السلطان بترك الأخذ منه فلم
ير إلا خيرا، وقد ذكر أن أبا جعفر أمر لمالك بثلاث صرر دنانير فاتبعه
الرسول [بها] . فسقطت منها صرة في الزحام، فلما أتاه بالصرتين سأله عن
الثالثة، فأنكر أن يكون أخذ غير الصرتين فلزمه مالك بالثالثة وألح عليه
فيها حتى أتى بها بعض من وجدها فدفعها إليه، فمالك لم يفعل هذا إلا متطوعا،
فإن رأيت طرح شهادة من أخذ من السلطان فجميع القضاة منه يرزقون وإياه
يأكلون، قال سحنون: اكتب إليه: أما قولك: ما الحال التي يستوجب بها الرجل
المسلم أن يكون عدلا يلزم الحكم قبول شهادته فهو الرجل المشهور بالعدالة في
بلده المتواتر عليه بهذا الذي يكون عند الحكم من معرفته مثل الذي يكون عند
الذي يريد تعديله وقد جازت شهادته وعرفت عدالته، وقد قال مالك: من الرجال
رجال لا يسأل عنهم لشدة عدالتهم والاجتماع على ذلك منهم، فأما قولك ويلزم
من عرفه عدالته ويكون الرجل ظاهر الصلاح من أهل المساجد والجهاد فلا يزكيه
بذلك حتى يعرف باطنه كما عرف ظاهره ويثبت عنده من معرفة باطنه مثل الذي ثبت
من
(10/118)
معرفة ظاهره، ولن يكون ذلك ولا يوقع على
حقيقته إلا بالصحبة الطويلة والمعاملة والأخذ والإعطاء، فإذا فعل ذلك زكاه.
[وقد قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: كان يقال إذا مدح الرجل الرجل: أصحبته
في سفر؟ أخالطته في ماله؟ كأنه يرى أنه لا يوقع على صحة معرفته إلا
بالمخالطة والسفر.
وأما قولك: وربما قارب بعض الأشياء المكروهة وقارب بعض الذنوب فإن ذلك لن
يسلم منه أحد، وليس أحد بمعصوم من الخطأ والزلل، فإذا كان الأمر الخفيف من
الزلة والفلتة لم يضره ذلك في عدالته، وقد كان مالك يقول: من الرجال رجال
لا تذكر عيوبهم، يقول: يكون العيب خفيفا، والأمر كله جميل حسن، فلا يذكر
اليسير الذي ليس أحد منه بمعصوم مع هذا الصلاح الكثير] وقد قال مالك -
رَحِمَهُ اللَّهُ - في لاعب الشطرنج: أما المدمن عليها فلا تجوز شهادته،
فإن كان ذلك منه على غير الإدمان وكان الأمر الخفيف قبلت شهادته، فلو كان
من قارب هذه الذنوب التي لا يسلم منها أحد لا تقبل شهادته ما قبلت لأحد
شهادة، قال: وقال الله لنبيه: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ
ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2] وقد كان يقال: ليس المتقي لحدود
الإسلام كاللاعب فيها، وأما قولك فقد كان يقال: اتقوا زلة العالم فزلته
عندنا والله أعلم أن يبتدع بدعة فيتبع عليها، ألا ترى أنه قد قيل: اتقوا
زلة العالم، فإنه إذا زل زل بزلته عالم كثير، وإذا فعل ذلك من العمال عمال
أمير المؤمنين المضروب على أيديهم فهو ساقط الشهادة عندنا، وأما
(10/119)
الأكل فمن كان ذلك منه الزلة والفلتة فغير
مردود الشهادة، وهذا من الذنوب التي وصفت لك، وأما المدمن الأكل عندهم
فساقط الشهادة، وأما ما احتججت به من قبول ابن شهاب ومالك لجوائز السلطان
فقد قست بغير قياس، واحتججت بما لم يحتج به من قبل أن قبول مالك لها من عند
من تجري على يديه الدواوين وهو أمير المؤمنين، وجوائز الخلفاء جائزة لا شك
فيها على ما شرط مالك لاجتماع الخلق على قبول العطاء من الخلفاء ممن يرضى
منهم وممن لا يرضى، وجل ما يدخل بيوت الأموال بالأمر المستقيم، والذين
يظلمون قليل في كثير، ولم نعلم أحدا من أهل العلم أنكر [أخذ] العطاء من زمن
معاوية إلى اليوم.
وأما قولك في القضاة فإنما هم أجراء للمسلمين أجروا أنفسهم [للمسلمين] فلهم
أجرهم من بيت مال المسلمين، وأما ما ذكرت عن ابن عمر فقد سمعت علي بن زياد
ينكر ذلك عن ابن عمر ويدفعه.
قال محمد بن رشد: لم يجب سحنون على السؤال الأول من هذه المسائل في معنى ما
ذكر عن عمر بن الخطاب من أن «المسلمين عدول بعضهم على بعض إلا مضروبا حدا»
إلى قوله وهو كلام ظاهره أن الشاهد محمول على العدالة لمجرد الإسلام، وقد
تعلق بذلك أبو حنيفة، فقال: إن مجرد الإسلام يقتضي العدالة، وإن كل من أظهر
الإسلام يحكم له بالعدالة وتقبل شهادته حتى يعرف فسقه، وحكى عنه أبو بكر
الرازي أن ذلك في زمن أبي حنيفة؛ لأن القرن الثالث الذي أثنى عليه رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
(10/120)
وأما بعد القرن الثالث، فلا يكتفي في عدالة
الشاهد بمجرد الإسلام، والصحيح ما ذهب إليه مالك والشافعي وأصحابهما من أن
الشاهد لا تقبل شهادته بمجرد إسلامه حتى تعرف عدالته بكونه على الأحوال
المرضية فيه لقول الله تعالى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ}
[البقرة: 282] وقوله: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2]
فنقول: إن قول عمر بن الخطاب هذا ليس على ظاهره من وجوب قبول شهادة الشاهد
بمجرد إسلامه؛ لأنا لو اتبعنا ظاهره لوجب أن نجيز شهادة المسلم وإن علمنا
فسقه إذا لم يتهم في ولاء، ولا قرابة ولا علمت منه شهادة زور ولا كان
مجلودا في حد، إذ لم يستثن في الحديث إلا هؤلاء الثلاثة، فلما لم يصح ذلك
بالإجماع وجب ألا يحمل الحديث على ظاهره، وأن يكون المعنى الذي قصد فيه أن
الإسلام شرط في قبول شهادة الشاهد كما أن البلوغ والحرية شرط في قبول
شهادته، فمعنى قوله على هذا التأويل أن المسلمين هم الذين تجوز شهادة بعضهم
على بعض لا الكفار، ويدل على صحة هذا التأويل قوله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
-: "والله لا يؤسر رجل في الإسلام بغير العدول " ويحتمل أن يريد بقوله رضي
(10/121)
الله عنه: «المسلمون عدول بعضهم على بعض»
الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -؛ لأنهم محمولون على العدالة بتعديل
الله إياهم حيث يقول: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} [آل عمران: 110] الآية
وبقوله: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الفتح: 29] الآية
وبقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أصحابي كالنجوم بأيهم
اقتديتم اهتديتم» فلما كان هذا أحكام الصحابة كان الأمر في زمن رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر وصدر من خلافة عمر على أن كل
مسلم عدل؛ لأنهم كانوا أصحابه، فلما بعد العهد في آخر خلافة عمر وظهرت
شهادة الزور فيمن شهد من غير الصحابة فأخبر بذلك ولم يكن ظن به قال: "والله
لا يؤسر رجل في الإسلام بغير العدول " وهذا التأويل أسعد بالظاهر والله
أعلم، ومن تعلق بظاهر قول عمر هذا في حمل الشاهد على العدالة حتى تعرف
جرحته يلزمه أن يحكم بشهادة الشاهد المجهول الحال دون تعديل في الحدود
والقصاص وهو لا يقول بذلك فقد نقض أصله وسقط قوله، وإنما تبتغى العدالة في
الشاهد حيث لا يعدم العدول في أغلب الأحوال، وأما حيث يعدمون كشهادة
الصبيان فيما يقع فيما بينهم من الجراح والقتل، وكشهادة أهل الرفقة فيما
يقع بينهم في السفر ففي ذلك اختلاف وتفصيل ليس هذا موضع ذكره، وأما قول
سحنون
(10/122)
في صفة الشاهد الذي يجب على الحاكم قبول
شهادته ويجب على من عرفه تعديله إنه المعروف بالعدالة وإن قارب بعض الذنوب
والأشياء المكروهة، فإنه قول صحيح بين لا اختلاف فيه، وقد اختلف فيما يحد
به العدالة من الألفاظ، وأحسن ما رأيت في ذلك أنه المجتنب للكبائر، المتوقي
من الصغائر؛ لأن من واقع الكبائر فهو فاسق، ومن لم يبال بالصغائر ولا توقى
منها فليس بعدل؛ لأن كل صغيرة إذا انفردت فهي كبيرة إذ قد استوجب عليها
عقاب الله إلا أن يغفر له، فلا يقال فيها إنها صغيرة إلا بإضافتها إلى
الكبيرة لكنه لما لم تمكن السلامة منها لم يخرج عن العدالة بالوقوع في شيء
منها، وأما الأنبياء - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - فهم معصومون من
الكبائر، وأما الصغائر فقيل: إنهم غير معصومين منها بدليل قول الله عز وجل
لنبيه - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ
مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2] والذي أقول به أنهم معصومون من
القصد إلى إتيان الصغائر، كما أنهم معصومون من القصد إلى إتيان الكبائر إلا
أنهم يؤاخذون لمكانتهم ومنزلتهم بما ليس بكبائر ولا صغائر في حق من سواهم،
وهذا نحو قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «اللهم إن هذا قسمي فيما أملك
فلا تؤاخذني فيما تملك ولا أملك» سأل الله عز وجل ألا يؤاخذه فيما ليس في
وسعه ولا يدخل تحت طاقته وقدرته، وأن يغفر ذلك له، وإن كان الله قد تجاوز
لعباده عنه بقوله عز وجل: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا}
[البقرة: 286] . وقول سحنون: إن قبول الجوائز من العمال المضروب على أيديهم
جرحة تسقط الشهادة والعدالة صحيح، ومعناه عندي إذا قبضوا ذلك من العمال على
الجباية الذين إنما جعل عليهم قبض الأموال وتحصيلها دون وضعها في وجوهها
ومواضعها
(10/123)
بالاجتهاد في ذلك، وأما الأمراء الذين فوض
إليهم الخليفة وخليفة الخليفة قبض الأموال وجبايتها وتصريفها باجتهادهم في
وجوهها ومواضعها كالحجاج وشبهه من الأمراء على البلاد المفوض جميع الأمور
فيها إليهم فقبض الجوائز منهم كقبضها من الخلفاء، فإن صح أخذ ابن عمر جوائز
الحجاج فهذا وجهه، وأما القضاة والأجناد والحكام فلهم أن يأخذوا أرزاقهم من
العمال المضروب على أيديهم أعني العمال الذين فوض إليهم النظر في ذلك وضرب
على أيديهم فيما سوى ذلك من إعطاء مال الله لمن يرونه بوجه اجتهادهم، وقد
روي عن مالك أنه قال: لا بأس بجوائز الخلفاء، فأما جوائز العمال ففيها شيء،
يريد، والله أعلم، العمال الذين ظاهر أمرهم أن الأمور كلها مفوضة إليهم،
وأن الخليفة قد أنزله في جميعها منزلته ولم يتحقق ذلك، فلذلك قال: إن في
أخذ الجوائز منهم شيء يريد أن ذلك مكروه فتركها أحسن، ولو تحقق ذلك لم يكن
لكراهة أخذ الجوائز منهم وجه، كما أنه لو تحقق أنه لم يؤذن لهم في إعطاء
المال باجتهادهم لمن لم يعمل عليه عملا لم يكن لتسويغ أخذ الجوائز منهم
وجه، فإذا كان المجبي حلالا وعدل في القسمة فاتفق أهل العلم على جواز أخذ
الجوائز منه، [وإذا كان المجبي حلالا ولم يعدل في القسمة فيه، فمنهم من
أجاز الجوائز منهم..] ، وهم الأكثر، ومنهم من كرهه حتى يعدل في القسمة فيه،
وإذا كان المجبي يشوبه حلال وحرام فمنهم من كره أخذ الجوائز منه وهم
الأكثر، ومنهم من أجازه، وإذا كان المجبي حراما فمنهم من حرم أخذ الجوائز
منه والأرزاق على عمل من الأعمال، روي هذا القول عن مالك، ومنهم من أجازه،
ومنهم من كرهه، وإن كان الغالب عليه الحرام فله حكم الحرام، وإن كان الغالب
عليه الحلال فله حكم الحلال، وفيه كراهة ضعيفة، وإن كان الخليفة يجبي
الحلال والحرام، فمن أخذ مما يعلم أنه حلال فله ما ذكرناه من حكم المجبي
الحلال، ومن أخذ ما يعلم أنه حرام
(10/124)
فله ما ذكرناه من حكم المجبي الحرام، فهذا
تحصيل القول في هذه المسألة، وبالله تعالى التوفيق.
[: تضعان في ليلة فيختلط الصبيان]
من نوازل سحنون من كتاب الشهادات وسئل: عن رجل استودع صبية ثم غاب صاحب
الصبية عنه زمانا ثم قدم وقد مات المستودع فقامت البينة للرجل أن الميت أقر
أن لفلان عندي وصيفة وديعة وهاتان الجاريتان ابنتاي فقال الشهود: قد أشهدنا
الميت أن واحدة من هؤلاء الجواري [الثلاث] ، جاريتك والجاريتان ابنتاه إلا
أنا لا نعلم أيتهن جاريتك منهن، قال: لا تجوز شهادتهم، ولا شيء للمدعي؛ لأن
الشهادة لا تكون إلا قاطعة بتة على شيء بعينه، وهم لا يعرفون ما يشهدون
عليه ولا يحدونه ولا يقصدون قصد الصبية بعينها.
قال محمد بن رشد: لم يقل سحنون في هذه المسألة إنه يحكم فيها بالقافة كما
قال في أول مسألة من نوازله من كتاب الاستلحاق في الرجل يسافر بامرأته
فينزل على الرجل في قريته ومعه أم ولد له حامل وامرأة ضيفه حامل فتضعان في
ليلة فيختلط الصبيان فلا يعرف كل واحد منهما ولده فيدعي كل واحد منهما صبيا
منهما، يقول هذا ولدي، ويقول الآخر هذا ولدي، وكلاهما لا يدعي منهما صبيا
بعينه لأنهما قد اختلطا ولا يعرفان إنه يدعي لهما القافة، فقيل إن ذلك
اختلاف من قوله، ولا فرق بين المسألتين، وقيل: إن قوله في كتاب الاستلحاق
مبين لقوله في هذه المسألة
(10/125)
لأنه زاد فيها من وجوب الحكم بالقافة ما
سكت عنه في هذه، وقيل وهو الأظهر: إنهما مسألتان مفترقتان حكم في تلك
بالقافة؛ لأنه مجرد إثبات نسب كل واحد منهما من أبيه، ولم يحكم في هذه
بالقافة؛ لأن ذلك يئول إلى القضاء برق إحداهن والحكم بها لمدعيها ملكا،
وذلك ما لا يجوز إعمال قول القافة فيه، ألا ترى أنه لو ادعى رجل ولد أمة
رجل فقال زوجتنيها فولدت هذا الولد مني وأنكر ذلك سيد الأمة وادعى أن الولد
له ولدته من زنى لم يجز أن يحكم به لمدعيه لقول القافة، وهذا بين، والله
أعلم.
[مسألة: شهادة القائف الواحد على ما يقول]
مسألة وسئل سحنون: أترى للقاضي أن يقضي بقائف واحد؟ فقال: لا يقضي بواحد
ولا يلحق به نسبا، قيل: فإن لم يجد إلا قائفا واحدا؟ قال: يكتب إلى البلدان
ويرسل حتى يأتيه قائف آخر، قيل له: فإن كتب ولم يجد؟ قال: يكتب أيضا وينتظر
أبدا ولا يقضي بقائف واحد وقد أخبرني ابن نافع عن مالك قال: لا يجوز من
القافة إلا اثنان، قيل له: فيقضي بغير العدول من القافة؟ قال: لا يكون
القائف الذي يقضي به إلا عدلا وإلا لم يجز، وفي سماع محمد بن خالد قال: قلت
لابن القاسم: هل تقبل شهادة القائف الواحد على ما يقول؟ فقال: أما مالك فقد
كان يقول: لا يقبل إلا اثنان عدلان، قال ابن القاسم: ويرى أن شهادة الواحد
مقبولة إذا كان عدلا.
قال محمد بن رشد: القياس على أصولهم أن يحكم بقول القائف الواحد وإن لم يكن
عدلا؛ لأنه علم يؤديه وليس من طريق الشهادة كما يقبل قول النصراني الطبيب
فيما يحتاج إلى معرفته من ناحية الطب كالعيوب والجراحات، فاشتراط ابن
القاسم فيه العدالة استحسان، وقد روى ابن وهب عن مالك إجازة القضاء بقول
الواحد منهم ولم يشترط في ذلك
(10/126)
عدالة، ووجه قول سحنون ورواية ابن نافع عن
مالك في أنه لا يجوز أن يقضي منهما إلا باثنين عدلين مراعاة للاختلاف، إذ
من أهل العلم من لا يرى الحكم بالقافة أصلا، وهو مذهب أبي حنيفة، إذ لا يصح
عنده القطع من ناحية الشبه على أن الولد لمشبهه، وإنما هو دليل قد يخطئ
ويصيب فلا يجب عنده أن يحكم بالولد لمن تقول القافة إنه من نطفته، ويجوز
لمن يقع في قلبه مثل ذلك ولمن يعلم حقيقة الأمر فيه أن يسر به، وإن لم يكن
مع ذلك وجوب حكم ولا قضى كما «فعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - إذ دخل مجزز المدلجي عليه فرأى أسامة وزيدا وعليهما قطيفة قد
غطيا رؤوسهما فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض» وهذا الحديث أصل عندنا في
وجوب الحكم بقول القافة، والوجه فيه عند أبي حنيفة ما ذكرته، ولمالك في
سماع أشهب من كتاب الاستلحاق أنه لا يقضى من القافة إلا بقول قائفين،
فظاهره مثل رواية ابن نافع هذه إلا أنه علل ذلك بأن الناس قد دخلوا ولم
يشترط في ذلك عدالة فدل ذلك من تعليله على ما ذكرنا
(10/127)
من أن ذلك ليس على حكم الشهادة، وإنما
استحب أن يكونا اثنين استظهارا في الحكم للمعنى الذي ذكره، فانظر في ذلك
وتدبره، وبالله التوفيق.
[مسألة: دعي إلى أن يستحفظ الشهادة أو يؤدي ما
حفظ]
مسألة وسئل سحنون عن قول الله تعالى: [ {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا
مَا دُعُوا} [البقرة: 282] فقال: إذا كان للرجل عندك علم قد أشهدك عليه،
وأما إذا لم يكن له عندك علم، وإنما يريد أن يشهدك ابتداء فأنت في سعة إذا
كان يجد في البلد غيرك من يشهده.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن القيام بالشهادة الذي أمر الله به] حيث
يقول: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق: 2] و {كُونُوا
قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} [النساء: 135] ينقسم على
وجهين؛ أحدهما: أن يدعى ليشهد على الشهادة ويستحفظ إياها.
والثاني: أن يدعى أن يشهد بما علمه استحفظ إياه أو لم يستحفظ.
أما الوجه الأول وهو أن يدعى ليشهد ويستحفظ الشهادة فإن ذلك واجب وفرض على
الجملة يحمله بعض الناس عن بعض كالجهاد والصلاة على الجنائز وما أشبه ذلك،
فإذا كان الرجل في موضع ليس فيه من يحمل ذلك عنه تعين عليه الفرض في خاصته؛
لأن الله قال: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق: 2] فإذا قيم
بها فقد امتثل الأمر وسقط الفرض، إذ لا معنى لقيام من قام بها بعد ذلك.
وأما الوجه الثاني وهو أن يدعى ليشهد بما علمه واستحفظ إياه فإن ذلك واجب
عليه لقول الله عز وجل:
(10/128)
{وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا
دُعُوا} [البقرة: 282] وقوله: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ} [البقرة:
283] فمن كانت عنده شهادة فلا يحل له أن يكتمها ويلزمه إذا دعي إليها أن
يقوم بها، وأما إن لم يدع إلى القيام بها فقد قال رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خير الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن
يسألها أو يخبر بشهادته قبل أن يسألها» وهذا فيه تفصيل قد مضى القول فيها
مستوفى في رسم شهد على شهادة ميت من سماع عيسى، ومن أهل العلم من ذهب إلى
أنه يجب على كل من دعي إلى شهادة أن يجيب سواء دعي إلى أن يستحفظ الشهادة
أو يؤدي ما حفظ لقول الله عز وجل: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا
دُعُوا} [البقرة: 282] وليس ذلك بصحيح؛ لأن الشاهد لا يصح أن يسمى شاهدا
إلا بعد أن يكون عنده علم بالشهادة، وأما قبل أن يعلم فليس بشاهد ولا داخل
تحت قَوْله تَعَالَى: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا}
[البقرة: 282] إلا من هو شاهد، وهذا بين، وبالله التوفيق.
[مسألة: كيف يعدل الرجل عند القاضي]
مسألة وسئل سحنون: كيف يعدل الرجل عند القاضي؟ فقال: يقولون للقاضي هو
عندنا من أهل العدل والرضى جائز الشهادة، قيل له: فإن لم يقولوا: وهو عندنا
عدل رضا إلا أنهم قالوا هو عندنا عدل فلم يزيدوا عدى هذا؟ فقال: وهذه تزكية
أيضا، قيل له: فهل ينبغي للقاضي أن يقول لهم ترضون بشهادته لكم وعليكم؟
فقال: ليس عليه أن يسألهم عن هذا.
قال محمد بن رشد: قوله: إن الشاهد يقول في تعديل الشاهد هو عندي من أهل
العدل والرضى أو هو عندي من أهل العدل ولا يزيد على ذلك صحيح، وإنما جازت
شهادته بأن يقول: هو عندي من أهل العدل ولم
(10/129)
يلزمه أن يقول هو من أهل العدل؛ لأن القطع
على ذلك لا يصح، وإنما يشهد الشاهد بما يغلب على ظنه من عدالته بما ظهر
إليه من أحواله، وهذا نحو قول أصبغ: لا أرى أن يقول الرجل في تعديل الرجل
هو عدل، وليقل أراه عدلا، ولو قال: هو عدل ولم يقل: عندي كما قال في هذه
الرواية ولا قال أراه عدلا كما قال أصبغ لجازت شهادته ولم تكن غموسا وإن
كان ظاهر القطع بما لا يصح القطع عليه؛ لأن المعنى في ذلك عند الشاهد ما
يغلب على ظنه من عدالته، ولا يدخل في هذا عندي الاختلاف الحاصل فيمن شهد
لمستحق عرض من العروض أنه ما باع ولا وهب حسبما مضى القول فيه في رسم
الأقضية لابن كنانة من سماع أشهب، واختار أن يقول المعدل في تعديل الشاهد
هو عندي من أهل العدل والرضى فجمع بين اللفظين؛ لأن الله قال في موضع:
{مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] . وقال في موضع:
{وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] فإن اقتصر على أحذ
اللفظين اكتفي به؛ لأن الله قد ذكر كل لفظ منهما على حدة فكان ذلك كافيا في
صفة الشاهد الذي يجوز قبول شهادته؛ لأن من كان من أهل العدل فهو من أهل
الرضى ومن كان من أهل الرضى فهو من أهل العدل، وبالله التوفيق.
وقوله: أليس على القاضي أن يسأل الشهود المزكين هل يرضون بشهادته لهم
وعليهم صحيح أن ذلك ليس عليه، بل الأظهر أن ذلك لا ينبغي له إذ قد يكونون
عنده من أهل العدل والرضى ولا يرضى بشهادتهم عليه لعداوة بينه وبينهم،
وبالله التوفيق.
[مسألة: لا يجوز في التزكية إلا المبرز الناقد
الفطن الذي لا ينخدع في عقله]
مسألة قيل: أرأيت كل من تجوز شهادته هل تجوز تزكيته؟ قال: لا ليس هو كما
ذكرت، وتجوز شهادة الرجل ولا تجوز تزكيته،
(10/130)
ولا يجوز في التزكية إلا المبرز الناقد
الفطن الذي لا ينخدع في عقله ولا يستنزل [في رأيه، ولا ينبغي لأحد أن يزكي
رجلا إلا رجلا قد خالطه في الأخذ والعطاء وسافر معه ورافقه، قال مطرف بن
عبد الله: لا يجوز في الجرحة والتعديل إلا كل عدل منقطع، وليس كل من جازت
شهادته تجوز في الجرحة.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال] ، وهو مما لا اختلاف فيه من أنه لا يجوز في
العدالة إلا العدل الرضى المبرز في العدالة العارف بوجوه التعديل والتجريح،
فإنه لا ينبغي للرجل أن يزكي الرجل حتى يختبره فيعرف من باطنه ما عرف من
ظاهره، ولا يكون ذلك إلا بالمخالطة في الأخذ والإعطاء والسفر والمرافقة،
وقد مضى ذلك في سماع سحنون، وأما قول مطرف بن عبد الله فمعناه إذا لم ينص
الجرحة ما هي، وإنما قال: أشهد أنه ليس من أهل الرضى والعدالة، وأما إذا نص
على الجرحة ما هي مثل أن يشهد عليه أنه شارب خمر أو صاحب قيان أو عدو
للمشهود عليه، أو ما أشبه ذلك فشهادته بذلك جائزة إذا كان جائز الشهادة وإن
لم يكن مبرزا في العدالة، وذلك منصوص له ولأصبغ في الواضحة، قالا: ويجرح
الشاهد لمن هو مثله وفوقه ودونه في الإسفاه والعداوة، وقال ابن الماجشون:
ولا يجرح في الإسفاه بمن هو دونه، وقد مضى ذلك في رسم الأقضية الثاني من
سماع أشهب، وبالله التوفيق.
[مسألة: هل ينبغي للقاضي أن يسأله التعديل كلما
شهد]
مسألة وسئل سحنون: عن الرجل يشهد عند القاضي فيسأله التعديل فيعدل عنده ثم
يأتي بعد ذلك بشهر أو شهرين أو سنة أو سنتين فيشهد عنده أيضا هل ينبغي
للقاضي أن يسأله التعديل كلما شهد
(10/131)
عنده أو يجتزئ بالعدالة الأولى؟ فقال: نعم
يسأله التعديل إذا شهد عنده بعدما عدل بشهر أو شهرين أو سنة أو سنتين، كلما
شهد عنده سأله العدالة حتى يكثر تعديله وتشتهر تزكيته مرة بعد مرة ويكثر
ذلك عند القاضي فإذا كثر ذلك عنده رأيت ألا يسأله تزكية فيما يستقبل، وفي
سماع عيسى من كتاب الجواب إذا شهد بحدثان ما عدل فلا يسأله تعديلا، وإذا
طال ذلك فأرى أن يسأله التعديل والثبت.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول فيها في رسم الجواب من سماع عيسى
مستوفى فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: الشهادة على الشهادة في العدالة]
مسألة وسئل عن الشهادة على الشهادة أتجوز في العدالة كما تجوز الشهادة على
الشهادة في الأموال؟ قال: وما معنى قولك في الشهادة على الشهادة في العدالة
لعلك تريد العدالة على العدالة؟ فقيل له: إنما أردت أن يكون لي قِبَل رجل
علم وأنا أخاف أن يسألني القاضي تعديله، فلا أجد من يعدله إلا رجلين مرضيين
أخاف عليهما الموت أو رجلين خارجين في سفر فقلت لهما: اشهدا لي أن فلانا
عندكما عدل ورضى، فأشهدا لي على ذلك رجلين، ثم سألني القاضي عدالة شاهديّ،
فشهد الشاهدان أن فلانا وفلانا أشهدانا أن فلانا من أهل العدل والرضى،
فقال: يطلب القاضي من الخصم من يعدله غيرهما، فإن لم يجد جازت الشهادة
فيهما على الشهادة إذا كان الغيب الذين زكياه من
(10/132)
أهل الحضر ولم يكونا من أهل البادية؛ لأن
البدوي لا يعدل الحضري، وهو الذي سألت عنه من العدالة على العدالة، قيل له:
فالتجريح أتجوز فيه الشهادة على ما وصفت لك في العدالة في غيبة الشهود أو
مرضهم، فقال: نعم ذلك جائز.
قال محمد بن رشد: في الواضحة لمطرف وابن الماجشون خلاف قول سحنون هذا في أن
الشهادة على الشهادة جائزة في التعديل والتجريح، وذلك أنهما قالا: إن
العدالة لا تكون في الشاهد إلا عند السلطان من بعد أن يشهد في الحين الذي
يقطع بشهادته، فأما أن يسترعي الرجل تعديله الرجل ويشهد على ذلك منه كما
يفعل في الشهادة تكون عنده إذا أراد أن يشهد عليها أو يكون الشاهد يحمل
شهادته لا يعرفه بالعدالة ولا بغيرها فيعدله عنده من يثق به؛ فهذا الذي لا
يجوز ولا علمنا أحدا قاله ولا عمل به إلا أن يشهد شاهد على شهادة شاهد غائب
أو ميت فيخبر بعلمه بعدالته مع شهادته على شهادته بالحق الذي أشهد به عليه،
ولو أن شاهدا شهد عند حاكم فاستعدله فكان رجل مريض يعدله لا يستطيع بمرضه
أن يبلغ إلى القاضي فأراد أن يبعث إلى القاضي تعديله إياه مع رجلين عدلين
يشهدهما على أنه عدل فذلك جائز؛ لأن الشهادة قد وقعت عند الحاكم، والعدالة
ههنا إنما هي عند القطع بالشهادة، وقال به أصبغ واستحسنه، وقد ذكر ابن
سحنون أن أباه رجع عن الشهادة على الشهادة في العدالة والتجريح إلا في
تعديل البدوي فذلك جائز، وما رجع إليه سحنون وقاله مطرف وابن الماجشون في
الواضحة هو الصواب إن شاء الله؛ لأن التعديل لا يكون إلا بعد الشهادة، ولو
جاز قبل الشهادة لجازت شهادة غير العدل؛ لأن الناس قد تتغير أحوالهم فإنما
يعولون عند الشهادة، وبالله التوفيق.
[مسألة: شهد هذان الرجلان وهذان الرجلان لرجلين
بحقوق مختلفة وزكى هؤلاء هؤلاء]
مسألة وسئل سحنون: عن الرجل يأتي بشهيدين على رجل بحق ثم يأتي بشاهدين
آخرين يشهدان له أيضا بذلك الحق على الرجل
(10/133)
الذي شهد عليه الشاهدان الأولان فيزكي
الشاهدان الآخران الأولين، قال: شهادتهما جائزة وتزكيتهما، وقد ثبت الحق
على من شهدا له، قيل له: لم؟ قال: من قبل أن الشاهدين قد ثبتا لا محالة؛
ولأن الشاهدين الآخرين زادا صاحب الحق خبرا، أرأيت لو جاءوا مجيء مزكين ألم
تثبت تزكيتهم؟ فلما قالوا: شهدنا أن هؤلاء شهدوا بحق وأن الحق لهذا فقد
زادوه قوة وتثبيتا لحقه، قيل له: فلو شهد هذان الرجلان وهذان الرجلان
لرجلين بحقوق مختلفة، وزكى هؤلاء هؤلاء؟ فقال: تزكيتهم وشهادتهم جائزة،
والحق حق لمن شهدوا له.
قال الإمام القاضي: هاتان المسألتان صحيحتان بينتا المعنى فلا وجه للقول
فيهما، وبالله التوفيق.
[مسألة: الجرحة على السماع]
مسألة قيل لسحنون: أرأيت لو أني سمعت رجلين يقولان: نشهد أن فلانا عندنا
غير عدل ولا رضى، فشهد ذلك الرجل عند القاضي فأمكن القاضي المشهود عليه من
تجريح الشاهد فلم يجد اللذين عرفاه بالجرحة حضورا، هل يجوز لي أن أجرحه على
شهادة هؤلاء؟ فقال: لا تجوز الجرحة على السماع، قلت: وكذلك لو سمعت رجلين
يقولان: نشهد أن فلانا عدل رضى؟ قال لي: نعم كذلك لا يجوز أن تعدله على
السماع.
قال الإمام القاضي: قوله: لا تجوز الجرحة على السماع، وكذلك لا يجوز أن
يعدله على السماع، معناه أنه لا تجوز الجرحة على السماع على الوجه الذي
ذكره من أن يسمع رجلين يقولان: فلان عندنا غير عدل ولا
(10/134)
رضى، أو فلان عندنا عدل رضى فيشهد على ما
سمعه منهما؛ لأن ذلك إنما هو شهادة على شهادة ليست بشهادة سماع، ولا يجوز
للشاهد أن يشهد على شهادة الشاهد حتى يشهده أو يسمعه يؤديه عند الحاكم أو
يشهد عنده على شهادته على اختلاف في ذلك، وأما شهادة السماع في ذلك فهي
جائزة، وهي أن يسمع الشاهد من أهل العدل وغيرهم أن فلانا عدل رضى، أو أنه
غير عدل ولا رضى فيشهد على السماع بذلك ولا يسمى من سمع منهم فتكون الشهادة
بذلك جائزة، وهذا مما لا أعلم فيه اختلافا إلا أنه قد قيل: إن الشهادة على
السماع لا تجوز بأقل من أربعة شهداء، وأما العدالة على العدالة فهي جائزة
إذا كان الشهود على الأصل غرباء، وإن كانوا من أهل البلد لم يجز ذلك حتى
يأتوا بتعديلهم أنفسهم، وسواء كان مُعدِّل الغرباء غريبا أو من أهل البلد،
غير أنه إن كان المعدلون من أهل البلد فعدلهم ناس من أهل البلد فلم يُعرفوا
لم يجز بعد على أولئك تعديل، ولو كان المعدلون الأولون غرباء فعدلهم ناس من
أهل البلد فلم يعرفوا، ثم عدل أولئك غيرهم من أهل البلد فلم يُعرفوا جاز
أيضا أن يعدلهم غيرهم ثم لم تجز بعد عليهم، هذا نص [قول] ما ذكره ابن حبيب
في الواضحة، وهو غلط، والصواب ولو كان المعدلون الأولون غرباء فعدلهم ناس
من أهل البلد فلم يعرفوا جاز أيضا أن يعدلهم غيرهم، ثم لم يجز بعد عليهم
غيرهم، فإذا سقط المضروب عليه فيما نص عليه ابن حبيب صحت المسألة، وبالله
التوفيق.
[مسألة: عدله أربعة وجرحه رجلان]
مسألة قيل له: فإن عدله أربعة وجرحه رجلان، وقد تكافؤا في العدالة والأربعة
أعدل من الرجلين اللذين جرحاه إلا أنهم كلهم عدول، بشهادة من تأخذ من ذلك؟
قال: آخذ بشهادة المجرحين؛ لأن اللذين جرحاه قد اطلعا منه على شيء لا علم
للمعدلين به.
(10/135)
قال محمد بن رشد: قد مضى القول فيها مستوفى
في أول رسم من سماع أشهب، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: معروفا بالعدالة قال المجرحون نشهد أنه
غير عدل ولا رضى]
مسألة قيل: فلو أن المجرحين قالوا للقاضي: نشهد أنه عندنا غير عدل ولا رضى
ولم يصفوه بزنى ولا أَنْبِذَةٍ ولا بِقِيَان هل يكون ذلك تجريحا؟ قال: نعم
يكون تجريحا إذا كان الشهود من أهل الانتباه والمعرفة بما يجرح به الرجل،
قال أشهب: إذا كان الرجل معروفا بالعدالة مشهورا فيها؟ فقال المجرحون: نشهد
أنه غير عدل ولا رضى لم يقبل منهم حتى يبينوا جرحتهم إياه ما هي وينصوها
إلا أن يكون الرجل ليس بمشهور في العدالة، وإنما استخبر بمن يعدله فيجزي
المجرحين بأن يقولوا: نعلم غير عدل ولا رضى كما يقول المعدلون له نعلمه
عدلا رضى.
قال محمد بن رشد: تفرقة أشهب بين من كان مشهور العدالة وبين من لم يقبل إلا
بتعديل لها وجه من النظر، وقول سحنون في مساواته بين الوجهين أظهر، والله
أعلم؛ إذ قد قيل: إنه ليس للحاكم أن يكشف عن السبب الذي جرحوا به الشاهد؛
لأنهم قد يقولون: زنى وهم أربعة فيرجم إن كان محصنا أو يقولون: شرب خمرا
فيحد فستر الحاكم على الشاهد وترك كشفه وإسقاط شهادته لتجريح من جرحه من
العدول أولى من الكشف عن أمر قد تسوء العاقبة فيه، وستر المعترف بالذنب
أولى من كشفه إلى حكم؛ لأنه إذا بلغ إليه لم يكن له إلا إقامة الحد ولا عفو
له ولا شفاعة تنفع إذا رفع إليه والستر عليه يختار ما لم يبلغ إلى حاكم
لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -
(10/136)
لهزال: «يا هزال، لو سترته بردائك؛ لكان
خيرا لك» . وقوله: «من أصاب من هذه القاذورات شيئا، فليستتر بستر الله؛
فإنه من يبد لنا صفحته نقم عليه كتاب الله» ، وقوله لصفوان إذ عفا عن سارق
ردائه بعد أن رفعه إليه: «فهلا قبل أن تأتيني به» وبالله التوفيق.
[مسألة: شهادة من يستحلف أباه جاهلا في الحقوق]
مسألة قيل لسحنون فالذي يقطع الدنانير والدراهم هل يكون هذا جرحة؟ فقال:
ليس هذا جرحة عندي وأراه خفيفا، قال أصبغ: قال ابن القاسم في الذي يقطع
الدراهم جاهلا بكراهيتها، أو يستحلف أباه جاهلا في الحقوق أنه عقوق، وأنه
لا تجوز شهادته، وإن كان جاهلا.
قال محمد بن رشد: قد روي عن ابن القاسم في كتاب ابن المواز في الذي يقطع
الدنانير أنه ترد شهادته، إلا أن يعذر بجهل، فهي ثلاثة أقوال؛ أحدها: أن
ذلك ليس بجرحة، وإن لم يكن جاهلا، وهو ظاهر قول سحنون. والثاني: أن ذلك
جرحة، وإن كان جاهلا يظن أن ذلك جائز له، وهو قول ابن القاسم، في رواية
أصبغ عنه هذه. الثالث: أن ذلك جرحة إلا أن يعذر بجهل، وهو قول ابن القاسم،
في كتاب ابن المواز، وهذا الاختلاف عندي إنما هو إذا قطع الدنانير والدراهم
وهي وازنة، فردها ناقصة
(10/137)
في البلد الذي لا تجوز فيه الناقصة، وهي
تجري فيه عددا بغير وزن على أن ينفقها، ويبين بنقصانها ولا يغش بها، فلم ير
سحنون قطعه إياها على هذا الوجه جرحة، إذا كان لا يغش بها غيره، ورأى ابن
القاسم في رواية أصبغ ذلك جرحة، وإن جهل أن ذلك لا يجوز له؛ لأن المكروه في
ذلك بيِّن، لا يصدق أحد في أنه جهله، ورأى ابن القاسم، في كتاب ابن المواز
أنها جرحة إلا أن يعذر بجهل، وهذا أعدل الأقوال، وأما إن قطعها وردها
ناقصة، وغش بها، فلا إشكال، ولا اختلاف في أن ذلك جرحة، تسقط عدالته
وشهادته، وأما إن قطعها وهي مقطوعة أو غير مقطوعة، إلا أنها لا تجوز
بأعيانها، وإنما يتبايع بها بالميزان، فلا إشكال ولا اختلاف في أن ذلك ليس
بجرحة، وإن كان عالما بمكروه ذلك، ويحتمل أن يكون تكلم سحنون على قطع
الدنانير المقطوعة، أو التي ليست بمقطوعة، وهي تجري بالميزان، وتكلم ابن
القاسم في رواية أصبغ عنه على قطع الدنانير التي تجوز بأعيانها وردها ناقصة
ليغش بها، وتكلم فيما حكى عنه ابن المواز على أنه فعل ذلك، وبين بنقصانها،
ولم يغش بها، فلا يكون في شيء من ذلك اختلاف، وقد مضى تحصيل القول فيما
يجوز من قطع الدنانير والدراهم، مما لا يجوز في قول أصبغ من سماع ابن
القاسم وغيره، من كتاب الصرف، فمن أحب الوقوف على الشفاء من ذلك تأمله في
تلك المواضع، وسيأتي في آخر رسم القضاء المحض، من سماع أصبغ، القول في
تحليف الرجل أباه هل هو جرحة أم لا؟ وبالله التوفيق.
[مسألة: هل يمكن القاضي المشهود عليه من
التجريح في كل الشهود]
مسألة قيل لسحنون: أرأيت التجريح هل يمكن القاضي المشهود عليه من التجريح
في كل الشهود إذا طعن الخصم في ذلك، أو طلب إليه أن يمكنه من التجريح، هل
يمكنه في الرجل البائن
(10/138)
الفضل المبرز في العدالة؟ قال: نعم، يمكنه
من ذلك.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول فيها مستوفى في رسم الأقضية
الثاني، من سماع أشهب، فلا معنى لإعادة ذلك، وبالله التوفيق.
[مسألة: المرء يجرح أخوه بأنه عدو]
مسألة قال سحنون: إذا جاءت الجرحة في الإخوة والعم الأدنى ذي الرأي والشرف
والتجمل؛ فإنه لا يجرح أخ من جرح أخاه ولا عمه الذي هذه حالهما؛ لما يدافع
من عيب من هو وجهه ولسانه، ومن جرحته له سبة، وعيب عليه، وهذا كله يرجع من
الموالي أنه كان يدفع ذلك عن نفسه، قال: وأما سوى هؤلاء فجرحته وشهادته
وعدالته له جائزة، قلت: أفيجرح المرء عن ابن أخيه وعن ابن عمه؟ قال: نعم،
هذا ... ولا يشتم أحد بابن عمه أنه غير عدل، ولا يدخل منه حشمة ولا عيب إلا
ما هو بعيد، لا ترد من أجله شهادته ولا تقوى به تهمته، وسئل عن المرء يجرح
أخوه بأنه عدو، هل يجرح أخ المجروح من جرح أخاه؟ قال: نعم، لا عيب في
العداوة، ولا حشمة وصير جرحة بالعداوة قليل، ألا ترى أن شهادته في أعظم من
الجرحة بالعداوة نفعا وخطرا جائزة، وهو أن يشهد له بالمال العظيم، ويخرجه
عنه من
(10/139)
شهد عليه بالمال العظيم ذلك جائز منه، لا
اختلاف فيه عند أحد من علمائنا.
قال محمد بن رشد: قول سحنون: إن هذا الشاهد يجرح من جرح أخاه بعداوة صحيح
على القول بأنه يعدله، وأما على القول بأنه لا يعدله، فلا يجرح من جرح أخاه
بعداوة ولا بإسفاه، وقد قيل: إنه يجرح من جرحه بعداوة أو بإسفاه على القول
بأنه يعدله، وهو ينحو إلى قول من يجيز شهادته له فيما عدا الأقوال مما تقع
فيه الظنة بالعصبية والحمية من القتل والحدود، فقول سحنون هذا في تفرقته
بين أن يجرح من جرحه بعداوة أو بإسفاه قول ثالث في المسألة، فلا يجوز على
مذهبه لمن جرح أخوه بفسق، أن يجرح من جرحه بفسق ولا بعداوة، ويجوز لمن جرح
أخوه بعداوة أن يجرح من جرح أخاه بفسق وبعداوة، ولا اختلاف في أن للرجل أن
يجرح من جرح عمه بعداوة؛ إذ لا اختلاف في أنه يعدله، وإنما يختلف في تجريح
من جرحه بإسفاه على قولين، فإنما يتحصل الثلاثة الأقوال في تجريح الرجل من
جرح أخاه، ورأيت لابن دحون أنه قال: معنى قول سحنون إذا جرح عمك وأخوك
بفسق، فلا يجوز لك أن تجرح من جرحه بفسق، ويجوز لك أن تجرحه بعداوة، وإن
جرح عمك أو أخوك بعداوة، جاز لك أن تجرح من جرحه بفسق أو عداوة، وهو بعيد
غير صحيح في المعنى، فتدبره.
وقد مضى في أول رسم، من سماع ابن القاسم، تحصيل القول فيما تجوز فيه شهادة
الأخ لأخيه مما لا تجوز، والأصل في هذا الاختلاف كله قول النبي - عَلَيْهِ
السَّلَامُ -: «لا تجوز شهادة خصم ولا ظنين ولا جار إلى نفسه» والظنين
المتهم، فاختلافهم إنما يعود إلى ما يغلب على ظن كل واحد منهم في أنه متهم
في المعنى الذي شهد فيه أو غير متهم فيه؛ إذ هو الذي تعبد
(10/140)
الحاكم كما أنه تعبد في أن يقبل شهادة
الشاهد، إذا غلب على ظنه عدالته، ويردها إذا غلب على ظنه أنه غير عدل، أو
لم يكن له به علم؛ إذ لا طريق له إلى العلم بذلك والقطع عليه، وبالله
التوفيق.
[مسألة: يشهد عليه فيقيم المشهود عليه البينة
أنه عدو له مهاجر له]
مسألة وسئل سحنون عن الرجل يشهد عليه الرجل، فيقيم المشهود عليه البينة أنه
عدو له مُهَاجِر له، هل تسقط عنه شهادته؟ فقال: إن كان عدوا له أصل
عداوتهما في أمر الدنيا في الأموال والمواريث والتجارات، ونحو ذلك من أمر
الدنيا، فإن شهادته عنه ساقطة، وإن كانت عداوة الشاهد للمشهود عليه إنما هي
غضب لله لجرمه وخونه وفسقه، وجرأته على الله، لا لغير ذلك، فأرى شهادته غير
ساقطة.
قال محمد بن رشد: قول سحنون هذا صحيح مفسر لجميع الروايات؛ لأن العداوة إن
كانت غضبا لله، فهي واجبة، ولا تسقط شهادة الشاهد بما هو مأمور به، وواجب
عليه، وإنما تسقط بما هو منهي عنه، ومحظور عليه، من الهجران الذي هو محرم
في الشريعة؛ قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحل
لمسلم أن يهجر أخاه المسلم فوق ثلاث، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما
الذي يبدأ بالسلام» ، ولهذا المعنى لم تسقط شهادة القاضي على من أقام عليه
حدا، أو ضربه في أمر يوجب عليه الضرب، على ما مضى في أول رسم الصبرة، من
سماع يحيى، وبالله التوفيق.
(10/141)
[مسألة: بين
الرجل وبين آخر خصومة شهادة أحدهما على صاحبه]
مسألة قال لسحنون: قال ابن وهب: بلغني عن يحيى بن سعيد أنه قال: إن كان بين
الرجل وبين آخر خصومة، لم تبلغ تلك الخصومة أن كانت بينهما فيها مشاتمة،
فإن شهادة أحدهما على صاحبه جائزة، وإن كان بينهما عداوة معلومة لم تجز
شهادته عليه، وإن كانت بينهما عداوة ثم اصطلحا بعد ذلك؛ جازت شهادته عليه.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول فيها مستوفى في أول رسم من سماع
أشهب، وفي رسم باع شاة، من سماع عيسى، وتأتي في نوازل أصبغ فنتكلم عليها
إذا مررنا بها إن شاء الله.
[مسألة: شهادة المنجم]
مسألة وسئل سحنون عن شهادة المنجم الذي يدعي أنه يعرف القضاء، هل تجوز
شهادته؟ قال: هذه جرحة بينة.
قال محمد بن رشد: قوله: إنه يعرف القضاء؛ معناه أنه يدعي أنه يعرف من ناحية
النظر في النجوم ما قضى الله به وقدّره قبل أن يكون، والقول بهذا ضلال ليس
بكفر، فهي جرحة بينة على ما قال، وقد مضى القول على هذا المعنى مستوفى في
رسم تأخير صلاة العشاء، من سماع ابن القاسم، من كتاب السلطان، فمن أحب
الوقوف عليه، والشفاء من معرفته، تأمله هناك، وبالله التوفيق.
[مسألة: شهادة تارك الجمعة]
مسألة قال سحنون عن ابن وهب في تارك الجمعة بقرية يجمع فيها من غير مرض ولا
علة، قال: لا أرى أن تقبل شهادته، قال
(10/142)
سحنون: إذا تركها ثلاثا متواليا؛ للحديث
الذي جاء، قال أصبغ: قال ابن القاسم في الذي يترك الجمعة، يرى أن ترد
شهادته، إلا أن يعرف له عذر، ويساءل عن ذلك ويكشف، فإن علم له عذر من وجع
أو أمر أو اختفاء من دين، أو ما أشبه ذلك؛ فأرى ألا ترد شهادته، وإن كان
على غير ذلك رأيت أن ترد شهادته إلا أن يكون ممن لا يتهم على الدين ولا على
الجمعة لبروزه في الصلاح وعلمه، فهو أعلم بنفسه، قال أصبغ: والمرة الواحدة
في ذلك إذا تركها من غير عذر تهاونا بها ترد شهادته، ولا ينتظر به ثلاثا؛
لأن ترك هذه الفريضة ثلاثا وأقل وأكثر سواء، هي فريضة مفروضة مفترض إتيانها
كفريضة الصلاة لوقتها، فلو ترك الصلاة لوقتها متعمدا مرة واحدة لم ينتظر به
أن يفعل ثلاثا، وكان بمنزلة التارك أصلا للأبد؛ لأنه عاص لله في قليل فعله
دون كثيره، ومتعد لحدوده، وقد قال الله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا}
[النساء: 14] .
والذي قيل فيمن ترك الجمعة ثلاثا طبع الله على قلبه، إنما هو في الإثم
والنفاق، وينتظر به الثالثة للتوبة، فإن فعل وإلا طبع الله على قلبه، وليس
ذلك في الترك له هملا، ولا في الإبطال لشهادته، لا، بل يطرح ويوقف ويعاقب
إن شاء الله، وقد بلغني عن بعض الأمراء ممن مضى من أئمة الدين، أنه كان
يأمر إذا فرغ من الجمعة أن من وجد لم يشهد الجمعة ربط في عمود وعوقب، وأراه
عمر بن عبد العزيز، قال أصبغ: لا، بل لا أشك فيه أنه عمر بن عبد العزيز،
وقد قال تعالى:
(10/143)
{إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ
الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة:
9] عزيمة، وأمر مأمورا به، موجب ليس فيه ترفيه لبعض ببعض.
قال محمد بن رشد: قول سحنون: إن شهادة التارك للجمعة بقرية يجمع فيه أهل
الجمعة، لا ترد إلا أن يفعل ذلك ثلاثا متوالية أظهر مما ذهب إليه أصبغ، من
أنها ترد بالمرة الواحدة، ومعنى ما ذهب إليه سحنون إنما هو إذا لم يعلم له
في ذلك عذر، ولم يكن معروفا بالفضل والصلاح على ما قاله ابن القاسم؛ لأن من
لم يعلم بالصلاح والفضل إذا ترك الجمعة ثلاثا متواليا لا يصدق فيما يدعيه
من العذر، بخلاف من علم بالصلاح والفضل، فليس قول ابن القاسم وسحنون
بمخالف؛ لقول ابن وهب، والله أعلم.
وإنما قلنا: إن قول سحنون أظهر من قول أصبغ من أجل أن المسلم لا يسلم من
مواقعة الذنوب، فإذا ثبت هذا وجب ألا يجرح الشاهد العدل بما دون الكبائر من
الذنوب التي يقال فيها: إنها صغائر، بإضافتها إلى الكبائر، إلا أن يكثر
منها، فيعلم أنه متهاون بها، وغير متوق منها؛ لأن من كانت هذه صفته فهو
خارج عن حد العدالة؛ ولما قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «من ترك الجمعة ثلاثا من غير عذر ولا علة؛ طبع الله على قلبه
بطابع النفاق» دل على أن ما دون الثلاث بخلاف ذلك في عظم الإثم، وشرط
الوعيد، فوجب أن يلحق ذلك بالصغائر، ولا ترد شهادة من ترك الجمعة مرة واحدة
اشتغالا بما سواه من أمور دنياه حتى يفعل ذلك ثلاثا متواليات، فيتبين بذلك
أنه متهاون بدينه
(10/144)
غير متوق فيه، وكذلك القول في تارك صلاة
واحدة من الصلوات حتى يخرج وقتها من غير عذر، لا يجب أن ترد بذلك شهادته
حتى يكثر ذلك من فعله، واحتجاج أصبغ لرد شهادته بذلك، بقول الله عز وجل:
{وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ
نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} [النساء: 14] غير صحيح؛
لأن المعنى في ذلك إنما هو لمن عصى الله ورسوله بترك الإيمان، وتعدي حدود
الإسلام؛ لأن الخلود في النار، إنما هو من صفات الكفار، وبالله التوفيق.
[مسألة: هل يجوز للشهود أن يشهدوا لرجل بحق
ويجرحوا له الذين شهدوا عليه]
مسألة قيل لسحنون: أرأيت الشهود هل يجيز لهم أن يشهدوا لرجل بحق، ويجرحوا
له الذين شهدوا عليه في ذلك الحق؟ قال: نعم.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله لا إشكال فيه؛ لأن ذلك معنيان، فجائز
أن يشهدوا له بهما جميعا كما يجوز أن يشهدوا له بحقين مختلفين، وبالله
التوفيق.
[مسألة: شهادة تارك الحج القادر عليه]
مسألة وسئل سحنون عن الرجل يكون قويا على الحج كثير المال لا يحج، هل يكون
ذلك جرحة يطرح بها علمه؟ فقال: إن كان قويا على الحج لا يعذر بقلة مال، ولا
بضعف بدن، وتطاول زمانه، ووفره متصل، ولم يحج، فلا أرى شهادته جائزة، قيل
له: فإنه يعرف، وهو ابن عشرين سنة كثير المال، قوي البدن، لم يزل وفره
متصلا
(10/145)
حتى بلغ ستين سنة لم يحج.
فقال: إذا تطاول أمره هكذا، أو ما أشبه هذا، فإني أرى شهادته غير جائزة كما
أعلمتك، قيل له: أفلا يعذر بالأندلس وبعد الشقة والبحر الذي بينهم وبين
الحج؟ فقال: لا، قال الله تبارك وتعالى: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ
وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} [النساء: 97] ، وهذا إذا كان في موضع يبعد
عن الحج، أفلا يرتحل عنها إلى موضع لا يكون بينه وبين الحج بحر، فلا أرى له
عذرا، وإن كان بالأندلس.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأن الحج من أحد دعائم الإسلام
الخمس، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «بني الإسلام
على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم
رمضان، وحج بيت الله الحرام من استطاع إليه سبيلا» ، فإذا ترك الرجل الحج
حتى طال زمانه الستين سنة ونحوها، وهو قادر عليه بوفور ماله وصحة بدنه مع
السبيل الآمنة، وجب أن ترد بذلك شهادته، وإنما شرط الطول في ذلك مع القدرة
لاختلاف أهل العلم في الحج هل هو على الفور أم في التراخي، فلا يكون من أخر
الحج وهو قادر عليه قد أتى كبيرة؛ إذ من أهل العلم من يقول: إن ذلك جائز
له، لا إثم عليه فيه، ولا حرج إلا أن يؤخره تأخيرا كبيرا يغلب على الظن
فواته به، والذي أقول به: إن ذلك لا يكون إلا بعد بلوغ حد التعمير، وهو
سبعون سنة؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «معترك أمتي
ما بين الستين إلى السبعين» فمن ترك الحج بعد السبعين، وهو قادر عليه، فهو
عندي
(10/146)
آثم بإجماع مجرح ساقط الشهادة، وإن لم يقم
لنا دليل أنه آثم فيما دون السبعين، فإذن أسقط سحنون شهادته فيما قاربها من
الستين من أجل أن من شرط الشهادة أن يكون مرضيا بما يظهر من أفعاله؛ لقول
الله عز وجل: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] ، ومن
أخر الحج تأخيرا كبيرا من غير عذر، فليس بمرضي في ظاهر أمره، وإن لم يكن
آثما عند ربه بما له في ذلك من السعة باختلاف أهل العلم، وفي المدنية لابن
دينار، وابن القاسم من رواية عيسى عنه أن الشيخ الكبير الذي لم يحج وهو
موسر، شهادته جائزة؛ لأنه عسى أن يكون له علة، ويقول: أحج بعد اليوم، وهذا
صحيح إذا ادعى أن له علة، وأما إن أقر أنه لا علة له، ولم يحج، وهو شيخ
كبير، قد تجاوز حد التعمير؛ فشهادته ساقطة على كل حال؛ لأن للواجب على
التراخي حالا يتعين فيها الأداء، وهي الحال التي يغلب فيها على ظن المكلف
فوات الفعل بالتأخير، وهو بلوغ حد التعمير في مسألتنا هذه، وقوله في أهل
الأندلس: إنه لا عذر لهم في ترك الحج بسبب البحر؛ لقدرتهم على الانتقال إلى
موضع لا يكون بينهم وبين الحج بحر؛ معناه أنهم إن كانوا من أهل الأندلس
بموضع يتعذر الجواز منه، فإنهم يقدرون على الانتقال منه إلى موضع لا يتعذر
الجواز منه، فإنما تكلم والله أعلم على ما وصف له من تعذر الجواز في البحر
في موضع دون موضع، وبالله التوفيق.
[مسألة: شهادة الذي لا يؤدي زكاة ما له]
مسألة وسئل سحنون عن الذي لا يؤدي زكاة ما له، هل يكون ذلك جرحة يطرح بها
علمه؟ فقال: نعم، لا شك فيه.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: إنه لا شك فيه؛ لأن الله قد قرن
(10/147)
الصلاة بالزكاة في غير ما آية من كتابه،
وقال أبو بكر الصديق: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فمن لم يؤد
زكاة ماله فهو فاسد ساقط الإمامة والشهادة. وهذا إذا أقر على نفسه أنه لا
يؤدي زكاة ماله، وأما إذا لم يقر على نفسه بذلك فشهادته جائزة؛ لأن ذلك من
السرائر، وعسى إن لم يؤدها ظاهرا خوفا من السلطان أن يؤديها سرا، وهو نص
قول ابن دينار، وابن القاسم من رواية عيسى عنه في المدنية، وبالله التوفيق.
[مسألة: شهد عند القاضي في حق والشاهد غير عدل]
مسألة وسئل سحنون عن رجل شهد عند القاضي في حق، والشاهد غير عدل، هل يجوز
لي أن أجرحه وأنا أعلم أنه شهد علي، وأنا شاهد على ذلك الحق، وأنا أعلم أنه
غير عدل؟ فقال: لا يجوز لك أن تجرحه، فكيف يجوز لك أن تجرحه، وأنت ترى حقا
قد وقف على الهلاك، إن جرح الشاهد هلك المال، وفي هذا آثار.
قال محمد بن رشد: هذا ما مضى في سماع سحنون، وهو أصح مما تقدم في رسم
الشجرة، من سماع ابن القاسم، وفي أول رسم من سماع عيسى، وقد مضى القول على
ذلك، فلا معنى لإعادته، وقال سحنون: إذا أخبر الشاهد بالدين رجلان أو رجل
وامرأتان أنه قضاه، فلا يشهد، ووقف إذا لم يخبره إلا رجل واحد، وبالله
التوفيق.
(10/148)
[مسألة: شهادة
من ضرب في الحد]
مسألة ابن وهب، عن معاوية بن صالح: أن العلاء بن الحارث حدثه عن مكحول أنه
قال: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تجوز
شهادة ستة: مضروب في حد، ومجرب عليه شهادة زور، والخائن، والخائنة،
والقانع، وذو الغمر» والغمر الغل.
قال محمد بن رشد: ليس في قوله في هذا الحديث: «لا تجوز شهادة ستة» دليل على
أنه تجوز شهادة غيرهم، والمعنى في ذلك أنه خرج على سؤال سائل سأل عن هذه
الستة فقال: إنه لا تجوز شهادتهم، فسماهم ولم يحصرهم بعدد، وعددهم الراوي،
وأخبر بعدد من سمع منه أنه لا تجوز شهادته، وإنما لم تجز شهادة من ضرب في
الحد، وإن كانت الحدود كفارات لأهلها على ما جاء في الصحيح من الآثار؛ لأن
الحد إنما يرفع الإثم، ويبقى عليه حكم الفسق، فإن تاب وظهرت توبته قبلت
شهادته باتفاق، إلا أن يكون حدا في قذف، فقد قيل: إن شهادته لا تجوز وإن
تاب؛ لقول الله عز وجل: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا}
[النور: 4] ، وهو مذهب أهل العراق، والصحيح أنها جائزة إذا تاب، وهو مذهب
مالك وجميع أصحابه، وصفة توبته عند مالك أن يظهر صلاح حاله أو الزيادة في
صلاحها، وعند غيره أن يكذب نفسه، ويقر عليها أنه شهد بالزور، وأما من جربت
عليه شهادة زور، فلا تجوز شهادته، وإن تاب، وقيل: إنها تجوز إن تاب، وقيل:
إن ذلك ليس باختلاف من القول، والمعنى في ذلك أنه إن أتى تائبا، فأخبر أنه
شهد بزور قبلت توبته، وإن عثر عليه أنه شهد بزور لم تقبل توبته، وإن
(10/149)
تاب، وهو الصحيح إن شاء الله، وأما الخائن
والخائنة فلا اختلاف في أن شهادتهما غير جائزة؛ لأن الخيانة فسق تبطل به
الشهادة، قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا
اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}
[الأنفال: 27] ، وقال: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا
الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58] ، وقال: {إِنَّا عَرَضْنَا
الأَمَانَةَ} [الأحزاب: 72] الآية.
وقال النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من علامات المنافق: إذا حدث كذب،
وإذا اؤتمن خان، وإذا خاصم فجر» الحديث، فمن خان أمانته لن تقبل شهادته،
وأما القانع فهو السائل، وشهادته لا تجوز إذا كان يتكفف الناس، ويسأل في
عامتهم، إلا الشيء اليسير، وأما إذا لم يسأل في العامة، وإنما سأل سؤالا
خاصا، فقد مضى من القول فيه في رسم الأقضية، من سماع يحيى ما فيه كفاية،
وأما ذو الغمر فهو العدو، ولا اختلاف في أن شهادته لا تجوز على عدوه إذا
كانت عداوته لغير الله على ما مضى فوق هذا، وبالله التوفيق.
[مسألة: شهادة ذي الظنة والحنة]
مسألة ابن وهب، عن ابن أبي ذئب، عن الحكم بن مسلم السالمي، عن الأعرج، عن
النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه: «قضى ألا تجوز شهادة ذي الظنة والحنة»
.
قال محمد بن رشد: ذو الظنة هو ذو التهمة، والمتهم في شهادته لا
(10/150)
تجوز باتفاق، قال رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تجوز شهادة خصم ولا ظنين، ولا جار إلى
نفسه» والحنة هي العداوة. وقد مضى القول فيها، وفي بعض الروايات الحنة من
الحقوق، وهو تصحيف، والله أعلم.
[مسألة: الموقوف على الحد هل تقبل شهادته]
مسألة ابن وهب، عن يحيى بن أبي أيوب، عن المثنى بن الصباح، عن عمر بن شعيب،
عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو بن العاص: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة، ولا ذي غمر على
أخيه، ولا موقوف على حد» .
قال الإمام القاضي: الموقوف على الحد هو الذي ثبت عليه ما يوجب أن يحد من
أجله من زنا أو قذف أو شرب خمر أو ما أشبه ذلك، ولا اختلاف في أن شهادته لا
تجوز، وإن تاب؛ لأن توبته لا تسقط عنه الحد، فإذا حد قبلت شهادته إن تاب،
وقد مضى هذا قبل هذا، وقد مضى القول في الخائن والخائنة وذي الغمر على
أخيه، والله الموفق.
[مسألة: شهادة الأخ لأخيه في النكاح]
مسألة وقال سحنون: لا تجوز شهادة الأخ لأخيه في النكاح، إذا
(10/151)
كانت الشهادة على أشراف قوم هم أشرف منهم؛
لأنه يتهم إنما يريد أن يشرف نفسه بتزويج أخيه إليهم، فهو متهم في هذه
الشهادة.
قال الإمام القاضي: قد مضى القول في هذه المسألة مستوفى، في أول رسم من
سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: خاصم في أرض فأتى بالبينة على صاحبه
فشهد له شاهد شهادة عليه فيها مضرة]
مسألة وسئل عن رجل خاصم في أرض أو دار، فأتى بالبينة على صاحبه، فشهد له
شاهد شهادة عليه فيها مضرة، وعلى رجل آخر غائب عنهم في البلد، أو غير البلد
الذي اختصما فيه، وليس بين الغائب والحاضر الذي شهدت عليه البينة شرك بمورث
في الأمر الذي شهدوا فيه، فأتى الغائب فأخبره الحاكم بما شهدت عليه البينة،
فيقول الغائب: لم أحضر شهادتهم، فمن البينة التي شهدت له علي، وأنا في
البلدان غائب عنهم، أردهم حتى يشهدوا بحضرتي، فإن لي في ردهم منفعة، قال:
إذا كان المشهود عليه حاضرا في القرية التي فيها المنازعة أو قريبا منها،
فإنه يؤمر بإحضاره لتشهد البينة عليه، وأما الغائب البعيد الغيبة، فلا أرى
ذلك، فإن قصد الحاكم في أن يأمر بإحضار الحاضر أو القريب الغيبة، ثم أتى
الخصم فسأل إعادة البينة، فإني أرى أن يعيدها إن قدر على ذلك، وإن لم يقدر
على ذلك لمغيب البينة، فقد فات ذلك، وصارت حاله إلى حال الغائب البعيد
الغيبة، فليدفع شهادتهم بما يقدر عليه.
قال محمد بن رشد: قوله: إن المشهود عليه إن كان حاضرا في القرية التي فيها
المنازعة أو قريبا منها، فإنه يؤمر بإحضاره لتشهد البينة عليه استحسان،
والقياس ما في كتاب الأقضية من المدونة: أن البينة لا تعاد،
(10/152)
ويعلمه الإمام بهم، وهذا إذا كان المشهود
عليه مشهور العين، وأما إذا لم يكن مشهور العين، فلا بد من إعادة الشهادة
على عينه إذا أنكر في القريب والبعيد، وهو قول ابن الماجشون وغيره: إن
المشهود عليه إذا كان مشهور العين لم يحتج إلى الشهادة على عينه، وبالله
التوفيق.
[مسألة: النكاح أيجوز للرجل أن يشهد عليه
بالسماع]
مسألة وسئل عن النكاح أيجوز للرجل أن يشهد عليه بالسماع كما يشهد على
الموت؟ قال: أما جل أصحابنا، فإنهم يقولون في النكاح إذا اشتهر الخبر في
النكاح أن فلانا تزوج فلانة، وسمع الدفاف، وكثر به القول أن فلانا تزوج
فلانة، فإنه يجوز للرجل أن يشهد أن فلانة هي امرأة فلان، وكذلك في الموت
يسمع النياحة، ويشهد الجنازة أو لا يشهد، إلا أنه يكثر به القول من الناس:
إنا شهدنا جنازة فلان، فالشهادة فيه جائزة أن فلانا مات، وإن لم يحضر
الموت، وكذلك النسب يسمع الرجل الناس يقولون فلانا هو ابن فلان، ويكثر بذلك
القول أنه يشهد على نسبه، وكذلك القاضي يتولى القضاء ولا يحضره حين ولي إلا
بما سمع من الناس، ورآه يقضي بين الناس، فإنه يشهد أنه كان قاضيا، فهذه
الأربعة وجوه تجوز فيها الشهادة على السماع.
قال محمد بن رشد: لا اختلاف في أن هذه الأربعة الأشياء تجوز الشهادة فيها
على القطع من جهة السماع إذا انتشر ذلك، واستفاض وكثر به القول حتى وقع
العلم به للشاهد من جهة السماع، وكذلك ما عدا هذه الأربعة الأشياء؛ لأن
الأخبار المتواترة يقع العلم بها ضرورة فيما طريقه العلم، وغلبة الظن فيما
طريقه غلبة الظن، كالتعديل والترشيد وشبه ذلك.
وفي قوله: أما جل أصحابنا إلى آخر قوله دليل على أن منهم من لا يقول بذلك،
ولا خلاف بينهم في ذلك، وإنما الخلاف بينهم هل تجوز في هذه الأربعة
(10/153)
الأشياء، وفيما سواها الشهادة على السماع
دون القطع بأن يقولوا: سمعنا سماعا فاشيا من أهل العدل وغيرهم كذا وكذا،
ويحكم بذلك، أو لا يجوز ولا يحكم به، فالذي عناه سحنون والله أعلم بقوله في
هذه الرواية أما جل أصحابنا، فإنهم يقولون: إن الشهادة في هذه الأربعة
الأشياء تجوز على القطع من ناحية السماع، ولا تجوز على السماع دون القطع؛
إذ من شأنها أن تستفيض حتى تصح الشهادة فيها على القطع، وإن غير الجل
يجيزون فيها أعني في هذه الأربعة الأشياء شهادة السماع بدون القطع، كما
يجيزون ذلك في غيرها، وقد قيل: السماع دون القطع لا يجوز إلا في هذه
الأربعة أشياء، فيتحصل فيما تجوز فيه الشهادة على السماع دون القطع أربعة
أقوال؛ أحدها: أن الشهادة على السماع دون القطع لا تجوز لا في هذه الأربعة
الأشياء، ولا فيما سواها، وهو مذهب ابن القاسم؛ لأنه قال في المدونة: إن
شهادة السماع لا يثبت بها النسب ولا الولاء ويقضي له بالمال دون ثبات النسب
والولاء، وكذلك لم يرها عامة في الحبس إلا مع القطع على المعرفة بأنها
تحترم بحرمة الأحباس، ولا في الشراء المتقادم إلا مع الحيازة. والثاني:
أنها تجوز في هذه الأربعة أشياء وفيما سواها، وهو دليل ما حكاه ابن حبيب في
الواضحة من إجازة الشهادة على السماع في الملك دون الحيازة، وما تأولناه
على سحنون فيما حكاه عن غير الجل من أصحاب مالك. والثالث: أن شهادة السماع
تجوز فيما عدا هذه الأربعة أشياء، ولا تجوز في هذه الأربعة أشياء، وهو الذي
تأولناه من حكاية سحنون عن جل أصحاب مالك في هذه الرواية. والرابع: أن
شهادة السماع تجوز في هذه الأربعة أشياء، ولا تجوز فيما عداها عكس القول
الثالث.
وقد مضى في آخر رسم الأقضية، من سماع يحيى الاختلاف في إجازة شهادة السماع
في النكاح، وسيأتي في سماع أصبغ القول في إجازتها في الضرر بين الزوجين،
وبالله التوفيق.
[مسألة: يلزم الشاهد أن يأتي لأداء شهادته]
مسألة قيل لسحنون: أرأيت الشاهدين يأتيهما صاحب الشهادة أن
(10/154)
يشهدا له فيقولا له: الهبوط إلى الحاضرة
يشق علينا، إلا أن تنفق علينا وتعطينا دواب نهبط عليها؟ قال: أما إذا كان
مثل الساحل منا، فأرى للقاضي أن يكتب إلى رجل يشهد عنده الشهود، ويكتب
شهادتهم، ولا يعني الشهود إليه بالقدوم، قال: ولا ترى هذه ولاية للمشهود
عنده؟ قال: لا يستغني القاضي عن مثل هذا، قيل له: وكم بعد الساحل من هاهنا؟
فقال: ستون ميلا، فقال له: فإن كان الشهود على بريد أو بريدين فقال: إذا
كان الشهود يجدون الدواب والنفقة، فلا أرى لصاحب الحق أن يعطيهم دواب ولا
نفقة، فإن فعلوا فشهادتهم ساقطة؛ لأنهم قد ارتشوا على شهادتهم، قيل له: فلو
كانوا لا يجدون النفقة ولا الدواب؟ فقال: لا أرى بأسا أن يكري لهم دواب،
وينفق عليهم.
قال الإمام القاضي: الأصل في هذه المسألة قول الله عز وجل: {وَلا يَأْبَ
الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282] ؛ لأن معناه عند أهل العلم
فيما قرب دون ما بعد، وهذا مما يخصص فيه عموم القرآن بالإجماع، فإذا كان
الشاهد بحيث يلزمه الإتيان لأداء شهادته، فواجب عليه أن يركب دابته، ويأكل
طعامه، فإن لم يفعل وركب دابة المشهود له، وأكل طعامه سقطت شهادته؛ لأنه قد
ارتشى عليها؛ إذ قد أخذ من المشهود له ما يلزمه القيام به من ماله، وخفف
ذلك ابن حبيب إذا كان ذلك قريبا وكان أمرا خفيفا، وينبغي أن يحمل على
التفسير لقول سحنون، فالقريب الذي يلزم الشاهد أن يأتي لأداء شهادته ينقسم
على هذا التأويل قسمين: قريب جدا تقل فيه النفقة ومؤنة الركوب، فهذا لا يضر
الشاهد ركوب دابة المشهود له، وإن كانت له دابة، ولا أكل طعامه، وغير قريب
جدا تكثر فيه النفقة ومؤنة الركوب فهذا تبطل فيه شهادة الشاهد إن ركب دابة
المشهود له، وله دابة أو أكل طعامه عند سحنون، وقد قيل: إنها لا تبطل
شهادته بذلك، وهو ظاهر قول ابن
(10/155)
حبيب في الواضحة عن مطرف وأصبغ في الشاهد
يشهد في الأرض النابتة، فيحتاج إلى تعينها بالحيازة لها، أنه لا بأس أن
يركب دابة المشهود له، ويأكل طعامه، وهو الأظهر؛ إذ ليس ما يصير إلى الشاهد
من هذا مالا يتموله. فإن قيل: إنه يوفر بأكل مال المشهود له نفقته على
نفسه، قيل له: هذا يسير، لا يتهم الشاهد في مثله، وأما إن كان الشاهد لا
يقدر على النفقة، ولا على اكتراء دابة، وهو ممن يشق عليه الإتيان راجلا،
فلا تبطل شهادته إن أنفق عليه المشهود له، أو اكترى له دابة؛ إذ لم يسقط
بذلك عن نفسه ما هو واجب عليه أن يفعله، وقد قيل: إنه تبطل شهادته بذلك إذا
كان مبرزا في العدالة، وهو قول ابن كنانة.
وأما إذا كان الشاهد من البعد بحيث لا يلزمه الإتيان لأداء شهادته، وليس
للقاضي من يشهد عنده بموضعه الذي هو به، فلا يضره أكل طعام المشهود له، وإن
كان له مال ولا ركوب دابته، وإن كانت له دابة، وكذلك إذا احتجب السلطان عن
الشاهد لم يضره أن ينفق عليه المشهود له ما أقام منتظرا له إذا لم يجد من
يشهد على شهادته وينصرف، وقد قيل: إن شهادتهم تبطل بذلك؛ لأنهم يوفرون على
أنفسهم النفقة، وهو الأظهر، فانظر على هذا أبدا إذا أنفق المشهود على
الشاهد في موضع لا يلزم الشاهد الإتيان إليه والمقام فيه جاز، وإن أنفق
عليه في موضع يلزم الشاهد الإتيان إليه والمقام فيه، فلا يجوز ذلك إلا فيما
يركب الشاهد إذا لم تكن له دابة، ولم يقدر على المشي، فلا اختلاف في أنه
يجوز للشاهد أن يركب دابة المشهود له، إذا لم تكن له دابة، وشق عليه المشي
جملة من غير تفصيل بين قريب ولا بعيد، ولا موسر ولا معسر، وإنما يفترق ذلك
حسبما ذكرناه في النفقة، وفي الركوب إذا كانت له دابة، وبالله التوفيق.
[مسألة: شهادة المختفي]
مسألة وسئل سحنون عن شهادة المختفي فقال: أخبرنا ابن وهب، عن أشهل بن حاتم:
أن شريحا والشعبي كانا لا يجيزان شهادة المختفي الذي يدخل بيت رجل.
(10/156)
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول
فيها مستوفى في رسم باع شاة، من سماع عيسى، فلا معنى لإعادته، وبالله
التوفيق.
[مسألة: يتجر في البادية فهلك فيها وكان معه
غلام له فادعى الغلام أن سيده قد دبره]
مسألة قال سحنون: عن ابن القاسم، عن مالك، عن رجل كان يتجر في البادية فهلك
فيها، وكان معه غلام له، فادعى الغلام أن سيده قد دبره فأقام شهودا من أهل
شهادته على ذلك، فقال مالك: إذا كانوا عدولا جازت شهادتهم له.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول فيها مستوفى في رسم القبلة، من
سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: ترك عبدا فشهد أحد ولديه بعتق نصف
العبد وشهد الآخر بعتقه كله]
مسألة وقال في رجلين هلك أبوهما، وترك عبدا، فشهد أحدهما أن أباه أعتق
نصفه، وشهد الآخر أنه أعتق كله، فقال: قد اجتمعا على النصف، فهو حر، ويعتق
على الذي أقر بالجميع ما يصير له من حصته منه؛ لأنه لا يكون ذلك ضررا على
صاحبه؛ لأنه قد أفسد أولا، وليس يزيد ما أعتق منه أيضا فسادا، بل هو حينئذ
يزيد خيرا فيعتق من العبد ثلاثة أرباعه، ويكون الربع رقا للذي شهد بعتق
نصفه، ولا يعتق عليه؛ لأنه لم يحدث هو عتقا إنما أحدثه أبوه.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول عليها مستوفى في آخر أول رسم من
سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
(10/157)
|