البيان
والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة [: كتاب
الشهادات الرابع] [مسألة: شهدا لرجل
بألف درهم قال أحدهما حل له الحق وقال الآخر بل إلى سنة]
(10/159)
قيل لسحنون: أرأيت إن شهد شاهدان لرجل بألف
درهم، وقال أحدهما: قد حل له الحق، وقال الآخر: بل إلى سنة؟ فقال: إن شاء
صاحب الحق أن يحلف مع شاهده الذي شهد له بحلولها، ويحق حقه فعل، وإن شاء
كانت له إلى سنة، ولا يمين عليه، وليس هذا مثل الأول أن يقول المطلوب، فأنا
أحلف مع الشاهد الذي يشهد علي بأنها إلى سنة، ويكون شاهدا لي بذلك؛ لأنه
إنما شهد على الآخر، ولا يحلف في ذلك مع الشاهد الواحد.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة أن الشاهدين اجتمعا على أن الحق
كان إلى سنة، فقال أحدهما: قد انقضت، وقال الآخر: لم تنقض بعد، فوجب أن
يحلف الطالب مع شاهده الذي شهد له أنها قد انقضت؛ لأنه هو المدعي
لانقضائها، وقد أحكمت السنة أن البينة على من ادعى، فلما أقام شاهدا على
دعواه، كان من حقه أن يحلف مع شاهده، ولم يكن للمطلوب أن يحلف مع شاهده إلا
أن ينكل الطالب عن اليمين، فيحلف هو ويكون المال إلى الأجل، ولو اختلف
الشاهدان في الأجل، فقال أحدهما: كان إلى ستة أشهر فقد حل، وقال الآخر: كان
إلى سنة، فلم يحل؛ لوجب أن يحلف المطلوب مع شاهده الذي شهد له بأن الحق كان
(10/161)
إلى سنة؛ لأن شاهده زاد في شهادته على ما
شهد به، شاهد الطالب بدليل أنه لو أقام كل واحد منهما شاهدين على دعواه؛
لوجب أن تكون بينة المطلوب أعمل؛ لأنها زادت، وهذا على المشهور من قول ابن
القاسم في أن البينتين إذا اختلفتا في القلة والكثرة كانت البينة التي زادت
أعمل، وقد قيل: إن ذلك تكاذب، وينظر إلى الأعدل منهما، وقد فرق بين أن تكون
الزيادة في اللفظ، مثل أن تشهد إحدى البينتين بمائة، والثانية بمائة
وخمسين، أو في المعنى، واللفظ مختلف، مثل أن تشهد إحداهما بمائة، والثانية
بتسعين. وقوله: وليس هذا مثل الأول يريد مسألة جرت بينهما في المجلس لم
تذكر، وهي المسألة التي بعد هذه، أو ما كان في معناها، وبالله التوفيق.
[مسألة: شهد له أحدهما بألف وشهد الآخر
بخمسمائة]
مسألة قلت: أرأيت إن شهد شاهدان لرجل بألف درهم، وشهد أحدهما أنه قضى
الطالب منهما خمسمائة درهم، وأنكر الطالب القبض؟ فقال: لا أرى الطالب يستحق
بشهادتهما الألف؛ لأن أحدهما أدخل عليه في شهادته ما نقصت خمسمائة، فكأنه
في هذا الموضع إنما شهد له أحدهما بألف، وشهد الآخر بخمسمائة، فإن شاء
الطالب أخذ الخمسمائة بلا يمين فذلك له، وإن أحب أن يحلف ويستحق ألفا
بالشاهد الذي شهد له بالألف، فإذا حلف استحقها إلا أن يحلف المطلوب مع
الشاهد له بالقضاء منها خمسمائة أنه قضاه خمسمائة، فإن حلف لم يجب للطالب
إلا خمسمائة، قال: وإن أبى المطلوب أن يحلف لم يكن على الطالب يمين؛ لأنه
قد حلفه مرة على الذي يريد المطلوب أن يحلفه عليه الآن.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة مشكلة؛ إذ لا يخلو الأمر فيها من وجهين؛
أحدهما: أن يكون المطلوب مكذبا للشاهدين جميعا، منكرا لجميع
(10/162)
الحق. والثاني: أن يكون مصدقا للشاهدين
جميعا، مدعيا ما شهد له به أحدهما، من أنه قبض الطالب منه خمسمائة، فإن كان
مكذبا للشاهدين جميعا، منكرا لجميع ذلك، كان وجه الحكم في ذلك أن يوقف
الطالب، فإن كذب الشاهد الذي شهد بأن المطلوب قضاه خمسمائة، وقال: إنه شهد
بزور، بطلت شهادته له بإقراره أنه شهد بزور، ولم يكن له أن يأخذ الخمسمائة
حتى يحلف عليها مع الشاهد الآخر، وإن قال: إنه شبه عليه، ولم يتعمد الزور
لم تبطل شهادته له، وأخذ الخمسمائة بلا يمين؛ لاجتماع الشاهدين له عليها،
وإن شاء أخذ الألف بيمينه مع الشاهد الذي شهد له بها، ولم يكن للمطلوب أن
يحلف مع الشاهد الذي شهد له بالقضاء؛ لأنه مكذب له، وإن صدقه وقال: إنه شهد
بحق، أخذ الخمسمائة بلا يمين، ولم يكن له إلا ذلك.
وإن كان المطلوب مصدقا للشاهدين جميعا، مدعيا لما شهد له أحدهما من أنه قضى
الطالب منها خمسمائة، كان وجه الحكم في ذلك أن يحلف مع شاهده الذي شهد له
أنه قضاه خمسمائة، ويبرأ منها، ويؤدي إلى الطالب الخمسمائة الباقية، فإن
نكل عن اليمين حلف الطالب أنه ما قضاه شيئا، وأخذ جميع الألف، فالمعنى في
المسألة أنه أجاب فيها أولا على أن المطلوب مكذب للشاهدين جميعا، منكر
لجميع الحق، وعلى أن الطالب يدعي الألف، وينكر الاقتضاء الذي شهد به أحد
الشاهدين، ولا يدعي عليه تعمد الشهادة بالزور، فلذلك قال: إن الطالب مخير
بين أن يأخذ الخمسمائة بلا يمين، أو الألف مع اليمين.
وقوله بعد ذلك: إلا أن يحلف المطلوب مع الشاهد له بالقضاء أنه قضاه خمسمائة
إلى آخر قوله، معناه إن رجع بعد يمين الطالب على الألف إلى الإقرار بأصل
الحق، وادعى ما شهد له أحد الشاهدين من القضاء؛ لأنه حينئذ يكون له ما ذكره
من أن يحلف مع الشاهد له بالقضاء أنه قضاه خمسمائة، فإن حلف بطلت عنه، ولم
يجب للطالب إلا خمسمائة، وإن نكل عن اليمين غرم الألف دون أن يحلف الطالب،
وقد تقدمت يمينه، فهذا معنى المسألة عندي؛ إذ لو كان أولا مقرا
(10/163)
بأصل الحق، مدعيا لقضاء الخمسمائة لما مكن
الطالب من أن يحلف على الألف، ويستحقها إلا بعد أن ينكل المطلوب عن اليمين
مع الشاهد الذي يشهد له بقضاء الخمسمائة، ولو كان أحدا متماديا على إنكاره
أولا لأصل الحق وتكذيب الشاهدين؛ لما مكن من اليمين مع الشاهد بأنه قضاه
خمسمائة لتكذيبه إياه، وهذا كله بين، والحمد لله.
[مسألة: هل تجوز شهادة بعضهم لبعض فيما تقاضى
من الكراء]
مسألة قيل لسحنون: أرأيت قوما تكاروا سفينة، وقدموا الكراء إلى صاحب
المركب، فعطب المركب قبل البلاغ، فأرادوا الرجوع على صاحب المركب، فأنكرهم
أنه ما تقاضى منهم شيئا، هل تجوز شهادة بعضهم لبعض فيما تقاضى من الكراء؟
فقال: نعم.
قال محمد بن رشد: أجاز شهادة بعضهم لبعض على صاحب المركب، وإن كان كل واحد
منهم قد شهد لمن شهد له، وفي ذلك اختلاف: قيل: إن شهادة بعضهم لبعض جائزة،
وإن كانت في مجلس واحد، وهو ظاهر قول سحنون هذا، وقيل: إنها لا تجوز، وإن
كانت في مجالس شتى؛ إذ ليس موضع ضرورة، وكانوا يجدون من يشهد من سواهم إذا
أرادوا أن ينقدوا الكراء، وإلى هذا رجع سحنون فيما حكى محمد عنه، وقيل:
إنها إن كانت في مجلس واحد لم تجز، وإن كانت في مجالس شتى جازت، وهو قول
مطرف، وابن الماجشون، وسواء تكاروا السفينة على أن لكل واحد موضعا بعينه،
سماه منها بما سمى له من الكراء أو تكاروها منه جملة واحدة على الاشتراك
فيها، والإشاعة إلا أن يشترط عليهم أن بعضهم حملاء عن بعض بما ينوبه من
الكراء، فإن اشترط ذلك عليهم لم تجز شهادة بعضهم لبعض، فيما نقد من الكراء؛
لأنه يشهد لنفسه، ولا
(10/164)
اختلاف في هذا؛ إذ ليس بموضع ضرورة، وقد
مضى ذكر الاختلاف فيه في موضع الضرورة، في رسم الصبرة، من سماع يحيى، فتأمل
ذلك هناك تجده فيه مستوفى، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال قتلني فلان فجاء المدعى عليه
بالبينة أنه كان يوم ضرب ببلدة نائية]
مسألة وسئل عمن شهد له بدم على رجل أصابه عمدا، فجاء المشهود عليه بقوم
يشهدون أن القاتل كان معهم يريد يوم قتل القتيل ببلدة نائية غير موضعه الذي
قتل فيه، قال: وهذا مما وصفت لك في المسألة فوق هذا إذا حق الحق لأهله؛ فلا
مخرج من شهادة الشهود إلا بجرحة، وقال أصبغ مثله، قيل: فرجل، قال: قتلني
فلان فجاء المدعى عليه بالبينة أنه كان يوم ضرب هذا معهم ببلدة نائية غير
موضعه الذي ضرب فيه، قال: يبرئه ذلك ويخرجه؛ لأنه خرج من حد الشهادة، وصار
في حد الدعوى إلا أنها دعوى إن لم ترد حلف معها الولاة وقتلوه.
قال محمد بن رشد: أما الذي شهد له بدم عمد، فجاء المشهود عليه بشهود يشهدون
أنه كان ذلك اليوم ببلد كذا ناء عن الموضع الذي قتل فيه، فالمشهور في
المذهب ما قاله سحنون من أن الشهادة عامة على المشهود عليه بالدم لا يبطلها
عنه شهادة من شهد أنه كان ذلك اليوم في غير ذلك البلد، وقد ذهب إسماعيل
وغيره إلى أن الشهادة بذلك ساقطة، وهو قول محمد بن عبد الحكم، قال في آداب
القضاة: الذي كنت أسمع فيما كنا نتناظر فيه مع أصحابنا أن شاهدين لو شهدا
على رجل أنه أقر عندهم بعرفات يوم عرفات من هذا العام بمائة دينار لفلان،
وشهد آخران أنه كان عندهم بمصر في ذلك اليوم بعينه، أن شهادة الذين شهدوا
عليه بالمائة أحق وأولى، وقالوا: لأن هذين شهدا بحق، ولم يشهد الآخران بحق،
(10/165)
ولست أعرف لهذا معنى، والذي أرى إن كان
الشاهدان اللذان شهدا أنه كان بمصر في ذلك الوقت أعدل، ألا يكون له شيء،
ألا ترى أن رجلين لو شهدا على رجل بحق أقر به عندهما في سنة مائتين، وشهد
شهود عدول أعدل منهما أنه مات قبل ذلك بشهر أنها جرحة، ولو كانت في العدالة
سواء لطرحتها، وكذلك لو شهدا أنه ولد بعد المائتين، ولكلا الوجهين وجه وحظ
من النظر، وستأتي هذه المسألة في نوازل أصبغ، فنتكلم عليها إذا انتهينا
إليها، إن شاء الله، وأما التدمية والشبهة التي توجب القسامة، فلا اختلاف
في سقوطها بالشهادة للمدعى عليه، أو المتهم بالدم أنه كان في ذلك اليوم في
غير ذلك البلد، وسيأتي هذا المعنى في سماع يحيى، من كتاب الديات، وبالله
التوفيق.
[مسألة: شهدا على معرفة خط رجلين في كتاب]
مسألة قيل: أرأيت رجلين شهدا على معرفة خط رجلين في كتاب؟ فقال: هي جائزة؛
لأنهما قد شهدا على كل واحد، قيل له: فهل يشهدان أيضا على وكالة في ذلك
الحق لمن يخاصم به، وعلى وراثة يأخذها من له ذلك الكتاب الذي شهدا فيه على
معرفة كتاب الرجلين؟ فقال: نعم؛ لأنهما في كل هذا شاهدان مبتديان ماضيان،
لا ينالهما بشهادتهما شيء؛ لأنهما قد بلغا. . . تمام الشهادة وأفضل ما تؤخذ
به الحقوق، ولأنهما اثنان، وبالاثنين تؤخذ الحقوق، وتمضي لأهلها.
قلت: فهل يعذلان شاهدا شهد في ذلك، ويشهدان هما على شهادة شاهد معه في ذلك
الكتاب؟ قال: نعم، هما في ذلك على مثل حالهما في المسألة التي قبلها.
(10/166)
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة
المعنى، لا إشكال فيها؛ لأنهما شاهدان، فإذا جاز أن يشهدا للرجل في حقوق
مختلفة كان أحرى أن تجوز شهادتهما في الحق الواحد في وجوه مختلفة، وبالله
التوفيق، وليس ما أجازه من شهادة الرجلين على شهادة الشاهد، وتعديلهما
للشاهد الآخر في ذلك الحق بخلاف لما قاله ابن القاسم في رسم شهد، من سماع
عيسى، في الشاهدين يشهدان لرجل بحق، فيعدل أحدهما صاحبه؛ لأن الأمر يئول في
ذلك إلى الحكم بشهادة المزكي وحده، وبالله التوفيق.
[مسألة: يعرف خطه في الكتاب لا يشك في ذلك
أيشهد بما فيه]
مسألة قلت: أرأيت الرجل يعرف خطه في الكتاب لا يشك في ذلك، ولا يذكر كل ما
فيه؟ فقال: اختلف أصحابنا فيه، والذي أقول به أنه إذا لم ير في الكتاب
محوا، ولا لحقا، ولا شيئا يستنكره، ورأى الكتاب خطا واحدا، فأرى له أن يشهد
بما فيه، وأن يقول: أشهد بما فيه، وهذا أمر لا يجد الناس منه بدا، ولا
يستطيع أحد أن يذكر جميع ما في الكتاب، قيل له: ولو أنه لم يذكر من الكتاب
شيئا، إلا أنه يعرف خط الشهادة أنه خط بيده، ولا يشك في ذلك. فقال: هذا أمر
لا يجد الناس منه بدا، ومن يستطيع أن يحفظ كل ما في الكتاب؟ وأراه واسعا،
وقد أخبرتك باختلاف أصحابنا في هذه المسألة، فاعمل فيها برأيك، وقد أخبرتك
أنه إن لم ير في الكتاب شيئا يستنكر، ورآه خطا واحدا أنه يقوم به، قيل له:
فلو أنه عرف أنه كتب الكتاب كله، أو عرف خطه في الكتاب
(10/167)
كله، وفيه شهادته، ولم ير شيئا يستنكره،
ولم يذكر منه شيئا؟ فقال: أرى أن يشهد بها، ولو أنه أعلم القاضي بذلك لرأيت
للقاضي أن يجيز شهادته إذا عرف أن الكتاب كله خط يده، قال سحنون: وجميع
أصحابنا يقولون: إن شهادته جائزة، إذا ذكر أنه هو خط الكتاب، وكتب شهادته
بيده، ولم ير فيه محوا، ولا يشكون أنها جائزة.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول فيها مجودا مشروحا مبينا في رسم
الشجرة، من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادة شيء منه، وبالله التوفيق.
[مسألة: أتى بكتاب فيه شهادته ولا يذكر هو شيئا
من ذلك]
مسألة قال سحنون: قال ابن وهب، عن مالك إذا أتى الرجل بكتاب فيه شهادته،
فعرف خطه بيده، ولا يذكر شهادته، ولا شيئا منها فيقول بعض الشهود الذي في
الكتاب معه، نشهد أنه كتاب يدك، وأنك كتبت معنا، ولا يذكر هو شيئا من ذلك؟
قال: إن كان يستيقن أنه كتابه، وخط يده فعلم ذلك وتيقنه، فليشهد عليه، وإن
كان إنما يعلم ذلك بخبر غيره، وقولهم له فلا أرى أن يشهد على ذلك، وإن
ارتاب الرجل حين رأى كتابا يشبه كتابه، فيقول: عسى أن يكون إياه، وخاف أن
يكون يشبه كتابه، فلا أرى أن يشهد على ذلك، وليخبر بعلمه بالغا ما بلغ، ولا
أرى أن يجيز السلطان ذلك إلا أن يشهد الرجل أنه كتابه وشهادته.
قال محمد بن رشد: وهذه مسألة أيضا قد مضى القول في معانيها، في رسم الشجرة
المذكور، فلا معنى لإعادته.
(10/168)
[مسألة: يشهد
إذا استيقن أنه خط يده وإن لم يثبت عدة المال]
مسألة وقال ابن وهب عن مالك: إنه قال: من عرف خط يده في شهادة ذكر حق، ولم
يثبت عدة المال إن استيقن أنه خط يده، وكان لا يثبت عدة المال فليشهد عليه،
وينبغي للقاضي القضاء به إذا شهد عنده أنه خط يده، ولم يشهد عنده على عدة
المال.
قال محمد بن رشد: قوله: إنه يشهد إذا استيقن أنه خط يده، وإن لم يثبت عدة
المال خلاف ما في سماع أبي زيد من أنه لا يشهد، وإن استيقن أن الخط خطه،
وذكر أن فلانا أشهده في أمر دار حتى يذكر شهادته، ويثبتها حرفا بحرف، وهذا
الاختلاف إنما هو إذا وضع الرجل شهادته على معرفته في عقد استرعاء، وأشهد
آخر على نفسه بمال أو بشهادة فيها مال، أو حق فيها سوى المال، يقيد شهادته
بخط يده بما أشهد عليه، واستحفظ إياه، فلما دعي إلى أداء الشهادة عرف خط
يده واستيقنه، ولم يذكر الشهادة لنسيانه لها بعد ذكره إياها، فوجه القول
بأنه يشهد تيقنه صحة الشهادة لمعرفته بخط يده، وأنه لم يضع شهادته في الوقت
الذي وضعها فيه، إلا وهو عالم بها، ووجه القول بأنه لا يشهد بها أنه غير
ذاكر لها في وقت أدائه إياها، وأما ما أشهد عليه الشاهد من العقود
بالمبايعات والإقرارات، فليس على الشاهد أن يقرأها، ولا يحفظ ما فيها،
وحسبه أن يتصفح منها عقد الإشهاد، فيجوز له أن يؤدي شهادته على ما أشهد
عليه، وإن لم يعرف ما في الكتاب ولا عدد المال إذا عرف أعيان المشهدين له
على أنفسهم.
قال ابن دحون: فإن عرف الشاهد عين المشهود عليه، ولم يعرف عين المشهود له،
فلا يشهد إلا أن يبين، وأما إذا لم يعرفهما جميعا فلا يشهد. قلت: وكذلك إذا
عرف المشهود له، ولم يعرف المشهود عليه، لا يشهد ألبتة، وبالله التوفيق.
[مسألة: يأتي بذكر حق قد مات شهوده ويأتي
بشاهدين عدلين على الكتاب]
مسألة وقال ابن وهب: سمعت مالكا يقول في الرجل يأتي
(10/169)
بذكر حق قد مات شهوده، ويأتي بشاهدين عدلين
يشهدان على كتاب كاتب ذكر الحق، قال: تجوز شهادتهما على كتاب الكاتب، إذا
كان عدلا مع يمين صاحب الحق، فإن لم يحلف حلف الذي عليه الحق، فإن نكل عن
اليمين غرم، فقيل لمالك: أفرأيت إن مات صاحب الحق وقام ورثته بذلك الكتاب
مع شهادة الرجلين على كتاب الكاتب؟ قال مالك: يحلفون بالله ما علموا أن
صاحبهم قبض من هذا الذكر الحق شيئا مع شهادة الرجلين، ويقضى لهم بذلك الحق،
ومع هذا آثار في موطأ ابن وهب.
قال الإمام القاضي: قوله: إنه يحلف مع شهادة الشاهدين على كتاب كاتب ذكر
الحق معناه إذا كتب شهادته فيه، فلا مزية في هذا الكاتب ذكر الحق على غيره
ممن كتب شهادته فيه إذا شهد على خط، وأما قوله: إن الورثة يحلفون مع شهادة
الرجلين على كتاب الكاتب بالله ما علموا أن صاحبهم قبض من هذا الذكر الحق
شيئا، فقد مضى من القول فيه في رسم الشجرة، من سماع ابن القاسم، ما لا معنى
لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: الزيادة في صفة الدراهم كالصفة في
عددها]
مسألة قلت: أرأيت إن شهد شاهدان لرجل على رجل بألف درهم فقال أحدهما: هي
بيض، وقال الآخر: هي سود، وللسود فضل في الصرف على البيض؟ قال: إذا ادعى
الطالب السود قلت له: احلف مع شاهدك، وهي لك، فإن أبى أن يحلف ردت اليمين
على المطلوب، فقضيت للطالب بالبيض، وذلك لأن البيض أدناهما في الصرف.
قال محمد بن رشد: بنى سحنون جوابه في هذه المسألة على أن الزيادة في صفة
الدراهم كالصفة في عددها، فجعل شهادة أحدهما أنها بيض، والآخر أنها سود،
كشهادة أحدهما: أنها ألف، والآخر أنها ألف وخمسمائة إن
(10/170)
ادعى الطالب الأكثر في العدد، أو الأفضل في
الصفة، أخذه مع يمينه لانفراد أحد شاهديه به، وإن نكل عن اليمين حلف
المطلوب أنه ما له عليه إلا الأدنى في الصفة، أو الأقل في العدد، وإن كان
منكرا للجميع حلف أنه ما له عليه شيء، وكان للطالب في الوجهين الأقل في
العدد أو الأدنى في الصفة؛ لاجتماع الشاهدين على ذلك، وإن نكل المطلوب عن
اليمين استحق الطالب عليه الأكثر في العدد، أو الأفضل في الصفة، وإن ادعى
الطالب الأقل في العدد، أو الأدنى في الصفة أخذه بلا يمين لاجتماع الشاهدين
جميعا عليه، ومساواة سحنون في هذه المسألة بين الزيادة في العدد والزيادة
في الصفة، هي على أصل ابن القاسم وروايته عن مالك في السلم الثاني من
المدونة، أن القول قول المسلم إليه إذا اتفقا على النوع، واختلفا في الصفة
كما إذا اختلفا في العدد، والأظهر في القياس والنظر أن تكون شهادة أحدهما:
أنها بيض، والآخر أنها سود كشهادة أحدهما له ببغل، والثاني بحمار، أو
كشهادة أحدهما له بدنانير، والثاني بدراهم، فإن كان المطلوب منكرا حلف
الطالب مع أي شاهديه شاء، واستحق ما حلف عليه، فإن نكل حلف المطلوب، ولم
يكن للطالب شيء؛ لأنه نفى نفسه عن البيض بدعواه السود، وإن كان مقرا بما
شهد به عليه أحدهما، فادعى الطالب ما شهد به الشاهد الآخر حلف مع شهادته
واستحقه، فإن ادعى الحقين جميعا والشاهدان يقولان: إنه حق واحد بطلت
شهادتهما له لتكذيبه إياهما، وحلف المطلوب وبرئ، وبالله التوفيق.
[مسألة: شهدا بألف درهم قال أحدهما وزنها خمسة
دوانق وقال الآخر بل هي كيل]
مسألة قلت: أرأيت لو شهدا بألف درهم فقال أحدهما: وزنها خمسة دوانق، وقال
الآخر: بل هي كيل؟ فقال: يحلف الطالب مع شاهده ويأخذها كيلا، فإن نكل عن
اليمين رددتها على المطلوب، فإن حلف قضيت للطالب بها على أن وزن كل درهم
خمسة دوانق. قال: ومثل ذلك الشاهدان يشهدان لعبد أنه أعتق، فقال
(10/171)
أحدهما: أعتقه إلى سنة، وقال الآخر: بل
عتقه بتلا، فقال: يعتق إلى سنة لأدنى ما شهد به، وقد قال مالك في العتق مثل
هذا. قيل له: فإن ادعى المالين؟ فقال: إن كان الشاهدان وقفا على أنهما شهدا
على مال واحد، فليس ذلك له، ويحلف مع الذي شهد له بأجود المالين، وإن أبى
أن يحلف ورد اليمين على المطلوب حلف المطلوب أنه ليس له عليه أجود المالين،
وإن شاء حلف أنه ليس له عليه من المالين شيء، وكان للطالب أدنى المالين ولا
يمين عليه، وإن كانا لم يوقفا وقفا على شهادتهما إن قدر على إيقافهما، فإن
شهدا وزعما أنه مال واحد كان كما وصفت لك، وإن زعما أنه شهد كل واحد منهما
على حدة لم يستحق بشهادتهما شيئا من المال إلا بيمينه، فإن شاء حلف على
المالين واستحقهما جميعا، وإن شاء حلف على أحدهما واستحقه، ورد اليمين على
المدعى عليه في المال الآخر، فهذا وما أشبهه هكذا.
قال: ولكن لو شهد لرجل شاهدان؛ فقال أحدهما: أشهد لفلان على فلان ببغل،
وقال الآخر: أشهد أن له عليه حنطة زعما جميعا أنها شهادة واحدة أبطلت
شهادتهما، إن زعم رب الحق أنهما حقان مختلفان، قال: وإن زعم أن أحدهما محق،
أحلفته مع شاهده المحق، وأعطيته ما ادعى مما يشهدان له به، وذلك ما اجتمع
له عليه الشاهدان، قال: وإن شهد له ثلاثة فشهد له منهم شاهدان، بأن له عليه
بغل، وشهد الآخر بأن له عليه عشرة أرادب حنطة، وزعموا جميعا أنها شهادة
واحدة، فإن ادعى الطالب جميع ذلك بطلت شهادتهم جميعا؛ لأنه أكذبهم جميعا في
شهادتهم، وإن
(10/172)
ادعى ما شهد له به الرجلان أخذه بلا يمين،
وإن ادعى ما شهد له به الشاهد الواحد حلف مع شاهده، واستحق حقه إلا أن يقول
الذي شهد بالحق عليه إن الحق هو الذي شهد عليه الشاهدان، فلا يكون له عليه
إلا ما شهدا به، وتبطل شهادة الشاهدين؛ لأن الشاهدين صارا مكذبين لشهادة
الشاهد الذي شهد له، فإن أبى أن يأخذ ذلك فسأل المطلوب أن يكرهه على أخذ ما
شهد به الشاهدان كان ذلك له، وإن لم يكرهه على أخذ ما يجحده فيما شهد به
الشاهدان كان ذلك له، وإن لم يكرهه على ذلك لم يجبرهما على شيء، وتركهما
على حالهما، قال: ومتى رجع الطالب فيما كان ترك من ذلك، كان له أخذه، ولم
أر عليه يمينا فيما يجحده فيما شهد له به الشاهد، وشهادة الشاهدين عليه
بإكذابه في شهادته، وذلك أنهما صارا مجرحين له، ألا ترى لو أن رجلا جاء
شاهدا على رجل بحق فجرحه المشهود عليه، بطلت شهادته، ولم ألزمه شيئا
بشهادته، إلا أن يأتي بشاهد سوى شاهده بخلطة لا يعرف لها منتهى، وليس شهادة
الشاهدين عليه توجب اليمين فيما أنكر لأنهما شهدا على شاهد أنه يشهد بباطل،
وقد انقطعت الخلطة التي شهد شاهدهما بها، وشهد على انقطاعها، ألا ترى لو
شهد رجلان لرجل بمائة دينار، فقضى عليه بها قاض، ثم جاء المدعي من الغد
يدعي مالا آخر، لم أحلف له حتى يأتي بالبينة على خلطة، لا يقطع منها شيئا.
قال محمد بن رشد: قوله في الشاهدين يشهدان بألف درهم فيقول أحدهما: وزنها
خمسة دوانق، ويقول الآخر: بل هي كيل إن الطالب يحلف مع شاهده، ويأخذها
كيلا، فإن نكل عن اليمين ردت على المطلوب، فإن
(10/173)
حلف قضي للطالب بها على أن وزن كل درهم
خمسة دوانق صحيح، لا اختلاف فيه إن كانت الدراهم لا تجوز بأعيانها، وإنما
تجوز بالوزن؛ لأن اختلافهما إنما يعود إلى الزيادة في الوزن والعدد لا في
الصفة، فللطالب أن يأخذ الأدنى بغير يمين، أو يأخذ الأكثر بيمينه، وإذا أخذ
الأدنى حلف المطلوب على الزيادة، وله رد اليمين على الطالب، ووقع في بعض
الروايات: فإن نكل قضيت للطالب بها على أن وزن كل درهم خمسة دوانق، وهو غلط
لا وجه له.
وأما إن كانت الدراهم تجوز بأعيانها، وتجري عددا دون وزن، فيدخل فيها من
الاختلاف بالمعنى ما دخل في المسألة التي قبلها، ويحلف الطالب إن أنكر
المطلوب مع أي شاهديه شاء، فإن نكل حلف المطلوب، ولم يكن للطالب شيء؛ لأنه
أقر بدعواه التي هي كيل؛ أنه لا شيء عليه من النواقص.
وأما قوله في الشاهدين يشهدان للعبد بالعتق، فيقول أحدهما: أعتقه بتلا،
ويقول الآخر: أعتقه إلى سنة، أنه يعتق إلى سنة، فهو صحيح؛ لأنهما قد اجتمعا
على أنه حر إلى سنة، وانفرد أحدهما بالشهادة على تعجيل العتق، فوجب أن يعتق
إلى سنة على ما اجتمعت عليه شهادة الشاهدين بعد يمين السيد أنه ما أعتقه إن
أنكر العتق، أو أنه ما عجل عتقه إن أقر أنه أعتقه إلى سنة، فإن نكل عن
اليمين عجل عليه العتق، وقيل: إنه يحبس حتى يحلف، ولم يكن للعبد أن يحلف مع
الشاهد الذي شهد بتعجيل العتق؛ إذ لا يستحق العبد باليمين مع الشاهد.
وقوله: إنه إن ادعى المالين والشاهدان يقولان: إنه مال واحد إن ذلك ليس له،
ويحلف مع الذي شهد له بأجود المالين، يريد أن له أن يحلف معه إن شاء،
فيستحق ما شهد له به، وإن شاء أن يأخذ أدنى المالين، فيكون ذلك له دون
يمين.
وقوله في الذي شهد له أحدهما ببغل، والآخر بحنطة، وزعم أن أحدهما محق أنه
يحلف مع المحق منهما، ويأخذ ما ادعى مما شهد له به صحيح بين، وأما قوله:
وذلك ما اجتمع له عليه الشاهدان، فمعناه وذلك أنه لم يجتمع له عليه
الشاهدان على أن ما نافية لا موجبة؛ إذ لم يجتمع له على ذلك الشاهدان، ولو
اجتمعا له على ذلك لم يجب عليه يمين. وقوله في الذي يشهد له ثلاثة شهود؛
اثنان منهم ببغل، والثالث بحنطة، وزعموا أنها شهادة واحدة أن
(10/174)
الطالب إن ادعى الذي شهد به الشاهد الواحد
حلف مع شاهده، واستحق حقه لا يصح على مذهب ابن القاسم؛ لأن الشاهدين يسقطان
شهادة الشاهد الواحد كما يسقطان شهادة الشاهدين لو كانا أربعة، فشهد اثنان
منهم ببغل واثنان بحنطة، وزعموا أنها شهادة واحدة، وإنما يأتي قول سحنون في
هذه المسألة على قول مطرف وابن الماجشون في أن شهادتهما جميعا جائزة، فيقضى
للطالب بالبغل والحنطة، وأما الشاهد الواحد فلا تسقط بشهادته شهادة
الشاهدين إذا خالفهما في الشهادة، ولا شهادة الشاهد الواحد إذا خالفه في
الشهادة، وإنما تبطل بتكذيب الطالب إياهم بدعواهم أنهما حقان، وهم يزعمون
أنه حق واحد.
وأما قوله: ولم أر عليه يمينا فيما يجحده فيما شهد له به الشاهد؛ لسقوط
شهادته، فقد مضى القول على ذلك، وذكر الاختلاف فيه في رسم الشجرة، من سماع
ابن القاسم، فلا معنى لإعادته.
وأما قوله: إلا أن يأتي بشاهد سوى شاهده بخلطة، لا يعرف لها منتهى إلى آخر
قوله، فقد مضى القول عليه مستوفى في رسم الصبرة، من سماع يحيى، وفي كتاب في
سماع أصبغ منه، فلا وجه لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: شهد له العدل عند القاضي أن هذا المتاع
جعله فلان عندي رهنا على أن أبيعه]
مسألة قلت لسحنون: أرأيت الرجل يجعل المتاع على يديه رهنا على أنه إن لم
يقض الراهن الدين إلى الأجل باع عليه الرهن هذا الأمين الذي جعل الرهن على
يديه، فلما حل الأجل لم يكن لصاحب الحق شاهد على الدين، وعلى الرهن إلا
العدل الذي جعل الرهن على يديه، فشهد له العدل عند القاضي أن هذا المتاع
جعله فلان عندي رهنا على أن أبيعه، وأقضي ثمنه فلانا غريمه، هل تجوز
شهادته؟ قال: أرى شهادته جائزة، ويحلف صاحب الحق مع شاهده إذا شهد بها
العدل عند القاضي قبل أن يبيع المتاع، فإن شهد بها بعدما باع المتاع لم تجز
شهادته؛ لأنه يريد طرح الضمان عن نفسه، ويشهد لنفسه أنه لم يتعد فيما صنع.
(10/175)
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة في
المعنى، لا وجه للقول فيها، والله الموفق.
[مسألة: شهد له شهود بأنه حاز رهنا وآخرون بأنه
لم يحزه]
مسألة قيل له: فرجل شهد له شهود بأنه حاز رهنا، وشهد له آخرون بأنه لم
يحزه، قال: شهادة من شهد له بالحوز هي المأخوذ بها، ولا يخرج حق أحد من
يديه بأن يشهد عليه بأنه ليس بيده، وشهادة من أحقه ماضية، إلا أن يخرج من
الشهود من لا مخرج له من شهادته إلا بجرحة.
قال محمد بن رشد: الجواب في هذه المسألة صحيح؛ لأن المعنى فيها أن المرتهن
للرهن قبل قيام الغرماء على الراهن قام بعد قيامهم عليه، والرهن بيده،
فادعى أنه حازه حين ارتهنه قبل قيام الغرماء على الراهن، وشهد له بذلك
شهود، وشهد آخرون له أنه لم يحزه إلا بعد قيام الغرماء عليه، فوجب أن تكون
شهادة من شهد بالحوز القديم أعمل؛ لأنها علمت من الحوز ما جهل الشهود
الآخرون منه.
وقوله: ولا يخرج حق أحد من يديه بأن يشهد عليه أنه ليس بيديه معناه بأن
يشهد عليه، بأنه ليس بيده باحتياز صحيح؛ لأن الشهود لم يشهدوا أنه ليس
بيديه، وإنما شهدوا أنه لم يحزه قبل قيام الغرماء على الراهن، ولو ادعى
المرتهن أن الرهن بيده، وأقام بينة على أن قد حازه قبل قيام الغرماء على
الراهن، فقال الغرماء: ليس الرهن بيده، وأقاموا بينة على أنه لم يحز الرهن
لوجب أيضا أن تكون بينة المرتهن أعمل؛ لأنها شهدت له بالحيازة، فهي محمولة
على أنها بيده، من حينئذ حتى يثبت رجوعها إلى يد الراهن، وقد اختلف إذا
ألفي الرهن بعد قيام الغرماء بيد المرتهن، فادعى أنه احتازه قبل قيام
الغرماء وكذبه الغرماء على قولين قائمين
(10/176)
من كتاب الهبة والصدقة من المدونة، وهذا
كله مبني على القول بأن رهن من أحاط الدين بماله جائز، ما لم يقم عليه
الغرماء، وبالله التوفيق.
[مسألة: الولاء يثبت بالإقرار]
مسألة وسئل سحنون عن رجل مات فأقام رجل البينة أنه مولاه أعتقه، فيعطى
ميراثه، ثم يأتي رجل آخر فيقيم البينة أنه مولاه وأنه أعتقه، ولم توقت
البينة في شهادتهما وقتا، وكيف إن شهدت بينة الأول على إقراره بالولاء،
فأخذ ميراثه، ثم جاء آخر فأقام البينة أنه مولاه أعتقه؟ قال: إذا أتى كل
واحد منهما بالبينة مثل بينة صاحبه، كان الميراث بينهما نصفين، ولو أتى
أحدهما ببينة على إقراره بالولاء، وأتى الآخر ببينة على أنه أعتقه كانت
البينة التي شهدت بالعتق أولى بالميراث من البينة التي شهدت على إقراره.
قال محمد بن رشد: قوله: إنه إذا أتى كل واحد منهما بالبينة مثل بينة صاحبه
كان الميراث بينهما نصفين، هو مثل ما لابن القاسم في كتاب الولاء والمواريث
من المدونة، وقد قيل: إن الميراث لا يخرج من يد الأول الذي أعطاه إلى غيره،
إلا أن يأتي ببينة هل أعدل من ببينة الأول، وهو قول غير ابن القاسم في
المدونة، وأما إن أتى كل واحد منهما ببينة مثل بينة صاحبه في العدالة قبل
أن يدفع المال إلى أحدهما، فلا اختلاف في أن الميراث يكون بينهما نصفين،
إلا أن يكون المولى مقرا بالولاء لأحدهما، فيكون أحق بالميراث إلا أن تكون
بينة الآخر أعدل، ولو أتى كل واحد منهما ببينة على إقراره بالولاء؛ لكان
الميراث لأعدلها بينة، فإن استوتا في العدالة كان الميراث بينهما نصفين،
وهذا إذا لم يعلم لمن أقر له منهما أولا، فإن علم كان الأول أولى، وفي ذلك
اختلاف، وكذلك إذا أقر بولاء ثم
(10/177)
أقر بنسب كان الولاء أولى من النسب؛ لأن
الولاء يثبت بالإقرار، ولا يثبت النسب بالإقرار، وفي ذلك اختلاف: قد قيل:
إن النسب أولى، وهو ظاهر قول أصبغ في العتبية، وهو يدل من مذهبه أن الولاء
يثبت بالإقرار، وإذا أقر بابن عم ثم أقر بأخ كان الأخ أحق، وقد قيل: إن ابن
العم أحق لأنه المقر له أولا، وكذلك إن أقر بأخ، ثم أقر بعد ذلك بأخ فقيل:
إن المقر له الآخر يدخل مع الأول، وقد قيل: إن الأول أحق؛ لأنه المقر له
أولا، فيتحصل في إقراره بالولاء لرجل، وبالنسب لآخر ثلاثة أقوال؛ أحدها: أن
الولاء أولى من النسب تقدم أو تأخر، وهذا على القول بأن الولاء يثبت
بالإقرار. الثاني: أن النسب أولى من الإقرار تقدم أو تأخر. وقيل: المتقدم
أولى من المتأخر كان النسب أو الإقرار، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال من شهد علي منهما فهو ابن الزانية]
مسألة قال سحنون: وسئل المغيرة عن رجل كان له على رجل حق فتقاضاه، فأنكر
المدعى عليه الحق وجحد، فقال الطالب: إن لي عليك البينة فلان وفلان، فقال:
من شهد علي منهما فهو ابن الزانية، فقام الرجلان فشهدا عليه، قال مالك:
عليه الحد.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأنه يحصل قاذفا لهما بشهادتهما عليه، ولا
يحل لهما أن يكتما شهادتهما إذا دعيا إلى القيام بها؛ لقول الله عز وجل:
{وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282] وبالله
التوفيق.
[مسألة: يقول أشهد أن أبي إذ كان قاضيا قضى
لفلان بكذا وكذا]
مسألة قلت: أرأيت الرجل يقول: أشهد أن أبي إذ كان قاضيا قضى لفلان بكذا
وكذا، هل تجوز شهادته على قضاء أبيه؟ قال: نعم.
(10/178)
قال الإمام القاضي: قد قيل: إنها لا تجوز،
وقد مضى القول فيها، وفيما هو في معناها من شهادته عنده أو معه أو على
شهادته في نوازل سحنون، من كتاب الأقضية، فلا معنى لإعادته، وبالله
التوفيق.
[مسألة: حلف ليدفعن إليه حقه في وقت معين
فشهدوا أنه قضاه قبله]
مسألة وسئل عن رجل حلف لرجل ليدفعن إليه حقه لوقت سماه، ثم جاء بعد الوقت
برجل وامرأتين، فشهدوا أنه قضاه قبل الوقت؟ قال: يسقط عنه الحق، ولا يخرجه
من الحنث الواجب الماضي لا يخرج منه بشهادة النساء ولا اليمين، قيل: فإن
جاء بذلك قبل الوقت؟ قال: يسقط ذلك عنه من قبل أنه إذا حلف مع شاهده أو
كانت امرأتان مع شاهد قبل وقت الحنث سقط الحق قبل وقت الحنث، فحل الأجل،
وليس عليه شيء يقضيه، وإنما خرج عن اليمين بإسقاط الحاكم عنه الحق، ليس أن
شاهدا وامرأتين ولا شاهدا ويمينا أسقط عنه الطلاق أو وقع عليه به.
قال الإمام القاضي: هذه مسألة قد مضى القول فيها مستوفى في أول رسم من سماع
ابن القاسم، من كتاب الأيمان بالطلاق، فلا معنى لإعادة القول فيه، وهي
متكررة في غير ما موضع منه، وبالله التوفيق.
[مسألة: تدخل على نفسها رجالا تشهدهم على نفسها
بغير إذن زوجها وزوجها غائب]
مسألة قال سحنون: للمرأة ذات الزوج أن تدخل على نفسها رجالا تشهدهم على
نفسها بغير إذن زوجها، وزوجها غائب، ولا تمنع من ذلك؛ لأنه لو كان زوجها
حاضرا، فأرادت أن تدخل على نفسها شهداء لم تمنع من ذلك، إلا أنه لا يدخل
عليها الشهداء في مغيب زوجها إلا ومعها ذو محرم منها.
(10/179)
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: إن من حق
المرأة أن تدخل على نفسها رجالا تشهدهم على نفسها بغير إذن زوجها، بما تريد
أن تشهد به مما يجب عليها، أو يستحب لها؛ لأنها والرجل في ذلك سواء، قال
الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ
بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} [النساء: 135] ، وقال: {وَأَشْهِدُوا إِذَا
تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282] ، وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «ما حق امرئ مسلم يكون له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا
ووصيته عنده مكتوبة» وليس للزوج أن يمنع زوجته من شيء من ذلك، فإذا كان من
حقها ذلك كان لها أن تفعله في مغيبه، والاختيار كما قال: أن لا تدخل الشهود
على نفسها بغير محضر زوجها، إلا مع ذي محرم منها؛ لقول النبي - عَلَيْهِ
السَّلَامُ -: «لا تسافر امرأة مسيرة يوم وليلة، إلا مع ذي محرم منها» فإن
لم يكن لها ذو محرم منها، قام أهل الصلاح والفضل في ذلك مقامهم، وبالله
التوفيق.
[مسألة: شهادة الصبيان فيما بينهم]
مسألة وسئل سحنون ما الذي يؤخذ به في شهادة الصبيان فيما بينهم، أتراها
جائزة في الجراح والقتل، أم لا تجوز إلا في الجراحات وحدها؟ فقال: قد اختلف
أصحابنا فيها بالروايات عن مالك، واختلف فيها آراؤهم، فمنهم من يقول:
شهادتهم في الجراح
(10/180)
جائزة، ولا تجوز في القتل، ومنهم من يقول:
شهادتهم جائزة في القتل والجراح، وكل رواية عن مالك، والذي آخذ به من ذلك،
وأراه حسنا، وهو أعدل عندي، ولا توفيق إلا بالله، أن تجوز شهادتهم صغارا
حيث تجوز كبارا، قيل له: فلم لا تجوز شهادة الواحد منهم، ويحلف مع شهادته
كما تجوز شهادة الكبير، ويحلف معه صاحب الحق ويستحق حقه؟ فقال: إن شهادة
الصبيان لا تجوز على العدالة، وإنما تجوز على الاضطرار إذا لم يكن معهم
كبير، ألا ترى أنهم إذا خالطوا الناس، وخيف عليهم أن يخببوا، فلا تجوز
شهادتهم؛ لأنها لم تكن على أصل عدالة، ولو كانت على أصل عدالة لم يضرهم
مخالطة الناس؛ لأن مخالطة الناس لا تزيل العدالة حيث كانت بعد ثبتها، ولا
يزيلها بعد أن تثبت إلا حدث ينقضها، قيل له: فالصبايا هل ترى أن تجوز
شهادتهن في الجراحات صغارا كما تجوز كبارا؟ قال: نعم؛ إذا كان معهن ذكر
جازت شهادتهن، فإنما يعتبر ذلك فيهن صغارا بشهادتهن كبارا، فشهادتهن في
الجراحات والقتل جائزة إذا كان ذلك خطأ؛ لأنه يصير مالا، فشهادتهن في
الأموال جائزة، فحيث تجوز شهادتهن كبارا جازت شهادتهن فيه صغارا، وهذا في
الجراحات خطأ والقتل خطأ، ولا تجوز في غير هذا، قيل له: لم لمْ تقبل شهادة
الصغار من الذكور والإناث في الحقوق كما قبلتها في الجراحات، وأنت تقول:
شهادتهن صغارا جائزة، حيث تجوز
(10/181)
شهادتهن كبارا؟ فقال: قد أخبرتك أن شهادتهن
لم تجز إلا على الاضطرار، فإذا زال الاضطرار لم تجز شهادتهن، والحقوق غير
الجراحات؛ لأن الحقوق قد يحضرها الرجال والنساء ويشهدون عليها، والجراحات
والقتل بين الصبيان لا يحضرها غيرهم؛ لأن الكبار لا يكون معهم الصبيان حيث
كانوا، ألا ترى أن الصغار إذا شهدوا على الكبار أن شهادتهم غير جائزة؛
لأنها مواضع يحضرها الكبار، فلا تجوز شهادة الصبيان فيها، وإنما تجوز شهادة
الصبيان حيث لا يحضرهم غيرهم، أولا ترى لو أن رجلا صغيرا وكبيرا شهدا على
جرح خطأ أو قتل خطأ لم تجز شهادة الصغير؛ لأن الكبير قد حضره، فليس مع
الكبير شهادة للصغير، ويقال لصاحب الحق: احلف مع شاهدك الكبير، واستحق حقك،
وإلا بطل ما ادعيت.
قال أصبغ: لا تجوز شهادة الإناث من الصبيان في الجراح فيما بينهم، وهو قول
ابن القاسم أيضا، قيل: فالعبيد الصغار، لمَ لم تجز شهادتهم في الجراحات
والقتل إذا لم يكن معهم غيرهم على الاضطرار، كما جوزت شهادة الأحرار
الصغار؟ فقال: لأن شهادتهم كبارا غير جائزة، وإذا كانوا صغارا كانت أحرى
ألا تجوز. قلت: أرأيت الصبيتين إذا شهدتا على الجراح الخطأ، هل يحلف مع
شهادتهما كما يحلف مع الكبار في الحقوق؟ فقال: لا يحلف مع شهادتهما؛ لأن
شهادتهما ليست على أصل العدالة، ألا ترى أن الغلام الصغير إذا شهد وليس معه
غيره أنه لا يحلف مع شهادته؛ لأنه ليس بعدل، فموقف الصبيتين والثلاث
والأربع، وأكثر من ذلك بموقف الصبي، ولا يكن أمثل منه حالا، ولا تجوز
شهادته، وكما لا تجوز شهادته وحده، ولا يحلف
(10/182)
الرجل معه، فكذلك لا تجوز شهادة الصبيات،
ولا يحلف معهن، وإنما جاءت الآثار عن علي بن أبي طالب أنه كان يحكم بشهادة
الصبيان فيما بينهم، والصبيان لا يكونون إلا اثنين فصاعدا، واسم الصبيان
بجمع الذكور والإناث، والإناث وإن كثرن مقامهن مقام صبي واحد، والصبي لا
يحلف مع شهادته، فكذلك ما سألت عنه، ولا تجوز شهادة الصبيان إذا حضر معهم
رجل كبير واحد، فإذا شهد الصبيان في الجراح، وشهد معهم رجل لم تجز شهادة
الصبيان؛ لأنه إنما تجوز شهادة الصبيان في الضرورة، فإذا كان رجل فقد ذهبت
الضرورة، ولا تجوز شهادة الصبي؛ لأن الحديث إنما جاء بجواز شهادة الصبيان،
والصبي لا يقال له صبيان، وسئل عن شهادة الصبيان إذا قيدت قبل أن يفترقوا
ويخببوا، فأشهد عليه العدول، ثم بلغ منهم من هو عدل رضا قبل أن يحكم بها،
فرجع عما كان شهد به؛ إذ قد كان صبيا، أتكون شهادته باطلا؟ فقال: هي شهادة
لم يحكم بها، فإذا رجع عنها بعد بلوغه سقطت، وكان في رجعته عنها كشهود عدول
شهدوا أن الذي شهد به الصبيان لم يكن، وشهادة الصبيان إنما الجرحة فيها أن
يشهد العدول أنها لم تكن؛ لأن جرحتهم، لم تكن بالأحداث ولا خلاف العدول في
حالهم؛ لأنهم لم يؤخذوا على العدل والرضا، ولم تجز شهادتهم بالعدالة،
فجرحتهم إنما هي أن يشهد العدول أن الذي شهدوا به لم يكن، ولو كانت شهادتهم
بالعدل ثبتت ومضت، وعلى ذلك. . . ما سقطت إلا بالجرحة أنهم غير عدول؛ لأن
(10/183)
الشاهد العدل الكبير لا يجرح بأن الذي شهد
به لم يكن، ولا يجرح إلا بما يكون به غير عدل فيما شهد به من الظنون
والأسفاه، قيل له: فإن سئل الذي شهد، وهو صبي عن شهادته بعد بلوغه وعدله،
وقبل الحكم بها، فشك فيها هل يضرها ذلك؟ فقال: لا يسأل عنها، ولو شك ما
ضرها ذلك؛ لأنه لا يحتاج منه فيها يوم يشك إلى شيء، ولأن الشك منه ليس
بشهادة منه على نفسه بأنه شهد بباطل، وإنما جعلت رجعته عنها كمثل شهادة
الكبير بأن الذي شهد به الصبي لم يكن، فهو حين شك لم يشهد بباطل ما كان قيد
من شهادته وهو صغير، قال: ولو كان قيدت شهادتهم على أمر، ثم شهد قبل الحكم،
وبعد البلوغ والعدل منهم اثنان، أن الذي شهدنا نحن وهم به من ذلك الأمر
باطل أسقطت شهادتهما، الشهادات كلها منها ومن غيرها؛ لأن شهادة الصبيان إذا
شهد كبير أو عدلان أنها لم تكن تسقط. قيل له: فإن كان صبيان جميعا اختلفوا،
فشهد اثنان بأن صبيا قتل صبيا، وشهد آخران ليس منهما القاتل أن دابة أصابته
جبارا؟ فقال: تمضي شهادة الصبيين اللذين شهدا على الصبي بالقتل؛ لأنهم إذا
كانوا صبيانا جميعا في حال شهادتهم كانوا كالكبار، لا يبطل ما شهد به
الكبير بأن يشهد كبير مثله أن الذي شهد به لم يكن قبل، فشهادة الصبيين
اللذين شهدا في صغرهما أنه أصابته دابة جبارا لو شهدا أيضا بعدما بلغا أن
الذي شهد به الصبيان اللذان شهدا أن صبيا قتله باطل أن دابة أصابته فقتلته،
كما كانا شهدا، وهما صبيان، فلم يؤخذ بقولهما، وأخذ بقول غيرهما، قال: لا
تكون شهادتهما اليوم جائزة؛ لأنه من شهد فلم تؤخذ شهادته في حال، ثم حدث له
حال غيرها، فشهد بما لم يكن أخذ من شهادته مثل عبد شهد، فلم يقبل فيعتق
فجاء بها لا تؤخذ منه، ومثل من شهد وهو غير عدل، فلم يقبل فحسنت حاله
(10/184)
فشهد بذلك فلا يقبل، ولا من كل من شهد لما
يحسن من حال نفسه يوم يشهد بالشهادة الآخرة، قال: ولا شهادة للصبيان في
موضع يحضره الكبار؛ لأنهم إنما جازت شهادتهم بحال الضرورة إليها.
قال محمد بن رشد: قد مضى تحصيل القول في هذه المسألة، في آخر سماع أشهب
مستوفى، فليس لإعادته معنى، وهو قول سحنون في صدر هذه المسألة، في شهادة
الصبايا أن ذلك يعتبر فيهن صغارا بشهادتهن كبارا، فشهادتهن في الجراح
والقتل جائزة، إذا كان ذلك خطأ؛ لأنه يصير مالا، فشهادتهن في الأموال
جائزة، فحيث تجوز شهادتهن كبارا، جازت شهادتهن فيه صغارا خلاف ما تقدم له
في أول سماعه، من أن شهادة النساء في جراح العمد جائزة، وحيث يكون اليمين
مع الشاهد، وقد مضى هنالك من تحصيل مذهبه في ذلك، ومذهب ابن القاسم، ما لا
معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
وقوله بعد ذلك: ولا تجوز شهادة الصبيان إذا حضر معهم رجل كبير واحد معناه
إذا كان عدلا، وكذا في الواضحة لابن الماجشون، وهو مذهب سحنون؛ لأنه متبع
له فيه في جميع وجوهه، من ذلك قوله: إن شهادة الصبيان بجرح بأن يشهد
العدول، بأنها لم تكن خلاف قول أصبغ في نوازله بعد هذا، وبالله التوفيق.
[مسألة: شهد أخوها وزوجها معه أنها كانت حلفت
في شيء بعتق لتفعلنه]
مسألة وسئل المغيرة عن المرأة تتوفى، وليس لها وارث إلا بنات، فشهد أخوها
وزوجها معه أنها كانت حلفت في شيء بعتق لتفعلنه، وأنها لم تفعله حتى ماتت،
أتجوز شهادة أخيها، وزوجها معه أو ترد لجره الولاء إلى نفسه بشهادته؟ قال:
لا تجوز شهادته، قلت: فهل يعتق عليهما حصتهما في الرقيق؟ فقال: نعم، يعتق
عليهما، قيل: فهل يقوم عليهما ما بقي؟ قال: لا، وكان مالك لا يرى أن يعتق
عليهما.
(10/185)
قال محمد بن رشد: قول المغيرة هذا مثل قول
عبد العزيز بن أبي سلمة، في آخر أول رسم من سماع ابن القاسم، خلاف مذهب ابن
القاسم، وروايته عن مالك فيه، وفي المدونة وغيرها، وقد مضى في السماع
المذكور تحصيل القول في هذه المسألة، وتوجيه الاختلاف فيها، فلا معنى
لإعادة ذلك، وبالله التوفيق.
[مسألة: شهادة الغني إذا مطل]
مسألة وسئل سحنون عن قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
«مطل الغني ظلم» أترى أن تجوز شهادة الغني إذا مطل، وقد قال رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن مطله ظلم؟ " فقال: لا أرى أن
تجوز شهادته إذا مطل؛ لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
رأى مطل الغني ظلما، فمن كان ظالما، فلا ينبغي أن تجوز شهادته.
قال الإمام القاضي: هذا بين على ما قاله من أن المعروف بالمطل من غير
ضرورة، لا ينبغي أن تجاز شهادته؛ لأن مطل الرجل بحقه إذاية له في ماله، ولا
يحل إذاية الرجل المسلم في ماله، كما لا يحل إذايته في دمه، ولا في عرضه،
قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في خطبته بعرفة: «ألا
إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في
بلدكم هذا» ، وقال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا
وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأحزاب: 58] ، وبالله التوفيق.
(10/186)
[مسألة: عبد
وحر شهدا على رجل بقتل فقتل ولم يعلم السلطان ثم تبين له بعد ذلك]
مسألة وقال في عبد وحر شهدا على رجل بقتل فقتل، ولم يعلم السلطان ثم تبين
له بعد ذلك، فقال: الذي قام بالدم فعليه الدية.
قال محمد بن رشد: قوله: إن الذي قام بالدم فعليه الدية معناه عندي، إن كان
علم أنه عبد، ولم يعلم الشاهد الحر، ولو علم الشاهد الحر أيضا؛ لوجب أن
تكون الدية عليهما، وإن لم يعلم القائم بالدم، وعلم الشاهد الحر كانت الدية
عليه، وإن لم يعلم واحد منهما كانت الدية على عاقلة الحاكم؛ لأن ذلك من
خطئه، هذا الذي يأتي في هذه المسألة على ما لمالك في كتاب الرجم من المدونة
في الإمام، يقيم الحد على المرجوم، ثم يعلم أن أحد الشهود كان عبدا، والذي
يوجبه النظر أن تكون الدية إذا لم يعلم واحد منهم على جميعهم: القائم
بالدم، والشاهد الحر، والإمام لأنهم متشاركون في قتله خطأ؛ لأن شهادته لم
ترد أولا فيستوجب الرد اليوم، ولكنها كانت جائزة.
قال محمد بن رشد: هذا خلاف ما يأتي في سماع أبي زيد من أن الحق يرد ولا
يقطع، ووجه قول سحنون أن شهادة العبد لما لم ترد أولا، لم يتهمه في
إعادتها، وقول ابن القاسم في سماع أبي زيد أظهر؛ لأن الحكم بشهادة العبد
حكم مردود، فإن أعاد العبد شهادته بعد عتقه اتهم في أن يريد إجازة شهادته
التي قد وجب ردها، ونقض الحكم الذي وقع بها، وبالله التوفيق.
[مسألة: الحدود تدرأ بالشبهات]
مسألة وعن أربعة شهدوا على رجل أنه زنى، وهو صحيح العقل، وشهد رجلان من غير
الأربعة أنه زنى في ذلك اليوم الذي شهد فيه الشهود في ذلك الموضع، أنه قد
كان ذاهب العقل، ليس معه عقله؟ قال سحنون: إن كانوا قاموا به إلى الحاكم
وهو صحيح
(10/187)
العقل، فالشهادة ماضية عليه بالحد، إذا
صححوا الشهادة بما يثبت به الحد، وقول الشاهدين ليس ذلك بالذي يزيل ما ثبت
من الحدود، وإن كان الرفع إلى الحاكم والرجل مجنون ذاهب العقل، فقد قال بعض
أصحابنا: إنه يصرف عنه الحد؛ لأن الحد لله، وليس ذلك كحقوق الناس إذا رفع
وبه الجنون.
قال محمد بن رشد: تفرقته بين أن يقام إلى الحاكم وهو صحيح، أو مجنون
استحسان على غير قياس ولا أصل، والذي يأتي على الأصول أن يصرف عنه الحد،
قاموا به إلى الحاكم، وهو صحيح أو مجنون؛ لأن الحدود تدرأ بالشبهات، وأي
شبهة أقوى من أن يشهد له شاهدان عدلان أنه كان في وقت زناه مجنونا ذاهب
العقل، وأما الحقوق، فالقياس فيها أن شهادة الصحة أعمل؛ لأنها أثبتت الحكم،
وعلمت ما جهلته البينة الأخرى على ما في سماع أبي زيد في القوم، يشهدون أن
المرأة أوصت في مرضها بكذا وكذا، وهي صحيحة العقل، ويقول آخرون: إنها كانت
موسوسة، وما لأصبغ في سماعه من كتاب العتق، وقد قيل: إنه ينظر إلى أعدل
البينتين، فإن استوتا في العدالة بطلت الوصية؛ لأن تكافؤهما يوجب سقوطهما
جميعا، وإذا سقطتا حصل الشك في صحة عقله في حين إشهاده، وعلى هذا يأتي قول
ابن القاسم في سماع أبي زيد، من كتاب الوصايا، وفي سماع أصبغ من كتاب العتق
في الذي يقول: إن مت من مرضي فغلامي فلان حر، وإن صححت منه فغلامي فلان حر
لآخر، فشهد شاهدان له أنه صح من مرضه، وشهد آخران أنه لم يصح منه، معناه
وتكافئوا في العدالة، أنه يعتق من كل واحد منهما نصفه؛ لأنه رأى الشك في
صحته من مرضه حاصلا بتكافؤ البينتين، فأعتق من كل واحد منهما نصفه؛ إذ لا
يدري من هو الذي وجب له العتق منهما، ويتخرج في المسألة قول ثالث: إن شهادة
المرض أعمل؛ لأنهم قالوا: رأينا منه اختلاطا في ذمته حين أشهدنا. وقال
الآخر: لم نر منه اختلاطا؛ فوجب أن تكون شهادة من أوجب الاختلاط أولى من
شهادة من نفاه، وبالله التوفيق.
(10/188)
[مسألة: شهادة
الذي يطأ الجارية يشتريها قبل أن يستبرئها]
مسألة وسئل سحنون عن الرجل يشتري الجارية فيطؤها قبل أن يستبرئها، أترى
تقبل شهادته؟ فقال: لا، قال: وأرى أن يؤدب مع طرح الشهادة أدبا موجعا إذا
كان عالما بمكروه ذلك، قيل له: فإن كانت صبية لم تبلغ المحيض فوطئها قبل أن
يستبرئها؟ فقال: إذا كان مثلها يوطأ، فلم يستبرئها، فسبيلها سبيل التي قد
حاضت من طرح الشهادة والعقوبة.
قال محمد بن رشد: أما سقوط شهادة الذي يطأ الجارية يشتريها قبل أن
يستبرئها، وهي ممن يحمل مثلها، ووجوب الأدب عليه إذا كان ممن لا يجهل فبين؛
لأن ذلك أمر متفق على تحريمه بوجهين؛ أحدهما: نص النبي - عَلَيْهِ
السَّلَامُ - من المنع من ذلك بقوله: «لا توطأ حامل حتى تضع، ولا حائل حتى
تحيض» ؛ والثاني: القياس على ما أوجبه الله تعالى على الحرة من عدة الطلاق
والوفاة بقوله: {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ
الْكِتَابُ أَجَلَهُ} [البقرة: 235] فنهى عن العقد لما كان سببا إلى الوطء،
فكيف بالوطء؛ لأن المعنى في ذلك في الحرة والأمة سواء، وهو ما يخشى من
اختلاط الأنساب، وأما الصبية التي لم تبلغ المحيض ومثلها يوطأ، فإن كان
الحمل مأمونا عليها، فلا تسقط شهادة من وطئها قبل أن يستبرئها؛ إذ قد قيل:
إنه لا استبراء فيها، روى ذلك علي بن زياد، عن مالك، قال: وهو الأمر عندنا،
وهو أحسن ما سمعت، ومعنى ما ذهب إليه سحنون أن التي لم تبلغ المحيض إذا كان
مثلها يوطأ، فلا يؤمن أن يكون ذلك الوقت حد بلوغها، ومحيضها، فتحمل قبل أن
تحيض، والله أعلم.
(10/189)
[مسألة: كتاب
قاض إلى قاض في الزنا]
مسألة قال سحنون: لا يثبت كتاب قاض إلى قاض في الزنا إلا بأربعة شهداء على
أنه كتابه، كما أنه لا تقبل شهادة على الزنا إلا بأربعة، فكذلك لا يثبت فيه
كتاب قاض إلا بأربعة، قلت له: من يقول هذا؟ قال: أنا أقوله من قبل أنه لا
يجوز للقاضي المكتوب إليه أن ينفذ كتاب القاضي الكاتب إليه إلا بشهادة من
يجوز على أصل الحق، ولا بينة عنده بأقل من ذلك.
قال محمد بن رشد: قول سحنون هذا يأتي على رواية مطرف عن مالك في أن الشهادة
على الشهادة في الزنا لا تجوز فيها إلا أربعة على كل واحد من الأربعة،
اجتمعوا على الشهادة على جميعهم، أو افترقوا مثل أن يشهد ثلاثة على الرؤية،
ويغيب واحد، فلا تثبت شهادته إلا بأربعة، وابن القاسم يقول: يجوز أن يشهد
على شهادته اثنان، وهو مذهب ابن الماجشون، فيأتي على قولهما أنه يجوز أن
يشهد على كتاب القاضي في الزنا شاهدان، وهو الذي يوجبه القياس والنظر؛ لأن
الشهادة قد تمت على الزنا بأربعة شهداء، فلا يحتاج إلى إثبات قول القاضي
بكتابه ينبغي أن يثبت في الزنا بما يثبت في غير الزنا؛ إذ لا فرق ببن
الموضعين فيما يلزم الشاهد في تحمل نقله؛ لأنه قول في الوجهين، وبالله
التوفيق.
[مسألة: الفقيه يخرج إلى الصيد منتزها هل يجرح
مثل هذا شهادته]
مسألة قال سحنون: وسألته عن الرجل الفقيه الفاضل الصالح يخرج إلى الصيد
منتزها، هل يجرح مثل هذا شهادته؟ فقال: لا.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن ذلك ليس بحرام، إنما هو مكروه، فتركه
أحسن، ومن أهل العلم من أجازه ولم ير فيه كراهة، وبالله التوفيق.
(10/190)
[مسألة:
يتداعيان في الشيء لا يعرفانه فقالا جميعا قد رضينا بشهادة فلان]
مسألة قال في رجلين يتداعيان في الشيء لا يعرفانه، فقالا جميعا: قد رضينا
بشهادة فلان، قال سحنون: يلزمهما ما شهد به فلان عليهما.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول فيها مستوفى في رسم الشجرة، من
سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته.
[مسألة: شهادة من ثبت عليه حد من الحدود]
مسألة وسئل سحنون عن المحدودين في القذف أو الزنا هل تجوز شهادتهما في
القذف والزنا؟ والمحدود في شرب الخمر والسرقة هل تجوز شهادته في شرب الخمر
والسرقة إن تابوا؟ قال: لا تجوز شهادة من ثبت عليه حد من الحدود، كائن ما
كان وأقيم عليه في مثله الحد، وهو يجري مجرى شهادة ولد الزنا أنه لا تجوز،
وهو كان أبعد في الغيرة، وإنما ترد فيه بالتهمة أن يكون الناس له أسوة،
وقاله أصبغ، قلت: فرجل جنى على رجل جناية فاقتص لتلك الجناية، هل تجوز
شهادته في مثل الجرح الذي اقتص به منه؟ قال: لا.
قال محمد بن رشد: قول سحنون: إنه لا تجوز شهادة أحد فيما حد فيه من الحدود،
وإن تاب هو أحد قولي مالك، روى عنه مطرف وابن الماجشون أنها لا تجوز، وروى
عنه ابن نافع وابن عبد الحكم أنها جائزة، وهو قول ابن كنانة وظاهر ما في
الديات من المدونة، ومذهب الشافعي وأبي حنيفة وأصحابهما، واختلف في ذلك
أيضا قول أصبغ، فله في الواضحة مثل قول سحنون، ورواية مطرف، وابن الماجشون،
وفي الثمانية مثل قول ابن كنانة، ورواية ابن نافع وابن عبد الحكم، وشهادة
ولد الزنا في الزنا، وفي
(10/191)
نفي الرجل عن أبيه جارية على هذا الاختلاف،
والمشهور من قول ابن القاسم أنها لا تجوز، فهو قوله في سماع أبي زيد من هذا
الكتاب، وفي سماع عيسى، من كتاب الحدود، وظاهر ما في الديات من المدونة
أنها جائزة، واختلف إذا شهد أربعة على الزنا أحدهم ولد زنا، فقيل: إنهم
يحدون كما لو كان أحدهم عبدا، وهو قول أصبغ ومذهب ابن القاسم في المدونة؛
لأنه قال فيها إذا شهد على المرأة أربعة شهود بالزنا؛ أحدهم زوجها جلد
الثلاثة، ولاعن الزوج، ولا فرق بين المسألتين، وقيل: إنهم لا يحدون بخلاف
إذا كان أحدهم عبدا، وهو قول ابن أبي حازم في المبسوطة واستحسان ابن القاسم
فيها، وأما إن لم يعثر على أنه زوجها، أو على أنه ولد زنا حتى أقيم الحد،
فيدرأ الحد عن الثلاثة، ويحد ولد الزنا والزوج إلا أن يلاعن، واختلف هل
يرثها إن كانت رجمت؟ فقال ابن القاسم: إنه يرثها إلا أن يعلم أنه تعمد
الزور، أو يقر بذلك على نفسه له قتلها. قال غيره: لأن الله فرض له الميراث،
فلا يمنع منه بظن، وقال أصبغ: لا يرثها؛ لأن عليه اللعان وهو يجرحه من أن
يكون شاهدا، وأرى فيه تهمة العامد لقتل وارثه، والسنة ألا يرث عامد من دية
من قتل شيئا، ولا من ماله، وهذا الاختلاف يدخل بالمعنى في إجازة شهادة الأب
على ابنه الموسر بقتل عمدا أو زنا، وهو محصن، وقد مضى القول على ذلك في أول
سماع سحنون. وأما قول سحنون في أن شهادة الرجل لا تجوز في جرح اقتص منه في
مثله، فهو شذوذ أغرق فيه في القياس، وبالله التوفيق.
[مسألة: شهادة الصبيان في القتل]
من سماع محمد بن خالد من ابن القاسم
قال محمد بن خالد: سمعت ابن القاسم يقول: إن شهادة الصبيان تجوز في القتل
كما تجوز في الجراحات.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول فيها مستوفى في آخر سماع أشهب،
فلا معنى لإعادته، وإنما تجوز شهادتهم في القتل إذا
(10/192)
شهد العدول على رؤية البدن مقتولا، روى ذلك
ابن القاسم عن مالك، وقاله غير واحد من أصحابه، ولا يدخل في هذا عندي
الاختلاف الذي ذكرناه في رسم أوصى، من سماع عيسى، في شهادة المرأتين في
الاستهلال وقتل الخطأ لضعف شهادة الصبيان، وبالله التوفيق.
[مسألة: شهدا لرجل بمائة دينارأحدهما أنها له
من بيع باعه إياه والآخر من سلف]
مسألة قال ابن القاسم في رجل توفي وترك ولدا صغيرا وورثة معه، فقام لولده
الصغير شاهدان على غلام من غلمان أبيه، فقال أحدهما: إن أباه تصدق عليه به
في حياته، وشهد آخر أنه نحله إياه في صحة منه، إن كان الغلام قد بلغ الحلم
حلف مع شاهده على الصدقة ثم يستحقها، وإن كان صغيرا لم يبلغ، وخيف على
الغلام بيع ووقف المال حتى يبلغ الحلم، فإن حلف استحق ثمنه، وإن نكل عن
اليمين كان ميراثا، قال: فكلمت ابن القاسم في ذلك وقلت له: إنهما قد اجتمعا
له، وإن كان قد اختلفا في بعض الشهادة على قطع الحق، فقال: لا أرى أن تثبت
له الصدقة إلا بيمين، وقال: أرأيت لو أن شهيدين شهدا لرجل بمائة دينار،
فشهد أحدهما أنها له من بيع باعه إياه، وشهد الآخر أنها له قبله من سلف
أسلفها إياه؟ قال ابن الماجشون: الشهادة تامة، وذلك أنهما قد اجتمعا على
إخراجها من يديه بغير شيء يجب على المدعي.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد تقدمت في سماع سحنون،
(10/193)
ووقعت أيضا في رسم الدور والمزارع من سماع
يحيى دون جواب، ومضى القول عليها مستوفى في رسم العرية، من سماع عيسى، لما
اقتضاه من القول فيها، فذلك يغني عن إعادته، وإنما يكون له على قول ابن
الماجشون أخذ المائة دون يمين، إذا ادعى ما قاله أحدهما، وأما إن ادعى
المائتين جميعا، فقد أكذبهما إذا قالا: إنها شهادة واحدة، وقد مضى القول
على هذا مستوفى في نوازل سحنون، وبالله التوفيق.
[مسألة: شهادة الغائب الواحد]
مسألة قال محمد بن خالد: سمعت ابن القاسم يقول: شهادة الغائب الواحد مقبولة
إذا كان عدلا.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول في هذه المسألة، في أول نوازل سحنون، فلا
وجه لإعادته، وبالله التوفيق.
[: شهد كل واحد منهما لصاحبه أن الميت أوصى له]
نوازل سئل عنها أصبغ بن الفرج قال: سئل أصبغ عن رجلين شهدا على وصية، فشهد
أحدهما: أن الميت أوصى لصاحبه بوصية مال بكذا وكذا، وشهد الموصى له أيضا أن
الميت أوصى للشاهد بوصية مال أيضا، فشهد كل واحد منهما لصاحبه أن الميت
أوصى له، قال: إن كانا شهدا على كتاب واحد، وفيه هذه الوصايا لهما جميعا،
فشهادتهما باطلة؛ لأن كل واحد منهما شهد لنفسه ولغيره، والوصية لها بال؛
لأنهما يشهدان على جميع ما في الكتاب ويثبتان الوصية بشهادتهما، وفيها وصية
لكل واحد منهما لها بال وقدر، فهما متهمان في شهادتهما، فشهادتهما ساقطة في
جميع الوصية يسقط ما كان فيها من وصاياهما وغير وصاياهما، قال: وأما لو
شهدا على غير
(10/194)
كتاب ولا وصية مكتوبة فيها هذه الوصايا،
ولكن أتى هذا فشهد أن الميت أوصى لفلان بكذا وكذا، ثم قام المشهود له
بالوصية، فشهد عند ذلك القاضي أن الميت أوصى لفلان الذي شهد له بالوصية
بكذا وكذا، رأيت شهادتهما جائزة، شهادة كل واحد منهما لصاحبه لا تهمة على
واحد منهما فيها؛ لأنهما لم يشهدا على كتاب تجتمع فيه الوصايا، فيتهمان بأن
يثبتا وصاياهما ووصايا غيرهما، وإنما شهد كل واحد منهما منفردا بالشهادة
لغيره ليس لنفسه فيها شيء، فأرى أن يحلف كل واحد منهما مع صاحبه الذي شهد
له، ويستحق حقه ووصيته.
قال محمد بن رشد: أما إذا شهد كل واحد من الشاهدين لصاحبه أن الميت أوصى له
بوصية لها قدر وبال، والوصية لهما بكتاب واحد، فما قاله من أن شهادتهما
باطلة لا تجوز وتسقط لهما ولغيرهما هو المشهور في المذهب، وقد قيل: إن
شهادتهما تجوز لغيرهما، وهو الذي يأتي على قياس قول أصبغ بعد هذا في هذه
النوازل في العبدين، يشهدان بعد عتقهما أن الذي أعتقهما غصبهما من رجل مع
مائة دينار إن شهادتهما تجوز في المائة، ولا تجوز في غصب رقابهما؛ لأنهما
يتهمان أن يريدا إرقاق أنفسهما، وقد مضى تحصيل القول في هذه المسألة، في
رسم الأقضية الثاني من سماع أشهب.
وأما إذا شهد كل واحد منهما لصاحبه أن الميت أوصى له بكذا وكذا بغير كتاب،
أو كانت وصية كل واحد منهما في كتاب على حدة، ففي ذلك ثلاثة أقوال؛ أحدها:
أن شهادة كل واحد منهما لصاحبه جائزة، يحلف معه، ويستحق وصيته، وإن كانت
شهادة كل واحد منهما لصاحبه في مجلس واحد، وهو ظاهر قول أصبغ هذا، وظاهر
قول سحنون في نوازله. والثاني: أنها لا تجوز وإن كانت في مجالس شتى، وهو
أحد قولي سحنون حكاه ابنه عنه. والثالث: الفرق بين أن تكون شهادتهما في
(10/195)
مجلسين، أو في مجلس واحد، وهو قول مطرف
وابن الماجشون، وقد مضى هذا في نوازل سحنون، وبالله التوفيق.
[مسألة: هلك وترك ابنته وأخوين له فأسلم
الأخوان ميراثهما لابنته]
مسألة وسئل أصبغ عن رجل هلك وترك ابنته وأخوين له، فأسلم الأخوان ميراثهما
لابنته، وخرجا عنه إليها في مرض أبيها، وقبل موته، وبعد أن حجب ماله عنه،
وذلك أن الابنة طلبت ذلك إليهما وسألتهما أن يسلما إليها مالهما في ميراث
أبيها ففعلا ذلك بها وأسلما ذلك إليها كل ما تصير إليهما من ميراث أخيهما،
فلما مات الأب وجدت الابنة ذكر حق لأبيها على رجل بشهادة الأخوين اللذين
أسلما الميراث إليها.
هل تجوز شهادتهما لها، وقد كان هذا الذكر الحق مما خرجا منه إليها مع ما
بقي من ميراثه؟ قال: نعم، شهادتهما جائزة لا تهمة عليهما فيها؛ لأنهما لا
يجران إلى أنفسهما بذلك شيئا؛ لأنهما قد خرجا من جميع ذلك، وذلك قبل أن
يصير إليهما بالملك التام؛ لأنه إنما كان محجوبا عن ماله لهما إن مات ليس
أنهما أولى بماله منه، ولو كان المال وجب لهما وجوب ملك كما يملك الرجل
ماله، ثم وهباه لرجل لم يكن لهما فيه شهادة.
قال الإمام القاضي: هذه مسألة قد مضى معناها في رسم العتق، من سماع عيسى،
والكلام عليها مستوفى، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: شهد لامرأة بشهادة وأثبتها القاضي ولم
يحكم بها حتى تزوج الشاهد تلك المرأة]
مسألة وسألته عن رجل شهد لامرأة بشهادة، وأثبتها القاضي، ولم يحكم بها حتى
تزوج الشاهد تلك المرأة، أترى أن يحكم القاضي بها؟ قال أصبغ: نعم، وليس هذا
مثل الذي يوصي لرجل بوصية
(10/196)
وليس هو وارثه، ثم يكون وارثه بعد ذلك، فلا
تجوز تلك الوصية. . . على هذا فرق بين ذلك أن الشاهد إنما كانت ترد شهادته
بالظنة، والظنة هاهنا إنما حدثت بعد الشهادة، ألا ترى لو أن رجلا شهد على
رجل بشهادة، ولم يقض بها حتى كانت بينه وبين المشهود عليه خصومة ودعوى لم
يبطل ذلك شهادته، وجازت عليه إذا كان قد شهد بها قبل الخصومة والظنة
والتهمة، وإن كانت لم تنفذ فهي الآن تنفذ، ولا ترد لما ذكرت إن شاء الله.
قال محمد بن رشد: شهادة الشاهد تسقط بوجهين؛ أحدهما: التهمة في الشهادة
بالعداوة وبالظنة؛ لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا تجوز شهادة خصم
ولا ظنين، ولا جار إلى نفسه» . والثاني: الجرحة في الدين؛ لقول الله عز
وجل: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] .
فإذا شهد الرجل بشهادة وهو مجرح في دينه، أو متهم في شهادته؛ لم تجز
شهادته، وأما إن شهد بشهادة وهو عدل غير متهم في ظاهر أمره، فقبلت شهادته،
ثم حدث بعد قبولها، وقبل الحكم بها ما لو علم قبل قبولها لم يقبل، ففي ذلك
تفصيل، أما التهمة بالعداوة تحدث، والظنة تقع، فلا يؤثر ذلك في إجازة
الشهادة إلا أن يعلم لذلك سبب قبل أدائها مثل أن يشهد الرجل للمرأة، ثم
يتزوجها، فيشهد عليه أنه كان يخطبها قبل أن يشهد لها وما أشبه ذلك، فإن
شهادته تبطل بدليل قول ابن القاسم في سماع حسين بن عاصم في الرجل يشهد على
الرجل أنه حلف بطلاق امرأته البتة إن تزوجها قبل أن يتزوجها، فأتى
(10/197)
المشهود عليه ببينة تشهد له أن الشاهد كان
يخطب هذه المرأة قبل أن يتزوجها، هو أن شهادته تبطل، ولأصبغ في ثمانية أبي
زيد أن الشاهد إذا خاصم المشهود عليه بعد الشهادة لم تبطل شهادته، إلا أن
يقر أن الذي يطالبه به من ذلك كان قبل إيقاع الشهادة، وأما الجرحة بالأحداث
يظهر منه مثل أن يقتل، أو يجرح، أو يزني، أو يسرق، أو يشرب خمرا، أو يقذف
حرا، وما أشبه ذلك؛ ففيه اختلاف، قيل: إن ذلك كله يبطل الشهادة، وهو قول
مطرف وأصبغ، وروايته عن ابن القاسم، وقيل: إنه ما كان من ذلك يستسر به
كالزنا والسرقة والشرب وما أشبه ذلك؛ بطلت به الشهادة؛ إذ لا يؤمن أن يكون
قديما قبلها، وما كان منه لا يستسر به، ويعلم أنه كان خلوا منه يوم شهد
كالقتل والجراح والقذف وما أشبه ذلك، لم تبطل به الشهادة كما لا تبطل
بالخصومة والتزويج، وهو قول ابن الماجشون، وظاهر قول أصبغ هذا أن مجرد
الخصومة في القليل والكثير توجب العداوة بين المتخاصمين، وتسقط شهادة
أحدهما على صاحبه، وهو ظاهر ما في أول سماع أشهب أيضا، وفي ذلك اختلاف قد
مضى تحصيله هناك، وبالله التوفيق.
[مسألة: شهد أن هذه الدار لأبيه مات وأوصى بها
لفلان]
مسألة وسئل عن رجل شهد أن هذه الدار لأبيه، مات وأوصى بها لفلان، والدار في
يد رجل ينكر ذلك، أترى أن تجوز شهادته، والدار تخرج من الثلث؟ قال أصبغ:
لا، أرى أن تجوز شهادته مخافة أن يطرأ على أبيه دين، فيرجع في الدار، فيكون
قد انتفع بذلك، ولقد كان وقع في قلبي منها شيء ثم تبين لي بعد ذلك أنه لا
تجوز شهادته في هذا.
قال الإمام القاضي: هذا بين على ما قاله؛ لأن الموصى له إنما يأخذ وصيته
على ملك الميت الموصي إن قبلها، وإن لم يقبل كانت لجميع الورثة، فهو
بشهادته جار إلى نفسه، وبالله التوفيق.
(10/198)
[مسألة: يقول
الرجل في تعديل الرجل هو عدل]
مسألة قال أصبغ: لا أحب أن يقول الرجل في تعديل الرجل: هو عدل، وليقل: أراه
عدلا.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول على هذه المسألة في أول نوازل سحنون، فلا
معنى لإعادته.
[مسألة: شهد عند القاضي بشهادة لرجل على رجل]
مسألة وسئل عن رجل شهد عند القاضي بشهادة لرجل على رجل، والمشهود عليه قائم
يسمع، فلما فرغ من شهادته تحول إلى المشهود عليه فقال له والقاضي يسمع: إنك
تشتمني وتشبهني بالمجانين، وتهددني، وما أشبه ذلك من الكلام، ألا ترى أن
يطرح القاضي بهذا الكلام شهادته عنه؟ فقال: لا أرى أن يطرح شهادته عنه بهذا
الكلام وما أشبهه، إلا أن يثبت بينهما عداوة قديمة بينة، فتطرح شهادته
عليه، وأما مثل هذا الكلام فما أراه شيئا.
قال محمد بن رشد: لأصبغ في الثمانية أن قوله هذا إن كان على وجه الشكوى
والاستنهاء من الأذى، ولم يكن على وجه مطلب خصومة، ولا سمى السمة، فلا أراه
شيئا، وإن سمى السمة، وهي مما إن قام بها كان في مثلها خصومة ومطالبة، أو
كان ذلك منه على وجه الطلب له بالخصومة، وإن لم يسم السمة ساعته، فأرى
شهادته ساقطة، وهو مفسر لقوله هاهنا، ولابن الماجشون في الثمانية أن شهادته
تبطل بهذا القول، ولا تجوز؛ لأنه قد أخبر أنه عدوه، فكيف تجوز شهادته عليه؟
قال: فلو قال ما هو أدنى من
(10/199)
هذا؛ لكان فيه طرح شهادته، وقول ابن
الماجشون أظهر وأولى بالصواب، والله أعلم.
[مسألة: ليس لحر أن يرق نفسه]
مسألة وعن رجل هلك ولم يترك وارثا غير ابن عم له فيما يرى الناس، فأعتق ابن
العم غلامين مما ورث عن الهالك، فشهدا بعد عتقهما أن سيدهما أشهدهما في
حياته أن جاريته فلانة حامل منه، ثم ولدت الجارية، قال أصبغ: لا شهادة
لهما؛ لأن شهادتهما ترقهما، وليس لحر أن يرق نفسه، وليس هذا من الشهادة
التي يقال لا يتهمان فيها فتجوز، ولا من الأشياء التي يؤخذ فيها بإقرارهما
بالعبدية.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله، إلا أن في إجازة شهادتهما إبطال
عتقهما، وفي إبطال عتقهما رد شهادتهما، فإذا كانت الإجازة توجب الرد، وجب
أن تكون مردودة، وبالله التوفيق.
[مسألة: اشتريا من رجل عبدا ثم ادعى أحدهما أن
البائع كان أعتقه]
مسألة وقال أصبغ في رجلين اشتريا من رجل عبدا، ثم ادعى أحدهما: أن البائع
كان أعتقه، قال: لا تجوز شهادته على البائع، وأرى أن يعتق عليه نصابه منه
بشهادته، ثم أرى أن يقوم عليه ما بقي من العبد؛ لأني أتخوف أن يكون إنما
أقر بهذا احتيالا؛ لئلا يقوم عليه ما بقي من العبد، قال: والولاء للمشهود
عليه أنه كان أعتقه.
(10/200)
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم وروايته
عن مالك في المدونة وغيرها: أن الشاهد لا يعتق عليه نصيبه للضرر الداخل على
أشراكه، وعبد العزيز بن أبي سلمة يقولان: إنه يعتق عليه نصيبه، ولا يقوم
عليه نصيب شريكه، وقول أصبغ هذا قول ثالث في المسألة، وقد مضى ذكر هذا في
آخر أول رسم من سماع ابن القاسم، وبالله التوفيق.
[مسألة: بينة شهدت على رجل أنه زنى بمصر وأخرى
بالعراق]
مسألة وسئل أصبغ عن بينة شهدت على رجل أنه زنى بمصر في المحرم يوم عاشوراء،
وشهدت بينة أخرى أنه كان يومئذ بالعراق، قال أصبغ: هذا حد قد ثبت لا تزيله
هذه البينة التي شهدت أنه كان بالعراق؛ لأنها لم تشهد على فعل آخر، إنما
شهدت أن الذي قالت البينة الأولى لم يكن، فذلك غير مقبول، قيل له: فلو شهدت
بينة أنه زنى بمصر يوم عاشوراء، وشهدت بينة أنه سرق ذلك اليوم بالعراق،
أتوجب عليه الحدين جميعا؟ قال: لا، بل تطرح كلتا الشهادتين؛ لأنهم شهدوا
على أمر مختلف وفعلين لا يمكنان جميعا، فإن قلنا: إن إحدى البينتين قد شهدت
بحق، فإنا لا ندري أيهما هي، فسقطت الشهادة بالشك، قيل: وكذلك لو قالت هذه
البينة: إنه زنى بمصر يوم عاشوراء، وقالت الأخرى: إنه قتل إنسانا بالعراق؟
قال: أطرحهما جميعا، قلت: فشهدت إحدى البينتين أنه زنى بمصر يوم عاشوراء،
وشهدت بينة أخرى أنه زنى ذلك اليوم بعينه بالعراق، أتطرح هذه أيضا؟ قال:
لا، بل أثبت عليه حدا واحدا؛ لأن كلتا البينتين إنما شهدت بالزنى، فحد
الزنى حد واحد؛ لأني أعلم أن إحدى البينتين صادقة، فقد وجب عليه الحد إما
بهذه وإما بهذه؛ فلا بد من إقامة الحد عليه بأحد الزنائين، قال: وكذلك لو
شهدت أيضا بينة أنه قتل فلانا بمصر، وشهدت أخرى أنه قتل
(10/201)
فلانا بالعراق، وقام أولياء المقتولين
جميعا قتلته بهما؛ لأن إحدى البينتين صادقة.
قال محمد بن رشد: تفرقة أصبغ هذه في اختلاف البينتين، إذا شهدت إحداهما على
رجل أنه زنى بمصر في المحرم يوم عاشوراء، بين أن تقول البينة الأخرى: إنه
كان ذلك اليوم بالعراق، أو إنه سرق أو قتل ذلك اليوم بالعراق، أو. . . إنه
زنى ذلك اليوم بالعراق، أيضا فإن قالت: إنه كان بالعراق، وإنه زنى بالعراق؛
أقيم عليه حد الزنى، وإن قالت: إنه زنى أو قتل بالعراق، سقط عنه الحدان
جميعا، هو على قياس المشهور من مذهب ابن القاسم في أن البينتين إذا اختلفتا
بالزيادة كانت التي زادت أعمل، وإن اختلفتا في الأنواع سقطتا جميعا، إلا أن
تكون إحداهما أعدل من الأخرى، فيقضى بالأعدل، وقد قال ابن القاسم: إن
البينتين إذا اختلفتا بالزيادة سقطتا، إلا أن تكون إحداهما أعدل؛ فيقضى
بالأعدل كاختلافهما في الأنواع، فيلزم على قياس هذا إذا قالت إحدى
البينتين: إنه زنى بمصر في المحرم يوم عاشوراء، وقالت البينة الأخرى: إنه
كان ذلك اليوم بالعراق، أو إنه زنى ذلك اليوم بالعراق؛ أن تسقط البينتان
جميعا، إلا أن تكون إحداهما أعدل من الأخرى، فيقضى بها، كما لو قالت: إنه
سرق ذلك اليوم بالعراق أو قتل، وهو الذي يوجبه القياس والنظر؛ لأن كل بينة
منهما مكذبة لصاحبتها في الوجوه كلها؛ إذ لا يمكن أن يكونا جميعا صادقين،
فإذا لم يمكن ذلك وجب أن يسقطا جميعا، إلا أن تكون إحداهما أعدل من الأخرى،
فيقضى بالأعدل؛ لأن الظن يغلب أنها هي الصادقة، وقول أصبغ: إنه يقام عليه
حد الزنى إذا قالت إحدى البينتين: إنه زنى بمصر في المحرم يوم عاشوراء،
وقالت البينة الأخرى: إنه زنى في ذلك اليوم بالعراق، وإنه يقتل إذا قالت
إحدى البينتين: إنه قتل فلانا بمصر في المحرم يوم عاشوراء، وقالت البينة
الأخرى: إنه قتل فلانا لرجل آخر ذلك اليوم بالعراق، وقام أولياء القتيلين
جميعا بعيد، لا سيما في الزنى؛ لما جاء من أن الحدود تدرأ بالشبهات.
وتعليله لإقامة الحد والقتل عليه بما قال
(10/202)
من أنه يعلم أن إحدى البينتين صادقة غير
صحيح؛ لأنه إذا علم أن إحداهما كاذبة، واحتمل أن تكون كل واحدة منهما هي
الكاذبة، احتمل أن تكونا جميعا كاذبتين، وإذا احتمل أن تكونا جميعا
كاذبتين، وأن تكون إحداهما صادقة، والثانية كاذبة، لم يصح أن يحكم بأن
إحداهما صادقة إلا أن تكون هي أعدل، فيغلب على الظن صدقها، وإلى هذا نحا
محمد بن عبد الحكم على ما قد ذكرناه عنه، في نوازل سحنون، ويأتي على قياس
قول مطرف وابن الماجشون عن مالك في أن البينتين إذا شهدت إحداهما، بخلاف ما
شهدت به البينة الأخرى، واستوتا في العدالة أنه يقضي بما شهدتا به جميعا،
أنه يحد حد الزنى، ويقطع في السرقة إذا شهدت إحدى البينتين أنه زنى بمصر
يوم عاشوراء، وقالت البينة الأخرى: إنه سرق في ذلك اليوم بالعراق، وهو بعيد
جدا، والله الموفق.
[مسألة: صبيين شهدا على صبي أنه قتل هذا الصبي
الساعة وشهد رجلان أنه لم يقتله]
مسألة وسئل أصبغ عن صبيين شهدا على صبي أنه قتل هذا الصبي الساعة، وشهد
رجلان أنه لم يقتله، وأنهما كانا حاضرين حتى سقط الصبي فمات، وأن الصبي
الذي شهد عليه الصبيان لم يضربه ولم يقتله، قال أصبغ: أرى شهادة الصبيين
تامة، ولا يلتفت إلى شهادة الكبيرين، وإنما ذلك عندي بمنزلة أن لو شهد
كبيران أنه قتله، وشهد كبيران آخران أنه لم يقتله على نحو مسألتك، فشهادة
من شهد بالقتل أولى، قيل له: أو لا ينظر إلى العدالة في هذا؟ قال: اعلم أن
الدماء والجراح والعتاق والطلاق والحدود، كلها لا ينظر فيها إلى العدالة
بعد أن يكون من شهد عليه عدلا مرضيا في شهادته، فهي أولى من شهادة من تعرض
لها بالرد، وإن كانوا أعدل.
قال محمد بن رشد: قول أصبغ هذا إغراق في القياس على أصل
(10/203)
غير مسلم الصحة، فقد ذكرنا في المسألة التي
قبل هذه، أن الذي يوجبه القياس والنظر أن ينظر إلى أعدل البينتين إذا
اختلفتا، وإن كانت الواحدة موجبة والثانية نافية، فكيف إذا كانت إحداهما
صبيانا، فقول سحنون في نوازله: إن شهادة الصبيان تسقط بتكذيب الكبار لهم،
هو أولى بالصواب، والله أعلم.
[مسألة: شهد على شهادة أبيه]
مسألة وسئل عمن شهد على شهادة أبيه وأبوه عدل مرضي مشهور العدالة، لا يحتاج
إلى تزكية، فيأتي الابن فيشهد على شهادة أبيه، قال: لا تجوز شهادة الابن
على شهادة أبيه، ولا شهادة الأب على شهادة ابنه، انظر أبدا كل من لا يجوز
لك أن تعدله، فلا يجوز لك أن تشهد على شهادته، وإن كان المشهود على شهادته
عدلا.
قال محمد بن رشد: قول أصبغ هذا: إنه لا تجوز شهادة أحدهما على شهادة صاحبه،
بخلاف ما مضى لسحنون في نوازله من إجازة شهادة الابن على قضاء أبيه؛ لأنه
إذا جاز أن يشهد الابن على ما قضى به أبوه، والأب لو شهد في ذلك، لم تجز
شهادته، كان أحرى أن تجوز شهادته على شهادة أبيه؛ إذ لو شهد الأب في ذلك
لقبلت شهادته، وقد مضى في نوازل سحنون من كتاب الأقضية تحصيل القول في
هاتين المسألتين، وفيما هو في معناهما من شهادة كل واحد منهما عند صاحبه
ومعه، فلا معنى لإعادته.
[مسألة: أعتق عبدين ثم إن العبدين شهدا أن هذا
المعتق غصبهما من هذا الرجل]
مسألة وسمعته سئل عن رجل أعتق عبدين، ثم إن العبدين شهدا أن هذا المعتق
غصبهما من هذا الرجل، وغصب معهما مائة دينار، قال: لا يرجعان في الرق للذي
شهدا أن هذا المعتق غصبهما منه بشهادتهما؛ لأنه لا يجوز لحر أن يرق نفسه،
وتجوز شهادتهما في
(10/204)
المائة التي يزعمان أنه غصبها معهما، قلت:
وكيف يجوز بعض الشهادة ويبطل بعض؟ قال: هو بمنزلة امرأتين شهدتا في وصية
رجل بوصايا وعتق، فأجيز شهادتهما في الوصية، وأبطلها في العتق.
قال الإمام القاضي: لسحنون في كتاب ابنه أنه لا تجوز شهادتهما في المائة
ولا لأنفسهما، وهو الأظهر؛ لأن شهادتهما على غصب المعتق لهما إنما لم تجز
من أجل أنهما يتهمان على أنهما أرادا إرقاق أنفسهما، والشهادة إذا رد
بعضهما للتهمة ردت كلها بخلاف إذا رد بعضها للسنة، فساوى أصبغ في هذا بين
أن يرد بعضها للتهمة، أو للسنة في أنه يجوز من الشهادة التي فيها التهمة ما
لا تهمة فيه، كما يجوز من الشهادة التي فيها ما لا يجوز في السنة ما يجوز
فيها، وقد قيل: إن الشهادة إذا رد بعضها للسنة ردت كلها، فالمشهور إذا رد
بعض الشهادة للتهمة أن ترد كلها، وقد قيل: إنه يرد منها ما لا تهمة فيه،
وهو قول أصبغ هذا، والمشهور إذا رد بعض الشهادة للسنة أن يجوز منها ما
أجازته السنة، وقد قيل: إنها ترد كلها، وذلك قائم من المدونة، من قوله في
شهادة النساء للوصي: إن الميت أوصى إليه أن شهادتهن لا تجوز إن كان فيها
عتق وأبضاع النساء، وكذلك المشهور في المذهب أيضا أن الشهادة إذا رد بعضها
لانفراد الشاهد بها دون غيره؛ أنها تجوز فيما تصح فيه شهادة الشاهد الواحد،
وتبطل فيما لا يصح إلا بشهادة شاهدين، مثال ذلك: أن يشهد الرجل على وصية
رجل وفيها عتق ووصايا لقوم، فإن الموصى لهم بالمال يحلفون مع شهادة الشاهد،
وتكون وصاياهم فيما بعد قيمة المعتق، وقد قيل: إن الشهادة كلها مردودة، حكى
ذلك السدي عن أشهب وجميع جلسائه، وأما إذا لم يأت الشاهد بالشهادة على
وجهها، وسقط عن حفظ بعضها؛ فإنها تسقط كلها بإجماع، وبالله التوفيق.
[مسألة: شهد لابنه ولأجنبي بحق على رجل فدفع
الغريم الحق حين شهد الأب]
مسألة وسئل عن رجل شهد لابنه ولأجنبي بحق على رجل، فدفع
(10/205)
الغريم الحق حين شهد الأب، وظن أن ذلك
يلزمه، أو دفع إلى الأجنبي حصته، وحكم عليه بذلك، فلما اقتسماه هو والابن،
وبان به الأجنبي، طلب الغريم نقض ذلك، وتكلم في شهادة الأب، قال أصبغ: ذلك
له، يرد ذلك الحكم؛ لأنه حكم خطأ وخلاف السنة وظلم؛ لأن شهادته لابنه
كشهادته لنفسه، وشهادته للأجنبي كشهادته لابنه؛ لأن أمرهما واحد، لا يكون
للأجنبي شيء إلا كان لابنه فيه نصيب، فهو مردود كله، وهذا إنما قلنا إذا
سقط بعض الشهادة سقطت كلها، فإذا نقض، فإن كان مع الأب شاهد غيره حلف مع
شهادته واستحقا، وإلا فلا، قلت: فإن كان الغريم دفع من غير قاض ولا سلطان
حكم عليه، ولكنه دفع من قبل نفسه، وقال: ظننت أن شهادة الأب جائزة، إذا شهد
لأجنبي مع ابنه فدفعت إليه، ولم أرد أن ألجئهم إلى السلطان، ثم أخبرت أن
شهادة الأب لا تجوز، فأنا أريد الرجوع.
قال: ليس له رجوع، ولا كلام في هذا، وأراه بمنزلة الذي ينفق على المطلقة
قبل أن يستبين بها حمل، أو يقول: ظننت أنه كان يلزمني، فليس له رجوع عليها
إن انفش حملها، وقبل أن ينفش لما قد تقدم، وإنما له لما يستقبل، فأما إذا
دفع ومضى، فليس له فيه رجوع، قلت: وكذلك إن شهد شاهد لرجل بحق على رجل،
فدفع إليه بغير يمين، ثم أتى بعد ذلك يتعقبه بيمين وقال: لم أظن أن لي عليه
يمينا، فأنا أريد أن أستحلفه أيكون ذلك له؟ فإن لم يحلف رد ما أخذ أو كيف؟
فقال لي: هذا أبعد وأبعد، لا يكون له قول ولا رجوع.
قال محمد بن رشد: إنما لم يكن له رجوع إذا دفع بشهادة الأب؛ لأنه حمل عليه
أنه علم أن ذلك لا يلزمه، ولم يصدقه فيما ادعى من أن ظن أن ذلك يلزمه، وقد
قيل: إنه يصدق في ذلك إذا كان ممن يشبه أن يجهل مثل هذا، وهذا الذي يأتي
على ما في كتاب الصلح، في الذي يصالح عن
(10/206)
دم الخطأ، وهو يظن أن الدية تلزمه، وفي
كتاب الشفعة في الذي يثيب على الصدقة، وهو يظن أن الثواب يلزمه، وكذلك
اليمين إذا تطوع بتركها، فليس له فيها رجوع؛ لأنه لا يصدق فيما ادعى من أنه
ظن أنه لم يكن عليه يمين، ويدخل في ذلك من الاختلاف ما دخل في الذي دفع
بشهادة الأب، ولو حكم عليه بالدفع بشهادة الأب؛ لوجب أن يرجع بماله؛ لأنه
حكم خطأ يجب فسخه، وكذلك لو حكم عليه بالدفع بالشاهد الواحد دون يمين؛ لكان
من حقه أن يستحلفه، فإن نكل عن اليمين حلف واسترجع ماله، ولا خلاف في ذلك
أعلمه.
وأما الذي ينفق على المطلقة قبل أن يستبين حملها، ثم يتبين أنه لم يكن بها
حمل، فقد قيل: إنه لا رجوع له عليها، وإن أنفق عليها بقضاء، وهو قول مالك
في كتاب النكاح لابن المواز، ومعنى ذلك عندي إذا لم تقر الزوجة أنه لم يكن
بها حمل، وادعت أنها أسقطته، وفي مسألة الذي ينفق على المطلقة، ثم يتبين
أنه ليس بها حمل أربعة أقوال؛ الرجوع من غير تفصيل، وأن لا رجوع من غير
تفصيل، والفرق بين أن ينفق بقضاء أو بغير قضاء على وجهين، وقد مضى القول
على هذه المسألة في سماع ابن القاسم، من كتاب طلاق السنة، وفي أول سماع
أصبغ، ورسم المكاتب منه من كتاب النكاح، وبالله التوفيق.
[مسألة: يشهدان أن رجلا طلق امرأته البتة
وأنهما رأياه بعد ذلك يزني بها]
مسألة قال أصبغ في الشاهدين يشهدان أن رجلا طلق امرأته البتة، وأنهما رأياه
بعد ذلك يزني بها كالمرود في المكحلة، فقال: تسقط شهادتهما في الطلاق؛
لأنهما قاذفان حين رمياه بالزنا، وعليهما له الحد بقذفهما إياه، قلت: ولم
حملت عليهما الحد، وإنما شهدا أنه وطئ امرأته التي أثبتها أنت تحته، ولم
تقض بطلاقها؟ قال: ألا ترى أنهما يزعمان أنها ليست بامرأته، وأنه وطئها
زانيا بها، وهما على ذلك، وأنها ليست له بامرأة، فلذلك رأيت عليهما الحد
قائما لا يزول، قال ابن الماجشون: الحد ساقط
(10/207)
عنهما لسقوط شهادتهما في الطلاق؛ لأنه إذا
سقط في الطلاق، فإنما شهدا أنه وطء امرأته، وهي امرأته كما هي لم تزل، قال
أصبغ وعبد الملك: ولو شهدا عليه بطلاق امرأته البتة، وشهدا أنهما رأياه على
بطنها أو في لحاف عريانين جميعا فيما دون ما يحق الزنا، فالطلاق لازم، يفرق
بينهما، ويؤدبان فيما فعلا من ذلك.
وسئل سحنون عنها فقال: الشهادة ساقطة، ولا حد عليهما؛ لأنهما لما سقطت
شهادتهما في الطلاق، ولم تجز فيه لم يجب عليهما الحد، ونظيرتها الرجل يهلك،
ويترك أخاه، وأمة حاملا، وعبدين، فأعتقهما الأخ، فشهد العبدان أن الأمة
حامل من سيدها، وأن الأمة ولدت غلاما أن الشهادة ساقطة؛ لأنها لو ثبتت رد
عتقهما، وصارا رقيقين، فلما بطلت الشهادة لم يلزمهما من إقرارهما بالرق
شيء، وقاله أصبغ.
قيل لأصبغ: فلو بتل عتقهما في مرضه، وله مال مأمون، أو كان ذلك لهما من
الهالك بوصية عتقا بعد موته، فشهدا بهذه الشهادة بعد تنفيذ الوصية لهما، أو
قبل تنفيذها لهما بالعتق؟ فقال: أما الذي بتل عتقهم قبل موته، أو كان ذا
مال مأمون، وأوصى لهم بالعتق، وحملهما الثلث، فشهادتهما جائزة، يرد بها
الأمر كله إلى سبيل ما شهدوا به، ولا يضرهما ذلك؛ لأن عتقهما تام ماض، كان
هذا، أو لم يكن، والموصى بعتقهم إذا كان في ثلث الميت ما يحملهم فهم
كالمبتلين قبل موته، وشهادتهما جائزة لا يرقون هاهنا بشهادتهم شيئا من
أنفسهم، قلت: فلو كان الثلث لا يحملهم فأتمه الوارث عن نفسه وأمضاه لهما؟
قال: لا تجوز شهادتهما، وكان مثل أول المسألة؛ لأن الشهادة إن أجيزت رجع
الرق عليهما فيما فضل عن الثلث، فسقطت شهادتهما، وصارا بمنزلة ما لو ابتدئ
عتقهما.
(10/208)
قال الإمام القاضي: قد قيل: يلزمه الطلاق
ويحد الشاهدان، وهو الذي يأتي على مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك، وعلى
مذهب أكثر أصحاب مالك، في أن شهادة القاذف لا تجوز قبل الحد ولا بعده،
وقال: هو قبل الحد هو شر منه بعد الحد؛ لأن الحدود كفارات لأهلها، فكيف
تقبل شهادته في شر حاليه، وليس قوله بصحيح؛ لأن الله تعالى إنما نهى عن
قبول شهادته بعد الحدود، لا على قبولها قبل الحد بقوله: {ثُمَّ لَمْ
يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4] ؛ إذ من حقه أن يعذر إليه
ليأتي بما يصدق قوله، وقول ابن الماجشون وأصبغ وسحنون في هذه المسألة على
ما ذهب إليه الشافعي من سقوط شهادة القاذف بنفس القذف قبل إقامة الحد عليه،
وهو قول أصبغ في إيجاب الحد على الشهيدين، وإن سقطت شهادتهما في الطلاق
أظهر من قول ابن الماجشون وسحنون، وإن كان محمد قد تابعهما على قولهما
فقال: إن الحد لا يلزمهما إلا بعد القضاء عليه بالطلاق؛ لأن الله عز وجل
يقول: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ
مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا}
[الأحزاب: 58] .
والإذاية قد حصلت بما رمياه به من وطئه إياها بعد طلاقها البتة، والمسألة
التي نظرها سحنون بها فقال: إنها نظيرة لها، لا تشبهها؛ لأن الشهادة فيها
لما ردت من أجل أن الشاهدين يتهمان على أنهما أرادا إرقاق أنفسهما، وجب أن
يبقيا على حالهما من الحرية، ولا يلزمهما إقرارهما بالرق؛ إذ لا يجوز لحر
أن يرق نفسه، والطلاق لما ردت الشهادة فيه من أجل أن الشاهدين يجرحان بما
شهدا به من أنهما رأياه يزني بها بعد الطلاق، لم يمنع أن يلزمهما الحد؛
لأنه حق عليهما يجب أن يؤخذا به بخلاف الرق الذي لا يجوز للحر أن يلحقه
بنفسه، فالحد في مسألة الطلاق مختلف في وجوبه، والرق في المسألة التي نظرها
بها متفق على سقوطه، وذهب ابن
(10/209)
كنانة فيهما إلى أن ينفذ حريتهما على الأخ؛
لأنه أعتقهما بشبهة الميراث، وتجوز شهادتهما للأمة، ويلحق نسب ابنها، ويغرم
له الأخ القيمة، ويكون الولاء له، قال: لأني إن أجزت شهادتهما في الرق، كنت
قد حكمت بشهادة العبيد، وإن لم أجز شهادتهما، ونفذت عتقها قالت الأمة: لمَ
لم تحكم لي بشهادتهما وهما حران، فهي مهملة، والجواب فيها ما قلت لك، وكذلك
قال فيها القاضي ابن كنانة في رجل ورثه بنو عم له، فورثوا معهم أختا لهم
جهالة، فصار لها في حظها عبد فأعتقته، ثم تبين لهم أنهم أخطئوا على أنفسهم،
وأنها ليست بعصبة؛ أن العتق ينفذ عليها لشبهة الميراث، وتغرم القيمة
لإخوتها، ويكون الولاء لها، وقال يحيى: يرد عتقها؛ لأنها أعتقت ما لم تملك،
وهو الصحيح، والله أعلم.
[: شهادة غير العدول]
من سماع عبد الملك بن الحسن من ابن القاسم
قال عبد الملك: سئل ابن القاسم عن الرجل يحبس في الدم، فيأتي المدعي ببينة
ليسوا بعدول، ويكون الشهود جماعة، فيقولون: قد كان هذا الأمر عندنا فاشيا
مشهورا، فحبس هذا في الحبس إلى متى يكون حبسه؟ فقال ابن القاسم:
شهادة غير العدول بمنزلة من لم تقم القاضي له بينة، فإن كان من أهل
الريب فليحبسه الشهر ونحوه، وإن كان بريئا، فلا يحبس إلا أن يكون الذي ادعى
عليه قريبا اليوم واليومين ونحوه.
قال محمد بن رشد: قوله في هذه المسألة في المدعى عليه الدم إذا شهد عليه
غير العدول، وهو من أهل التهم: إنه يحبس الشهر ونحوه هو مثل ما في سماع عبد
الملك من كتاب الديات، خلاف ظاهر ما في سماع ابن القاسم من كتاب الديات،
وخلاف نص ما في الواضحة لمالك، من أن
(10/210)
من ألطخ القاضي بالدم، ووقعت التهمة عليه،
ولم يتحقق من ذلك ما تجب به القسامة أنه يحبس الحبس الطويل، ولا يعجل
بإخراجه منه، حتى تتبين براءته، أو يأتي عليه السنون الكثيرة، قال مالك:
ولقد كان الرجل يحبس في الدم باللطخ والشبهة، حتى إن أهله ليتمنون له الموت
من طول حبسه، ولا يطلق إذا سرح بعد الشهر، أو بعد الطول حتى يستحلف خمسين
يمينا، قاله في سماع ابن القاسم من كتاب الديات. وقوله: وإن كان بريئا؛
يريد وإن كان غير متهم، فلا يحبس إلا أن يكون الذي ادعى عليه قريبا اليوم
واليومين ونحوه، هو مثل ما في سماع عبد الملك من كتاب الديات، خلاف ظاهر ما
في سماع ابن القاسم منه، وبالله التوفيق.
[مسألة: لشاهد يشهد عند القاضي فيكلفه العدالة
لجهالته به]
مسألة وسئل عن الشاهد يشهد عند القاضي فيكلفه العدالة لجهالته به، فيقول
الشاهد: لست أعرف هاهنا، وأنا معروف في بلدي، فاكتب إلى قاضي بلدي، فأعدل
عنده هل ترى أن يكتب في عدالته إلى قاض معروف بتجويز البينة والعدالة، وأنه
يقبل كل من شهد عنده ويعدل، فإن بعض القضاة غير موثوق بهم؟ قال ابن القاسم:
لا ينبغي للقاضي أن يكتب في مثل هذا، ولا يحل له إلا أن يكون قاضيا عدلا
موثوقا بناحيته، ولا يجيز كتاب جائر إذا ثبت ذلك عنده، ولا يحل له.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول فيها مستوفى، في رسم الكبش، من
سماع يحيى، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: العامل ورب المال شهادة كل واحد منهما
لصاحبه]
مسألة قال: وسألت ابن وهب عن الشاهد يشهد للرجل والذي شهد
(10/211)
له في يد الشاهد مال قراض أو سلف، هل ترد
لذلك شهادته مليا كان أو معدما؟ فقال: إن كان الشاهد مليا جازت شهادته
أسلفه أو قارضه؛ لأن العدم عندي من أعظم التهمة، وقال أشهب: إذا كان عدلا
جازت شهادته مليا كان أو معدما، قال أصبغ: سمعت ابن القاسم يقول في العامل
ورب المال: إن شهادة كل واحد منهما لصاحبه جائزة، وسئل عنها سحنون فقال:
إذا شهد العامل لرب المال، والمال قائم بيد العامل، لم يشتر به شيئا، فلا
تجوز شهادته؛ لأنا نتهمه أن يكون إنما شهد له ليقر المال بيده، فإن كان
المال قد صرفه في سلع، فشهادته له جائزة.
قال الإمام القاضي: هذه مسألة قد مضى القول فيها مستوفى، في آخر سماع ابن
القاسم، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: شهدتا على امرأة أنها ضربت بطن امرأة
فألقت مضغة]
مسألة قال عبد الملك: سئل أشهب وأنا أسمع عن امرأتين شهدتا على امرأة أنها
ضربت بطن امرأة فألقت مضغة، قال: تحلف مع شهادتهما، وتستحق دية جنينها.
قلت: فهل عليها كفارة؟ قال: لا كفارة عليها.
قال محمد بن رشد: قوله: وتستحق دية جنينها؛ معناه وتستحق حقها من دية
جنينها، وقد قال ابن دحون: إنما أتى بهذه المسألة على أنه ليس للجنين وارث
غير أمه، ولو كان له ورثة غيرها حلفوا كلهم، واقتسموا الغرة على كتاب الله؛
لأنها ليست قسامة، وهو كلام غير معتدل؛ لأنها لا
(10/212)
تستحق دية الجنين على قول من يرى أنها
موروثة على فرائض الله، وإن انفردت بها، وإنما تستحق منها بيمينها الثلث،
ويكون سائرها لبيت المال، وإنما تستحق جميع دية الجنين بيمينها على مذهب من
يرى أنها لها خاصة، ليس للأب فيها شيء ولا لغيره؛ لأن الجنين عضو من
أعضائها، وهو قول ربيعة، أو على مذهب من يرى أنها للأبوين على الثلث
والثلثين، وأيهما انفرد بها فهو أحق بها، وبذلك كان مالك يقول: ثم رجع عنه،
وهو قول المغيرة وابن دينار وابن أبي سلمة، وقال ابن الماجشون بقول مالك
الذي رجع إليه: إن دية الجنين موروثة على فرائض الله تعالى، وبالله
التوفيق.
[مسألة: هل يعدل الرجل أخاه]
مسألة وسألت أشهب هل يعدل الرجل أخاه؟ فقال: لا يعدله.
قلت: فهل تجوز شهادته له في الجراحات خطأ كان أو عمدا؟ فقال: نعم.
قال الإمام القاضي: قول أشهب هذا: إن الرجل لا يعدل أخاه؛ خلاف قول ابن
القاسم وروايته عن مالك في المدونة وغيرها، وقد مضى تحصيل القول في هذه
المسألة في أول رسم من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته، وفي المبسوطة
لابن نافع وابن الماجشون: أنه لا تجوز تزكية الأب لابنه، ولا الابن لأبيه،
ولا الزوج لزوجه، ولا الأخ لأخيه، واحتج ابن الماجشون في رد تزكية الأب
لابنه بقول الله عز وجل: {وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي} [الأحقاف: 15] ،
فجعل صلاح ذريته من صلاحه وصلاحه من صلاحهم، وقال
(10/213)
مطرف بن عبد الله: ليس ذلك على ما قالا،
وشهادة الأخ لأخيه إذا كان منقطع العدالة في كل شيء جائزة إلا في الولاء،
وقال أبو المصعب الزهري: تجوز شهادته إلا في ولاء أو مال يجره إليه إذا كان
فقيرا، وتجوز تزكيته له إذا كان منقطع العدالة، إلا فيما يدفع به عنه عارا،
وقال مالك: تجوز تزكية الرجل إذا كان عدلا غير متهم لابنه وأبيه وأخيه
ولامرأته إذا زكاهم، روى ذلك عنه ابن نافع وزياد بن عبد الرحمن، والمشهور
أنه لا تجوز تزكية الرجل إلا لمن تجوز شهادته له، وبالله التوفيق.
[: يشهد لعمه في حق له على رجل وليس للعم وارث
غيره]
من سماع أصبغ بن الفرج من ابن القاسم قال أصبغ: وسئل ابن القاسم عن الرجل
يشهد لعمه في حق له على رجل، وليس للعم وارث غيره، هل تجوز شهادته؟ قال:
نعم؛ إذا كان عدلا منقطعا في الشهادة، ولم يكن محتاجا إلى ما في يديه، وليس
هو ممن يمونه، ولا يحمل نفقته، قال: ولا تجوز شهادته له في فرية، أو حد جر
إليه مما يجمعه، وإياه عصبية أو محمية.
قال الإمام القاضي: وهذا كما قال: إن شهادة الرجل لعمه بالمال وإن لم يكن
له وارث سواه جائزة؛ لأن التهمة بالميراث ضعيفة، فلا يتهم فيها المبرز
بالعدالة، وأما شهادته له في الفرية والحدود، وما تكون فيه العصبية
والحمية، فبين أنه لا تجوز شهادته له فيه كالأخ، وبالله التوفيق.
[: ابني عم شهدا لابن عم لهما على مال]
ومن كتاب الوصايا
قال أصبغ: سمعت ابن القاسم سئل عن رجل أوصى لفقراء أقاربه بحائط يغتلونه،
فلم يشهد على تلك الوصية إلا أغنياء
(10/214)
بني عمه، فقال: لا تجوز شهادتهم خوفا من أن
يحتاجوا إلى ذلك يوما ما، إلا أن يكون شيئا تافها يسيرا، لا خطب له، ولا
يتهمون في مثله لغناهم، ولعله لا يدركون ذلك، فإذا كان الأمر الخفيف الذي
لا يتهمون على جر ذلك لأنفسهم رأيت ذلك لهم، وذلك أني سمعت مالكا سئل عن
ابني عم شهدا لابن عم لهما على مال ولأموال، قال: إن كانا قريبي القرابة
يتهمان في جر الولاء إليهما، فلا يجوز، وإن كانا من الفخر من الأباعد لا
يتهمان على جر ذلك لأنفسهما، رأيت شهادتهما جائزة، وإن كان الولاء يرجع
إليهما يوما ما، قال ابن القاسم: وهذه المسألة تشبه مسألتك. قال ابن
القاسم: ولأنه لو استغنى بعض فقرائهم، وافتقر بعض أغنيائهم، أخرج من استغنى
منهم، ودخل من افتقر، وإنما تقسم على من يكون فقيرا يوم يقع القسم في كل
عام، وقاله أصبغ كله إلا أن يتباعد جدا، أو تتباعد التهمة فيما يرى.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة المعنى، فلا وجه للقول فيها، والله
الموفق.
[: يبعث مع الرجلين بمال يدفعانه إلى رجل ويقول
اشهدا أنتما عليه]
ومن كتاب الكراء والأقضية قال أصبغ: سمعت ابن القاسم يقول في الذي يبعث مع
الرجلين بمال يدفعانه إلى رجل، ويقول: اشهدا أنتما عليه، فيفعلان ويذكر
الذي بعث بالمال إليه أنه لا تجوز شهادتهما عليه؛ لأنهما
(10/215)
يدفعان عن أنفسهما غير الغرم من العيب
والتهمة وما أشبه ذلك، قال: ولا يكون عليهما غرم؛ لأنه بذلك أمرهما وبعثهما
يشهدان عليه، وقاله أصبغ.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال من أن شهادتهما على المبعوث إليه لا تجوز لما
يلحقهما في ذلك من الظنة، وأنه لا غرم عليهما؛ لأنه قد أذن لهما في الدفع
إليه دون إشهاد، فيحلف المبعوث إليه أنهما ما دفعا إليه شيئا، ويغرم
الباعث، ولا شيء على المبعوث معهما، وبالله التوفيق.
[مسألة: يأتي بشاهد على حقه وهو كبير سفيه مولى
عليه قد احتلم]
مسألة وسمعت ابن القاسم يقول في الذي يأتي بشاهد على حقه وهو كبير سفيه
مولى عليه قد احتلم، أنه يحلف مع شاهده، وإن كان سفيها، وليس هذا مثل الصبي
هاهنا، فإن أبى أن يحلف حلف الآخر وبرئ، فإن نكل غرم، وإن حلف برئ، ولم
يستأن به كما يستأنى بالصغير، وقاله أصبغ كله، والسفيه في اليمين بمنزلة
العبد والنصراني، وهما يحلفان في حقوقهما، والحقوق تقع عليهما، هذه السنة
الثابتة.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه أن الكبير السفيه
المولى عليه يحلف مع شاهده، وهذا فيما لم يل وليه المبايعة فيه عليه، وأما
ما ولي فيه المبايعة عليه مثل أن يبيع له سلعة، فينكر المبتاع، ويجحد
الثمن، فإن كان دفع السلعة حلف هو مع الشاهد باتفاق، فإن نكل عن اليمين حلف
المبتاع، وغرم هو؛ إذ لم يشهد، قيل: القيمة؛ على القول بأن الإشهاد لا
يلزمه إلا عند دفع السلعة، وقيل: الأكثر من القيمة، أو الثمن؛ على القول
بأنه يلزمه الإشهاد على الثمن، وإن لم يدفع السلعة، وإن كان لم يدفع السلعة
فقيل: إنه لا يمين عليه مع الشاهد، ويحلف المولى عليه معه، وقيل: إنه هو
الذي يحلف، فإن نكل عن اليمين غرم بعد يمين المشتري،
(10/216)
وهذا على الاختلاف في وجوب الإشهاد عليه
بالثمن، وإن لم يدفع السلعة، فإن نكل السفيه عن اليمين مع الشاهد في الموضع
الذي يحلف فيه معه حلف المطلوب وبرئ، ولم يكن للسفيه أن يحلف إذا رشد
كالكبير المالك لأمر نفسه، وقال ابن كنانة: إن نكل عن اليمين حلف المطلوب،
وبرئ إلى أن يرشد السفيه، فيحلف ويستحق حقه كالصغير، وبه قال مطرف، وهو
أظهر من قول ابن القاسم، وأما الصغير فلا يحلف مع شاهده، ويؤخر عنه اليمين
إلى أن يبلغ بعد أن يحلف المطلوب، ولا يحلف مع شاهده، ولا الولي عنه، وقد
روي عن مالك أنه يحلف مع شاهده، وهو بعيد شاذ، وعن ابن كنانة أن الأب يحلف
عنه. وهذا كله فيما لم يل وليه المعاملة فيه، وأما ما ولي المعاملة فيه
فيحلف؛ لأنه إن نكل غرم بما صنع من الإشهاد، وأما العبد المأذون له في
التجارة والنصراني، فهما كالكبير كما قال: يحلفان في حقوقهما يريد مع
شاهدهما، وفي الحقوق تقع عليهما يريد بالدعوى، وبالله التوفيق.
[مسألة: شهد عليه رجلان بجرحة فقالا رأيناه
سكران]
مسألة قال: وسمعت ابن القاسم يقول فيمن شهد عليه رجلان بجرحة فقالا: رأيناه
سكران، أو رأيناه يسرق؛ فجرحاه بذلك في شهادة شهداها أنه يقام عليه الحد
إذا قطعا عند الحاكم بمعاينة، فهو علم ودياه يومئذ، فهي شهادة يؤديانها،
ولا يضرهما تركهما قبل ذلك؛ لأن ذلك ستر سترا به عليه.
قال محمد بن رشد: في المدنية لمالك من رواية محمد بن صدقة، مثل رواية أصبغ
هذه: إنه يقام عليه الحد، وقال عيسى عن ابن القاسم: لا أرى أن يقطع ولا
يحد، وقال عيسى: أحب إلي أن يقطع ويحد، وهو الذي يوجبه النظر للعلة التي
ذكرها من أن الشاهد لا يضره ترك القيام بشهادته على السارق والزاني؛ لما
أمر به من الستر، وبالله التوفيق.
(10/217)
[مسألة: الشاهد
تجوز شهادته للمشهود له إذا كان موسرا بماله عليه من الدين مليا به]
مسألة قال أصبغ: قال لي ابن القاسم في رجل أقام على ميت بينة بألف دينار،
فجاء أولياء المقتول بشهيدين يشهدان أنه أبرأه، فجاء المدعي بشهيدين على
هذين الشهيدين أن للميت عليهما دينا، أو له عندهما مالا قراضا أو وديعة؛
أنهما إن كانا موسرين بذلك جازت شهادتهما على ما شهدا، وإن كانا غير موسرين
بذلك لم تجز شهادتهما؛ لأنهما يدفعان عن أنفسهما الطلب، وما أشبه ذلك،
وإنهما إن أقرا بالدين إلا أنهما معسران، لم ينفعهما ذلك، ولم تجز
شهادتهما، وإن قالا في الوديعة والقراض قد ضاع ذلك، فأما الوديعة فأرى
شهادتهما جائزة، ولا يستحلفهما إن لم يكونا متهمين، وإن كانا متهمين
استحلفا، وسكت عن الجواب في القراض هاهنا، ولم يجب بشيء، قال أصبغ: وأرى
أنهما سواء، وذلك إذا كان ذهابهما طريا، مما لا يجري عليهما فيه خصومة ولا
حجة، وإن ذكرا ذهابا قديما مما تدخل فيه التهمة والخصومة، لم تجز شهادتهما.
قال الإمام القاضي: قوله: إنهما إن كانا موسرين بذلك، جازت شهادتهما على ما
شهدا به صحيح لا اختلاف في أن الشاهد تجوز شهادته للمشهود له إذا كان موسرا
بماله عليه من الدين مليا به، لا مشقة عليه في إحضاره، كما أنه لا اختلاف
عندي في أن شهادته له لا تجوز إذا كان مليا بماله عليه من الدين، إلا أنه
لا يمكنه إحضاره إلا ببيع ما يشق عليه من عقاره وعروضه؛ لأنه يتهم أن يكون
إنما شهد له ليؤخره إلى أن تأتي فائدته،
(10/218)
فلا يبيع عقاره وعروضه، واختلف إذا كان
معدما، فلم ير ابن القاسم شهادته له جائزة، وإن كان الحكم يوجب تأخيره؛
لأنه اتهمه أن يكون إنما شهد له ليترك طلبه وتحليفه، وذلك بين من قوله في
هذه الرواية؛ لأنهما يدفعان عن أنفسهما الطلب وما أشبه ذلك، ورأى أشهب
شهادته له جائزة على ما مضى له في سماع زونان؛ لأن الحكم يوجب له التأخير،
فلم يتهمه في أنه شهد له ليسقط عنه اليمين، ورأى ذلك خفيفا، لا يتهم العدل
في مثله، فهذا تحصيل هذه المسألة عندي: وجه تجوز فيه شهادته باتفاق، ووجه
لا تجوز فيه باتفاق، ووجه يختلف في جوازها فيه.
وقوله: وإن قالا في الوديعة والقراض قد ضاع ذلك، فأما الوديعة فأرى
شهادتهما جائزة، ولا يستحلفهما، بين لا إشكال فيه؛ لأنه إذا لم يجب عليهما
غرم ولا يمين فلا وجه لإسقاط شهادتهما، وقال: إنهما إن كان متهمين استحلفا،
يريد وبطلت شهادتهما؛ إذ لا يتهم بجحد الودائع إلا من ليس بعدل، فإذا ادعى
الذي عنده الوديعة أو القراض أنه ضاع منذ مدة لزمته اليمين عند ابن القاسم،
وإن كان عدلا، ولم تجز شهادته؛ لأنه يتهم أن يكون إنما شهد ليسقط عنه
اليمين، ولزمه الغرم عند أصبغ، قاله في سماعه، من كتاب الوديعة، وعليه يدل
قوله هاهنا، وإن كان ذهابها قديما مما تدخل فيه التهمة والخصومة لم تجز
شهادتهما؛ لأن وجه الخصومة في ذلك على مذهبه أن يكلف إقامة البينة على أنه
قد سمع منه التشكي بتلفها، فإن لم يأت على ذلك ببينة لزمه الغرم، وإن كان
التلف قريبا لم تلزمه يمين، وجازت شهادته، ويأتي على قياس رواية ابن نافع
عن مالك في إيجاب اليمين عليه، وإن لم يتهم ألا تجوز شهادته، وأشهب يخفف
أمر اليمين، فيرى شهادته جائزة، إلا في الموضع الذي يجب عليه فيه الضمان،
وبالله التوفيق.
[: له عليه حق فيلزمه فيطلب من آخر أن يعطيه
دنانيره ويشهد على ذلك]
ومن كتاب القضاء المحض قال أصبغ: سمعت ابن القاسم يقول في رجل له على
(10/219)
رجل حق فيلزمه، فقال الملزوم لرجل معه:
اذهب ائتني بدنانير، فذهب الرجل فأتاه بدنانير، فدفعها إليه، فقبضها منه،
وأوصلها إلى الذي يسأله الحق، ثم لبثوا أياما، فأتى الرجل المرسل إلى صاحب
الحق الطالب يسأله شهادته بدفعه الدنانير إلى الذي عليه الحق، وزعم أنها
له، وأراد أخذها من الذي عليه الحق، أترى للذي له الحق الطالب أن يشهد؟ وهل
ترى شهادته جائزة؟ قال: نعم، أرى شهادته جائزة؛ لأنه قد انقطع ما بينهما،
ولا يجر بها إلى نفسه شيئا، وليس للذي كان الحق عليه هاهنا حجة تطرح بها
شهادته، ولا يدفعها بشيء، وليس هاهنا تهمة، فأرى شهادته جائزة، وقاله أصبغ،
ولو كان إنما هو دفعها إليه عنه لم تجز، ولكنه دفعها إلى صاحبه، فكان هو
الدافع عن نفسه إلى الغريم، فشهادته جائزة.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة المعنى، لا إشكال فيها، فلا معنى
للقول فيها، وبالله التوفيق.
[مسألة: قوله إحدى امرأتيه أو امرأته وله
امرأتان طالق]
مسألة قال أصبغ: وسمعت ابن القاسم يقول فيمن شهد عليه شاهد واحد أنه حلف
على شيء أنه إن فعله فامرأته طالق، وشهد آخر أنه قال: إن فعله فإحدى
امرأتيه طالق، ففعله وجحد شهادتهما، قال: لا تجوز شهادتهما؛ لأنها قد
اختلفت. قال أصبغ: لا يعجبني ما قال ابن القاسم، ولا أدري كيف أجاب فيها
بفهم أو بغير فهم، أو علم أو غيره، وأرى قوله: إحدى امرأتيه أو امرأته، وله
امرأتان سواء، لا يفترق ذلك؛ لأن الحكم فيه يرجع إلى أمر واحد، وإلى النية
والتدين، فإن كانت واحدة وإلا طلقتا جميعا، فهي شهادة مجتمعة غير مفترقة،
فإن أقربها وادعى النية فله ذلك، وإن أنكرها كان
(10/220)
كمن أقر، ولا نية له، فتطلقان جميعا
بالشهادة.
قال الإمام القاضي: هذه مسألة قد مضى القول فيها مستوفى في رسم العرية، من
سماع ابن القاسم، فلا وجه لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: يشهدون على شهادة الرجل عند القاضي وهم
لا يعرفونه والقاضي يعرفه بالعدالة]
مسألة قال أصبغ: سألت أشهب عن القوم يشهدون على شهادة الرجل عند القاضي،
وهم لا يعرفونه، والقاضي يعرفه بالعدالة أو يعدله عند القاضي غيرهم، أتجوز
شهادته بعينه؟ قال: نعم؛ إذا عرفه القاضي بالعدالة جازت شهادته، قال أصبغ:
ذلك بعد معرفة أخرى بأنه الرجل الذي شهد على شهادته بعينه لا يحتمل اسمه
لغيره، فيكون غير الذي عرف القاضي بالعدالة والمعدلون.
قال الإمام القاضي: قوله: وهم لا يعرفونه؛ معناه لا يعرفونه بالعدالة،
ويعرفونه بالعين والاسم، مع أن يكون مشهورا لا يختلط بغيره، وأما إن كانوا
لا يعرفونه بالعين والاسم، أو كانوا يعرفونه بالعين والاسم ولكن ليس
بمشهور، فلا تجوز الشهادة؛ لاحتمال أن يكون الذي شهدوا على شهادته غير الذي
عرفه القاضي بالعدالة والمعدلون، وهذا معنى قول أصبغ، فهو تفسير لقول ابن
القاسم، وبالله التوفيق.
[مسألة: تحليف الرجل أباه في حق يدعيه فيه]
مسألة وسئل عن الذي يقع له القضاء على أبيه باستحلافه، أو الحد يقع له
عليه، فيريد أخذه فيقال له: إنه عقوق أن تستحلفه أو تحده فيستحلفه أو يحده،
فقال: لا تجوز شهادته، قيل له: فإن كان جاهلا بأنه عقوق، فرأى ألا تجوز
أيضا شهادته وقال: إن عذر بالجهالة في هذا عذر أيضا في أشياء كثيرة من
ارتكاب الحرام، وما
(10/221)
أشبه ذلك، فلا أرى أن تجوز شهادته، قال
أصبغ: ثم سألته أيضا عمن استحلف أباه في حقه، وحقه حق، قال: أراه عقوقا،
وإن كان حقه حقا، فلا أرى أن تجوز شهادته.
قال محمد بن رشد: اختلف في تحليف الرجل أباه في حق يدعيه فيه، أو حده على
ثلاثة أقوال؛ أحدها: أن ذلك مكروه، وليس بعقوق فيقضى له بذلك، ولا تسقط به
شهادته. والثاني: أن ذلك عقوق، فلا يقضى له بذلك، وهو مذهب مالك في المدونة
في اليمين، في كتاب المديان، وفي الحد في كتاب القذف، وهو أظهر الأقوال
وأولاها بالصواب؛ لما أوجبه الله من بر الأبوين بنص القرآن، وبما تظاهرت به
الآثار، وقد روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:
«لا يمين للولد على والده، ولا للعبد على سيده» . والثالث: أن ذلك عقوق،
إلا أنه يقضى له به، وتكون جرحة فيه تسقط به شهادته، وهو قول ابن القاسم في
هذه الرواية، وهو بعيد؛ لأن العقوق إن كان من الكبائر، فلا ينبغي أن يمكن
من فعله أحد، وبالله التوفيق.
[: تفتدي من زوجها ويقوم لها بينة يشهدون لها
على السماع أن زوجها كان يضربها]
ومن كتاب النكاح قال أصبغ: وسألت ابن القاسم عن التي تفتدي من زوجها ويقوم
لها بينة يشهدون لها على السماع أن زوجها كان يضربها؛ أتجوز في مثل هذا
شهادة السماع؟ قال: نعم، ومن يشهد في هذا إلا بالسماع؟ يسمع في ذلك الرجل
من أهله، ومن الجيران، وما أشبه ذلك، ويكون ذلك أمرا فاشيا، قلت: أفيجوز في
مثل هذا شاهدان على السماع؟ فقال: السماع البين في مثل هذا، والأمر المعروف
أحب إلي، وعسى بهذا أن يجوز، فأرى أن تجوز.
قلت: أيحلف مع ذلك؟ قال: لا.
(10/222)
قلت: فإن شهد لها شاهد واحد على البتات،
فقطع الشهادة أن زوجها كان يضربها ويضيق عليها، أتحلف معه؟ قال: وكيف يعرف
ذلك؟
قلت: يقول سمعته واستبان عندي، قال: إن كان هذا يكون فعسى، وانظر فيه، قال
أصبغ: وهو عندي جائز إن لم يكن معه غيره، فكان معه سماعا قاطعا، وإلا حلفت
معه، وإن كان معه سماع منتشر، وإن كان غير قاطع رد عليها العطية والوضيعة؛
لأنه مال تحلف عليه مع شاهدها ويمضي الفراق، قال أصبغ: ثم سألته بعد ذلك،
فقال: نعم تحلف مع شاهدها، ويرد عليها، وهو مثل الحقوق، وأنا أرى ذلك؛
لأنها إنما تحلف على مال، والطلاق قد مضى بغير ذلك.
قال الإمام القاضي: إجازة ابن القاسم في هذه الرواية شهادة السماع في ضرر
الزوج بزوجته دون يمين خلاف أصله في المدونة في أن شهادة السماع، لا يثبت
بها النسب ولا الولاء، وإنما يستحق بها المال مع اليمين، واختياره ألا
يكتفى في ذلك بشهادة الشاهدين، إنما هو مراعاة لما ذهب إليه ابن الماجشون
من أنه لا تجوز في شهادة السماع أقل من أربعة شهداء، وقد مضى تحصيل الخلاف
فيما تجوز فيه شهادة السماع مما لا تجوز في صدر نوازل سحنون.
وأما الشهادة في ذلك على البت من جهة السماع، فلا اختلاف في إجازتها، فإن
لم يشهد بذلك إلا شاهد واحد حلفت معه، واستردت مالها على ما قاله في آخر
المسألة، ولا وجه لتمريضه ذلك في أول المسألة بقوله: فعسى، وانظر فيه، وقول
أصبغ: إنه إن لم يكن مع الشاهد على البت غيره حلفت معه، وإن كان معه سماع
قاطع أو منتشر غير قاطع ردت عليها العطية والوضيعة، يدل على أنه أنزل
السماع منزلة شاهد آخر على البت، فلو انفردت على مذهبه شهادة السماع لم
يستحق بها المال دون يمين، فقوله على قياس قول ابن القاسم، وروايته عن مالك
(10/223)
في المدونة خلاف روايته عنه في هذه
الرواية، فتدبر ذلك وأنعم النظر فيه.
[: شاهد الزورهل تقبل شهادته]
من سماع أبي زيد من ابن القاسم قال أبو زيد: قال ابن القاسم في شاهد الزور:
هل تقبل شهادته؟ قال: إن عرفت منه توبة وإقبال وتزايد في الخير فأرجو، قيل
له: إنها سر، قال: إن عرفت بالتزيد، فأرجو أن تقبل شهادته، ولا أظنه إلا
قول مالك.
قال محمد بن رشد: في بعض الروايات أنها سر، وفي بعضها أنها أشد، وفي بعضها
أنها أشر، وفي بعضها أنها أبين، والصحيح في المعنى من ذلك رواية من روى
أنها سر يريد أن ما يستسر به لا تقبل توبته منه كالزنديق، وظاهر هذه
الرواية خلاف ما في المدونة من أنها لا تجوز أبدا وإن تاب وحسنت حاله، وقد
قيل: إن معنى رواية أبي زيد هذه إذا أتى تائبا مستهلا مقرا على نفسه بشهادة
الزور، قبل أن تظهر عليه، ومعنى ما في المدونة، إذا عثر عليه أنه شهد بزور،
ولم يستهل هو بذلك على نفسه، وهو الأولى، والله أعلم.
[مسألة: شهد أحدهما على رجل أنه صالح امرأته
وشهد الآخرأنه طلقها طلقة أو البتة]
مسألة وقال في رجلين شهد أحدهما على رجل أنه صالح امرأته، وشهد الآخر أنه
طلقها طلقة أو البتة، قال: لا شيء عليه.
قال محمد بن رشد: معنى قوله: لا شيء عليه، لا طلاق عليه؛ لأن شهادتهما توجب
اليمين عليه، وهذه مسألة قد تقدمت في مواضع، ومضى القول فيها مستوفى في رسم
العرية، من سماع عيسى، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
(10/224)
[مسألة: يقضى
بشاهدي المطلوب]
مسألة وسئل عن رجل أتى بشاهدين يشهدان أن له على فلان عشرين دينارا، وجاء
المشهود عليه بشاهدين يشهدان أن هذا المدعى عليه أقر عندنا منذ أشهر أن ليس
له قبل فلان شيء، ولا يدري الشاهدان اللذان شهدا على الحق أقبل هؤلاء
الشهود أم بعد؟ قال: أرى أن يقضي بشاهدي المطلوب، قيل له: فإن لم يعلم
شاهدا المطلوب، ولا شاهدا الطالب متى شهدوا هؤلاء قبل هؤلاء، أم هؤلاء قبل
هؤلاء؟ قال: يقضى بشهداء المطلوب.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة أن المطلوب لم ينكر العشرين، لكنه
أقر بها، وادعى البراءة منها، واستظهر على ما ادعاه بإقرار الطالب أنه لا
شيء له عنده، فالطالب يقول: إنما أقررت له بأنه لا شيء له عندي قبل أن يجب
لي عليه العشرون، والمطلوب يقول: إنما أقر بذلك لبراءتي منها إليه بعد
وجوبها له علي، فقيل: القول قول المطلوب، وهو قول ابن القاسم في هذه
الرواية؛ لأن قوله يقضى بشاهدي المطلوب، معناه يقضى بأن يكون القول قول
المطلوب من أجل شهادة شاهدين، وقيل: القول قول الطالب، وهو الذي يأتي على
قول ابن نافع في سماع يحيى من كتاب الدعوى والصلح، وهذا إذا كانت بينهما
مخالطة، ولو لم تكن بينهما مخالطة؛ لكان القول قول المطلوب قولا واحدا، ولو
كان له قبله حق قديم غير هذا؛ لكان القول قول الطالب قولا واحدا، بدليل ما
في سماع أشهب من كتاب الوديعة، ووجه القول الأول هو أن إقرار الطالب أنه لا
حق له قبله دليل على أنه قد استوفى حقه منه؛ إذ لا يشهد أحد بأنه لا حق له
عند من لم يكن قط عنده حق، ووجه القول الثاني: أن الدين قد وجب على المطلوب
بإقراره على نفسه، فلا يسقط عنه إلا بيقين، وهو الأظهر، وكذلك إذا أقر
المطلوب بعشرين، وأتى ببراءة بعشرين فقال: هي العشرون التي أقررت لك بها،
وقال الطالب: بل هي غيرها، يكون القول قول الطالب إن كان له قبله غيرها،
والقول فيها قول المطلوب إن لم يكن كان له قبله
(10/225)
غيرها، ولا كانت بينهما مخالطة، ويختلف إن
لم يكن له قبله حق، وكانت بينهما مخالطة على القولين المذكورين، ولسحنون في
نوازله من كتاب المديان والتفليس قول ثالث في هذه المسألة، وهو تفرقته بين
أن يأتي المطلوب ببراءة واحدة تستغرق العدد أو ببراءات مفترقات، وهو قول
ضعيف، وأما إن كان المطلوب منكرا للعشرين التي قامت عليه البينة بها، فلا
إشكال ولا اختلاف في أن القول قول الطالب؛ إذ لا تسقط بينة بأمر محتمل،
وإنما يختلف إذا أتى بالبينة أنه قضاه العشرين بعد الإنكار، وبالله
التوفيق.
[مسألة: شهادة الذي عليه الحق]
مسألة وسئل عن رجل يكون له على رجل عشرة دنانير، فيشهد الذي عليه الحق أن
طالب العشرة دنانير أقر أنها ليست له، وأنها لفلان، وشهد بذلك عليه رجل آخر
مع الذي عليه الحق؟ قال: لا تجوز شهادة الذي عليه الحق، ويحلف ذلك الرجل مع
شاهده، ويستحق العشرة.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله من أن شهادة الذي عليه العشرة، لا
تجوز للطالب؛ لأنه شاهد لنفسه على المشهود عليه أنه لا حق له قبله، وسواء
كان الطالب المشهود عليه حاضرا أو غائبا، بخلاف ما كان حاضرا ليس في الذمة
مثل أن يقر الرجل أن المال الذي دفعه إليه فلان هو لفلان، أو أن الشيء الذي
وضعه على يديه فلان قد تصدق به على فلان، فهذا يفرق فيه بين أن يكون
المشهود له حاضرا أو غائبا على ما في كتاب الشهادات وغيره من المدونة،
وبالله التوفيق.
(10/226)
[مسألة: قيد
الرجل ما أشهد عليه بخط يده ثم نسي بعد ذلك]
مسألة قلت له: كنت قاعدا عند ضمام، فجاء رجل فأشهدني على شهادة ضمام، فكتبت
شهادتي، ثم جاء الرجل بعد حين بكتاب فيه شهادتي، وعرفت خطي، وأثبت أن ضماما
أشهدني على شهادته في أمر دار، أذكر ذلك غير أني لا أحفظ أن هذا الكتاب
الذي فيه شهادتي قرئ علي، ولا أحفظ أنه أشهدني على هذه الدار التي في هذا
الكتاب، قال: إن لم تثبت شهادتك في الكتاب حرفا بحرف، فلا تشهد.
قال محمد بن رشد: إنما هذا إذا قيد الرجل ما أشهد عليه بخط يده ثم نسي بعد
ذلك، ولم يذكر جميع ما قيده غير أنه يعرف أنه خطه، وفي هذا اختلاف، وقد مضى
بيانه في نوازل سحنون قبل هذا، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: شهدوا على رجل فقال بعضهم قال امرأتي
طالق وقال آخرون قال غلامي حر]
مسألة قال ابن القاسم في نفر جماعة شهدوا على رجل أنه تكلم بكلمة واحدة،
فقال بعضهم: إنما قال: امرأتي طالق، وقال آخرون: إنما قال: غلامي حر؛ لا
طلاق عليه ولا حرية عليه، وكذلك لو شهد بعضهم أنه أقر لفلان بمائة دينار،
وقال الآخرون: إنه أقر له بمائة درهم أنه لا يلزمه الدنانير ولا الدراهم،
ولو شهد بعضهم أنه أقر لرجل بمائة دينارا، وشهد الآخرون أنه أقر له بخمسين
دينارا قال: يغرم المائة.
قال الإمام القاضي: هذه مسألة قد مضى القول فيها مستوفى في رسم الصبرة، من
سماع يحيى، وفي نوازل سحنون وأصبغ، فلا معنى لإعادة ذلك، وبالله التوفيق.
(10/227)
[مسألة: ما
تكافؤ البينة]
مسألة وسئل ابن القاسم: ما تكافؤ البينة؟ قال: أن يكونوا في العدالة سواء،
ولا ينظر إلى الكثرة من القلة، قيل: أريت إن كان لي شاهد عدل، وجاء صاحبي
بشاهدين عدلين إلا أن شاهدي أعدل من الشاهدين؟ قال: يقضى بالشاهد الواحد مع
يمين صاحب الحق، ولا يلتفت إلى شهادة الشاهدين وإن كانا عدلين.
قال محمد بن رشد: هذا معلوم من قول ابن القاسم، وروايته عن مالك في المدونة
وغيرها أن الترجيح بين البيتين إنما يكون بكثرة العدالة لا بكثرة العدد،
وروى مطرف وابن الماجشون عن مالك: أن البينتين إذا استوتا في العدالة،
وإحداهما أكثر من الأخرى، قضى بالأكثر عددا، إلا أن يكون الأقل عددا كثيرا
يكتفي بهم الحاكم فيما يلتمس من الاستظهار، فهنالك لا تغني كثرتهم شيئا،
ويكون استواؤهم في العدالة كما لو لم يشهد فيه أحد، فإن كان الشيء المشهود
فيه بيد أحد المدعيين أقر بيده، وإن لم يكن بيد واحد منهما استحلفا جميعا،
وقسم بينهما بعد الاستيناء إن كان مما يرى الحاكم الاستيناء فيه، ومن أهل
العلم من لا يرى الترجيح أصلا، لا في العدالة ولا في العدد، ويقول: إذا شهد
شاهدان عدلان ممن تنقطع بهما الشهادة لو لم يكن غيرهما، فهما ومن هو أعدل
منهما، وأكثر عددا من البينة بمنزلة سواء؛ لأنهما قد أحقا لمن شهدا له ما
أحقه أولئك الذين هم أعدل وأكثر، وهو قول المخزومي، قال ابن حبيب: ولو أخذ
أحد بهذا ما أخطأ.
وأما قول ابن القاسم: إنه يقضى بالشاهد الواحد مع يمين صاحب الحق إذا كان
أعدل من الشاهدين، فهو خلاف قوله في سماع أصبغ عنه من كتاب الدعوى والصلح،
وخلاف ما حكاه ابن حبيب في الواضحة عن مطرف وابن الماجشون، من أن الشاهدين
إذا كانا عدلين أحق من اليمين مع الشاهد الذي هو أعدل أهل زمانه، وهو
الأظهر؛ إذ من أهل العلم من لا يرى الحكم باليمين مع الشاهد أصلا، ومن لا
يرى الترجيح بين البينتين أصلا، فالقول بأنه يقضى بالشاهد الواحد مع يمين
صاحب الحق إذا كان أعدل من
(10/228)
الشاهدين، إغراق في القياس، وقد مضى في آخر
سماع عيسى القول في الترجيح بين المعدلين، فلا معنى لإعادته، وبالله
التوفيق.
[مسألة: يشهد لابن امرأته]
مسألة ولا تجوز شهادة رجل يشهد لابن امرأته، وكذلك شهادة المرأة لابن
زوجها، أنها لا تجوز.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول فيها مستوفى في أول رسم من سماع
ابن القاسم، وفي رسم جاع، من سماع عيسى، فلا معنى لإعادته.
[مسألة: شهادة رجل على قضاء قاض أنه قضى لفلان
على فلان بهذا الحق]
مسألة قال: ولا تجوز شهادة رجل على قضاء قاض أنه قضى لفلان على فلان بهذا
الحق حتى يشهد على أنه قضى به شاهدان.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول فيها مستوفى في رسم جاع فباع
امرأته من سماع عيسى، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: ذكرا أن رجلا استودعهما شهادة والذي
استودعهما الشهادة غائب]
مسألة وسئل عن رجلين ذكرا أن رجلا استودعهما شهادة، والذي استودعهما
الشهادة غائب، فقاما بتلك الشهادة، فشهدا بها وقضى بشهادتهما مع رجل
غيرهما، ثم جاء الشاهد الغائب الذي شهد الرجلان على شهادته، فأنكر أن يكون
أشهدهما على شيء من هذا الأمر؟ قال: لا ينظر إلى قوله، ويمضي على ما شهدا
أولا.
قال الإمام القاضي: هذه مسألة قد مضى القول فيها مستوفى في رسم يوصي
لمكاتبه من سماع عيسى، فلا وجه لإعادته هنا، وبالله التوفيق.
(10/229)
[مسألة:
شهادتهم لمن شهدوا له في مجلسين]
مسألة قيل: أرأيت لو شهدت لرجل أن له على رجل عشرة دنانير، وشهد لي الرجل
الذي شهدت له أن لي على رجل عشرة دنانير في مجلس واحد؟ قال: إذا كنتما
عدلين لا تتهمان في شهادتكما، جازت شهادتك له، وشهادته لك.
قال محمد بن رشد: قد مضى الاختلاف في هذه المسألة في نوازل سحنون، وتحصيله
أن في شهادة الشهود لمن شهدوا له في مجلس واحد ثلاثة أقوال؛ أحدها: أنها لا
تجوز. والثاني: أنها جائزة، والثالث: أنها جائزة إن كانت على رجلين، وغير
جائزة إن كانت على رجل واحد، وأما شهادتهم لمن شهدوا له في مجلسين فهي
جائزة إن كانت على رجلين، وإن كانت على رجل واحد فعلى قولين، وبالله
التوفيق.
[مسألة: عبد قطع بشهادة حق فظن أنه حر ولم يعلم
بذلك حتى عتق]
مسألة وعن عبد قطع بشهادة حق، فظن أنه حر، ولم يعلم بذلك حتى عتق؟ قال: يرد
الحق ولا يقطع.
قال محمد بن رشد: هذا خلاف ما مضى قرب آخر نوازل سحنون، وقد مضى من القول
على ذلك هنالك، ما لا وجه لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: شهادة ابن الملاعنة في الزنا]
مسألة قال ابن القاسم: تجوز شهادة ابن الملاعنة في الزنا، ولا يشبه ولد
الزنا.
(10/230)
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول
فيها مستوفى في آخر نوازل سحنون، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: شهدا عليه وأختلفا]
مسألة وقال فيمن شهد عليه شاهد واحد في شيء إن فعله فامرأته طالق، وشهد آخر
أنه قال: إن فعله فإحدى امرأتيه طالق، ففعله وأنكر شهادتهما، قال: لا تجوز
شهادتهما؛ لأنها قد اختلفت.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة تكررت في مواضع، ومضى القول عليها مستوفى في
رسم العرية، من سماع عيسى، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: شهادة السماع]
مسألة قال: وإنما تجوز شهادة السماع أن يقول: لم أزل أسمع أن فلانا مولى
فلان فيرثه، ولا يجر ولاءه، ولا يرث مواليه، ولا بني عمه يريد الميت، ولا
عصبته، إنما يرث ما له قط، ولا يجر ولاءه ولا يثبت له نسب، إلا أن يكون
أمرا مشتهرا مثل أن يقول: أشهد أن نافعا مولى ابن عمر، وأن عمر هو ابن
الخطاب؛ لأن هذا أمر معروف، ولا يختلف فيه أحد، فإذا كان مثل هذا أجزت له
الولاء، وأثبت له النسب، قيل له: أنشهد الساعة أنك ابن القاسم، ولا أعرف
أباك، ولا أعرف أنك ابنه إلا بالسماع؟ قال: نعم، تقطع بهذه الشهادة، ويثبت
بها النسب، ويرث ويورث، ويجر الولاء إذا كان في مثل هذا الأمر المعروف.
قال الإمام القاضي: هذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه أن السماع إذا كان
مشتهرا في الولاء والنسب مثل ما اشتهر من أن نافعا مولى
(10/231)
ابن عمر، ومن أن عمر هو ابن الخطاب، يثبت
به النسب والولاء، ويشهد الشاهد فيه على القطع، فيقول: نشهد أن فلانا هو
ابن فلان، وأن فلانا هو مولى فلان، وأما إذا لم يكن السماع بذلك، مشتهرا
اشتهارا يصح للشاهد به الشهادة على القطع، فقال في شهادته: لم أزل أسمع من
أهل العدل وغيرهم أن فلانا هو ابن فلان، وأن مولى فلان ففي ذلك اختلاف،
قيل: إنه يثبت بذلك النسب والولاء، وهو قول أشهب، والذي يأتي على قياس قول
ابن القاسم في سماع أصبغ، في إجازة شهادة السماع، في ضرر الزوجين، وقيل:
إنه لا يثبت بها النسب ولا الولاء، ويستحق بها الميراث، وهو قول ابن القاسم
في هذه الرواية وفي المدونة، ويتخرج في المسألة قول ثالث: أنه لا يثبت بها
النسب ولا يستحق بها المال؛ لأن المال لا يستحق إلا بعد ثبات النسب أو
الولاء، وقد مضى في صدر نوازل سحنون تحصيل الاختلاف فيما تجوز فيه الشهادة
على السماع مما لا تجوز، فأغنى ذلك عن إعادته هاهنا، وبالله التوفيق.
[مسألة: الشهادة على الشهادة في الزنا]
مسألة قال ابن القاسم تجوز شهادة ثلاثة على ثلاثة في الزنا واثنين على
واحد.
قال محمد بن رشد: هذا نص قول ابن القاسم في المدونة: أن الشهادة على
الشهادة في الزنا لا تتم بأقل من أربعة شهداء إذا شهدوا على كل واحد من
الأربعة الذين شهدوا على الرؤية، وكذلك لو شهد منهم اثنان على اثنين، أو
اثنان على ثلاثة، أو اثنان على واحد، فإن لم يفرقوا لم يكن بد من اثنين على
كل واحد، فيصيروا ثمانية، ويجوز في تعديلهم ما يجوز في تعديل غيرهم اثنان
على كل واحد منهم، أو أربعة على جميعهم، وهو مذهب ابن الماجشون، وابن عبد
الحكم، وأصبغ؛ فقول ابن القاسم في
(10/232)
الرواية: يجوز ثلاثة على ثلاثة في الزنا،
واثنين على واحد؛ كلام خرج على سؤال سائل، فلا دليل فيه على أنه لا يجوز
عنده أقل من ذلك؛ لأنه يجوز على مذهبه اثنان على الثلاثة، واثنان على
الواحد حسبما ذكرناه، وذهب مالك في رواية مطرف عنه إلى أنه لا يجوز في
الشهادة على الشهادة في الزنا إلا ستة عشر شاهدا أربعة على كل واحد من
الأربعة اجتمعوا أو افترقوا، وكذلك لا يجوز عنده في تعديل الشهود على الزنا
إلا ستة عشر شاهدا أربعة على كل واحد من الأربعة، اجتمعوا أو افترقوا، وفي
تعديل الشهود على الشهود إلا أربعة وستون أربعة على كل واحد من الستة عشر،
اجتمعوا أو افترقوا، ويتخرج في المسألة قول ثالث، وهو أنه واحد من الستة
عشر اجتمعوا أو افترقوا، ويتخرج على كل واحد منهم إن افترقوا، وقد مضى طرف
من هذا المعنى في آخر نوازل سحنون، وبالله التوفيق.
[مسألة: شهادة الرجل على الرجل بما سمع منه دون
أن يشهده]
مسألة قال ابن القاسم في قاض شهد عنده رجل لرجل أن له على فلان مائة دينار،
فذهب فأتى بشاهد آخر، فمات الشاهد الذي شهد وعزل القاضي، فأراد القاضي أن
يشهد أنه قد شهد عنده فلان أن له على فلان مائة دينار أتثبت شهادته؟ قال:
نعم، إن شهد معه غيره، وإلا فلا.
قال الإمام القاضي: شهادة الرجل على الرجل بما سمع منه دون أن يشهده، تنقسم
على ثلاثة أقسام؛ أحدها: شهادته عليه بما سمع منه من قذفه لرجل بما يجب له
به عليه حد أو أدب. والثاني: شهادته عليه بما سمع منه من إقراره على نفسه
لرجل بحق. والثالث: شهادته عليه بما سمع منه من شهادته على غيره، فأما
شهادته عليه بما سمعه منه من قذفه لرجل بما يجب له به عليه حد أو أدب، فلا
اختلاف في أن شهادته عليه جائزة، وأما شهادته عليه بما سمع منه من إقراره
على نفسه لرجل بحق، ففي ذلك قولان: أحدهما: أنه لا يشهد ولا تجوز شهادته إن
شهد، وهو أحد قولي مالك في
(10/233)
المدونة، وقول ابن أبي حازم، وابن الماجشون
وروايته عن مالك في المدنية، ومثله لمالك في كتاب ابن المواز، قال: لا يشهد
الرجل على الرجل بما سمع من إقراره على نفسه دون أن يشهده على ذلك، إلا أن
يكون قاذفا. والثاني: أن شهادته جائزة، وهو أحد قولي مالك في المدونة،
واختيار ابن القاسم فيها، وأما شهادته عليه بما سمع منه من شهادته على غيره
بحق أو قذف أو زنا، فلا اختلاف في أنه لا يجوز له أن يشهد على شهادته بما
سمع منه دون أن يشهده، فإن شهد لم تجز شهادته، وحد إن كان شهد على شهادته
في زنا على اختلاف في ذلك، وقد ذكرناه في غير هذا الكتاب، واختلف إن سمعه
يؤديها عند الحاكم، أو كان هو الحاكم فشهد بها عنده أو سمعه، يشهد غيره على
شهادته، ولم يشهده هو، فالمشهور أن شهادته على شهادته جائزة، وهو قول ابن
القاسم في هذه الرواية ورواية حسين بن عاصم عنه في بعض روايات العتبية من
هذا الكتاب، والذي يأتي على قياس قوله في المدونة في إجازة شهادة الرجل على
الرجل، بما سمع منه إذا استوعب كلامه، وإن لم يشهده، وقد قيل: إنها لا
تجوز، وهو الذي يأتي على قياس أحد قولي مالك في المدونة، ورواية ابن
الماجشون عنه في المدنية، وما حكاه ابن المواز عنه، وبالله التوفيق.
[مسألة: شهدوا على امرأة أنها أوصت بكذا فشهد
آخرون أنها كانت موسوسة]
مسألة وسئل عن قوم شهدوا على امرأة أنها أوصت بكذا وكذا في مرضها، وهي
صحيحة العقل، فشهد آخرون أنها كانت موسوسة؟ فقال: أرى أن تثبت شهادة الذين
شهدوا في الوصية، وتطرح شهادة الذين شهدوا أنها موسوسة.
قال الإمام القاضي: هذه مسألة قد مضى التكلم عليها في آخر نوازل سحنون، فلا
معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
(10/234)
[مسألة: يكون
عدوا لرجل فشهد له وعليه بشهادة]
مسألة قال: وسئل عن الرجل يكون عدوا لرجل، فشهد له وعليه بشهادة، أتجوز له
وعليه، أم لا تجوز له، ولا تجوز عليه، كان ذلك في شهادة واحدة أو في شهادات
مفترقة؟ قال: يجوز له، ولا يجوز عليه إن كان هذا في شهادات مفترقة، وإن كان
في شهادة واحدة، لم يجز له ولا عليه.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله: إنه يجوز له، ولا يجوز عليه إن كانت
الشهادتان مفترقتين؛ لأن شهادة الرجل تجوز لعدوه، ولا تجوز عليه، ولا تجوز
له ولا عليه إن كانت الشهادة واحدة؛ لأن شهادة الرجل على عدوه لا تجوز لأنه
متهم فيها، وإذا سقط بعض الشهادة للتهمة بطل جميعها على المشهور في المذهب،
وقد قيل: إنها يجوز منها ما لا تهمة فيه، وهو قول أصبغ في نوازله حسبما
بيناه فيها، وبالله التوفيق.
[مسألة: شهادة ابن خمس عشرة سنة]
مسألة قال ابن القاسم: لا تجوز شهادة ابن خمس عشرة سنة، إلا أن يحتلم حتى
يبلغ ثمان عشرة سنة، فإذا بلغها جازت شهادته، وإن لم يحتلم، وقال ابن وهب:
تجوز شهادة الغلام إذا أتى عليه خمس عشرة سنة، وإن لم يحتلم إذا كان عدلا؛
لأن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أجازهم في القتال يوم الخندق، ولم يجز
ابن أربع عشرة سنة يوم أحد، وكان أحد قبل الخندق بسنة.
قال محمد بن رشد: قد روي عن ابن القاسم أنه لا تجوز شهادته إذا لم يحتلم
حتى يبلغ سبع عشرة سنة، ففي الحد الذي يحكم به لمن لم
(10/235)
يحتلم بحكم من احتلم ثلاثة أقوال ترجع إلى
قولين؛ أحدهما: أنه لا يحكم له بالبلوغ إذا لم يحتلم حتى يبلغ من السن ما
لا يجاوزه أحد في الغالب، إلا احتلم وهو السبعة عشر عاما، أو الثمانية عشر
عاما. والثاني: أنه يحكم له بالبلوغ إذا بلغ من السن سن من قد يحتلم من
الناس، وإن لم يكن ذلك غالبا، فأول سن الاحتلام خمسة عشر عاما، وآخره سبعة
عشر عاما، أو ثمانية عشر عاما، فيحكم له بالبلوغ عند ابن وهب ببلوغ أول سن
الاحتلام، ولا يحكم له به عند ابن القاسم إلا ببلوغ آخره في جميع العبادات
قياسا على الشهادات؛ لأنها من العبادات التي خاطب الله عباده بها حيث يقول:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ}
[النساء: 135] ، وقوله: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا}
[البقرة: 282] ، وقوله: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ} [البقرة: 283] ،
وهو مصدق فيها إذا ادعى أنه لم يحتلم، كما يصدق في العبادات التي بينه وبين
خالقه من الصلاة والصيام وما أشبه ذلك.
واختلف هل يصدق أنه لم يحتلم فيما يتعين عليه من الحقوق والحدود في بدنه،
فقيل: إنه لا يصدق في ذلك، وقيل: إنه يصدق فيه، وإلى هذا يرجع عندي اختلاف
قول مالك في المدونة في وجوب إقامة الحد على من أنبت وإن لم يحتلم؛ لأن
الإنبات يكون عند أول سن الاحتلام، فله حكمه، وقد قيل: إن اختلاف قول مالك
في المدونة في وجوب الحد على من أنبت، ولم يحتلم لا يرجع إلى التصديق في
الاحتلام، وأنه على ظاهره في وجوب الحد بالإنبات، ولزوم جميع العبادات له،
وإن أحد قولي مالك في وجوب الحد على من أنبت، وإن لم يحتلم يأتي على قياس
قول ابن وهب في إجازة شهادة من بلغ خمس عشرة سنة ولم يحتلم، وهو بعيد؛ لأن
قول ابن وهب شذوذ، وحجته بالحديث ضعيفة، فقد قال ابن عبد الحكم وغيره في
غير العتبية: إنه إنما أجازه؛ لأنه
(10/236)
رآه مطيقا للقتال، ولم يسأله عن سنه، فلا
دليل فيه على أنه حد للبلوغ.
وإن ادعى الشاهد قبل أن يبلغ أقصى سن الاحتلام في الغالب أنه قد احتلم لم
يصدق؛ لأنه يتهم في إجازة شهادته بخلاف الحدود والعبادات إذا ادعى أنه لم
يحتلم، فيصدق في العبادات قولا واحدا؛ لأنه فيما بينه وبين خالقه، وفي
الحدود على اختلاف، فوجه القول بتصديقه ما جاء من أن الحدود تدرأ بالشبهات،
ووجه القول بأنه لا يصدق اتهامه في إسقاط الحد عن نفسه، وحد جواز الشهادة
حد بتوجه الخطاب، ولزوم التكليف؛ لأن من لم يتوجه إليه الخطاب ولا لزمه
التكليف، فليس بمتحرز في شهادته؛ إذ ليس يأثم ولا يجرح في الكذب فيها
لارتفاع العلم عنه، ولا تجوز شهادة من لا يتحرج في عبادته.
[مسألة: الشهادتان في مجلس واحد ولفظ واحد
اختلفا فيه]
مسألة قال: ولو أن رجلا شهد له أن عند عبد الله عشرة دنانير، وشهد شاهد آخر
أن له على عبد الله عشرين دينارا قال: يحلف مع كل شاهد يمينا، وتكون له
العشرون والعشرة، ويأخذ منه ثلاثين.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأن قول. أحد الشاهدين له عنده خلاف
قول آخر له عليه؛ لأن لفظة عنده، تقتضي الأمانة، ولفظة عليه تقتضي الذمة،
فكل واحد منهما شهد له على عبد الله بغير ما شهد له به عليه الآخر، فله أن
يحلف مع كل واحد منهما، ويستحق الثلاثين، وإن شاء أن يحلف مع أحدهما، ويرد
اليمين على المطلوب فيما شهد به الشاهد الآخر، وإن شاء أن يرد اليمين على
المطلوب في الجميع، وليس له أن يأخذ العشرة دون يمين؛ إذ لم يجتمع له عليها
الشاهدان بخلاف إذا شهد أحدهما أن له عليه عشرة، وشهد الآخر أن له عليه
عشرين، هذا له أن يأخذ العشرة دون يمين؛ لاجتماع الشاهدين عليهما، وإن شاء
أن يحلف مع
(10/237)
الشاهد الذي شهد له بالعشرين ويأخذها، وهذا
إذا كانت الشهادتان في مجلس واحد ولفظ واحد، اختلفا فيه فقال أحدهما: إنه
أقر له بعشرة، وقال الآخر: بل أقر له بعشرين، وإن كانت الشهادة في مجلسين،
فهما حقان، وله أن يحلف مع كل واحد منهما، ويستحق ما شهد له به، ولو قال
الشاهدان اللذان شهد أحدهما: أن له عنده عشرة دنانير، وقال الآخر: إن له
عليه عشرين دينارا: إنها شهادة واحدة لبطلت شهادتهما، إن زعم رب الحق أنهما
حقان مختلفان، وإن زعم أن أحدهما محق حلف مع الذي ادعى أنه محق، وأخذ ما
حلف عليه، وقد مضى في نوازل سحنون بيان هذا في الشاهدين، يشهد أحدهما لرجل
ببغل، والآخر بحنطة، ولا فرق بين المسألتين، وبالله التوفيق.
كمل كتاب الشهادات بحمد الله وحسن عونه.
(10/238)
|