البيان
والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة [: كتاب
السداد والأنهار] [مسألة: الماء يكون
بين الرجلين فتهور البئر فيقال لأحدهما اعمل ولك الماء كله]
(10/239)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وصلى الله على من لا نبي بعده، ولا شفيع نرجوه سواه، سيدنا محمد
من سماع ابن القاسم من مالك من كتاب الرطب باليابس قال سحنون: أخبرني ابن
القاسم عن تفسير قول مالك في الماء يكون بين الرجلين، فتهور البئر، فيقال
لأحدهما: اعمل ولك الماء كله، أو اعمل مع صاحبك إن كل أرض كانت مشتركة لم
يقتسمها أهلها من نخل أو أصول أو أرض فيها زرع زرعوه جميعا، فانهدمت أو
تهورت البئر، فإنه يقال لصاحبه إذا كان بينهما الأصل: اعمل مع صاحبك، أو بع
حصتك من الأصل والماء، أو قاسمه الأصل، فخذ حصتك ويأخذ حصته، فيؤمر من أحب
أن يعمل عمل، ومن أحب أن يترك ترك، ومن عمل منهما كان له الماء كله حتى
يأتيه شريكه بما يصيبه من النفقة، فيرجع على حقه من الماء، وإن كان بينهما
زرع أو شجر مثمر في أرض لهما، فإن من أبى أن يعمل يجبر على ما أحب أو كره،
أو يبيع ذلك ممن يعمل معه، وأما كل أرض مقسومة أو شجر مقسومة، أو زرع
لرجلين في أرض مقسومة بينهما، إلا أن ماءهما واحد، فتهور البئر، وتنقطع
العين، فيأبى أحدهما أن يعمل، ويرضى بهلاك زرعه أو شجره أو أصوله، فإن ذلك
له، ولا يكلف النفقة معه، ويقال للآخر: اعمل ولك الماء
(10/241)
كله إلا أن يأتي شريكه بالذي يصيبه من
النفقة في حصته، فيرجع على حقه من الماء، وإنما الشريكان في الأصول والزرع
إذا انهارت البئر بمنزلة الشريكين في الدار تنهدم، فيأبى أحدهما أن يبني،
ويريد الآخر البنيان فيقال له ابن مع صاحبك، أو قاسمه العرصة، فما صار له
بنى فيه، وما صار لك صنعت فيه ما شئت، وكذلك الأصول والزرع إذا كان بين
الرجلين، قال سحنون: كان ابن نافع يقول والمخزومي: إنما هذا في كل بئر ليس
عليها حياة لا زرع ولا نخل ولا غيره، فأما كل بئر عليها حياة أو عين، فتهور
فيأبى أحدهما أن يعمل، فإنه يجبر على أن يعمل معه أو يبيع نصيبه ممن يعمل
معه بمنزلة السفل، يكون لرجل والعلو لآخر فينهدم، فإن صاحب السفل يجبر على
أن يعمل، فإن أبى بيع عليه.
قال محمد بن رشد: إذا كان للشريكين في الأرض زرع بينهما قد زرعاه جميعا،
فلا تجوز قسمته مع الأرض، والواجب في ذلك إذا أرادا قسمة الأرض أن يقتسماها
دون الزرع، ويبقى الزرع مشتركا بينهما إلى أن يحصداه ويدرساه، ويقتسماه
بالكيل، فقوله في أول هذه المسألة إن كل أرض كانت مشتركة لم يقتسمها أهلها
من نخل أو أصول أو أرض فيها زرع زرعوه جميعا، فانهدمت البئر أو تهورت، فإنه
يقال لصاحبه إذا كان بينهما الأصل: اعمل مع صاحبك، أو بع حصتك من الأصل
والماء، أو قاسمه الأصل، فخذ حصتك، ويأخذ حصته، فيؤمر من أحب أن يعمل عمل،
ومن أحب أن يترك ترك، ومن عمل منهما كان له الماء كله حتى يأتيه شريكه بما
يصيبه من النفقة، فيرجع على حقه من الماء، معناه إذا كان الزرع قد استغنى
عن الماء، وإنما يحتاج إلى سقي الأرض بعد حصاد الزرع، فأراد أحدهما إصلاح
البئر ليسقيا بمائها الأرض بعد حصاد الزرع منها، وأبى الآخر من
(10/242)
ذلك، فحينئذ يكون ما قال من أنه يقال للآبي
منهما: اعمل مع صاحبك، أو بع حصتك من الأصل والماء، أو قاسمه الأصل بمنزلة
إذا لم يكن في الأرض زرع سواء، وقال: إنه يقال للآبي منهما: إما أن تعمل مع
صاحبك، أو تبيع حصتك من الأصل، أو تقاسمه إياه، ولم يقل إذا أبى من الثلاثة
الأوجه كلها ماذا يحكم به عليه منها، والذي يحكم به عليه منها القسمة، فكان
صواب الكلام أن يقال يقال للآبي منهما: لا بد لك من أن تقاسم شريكك، إلا أن
تعمل معه، أو يبيع حصته، فإن باع حصته، وأبى المشتري أن يعمل قيل له ما قيل
للبائع: لا بد لك من أن تقاسم شريكك، أو تعمل معه أو تبيع حصتك.
وقوله في الرواية بعد ذلك وإن كان بينهما زرع أو شجر مثمر في أرض لهما، فإن
من أبى أن يعمل يجبر على ما أحب أو كره، على أن يعمل أو يبيع ذلك ممن يعمل
معه، معناه إذا احتاج الزرع أو الثمر إلى السقي، وهو صحيح؛ إذ لا يمكنهما
قسمة ذلك مع الأرض، وقال: إن من أبى أن يعمل يجبر على ما أحب أو كره على أن
يعمل أو يبيع ذلك ممن يعمل، ولم يقل إذا أبى منهما جميعا على أيهما يجبر
منهما، وفي ذلك اختلاف، قيل: إنه يجبر على أن يعمل معه، وقيل: إنه يجبر على
أن يبيع ممن يعمل معه، وهو قول ابن القاسم في رسم الكبش، من سماع يحيى،
وسيأتي القول على ذلك هنالك إن شاء الله.
وقد قيل: إن البيع على هذا الشرط لا يجوز ويباع عليه من حظه بقدر ما يلزمه
من العمل فيما بقي من حقه بعدما بيع عليه منه، وهو قول مالك في رسم الصلاة،
من سماع يحيى، من كتاب الأقضية، وأصح القولين في النظر، وقد قال سحنون: إن
البيع على الشرط إنما جاز على وجه الضرورة إذا لم يكن للبائع مال، وليس
قوله ببين؛ إذ لا ضرورة تدعو إلى ذلك؛ لأنه يقدر على أن يباع عليه من حظه
دون شرط بقدر ما يلزمه من الإنفاق في عمل ما بقي من نصيبه، وقد ذكرنا ذلك
في رسم الكبش، من سماع يحيى، من كتاب الأقضية.
وأما الأرض المقسومة، فإن لم يكن عليها حياة فلا اختلاف في أن الآبي لا
يلزمه العمل مع صاحبه،
(10/243)
ويقال لصاحبه: اعمل ولك الماء كله، أو ما
زاد تعمله إلى أن يأتيه صاحبه الآبي بما يصيبه من النفقة، ويدخل في كون
الماء له إلى أن يأتيه شريكه بحظه من النفقة اختلاف بالمعنى من مسألة نوازل
عيسى بن دينار بعد هذا من هذا الكتاب.
وأما إذا كان عليها حياة فقال ابن القاسم ذلك بمنزلة إذا لم يكن عليها حياة
سواء، وقال ابن نافع والمخزومي: إن الشريك في العين أو في البئر يجبر على
أن يعمل معه، أو يبيع نصيبه ممن يعمل معه بمنزلة العلو يكون لرجل والسفل
لآخر فينهدم، وهو تنظير غير صحيح؛ إذ لا يقدر صاحب العلو أن يبني علوه حتى
يبني صاحب السفل سفله، ويقدر الذي يريد السقي بماء البئر المشتركة بينهما
إذا انهدمت أن يصل إلى ما يريده من السقي بأن يصلح البئر، ويكون أحق بجميع
الماء إلى أن يأتيه صاحبه بما ينوبه من النفقة، فقول ابن القاسم أصح من قول
ابن نافع والمخزومي، والله أعلم، وبه التوفيق.
[: الكلأ يختلف باختلاف مواضعه]
ومن كتاب أوله أخذ يشرب خمرا قال: وسئل عن الرجل تكون له الأرض فيها العشب،
فيريد أن يحميها، أترى ذلك له؟ قال: نعم؛ إذا كان له بها حاجة، وإن لم تكن
له بها حاجة، فلا أرى ذلك له.
قال محمد بن رشد: الحكم في الكلأ يختلف باختلاف مواضعه، ومواضعه تنقسم على
قسمين؛ أحدهما: أن يكون في أرض غير متملكة. والثاني: أن يكون في أرض
متملكة، فأما إذا كان في أرض غير متملكة مثل الصحاري والبراري والفيافي،
فلا اختلاف في أن الناس كلهم فيه سواء، ليس لأحد منهم أن يمنعه، ولا أن
يبيعه، وهو قائم في موضعه؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «لا يمنع الكلأ» ، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-: «لا يمنع فضل الماء ليمنع به الكلأ» ، فنهى عن منعه، وعما هو ذريعة إلى
منعه؛ لأن صاحب الماشية إذا
(10/244)
منع من الماء لم يقدر على الإقامة على
الرعي، فإن جاء رجلان لرعي كلأ هذا الموضع معا كانا فيه أسوة، واختلف إن
سبق أحدهما إليه، فنزله وجعل يرعى ما حوله أو حفر فيه بئرا، هل يكون أحق
بقدر حاجته من كلأ ذلك الموضع دون الفضل أم لا على ثلاثة أقوال؛ أحدها: أنه
لا يكون أحق بشيء من كلئه، والناس معه فيه أسوة، وهو نص قول ابن القاسم
وروايته عن مالك في كتاب حريم البئر من المدونة. والثاني: أنه يكون أحق من
الناس بقدر حاجته من كلأ، ذلك الموضع الذي نزله، وجعل يرعى ما حوله، وإن لم
يحتفر فيه بئرا، وهو قول أشهب، فرآه أحق بالسبق إلى ذلك الموضع والنزول
فيه، ومعناه إذا انتجع إليه، وقصده من بعد، وأما إذا مر به فنزله، فلا يكون
لمجرد سبقه إليه أحق بمقدار حاجته من كلئه، والله أعلم، وقد تئول أن قول
أشهب ليس معناه أنه جعله بمجرد السبق إلى النزول في ذلك الموضع أحق من
الناس بقدر حاجته من كلئه، وإنما معناه أنه جعل رعيه لكلأ ذلك الموضع إحياء
له؛ لأنه لما رعاه صار له عليه يد، فيكون أحق بما يحدث فيه من الكلأ مرة
أخرى، إلا أن يفضل عن حاجته منه فضل، فيكون الناس في الفضل أسوة، ولا
اختلاف في الفضل على حال. والقول الثالث: أنه لا يكون أحق بقدر حاجته من
كلأ ذلك الموضع الذي سبق إليه بالنزول، وإن رعاه إلا أن يحفر فيه بئرا،
فيكون أحق بقدر حاجته من الكلأ، كما يكون أحق بقدر حاجته من الماء، وهو
ظاهر قول المغيرة وأعدل الأقوال وأولاها بالصواب؛ لأنه لا يقدر على المقام
على الماء إذا لم يكن له في ذلك الموضع مرعى، فتذهب نفقته في البئر باطلا،
وكذلك لو سبق بالنزول في ذلك الموضع، فبنى فيه بنيانا، أو أنفق فيه نفقة؛
لوجب على قياس هذا أن يكون أحق بقدر حاجته من كلأ ذلك الموضع، من غيره؛
لئلا تذهب نفقته باطلا، وقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «لا ضرر ولا ضرار» فمن الضرر
(10/245)
البين أن يدخل عليه غيره في قدر حاجته من
كلأ الموضع الذي أنفق فيه نفقته، وأما إذا كان الكلأ في أرض متملكة، فإن
الأرض المتملكة تنقسم في ذلك على أربعة أقسام؛ أحدها: أن تكون محظرة، قد
حظر عليها بحيطان كالجنات والحوائط. والثاني: أن تكون غير محظرة إلا أنها
حماه ومروجه التي قد بورها للمرعى، وترك زراعتها من أجل ذلك. والثالث:
فدادينه وفحوص أرضه التي لم يبورها للمرعى، وإنما ترك زراعتها لاستغنائه عن
زراعتها، وليجمها للحرث، فنبت فيها الكلأ. والرابع: العفا والمسرح من أرض
قريبة، فأما الأرض المحظرة التي قد حظر عليها كالحوائط والجنات، فلا اختلاف
فيما كان فيها من الكلأ أن صاحبه أحق به، له أن يبيعه ويمنعه احتاج إليه أو
لم يحتج إليه، وليس لأحد الدخول عليه، في حائطه لرعي، ولا احتشاش إلا
بإذنه، وأما العفا والمسرح من أرض قريبة، فلا اختلاف في أنه لا يبيعه، ولا
يمنع الناس عما فضل من حاجته منه، إلا أن يكون عليه في تخلص الناس إليه
بدوابهم ومواشيهم ضرر من زرع يكون له حق إليه، فيفسد عليه بالإقبال عليه
والإدبار، وأما الأرض التي بورها للمرعى، وترك الانتفاع بزراعتها من أجل
ذلك، فقيل له أن يمنع إن احتاج إليه ليرعاه، ويبيع إن لم يحتج إليه ممن
يرعاه أو يحتشه، وهو مذهب ابن القاسم وابن الماجشون، فإن لم يحتج إليه ولا
وجد من يبيعه منه جبر
(10/246)
على أن يخلي بين الناس وبينه، ولا يباح له
أن يمنع الناس منه، ويترك حتى ييبس ويفسد، وقيل: إن له أن يمنع إن احتاج
إليه، وليس له أن يبيع، وهو قول أشهب، وأما فحوص أرضه وفدادينه التي لم
يبورها للمرعى، فقال ابن القاسم وأشهب: له أن يمنع إن احتاج، وليس له أن
يبيع إن لم يحتج إليه، وقال ابن الماجشون: له أن يمنع إن احتاج، وأن يبيع
إن لم يحتج إليه، فأشهب يرى أنه ليس له أن يبيع مراعي أرضه، كان قد بورها
للكلأ، أو لم يبورها لذلك، وابن الماجشون يرى أن له أن يبيع مراعي أرضه،
كان قد بورها للكلأ، أو لم يبورها لذلك، وابن القاسم يفرق في إجازة البيع
له إذا استغنى عنه بين الأرض التي بورها للمرعى، وبين التي لم يبورها
للمرعى، فتحصل في مجموع الطرفين ثلاثة أقوال، وفي كل طرف منها على انفراده
قولان.
وقد اختلف فيما وقع في كتاب حريم البئر من المدونة من قول مالك، إذا كانت
لرجل أرض، فلا بأس أن يمنع كلأها إذا احتاج إليها، وإلا فليخل بين الناس
وبينه، ومن قوله فيه: لا بأس أن يبيع الرجل خصب أرضه ممن يرعاه عامه ذلك،
بعد أن ينبت، ولا يبيعه عامين ولا ثلاثة، فقيل: إن ذلك اختلاف من قوله، مرة
رأى أن للرجل أن يبيع خصب أرضه، كان قد وقفها للمرعى، أو لم يوقفها له، مثل
قول ابن الماجشون، ومرة رأى أنه ليس له أن يبيعه كان قد وقف الأرض للمرعى،
أو لم يوقفها له، مثل قول أشهب، وقيل: ليس ذلك اختلافا من قوله، ومعناه أنه
فرق في ذلك بين الأرض التي وقفها للمرعى، والتي لم يوقفها له، مثل قول ابن
القاسم، وهو تأويل عيسى بن دينار في نوازله بعد هذا من هذا الكتاب، وبالله
التوفيق.
[: القيمة في العروض المستهلكة]
ومن كتاب أوله مرض وله أم ولد فحاضت وقال مالك في خليج لرجل يجري تحت جدار
لرجل آخر، فجرى السيل فيه فهدمه، فقال صاحب الحائط لصاحب الخليج:
(10/247)
ابن لي حائطي، وقال الآخر: لا أبنيه، فقال
مالك: أريتك لو أراد صاحب الحائط أن يسقي به أكان يدعه؟ قال: لا، قال: فإني
أرى أن يقضى ببنيانه على صاحب الخليج الذي أفسد حائط الرجل.
قال محمد بن رشد: إنما وجب على رب الخليج بناء الحائط؛ لأنه هو الذي ساق
الماء فيه، فأشبه سائق الدابة في وجوب ضمان ما وطئت عليه، فإذا كان لرب
الحائط أن يسقي به سقط الضمان عن صاحب الخليج؛ لأن رب الحائط قد ساق الماء
فيه معه، فلم ينفد على صاحب الحائط فيما صنعه، وإنما قال: إنه يقضى ببنيانه
على صاحب الخليج، ولم يقل: إنه يلزمه قيمته على أصل المذهب في وجوب القيمة
في العروض المستهلكة؛ إذ لا قيمة له على انفراده، فإنما يقوم بأن يقول: كم
قيمة جميع الحائط قبل أن ينهدم هذا الجدار منه؟ وكم قيمته والجدار مهدوم؟
فتكون قيمة الجدار على الصفة التي كان عليها من البلاء ما بين القيمتين،
وقد لا يكون فيما بين القيمتين، ما يقام به الحائط جديدا، فوجب أن يكون على
المستهلك للحائط بإجراء الماء في الخليج ما يبنى به الحائط جديدا؛ إذ لا
يتحصن لصاحب الحائط حائطه إلا بذلك، وهو معنى
(10/248)
قوله: إنه يقضى ببنيانه على صاحب الخليج؛
لأن المراد بذلك أن يكون عليه إجارة الأجراء في بنيانه، وإجارة من يقوم
بولاية بنيانه، فيستأجر الأجراء وما يحتاج إليه في ذلك من المواعن والآلات،
أو يلي هو ذلك بنفسه، فلا يكون عليه سوى الأجر.
وإلزام المستهلك في هذه المسألة أكثر من قيمة ما استهلك شبيه بما قالوا
فيمن استهلك، فرد خف لرجل أنه لا يلزمه قيمته على انفراد، وإنما يلزمه ما
نقص من قيمتهما جميعا، وكان يمضي لنا عند من أدركنا من الشيوخ أن هذه
المسألة من المسائل التي قضى فيها بالمثل في العروض، كشروى الجلود في مسألة
الذي باع البعير الذي قام عليه واستثنى جلده، فاستحياه المبتاع، وكرفو
الثوب في مسألة الذي خرق ثوبا لرجل خرقا يسيرا، وليس ذلك بصحيح؛ إذ لم يقض
على مستهلك الحائط بمثله في صفته من البلاء؛ إذ لا يمكن ذلك، ولا يصح فيكون
كمسألة شروى الجلد، فأما مسألة الرفو فليس بقضاء بالمثل؛ لأنه لم يستهلك له
رفوا، وإنما خرق له ثوبا صحيحا لا رفو فيه، فلا معنى للمسألة إلا ما ذكرناه
فيها، وبالله التوفيق.
[: إقطاع الرجل الرجلَ العين من واديه هبة من الهبات]
من سماع أشهب وابن نافع من مالك من كتاب الأقضية الثاني قال سحنون: قال
أشهب وعبد الله بن نافع: سئل مالك عن واد كان لرجل، فأقطع رجلا عينا في
الوادي، فمات القاطع
(10/249)
والمقطع، فقام ولد المقطع، فأرادوا الرفع
في العين، فأبى ابن القاطع، وليس يعرف كيف أقطعهم العين، إلا أنها في
أيديهم منذ ستين سنة، فقال مالك: أقطعهم عينا لا هم أحدثوا فيها شيئا
بحضرتهم ثم جاءوا يخاصمونهم، فيقولون: قد أحدثنا وأنتم تنظرون، فهم يريدون
أن يأخذوا الوادي كله، فليس هكذا يكون، وكذلك لو أعطى رجل رجلا بيتا، فأي
بيت هو وما ذرعه؟
قال محمد بن رشد: إقطاع الرجل الرجلَ العين من واديه هبة من الهبات، تفتقر
إلى ما تفتقر إليه الهبات من حيازة الشيء الموهوب في صحة الواهب، فالمعنى
في هذه المسألة أنه أقطعه من واديه عينا لم يسم له موضعا، ولا حد له
مقدارا، فحاز منه قدرا ما في موضع ما، وبقي في يديه ستين سنة بعد موت
القاطع، ثم أراد أن يرفع العين إلى أرفع من موضعه ليستكثر فيه من ماء
الوادي، فلم ير ذلك لهم؛ إذ لم يفعلوه في حياة القاطع، ولا بعد موته بحضرة
الورثة منذ مدة تكون حيازة عليهم، وضعف وجوب ذلك لهم بما ذكره من أن القاطع
لم يحد لما أقطعه قدرا معلوما، يقول: فهو لو حد له قدرا معلوما فلم يستوفه
في حياته لم يكن له أن يأخذه بعد وفاته، فأحرى إذ لم يحد له حدا ألا يكون
له أن يستزيد فيه بعد وفاته شيئا، هذا معنى هذه المسألة عندي، وقوله: لا هم
أحدثوا فيها شيئا بحضرتهم، ثم جاءوا يخاصمونهم فيقولون: قد أحدثنا وأنتم
تنظرون، معناه لا هم أحدثوا فيها شيئا بحضرتهم، فتكون لهم بذلك حجة عليهم
في مخاصمتهم إياهم، وبالله التوفيق.
[مسألة: حريم الآبار والعيون]
مسألة وسئل عن حريم الآبار والعيون قال: إنما الحريم في الفلوات التي ليست
لأحد، فأما الرجل يحتفر في حقه البئر والعين، فذلك له إلا أن يضر ذلك بجاره
ضررا بينا، فإن الرجل يعمد إلى
(10/250)
بئر جاره أو عينه، فيحتفر إليها في حده
ليستفرغ ماءها، ويصيره إلى بئره، فإذا كان ذلك ضررا بينا، فلا أرى ذلك له،
وأما الحريم في الفلوات فليس له أمد معلوم، وذلك يختلف، وربما يصير ذلك إلى
الإضرار، فما كان لا يضر فلا بأس به، وله أن يحتفر، وذلك يختلف، أما الأرض
الخشخاش الصخور الشديدة، فإن الحفر في ذلك لا يكاد يضر صاحبه، وإن تقاربت
الآبار في ذلك، وأما الأرض البطاح اللينة، فإنها إذا تقاربت انتشف بعضها
مياه بعض، فأرى أن يبعد عنه بقدر ما لا يضر بمائه، وليس لذلك حد معلوم من
الأذرع، إنما ينظر في ذلك إلى الإضرار بأهل تلك الآبار، قال ابن نافع: وقد
بلغني في حريم البئر العادية خمسين ذراعا، والبئر البادية خمسة وعشرون
ذراعا، أخبرنا به ابن أبي ذؤيب، عن ابن شهاب.
قال محمد بن رشد: الأرض الخشخاش هي الأرض الرملة التي تسمع لها جلبة عند
المشي عليها، قال الخليل: الخشخشة صوت السلاح والينبوت والصخور الأرض
المصخرة، فيريد أن الأرض الرملة المصخرة
(10/251)
الشديدة بخلاف الأرض البطحاء اللينة في
انجلاب الماء إليها من قرب، وهذا مثل قوله في المدونة سواء، ومن الآبار
آبار تكون في أرض رخوة، وأخرى تكون في أرض صلبة أو في صفا، فإنما ذلك على
قدر المضرة بالبئر، فحريم الآبار عند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنما هو ما
يضر بها قرب أو بعد، ولا حد في ذلك، والحد المروي فيه عن ابن شهاب لا وجه
له في النظر والقياس، إلا أن يكون ذلك عن توقيف عن النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يجب الوقوف عنده.
وقوله في هذه الرواية: إلا أن يضر ذلك بجاره ضررا بينا، هو أن يستفرغ ماء
بئر جاره، وذلك خلاف لظاهر ما في المدونة إذ أطلق الضرر فيها من غير تقييد
بصفة، وابن كنانة يقول: إن له أن يحفر في داره بئرا، وإن أضر ذلك ببئر
جاره، وأشهب يقول: إنه إن كان يجد بدا من احتفار ذلك، وليس بمضطر إليه منع
من ذلك، وإن كان مضطرا كان له أن يحفر وإن أضر بجاره، فيتحصل في ذلك أربعة
أقوال: له أن يحفر وإن أضر حفره ببئر جاره، وليس له أن يحفر إذا أضر حفره
ببئر جاره، والفرق بين أن يستفرغ ماء بئر جاره أو لا يستفرغه، والفرق بين
أن يجد مندوحة عن الحفر أو لا يجد، وبالله التوفيق.
[: فيما قرب من العمران من الموات الذي يتشاح
الناس فيه]
ومن كتاب الأقضية الثالث وسئل مالك فقيل له: إن عاملنا أقطعنا أرضا
أربعمائة ذراع من حد كذا إلى حد كذا، فغبت عنها، فوثب عليها رجل فعمرها
وبنى فيها، ثم قدمت فأردت أخذها فقال: لا أراك
(10/252)
حزت ما قطع لك بعمارة ولا بناء حتى جاء
غيرك فعمر وبنى، يقطع أحدهم فيذهب ويدعها، ولا يعمرها حتى يريد منعها بذلك
شأن قطيعة هذا ضعيفة لم يحزها بعمارة ولا بناء حتى عمرها غيرك، فقال: إنما
عمرها وأنا غائب، فقال له: كم غبت؟ فقال: ثلاثة أشهر، فقال له: فما كان
هنالك أحد يعلمه أنك أقطعتها؟ فقال: لا أدري، فقال: وما عمارة هذا لها
مؤنة؟ فقال: إي؛ لعمري إن لها لمؤنة، بنى فيها حوانيت، فقال له: ما أرى
قطيعتك إلا ضعيفة، لم تحزها حتى عمرها غيرك، وأريت من أقطعك إياها؟ فقال:
والينا، فقال: وأريت واليكم أمر أن يقطع أحدا؟ ما أرى أمرك إلا ضعيفا،
وارفع أمرك إلى السلطان.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة أن العامل أقطعه الأربعمائة ذراع
من الأرض الموات فيما قرب من العمران، بدليل قوله بنى فيها حوانيت؛ إذ لا
تبنى الحوانيت في الفيافي والقفار، وقد اختلف فيما قرب من العمران من
الموات الذي يتشاح الناس فيه، فقيل: ليس لأحد أن يحييه إلا بقطيعة من
الإمام، فإن فعل نظر الإمام في ذلك، فإن رأى أن يقره له أقره، وإن رأى أن
يقره للمسلمين ويعطيه قيمة بنيانه منقوضا أو يأمره بنقضه فعل، وإن رأى أن
يقطعه غيره أقطعه، ويكون للأول قيمة بنيانه منقوضا، وهو قول مطرف وابن
الماجشون، وهو معنى ما في المدونة إذا قال فيها: إن ما قرب من العمران وما
يتشاح الناس فيه، ليس لأحد أن يحييه إلا بقطيعة من الإمام، وقيل: إنه إن
فعل أمضى ذلك الإمام مراعاة للخلاف، وهو قول أشهب، فعلى هذا القول تأتي
روايته هذه عن مالك في
(10/253)
هذه المسألة؛ لأن معنى ما ذهب إليه فيها أن
المقطع لما غاب عنها وتركها هذه المدة؛ دل ذلك من فعله على أنه قد سلمها
وترك حقه فيها، فوجب أن تكون للذي عمرها وأحياها ببناء الحوانيت فيها، وإن
لم يستأذن الإمام في ذلك على قياس قول أشهب، مراعاة للاختلاف في ذلك؛ إذ قد
قيل: إنه ليس على أحد أن يستأذن الإمام في إحياء موات قريب من العمران، ولا
ما بعد منه مع ضعف هذا الإقطاع؛ إذ ليس للعامل أن يقطع شيئا من الموات إلا
بإذن الإمام، وهذا إذا لم يعلم الثاني بإقطاعها للأول، ولو علم بذلك؛ لكان
متعديا، ولم يكن له إلا قيمة بنيانه منقوضا، وإن كانت عمارته إياها قبل أن
يحوزها الأول بعمارة، أو بنيان بعض؛ لأن للإقطاع حكما من الأحكام لا يفتقر
إلى حيازة على ما يأتي في رسم شراء الدور والمزارع من سماع يحيى من هذا
الكتاب، فليس قوله في هذه المسألة، لا أراك حزت ما قطع لك بعمارة ولا بناء
حتى جاء غيرك، فعمر وبنى بخلاف لما في سماع يحيى على ما ظنه أهل النظر،
فالعلة في سقوط حق الأول فيما أقطع عمارة الثاني له بعد تركه إياها، ومغيبه
عنه لما يظهر في ذلك من الرضا بتسليم حقه فيه لا ترك حيازته إياه بالعمارة
كما ظن بعض أهل النظر، ولو كان الإقطاع يفتقر إلى حيازة، لوجب أن يراعى في
ذلك موت المقطع، وذلك ما لا يصح بوجه من الوجوه؛ إذ لم يقطع ماله فيحتاج
إلى أن يحاز عنه في حياته وصحته، وفي قوله: وارفع ذلك إلى السلطان، مع أنه
قد رأى أمره ضعيفا دليل على القول بتصويب المجتهدين؛ لأن المعنى في قوله:
وارفع ذلك إلى السلطان، فعساه سيرى أمرك قريبا فيقضي لك به بخلاف ما أراه،
فلولا أنه يراه إن فعل ذلك باجتهاده مصيبا، وإن كان خلاف ما يراه هو
باجتهاده، لما ساغ له أن يأمره بالرفع إليه؛ لئلا يخطئ فيقضي له بخلاف الحق
عنده، وهذا نحو قوله في الأقضية من المدونة في الذي يرى خطه في ذكر حق، ولا
يذكر الشهادة أنه يؤديها، وإن كانت لا تنفع عنده، وبالله التوفيق.
(10/254)
[مسألة: الماء
الذي ينزل من السماء في كل زمان يستقر بالأرض]
مسألة وسئل عن قول الله عز وجل: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً
بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ
لَقَادِرُونَ} [المؤمنون: 18] أهو الخريف فيما بلغك؟ فقال: لا والله، بل
هذا في الخريف والشتاء في كل شيء ينزل الله من السماء ماء إذا شاء، ثم هو
على ذهاب به لقادر.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: إن ذلك في كل زمن من الأزمان، لا يخص ذلك
بالخريف دون غيره؛ لأنه ظاهر من عموم اللفظ، وموجود بالمعنى؛ لأن الماء
الذي ينزل من السماء في كل زمان يستقر بالأرض، فمنه ماء العيون والأنهار
والآبار، ولو شاء الله لأذهبه فهلك الناس جهدا وعطشا وجوعا؛ إذ لا نبات ولا
حياة إلا بالماء، قال الله عز وجل: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ
شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء: 30] ولا وجه لمن خصص ذلك بالخريف دون غيره من
الأزمان، ولعل الذي قال ذلك تأول أن الماء الذي ينزل بالخريف جل المنفعة به
إسكانه في الأرض للشرب والسقي عند الحاجة إليه؛ إذ لا يحتاج أكثر الأرض في
ذلك الوقت إلى سقي؛ إذ ليس بوقت سقي زرع، وليس ذلك بصحيح، بل ما ينزل من
السماء في كل زمان يستقر بالأرض لمنافع الناس، فجميع مياه الأرض من السماء،
ويروى أن في الأرض أربعة أنهار من الجنة، وهي: النيل، والفرات، وسيحان،
وجيحان، والجنة في السماء، وقد قيل: إن الماء الذي أخبر الله أنه أنزله من
السماء فأسكنه في الأرض، هو ماء الأربعة الأنهار التي ورد الخبر فيها أنها
من الجنة، وأن المطر النازل في الأرض إنما هو من البحر؛ بدليل قول
(10/255)
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-: «إذا نشأت بحرية ثم تشاءمت فتلك عين غديقة» وبدليل قول أبي ذؤيب الهذلي:
شربن بماء البحر ثم ترفعت ... متى لجج خضر لهن نئيج
وقد قال بعض أهل التأويل في قول الله عز وجل: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ
الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} [المائدة: 96] إن
طعامه كل ما نبت من الحبوب والثمار؛ لأنه إنما ينبت بما سقاه من ماء البحر،
وهو من التأويل البعيد، والصحيح أنه ما حسر عنه ماء البحر من صيده فمات على
الأرض؛ لأن ذلك مروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من
رواية ابن عباس، وقيل: طعامه ما ملح من صيده، وقال ابن عبد البر: القول بأن
ما ينزل من المطر هو ماء السماء من غير البحر، هو قول أهل العلم والدين،
والذي أقول به: إن تصحيح شيء من هذا، والقطع عليه من التخرص في علم الغيوب؛
إذ ليس في ذلك في
(10/256)
القرآن، ولا في شيء من السنن والآثار نص
جلي يوقف عنده، والذي نشاهده ونعلمه بالمعاينة نزول الماء من السحاب، ولا
ندري هل تسوقه من بحور الأرض أو من بحور السماء، أو هل يخلقه الله عز وجل
في السحاب عند نزوله، وكيفما كان فالقدرة فيه عظيمة، والاعتبار به واجب،
والشكر لله تعالى على إنعامه به على خلقه لازم، واختلف في قوله في هذه
الآية: {بِقَدَرٍ} [الحجر: 21] ، فروي عن ابن عباس أنه قال: ما عام بأكثر
مطرا من عام، ولكن الله تعالى يصرفه حيث يشاء وقرأ: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ
بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورًا}
[الفرقان: 50] ، وقيل: معناه مفترقا نثرا، وليس بمجتمع صبا، وهو أظهر،
والله أعلم.
[مسألة: بينهم بئر يسقون عليها فاقتسموها على
مناضح خمسة]
مسألة وسئل عن قوم كانت بينهم بئر يسقون عليها، فاقتسموها على مناضح خمسة
هكذا، وكل واحد منهم يسقي من منضحته، ثم إن بعضهم انقطع من ناحية منضحته
الماء، وارتفع تلقاءه التراب، فلا يقدر على أن يسقي شيئا، يرسل الدلو فيخرج
ولا ماء فيه، ومنهم من يسقي على حاله، أفيسقي معهم من مناضحهم، أم يكفوا
حتى يسقوا جميعا؟ فإنه قد دعا هو إلى ذلك فأبوا عليه، وقالوا له: اضرب
لنفسك، فقال مالك: إني لا أرى لمثل هذا فيه سنة بينهم جارية، فقيل له: قد
اختلف في ذلك، فقال: أرى أصوب ذلك أن يقضى عليهم أن يضربوا في البئر حتى
يسقوا جميعا.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: إنه إن لم يكن لهم سنة جارية بينهم من عرف
قد عرفوه، واستمر العمل عليه عندهم؛ وجب عليهم
(10/257)
جميعا أن ينقوا معه موضع منضحته، حتى يسقي
كما يسقون؛ لأن التراب إنما ارتفع تلقاء منضحته من نضحهم جميعا، فعليهم كنس
ما أثره نضحهم من ارتفاع التراب تلفا منضحة أحدهم، وبالله التوفيق.
[: معدن كان بين رجلين فعطلاه ثم جاء أحدهم إلى
والي المعدن فسأله أن يقطعه]
ومن كتاب الأقضية الأول
وسئل عن معدن كان بين رجلين فعطلاه وتركاه أربعة أشهر، ثم جاء أحدهم إلى
والي المعدن، فسأله أن يقطعه فأقطعه إياه، وأن لأهل المعادن قبلنا سنة،
فقال مالك: كتبت تسأل عن كذا وكذا، ولست أدري ما سنة أهل المعادن التي
ذكرت، فإن جاء أحدهما الإمام بعد تركهما إياه، فسأله أن يقطعه إياه فأقطعه،
فإني أرى إن كان شريكه الذي كان معه فيه أولا مقيما بالبلد فأقطعه شريكه،
فتركه يعمل، وينظر إن أجابه المعدن، وأدرك فيه نيلا جاءه، وقال: أنا معك
فيه كنت لك شريكا، وإن لم يجب وأكدى، فلست منه في شيء، فلا أرى ذلك له، وإن
كان جاءه حين أقطعه بحداثة ذلك قبل أن يعمل فيه، أو بعد ما عمل بيسير، فأرى
أن يدخل معه، وإن كان غائبا حين أقطع صاحبه، فأرى المعدن للذي أقطعه، ولا
أرى للغائب فيه شيئا، كيف يكون له فيه شيء إذا أقطعه شريكه، وهو لو أقطعه
غير شريكه لم يكن له فيه شيء، كتب به إلى صاحب المعدن.
قال محمد بن رشد: قوله: وسئل عن معدن كان بين رجلين معناه أنه كان بينهما
بقطيعة من الإمام لهما، وإقطاع الإمام المعادن ليس على
(10/258)
تمليك الأصل: وإنما هو على وجه الانتفاع
بالنيل، فللإمام إذا ترك المقطع المعدن الذي أقطع إياه أو غاب عنه أن يقطعه
غيره، وله إذا طال عمله به، وانتفاعه به، أن يقطعه سواه، وإن لم يتركه إلا
أن يقطعه إياه حياته، أو إلى أجل، فليس له أن يقطعه لغيره حتى يموت، أو حتى
يحل الأجل، ولم يبين في هذه الرواية إن كان قد طال عملهما في المعدن،
وانتفاعهما به قبل أن يعطلاه، ويتركا طولا لو شاء الإمام أن يخرجهما منه
جميعا ويقطعه سواهما، كان ذلك له أم لا، فقوله: إذا أقطعه أحدهما وشريكه
حاضر، فجاء بحدثان ذلك أن له الدخول معه؛ معناه عندي بعد يمينه أنه ما ترك
حقه فيه إن كان لم يطل عملهما فيه، وانتفاعهما به؛ لأنه إذا لم يطل عملهما
فيه، وانتفاعهما به، فليس للإمام أن يخرجهما منه، ولا أحدهما إلا برضاه،
ولو كان قد طال عملهما فيه، وانتفاعهما به؛ لما كان له الدخول معه، وإن جاء
بحدثان ذلك؛ إذ للإمام أن يخرجه منه، ويقطعه لغيره شاء أو أبى، وإنما يكون
للإمام إذا غاب الذي أقطعه المعدن أن يقطعه لغيره في الغيبة البعيدة، وأما
إذا سافر كما يسافر الناس فلا، هذا الذي ينبغي أن تتأول الروايات عليه،
واختلف إذا مات على ما مضى تحصيل القول فيه في سماع يحيى من كتاب الزكاة.
[مسألة: لا تباع مياه المواشي]
مسألة قال: ولا تباع مياه المواشي، وقال: وإنما يشرب بها، ويشرب بها أبناء
السبيل، ولا يمنع من أحد، قيل: فهل يصلح فيها عطاء؟ قال: لا.
قال الإمام القاضي: مياه المواشي هي الآبار أو المواجل، أو الجباب التي
يحفرها الرجل ويصنعها في البراري، أو في المهامه لماشيته؛ فيكون أحق بما
يحتاج إليه لماشيته، ويخلى بين الناس وبين الفضل؛ لقول النبي
(10/259)
- عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا يمنع فضل
الماء ليمنع به الكلأ» فقوله في هذه الرواية: إنما يشرب بها أهلها؛ يريد
أهلها، وليشرب أبناء السبيل، ولا يمنع أحد؛ ليس على ظاهره في تساوي حق أهل
الماء وغيرهم فيه، وإنما يريد أنه يشرب بها أهلها، ثم يشرب بها أبناء
السبيل، فالواو هاهنا على الترتيب لا على التشريك.
وقوله: ولا يمنع من أحد؛ يريد لا يمنع الفضل من أحد، فإن تشاح أهل البئر في
التبدئة بدئ الأقرب فالأقرب إلى حافرها، قلت ماشيته أو كثرت، وإن استووا في
القرب منه استهموا، فإن اجتمعوا والمارة والماء يقوم بهم كلهم بدئ أنفس أهل
الماء، ثم أنفس المارة، ثم دواب أهل الماء، ثم دواب المارة، ثم مواشي أهل
الماء، ثم مواشي الناس، وبدأ أشهب دواب المسافرين قبل دواب أهل الماء، وإن
لم يقم بهم كلهم وتبدئة أحدهم تجهد الآخرين بدئ من كان الجهد عليه أكثر
بتبدئة صاحبه، فإن استووا في الجهد فقيل: إنهم يتواسون في ذلك، وقيل: يبدأ
أهل الماء لأنفسهم ودوابهم، وأما إن لم يقم بهم كلهم، وخيف على البعض
بتبدئة البعض، فيأخذ أهل الماء لأنفسهم بقدر ما يذهب الخوف عنهم، فإن فضل
فضلٌ أخذ المسافرون لأنفسهم بقدر ما يذهب الخوف عنهم، فإن فضل فضلٌ أخذ أهل
الماء لدوابهم قدر ما يذهب الخوف عنهم، فإن فضل فضلٌ أخذ المسافرون لدوابهم
قدر ما يذهب الخوف عنهم، ولا اختلاف في هذا الوجه، والبئر والجب والماجل
سواء عند مالك.
وذهب المغيرة إلى أن لصاحب الماشية أن يمنع فضلة مائه، ووجه قوله أنه صدقه
في أنه احتفر لنفسه لا للصدقة من أجل أنه ليس بمعين بخلاف البئر، ولم يصدقه
مالك فيه كما لم يصدقه في البئر، ولو أشهد عند حفره للبئر أنه إنما يحفرها
لنفسه لا على وجه الصدقة؛ لكان له أن يمنع فضلة مائها، فالرجل فيما بينه
وبين الله في فضلة ماء البئر التي احتفرها في المهامه لماشيته على ما نواه
في حفرها، إن كان أراد به الصدقة، لم يجز له
(10/260)
أن يمنعه وأن يبيعه، وعلى هذا يحمل قوله في
المجموعة لا يجوز بيع ذلك، وإن كان احتفرها لنفسه، كان له أن يمنعه وأن
يبيعه، وعلى هذا يحمل قوله في المدونة أكره بيع ماء بئر الماشية، وقوله في
هذه الرواية: لاتباع مياه المواشي؛ معناه لا يباح لأربابها بيعها، ولا
يصدقون في أنهم احتفروها لأنفسهم، فعلى هذا التأويل تتفق الروايات، وهو
أولى من حملها على التعارض، والله الموفق.
[: لا يمنع نقع بئر ولا يمنع رهو ماء]
من سماع عيسى بن دينار من ابن القاسم من كتاب العرية قال عيسى: وسألته عن
رجل له ماء يسقي به، وفي الماء فضل يجري على قوم تحته في أرضهم فغرس الذي
تحته على ذلك الماء غروسا، ثم بدا لهذا الذي له أصل الماء أن يحفر له بركا
يحبسه فيها عنهم، قال: ليس له ذلك أن يحبسه عنهم.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، ليس له أن يحبسه عنهم لوجوه ثلاثة؛ أحدها:
قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يمنع نقع بئر،
ولا يمنع رهو ماء» ؛ لأن من أهل العلم من حمله على عمومه في جميع المياه
كلها كانت متملكة، أو غير متملكة، فلم يجيزوا لأحد أن يبيع فضلة مائه، ولا
أن يمنعه بحال، وهو قول يحيى بن يحيى في رسم أول عبد ابتاعه، من سماع يحيى
بعد هذا، ومنهم من تأوله في الماء يكون بين الشريكين يسقي هذا يوما وهذا
يوما، فيروي أحدهما زرعه أو نخله في بعض يومه، فليس له أن يحبس الماء عن
صاحبه بقية يومه، وهو معنى هذه المسألة، فهو في حبسه
(10/261)
عنهم على هذا الوجه داخل تحت النهي على كلا
التأويلين. والثاني قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا ضرر ولا ضرار»
؛ لأن من الضرر البين أن يمنعه ما لا حاجة له به فيضر به فيما لا منفعة له
فيه، وقد قيل: إن هذا هو الضرر؛ إذ قد اختلف في الضرر والضرار، فقيل: إنهما
اسمان لشيء واحد، وهو أن يضر الرجل بأخيه على وجه من الوجوه، وإن كان بعضه
أشد من بعض، وقيل: إن الضرر هو أن يضر بأخيه فيما له فيه منفعة، والضرار أن
يضر به فيما لا منفعة له فيه، أو فيما عليه فيه مضرة، وقيل: إن الضرار إنما
هو أن يضر بأخيه فيما عليه فيه مضرة، فيكون قد أضر بنفسه وبغيره، والضرر ما
عدا ذلك بأن يضر به فيما له فيه منفعة، أو فيما لا منفعة له فيه.
والثالث: أنه لما تركه يغرس على فضل مائه، فقد تعين له بذلك حق فيه، فليس
له إذا استغنى عنه أن يحبسه عنه، ولا أن يبيعه إلى أن يحفر بئرا أو يستنبط
عينا على ما يأتي بعد هذا في رسم البراءة، ويجري هذا على الاختلاف في
السكوت هل هو كالإذن أم لا، وأما إن غرس على فضل مائه دون علمه، فله أن
يبيعه إن وجد له ثمنا، ويكون هو أولى بالثمن الذي يبيعه به على ما قاله
عيسى بن دينار بعد هذا في رسم البراءة، إلا على قول من لم يجز بيع الماء
على حال، وليس له أن يحبسه عنه إذا لم يحتج إليه، ولا وجد له ثمنا لنهي
النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عن الضرر والضرار، وعن منع نقع البئر، ورهو
الماء، وبالله التوفيق.
[مسألة: الماء يكون بين الرجلين يعمل أحدهما
ويأبى الآخر]
مسألة وسئل عن الماء يكون بين الرجلين يعمل أحدهما، ويأبى
(10/262)
الآخر، فلما عمل نصف العمل أتاه الذي أبى
أن يعمل فقال: أنا أعمل الساعة معك، فإن خرج الماء أعطيتك نصف ما أنفقت،
وإلا فلا شيء لك، قال: ليس ذلك له، ولا يعمل معه حتى يعطيه نصف ما عمل،
ويستقبل العمل معه فيما بقي خرج الماء أو لم يخرج.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: إنه إنما كان مخيرا من أول بين أن يعمل معه
أو يتركه يعمل، فيكون أحق بالماء إن كان انقطع جميعه أو بما زاد بعمله، إن
كان لم ينقطع جميعه حتى يأتيه بنصف ما أنفق، فإذا أبى أن يعمل معه حتى عمل
بعض العمل، فليس له أن يعود إلى العمل معه حتى يعطيه نصف ما عمل، ألا ترى
أنه لو قال له من أول: اعمل نصف العمل وحدك، وأنا أعمل معك النصف الباقي،
فإن خرج الماء أعطيتك نصف ما عملت وحدك، وإلا لم يكن لك علي شيء لم يكن ذلك
له إلا برضاه، فكذلك إذا أراد أن يعمل معه بعد أن عمل وحده نصف العمل لم
يكن ذلك له، إلا أن يعطيه نصف ما عمل، وهذا بين إن شاء الله عز وجل، وبه
التوفيق.
[: تفقعت الأرض في جنانه عن عرق من أصل الشجرة
في جنان آخر]
ومن كتاب الثمرة وسئل ابن القاسم عن الرجل تفقعت الأرض في جنانه عن عرق من
أصل الشجرة في جنان آخر، لمن يكون ذلك العرق؟ قال ابن القاسم: إن كان فيه
لصاحب الشجرة منفعة إن قلعه،
(10/263)
غرسه في مكان آخر، فذلك له أن يفعله، وإن
كان ليس له فيه منفعة، ولا عليه فيه مضرة، فهو لصاحب الأرض، إلا أن يكون قد
بلغ، فهو إن قلع كان له ثمن لخشبه أو حطب، فإنه إن كان كذلك كان له على
صاحب الأرض ثمنه مقلوعا، قال عيسى: إلا أن يكون إقراره بحاله مضرا بأصل
الشجرة التي هو منها، فلا يكون ذلك له إلا برضا من صاحب الشجرة.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة، وقول عيسى تفسير لقول ابن القاسم
وتتميم له، قال ابن القاسم في المجموعة إلا أن يشاء الذي ظهرت في أرضه أن
يقطع عروقها المتصلة بشجر الأول حتى لا يضر بها، ويعطيه قيمتها مقلوعة فذلك
له، وهو أيضا تفسير لقول عيسى بن دينار وتتميم له، فالمسألة كلها بينة
صحيحة ليس فيها اختلاف ولا كلام، ومن حقه أن يقطع عروقها المتصلة بها، وإن
أضر ذلك بالشجرة التي هي منها؛ لأن له أن يقطع ما دخل في أرضه من عروق شجر
غيره كما له أن يقطع ما دخل في هواه من أغصان شجر غيره.
[: المعاملة في الرحى الخربة أو في موضعها من
الأرض بجزء منها]
ومن كتاب أوله رجل شهد على شهادة ميت وعن رحى بين ورثة قد خربت، فيقول
الورثة لرجل منهم: اعملها مناصفة، فإذا طحنت فلك النصف ولنا النصف، فعملها
حتى طحنت، هل يحل له النصف؟ أو يكون له قيمة ما عمل؟ قال ابن القاسم: إن
كانوا إنما يريدون نصف الغلة فلا يحل، وهو
(10/264)
حرام، وإن كان إنما يريدون أن للعامل نصف
الأرض ونصف الرحى فلا بأس به إذا كان عمل الرحى محدودا معلوما.
قال محمد بن رشد: لا اختلاف أحفظه في أن المعاملة في الرحى الخربة أو في
موضعها من الأرض بجزء منها [جائز] إذا كان العمل محدودا معروفا كالمغارسة
في الأرض بجزء منها قياسا على ما جوَّزته السنة من المساقاة، وليست بإجارة
منفردة ولا بجُعْل منفرد، وإنما هي سنةٌ على حيالها، وأصلٌ في نفسها أخذت
بشبهة من الإجارة والجعل فهي تشبه الإجارة في لزومها بالعمد، وتشبه الجعل
في أن العامل لا يجب له شيء حتى تطحن الرحى، فإن تلف البنيان قبل ذلك بهدم
أو غيره حتى لم يبق منه شيء كانت مصيبته منه، ولم يكن من حقه أن يعيده
ثانية، ولا لرب الأصل أن يلزمه ذلك، وإن كان بقي منه شيء كان من حقه أن
يعيده ثانية، ولم يكن لرب الأرض أن يلزمه ذلك إن أباه، ولا اختلاف أيضا
أحفظه في أن المعاملة على بناء الرحى الخربة بجزء من الغلة دون الأصل لا
تجوز ولا تحل؛ لأنه غرر؛ إذ قد «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - عن بيع الغرر» فإن وقع ذلك وأدرك قبل العمل فسخ، وإن لم يعثر
على ذلك إلا بعد العمل كان للعامل أجرة مثله فيما عمل، وكان عليه رد ما
اغتل، وبالله التوفيق.
[: يسدوا مصرف الوادي عن مرج الآخرين حتى يرجع
إليهم]
ومن كتاب النسمة وسئل ابن وهب عن القوم يكون لهم مرج يزرعون فيه، وللمرج
وادٍ فإذا كانت السيول سقاء مرجهم وإن ذلك الوادي
(10/265)
انصرف عن مرجهم إلى مرج غيرهم فهل [يحل]
لهم أن يسدوا مصرف الوادي عن مرج الآخرين حتى يرجع إليهم؟ قال: إن كان
الماء دخل أرضهم قبل أن ينصرف فهم أولى به حتى يسقوا به ما عندهم ثم يسرحوا
الفضل إلى إخوانهم حتى يسقوا ما عندهم، وإن كان الماء إنما انصرف عنهم قبل
أن يدخل شيئا من أرضهم فلا أرى لهم أن يقطعوه عن إخوانهم إلا أن يكون فيه
سعة لهم جميعا؛ لأن الماء غيث يسوقه الله إلى من يشاء، وقد قال الله تعالى:
{وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا} [الفرقان: 50] يريد
المطر، فإذا صرفه الله إلى قوم فلا ينبغي لأحد أن يقطعه دونهم إلا أن يكون
ذلك الماء وقع في أرضهم فهم أولى به حتى يسقوا ما عندهم، فأما أن ينقلوه من
مكان بعيد فيصرفوه إليهم دون من هو أقرب إليه منهم فلا، قال ابن القاسم
مثله.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة بينة صحيحة، والأصل فيها قول رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سيل مهزور ومذينب: «يمسك الأعلى
إلى الكعبين، ثم يرسل الأعلى إلى الأسفل» ؛ لأنهما واديان من أودية المدينة
يسيلان بالمطر، فقوله في هذه الرواية فهم أولى به حتى يسقوا ما عندهم يريد
والحد في ذلك أن يبلغ الماء في مرجهم إلى الكعبين على ما جاء في الحديث،
وقد اختلف إذا بلغ الماء إلى الكعبين هل يرسله كله إلى من تحته أو لا يرسل
إليه منه إلا ما زاد على الكعبين؟ فقال ابن
(10/266)
القاسم: يرسل جميعه، وقال مطرف وابن
الماجشون: لا يرسل منه إلا ما زاد على الكعبين، وهو الأظهر، وروى [علي بن]
زياد عن مالك أن معنى الحديث أن يُجري الأول الذي هو أقرب إلى الماء من
الماء في ساقيته إلى حائطه بقدر ما يكون الماء في الساقية إلى حد الكعبين
حتى يروى حائطه، ثم يفعل الذي يليه كذلك ما بقي من الماء شيء، قال: وهذه
السنة فيهما وفيما يشبههما مما لا حق فيه لأحد بعينه أن الأول أحق
بالتبدئة، ثم الذي يليه إلى آخرهما رجلا، ويحتمل عندي أن يكون [معنى] رواية
[علي بن] زياد هذه إذا كان ماء الوادي كثيرا فوق قدر ما يتأتى السقي به،
فيأخذ منه الأول المقدار الذي وصفه فيسقي به حائطه ما احتاج إلى السقي به،
ثم الذي بعده من بقية ماء الوادي كذلك، [ثم الذي بعده من بقية ماء الوادي
كذلك] ، أيضا إلى أن يتم الماء، وأن يكون معنى رواية من سواه إذا لم يكن في
ماء الوادي فضل عما يسقي به واحد بعد واحد فلا تكون رواية [علي بن] زياد عن
مالك على هذا التأويل مخالفة لما تقدم، والله أعلم.
والأظهر أنه اختلاف من القول في صفة قسم الماء بين الأعلى ومن تحته إذا كان
الماء كثيرا، فعلى المشهور يرسل الأعلى جميع الماء في حائطه حتى ينتهي فيه
إلى الكعبين، ثم يرسله إلى من تحته فيمسكه أيضا في حائطه حتى ينتهي إلى
الكعبين، ثم يرسله إلى من تحته هكذا أبدا ما لم يحتج الأول الأعلى إلى
إعادة السقي ثانية فيكون أحق به، ثم الذي تحته، ثم الذي تحته كالسقية
الأولى، ما لم يحتج الأول الأعلى أيضا إلى إعادة السقي ثالثة فيكون أحق به،
ثم الذي تحته ثم الذي تحته كالسقية
(10/267)
الثانية ما لم يحتج الأول الأعلى إلى إعادة
السقي رابعة فلا يكون في الماء حق لمن لم ينته إليه حتى احتاج الأول الأعلى
إلى إعادة السقي، وعلى رواية [علي بن] زياد عن مالك لا يأخذ الأعلى الماء
كله لحائطه حتى يبلغ إلى الكعبين، وإنما يأخذ من الماء في ساقيته إلى حائطه
حتى يبلغ إلى الكعبين، وإنما يأخذ من الماء في ساقيته إلى حائطه بقدر ما
يكون فيها إلى الكعبين، ثم الذي تحته كذلك، ثم الذي تحته كذلك، حتى يتم
الماء، وأما إن لم يكن في الماء كله إلا قدر ما يتأتى به السقي لواحد فلا
حق للأسفل إلا فيما يفضل عن الأعلى، وبالله التوفيق.
[: له بئر عليها زرع ونخل فانهار بئره ولجاره
فضل ماء]
ومن كتاب البراءة وسئل عن رجل كانت له أرض قريبة من ماء قوم فغرس بمائهم
ونبتت عليه الشجر وهم يعلمون، ثم إن أصحاب الماء أرادوا أن يحبسوا ماءهم،
فقال صاحب الغرس: تركتموني حتى غرست، ثم تريدون أن تحبسوا عني، وقال أصحاب
الماء: إنما غرست عليه وهو ماء لا أستطيع حبسه، قال: ليس لأصحاب الماء أن
يحبسوا ذلك عنه إلى أجل يُضرب له لاحتفار بئر أو استنباط عين إلا أن لا
يكون في الماء فضل عن حاجة أصحابه وإنه إن [كان] أخذ من مائهم شيئا دخل على
أصحاب الماء الضرر والهلاك في غللهم فيكونوا أولى بمائهم، ولقد سمعت مالكا
قال في رجل كانت له بئر عليها زرع ونخل فانهار بئره
(10/268)
ولجاره فضل ماء، قال: أرى أن يقضى له على
جاره بفضل مائه حتى يصلح بئره بلا ثمن ولا شيء، فهذا يشبهه. قال ابن
القاسم: ولو لم يعلموا بذلك فأرادوا صرف مائهم، وفي مائهم فضل أنه إن كان
ليس لهم في الفضل منفعة رأيته أولى به، قال: وإن كان لهم فيه منفعة فهم أحق
بمائهم، قال: وليس له في ذلك قول وإن باعوه إلا أن يرضوا أن يبيعوه منه،
قال عيسى: أرى أهل الغرس أولى بالماء بالثمن الذي يبيعه به أهله.
قال الإمام القاضي: قوله فغرس بمائهم يريد فغرس بفضل مائهم، وقوله: ثم إن
أصحاب الماء أرادوا أن يحبسوا معناه أرادوا أن يحبسوا فضل مائهم، إذ لا
اختلاف في أن الرجل أحق بجميع مائه إذا لم يكن له فيه فضل عما يحتاج إليه،
وإنما القول فيما فضل عن حاجته، فإن لم يكن لغيره إليه حاجة إلا ما يريده
من ابتداء الانتفاع به بزرع أو خضر يزرعها عليه أو نخل يغرسها عليه فلصاحبه
أن يمنعه منه إلا بثمن يواجبه عليه وجد فيه ثمنا عند سواه أو لم يجد، وأما
إن كانت لغيره إليه حاجة لسقي نخل قد كان غرسها عليه فنبتت به فإن كان ذلك
بعلم صاحب الماء كان أحق به بغير ثمن إلى أن يحفر بئرا أو يستنبط عينا وجد
صاحبه به ثمنا عند سواه أو لم يجد، وإن كان ذلك من غرسه النخل على فضلة ذلك
الماء بغير علم صاحب الماء كان أحق به بغير ثمن إلى أن يحفر بئرا أو يستنبط
عينا إن لم يجد صاحبه فيه ثمنا عند سواه، وإن وجد فيه ثمنا عند سواه كان
أحق بفضلة مائه يبيعها ممن شاء، وما لم ينفذ البيع فيه فهو أحق به بالثمن
الذي يعطي غيره به على ما قاله عيسى بن دينار، فهذا معنى قوله عندي لا أنه
يكون له أن يأخذه بعد نفوذ البيع بالثمن كالشفعة، وسيأتي في
(10/269)
سماع محمد بن خالد إذا غرس على فضل مائه
بعطية منه، وأما إن كانت لغيره حاجة إلى أن يسقي به نخلا أو زرعا قد كان
زرعه أو غرسها على أصل ما كان له من بئر فانهار أو عين فجفت فإنه يقضي له
به إلى أن يصلح بئره، قيل بثمن وقيل بغير ثمن، والقولان في المدونة، ومعنى
ذلك عندي إذا كان يجد له ثمنا عند سواه، وأما إن لم يجد له ثمنا عند سواه
فيقضي له بغير ثمن قولا واحدا، وقد قيل: إن ذلك ليس باختلاف من القول،
وإنما معناه أنه يقضى له به بغير ثمن إذا لم يوجد له ثمن عند سواه وبثمن
إذا وجد له ثمن عند سواه، والأظهر أن ذلك اختلاف من القول إذا وجد له ثمن
عند سواه، ووجه هذا الاختلاف اختلافهم في تأويل قول النبي - عَلَيْهِ
السَّلَامُ -: «لا يمنع نقع بئر ولا رهو ماء» فمن حمله على هذا الموضع قال:
إنه يقضى له به بغير ثمن، ومن حمله على البئر يكون بين الشريكين يسقي به
هذا يوما وهذا يوما فيروي أحدهما حائطه في بعض يومه ويستغني عن الماء بقية
يومه أنه ليس له أن يمنعه من شريكه في بقية ذلك اليوم، قال: إنه يقضي له به
بالثمن، فهذا تحصيل القول في هذه المسألة، والله أعلم.
[: الرحى تكون بين النفر فتنهدم وتخرب فيدعو
أحدهم إلى عملها ويأبى ذلك بعضهم]
من مسائل سئل عنها عيسى بن دينار
وسئل [عيسى] عن الرحى تكون بين النفر فتنهدم وتخرب فيدعو أحدهم إلى عملها
ويأبى ذلك بعضهم، قال: يقال لمن
(10/270)
أبى منهم العمل إما أن تعمل معه وإما أن
تبيع ممن يعمل معه، يجبر على ذلك، وكذلك قال مالك.
قلت: فلو عمل بعضهم فأنفق فلما تمت وطحنت قال الذي لم يعمل: هذا نصف ما
أنفقت وأكون على حظي منها، قال: ذلك له ويكون على حظه منها مبنيا.
قلت: فلو كان العامل اغتل منها غلة كثيرة قبل رده إليه ما أنفق لمن تكون
تلك الغلة؟ قال: قد اختلف في ذلك، فقال محمد بن إبراهيم بن دينار المدني:
يكون للعامل منها بقدر ما أنفق وما كان له فيها قبل أن ينفق ويكون للذي لم
يعمل بقدر ما كان بقي له من قاعتها وبقية سدها وحجارتها وما كان فيها من
صلاح، وأما ابن القاسم فقال لي مرة: الغلة كلها للعامل دون من أبى أن يعمل
معه حتى يعطي قيمة ما عمل، وهي بمنزلة البئر يغور ماؤها أو ينهدم منها
ناحية فيريد أحد الشريكين العمل ويأبى صاحبه، فيقال لمن أبى أن يعمل: اعمل
معه أو بع ممن يعمل، فإن أبى وخلى بينه وبين العمل وحده كان الماء كله
للعامل حتى يدفع [إليه] نصيبه من النفقة، فكذلك الرحى، قال عيسى: وبهذا
القول رأيت ابن بشير يحكم، ثم قال لي ابن القاسم في الرحى: يحاصه بما اغتل
فيما أنفق، ولو كان لم يرد عليه نصف ما أنفق حتى اغتل منها جميع نفقته لرجع
هذا في حظه ولم يكن عليه شيء. قال عيسى: والذي آخذ به في ذلك أن تكون الغلة
كلها للعامل ويكون عليه للذي لم يبن كراء نصيبه من قاعة الرحى وما كان فيها
باقيا من العمل فإن أراد الدخول معه فيما بنى دفع إليه
(10/271)
ما ينوبه من قيمة العمل الذي في الرحى
قيمته يوم يدخل معه وليس يوم عمله ولا قدر ما ينوبه من النفقة التي أنفق
فيها إلا أن يكون ذلك بحدثانه. قال: وبلغني عن ابن وهب أنه قال في الغلة
مثل قول ابن دينار أن يكون للعامل من الغلة بقدر ما أنفق فيها وما كان له
منها وللذي لم يعمل بقدر ما كان له من قاعتها وباقي غلتها، وتفسير ذلك أن
تقام الرحى غير معمولة وتقام معمولة فإن كانت قيمتها قبل أن تعمل عشرة
وقيمتها بعد العمل خمسة عشر كانت ثلث الغلة للعامل وثلثاها بينه وبين
شريكه، ويكون على الذي لم يعمل ما ينوبه من أجر العامل في قيامه بعملها، ثم
إن أراد الذي لم يعمل أن يدخل مع الذي عمل في الرحى دفع إليه ما ينوبه من
قيمة الرحى على قدر حظه منها قيمته يوم يدفع ذلك إليه وليس ما ينوبه من
النفقة الأولى ولكن قيمته يوم يدخل معه، وقال يحيى بن يحيى مثله كله في
اقتسام الغلة ورد القيمة، وقال: به آخذ، قال: وقد سمعت ابن القاسم يقول غير
ذلك.
قال محمد بن رشد: قوله في أول هذه المسألة إنه يقال لمن أبى أن يعمل إما أن
تعمل معه وإما أن تبيع ممن يعمل معه يجبر على ذلك قد مضى القول عليها
مستوفى في أول سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادته، وقول محمد بن إبراهيم بن
دينار المدني: إن العامل يكون له من الغلة بقدر ما أنفق وما كان له منها
قبل أن ينفق ظاهره أن الغلة تفض على منتهى نفقته وقيمة ما كان له من أصل
الرحى وعلى قيمة ما كان للذي
(10/272)
لم يعمل من أصل الرحى بأن ينظر كم نفقته
التي أنفق في الرحى وكم قيمة قاعة الرحى على ما كانت عليه قبل النفقة فإن
كانت النفقة عشرين وقيمة قاعة الرحى قبل النفقة عشرين كان للعامل ثلاثة
أرباع الغلة خلاف التفسير الذي فسر الراوي بقوله بأن تقام الرحى غير معمولة
وتقام معمولة فإن كانت قيمتها قبل أن تعمل عشرة وقيمتها بعد العمل خمسة عشر
كان للعامل ثلثا الغلة وللذي لم يعمل الثلث إذ لو أراد ذلك لقال: إن العامل
يكون له من النفقة بقدر ما زادت نفقته في الرحى وبقدر ما كان له فيها قبل
النفقة. وقول عيسى بن دينار إن الذي لم يعمل إن أراد الدخول مع الذي عمل
فيما عمل يدفع إليه ما ينوبه من قيمة العمل الذي في الرحى قيمته يوم يدخل
معه وليس يوم عمله ولا قدر ما ينوبه من النفقة التي أنفق إلا أن يكون ذلك
بحدثانه مفسر لقول ابن القاسم الأول الذي قال فيه: إن الغلة كلها للعامل
دون من أبى أن يعمل معه حتى يعطي قيمة ما عمل، ولم يبين إن قام عليه بحدثان
ما عمل هل يكون عليه أن يعطيه ما ينوبه من النفقة التي أنفق أو من قيمتها،
وفي ذلك قولان قائمان من المدونة: أحدهما أنه ليس له أن يدخل معه إلا أن
يعطيه ما ينوبه من مبلغ النفقة التي أنفق، والثاني أنه لا يلزمه أن يدفع
إليه إلا ما ينوبه من قيمة النفقة، إذ قد يغبن في استئجار الأجراء وفيما
ابتاع من متاع الرحى، وأما إن أراد الدخول معه بعد أن بلي البنيان فلا
يلزمه أن يدفع إليه إلا ما ينوبه من قيمته على حالته التي هو عليها من
البلى قولا واحدا، ووجه العمل في ذلك أن يقال: كم قيمة الرحى اليوم على ما
هي عليه من البنيان القديم، وكم كانت تكون قيمتها اليوم لو كان هذا البنيان
الذي فيها جديدا فينقص ما بين القيمتين من النفقة التي أنفق أو من قيمتها
على الاختلاف الذي ذكرناه في ذلك فما بقي كان عليه ما ينوبه منه، وقد قيل:
إن ذلك يرجع إلى أن يكون عليه ما ينوبه مما زادت قيمة الرحى بالبنيان على
ما هو عليه بأن تقام خربة وعلى ما هي عليه فيكون عليه ما ينوبه مما بين
القيمتين إلا أن يكون ذلك أكثر من قيمة ما أنفق فلا يكون عليه أكثر من قيمة
ما أنفق، وكذلك حكى ابن حبيب في الواضحة عن مطرف أنه يكون عليه الأقل من
قيمة البنيان أو من قيمة ما
(10/273)
أنفق، ولا خلاف في أنه لا يلزمه أن يعطيه
أكثر مما أنفق، فليس قول عيسى بن دينار بخلاف لقول ابن القاسم الأول إلا
فيما ذكر من أنه يقوم عليه للذي لم يبن كراء نصيبه من قاعة الرحى لأن ابن
القاسم لا يرى عليه في ذلك كراء. ووجه قوله أن الرحى مهدومة لا كراء لها،
وإنما صار لها كراء ببنيانه فوجب ألا يكون عليه في حظ شريكه كراء، ووجه قول
عيسى بن دينار أن الكراء فيها موجود إذا أكريت على أن يبني وقد بناها
العامل وانتفع بها، فوجب عليه أن يكون في حصة شريكه الكراء، وهو أظهر،
والله أعلم. وقوله في آخر المسألة: وقال يحيى بن يحيى مثله في اقتسام الغلة
يريد مثل قول ابن دينار، وقوله: وقد سمعت ابن القاسم يقول غير ذلك يريد أحد
قوليه المتقدمين، إما أن تكون الغلة كلها له حتى يأتيه شريكه بما ينوبه من
قيمة ما عمل من التفسير الذي ذكرناه، وإما أن يحاصه بما اغتل فيما أنفق،
وقد روي عن ابن القاسم في المسألة قول ثالث وقع له في المبسوطة، وهو الفرق
بين أن تكون الرحى مهدومة فيبنيها أحد الأشراك أو تكون قائمة فينخرق سدها
وتتعطل الرحى بسبب ذلك فيأبى أحد الشريكين أن يصلحه ويصلحه الآخر فقال: إنه
يحاص بما أنفق في إصلاح السد بما اغتل بخلاف إذا كانت الرحى مهدمة، فتحصيل
الخلاف في هذه المسألة أن فيها ثلاثة أقوال: أحدها أنه يحاص بالنفقة في
الغلة كانت الرحى مهدومة أو انخرق سدها، والثاني أنه لا يحاص بالنفقة في
الغلة في الوجهين، والثالث الفرق بينهما فإذا قلت: إنه لا يحاص بالنفقة في
الغلة ففي حكم الغلة ثلاثة أقوال: أحدها أنها تكون كلها للعامل إلى أن يريد
الشريك الدخول معه فيأتيه بما يجب عليه في ذلك على التفسير الذي ذكرناه ولا
كراء عليه في حظ شريكه من الرحى، وهو قول ابن القاسم، والثاني أن الغلة
تكون للعامل أيضا ويكون عليه كراء حصة شريكه من الرحى وهو قول عيسى بن
دينار، والثالث أن الغلة تكون بينهما فيكون للذي لم يعمل منهما بقدر قيمة
حظه من الرحى على ما كانت عليه، وللذي
(10/274)
عمل بقدر حظه منها أيضا وبقدر عمله على
الاختلاف الذي ذكرناه في تأويل ذلك إلى أن يريد الشريك الدخول معه فيأتيه
بالواجب عليه فيما عمل على ما ذكرناه من التفسير في ذلك، وبالله التوفيق.
[مسألة: يكون له رحى قد خربت فيريد أن يعامل
رجلا على عملها ومرمتها]
مسألة وسئل عيسى عن الرجل يكون له رحى قد خربت أو منصب رحى فيريد أن يعامل
رجلا على عملها ومرمتها ما يجوز في ذلك؟ فقال: يجوز في ذلك أن يقول له: ابن
لي رحائي هذه على صفة كذا وكذا، بصخر كذا وكذا [وخشب كذا وكذا] فيصف له
جميع بنيانها فإذا تمت فنصفها لي ونصفها لك من أصلها أو ثلثاها لي وثلثها
لك من أصلها أو كائن ما كان من الأجزاء، فهذا الجائز، أو يقول: ابن لي
رحائي هذه على صفة كذا وكذا أو أنفق فيها كذا وكذا وهي لك [بذلك] كذا وكذا.
سنة فيجوز ذلك أيضا، وقال حسين بن عاصم مثل ذلك إلا أنه قال: لا يجوز ذلك
إلا في النهر المأمون.
قلت: فلو قال له: ابن لي رحائي هذه على صفة كذا وكذا فإذا تمت فغلتها بيني
وبينك، أو لك من غلتها يوم وليلة في كل جمعة، فعمل العامل على ذلك واغتلاها
زمانا جميعا، ثم تبين لهما أن ذلك لا يصلح، كيف يصحح مثل هذا؟ فقال: يكون
للعامل فيه قيمة ما أدخل في الرحى من صخرها وحجارتها وخشبها قيمته يوم
أدخله في الرحى، وتكون له أجرته فيما
(10/275)
اشتغل في ذلك وقيمة عمل من عمل في الرحى من
الأجراء وغيرهم، وتكون الغلة كلها لرب الرحى، يرد العامل إليه ما وصل إليه
منها، إن كان الذي أخذ منها طعاما فمكيلته، وإن كان دنانير أو دراهم
فعدتها. وإن كان لا يعرف مكيلة ما أخذ من الطعام غرم قيمة خرص ذلك ولا يغرم
مكيلة الخرص، قال: وذلك لأن رب الرحى استأجر العامل على عمل الرحى واشترى
منه أداتها بأمر غرر لا يجوز فصار للعامل قيمة ما أدخل في الرحى وأجرة
عمله، وصارت الغلة كلها لرب الرحى يرد العامل ما أخذ مما لم يجز له ويعطى
ما يجوز له من قيمة عمله بمنزلة ما لو قال له: اعمل لي رحى في هذه فإذا تمت
فلك نصف غلة رحائي هذه الأخرى، أو لك يوم من غلتها كل جمعة، أو لك ثمر
جناني هذه قبل أن يحل بيعها، فهذا إذا وقع وفات كان له قيمة ما أدخل في
الرحى وأجرة عمله لأنه اشترى منه الصخر والحجارة وما أدخل في الرحى من
الخشب والأداة واستؤجر على عمله بأمر لا يجوز فهو يعطى ما يجوز ويرد الذي
أخذ مما لا يجوز له. قال يحيى: سألت ابن القاسم عن ذلك فقال لي: تكون الغلة
كلها للعامل [ويكون عليه كراء قاعة الرحى] ، ويكون له قيمة عمله منقوضا،
قال يحيى: والذي آخذ به أن يعطى قيمة عمله قائما تاما.
قال محمد بن رشد: لا اختلاف أحفظه في المذهب في أن المعاملة في منصب الرحى
على إقامتها وعملها بجزء منها جائز إذا كان العمل موصوفا محدودا، كان النهر
مأمونا أو غير مأمون حسبما مضى القول فيه في رسم شهد من سماع عيسى، ولا في
أن المعاملة على عملها بغلتها
(10/276)
بعد تمام عملها مدة معلومة جائزة أيضا إذا
كان النهر مأمونا على ما قاله حسين بن عاصم ولا في أن المعاملة فيها بجزء
من غلتها دون شيء من أصلها لا يجوز كان النهر مأمونا أو غير مأمون، واختلف
إذا وقع ذلك فلم يعثر عليه حتى فات بالعمل هل يحكم له بحكم الإجارة الفاسدة
أو بحكم الكراء الفاسد إذ لم ينصا في معاملتهما كراء ولا إجارة، ولو نصا
فيها كراء أو إجارة لكان الحكم فيها على ما نصاه دون خلاف، فقال عيسى بن
دينار: إن الغلة كلها تكون لرب الرحى يرد إليه العامل ما أخذ منها، ويكون
له إجارة مثلها فيما عمل وقيمة ما أدخل فيها من الخشب والحجارة والأداة على
حكم الإجارة الفاسدة، لأنه رأى البناء على ملك رب الرحى، وروى يحيى عن ابن
القاسم أن الغلة كلها تكون للعامل يرد عليه رب الرحى ما أخذ منها، ويكون له
على العامل كراء قاعة الرحى على حكم الكراء الفاسد، لأنه رأى البناء على
ملك بانيه، واختلاف ابن القاسم ويحيى بن يحيى في قيمة البنيان هل يكون له
قائما أو منقوضا وجهه أن ابن القاسم لم يعذر الباني بالجهل بفساد المعاملة
فجعله كالباني في ملك غيره بغير شبهة، إذ بنى وهو يعلم أنه متى قيم عليه
فسخت المعاملة بينهما وأخرج عن الرحى فلم يوجب له إلا قيمة بنيانه منقوضا،
وسواء على هذا عثر عليه بالقرب أو بعد أن طالت المدة، وعذره يحيى بن يحيى
بالجهل فأوجب له قيمة بنيانه قائما كمن بنى فيما يظن أنه ملكه فاستحق من
يده بقرب ذلك أو بعد أن طالت المدة، وهذا عندي فيمن يشبه أن يجهل ذلك وإلا
[يضر] بجهله، وأما العالم الذي لا يشبه أن يجهل ذلك فلا يجب له إلا قيمة
بنيانه منقوضا عندهما جميعا، والجاهل الذي لا يشبه أن يعلم ذلك له قيمة
بنيانه قائما عندهما جميعا، وقد قيل: إن هذا الاختلاف إنما يصح إذا طالت
المدة إلى القدر الذي يرى أن الرجل قد يكتري الرحى على أن يبنيها إلى هذه
المدة ثم يخرج عند انقضائها فيأتي قول ابن القاسم على أصله فيمن بنى فيما
اكترى بإذن صاحب الدار أنه ليس له إذا خرج إلا قيمة
(10/277)
بنيانه منقوضا، ويأتي قول يحيى بن يحيى على
رواية المدنيين عن مالك أنه من بنى بوجه شبهة على غير وجه التعدي فله قيمة
بنيانه قائما، وأما لو عثر على ذلك بحدثان البنيان لوجب أن يكون له قيمة
بنيانه قائما قولا واحدا، والتأويل الأول هو الصحيح في المسألة إن شاء
الله، وبالله التوفيق.
[مسألة: يكون له المنصب يصيد فيه الحيتان فيشكو
جيرانه أن ذلك يضرهم]
مسألة وسئل عيسى عن الرجل يكون له المنصب يصيد فيه الحيتان الأعوام ثم يشكو
[جميع] جيرانه أن ذلك يضر بهم، أترى أن يمنع [ذلك] من ضررهم وهو يحتج
باستحقاقه ذلك عليهم هذه الأعوام؟ قال: نعم لهم أن يمنعوه.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال، إذ ليس لمن يلي النهر من جانبه أن يختص
بالصيد فيما يوازي أرضه دون جماعة الناس ولا أن يعمل مصايد فيها يمنع
الحيتان أن تجوزها فقال: إنه إن فعل ذلك فشكا جيرانه بعد مدة أن ذلك يضر
بهم يريد في أن الحيتان لا تخلص إليهم كان لهم أن يمنعوه، وذلك كما قال، إذ
ليس هذا مما يستحق بالقدم لأنه أمر يتكرر ولا يختص جيرانه بالضرر بذلك دون
جماعة الناس، وقال: إن لهم أن يمنعوه من الضرر بهم ولم يبين وجه المنع كيف
يكون، ووجه الأمر في ذلك أن ينظر إلى ذلك المنصب فإن كان إذا قلع لم يكن له
قيمة كانوا بالخيار بين أن يأمروه بقلعه وبين أن يتركوه فيشتركوا في الصيد
معه فيه بالسواء، وإن كانت له قيمة إذا قلع كانوا بالخيار بين أن يعطوه
قيمته مقلوعا ويشتركون في الصيد فيه معه وبين أن يأمروه بقلعه، هذا الذي
يأتي في هذه المسألة على أصولهم. وقد حكى ابن حبيب في الواضحة عن مطرف وابن
الماجشون أن أهل هذه المصايد الذين عملوها يبدأون بالاصطياد
(10/278)
فيها، فإذا نالوا حاجتهم خلوا بين الناس
وبينها يصطادون فيها وبها، وذلك عندي إذا اتفقوا على أن يقروها ولا يقلعوها
وتشاحوا في الصيد فيها فأراد أربابها أن ينفردوا بالصيد فيها دون جماعة
الناس، وأراد جماعة الناس أن يكونوا معهم شرعا واحدا. وأما إن أراد جماعة
الناس أن يجبروهم على القلع فذلك لهم، وإن أرادوا هم أن يقلعوا مصايدهم
فذلك لهم إلا أن يعطوهم قيمتها مقلوعة، وهذا بين إذا كانوا عملوا المصايد
في موضع لا شبهة لهم في عمله فيه، وأما إن كانوا عملوها من النهر في موضع
يليه أرضهم من الناحيتين فيتخرج ذلك على قولين: أحدهما أنهم لا يعذرون
بالجهل [في ذلك] ، ويكون الحكم فيه على ما تقدم، والثاني أنهم يعذرون
بالجهل في ذلك ولا يكون للناس أن يأخذوها منهم بقيمتها مقلوعة إلا بعد أن
يستغلوا منها قيمة نفقتهم فيها، وبالله التوفيق.
[مسألة: بنى رحى جزء منها في أرض جاره على أن
يطحن له طعامه]
مسألة وسئل عن رجل ابتنى رحى فأخرج طرف سده في أرض جاره على أن يطحن طعامه
فيها في كل شهر مديا فقال: هذا جائز. قلت له: أرأيت إن لم يوقت الطعام؟
قال: لا يجوز، قيل له: فإذا وقع؟ قال: يعطى صاحب الأرض قيمة ما ترك له من
نصف الماء وإخراج السد في أرضه ويكون عليه لصاحب الرحى أجرة ما طحن له على
هذا الشرط إذا كان إنما تركه يبني ويخرج سده في
(10/279)
أرضه على أن يطحن له ولولا ذلك لمنعه من
ذلك ولسأل أن يقاسمه الماء لأن له نصفه وللعامل نصفه. قيل له: أرأيت لو باع
صاحب الرحى رحاه قبل أن يفسخ هذا الشرط واشترط على المشتري أن يحمل شرط
صاحب الأرض أو علم المشتري بذلك فاشترى ولم يشترط عليه لعلمه بذلك؟ قال:
إذن فسخ شراؤه ويكون العمل بين مبتني الرحى وصاحب الأرض على ما فسرت لك إلا
أن تفوت الرحى فتلزمه القيمة.
قلت: فلو لم يعلم المشتري بذلك ولم يشترطه؟ قال: إذن يكون البيع جائزا
ويكون العمل بين المبتني وصاحب الأرض في ذلك كله كما فسرت لك.
قال محمد بن رشد: قوله في الذي أخرج طرف سد رحاه في أرض جاره على أن يطحن
له فيها طعامه كل شهر مديا إن ذلك جائز معناه إذا ضرب لذلك أجلا لأنه إذا
لم يضرب لذلك أجلا لم يجز لأنه مجهول، ويدخل في ذلك اختلاف بالمعنى على ما
سنذكره، وأما إذا لم يوقت ما يطحن له من الطعام في كل شهر ففي ذلك اختلاف
بالمعنى يجوز على ما حكاه ابن حبيب عن مالك وأصحابه من أنه يجوز أن يواجب
الرجل صاحب الحمام على ما احتاج إليه هو وعياله من النورة ودخول الحمام
سنة، وأن يواجب الخياط على خياطة ما احتاج إليه هو وأهله من الثياب سنة،
وأن يواجب الفران على طبخ ما احتاج إليه هو وأهله من الخبز سنة، أو على
طحين ما يحتاج إليه هو وأهله سنة إذا عرف الفران والخياط والطحان وصاحب
الحمام ناحية عياله وما يحتاجون إليه مما عولوا عليه، ولا يجوز على مذهب
ابن القاسم في المدونة في أنه لا يجوز شيء من ذلك
(10/280)
إلا أن يشترط منه أمرا معروفا، فقول عيسى
بن دينار في هذه المسألة على قياس قول ابن القاسم في المدونة؛ لأن معنى
قوله فيها على أن يطحن له فيها طعامه أو ما يحتاج إليه لنفقته ونفقة عياله،
فإذا وقع ذلك على الجهل في أحد الطرفين أو في كليهما على مذهبه وقياس ما في
المدونة فهو عقد فاسد يجب فسخه إلا أن يفوت فيصحح بالقيمة، وفواته يكون
بإنفاذ السد إلى أرضه فلذلك قال: إنه يعطى صاحب الأرض قيمة ما ترك له من
نصف الماء وإخراج السد في أرضه ويكون له على صاحب الرحى أجرة ما طحن له على
هذا الشرط؛ لأن هذا هو وجه تصحيح عقدهما بالقيمة لفواته، فإذا باع صاحب
الرحى رحاه قبل أن يفسخ الشرط واشترط على المشتري ما كان اشترط عليه صاحب
الأرض أو علم بذلك المشتري ودخل عليه كان بيعا فاسدا، فإن فات بما يفوت به
البيع الفاسد صحح بالقيمة وصحح ما كان انعقد بين البائع وصاحب الأرض
بالقيمة أيضا على ما تقدم، وإن لم يفت رد وكان العمل بين البائع وصاحب
الأرض على ما تقدم، وإن لم يعلم المشتري بذلك ولا شرط عليه حمل الشرط كان
البيع جائزا وكان العمل بين صاحب الرحى وصاحب الأرض على ما تقدم، فالمسألة
كلها صحيحة بينة لا إشكال فيها. وقد اختلف في المعاملة على هذا فقيل: إنها
بمعنى الارتفاق ولا يكون الثمن في ذلك إلا معلوما، فإن انهدم السد كان صاحب
الرحى بالخيار بين أن يعيده أو يترك إعادته فيرجع موضعه من الأرض إلى ربه
وقد وجب له الثمن المسمى على كل حال يستوفي بقيته منه إن كان لم يستوفه،
وهو قول ابن الماجشون، والقياس على هذا القول أن يجوز إخراج طرف سد رحاه في
أرض جاره على أن يطحن له فيها كل شهر مديا أو ما يحتاج إليه على القول بأنه
لا يحتاج إلى توقيت الطعام إذا عرف ناحية عياله ما كانت الرحى قائمة طاحنة
من غير أن يضرب لذلك أجلا، وقيل: إنها بمعنى البيع في جميع وجوهه فيكون
موضع السد من الأرض لصاحب الرحى بما سمى له من الثمن على كل حال لا يرجع
إلى صاحبه على حال، وهو قول مطرف وأصبغ، فعلى هذا القول لا بد من تسمية
الأجل على كل حال لا يدخل في ذلك اختلاف، وبالله التوفيق.
(10/281)
[مسألة: ليس
لمن له إحدى ضفتي النهر أن يبني فيها رحى إلا بإذن الآخر]
مسألة وسئل عيسى عن رجل ابتنى رحى فأخرج طرف سده في أرض قوم فجعل لهم أياما
معلومة من الشهر في الرحى على أن أسلموا له إخراج طرف سده في أرضهم، فقال:
إن كان جعلهم شركاء في الرحى بعد أن تتم بقدر تلك الأيام من الشهر وشرطوا
للرجل عملا موصوفا ثم يكونون فيه شركاء [من الغلة] ثم يكون عليهم من
إصلاحها إذا خربت والقيام بها مثل ما لهم منها من تلك الأيام فذلك جائز،
وإن كان إنما لهم غلتها تلك الأيام فقط ولا شيء لهم من أصل الرحى فلا خير
فيه، فإذا فات ذلك بإخراج السد فيه فلهم قيمة أرضهم وعليهم أن يردوا ما
أخذوا من الغلة.
قال الإمام القاضي: هذا بين على ما قال، إذ ليس لمن له إحدى ضفتي النهر أن
يبني فيها رحى وينفذ سده إلى برية غيره الذي له الضفة الأخرى إلا بإذنه
ورضاه، فإذا أذن له في ذلك على أن يكون له شرك في أصل الرحى بجزء من
الأجزاء يتفقان عليه من نصف، أو ثلث أو ربع أو أقل أو أكثر فذلك جائز إذا
تواصفا بنيان الرحى لأنه قد باع منه نصف الماء وموضع إخراج السد في أرضه
بالجزء من أصل الرحى مبنية فلا بد أن يكون البناء موصوفا معلوما، ولا يجوز
أن يأذن له في ذلك على أن يكون له أيام من الشهر من غلتها دون أن يكون له
مقدار ذلك من أصلها لأنه غرر، وقد «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع الغرر» ، وقد مضى القول في المسألة التي قبلها
إذا أذن له في ذلك على أن يطحن له فيها كل شهر كذا وكذا فلا معنى لإعادته،
وبالله التوفيق.
(10/282)
[مسألة: أراد
الأعلون إنشاء رحى عندهم وذلك يضر برحى الأسفلين]
مسألة وسئل عيسى عن ساقية بين قوم أعلين وأسفلين، فللأعلين نصفها يسقون بها
يومين ثم يسرحون ذلك الماء إلى الأسفلين فيسقون بها يومين، فهذا فعلهم ما
احتاجوا إلى السقي، فإن استغنوا سرحوا الماء إلى الأسفلين حتى يقع في النهر
الأعظم فأنشأ الأسفلون على الساقية رحى فطحنت زمانا في غير أيام السقي، ثم
أراد الأعلون إنشاء رحى عندهم وذلك يضر برحى الأسفلين فأرادوا دفعهم وادعوا
بأنهم سبقوهم إلى العمل، فقال: إن كان أراد الأعلون إنشاء رحى عندهم
أنشأوها إن أحبوا ثم اقتسموا الماء كله كما كانوا يقتسمون يومين يومين،
فإذا كان يوم الأعلين طحنوا فيها وسقوا وصنعوا بمائهم ما شاءوا ثم أرسلوا
على الأسفلين فطحنوا في يوميهم أيضا وسقوا وصنعوا ما شاؤوا، قال: وإن أراد
الأعلون أو الأسفلون قسمة الساقية بنصفين وكره ذلك الآخرون لم يكن لهم أن
يقتسموها إلا باجتماعهم لأن في ذلك ضررا عليهم لأنه يصير عليهم ما كانوا
يسقون به في يومين لا يسقون به إلا في أربعة فيكثر عناؤهم ويضر ذلك بهم.
قال الإمام القاضي: المعنى في هذه المسألة أن الأعلين أرادوا أن يعملوا على
ذلك الماء رحى في حقهم وأرضهم على غير الساقية التي يمر عليها الماء إلى
الأسفلين أو عليها بعينها على صفة لا يمكن الأسفلين السقي ولا الطحن بما
يصل إليهم من الماء حتى يغلقوا رحاهم ويردوا الماء على ساقيته القديمة أو
على حالته الأولى أو يمكنهم ذلك بنقص يدخل عليهم فيه، ولهذا قال: إن
الأسفلين إذا سبقوا إلى العمل كان للأعلين أن يعملوا فيقتسموا الماء على ما
كانوا يقتسمونه عليه، فإذا كان يوم سقيهم صنعوا بمائهم ما شاؤوا من سقي أو
طحن، إذا كان يوم الأسفلين عقلوا رحاهم وصرفوا الماء على ساقيته أو حالته
إلى الأسفلين فصنعوا به ما شاؤوا
(10/283)
[أيضا] من سقي أو طحن لأن الضرر يرتفع عن
الأسفلين بهذا في حقوقهم، ولو لم يرتفع الضرر به عنهم في حقهم لمنعوا من
إنشاء الرحى جملة، ولو أراد الأعلون أن ينشئوا في حقهم رحى على هذه الصفة
فيطحنوا فيها أيام سقيهم وأيام استغناء الأسفلين عن السقي ابتداء قبل أن
ينشئ الأسفلون رحى في أرضهم لكان ذلك لهم على قياس هذه الرواية، ولم يكن
ذلك لهم على ما حكى ابن حبيب عن مطرف وابن الماجشون وأصبغ قالوا: إن
الأشياء تتقادم والعلم يدرس فيصير ذلك استحقاقا لهم على الأسفلين وحقا لهم
دونهم ولا حجة للأعلين على الأسفلين في إنشاء رحى على ذلك الماء في حقهم
بحال؛ لأنهم لا يملكون من الماء ومن استحقاقه إلا ما يأتيهم من الأعلين من
شرب يومهم، وهذه المسألة لا تخلو من سبعة أوجه: أحدها أن يكون كل واحد
منهما من الأعلى والأسفل إن أنشأ رحى [على الساقية] في حقه طحنا جميعا معا
في غير أيام السقي ولم يضر أحدهما بصاحبه في نقص طحن ولا غير ذلك، فهذا لمن
شاء منهما أن ينشئ رحى في حقه فيطحن فيها في غير أيام السقي ولا كلام
لصاحبه كان الأعلى أو الأسفل لأنه يقدر أن ينشئ رحى في حقه متى شاء فيطحنا
جميعا من غير أن يضر أحدهما بصاحبه، والثاني أن يكون كل واحد منهما من
الأعلى والأسفل إن أنشأ رحى في حقه لم يمكن صاحبه أن ينشئ رحى في حقه
فيمكنه الطحن فيها إلا بهدم الرحى الأولى، فهذا ليس لأحدهما أن ينشئ رحى في
حقه إلا بإذن صاحبه ورضاه، فإن بدر وبنى كان لصاحبه أن يهدمها عليه إلا أن
يتراضيا على شيء يجوز بينهما، والثالث أن يكون كل واحد منهما من الأعلى
والأسفل إن أنشأ رحى في حقه لم يمكن صاحبه أن ينشئ رحى في حقه فيمكنه الطحن
فيها إلا بقطع الماء عن الرحى الأولى وتبطيل الطحن فيها فهذا لمن شاء منهما
أن
(10/284)
ينشئ رحى في حقه فيطحن فيها في غير أيام
السقي ما لم ينشئ صاحبه رحى في حقه، فإن أنشأ رحى في حقه اقتسما الماء على
حقهما يومين يومين أو أقل أو أكثر فيطحن كل واحد منهما في حقه ثم يقطع
الماء عن رحاه ويعطلها حتى يطحن صاحبه في حقه هكذا أبدا، والرابع أن يكون
إن أنشأ الأعلى رحى في حقه أضر ذلك برحى الأسفل إلا أن يقطع الماء عن رحاه
ويعطلها، وإن أنشأ الأسفل رحى في حقه لم يضر ذلك بالأعلى، فهذا هو الوجه
الذي تكلم عليه عيسى بن دينار في هذه الرواية، وقد مضى القول عليه، والخامس
عكس هذا الوجه الرابع، وهو إن أنشأ الأعلى رحى في حقه لم يضر ذلك بالأسفل،
وإن أنشأ الأسفل رحى في حقه أضر ذلك بالأعلى إلا أن يقطع الماء عن رحاه
ويعطلها، والجواب فيه عكس الجواب في الوجه الرابع إلا أنه لا يدخل فيه قول
مطرف وابن الماجشون وأصبغ، والسادس أن يكون إن أحدث الأعلى في حقه رحى لم
يمكن الأسفل أن يحدث في حقه رحى فيمكنه الطحن فيها إلا بعد هدم رحى الأعلى،
وإن أحدث الأسفل في حقه رحى لم يضر ذلك بالأعلى، فهذا ليس للأعلى أن يحدث
في حقه رحى ابتداء، ولا بعد أن أحدث الأسفل إلا بإذنه ورضاه، وللأسفل أن
يحدث في حقه رحى يطحن فيها في غير أيام السقي ولا كلام للأعلى في ذلك،
والسابع عكس هذا الوجه السادس، وهو إن أحدث الأعلى رحى في حقه لم يضر ذلك
بالأسفل، وإن أحدث الأسفل في حقه رحى لم يمكن الأعلى أن يحدث في حقه رحى
فينتفع بالطحن فيها، والجواب فيه عكس الجواب في الوجه السادس ليس للأسفل أن
يحدث في حقه رحى ابتداء ولا بعد إحداث الأعلى، وللأعلى أن يحدث في حقه رحى
فيطحن فيها في غير أيام السقي ولا كلام للأسفل في ذلك، وبالله التوفيق.
[مسألة: نهر إلى جانب قرية يبس من ناحية من
نواحيه شيء حتى صار أريضا يعتمل]
مسألة وسئل عن نهر إلى جانب قرية يبس من ناحية من نواحيه
(10/285)
شيء حتى صار أريضا يعتمل لمن يكون ذلك؟ قال
لصاحب الأرض الذي يلي النهر من الناحية التي يبست إن كانت تلك الأرض لرجل،
وإن كانت بور القوم فهي بسبيل البور، قال: ولو كان النهر مال إلى ناحية عن
مجراه فصار مجراه في أرض لرجل كان يليه بأرضه فإن الأرض التي انكشف عنها
الماء بين الرجلين اللذين كانا يليان النهر بأرضيهما من جانبيه قال سحنون:
أرى مجرى النهر مواتا لا يكون لمن يليه بأرضه إلا بقطيعة من الإمام القاضي.
قال محمد بن رشد: المعنى في قول عيسى بن دينار أنه حكم بموضع النهر لمن كان
يليه من جانبيه لما كان الماء من حقهما أن ينشئا عليه رحى دون غيرهما، فإذا
يبس شيء من ناحية من نواحيه حتى صار أرضا يعتمل فهو لمن كان يليه بأرضه من
تلك الناحية ما بينه وبين النصف، فإن يبس منه أكثر من النصف كان ما زاد على
النصف لمن يلي النهر من الجهة الأخرى كما أنه إذا مال عن مجراه يكون الموضع
الذي مال عنه بين الرجلين اللذين كانا يليانه بأرضيهما ويكون للذي صار
النهر في أرضه أن ينشئ عليه رحى دون غيره، وهو مذهب ابن الماجشون، حكى ذلك
ابن حبيب عنه، وحكي عن مطرف وأصبغ مثل قول سحنون أن مجرى النهر موات لا
يكون لأحد إلا بقطيعة من الإمام القاضي يبست ناحية منه أو يبس النهر كله أو
تحول عن مجراه إلى مجرى آخر، قال: لأن الأنهار التي لم ينشئها الناس ليست
ملكا لأحد، وإنما هي طريق للمسلمين فمواضعها فيء لجميع
(10/286)
المسلمين لا يستحقها من كان يلي النهر من
جهته بمالهما من الحق في إنشاء الأرحاء عليها، وبالله التوفيق.
[مسألة: يبيع الرجل خصب أرضه]
مسألة وسئل عيسى عن قول مالك: إذا كانت لرجل أرض فلا بأس أن يمنع كلأها إذا
احتاج إليه، وإلا فليخل بين الناس وبينه، وعن قوله: لا بأس أن يبيع الرجل
خصب أرضه عامه ذلك ولا يبيعه عامين ولا ثلاثة، وذلك أن يبلغ مرعاه.
قلت: أي خصب هذا الذي أجاز له بيعه؟ وأي خصب الذي أمره إذا لم يحتج إليه أن
يخلي بين الناس وبينه؟ فقال: أما الخصب الذي يجوز له بيعه ومنع الناس منه
احتاج إليه أو لم يحتج فمروجه وحماه، وأما الذي لا يجوز له منعه الناس إلا
إذا احتاج إليه فما سوى المروج والحمى من خصب فدادينه وفحوص أرضه وما
أشبهها، فإنه لا يجوز له منعها إذا لم يحتج إليه، ويجبر على أن يخلي بين
الناس وبينه إلا أن يكون عليه في تخلص الناس إليه بمواشيهم ودوابهم مضرة
مثل أن يكون له الفدان فيه الخصب وحواليه زرع فإن أرادوا التخلص إليه
بالمواشي أضر ذلك بزرعه الذي حواليه، فهذا وما أشبهه يكون له منعه، وإن لم
يحتج إلى ذلك الخصب ولا يجبر على أن يخلي بين الناس وبينه لما عليه في ذلك
من المضرة.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول عليها مستوفى في
(10/287)
رسم أخذ يشرب خمرا من سماع ابن القاسم فلا
معنى لإعادة شيء منه، وبالله التوفيق.
[مسألة: أصول المياه لا تستحق بالانتفاع بها]
مسألة وكتب إلى عيسى في رجل يقال له مغيرة ابتاع من رجل ماء ملاصقا لأرض
رجل يقال له حارث، وكان الماء في داخل بور ابتاعه مغيرة، فقطع عنه الشجر
وغرس عليه الثمار حتى أطعمت منذ عشرين سنة أو نحوها وأغلق عليها بحائط، ثم
إن حارثا قام عليه يدعي أنه كان منتفعا بذلك الماء قبل إغلاق مغيرة عليه،
وشهدت له بذلك بينة، قال فكتب إليه: نرى أن لا حق لحارث فيما قام به على
مغيرة، وأن الحق لمغيرة، ولو كان أيضا أصل الماء لحارث خالصا دون مغيرة
فأغلق عليه مغيرة بحائط وغرس عليه الثمار واحتازه وما حوله بالعمل والعمران
وحارث شاهد ذلك حتى أتى عليه نحو الذي ذكرت من السنين لكان مغيرة أحق به
إذا ادعاه ملكا لنفسه وأبطلت دعوى حارث فيه، فكيف والماء في داخل البور
الذي ابتاعه مغيرة؟ وإنما ثبت لحارث أنه كان منتفعا به قبلما أغلق عليه
مغيرة، وليس تستحق مياه الفلوات بالانتفاع بها دون استحقاق أهلها، وقد ترد
الماشية مياه غير أهلها وترعى مرعى غير أهلها فيريد أهل الماشية أن يستحقوا
ذلك بورود ماشيتهم عليه ورعيها فيه، أفيكون ذلك لهم؟ لا يكون ذلك لهم.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة بينة، قوله فيها إنه لا يستحق حارث أصل الماء
الذي في الحائط الذي ابتاعه مغيرة بما شهد له به
(10/288)
بأنه كان منتفعا به قبل أن يغلق عليه مغيرة
بحائط صحيح، لأن أصول المياه لا تستحق بالانتفاع بها، إذ من حق من قرب منها
أن ينتفع بما فضل منها بلا ثمن إن لم يجد [له] صاحبه ثمنا باتفاق، وإن وجد
فعلى اختلاف. وقوله: ولو كان أصل الماء لحارث فأغلق عليه مغيرة وغرس عليه
واحتازه حتى أتى عليه من السنن ما ذكرت لكان مغيرة أحق به إذا ادعاه ملكا
لنفسه، معناه إذا ادعاه ملكا لنفسه بأن يقول: اشترته منه أو وهبه لي أو
تصدق به علي، أو يقول: ورثته عن أبي أو عن فلان لا أدري بأي وجه تصير إلى
الذي ورثته عنه، وأما مجرد دعوى الملك دون أن يدعي شيئا من هذا فلا ينتفع
به مع الحيازة إذا ثبت أصل الملك لغيره، وبالله التوفيق.
[: أعطاه موضعا يعمل له فيه رحى على جزء من
غلتها]
من سماع يحيى بن يحيى من ابن القاسم من كتاب
الكبش قال يحيى: وسألت ابن القاسم عن رجل كان له موضع رحى فأعطاه رجلا يعمل
فيه رحى على أن يكون للعامل من غلتها غلة يوم وليلة كل جمعة، فعمل الرجل
على ذلك وأقام على تلك الحال نحوا من ثلاثين سنة، ثم تبين لهم أن ذلك لا
يصلح، كيف يصحح مثل هذا؟ قال ابن القاسم: تكون الغلة كلها للعامل، ويغرم له
صاحب الأرض كل ما أخذ من غلتها إن كان أخذ طعاما فمكيلة ما أخذ، وإن كان
أخذ دنانير أو دراهم غرم ذلك كله، وإن كان لا يعرف مكيلة ما أخذ من الطعام
غرم قيمة خرص
(10/289)
ذلك كله، ولا يغرم مكيلة الخرص، قال: ويغرم
العامل لصاحب الأرض كراء ذلك الموضع لجميع السنين التي انتفع بها فيها.
قلت: وكيف يكون كراؤها؟ وإنما يؤخذ الكراء منه اليوم، أترى أن يقوم كراؤه
على أن مستكريه أنظر بالكراء ثلاثين سنة؟ فقال: إنما الذي وقع اليوم حكم من
الأحكام، ولم يكن فيما مضى كراء مؤخرا فيكون على ما ذكرت، ولكن يقوم الكراء
عاما بعام على قدر رغبة الناس فيه أو زهادتهم على حال النقد وبما كان يكري
به مثله عاما بعام.
قلت: ويصنع بالنقض ماذا؟ قال: يقال لصاحب الأصل إن شئت فاقلع نقضه يرفعه
عنك، وإن شئت فأعطه. قيمته مقلوعا وتكون الرحى لك، قال يحيى: لا آخذ بهذا،
ولكن يعطى قيمته قائما.
قلت: فإن قال: لم أقلع نقضي وإنما وضعته على أمر كنت أراه جائزا بيني
وبينك، ولم أغصب ولم أظلم، بل تكون لي قيمته صحيحا، قال: ليس ذلك كذلك،
وليس له إلا أن يقلعه أو بأخذ قيمته مقلوعا إن رضي بذلك صاحب الأصل، ولا
يجبر على غرم قيمته مقلوعا إلا أن يشاء.
قلت: فإن كان للعامل في الموضع شرك فأحب أن يقر عمله ويأخذ الغلة كلها حتى
يرد عليه قيمة العمل أيكون له أن يقر ذلك ويغتل الرحى؟ أم يجبر على القلع؟
قال: إن كان الموضع ينقسم قيل له: قاسم صاحبك وأقر عملك في حظك واقلع ما
صار في حظ شريكك، وإن لم ينقسم قيل لهما: إن اتفقتما على العمل وإلا أجبر
صاحبك على البيع ممن يعمل معك إن كره العمل إذا
(10/290)
لم ينقسم، فإذا باع ممن يعمل معك وأراد هو
العمل غرم لك قيمة ما يصير عليه في حظه من نقضك مقلوعا، ولا يغرم قيمته
صحيحا، ويكونان شريكين في الموضع والعمل على قدر حقوقهما في الأصل، بهذا
يؤمر الشريك إذا أراد العمل، أو المشتري إذا باع الشريك فكره العمل، قال
يحيى: لا نأخذ بهذا القول، ولا أرى أن يباع عليه، قال سحنون: إنما جوز هذا
البيع لحال الضرر إذا كان البائع لا مال له، ولو كان له مال لما جاز بيعه
ممن يبنيه باشتراط ولكان بيعا مكروها لا يجوز، ولكن يجبر على العمل على ما
أحب أو كره، وكذلك الجارية يأذن لها سيدها بالإحرام فتحرم ثم يطؤها إن عليه
أن يحجها، فإن قام عليه الغرماء وفلسوه باعوها وجاز ذلك بحال الضرر ممن
يحجها وحط بذلك عن المشتري، فكل ما ضارع هذا الأصل مما يشبهه فإنما جاز
بيعه بحال الضرورة، وكذلك البئر تكون بين الرجلين وعليها لقوم حياة فانهارت
فإن من أبى يجبر على البيع أو العمل، وكذلك مسألة الأمة لها الولد الصغير
يعتق السيد أحدهما أنه لا يجوز له بيع الرقيق منهما إلا من فلس أو ضرر
فحينئذ يكون ما قال ابن القاسم تباع ويشترط على المبتاع ألا يفرق بينه وبين
أمه، وهذه مثالها في كتبك كثير مما لا يجوز بيعه إلا على الفلس والضرر وبيع
السلطان.
قال محمد بن رشد: قد تقدمت رواية يحيى هذه في نوازل عيسى بن دينار مختصرة،
وتكلمنا هناك على بعض وجوهها، ووقعت ههنا بكمالها، فنتكلم على ما بقي من
وجوهها إن شاء الله. قوله في أول المسألة: وإن كان لا يعرف مكيلة ما أخذ من
الطعام غرم قيمة خرص ذلك كله، ولا يغرم مكيلة الخرص معناه إذا لم يدع واحد
منهما معرفة ذلك، وأما إن
(10/291)
ادعيا جميعا معرفته واختلفا فيه فالقول قول
الغارم العامل، فإن نكل عن اليمين حلف صاحب الأصل وأخذ ما ادعى، وإن ادعى
أحدهما معرفة مبلغ ذلك وقال الآخر: لا أدري فالقول قول من ادعى المعرفة
منهما، قيل: مع يمينه، وقيل: بغير يمين على الاختلاف في لحوق يمين التهمة،
وإنما قال: إذا جهلا ذلك أنه لا يغرم مكيلة الخرص وإنما يغرم قيمته؛ لأنه
إن أخذ مكيلة الخرص من الطعام دخلت المزابنة، إذ لا يدري هل أخذ أقل من حقه
من الطعام أو أكثر، فيدخله التفاضل في الصنف الواحد من الطعام مع الغرر
والمزابنة، ولو أخذ منه على غير خرص دق الطعام ما لا يشك أنه أقل مما اغتل
أو أكثر لجاز ذلك لأنه هبة من أحدهما لصاحبه، وكذلك إذا كان الذي اغتلا
دراهم لا يعرفان مبلغها أو دنانير لا يعرفان مبلغها الواجب فيه أن يتحرى
مبلغ الدنانير فيأخذ منه دراهم فيها نقدا قبل افتراقهما، وأن يتحرى أيضا
مبلغ الدراهم إن كان الذي اغتل دراهم، فيأخذ منه فيها دنانير نقدا قبل
افتراقهما بصرف يومهما أو بما يتفقان عليه من الصرف، ولا يجوز أن يأخذ من
الدنانير ما تحريت به الدنانير ولا من الدراهم ما تحريت به الدراهم للعلة
التي ذكرناها في الطعام إلا أن يأخذ عددا لا يشك أنه أقل من حقه أو أكثر
على قياس ما ذكرناه في الطعام، وقال: إن العامل يغرم لصاحب الأصل كراء ذلك
الموضع لجميع السنين التي انتفع بها فيها، ولم يبين من أي يوم، ويتخرج ذلك
على ثلاثة أقوال: أحدها أن الكراء يكون عليه من يوم وقعت المعاملة بينهما،
والثاني أن الكراء يكون عليه من يوم شرع في البنيان، والثالث أن الكراء
إنما يكون عليه من يوم اغتل على الاختلاف في هذا النوع من الفساد في
المغارسة. وقوله: إن الكراء إنما يقدر بالنقد عاما بعام صحيح لا إشكال فيه،
لأن ما فات من البيع الفاسد إنما يصحح بالقيمة نقدا يوم الفوات وإن تأخر
الحكم عن ذلك، وقد مضى في نوازل عيسى بن دينار توجيه اختلاف ابن القاسم
ويحيى بن يحيى في النقض هل يكون للعامل قيمته قائما أو منقوضا، فلا معنى
لإعادته، وإنما يكون له قيمته قائما عند يحيى على ما هو عليه من البلى، يوم
الحكم لا يوم عمله، وقد مضى بيان ذلك والقول فيه في أول النوازل المذكورة،
وقد
(10/292)
ذكرنا هناك في ذلك تأويلين: أحدهما أن يحط
من نفقته قدر ما بين قيمة البناء جديدا أو باليا، والثاني أن ذلك يرجع إلى
أن يكون له في ذلك ما زاد بنيانه في قيمة الرحى على ما هو عليه من البلى،
وهذا التأويل أظهر في هذه المسألة، والتأويل الأول أظهر في مسألة النوازل
المذكورة، ولم يأت ابن القاسم بحجة فيما اعترض به عليه يحيى بن يحيى بقوله:
فإن قال لم أقلع نقضي، وإنما وضعته على أمر كنت أراه جائزا بيني وبينك ولم
أغصب ولم أظلم، بل تكون قيمته لي صحيحا إلى قوله: ليس ذلك كذلك، وقد مضى
القول على ذلك مستوفى في النوازل المذكورة فلا معنى لإعادته، وسأله إن كان
للعامل في الموضع شرك هل يكون من حقه أن يقر عمله وتكون له الغلة حتى يأتيه
شريكه بما يجب عليه من قيمة العمل أم لا؟ فلم يعطه في ذلك جوابا بينا،
والجواب أن ذلك ليس له عنده، وإنما الواجب في ذلك على مذهبه في أنه ليس
للعامل إلا قيمة عمله منقوضا أن يقسم إن كان ينقسم فيقر ما صار من عمله في
حظه، ويقلع ما صار منه في حظ شريكه إلا أن يشاء شريكه أن يأخذه بقيمته
مقلوعا، وإن كان لا ينقسم أجبر الشريك أن يعطيه قيمة حظه من العمل منقوضا
ولم يكن له أن يأمره بقلعه، إذ لا ينقسم، فإن لم يكن له مال بيع عليه في
ذلك حظه من الرحى قائما، ولا يجوز أن يبيع حظه من أصل الرحى على أن يؤدي
المشتري إلى الشريك العامل قيمة حظ البائع منه من النقض منقوضا لأنه غرر
إلا أن يكون ذلك بعد معرفتهما بالقيمة، ويختلف إذا أدى الشريك إلى العامل
قيمة حظه من العمل منقوضا وأبى أن يعمل معه فيما يستقبل على ثلاثة أقوال:
أحدها أن يقال له: إما أن تعمل معه وإما أن تبيع ممن يعمل معه بشرط، فإن
أبى من الوجهين جميعا فقيل: إنه يجبر على أن يعمل معه إن كان له مال إلا أن
يبيع حظه بغير شرط فيقال للمبتاع ما قيل للبائع، وقيل: إنه يجبر على أن
يبيع ممن يعمل معه، وهو قول ابن القاسم في هذه الرواية، وإن لم يكن له مال
أجبر على بيع حظه ممن يعمل معه بشرط ألا يبذر فيبيعه بغير شرط قبل أن يباع
عليه بالشرط فيقال للمبتاع ما قيل للبائع، وهذا على القول بأن البيع على
هذا الشرط جائز، وهو مذهب ما في المدونة وقول ابن القاسم
(10/293)
في هذه الرواية، والقول الثاني أن البيع
على هذا الشرط لا يجوز، ويجبر على العمل معه إن كان له مال، وإن لم يكن له
مال بيع عليه من حظه بقدر ما يلزمه من العمل فيما بقي من حظه بعد ما بيع
عليه منه، وهو قول مالك في رسم الصلاة من سماع يحيى من كتاب الأقضية،
والقول الثالث: الفرق بين أن يكون له مال أو لا يكون، فإن كان له مال لم
يمكن من بيع حظه على هذا الشرط وأجبر على العمل معه، وإن لم يكن له مال مكن
من ذلك، وهو قول سحنون إن البيع على هذا الشرط لا يجوز إلا على حال
الضرورة، وهو قول يحيى: لا آخذ بهذا القول ولا أرى أن يباع عليه معناه لا
آخذ بأن القيمة تكون في ذلك منقوضة على ما تقدم من مذهبه ولا بأن يكون
الحكم في ذلك حكم من استحق من يده ما بناه بشبهة فيكون من حقه إذا أبى أن
يعطيه قيمة بنيانه قائما أن يعطيه قيمة الأصل، فإن أبى كانا شريكين فيه لأن
ذلك يؤول إلى أن يباع على صاحب الأصل أصله وأن يباع عليه هو بنيانه، وإنما
الذي يكون من حقه للشريك الذي له في الموضع أن يقر عمله فيه وتكون له الغلة
حتى يأتيه شريكه بما يجب عليه من قيمة العمل، ويحتمل أن يريد بقوله: ولا
أرى أن يباع عليه إلا أن يكون من حقه إذا أبى شريكه أن يعطيه قيمة بنيانه
قائما أن يعطيه هو قيمة الأصل ويكونا فيه شريكين، إذ قد قيل ذلك في حكم
الاستحقاق، وهذا التأويل أصح من جهة المعنى، لأن الفسخ من جهة الفساد شبيه
بالاستحقاق، والتأويل الأول أظهر من جهة اللفظ، وبالله التوفيق.
[مسألة: قرية بها غامر فأراد أهلها أن ينتفعوا
بحرثه كيف يقسم بينهم]
مسألة قال يحيى: وسألت ابن القاسم عن قوم سكنوا قرية لبعضهم فيها أكثر من
بعض، وللقرية غامر، فأرادوا أن
(10/294)
يخترقوه وينتفعوا بحرثه كيف يقسم بينهم؟
أعلى قدر مالهم من أصل سهام القرية؟ أم على قدر ما في أيديهم اليوم منها؟
أم على عددهم؟ وعسى أن يكون في القرية من ليس بيده منها إلا مسكنه أو الشيء
القليل منها، فقال: إن ادعوا الغامر لأصل القرية وبذلك يجاورون جيرانهم من
أهل القرى قسم الغامر على أصل سهام القرية على قدر ما لهم في أصل ذلك، ومن
لم يكن له من أصل سهام القرية شيء بميراث ولا باشتراء سهم ولا عطية سهم
وإنما اشترى أو أعطي حقولا بأعيانها أو حوزا من الأرض بعينه أو دارا أو
مقصلة أو ما أشبه هذا مما يشترى بعينه ليس ما اشترى سهما من السهام يجاري
به في القسمة أهل الميراث فلا حق لهؤلاء في الغامر وهو يقسم على كل ذي سهم
من أهل الميراث، ومن اشترى أو أعطي شيئا مشاعا فهو يكون به قسيما على قدر
سهامهم، قال: وإن ادعوا الغامر أجمعون لأنفسهم وفيهم وارث وغير وارث ومشتري
سهم ومعطاه ومشتري غير سهم فتداعوا فيه كلهم فقال كل واحد الغامر لي دونكم
فإنه يقسم على أهل القرية كلهم إذا تداعوا فيه أجمعون على عددهم كالشيء
الذي يتداعى فيه رجلان فلا يستحقه واحد منهما دون صاحبه، فيقسم بينهما بعد
أن يحلفا جميعا على ما ادعياه فيه.
قلت له: فالغامر يكون بين عمران قريتين مثل أن تكون
(10/295)
قرية في ناحية الشرق وأخرى في ناحية الغرب
وبينهما الميل أو الأميال وفيما بين عمران القريتين ومنتهى ما حرث من
مزارعها أرض غامرة فيريد أهل إحدى القريتين حرث ذلك الغامر ويدعونه من حوز
أرض قريتهم، ويريد أهل القرية الأخرى مثل ذلك ويدعون مثل دعواهم ولا بينة
لهؤلاء ولا لهؤلاء على منتهى حوزهم من الغامر، ولا هل لهم دون أهل القرية
الأخرى، فكيف ترى أن يقسم بينهم؟ قال: إن ادعاه هؤلاء لأصل القرية وهؤلاء
مثل ذلك قسم بينهم بنصفين، ولا ينظر إلى قلة عمران إحدى القريتين، وإن قل
جدا ولا إلى كثرة عمران الأخرى وإن كثر جدا، ثم يقسم أهل كل قرية نصفهم على
سهامهم في قريتهم، وإن ادعوه أجمعون لأنفسهم يدعيه كل واحد منهم له دون
صاحبه قسم بينهم أجمعين.
قلت: فإن كانت القريتان كلتاهما من شق واحد متجاورتين والغامر أمامهما
أتقسمه بينهما نصفين أيضا؟ قال: لا ولكن لأهل كل قرية ما كان حذاء غامرها
من الغامر قل ذلك أو كثر، وهو عندي بمنزلة الفناء يكون حذاء الدارين
[فإنما] يعطى صاحب كل دار من الفناء إذا تداعيا فيه ما كان حذاء بنيان داره
قل ذلك أو كثر.
قال محمد بن رشد: هذه ثلاث مسائل، قال في الأولى منها: إن لأهل القرية أن
يقتسموا غامر قريتهم على قدر سهامهم فيها إن ادعوه لأصل القرية، أو على
عددهم إن ادعاه كل واحد منهم لنفسه بعد أيمانهم، ولم
(10/296)
يبين إن كان هذا الغامر داخل القرية أو
خارجا عنها، وذلك يختلف، أما إذا كان داخل القرية فلا اختلاف في أنه يقسم
بينهم على ما قال بالسهمة على وجه قسمة الأرض بين الأشراك لأنه كالساحة
للدار ذات البيوت، ألا ترى أنه لا يجوز للإمام إقطاعه، قيل: إذا اجتمعوا
كلهم على قسمته أو جلهم ورؤساؤهم ومن إليه عماد أمرهم كساحة الدار لا تقسم
إلا باجتماعهم على قسمتها، وهو قول أصبغ، وقيل: إنه يقسم بينهم وإن دعا إلى
ذلك بعضهم كالأرض بين النفر، وهو الصحيح في النظر المشهور في المذهب
المعلوم من مذهب مالك وعامة أصحابه ابن القاسم وغيره. وأما إذا كان الغامر
خارج القرية فاختلف أصحاب مالك في قسمته، ذهب ابن القاسم ومطرف وابن
الماجشون وابن نافع في أحد قوليه ومالك في رواية محمد بن يحيى السبائي عنه
إلى أنه يقسم بينهم على ما يدعونه من أنه من أصل قريتهم، أو على عددهم بعد
أيمانهم إن ادعاه كل واحد منهم ملكا لنفسه بالسهمة على وجه القسمة، وذهب
ابن وهب وابن كنانة وأصبغ وابن نافع في أحد قوليه إلى أنه لا يقسم وإن
اتفقوا على قسمته لما لعامة المسلمين فيه من المرافق باحتطابهم منه ومراعي
دوابهم فيه من المارة وغيرهم إلا أن يثبت أنه لهم ومن حيز قريتهم فيقسم
بينهم على ما يثبت حقهم فيه بالسهمة أيضا على وجه القسمة، وعلى قياس هذا
القول يأتي ما وقع في كتاب الشهادات من المدونة في قوم ادعوا عفوا من الأرض
وأقام هؤلاء بينة وهؤلاء بينة وتكافأت البينتان أنه يكون كسائر عفو بلاد
المسلمين إذ لم ير أن يقسموه بينهم بعد أيمانهم إذ تكافأت البينتان؟
والمسألة الثانية في الغامر يكون بين قريتين إحداهما في الشرق والثانية في
الغرب أو إحداهما في القبلة والثانية في الجوف يأتي على هذا الاختلاف في
جواز قسمته، وكذلك إن كان متوسطا بين قرى كثيرة إلا أنه لا يقسم على مذهب
من رأى أن قسمته بالسهمة، وإنما يقسم بالتعديل بالقيمة ويجعل نصيب كل قرية
مما يليها ليرتفع الضرر بذلك عنهم بدخول بعضهم على بعض، وهذا القول اختار
(10/297)
ابن حبيب وقال: إنه لا تحمل الشعراء
المجاورة للقرى أو المتوسطة بينها محمل العفا من الأرض الذي هو لعامة
المسلمين، ألا ترى أنه ليس للإمام أن يقطع منها أحدا شيئا لأنه حق من
حقوقهم كالساحة للدار أو للدور إنما العفا فيما بعد من العمران مما لا
تناله ماشيتهم في غدوها ورواحها، فهذا لا حق فيه لأحد من [أهل] ، القرى
التي تجاوره ولا لغيرهم إلا بقطيعة من الإمام القاضي إن رأى إقطاعه بالناس
أرفق من إقراره كما هو على حاله، واعترض الفضل قال ابن حبيب: إنه ليس
للإمام أن يقطع شيئا من الشعراء التي تكون بين القرى، قال: وأين يقطع
الإمام القاضي إلا فيما قرب من العمران، وهذا لا يلزم؛ لأنه إنما أراد أنه
ليس للإمام أن يقطع من الشعراء القريبة من القرى جدا لأن إقطاعها ضرر بهم
في قطع مرافقهم منها التي كانوا يختصون بها لقربهم منها على ما سنذكره فيما
تكلمنا على أول مسألة من رسم الدور والمزارع إن شاء الله عز وجل؛ والمسألة
الثانية في الغامر يكون حذاء قريتين متجاورتين تجري أيضا على الاختلاف
المذكور في جواز القسمة إلا أنها لا تقسم على مذهب من رأى قسمة الغامر
بالسهمة ولا بالتعديل بالقيمة، وإنما يكون لكل قرية من الغامر ما كان حذاء
غامرها كما قال، وبالله التوفيق.
[: ليس له أن يحدث ما يضر بالمخاضة التي هي ممر
المسلمين]
ومن كتاب الصبرة
قال: وسألته عن الرجل تكون [له] في أرضه مخاضة نهر فيريد أن ينصب في موضعها
رحى، وتلك الرحى تغور المخاضة، أو ينصب الرحى تحتها فيغرق بالمخاضة ويقطعها
أيجوز ذلك له؟ فقال: ليس ذلك له أن يحدث رحى ولا غيرها بموضع يجر بذلك
العمل ضررا على الناس في المخاضة بقطعها ولا تغويرها ولا أمر
(10/298)
يغيرها عن حالها مما يرى أنه ضرر وجر إلى
فساد المخاضة التي هي طريق للعامة.
قلت: فإن كانت المخائض منها على قرب مثل الميل أو الميلين أو الغلوة أو
الغلوتين أيجوز له أن يرد الناس إلى بعض تلك المخائض فينتفع هو بما أحب أن
يضع في أرضه وموضع رحاه؟ فقال: لا يجوز له تحويل الناس عن طريقهم إلى
غيرها، ولا يجوز للناس منعه مما لا يضر بهم، فإن كان يقدر على عمل الرحى
ولا يضر ذلك المخاضة ولا يغيرها عن حالها لم يمنع من العمل، قيل له: إن
الضرر لا يتبين إلا بعد فراغه من العمل، قال: يقال له إن الذي يريد من
العمل يخاف عاقبته، فإن زعمت أنه غير مضر فاعمل، فإن تبين ضرر عملك أبطلناه
عليك ورددنا المخاضة على حالها، فإن شاء أن يعمل عمل على ذلك.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: إنه ليس له أن يحدث ما يضر بالمخاضة التي
هي ممر المسلمين من تغديرها أو تغويرها أو توعيرها وإن كانت المخائض منها
على قرب مثل الميل أو الميلين أو الغلوة أو الغلوتين لما على الناس من
المشقة في خروجهم عن طريقهم الغلوة الواحدة وهي منتهى السهم مائتا ذراع فما
زاد على ذلك لقول الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا ضرر
ولا ضرار» ولو كانت المخائض على القرب جدا لم يمنع من إحداث الرحى على ما
قاله في نوازل أصبغ بعد هذا ليسارة المؤونة على الناس في خروجهم عن طريقهم
الشيء اليسير، فلا يمنع من منفعته بما يريد أن يحدثه في أرضه لما ليس فيه
كبير مشقة على الناس، والأصل في هذا قول رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «إذا اجتمع ضرران ينفي الأصغر الأكبر» لأن منع الرجل
(10/299)
من أن يحدث رحى في أرضه ضرر به، ورد الناس
عن طريقهم إلى غيرها ضرر بهم، فأي الضررين رأى أنه أصغر أي أقل ضررا بقي
لصاحبه أي لم يلتفت إليه معه، ولا حد في ذلك إلا ما يؤدي إليه الاجتهاد
الذي هو أصل في تقييد الأحكام عند عدم النص، «قال رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن واليا:
بم تحكم؟ قال: بكتاب الله، قال: فإن لم تجد؟ قال: بسنة رسول الله، قال: فإن
لم تجد؟ قال: أجتهد رأي، قال: الحمد لله الذي وفق رسول رسوله لما يرضي
رسوله» . وأما قوله إن لم يتبين الضرر بالمخاضة إلا بعد العمل فإنه يقال له
اعمل على أنه إن أضر عملك بالمخاضة أبطلناه عليك فهو صحيح، ومعناه إذا رجعت
المخاضة إلى حالها بإبطال عمله، ولو كانت المخاضة لا ترجع إلى حالها بإبطال
عمله لوجب أن يمنع من العمل بما يخاف أن يضر كما يمنع بما يوقن أن يضر على
قياس قوله هذا، وليس بخلاف لما في سماع حسين بن عاصم بعد هذا في نحو هذا
أنه لا يمنع من منافعه الحاضرة لشيء لا يدري أيكون أم لا، وسنتكلم على
الفرق بين المسألتين هناك إذا وصلنا إليها إن شاء الله، وبه التوفيق.
[: الموات الذي يستحقه الناس بالإحياء]
ومن كتاب يشتري الدير والمزارع قال يحيى: قلت لابن القاسم: أرأيت ما قرب
للأمصار والمدن من الموات الذي لا يجوز للناس أن يستحيوه إلا بأمر الإمام
القاضي إذا أقطعه الإمام القاضي رجلا أيورث عنه أو يبيعه إن شاء؟ فقال:
نعم.
(10/300)
قلت: ويكون أحق به وإن لم يعمره؟ فقال:
نعم، ليست حاله حال المعادن.
قال محمد بن رشد: الموات الذي يستحقه الناس، بالإحياء لقول النبي -
عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من أحيا أرضا ميتة فهي له» هي الأرض الميتة لا
نبات فيها، قال ذلك مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية ابن غانم عنه بدليل
قول الله عز وجل: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ
بَعْدَ مَوْتِهَا} [النحل: 65] فلا يصح الإحياء إلا في البور، والإقطاع
يكون في البور والمعمور إلا في معمور أرض العنوة التي الحكم فيها أن تكون
موقوفة لا تقسم ولا تملك، فإذا أقطع الإمام القاضي أحدا شيئا من الأرض
المعمورة فلا كلام في أن المقطع يستحقه بنفس الإقطاع، وكذلك إذا أقطعه شيئا
من الموات ليحييه يستحقه بنفس الإقطاع فيورث عنه ويكون له أن يتصرف فيه بما
شاء من بيع أو غيره، إلا أن للإمام أن يأخذه بإحيائه، فإن لم يفعل أو عجز
عن ذلك أقطعه سواه، إذ ليس له أن يتحجر ما أقطع عن الناس فلا ينتفع به هو
ولا سواه، والأصل في ذلك ما روي من «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقطع لبلال بن الحارث من العقيق ما يصلح للعمل فلم
يعمله، فقال عمر بن الخطاب: إن قويت على عمله فاعمله وإلا فأقطعه للناس،
فقال له: قد أقطعنيه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال
عمر: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اشترط عليك فيه
شرطا، فأقطعه عمر للناس ولم يكن بلال اعتمل شيئا» فإن باعها أو وهبها أو
تصدق بها بعد عجزه عن عمارتها قبل أن ينظر الإمام القاضي في ذلك نفذ ذلك
ومضى، لأن الغرض ألا تبقى الأرض محجرة عن الانتفاع بها، والمبتاع والموهوب
له والمتصدق عليه يحل محل البائع والواهب، فقوله في الرواية قلت: ويكون أحق
بها وإن لم يعمرها؟ قال: نعم معناه أنه أحق بها إذا قال
(10/301)
أنا أعمرها، وأما إن قال: لا أعمرها أو عجز
عن عمارتها فللإمام أن يقطعها سواه، ولو أحياها سواه بعد أن عجز هو عن
عمارتها بغير قطيعة من الإمام القاضي لجرى ذلك على الاختلاف فيمن أحيا ما
قرب من العمران بغير إذن الإمام القاضي هل يمضي ذلك مراعاة للاختلاف في
استئذان الإمام القاضي في إحياء ما قرب من العمران أو لا يمضي ويخرج عنها
ويكون له قيمة بنيانه منقوضا. وأما لو أحياها سواه قبل أن يعجز هو عن
عمارتها وهو عالم بذلك لكان متعديا عليه فيها لأنه قد استوجبها بنفس
الإقطاع وإن لم يحزها بالعمارة ولا بالبناء خلاف ما تأول بعض الناس عليه ما
وقع في رسم الأقضية الثالث من سماع أشهب، وليس ذلك بتأويل صحيح حسبما
ذكرناه هناك. وفي قوله فقال: نعم ليست حاله حال المعادن لما سأله هل يكون
أحق به وإن لم يعمره نظر لأن الظاهر منه أن المعادن بخلافه في ذلك، وذلك
يقتضي ألا يكون الأحق بالمعادن حتى يعمرها، والمعادن لا حق له في أصولها
وإن عمرها لأن الإقطاع فيها إنما هو في الانتفاع بنيلها لا في أصولها،
فإنما تصح المسألة بأن يعاد قوله: ليست حاله حال المعادن على السؤال الأول،
وهو سأله عن الموات إذا أقطعه الإمام القاضي رجلا أيورث عنه أو يبيعه إن
شاء؟ فقال: نعم، لا على المسألة التي بعدها الذي أعاده عليه. وقد مضى في
رسم الأقضية الأول من سماع أشهب طرف من القول في حكم إقطاع المعادن، وبقية
القول في ذلك في سماع يحيى من كتاب الزكاة، ولو أقطعه أصل المعدن بإفصاح
لكان حكمه حكم إقطاع الأرض الموات سواء، وحد البعيد من العمران الذي يكون
لمن أحياه دون إذن الإمام القاضي ما لم ينته إليه سرح ماشية العمران
واحتطاب المحتطبين إذا رجعوا إلى المبيت في مواضعهم من العمران على ما حكى
الداودي في كتابه من أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
والخلفاء بعده كانوا يقطعون الأرضين التي جلا عنها أهلها بغير قتال ومن عفا
الأرض ما لم تنله أخفاف الإبل في المرعى يريد إذا رجعت إلى المبيت في
(10/302)
مواضعها على ما جرت به عادة الرعاة، وقال
أبو حنيفة: هو أن يصيح صائح في طرف العمران فلا يسمعه من ذلك المكان، وما
ذكرناه من أن الإقطاع لا يكون في المعمور من أرض العنوة هو ظاهر ما وقع في
كتاب الداودي، ومثله حكى ابن حبيب عن مالك من رواية ابن القاسم عنه. قال:
لا أرى للإمام أن يقطع أحدا من أرض العنوة المعمورة شيئا، قال ابن القاسم:
وإنما الإقطاع في أرض الموات وفيها الخطط مثل أفنية الفسطاط التي بقرب
المصلى وبالموقف إذ كانت فلاة لم يكن فيها إلا الحصن فاختط المسلمون ما كان
منها صحراء فنزلوه، وبقي الحصن والعمران لم يكن لأحد، ولم يكن فيه خطط،
والخطط لا تكون في المعمور كما فسرت لك عن مالك، وإنما لم يجز أن يأذن
الإمام القاضي للناس بالاختطاط في قرى العنوة التي لم تقسم أو يقطع أحد
منها شيئا لأن عمر بن الخطاب قد أوقفها فيئا لجميع المسلمين ولم يجعلها في
المقاسم، ورأيت للخمي أن إقطاعها جائز، وليس ذلك بصحيح على مذهب مالك. وحكم
إحياء الموات يختلف باختلاف مواضعه، وهي على ثلاثة أوجه: بعيد من العمران،
وقريب منه لا ضرر على أحد في إحيائه، وقريب منه في إحيائه ضرر على من يختص
بالانتفاع به، فأما البعيد من العمران فلا يحتاج في إحيائه إلى استئذان
الإمام القاضي إلا على طريق الاستحباب على ما حكى ابن حبيب عن مطرف وابن
الماجشون، وأما القريب منه الذي لا ضرر في إحيائه على أحد فلا يجوز إحياؤه
إلا بإذن الإمام القاضي على المشهور في المذهب، وقيل: إن استئذان الإمام
القاضي في ذلك مستحب وليس بواجب، واختلف إن وقع ذلك بغير إذن الإمام القاضي
على القول بأنه لا يجوز إلا بإذنه، فقيل: إنه يمضي مراعاة للخلاف، وهو قول
المغيرة وأصبغ وأشهب، وقيل: إنه يخرج منه ويكون له قيمة بنيانه منقوضا، وهو
القياس، ولو قيل: إنه يكون له قيمته قائما للشبهة في ذلك لكان له وجه. وأما
القريب منه الذي في إحيائه ضرر كالأفنية التي
(10/303)
يكون أخذ شي؟ منها ضررا بالطريق وشبه ذلك
فلا يجوز إحياؤه بحال، ولا يبيح ذلك الإمام القاضي، وبالله التوفيق.
[مسألة: ما يحجر الرجل من الموات البعيد عن
المدائن]
مسألة قلت: أرأيت ما يحجر الرجل من الموات البعيد عن المدائن والإمام
القاضي حيث يجوز له أن يحييه فيكون أولى به أفيستحقه بالتحجير دون العمل؟
فقال: لا يكون أولى به من أحد حتى يعمل إلا أن يحجر ذلك وهو يريد أن يعمله
إلى الأيام اليسيرة حتى يمكنه العمل ولم يتحجر ذلك ليقطع منفعة الناس
ويرجيه لأن يعمل يوما ما.
قلت: فإن تحجر كثيرا وعمل اليسير؟ فقال: هو مثل الذي يتحجر اليسير ويؤخر
عمله ينظر فيما يتحجر فإن كان قويا عليه وإنما أخر عمله لوقت تلين فيه
الأرض عليه أو يرخص الأجراء أو ما أشبه ذلك مما يؤخر الناس أعمالهم إليه
لمثله من العذر فذلك له، فإن رأى أنه أراد أن يتحجر على الناس ما لا يقوى
على عمله فأراد أن يستحق كثير ما تحجر بقليل ما عمل وعمر فليس له إلا
عمرانه، ويشرع الناس معه في فضل ذلك فيكون لمن عمره وقوي على عمله.
(10/304)
قال محمد بن رشد: هذه مسألة بينة حسنة،
وفيها اختلاف، حكى ابن حبيب في الواضحة أن الإمام القاضي ينظر فيما تحجر
فإن كان به قوة علي عمارته من عامه أو ما قرب من عامه مثل السنتين والثلاث
خلاه وإياه، وإلا منعه منه وأقطعه غيره، وقد حكى أشهب عن عمر بن الخطاب في
ذلك حديثا أنه ضرب [له] ، أجلا ثلاث سنين، وقد أنكر ابن القاسم في المدونة
أن يكون سمع من مالك في ذلك شيئا، وبالله التوفيق.
[مسألة: التحجير للموات]
مسألة قلت: فلم صار للرجل ما أقطعه الإمام القاضي مبتولا له، وإن لم يعمله
ولم يكن لمن تحجر أن يستحق شيئا إلا بعمله؟
قال محمد بن رشد: كذا وقعت هذه المسألة دون جواب عما سأله عنه من الفرق بين
المسألتين، والفرق بينهما بيّن واضح، ولوضوحه وبيانه أمسك عن جوابه موبخا
له على سؤاله عما لا يشكل، وذلك أن الإقطاع حكم من الإمام القاضي يستحق به
المقطع ما أقطع إياه، والتحجير للموات ليس بإحياء له فيستحقه به إذ لا
يستحق الموات إلا بالإحياء، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «من أحيا أرضا مواتا فهي له» وبالله التوفيق.
[مسألة: استحق مواتا بعمله ثم تركه حتى صار إلى
خراب]
مسألة قلت: فلم استحق مواتا بعمله ثم تركه حتى صار إلى خراب أليس يكون لمن
أحب أن يعمره؟ قال: بلى.
(10/305)
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في المدونة،
وقول سحنون معناه فيما بعد من العمران، وأما ما قرب منه فلا يبطل استحقاقه
له بتركه إياه حتى يعود إلى حاله الأول، وقوله عندي صحيح على معنى ما في
المدونة من أن ما قرب من العمران ليس لأحد أن يستحييه إلا بقطيعة من الإمام
القاضي، لأن الإمام القاضي إذا أقطعه إياه صار بمنزلة ما اختط أو اشترى،
وقد نص في المدونة على أنه ما استحق أصله بخطط أو شراء لا يزول ملكه عنه
بتركه إياه حتى يعود إلى حالته الأولى، ولو أحيا القريب من العمران بغير
إذن الإمام القاضي على مذهب من يرى أن ذلك له لبطل حقه فيه بتركه إياه حتى
يعود إلى حاله الأولى إذ لا فرق بين القريب والبعيد على مذهب من لا يرى
استئذان الإمام القاضي واجبا فيما قرب من العمران ولا فيما بعد منه. وقد
روي عن سحنون أن من أحيا مواتا فلا يخرج عن ملكه بتعطيله إياه، وإن عمره
غيره كان الأول أحق به، قال ابن عبدوس: قلت له: أو لا يشبه الصيد إذا ند من
صائده؟ قال: لا. فيتحصل فيمن أحيا مواتا ثم تركه حتى عاد لحالته الأولى
فأحياه غيره ثلاثة أقوال: أحدها أن الثاني أحق به في القريب والبعيد،
والثاني أن الأول أحق به في القريب والبعيد، والثالث الفرق بين القريب
والبعيد، ولا أعرف نص خلاف في أن من اشترى مواتا أو اختطه لا يزول ملكه عنه
بتركه إياه حتى يعود إلى حالته الأولى، إلا أن الاختلاف يدخل في ذلك
بالمعنى من مسألة الصيد يند من يد صائده فيستوحش ويصيده غيره، إذ قال محمد
بن المواز فيه إن الثاني أحق به، ولم يفرق بين أن يكون الأول قد صاده أو
ابتاعه، فيلزم مثل هذا في إحياء الموات، ويتحصل فيه أيضا ثلاثة أقوال:
أحدها أن الأول أحق به، والثاني أن الثاني أحق به، والثالث الفرق بين أن
يكون الأول أحياه أو اختطه أو اشتراه، فإن كان أحياه كان الثاني أحق به،
وإن كان اختطه أو اشتراه كان الأول أحق
(10/306)
به، ومحمد بن عبد الحكم يرى في الصيد أن
الأول أحق به على كل حال، فيأتي فيه أيضا ثلاثة أقوال: أحدها أنه للأول على
كل حال، والثاني أنه للثاني على كل حال، والثالث الفرق بين أن يكون الأول
صاده أو ابتاعه. وقد يفرق بين الصيد والموات على مذهب محمد بن عبد الحكم
بأن الصيد غلب صاحبه على بقائه بيده، والموات لم يغلب صاحبه على ترك عمارته
إياه، فيتحصل في مجموع المسألتين خمسة أقوال: أحدها أن الأول أحق من الثاني
في الصيد والموات، والثاني أن الثاني أحق من الأول في الصيد والموات،
والثالث أن الأول أحق بالصيد والموات إن كان اشتراه، وأن الثاني أحق بهما
إن كان الأول صاد الصيد أو أحيا الموات، والرابع الفرق بين الصيد والموات،
فيكون الثاني أحق بالصيد، والأول أحق بالموات وهو الذي يأتي على ما حكاه
ابن عبدوس، والخامس الفرق بينهما بضد ذلك، فيكون الثاني أحق بالموات،
والأول أحق بالصيد، وإنما يكون الثاني أحق بالموات من الأول على قول من
يراه أحق به منه حسبما بيناه إذا كانت المدة قد طالت بعد أن عاد إلى حالته
الأولى، وأما إن أحياه الثاني بحدثان ما عاد إلى حالته الأولى فإن كان عن
جهل منه بالأول فله قيمة عمارته قائمة لأن له في ذلك شبهة، وإن كان عن
معرفة منه بالأول فليس له إلا قيمة عمارته منقوضة بعد يمين الأول: إن تركه
إياه لم يكن إسلاما منه لحقه فيه، وإنه كان على إعادة عمارته، ولا يصدق إذا
طالت المدة أنه لم يسلم حقه فيه وأنه كان على إعادة عمارته له، وبالله
التوفيق.
[: مناصب الأرحية أرحية الأنهار أتقسم]
ومن كتاب المكاتب قال: وسألته عن مناصب الأرحية أرحية الأنهار أتقسم؟ قال:
نعم إذا انقسمت فكان فيما يصير للسهم منتفع، وهو موضع معتمل.
(10/307)
قلت: فإن لم تنقسم وأراد أحد الشريكين أو
أحد الورثة العمل وضعف الآخرون ماذا يحكم به على من ضعف منهم عن العمل؟
قال: يخير بين أن يقاومه حتى يحصل لأحدهما، أو يبيع معه إن دعا أحدهما إلى
البيع يجبر على أحد الأمرين لا بد.
قلت: أرأيت إن دعا القوي إلى العمل أو إلى المقاومة ودعا الضعيف إلى البيع
وقال: ضعفت عن العمل فكيف أقوى إن قاومتك على الاشتراء منك أيهما ترى أن
يجبر؟ وهل فيها من شفعة إن باع أحدهما وهي مما لا ينقسم؟ قال: يجبر الشريك
على البيع إذا دعا إلى ذلك شريكه وكره العمل والمقاومة كان قويا على العمل
أو ضعيفا واجدا للثمن لو قاومه أو معدما، أيهم دعا إلى البيع أجبر له على
ذلك شريكه إذا لم ينقسم، فإن باع أحدهما وهي مما لا ينقسم لم يكن له فيه
شفعة، قال: والحكم بين الشريكين في إجبار أحدهما على البيع في كل ما لا
ينقسم من الرقيق والدواب والأمتعة مثل ما وصفت لك من موضع الرحى.
قال محمد بن رشد: المعنى في سؤاله عن مناصب الأرحية هل تقسم إنما هو في
منصب الرحى الواحدة الخربة هل تقسم بين النفر المشتركين فيه أم لا؟ وأما
مناصب الأرحية ذوات العدد القائمة أو الخربة تكون بين النفر فلا اختلاف فيه
ولا إشكال في أنها تقسم بينهم إذا اعتدلت في القسم فصار لكل واحد منهم رحى
على حدة، فقوله في منصب الرحى أنه يقسم إذا كان فيما يصير للسهم منتفع وهو
موضع معتمل معناه إذا صار لكل واحد منهم بالسهمة من منصب الرحى ما يمكنه أن
يعمل فيه رحى، وما أرى ذلك يتفق، فإن اتفق جازت القسمة وحكم بها على مذهبه
في
(10/308)
الدار الواحدة أنها تقسم بين النفر إذا صار
لكل واحد منهم منها موضع للسكنى، وكذلك الحمام الخرب يقسم بين النفر على
مذهبه إذا صار في حظ كل واحد منهم منه ما يمكنه أن يعمل فيه حماما ولا
يراعى في ذلك على مذهب ابن القاسم نقصان الثمن، وانظر هل يقسم على مذهب ابن
القاسم الحمام القائم والرحى القائمة، وإن كان في قسمته إبطال لهما إذا كان
كل واحد منهما يمكنه أن يعمل في حظه الذي يصير له من الرحى رحى وفي حظه
الذي يصير له من الحمام حماما، والأظهر أن ذلك لا يجب على مذهبه، وقال
مالك: إنه يقسم وإن لم يصر في حظ أحد إلا قدر قدم وما لا منفعة له فيه، ولم
يتابعه على ذلك أحد من أصحابه إلا ابن كنانة، وقال ابن الماجشون: لا يقسم
إلا أن يصير في حظ كل واحد منهم ما ينتفع به في وجه من وجوه المنافع، وإن
قل نصيب أحدهم حتى كان لا يصير له بالسهمة إلا ما لا منفعة له فيه في وجه
من وجوه المنافع لم يقسم، وقال مطرف: إن لم يصر في حظ واحد منهم ما ينتفع
به لم يقسم، وإن صار في حظ واحد منهم ما ينتفع به قسم، دعا إلى ذلك صاحب
النصيب القليل الذي لا يصير له في نصيبه ما ينتفع به أو صاحب النصيب الكثير
الذي يصير له في حظه ما ينتفع به، وقيل: إنه لا يقسم إلا أن يدعو إلى ذلك
صاحب النصيب القليل، وقيل: إنما يقسم إذا دعا إلى ذلك صاحب النصيب الكثير.
وقوله في هذه الرواية إذا لم ينقسم المنصب ودعا أحد الشريكين إلى العمل
وضعف الآخر عنه أنه يخير الذي ضعف عن العمل بين أن يقاومه حتى يحصل لأحدهما
أو يبيع معه إن دعا أحدهما إلى البيع يجبر على أحد الأمرين لأنه كلام وقع
على غير تحصيل، ففيه نظر، لأن الذي يوجبه الحكم إذا لم ينقسم أن يباع ويقسم
الثمن بينهما، فمن دعا إلى ذلك منهما جبر صاحبه عليه وكان من حقه أن يأخذه
بالثمن الذي يعطى فيه إن شاء، فإنما يخير الذي ضعف عن العمل أو أباه بين أن
يقاوم صاحبه أو يبيع إذا دعاه صاحبه إلى المقاومة، وهذا بين من قوله في
بقية المسألة. وقوله: فإن باع أحدهما وهي مما لا ينقسم لم يكن له فيه شفعة
هو خلاف مذهبه في المدونة لأن له فيها أن الرحى إذا بيعت من أصلها فإن
(10/309)
في الأرض والبيت الذي وضعت فيه الرحى
الشفعة بما ينوبها من الثمن، وقوله إنه لا شفعة له في ذلك هو على قياس
مذهبه في أن الشفعة لا تكون إلا فيما ينقسم لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإذا وقعت الحدود فلا شفعة» لأن فيه دليلا على أن
الشفعة لا تكون إلا فيما يقع [فيه] الحدود إذ لم يختلف قوله فيما عملت أنه
لا شفعة فيما لا ينقسم بحال مثل النخلة أو الشجرة تكون بين النفر، فإنما
أوجب الشفعة في الرحى على مذهبه في المدونة مراعاة لقول من يوجب فيها
القسمة، وذهب مطرف إلى أن الشفعة في الأصول كلها وإن كانت مما لا ينقسم
بحال كالنخلة أو الشجرة بين الرجلين لأنها من جنس ما ينقسم، وعلى ما في
المدونة من مذهب ابن القاسم جرى العمل عندنا في الرحى ألا تقسم وأن تكون
فيها الشفعة، وهو خلاف قول مالك في القسمة لأنه يوجبها، وخلاف أصل بن
القاسم في الشفعة لأنها لا تجب على أصل مذهبه، وهو نص قوله في هذه الرواية،
وبالله التوفيق.
[مسألة: البينة على من ادعى واليمين على من
أنكر]
مسألة قال: وسألته عن الحائط من حجرة الرجل يسقط وفي الحجرة بئر له يشرب
منها جيرانه زمانا حتى مات بعضهم، وشرب الأبناء بعدهم حتى طال الزمان، ثم
أراد منعهم وردها على حالها الأول، فقال: إن كانت معروفة في غلقه وحجرته
حتى انهدم الجدار فتركها شربا لجيرانه ردها إن شاء وإن طال زمانها إلا أن
يأتوا بأمر يستحقونها به، وإن كان ما ذكر من أمر الجدار مجهولا
(10/310)
وتقادم الأمر فيها جدا لم يمنع أحد ممن
يشرب منها إلا أن تقوم البينة على عارية أو إرفاق أوامر بين يستحقها به
دونهم.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال لأن الأمر محمول على ما هو عليه أو على ما
يعرف حتى تقوم البينة بخلافه، فإن عُرف أن البئر كانت في حجرته وفي غلقه
فمن حقه أن يعيدها على ما كانت عليه إلا أن يثبت عليه أنه أباحها للناس
إباحة مؤبدة، وإن لم يعرف أنها كانت في حجرته وتحت غلقه لم يكن له أن يحجر
عليها ويدخلها تحت غلقه إلا أن يثبت أنها كانت في ملكه فأعارها للناس أو
أرفقهم بالشرب منها مدة ما، فيكون من حقه أن يعيدها إلى ملكه، والأصل في
هذا قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «البينة على من ادعى
واليمين على من أنكر» وبالله التوفيق.
[مسألة: الرحى تكون للرجل متقادمة فيريد رجل أن
يحدث فوقها رحى أو تحتها]
مسألة قال: وسألته عن الرحى تكون للرجل متقادمة فيريد رجل أن يحدث فوقها
رحى أو تحتها، قال: إن كان ذلك مضرا بالقديمة يغيرها عن حالها في نقص طحين
أو يكثر بذلك مؤونة عملها أو شيء مما يضر بصاحبها ضررا يتبين عند أهل
المعرفة بالأرحاء منع الذي يريد أن يحدث فوقها أو تحتها رحى لما يخاف من
إدخال الضرر على صاحب الرحى المتقادمة.
قال محمد بن رشد: هذا هو المشهور في المذهب، ومثله حكاه
(10/311)
ابن حبيب في الواضحة عن ابن الماجشون، وحكي
عن أصبغ أنه لا يمنع إلا أن يبطل عليه بذلك رحاه أو يمنعه من جل منفعتها،
قال: لأن الانتفاع بالأنهار وحوز منافعها ليس بحق ثابت كحق ذي الخطة إذا
بنى عليه في فنائه ما يضر به، وإنما هو كالموات، فإذا كان إن أنشأ الثاني
رحاه انتفعا جميعا فلا يمنع، وإن أضر بالأول إلا أن يبطلها أو يذهب بجُل
منفعتها، واحتج على ذلك بقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
في سيل مهزور ومذينب «يمسك الأعلى حتى يبلغ الكعبين ثم يرسل على الأسفل»
فقال: ألا ترى لو أراد رجل أن ينشئ في حقه حائطا فوق حائط صاحبه لم يكن
لصاحبه الأسفل حجة في أن يقول له لا تنشئ في حقك حائطا فوق حائطي لأنك إذا
فعلت ذلك استأثرت بالماء علي حتى تسقي به حائطك فلا يأتيني منه إلا ما يفضل
عنك، أو لعله لا يفضل عنك [منه] شيء لقلة الماء، هذا معنى قوله دون لفظه،
ولا يلزم ابن القاسم ما احتج به عليه أصبغ من الحديث لأنه يخالفه في
تأويله، ومعناه عنده إذا أنشأ الأعلى حائطه قبل الأسفل أو أنشأ حائطيهما
معا، وأما إذا أنشأ الأسفل حائطه قبل الأعلى فلا يبدأ عنده الأعلى بالسقي
عليه إلا أن يكون فيما يفضل عنه ما يكفي الأسفل، وذلك ظاهر من قوله في
[أول] سماع أصبغ بعد هذا على ما سنبينه هناك إن شاء الله، وبه التوفيق.
[مسألة: إن تشاحا فليس لكل رجل إلا نصف النهر]
مسألة قلت: أرأيت إن كان بعدوتي نهر موضع رحيين والعدوة الواحدة لرجل
والأخرى لآخر، وهما متقاربتان إن عمل المنصب الذي بهذه العدوة فنفذ سده إلى
العدوة الأخرى أبطل منصب
(10/312)
الأخرى، وإن عمل الآخر كذلك تبطل هذه
الأخرى أترى أن يقتسما الماء أم يجوز لأيهما سبق إلى العمل أن ينفذ سده وإن
كان ذلك لا يضر بأرض [أهل] العدوة التي ينفذ إليها السد غير أن في ذلك
إبطال منصب الأخرى؟ قال: إن تشاحا فليس لكل رجل إلا نصف النهر، فإن كان في
نصفه ما يعمل عليه رحى فذلك له، وليس له أن ينفذ سده إلى برية غيره إلا
بإذن أهل تلك البرية، أضر ذلك بهم أو لم يضر، وذلك أن نصف الماء لهم إن
تشاحوا إن شاؤوا أن يسقوا به أو يحولوه إلى منافعهم كان ذلك لهم، وإن لم
يكن في نصف الماء ما يحمل عمل رحى منعا جميعا من العمل حتى يتراضيا على ما
يحل لهما.
قال الإمام القاضي: هذه مسألة صحيحة بينة لا إشكال فيها، ولا لبس في شيء من
معانيها، ولا اختلاف في شيء من وجوهها، فلا معنى لتكلف القول فيما يستغنى
عنه، وبالله التوفيق.
[: المسرح يكون لقوم من حوز منزلهم فيريد بعضهم
حرثه ويأبى ذلك بعضهم]
ومن كتاب [أوله] أول عبد ابتاعه فهو حر قال: وسألته عن المسرح يكون لقوم من
حوز منزلهم فيريد بعضهم حرثه ويأبى ذلك بعضهم، أترى أن يترك مرعى أم يقسم؟
فقال: الذي يريد أخذ حقه أعذر من الذي يريد أن يبور أرضه للمرعى وأرض شريكه
وهو كاره، فأرى أن تقسم، ثم يحرث من شاء، ويرعى من شاء في نصيبه.
قال الإمام القاضي: هذا على ما تقدم من مذهب ابن القاسم في
(10/313)
قسمة الشعراء في أول رسم هذا السماع، وقد
مضى من القول على ذلك هنالك بيان ما يجب قسمته منها باتفاق إذا دعا إلى ذلك
أحد الأشراك مما لا يجوز باتفاق ومما لا يجب إلا على اختلاف، والمسارح
مقيسة على ذلك، وما وقع في سماع عبد الملك عن ابن وهب من أن المسارح لا
تقسم وإنما تقسم الأرضون خلاف قول ابن القاسم هذا، وموضع اختلافهما إنما هو
إذا كان المسرح خارجا عن أرض قريتهم هل يقسم بينهم على ما يدعونه من أنه
مالهم وملكهم؟ وإذا كان بين القرى هل يقسم بينهم أيضا على ما يدعيه أهل كل
قرية من أنه من حيّز قريتهم أم لا؟ وكذلك يختلف أيضا إذا كان بإزاء
القريتين أو القرى هل يقسم بينهم إذا ادعوه؟ فقيل: إنه لا يقسم بينهم لما
فيه من الحق لغيرهم ممن يمر به فيرعى فيه، وقيل: إنه يقسم بينهم بأن يأخذ
أهل كل قرية منه ما كان بإزاء قريتهم فيقسمونه بينهم دون يمين إن اتفقوا أو
بعد أيمانهم إن اختلفوا، وأما إن كان داخلا في أرض قريتهم أو خارجا عنها
فثبت أنه مالهم وملكهم فلا اختلاف بينهم في وجوب قسمته بينهم، قيل: إذا دعا
إلى ذلك بعضهم، وقيل: إذا دعا إلى ذلك جميعهم أو جلهم ومن إليه عماد أمرهم،
والأول أظهر، والله أعلم.
[مسألة: أخذ نصيبه وأراد أن يقره مسرحا لماشيته
أن يحميه من الناس ويبيع كلأه]
مسألة قلت: أفيجوز لمن أخذ نصيبه وأراد أن يقره مسرحا لماشيته أن يحميه من
الناس ويبيع كلأه؟ قال يحيى: قد كرهه بعضهم وأجازه بعضهم، وقول الذي كرهه
أعجب إلي لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يمنع
فضل الماء ليمنع به الكلأ» فقد نهى عن منع فضل الماء فكيف الكلأ بعينه؟ فلا
أرى أن يبيعه ولا يمنعه، ثم قال: أربع لا أرى أن يمنعن الماء [للشفة]
والنار والحطب والكلأ.
(10/314)
قال الإمام القاضي: قد مضى تفصيل القول في
حكم الكلأ وما يجوز من بيعه ومنعه، وموضع الاختلاف في ذلك والاتفاق فيه في
رسم أخذ يشرب خمرا من سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادته، والحكم في الحطب
كالحكم في الكلأ سواء على التفصيل الذي ذكرنا فيه. وأما الماء فالكلام إنما
هو في فضلته، فما كان في ملك الرجل منه فاختلف هل له أن يمنع فضلته من جاره
فيما يريد من ابتداء الانتفاع أم لا على ثلاثة أقوال: أحدها أن له أن يمنعه
إياها إلا بثمن يواجبه عليها، وجدلها ثمنا عند سواه أو لم يجد، وهو المشهور
في المذهب، والثاني أنه ليس له أن يمنعه إياها إلا أن يجد لها ثمنا عند
سواه، فإن لم يجد لها ثمنا عند سواه لم يكن له أن يحبسها عنه وهو لا يحتاج
إليها، والقول الثالث أنه ليس له أن يمنعه إياها بحال، ولا أن يأخذ فيها
ثمنا من أحد، وهو الذي ذهب إليه يحيى بن يحيى على ظاهر قول النبي -
عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا يمنع نقع بئر ولا يمنع رهو ماء» ، وهذا كله في
العين أو البئر التي تكون في أرض الرجل ولا ضرر عليه في الدخول إلى
الاستقاء منها، وأما البئر تكون في دار الرجل أو في حائطه الذي قد حظر عليه
فله أن يمنع من الدخول عليه في ذلك، وقد مضى في رسم البراءة من سماع عيسى
القول في منع الرجل فضلة مائه ممن يريد أن يسقي به شجرا أو نخلا قد تقدم
غرسه لها فلا معنى لإعادة ذكر ذلك، ومضى في رسم الأقضية الأول من سماع أشهب
حكم مياه آبار المواشي التي تحتفر في المهامه فلا معنى لإعادة ذكر ذلك
أيضا، وأما النار فلا اختلاف في أنه لا يجوز لأحد أن يمنع من الاقتباس منه
إذ لا ضرر عليه في ذلك، ولا يجوز لأحد أن يمنع أحدا ما ينتفع به إذا كان
ذلك لا يضر به لنهي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الضرر
والضرار، وبالله التوفيق.
[مسألة: المسرح لأهل القرية التي هو في حوزها
إن تداعى فيه أهل قريتين]
مسألة قلت لابن القاسم: أرأيت المسارح تكون في بعض القرى
(10/315)
ينتجعها من حولها من أهل القرى بمواشيهم ثم
يريدون أن يقتسموها فيدعي فيها كل من كانت ماشيته تسرح فيه وإن كان إنما
يتخطى إليه القرى؟ قال: فلا حق فيه لمن كان يتخطى القرى إليه، وقد يسرح
الناس بعضهم عند بعض على مسيرة الميل والأميال واليوم والأيام، أفبهذا
يستحق أحدهم كل أرض سرحت فيه ماشيته؟ قال: ولكني أرى أن المسرح لأهل القرية
التي هو في حوزها، فإن تداعى فيه أهل قريتين أو ثلاثة أو أربعة وكلهم حول
ذلك المسرح وهو واسط بينهم ولم يثبت بالبينة لبعضهم دون بعض قسم بينهم على
عدة القرى التي يدعيه أهلها وليس على قدر عمران تلك القرى.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله إن من كان يتخطى القرى إلى المسرح
بماشيته فلا حق له فيه أي لا يقبل دعواه في أنه له مسرح ماشيته فيه، وإنما
يقبل فيه دعوى من كان يتصل به من أهل القرى فيقسم بينهم على الاختلاف في
ذلك حسبما مضى القول فيه في أول الرسم وفي قسمة الغامر في أول رسم من
السماع، وبالله التوفيق.
[مسألة: يسكن القرية وليس له فيها إلا مسكنه
فيعمر من غامرها أرضا ثم يريدون إخراجه]
مسألة قال: وسألته عن الرجل يسكن القرية وليس له فيها إلا مسكنه أو شيء
اشتراه بعينه ليس من أهل الميراث ولا ممن اشترى من أهل الميراث سهما فيعمر
من غامرها أرضا يخترق ويزرعها زمانا وأهل القرية حضور لا يغيرون عليه ولا
يمنعون من عمله ثم يريدون إخراجه، فقال: ذلك لهم إلا أن تقوم له بينة على
اشتراء أو هبة أو حق يترك له به ما عمر إلا أن يطول زمانه جدا.
(10/316)
قلت: أتراه مثل ما يستحق الرجل بعمارته من
دار رجل أجنبي وأرضه أو إنما تراه بحال الوارث أو المولى مع مواليه؟ فقال:
ينظر السلطان فيه على قدر ما يعذر به أصحاب أصل الأرض في سكوتهم لما يعلم
من افتراق سهامهم وقلة حق أحدهم لو تكلم فيه، فإنه يقول: منعني من الكلام
سكوت أشراكي وقلة حقي، فلما خفت تطاول الزمان وما يحدث من دعوى الغامر
تكلمت، فأراه أعذر من الذي يستحق عليه من خاصة داره أو خاصة أرضه شيء، ولا
أبلغ به حد الورثة فيما بينهم ولا حد المولى الذي يرتفق في أرض مواليه أو
الصهر في أرض أصهاره إلا أن يكون ذلك الغامر للرجل أو الرجلين أو النفر
القليل فلا يعذرون بسكوتهم ويحملون فيما عمر جارهم من غامر أرضهم على ما
يحمل عليه من جيز عليه من داره أو أرضه شيء، قال: وهم فيما يعمر بعضهم من
غامرهم المشترك أعذر في السكوت وأوجب حقا وإن طال الزمان جدا.
قال الإمام القاضي: حكم غامر القرية أن يصدق فيه أهل القرية أنه لهم على
أصل سهامهم فيها، فإذا عمر منه شيئا من لا حق له فيه من غير أهل القرية أو
ممن ليس له في القرية إلا مسكن بعينه أو حقل بعينه بحضرة أهل القرية كان
حكمه حكم من حيز عليه ما له وهو حاضر لا يغير ولا ينكر إلا أنه رأى مدة
الحيازة في ذلك على أهل القرية أطول من مدة الحيازة على الرجل الأجنبي لما
يعذرون به من افتراق سهامهم وقلة حق كل واحد منهم ودون مدة الحيازة على
الأوراث والأصهار، وفي حد ذلك اختلاف كثير سيأتي القول فيه في موضعه من
سماع يحيى من كتاب الاستحقاق إن شاء الله، وإنما يستحق ما عمر بطول المدة
التي ذكر إذا ادعى أنه إنما عمر ذلك باشتراء منهم أو هبة أو صدقة، وأما إذا
لم يدع ذلك وأراد أن يستحق
(10/317)
ما عمر بعمارته إياهم بحضرتهم فليس ذلك له،
هذا الذي يأتي في هذه المسألة على قياس قول ابن القاسم في أن غامر القرية
محمول على أنه لأهل القرية، ويأتي على قول ابن وهب ومن قال بقوله في أن
غامر القرية لا يصدق أهل القرية أنه لهم ولا يقسم بينهم إلا أن يثبت أنه
لهم أن يكون ما عمر لمن عمر بطول المدة التي ذكر بمجرد دعواه أنه له، وفي
سماع عبد الملك بن الحسن من كتاب الاستحقاق من قول ابن وهب ما يدل على ما
ذكرناه عنه، وقال في الرواية: إنهم إذا قاموا عليه قبل أن تطول المدة فلهم
إخراجه، ولم يقل إذا أخرجوه هل يكون له قيمة بنيانه إن كان بنى قائما أو
منقوضا، والذي يوجب النظر أن يكون له قيمة بنيانه قائما إن كانوا قاموا
عليه بحدثان ذلك، وإن كانوا قاموا عليه بعد أن طالت المدة ولم تبلغ إلى
الحد الذي يكون الحيازة فيه عليهم عاملة أن يكون له على مذهب ابن القاسم
قيمة بنيانه منقوضا وعلى رواية المدنيين عن مالك قيمته قائما. وأما قوله في
آخر المسألة: وهم فيما يعمر بعضهم من غامرهم المشترك أعذر في السكوت وأوجب
حقا وإن طال الزمان جدا فمعناه أنهم يحملون في حد الحيازة محمل الأصهار
والقرابة من أجل الاشتراك، وقد اختلف في ذلك، فذهب مطرف إلى أن الشركاء
فيما حازه بعضهم على بعض بمنزلة الأجنبيين، وقال أصبغ: الشركاء فيما حازه
بعضهم على بعض بمنزلة الأوراث والقرابة، هذا الذي ينبغي أن يحمل عليه قوله:
وإن طال الزمان جدا لأنه إذا كان الشريك يستحق على شريكه حظه من عامر قريته
بطول الحيازة فأحرى أن يستحق عليه حظه من غامرها بذلك فيقول: إن معنى قوله
وإن طال الزمان جدا أي طال حتى خرج عن الحد الذي يستحقه به الأجنبي ما لم
يتجاوز الحد الذي تكون به الحيازة بين الأصهار والقرابة ولم يشترط سحنون في
نوازله بعد هذا من هذا الكتاب هذا الحد من الطول فقال: إنه يكون لهم إذا
كانوا قد عمروه وزرعوه زمانا بعلمهم فلم يرفعوا ذلك إلى السلطان، فهو خلاف
مذهب ابن القاسم لأنه يرى سكوتهم إلى الحد الذي تكون فيه الحيازة بين
الأجنبيين تبطل دعواهم، ورأى ابن القاسم سكوتهم إلى الحد الذي تكون فيه
الحيازة بين القرابة يوجب أن
(10/318)
يكون القول قول الحائزين في أن الذي حازوه
انفردوا به دون أشراكهم، وبالله التوفيق.
[: تكون له الرحى فيبني تحتها رجل رحى فنقصت
رحى الأول من طحينها]
من سماع محمد بن خالد وسؤاله ابن القاسم قال محمد: وسألت ابن القاسم عن
الرجل تكون له الرحى فيبني تحتها رجل رحى فنقصت رحى الأول من طحينها، قال
ابن القاسم: ليس ذلك له إذا أدخل عليه ضررا.
قلت له: إنهما يرتفقان جميعا، قال ابن القاسم: قد أضر به فيما صنع لأن رحاه
كانت تطحن قبل أن يبني هذا طحينا غير هذا فليس ذلك له.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما تقدم في رسم المكاتب من سماع يحيى، وهو
المشهور في المذهب، وخالف في ذلك أصبغ حسبما ذكرناه عنه هناك، وبالله
التوفيق.
[مسألة: من له ماء يسقي به وفيه فضل عنه هل له
أن يقطعه عن جيرانه]
مسألة وسألته عن الرجل يكون له الماء يسقي به وفيه فضل عنه فيغرس قوم غراسا
على فضل ذلك الماء بعطية منه فيطعم الغرس فيريد صاحب الماء أن يقطعه عنهم،
قال: ليس له ذلك إلا أن يحتاج إليه فيكون أولى به منهم.
قال محمد بن رشد: كان القياس في هذه المسألة ألا يكون لصاحب الماء أن يقطع
[عنه] فضلته وإن احتاج إليها لأنه قد أعطاه
(10/319)
إياها، والمعنى في ذلك عندي إنما هو إذا لم
يصرح [له] بعطية الفضلة، وإنما قال له: اغرس على فضل مائي أو خذ فضل مائي
فاغرس عليه، فيكون من حقه أن يقول: إنما أردت أن يأخذه على سبيل العرية إلى
أن أحتاج إليه أو طول ما أستغني عنه فيحلف على ذلك ويأخذه إذا احتاج إليه،
وأما إذا صرح بالعطية أو بالهبة فقال: قد وهبتك فضل مائي أو قد أعطيتك إياه
فلا يكون له أن يأخذه منه وإن احتاج إليه، ولو صرح بالعرية لكان له أن يرجع
فيه إذا انقضت المدة التي أعاره إليها أو إذا مضى من المدة ما يرى أنه
أعاره إليها إن كان لم يضرب له أجلا، وقد قال ابن أبي زيد: قوله بعطية يريد
العرية لا التمليك، والعرية في هذا على التأبيد إلا أن يحتاج إليه إلا أن
هؤلاء أنفقوا وغرسوا وهو يعلم، ولا ماء لهم غيره، فهذا كأنه تسليم والله
أعلم، قاله ابن أبي زيد، وقال: أعرف نحوه لسحنون، وقد مضى في رسم البراءة
من سماع عيسى زيادات في معنى هذه المسألة، وبالله التوفيق.
[: يحتظر على جنانه بجدار ويقطع عمن يرتفق بماء
تلك العين ما كانوا يترفقون]
من سماع عبد الملك بن الحسن من ابن وهب قال عبد الملك بن الحسن: سألت ابن
وهب عن الرجل يكون له الجنان وليس عليها حائط وفيها عين يغسل فيها من
جاورها من النساء ثيابهن، ويقصرن شققهن، ويرتفقون بها كانوا على هذه الحال
منذ زمان طويل، فأراد صاحب الجنان أو من ابتاعها منه أن يحتظر على جنانه
بجدار ويقطع عمن يرتفق بماء تلك العين ما كانوا يترفقون به من الغسل
والوضوء وغير ذلك من حوائجهم، فادعوا أن لهم فيها هذا المرفق، وشهد لهم على
ذلك شهود، وزعم صاحب الجنان أن العين له وفي جنانه، وأنه
(10/320)
لم يكن ضره من ورد العين لغسل ثوبه وغير
ذلك، وأن اختلاف الناس إليها أضر بها، فأراد أن يحظر على جنانه ويجعل العين
في حظيره ويقطع طريق من كان يرتفق بها، فهل ذلك له؟ فقال: له أن يمنع ماءها
إذا شاء ويبيحه إذا شاء، وليس ما كان يصنع قبل ذلك من إباحته إياه وإرفاقه
جيرانه والناس والمارة بالذي يقطع عنه حقه ولا منعه وإصرافه حيث شاء وبيعه
إن شاء إذا كان ما كان فيه إنما كان معروفا منه، ولم يكن ذلك منه عن صدقة
كانت منه بأصل العين أو بحبس على الناس فله أن يحظره ويقطع ما شاء، وسواء
كان مستنبطها أو مشتريها، وإنما هي بمنزلة بئر الزرع والأجنة إلا أني أحب
له أن لا يمنع الشرب [بغير] حكم يحكم له به عليه، وقال لي أشهب: نعم ذلك
له، وليس عليه أن يدخل في حظيره، ولم يكن له أن يمنعهم قبل أن يحظر من غسل
ثيابهم في تلك العين إلا أن يكونوا يغسلون ثيابهم من حائطه في موضع يخاف
على بعض ما فيه منهم فيكون له أن يمنعهم وإن لم يكن الحائط محظرا إذا كان
على ما وصفت لك.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة لا إشكال فيها ولا اختلاف في شيء من
معانيها، فلا معنى لبيان ما لا يخفى من وجوهها، وبالله التوفيق.
[مسألة: المسرح يكون بين القوم فيريدون اقتسامه]
مسألة وسئل ابن وهب عن المسرح يكون بين القوم فيريدون
(10/321)
اقتسامه هل ذلك لهم؟ فقال: لا يغير عن حاله
التي كان عليها، وليس تقسم المسارح إنما تقسم الأرضون.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة والقول فيها مستوفى في رسم أول عبد
ابتاعه فهو حر من سماع يحيى فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[: لهم قرية يسكنونها ويزرعونها وأمام مزرعتهم
مرعى لماشيتهم]
من نوازل سئل عنها سحنون بن سعيد وسئل سحنون عن قوم لهم قرية يسكنونها
ويزرعونها وأمام مزرعتهم مرعى لماشيتهم فعمد أكثر أهل تلك القرية إلى ذلك
المرعى فحرثوه وزرعوه وبقي منهم ناس لم يأخذوا من المرعى شيئا ولم يزرعوا
فيه شيئا وزرع الذين اختطوا سنين وزمانا أيكون للذين لم يأخذوا فيه معهم
شيء أم لا؟ قال: لا يكون لهم معهم شيء.
قلت: ويكون المرعى للذين زرعوا وعملوا؟ قال: نعم إذا كانوا قد عمروه وزرعوه
زمانا ولم يرفع ذلك إلى السلطان حتى عمروه كما وصفت فأراه للذين عمروه
بالحرث دون الذين لم يعمروا.
قال الإمام القاضي: قول سحنون هذا خلاف قول ابن القاسم في آخر سماع يحيى:
وهم فيما يعمر بعضهم من غامرهم المشترك أعذر في السكوت وأوجب حقا وإن طال
الزمن جدا، وهذه المسألة تتخرج على اختلافهم في غامر القرية ومرعاها إذا
كان خارجا عنها، إذ قد قيل: إنه محمول على أنه لأهل القرية على قدر سهامهم
فيها إن حاز أحد منهم بالعمارة شيئا، وقيل: إنه محمول على أنه موات لجميع
المسلمين إلا أن يدعيه أهل القرية فيصدقون في ذلك، وقيل: إنه محمول على أنه
موات
(10/322)
لجميع المسلمين إلا أن يثبت أنه لأهل
القرية، فعلى القول بأنه محمول على أنه لأهل القرية على قدر سهامهم فيها إن
حاز أحد منهم بالعمارة شيئا منه دون سائرهم وهم حضور لا يغيرون ولا ينكرون
مدة تكون الحيازة فيها عاملة بين الأقارب أو بين الأجنبيين على الاختلاف
فيما حازه بعض الأشراك على بعض هل هم في ذلك بمنزلة الأجنبيين أو بمنزلة
الأقارب كانوا أحق بما حازوه إن ادعوا أنهم استخلصوه لأنفسهم من أشراكهم
بقسمة أو ابتياع أو هبة أو صدقة مع أيمانهم على ذلك، وعلى القول بأنه محمول
على أنه موات لجميع المسلمين إلا أن يدعيه أهل القرية فيصدقون في ذلك إن
حاز أحد منهم بالعمارة شيئا منه دون سائرهم وهم حضور لا يغيرون ولا ينكرون
مدة تكون فيها الحيازة عاملة بين الأجنبيين، كان القول قول الحائزين مع
أيمانهم فيما حازوه أنه مالهم وملكهم وبطل فيه دعوى الحاضرين للحيازة
عليهم، وعلى القول بأنه محمول على أنه موات لجميع المسلمين إلا أن يثبت أنه
لأهل القرية إن حاز أحد منهم شيئا منه بالعمارة دون سائرهم وهم حضور لا
يغيرون ولا ينكرون كان القول قول الحائزين فيما حازوه واعتمروه بمجرد
دعواهم أنه لهم دون يمين، وبالله التوفيق.
[مسألة: العلو يكون لرجل والأسفل لآخر فيخاف
على حيطان الأسفل الضعف]
مسألة قال سحنون: وسألت ابن القاسم عن العلو يكون لرجل والأسفل لآخر فيخاف
على حيطان الأسفل الضعف من قبل شقوق بها إن بنى الأعلى، قال: يهدم الأسفل
ويبني مثل ما كان أولا.
قلت: وعلى من رفد الأعلى؟ قال: على الأسفل.
قال محمد بن رشد: في المجموعة لابن القاسم خلاف رواية سحنون هذه عنه أن على
صاحب العلو إدعام علوه حتى يبني صاحب
(10/323)
السفل إذا احتاج إلى ذلك، ولكلا القولين
وجه من النظر، ورواية سحنون أبين.
[: غرس في واد فجاء رجل آخر فغرس في ذلك الوادي]
من سماع أصبغ بن الفرج من ابن القاسم
من كتاب الأقضية والأحباس قال أصبغ: وسألت ابن القاسم عن رجل غرس في واد
فكان ماء ذلك الوادي يسقي به غرسه فجاء رجل آخر فغرس في ذلك الوادي، قال:
ليس له أن يحدث على الأول ما يقطع رحاه إلا أن يكون فيه ماء يكفيهما جميعا،
قال أصبغ: وذلك إذا اشترك الأول بالإحياء والغرس والانتفاع بالماء.
قال محمد بن رشد: قوله فجاء رجل آخر فغرس في ذلك الوادي يريد أنه غرس فوق
الأول ليكون أحق بالماء منه على ما يوجبه الحكم في ماء النهر أن يبدأ
الأعلى على الأسفل في السقي به حسبما أحكمته السنة عن النبي - عَلَيْهِ
السَّلَامُ - في سيل مهزور ومذينب «أن يمسك الأعلى حتى يبلغ الماء إلى
الكعبين ثم يرسله على الأسفل» فلم ير ذلك له إذا لم يكن فيما فضل عنه من
الماء ما يكفيه لأنه قال: إن ذلك إنما يكون له إذا كان في الماء ما يكفيهما
جميعا، فعلى قوله إذا لم يكن فيما فضل عنه من الماء ما يكفيه بدئ هو بالسقي
عليه فكان له هو ما فضل عنه، وقول أصبغ مبين لقول ابن القاسم أن الثاني
إنما يمنع أن ينشئ غرسا فوق الأول ينقطع به الماء عنه إذا بدئ بالسقي عليه
أو كان لا يفضل عنه ما يكفيه إذا كان غرسه قد انتفع بالماء ونبت به وحيي من
أجله، ولأصبغ في الواضحة
(10/324)
خلاف قول ابن القاسم هو أن للثاني أن ينشئ
حائطا فوق حائط الأول وإن لم يكن في الماء إلا ما يقوم به فانقطع السقي عن
الأسفل على ظاهر قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «يمسك الأعلى حتى يبلغ
إلى الكعبين ثم يرسل على الأسفل» إذ عم ولم يخص، فوجب أن يحمل على عمومه
إنشاء الأعلى قبل الأسفل أو الأسفل قبل الأعلى. وقول ابن القاسم أظهر وأولى
لأن الماء إذا لم يكن فيه إلا ما يسقي به أحدهما فأحدث الثاني حائطا فوق
الأول أضر بالثاني وأبطل عليه حائطه ومنعه منفعة قد سبق إليها وحازها، وقد
نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الضرر والضرار
فوجب أن يخص بنهيه هذا عموم قوله: «يمسك الأعلى حتى يبلغ إلى الكعبين ثم
يرسل على الأسفل» فيكون مخصصا في الموضع الذي لا ضرر فيه، وهو إذا أنشأ
جميعا حائطيهما معا أو أنشأ الأعلى حائطه قبل الأسفل، فإنما ذهب أصبغ بقوله
إلى تبيين مراد ابن القاسم وإن كان لا يقول بقوله، وبالله التوفيق.
[مسألة: الفحص العظيم البورليس لأهل المنازل
المحيطة به أن يقتسموه]
مسألة قال: وسئل عن المنازل تكون محيطة بفحص عظيم ويكون لأهل تلك المنازل
فيما يلي كل منزل منها أرض غامرة تحرث، وأكثر ذلك الفحص بور يرعى فيه أهل
تلك المنازل وغيرهم من المارة ويحتطبون فيه، ولا يزال بعضهم يتزيد إلى أرضه
العامرة منه، وكيف إن اجتمعوا على اقتسامه؟ قال: أرى أن يترك على حاله ولا
يجوز لهم اقتسامه للمنفعة التي فيه لمن بعدهم ممن يأتي وللمارة التي قد جرت
فيه منفعتهم من رعيهم ومناخ إبلهم
(10/325)
واحتطابهم فيه، فإن فعلوا شيئا من ذلك لم
أر لمن زرع منهم أن يدخل معهم في شيء من ذلك، قال أصبغ: ويمنعون ويرد ويترك
على حاله، وهو الحق، وهو بحال الماء المورود وسطهم فهو للعامة منهم وغيرهم
وليس لهم اقتطاعه ولا ردمه ولا شيء منه ولا لأحد منهم قرب منه أو بعد لا
جميعا ولا شتى.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه أن الفحص العظيم
البور الذي يرعى فيه الناس ويحتطبون منه ليس لأهل المنازل المحيطة به أن
يقتسموه ولا أن يتزيدوا إلى عامرهم منه فيتملكوه لما في ذلك من قطع منافع
الناس منه، وإنما اختلف في قسمة البور الغامر والمسرح والشعراء التي تكون
بإزاء القرى متصلا بها حيث يشبه أن يكون من حيزها حسبما مضى القول فيه
مستوفى في أول رسم سماع يحيى، وفي رسم أول عبد ابتاعه فهو حر، وبالله
التوفيق.
[: كان يبني رحى فأرادوا منعه لغاشية الرحى وما
يردها من الناس]
من نوازل سئل عنها أصبغ وقال أصبغ في رجل كان يبني رحى أو بنى في جوار
مغتسل لقوم أو مستقى فأرادوا منعه لغاشية الرحى وما يردها من الناس هل لهم
منعه؟ وكيف إن كان على المغتسل طريق سائرة عامرة هل له بذلك حجة عليهم؟
وكيف إن غور صاحب الرحى مجازا فوقها لعامة أو لخاصة قريبا فردهم عنه إلى
مجاز فوقه أو تحته هو أخصر لهم أو فيه بعض الجور عليهم إلا أنه لا مضرة
عليهم فيه؟ قال أصبغ: الجواب فيه إن شاء الله إن كان يضر بهم وبغاشيتهم
ومستقاهم وممرهم أو ينتقص منها شيئا
(10/326)
فيفسده عليهم ويغور أرضهم إلى غيرها لم يكن
ذلك له على حال إلا أن يكون تحويل الطريق الذي ذكرت الأمر اليسير جدا ليس
فيه عطف عليهم في ممرهم ولا عرج عن سعة طريقهم إنما هو اليمنة واليسرة،
الظل بالظل، والجنب بالجنب واليمين باليمين، شيء لا يتباعد ولا يضر، فإن
كان ذلك كذلك مما لم يلحقهم ضرره ولا عاقبته في طريقهم إذا أقبلوا ولا
مخرجه إذا أدبروا من طريقهم هذه الأولى ولا في غاشيتهم ولا في خشونة
مستقاهم ولا في مغتسل، فإذا كان هكذا وصح فلا أرى بذلك بأسا، وإن كان عليهم
فيها وكف فحيث وجد الضرر على الطالب وجب على السلطان دفع الضرر.
قال الإمام القاضي: هذه مسألة جيدة بينة صحيحة، وقد مضى بيانها ووجه الحجة
فيها في رسم الصبرة من سماع يحيى فلا معنى لإعادة شيء من ذلك، وبالله
التوفيق.
[مسألة: لهم مجرى ماء وهم فيه أشراك فاندفنت
الساقية فأرادوا حفرها وتنقيتها]
مسألة وسئل أصبغ عن قوم لهم مجرى ماء، وهم فيه أشراك، فلبعض الناس عليه
أجنة كثيرة، ولبعضهم جنان أو جنانان، لبعضهم أكثر من بعض، فاندفنت الساقية،
فأرادوا حفرها وتنقيتها، كيف تحفر على عدة الأجزاء أم على عدة الجماجم؟
(10/327)
قال: لا بل على الأجزاء والأنصباء فيه،
والانتفاع فيه، وهو كالشفعة تكون على قدر الحقوق، وهو أيضا بمنزلة حقوق
القسام تكون على قدر الحقوق والأنصباء، ولسنا بقول ابن القاسم فيه إنه على
الجماجم، ولا نعلم شيئا من هذا يكون على الجماجم في أنواع العلم إلا كنس
المراحيض المشتركة لأن الانتفاع بها وفيها سواء، ولا يحاط فيه بعلم معرفة
ذلك، فإن اختنقت الساقية واحتاجت إلى الكنس وكان بعضهم ينتفع بأعلاها وبعض
بأسفلها فدعا الأسفلون الأعلين إلى الكنس، وقالوا لهم: تكنسون معنا لأن
مجرى مائكم علينا، فإن اختنقت عندنا أضرت بكم، وقال الأعلون: لا حاجة لنا
بكنسها، وذكروا أنها ليست مضرة لهم فقال: أرى أن يكنسوا معهم لأن مجرى
مائهم فيها.
قلت: فإن اختنقت في أعلاها فدعا الأعلون الأسفلين إلى الكنس فأبوا عليهم؟
قال: ذلك لهم إلا أن يعينوهم، وإنما أمرنا الأعلين بالكنس مع الأسفلين لأن
مجرى مائهم ووسخهم عليهم، وليس للأسفلين على الأعلين مجرى.
قال الإمام القاضي: أما إذا اندفنت الساقية في أعلاها قبل أن تصل إلى واحد
منهم، وهي إن نقيت وصل الماء إلى جميعهم، وإن لم تنق لم تصل إلى واحد منهم،
فالذي ذهب إليه أصبغ من أن حفرها وتنقيتها يكون على قدر الحقوق لا على عدد
الجماجم هو الأظهر مما قيل في ذلك لأنه أصل قد اختلف فيه قول ابن القاسم،
فله في كتاب الأقضية من المدونة في أجرة القاسم إنما تكون على عدد الرؤوس
لا على قدر الأنصباء،
(10/328)
وله في أول سماع يحيى عنه من كتاب البضائع
والوكالات في أجرة الأجير على الخصام أنها تكون على قدر الأنصباء لا على
عدد الرؤوس، وذلك اختلاف من قوله، إذ لا فرق بين المسألتين في المعنى
والقياس، وهذا الاختلاف داخل في مسألتنا هذه وفي غير ما مسألة، من ذلك
مسألة نوازل سحنون من كتاب الجعل والإجارة في القوم يستأجرون الأجير وعلى
حرز أعدال متاع أو حرز حبال مقاث ولبعضهم منها القليل، ولبعضهم الكثير، وما
أشبه ذلك من المسائل، واختلف أيضا قول ابن القاسم في تنقية الكنف، فالمعلوم
من مذهبه الأظهر من الأقوال أنها تكون على عدد الرؤوس، وهو على قياس قوله
إنها تكون على قدر الأنصباء، وهو قوله في رسم باع شاة من سماع عيسى من كتاب
جامع البيوع، وعليه يأتي ما روي عنه من أن تنقية كنف الدور المكتراة تكون
على أرباب الدور، فتفرقة أصبغ بين كنس الكنف وسائر المسائل المذكورة هو
أظهر الأقوال، ويتحصل في جملة المسألة ثلاثة أقوال: أحدها تفرقة أصبغ هذه
بين تنقية الكنف وما سواها من المسائل، والثاني أن الحكم في جميعها أن يكون
على عدد الأنصباء لأن من قال في كنس الكنف إنه يكون على قدر الأنصباء، وهو
مذهب أشهب في سماع أصبغ من كتاب الأقضية، وأحد قولي ابن القاسم على ما
ذكرناه، فأحرى أن يقول ذلك في سائر المسائل، والثالث أن الحكم في جميعها أن
يكون على عدد الرؤوس لأن من قال في أجرة القسام وفيما سواها من المسائل
المذكورة إنها تكون على عدد الرؤوس فأحرى أن يقول ذلك في تنقية الكنف، وأما
إن اندفنت الساقية بعد أن وصلت إلى واحد منهم فإنه يقال للذي لم تصل إليه:
إما أن تعمل مع الذي وصلت إليه، وإما أن يعمل هو وحده ويكون أحق بحظك من
الماء حتى تأتيه بما يجب عليك من النفقة على الاختلاف الذي ذكرناه من عدد
الجماجم وقدر الأجزاء، وأما إذا اختنقت الساقية بعد أن تجاوزت حظ
(10/329)
أحدهم وهو الأعلى منهم فلا يلزم الأعلى أن
يعمل مع الأسفل إذ لا منفعة له في العمل ولا ضرر عليه في تركه لتأتي السقي
له في الحالتين جميعا، هذا الذي يأتي في هذه المسألة على أصولهم، وقوله
فيها: فإن اختنقت الساقية فاحتاجت إلى الكنس وكان بعضهم ينتفع وبعضهم
بأسفلها لأنها هي الساقية التي يتصور فيها أن ينتفع بعضهم بأعلاها وبعضهم
بأسفلها، وأما ساقية ماء السقي فأعلاها ينتفع به الأعلى والأسفل، وأسفلها
لا ينتفع به إلا الأسفل وحده، وقد مضى الحكم في ذلك وتفصيل القول فيه. وأما
حكم الساقية التي تجري في المحاج بالأثقال والرحاضات فالحكم فيه على ما قال
أصبغ في الرواية من أن يعمل الأعلى مع الأسفل ولا يعمل الأسفل مع الأعلى
للعلة التي ذكرها من أن ماء الأعلين ووسخهم يجري على الأسفل، وليس للأسفل
على الأعلى مجرى، وقد بين ذلك سحنون فيما حكى عنه ابن أبي زيد في النوادر
من رواية أبي بكر بن محمد فقال: على الأول أن يكنس وحده حتى يبلغ إلى
الثاني، ثم على الأول والثاني الكنس حتى يبلغا إلى الثالث، ثم على الأول
والثاني والثالث الكنس حتى يبلغوا إلى الرابع، هكذا أبدا حتى يبلغوا إلى
آخرها، وهذا لا اختلاف فيه إذا كانت تجري في الأزقة والطرق، وأما إذا كانت
تجري في الدور والأملاك فقيل: إن على كل واحد من أرباب الدور والأملاك أن
ينقي ما في داره أو ملكه منها، وهو الذي يأتي على مذهب أشهب وأحد قولي ابن
القاسم في أن تنقية الكنف المشتركة على قدر الأنصباء، وتنقية كنف الدور
المكتراة على أرباب الدور لا على المكترين، وبالله التوفيق.
[مسألة: هل يلزم استئذان الإمام في إنشاء
الأرحى على الأنهار]
مسألة وسئل عن إمام اغتصب أرحية على نهر، وتلك الأرحية قديمة بذلك الموضع،
فعمد الغاصب فخربها وبنى تحتها قريبا من موضع المغصوبة منه أرحية بنقض
المغصوبة، فأقامت الأرحية بالموضع الذي أنشأها فيه الغاصب زمانا طويلا
خمسين سنة أو
(10/330)
أكثر تداولها أمراء، ثم إن ورثة المغصوب
قاموا طالبين بحقهم فأنصفوا منه، وقضي لهم به، وأمر أهل الغاصب ومن كانت
تلك الأرحية في أيديهم من ورثة أولئك الأمراء بقطع نقضهم من الموضع الذي
أحدث فيه الغاصب الأرحية، وذلك إذ لم تقم لورثة المغصوب البينة على نقض،
وقامت لهم البينة على أصل الأرحية فوق هذا الموضع الذي أحدث فيه الغاصب،
فأمر بقلع النقص وخراب تلك الأرحية من أجل أن موضع الأول لا يمكن أن تكون
فيه أرحية لقرب المحدثة من موضع الأرحية الأولى فشق على أهل الغاصب قلع
نقضهم لما يصير عليهم فيه من المؤونة، فباعوا ذلك النقض من المغصوب، فلما
اشتراه المغصوب وصار له بالموضع الذي كان الغاصب أحدث فيه أرحية رأى أن يقر
النقض على حاله ويبني بذلك الموضع أرحية من قبل أن ذلك الموضع لا يجوز لأحد
أن يبني فيه رحى لمكان ضرورته بموضع الأول وإن هذا الموضع ليس لأحد من
الناس، وإنما هو نهر للمسلمين عامة، فبنى المغصوب منه بذلك الموضع أرحية
وأنفق فيها أموالا عظيمة والإمام والقاضي وجميع الناس ينظرون إليه ينفق
ويبني ويعمل حتى فرغ منها بالمؤونة العظيمة، ثم اغتلها بعد ذلك سنتين أو
ثلاثا، ثم قام عليه الإمام اليوم بعد ما وصفت لك فأراد
(10/331)
أن يخرب عليه الإمام ما عمل، وقال له
الإمام إن هذا الموضع الذي أقررت فيه أرحيتك ليس لك، وإنما هو للناس، وأنا
الناظر فيه وموضعك الذي قضى لك فيه فوق هذا، وأراد أن يخرب عليه، فكان من
حجة المغصوب في ذلك أن قال: أما موضعي الذي بنيت فيه فإن الغاصب الأول حين
أخرق أرحيتي ونقلها من موضعها إلى هذا الموضع أفسد علي المنصب وغدره، وإنما
غدره ليصلح على نفسه هذا الموضع الذي نقل إليه النقض، ومع ذلك أيضا إني يوم
غصبني هذا الغاصب لو أردت أن أنقلها إلى هذا الموضع لم يكن لأحد أن يمنعني
منه، ولا على أحد فيه مضرة، ولا لأحد أن يبني بهذا الموضع أرحى لموضع ضرر
ذلك بأرحيتي التي من فوق، وإن الموضع الذي أقررتها به ليس لأحد من الناس،
بل أنا أعظم الناس فيه حظا لأني لا أترك أحدا يبني فيه رحى لأنه يبطل علي
أرحيتي التي فوق، ومع ذلك أيضا أنه يقول المغصوب منه للإمام: أيها الإمام،
أنت تنظر إلي أبني وأنفق الأموال وأستغل الأموال العظام، وأنت قضيت لي
بتخريبها، ثم تزعم اليوم أنك أولى الناس بالموضع مني لأنك تزعم الناظر
للناس، والإمام القاضي يقول خذ موضعك الذي قضيت لك له به فابن فيه ودع هذا
لما يعلم أن ذلك الموضع لا يستقيم فيه أرحية [بعد] لما أفسد فيه الغاصب
الأول وغدر ذلك الموضع، قال أصبغ: لا أرى لذلك الإمام القاضي نقضه عليه ولا
العرض له، وأراه
(10/332)
جاهلا خاطئا لما يريد أن يفعل من هذا فلا
يخطئ ثانية كما أخطأ أولا، فقد أخطأ في الأمر الأول حين فسخه وعرض فيه لأنه
لم ينقضه لنقض المغصوب منه بعينه، فقد ذكرتم في المسألة أنه لم تثبت له
بينة على النقض أنه له ولا أنه بنيانه، وإنما فسخه لموضع المحدث على موضع
الأول، ولم يكن من الصواب ذلك لأن الأول قد مات ما كان أحيا وصار الثاني
كمن أحيا مواتا آخر بعده فلا يمات حي لموات قد مات لا يقدر على إحيائه لأنه
قد استغدر وصار مواتا ممتنعا من الإحياء، وإنما كان يجوز له أخذ النقض لو
كان للأول فيه نقض معروف كان أدخل فيه يوجد قائما أيضا لم يتغير ولم يبل
مما كان يكون له منتفع إذا قلع كالسواري تحت البنيان تخرج إلى بنيان غيره
إذا غصبت، فأما شيء قد بلي وأكله الماء فلا ينزع وإن كان غصبا لأنه لا
ينتفع به، وموضعه [ليس] لصاحبه فينتزعه وصاحبه مضر، وإنما كان ينبغي للإمام
أن يقضي في هذا للمغصوب منه بقيمة بنيانه ورحاه يوم هدمها الغاصب الأول،
وإن كان الأمر هكذا في بلاء الحجارة والنقض، فإن كان ذهب بحجارتها [مع ذلك]
بأمر مشهود عليه قضى له بالقيمة قائمة، وإن لم يذهب قضى له بما بين
القيمتين ما نقص الهدم والفساد منها حينه إلى وقت قلعها مبنية، فإذا جهل
هذا وأخطأه وأخطأ العمل فيه بصوابه وفسخ وأمر بالقلع وقضى به فاشتراه
المغصوب منه وأقره بإقراره إياه وبما زاد فيه واعتمل وبنى فلا أرى أن يعرض
له فيه ولا ينقض عليه، ولا ينقض الإمام
(10/333)
حكمه الماضي له به لأنه وجه شبهة من القضاء
والفوت، وإنما هذا بمنزلة ما لو قضى له فاشتراه غيره وأرضى صاحبه المنقوض
له منه ومن النفقة وأقره لنفسه أو زاد فيه لم ينبغ في الحق أن يفسخ على هذا
المشتري الأجنبي لأنه يصير ذلك بمنزلة محي مستأنف في ذلك الموضع، ولا يكون
أيضا للإمام عليه خيار في قلعه أو إثباته بالنظر بزعمه للمسلمين، لا أرى
هذا له ليس من قبل أنه علم به فأقره فقط، ولكنه من قبل أنه قد كان لهذا أن
يحييه يومئذ لو كان معطلا مهدوما من أصله بغير إذن الإمام القاضي وبغير
علمه لأن ذلك سنتهم في أنهارهم وعملهم وعملها مباح لهم فيها من أول الإسلام
إلى هلم جرا لا يستأذنون إماما فيه لأن أنهارهم إنما هي لهذا ولمثله من
المنافع، وهذا الغالب عليها ولمصائدهم كنحو أرحيتهم ليست مساقي في طرق
حمالة ولا سيارة ولا مساقي لغيرها من الأرض ولا مركوبة فيمنعون المارة
وغيرها فيمنعون حينئذ، وليست لها مصارف إلا هذه المنافع فهي لهم فيها وإن
قربت من العمران.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة أرحى القنطرة بقرطبة لما نزلت كتب فيها إلى
أصبغ، فأجاب فيها بهذا الجواب، وهو جواب صحيح على مذهبه في أنه لا يلزم
استئذان الإمام القاضي في إنشاء الأرحى على الأنهار فيما قرب من العمران
لأن الواجب كان في ذلك على أصله هذا إذا كان الغاصب قد خرب الرحى التي
غصبها وغدر موضعها بالرحى التي أحدث تحتها حتى لا يمكن أن تعاد فيها الرحى
أن يقر الرحى الثانية للغاصب على حالها، ويكون عليه للمغصوب قيمة رحى مبنية
على ما كانت عليه يوم هدمها
(10/334)
من جودة البناء ورداءته، وإنما كان يجب أن
يقضي على الغاصب بتخريب الرحى التي أحدثها تحتها إن كان لم يغدرها بذلك،
ويمكن إذا خربت أن تعاد على حالها ويكون عليه مع هذا قيمة بنيانها، فيمكن
أن يتأول قوله وأمر القاضي أهل الغاصب بقلع نقضهم على هذا، ويقال: إن سكت
عن ذكر قيمة البنيان للعلم به فلا يكون الحكم على هذا خطأ كما تأول أصبغ
وهو الأولى لأنه يبعد أن يحكم للمغصوب منه بما لا منفعة له فيه من هذه
الرحى المحدثة لا أكثر فيمضي مال الغاصب في غير منفعة تصل إلى المغصوب أو
أن يحكم له بقيمة رحاه على الغاصب ثم يقضي عليه أيضا بهدم رحاه التي
أحدثها، وعلى كلا التأويلين لا يكون للإمام ما ذهب إليه من أن يخرج المحكوم
له المغصوب من الرحى المحدثة إذ قد اشترى نقضها من ورثة الغاصب الذين قضى
عليهم بقلعه وأقره في موضعه لأنه ينزل بذلك منزلة بانيه الذي قد استحقه
ببنيانه إياه لأن ذلك إحياء له على مذهبه وإن لم يستأذن الإمام لا سيما وقد
بنى هو بذلك الموضع أرحية بعلم الإمام والقاضي وجميع الناس كما ذكر في
السؤال، وقول أصبغ في هذه المسألة: إن من أنشأ رحى فيما قرب من العمران على
نهر فليس عليه أن يستأذن الإمام في ذلك بعيد عندي، والصواب أن ذلك لا يكون
له إلا بإذن الإمام إذا كانت الضفتان لجميع المسلمين كما لا يكون له إذا
كانت الضفتان ملكا لرجل إلا بإذن ربهما، وقد قيل فيمن أحيا مواتا فيما قرب
من العمران بغير إذن الإمام: إن للإمام أن يخرجه منه ويعطيه قيمة بنيانه
منقوضا، فعلى هذا القياس يكون للإمام في هذه المسألة ما ذهب إليه من أن
يخرج المحكوم له من الرحى المحدثة ويعطيه قيمة بنيانه منقوضا، وبالله
التوفيق.
[: لا ضرر ولا ضرار]
من سماع حسين بن عاصم من ابن القاسم قال حسين: سألت ابن القاسم عن سداد
الأرحية إذا كانت قد تقادمت في أيدي أهلها أربعين سنة أو خمسين سنة فيشتري
قوم خشبا في جبل هو على ذلك الوادي فيريدون المرور بها في
(10/335)
النهر حتى يبلغوها موضع نفاقها أو موضع
حاجتهم إليها فيمنعهم أهل الأرحية ويقولون: لا تمروا بها على سدادنا ولا
تخرقوها علينا، فيعطونهم على تلك الخشب ليفتحوا لها فرجا في سدادهم
ويمتنعون بذلك أصلا فلا يريدون أن يفتحوا لهم لتمر خشبهم، قال ابن القاسم:
أرى أن يوكل الإمام القاضي رجلا حازما ممن يخاف الله بهدم ما يضر الناس من
تلك السداد في ممرهم بخشبهم وسفنهم ويترك ما وراء ذلك مما لا يضرهم في
ممرهم بخشبهم وحوائجهم لسفنهم من سده لينتفع به إذا لم يكن في ذلك مضرة،
لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا ضرر ولا
ضرار» فتفسير ذلك ألا يتخذ أحد ما يضر بأحد ولا يمنع أن يتخذ ما لا يضر
بأحد، قال: ولا أرى أن يأخذوا من أحد شيئا مما وصفت لك، وأرى أن يؤمروا
بهدمها وتخلية الناس في طريقهم في نهرهم كما وصفت لك، وأرى أن يخرق من ذلك
السد لممر القوارب لحوائج الناس في حمولتهم وصيدهم وغير ذلك مما يحتاجون
إليه إذا كان النهر تمر به القوارب العظيمة يحمل الناس فيه حوائجهم من
أطعماتهم وغير ذلك، وليس لأحد أن يقطع بسده ممر الناس في النهر.
قال الإمام القاضي: وهذا كما قال؛ لأن منفعة عامة المسلمين بالمرور في
النهر بخشبهم وقواربهم لوجوه منافعهم لا يستحقها عليهم أصحاب
(10/336)
السداد بطول المدة، إذ ليس هو حق لمعين
فيحمل عليه بطول السكوت أنه راض بترك حقه في ذلك، فالواجب في ذلك ما ذكر من
أن يخرق من السد موضع تمر منه الخشب والقوارب لمنافع الناس من حوائجهم
وصيدهم، ولا يهدم جميع السد فيبطل على صاحبه رحاه وإن كان المرور في النهر
يسهل بذلك؛ لأن الضرر على صاحب الرحى بإبطال الرحى عليه أكثر من الضرر الذي
يلحق المارة في مرورهم على الموضع الذي خرق منه، وقد قال رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا اجتمع ضرران نفى الأصغر الأكبر»
فتأوله أهل العلم في مثل هذا المعنى، وهو كثير في غير ما وجه واحد، ولو
أراد رجل ابتداء أن ينشئ رحى في حقه على النهر ويقطعه بسد لم يكن ذلك له
إلا أن يترك بالسد بابا مفتوحا يمر به من احتاج إلى المرور فيه [إذا كان
المرور فيه] متصلا، وإن لم يكن متصلا كان له أن يسده في الأوقات التي لا
يحتاج الناس إلى المرور عليه لأن النهر كالطريق فلا يباح لأحد أن يحدث فيه
ما يقطعه، ولا يمنع من أن يحدث فيه ما ينتفع به مما لا يضر به ولا يقطعه،
وأما إن أراد أن يحدث فيه ما يضر به بعض الضرر ولا يقطعه فذلك إلى اجتهاد
الإمام القاضي في أي الضررين أكبر إن كان الذي على المارة فيه أو على الذي
يمنع من منفعته فيما يريد أن يبني فيه أو ينشئ عليه، وقد وقع في المبسوطة
لمحمد بن إبراهيم المدني خلاف قول ابن القاسم هذا، قال: وسئل محمد بن
إبراهيم المدني وكتب إليه من الأندلس عن الخشب التي تقطع بالمغرب عندنا
فتطرح بالوادي فربما مرت بأصحاب السداد [فيمنعونهم من خرق السداد] وهم
يصلحونها كما كانت فقال: إن كان خرقهم إياه يضر بصاحب السد لم أر أن يخرقوا
شيئا، وإن كان لا يضر بهم وهم يصلحونه لا يخاف عليه حاله من أجل ما أخرق
(10/337)
صاحب الخشب بعد إصلاحهم إياه فأرى أن لا
يمنعوا من خرق ما مروا به على ما ذكرت لك، وقول ابن القاسم أظهر لما بيناه،
والله أعلم.
[مسألة: لا تحجروا على الناس]
مسألة قال: وسمعت ابن القاسم يقول في الرجل تكون له الرحى القديمة فيتخذ
رجل تحتها رحى فيقول صاحب الرحى القديمة: أنا أخشى أن تضر هذه الثانية
برحائي فيبعث معهم رجالا من أهل البصر بالعمل فيقولون: لا فساد على رحاه من
الرحى التي تحتها، فيأمر بالعمل ويأذن له بالبنيان، فإذا فرغ أضرت بالرحى
العليا وجمعت عليها الماء فلم تتركها تدور، قال ابن القاسم: إذا اجتهد
السلطان أولا كما ذكرت ثم أمره بالبنيان بعد أن رأى أهل البصر أنها لا تضر
ثم أضرت فلا أرى أن تقلع، ولتقر على حالها، لأنها حكومة قد وقعت، فأنفق بها
صاحب الرحى نفقته فلا سبيل إلى ردها، وليصبر صاحب الرحى العليا، قال ابن
القاسم: ولو تركه صاحب الرحى العليا فعمل حتى طحنت رحاه وفرغ منها، ثم قام
إلى السلطان وذكر ضرها فلم أر للسلطان أن يهدم الرحى عنه لأنه قد تركه حتى
أنفق عليها النفقة العظيمة ثم يريد قلع عمله فليس ذلك له إذا كان حاضرا يرى
عمله: قال ابن نافع أرى أن لا يمضي الضرر فيها على أحد كان أمر السلطان
بالنظر فيه أو لم يأمر، وأرى أن يقلع إذا تبين لأن رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا ضرر ولا ضرار» .
(10/338)
قال ابن وهب: إذا رآه يبني حتى طحنت ثم
أراد منعه من ذلك لم يكن ذلك له كانت رحاه قائمة أو قد خربت لأنه تركه ينفق
ويحوز ما كان هو قد حازه من النهر حتى صار لغيره ثم أراد القيام عليه فيه
فليس ذلك له لأن النهر موات، وقد قال عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ -: لا تحجروا على الناس.
قال محمد بن رشد: وقع في بعض الكتب في هذه المسألة زيادة متصلة بقول ابن
وهب، وهي: وقال ابن وهب فيمن أحيا مواتا ثم تركه فأحيا غيره فهو لغيره، وفي
قول عمر هذا بيان من هذا، قال ابن وهب: فإذا ادعى صاحب الرحى القديمة أنه
إنما كان تركه إياه على غير علم بضرورته وكان ذلك لا يخفى على أحد من الناس
أنه يضر لم يكن له قول، وأقرت الرحى المحدثة على حالها، وإن كان ذلك يخفى
حلف صاحب الرحى القديمة وكان له أن يقلع إن شاء، وفي هذه الرواية بيان لما
يتأول عليه قوله بعد هذا إن شاء الله. ومساواة ابن القاسم في هذه المسألة
بين الذي يبني بأمر السلطان وحكمه، وبين الذي يبني بحضرة صاحب الرحى العليا
وعلمه في أن بنيانه لا ينقض، والمعنى الموجب لذلك مختلف، أما الذي يبني
بأمر السلطان وحكمه فإنما قال ابن القاسم إن بنيانه لا يقلع وتقر رحاه على
حالها من أجل أن الخطأ في ذلك ليس هو منه وإنما هو من الشهود إذ شبه عليهم
فظنوا أن بنيانه لا يضر بالرحى التي فوقها، فكان ذلك بمنزلة الشاهد يرجع عن
شهادته بعد نفوذ الحكم فيقول: شبه علي ويدعي الوهم والغلط فمن قولهم إن
الحكم لا يرد، وإنما اختلفوا في الشاهد هل يغرم التالف بشهادته أم لا حسبما
مضى القول
(10/339)
فيه في أول سماع عيسى من كتاب الشهادات؟
فعلى القول بأن الشاهد يغرم ما أتلف بشهادته وإن ادعى أنه شبه عليه فيها
يلزم أهل البصر في هذه المسألة غرم قيمة الرحى العليا إن كانت بطلت، أو غرم
ما نقص من قيمتها إن كان نقص بذلك طحينها ولم يبطل جملة، وأما على القول
بأن الشاهد لا يغرم ما أتلف بشهادته إذا كان قد شبه عليه فيها ولم يتعمد
الزور فلا يلزمهم شيء إلا اليمين إن ادعى عليهم صاحب الرحى العليا أن ذلك
كان مما لا يخفى عليهم، وأنهم تعمدوا الزور في شهادتهم على الاختلاف في
يمين التهمة، وذلك إذا كان ذلك مما يمكن أن يخفى، وأما إن كان مما لا يمكن
أن يخفى على أحد من الناس فيلزمهم الغرم، ولا يمكنوا من اليمين. وأما الذي
بنى بحضرة صاحب الرحى العليا وعلمه فإنما قال: إن بنيانه لا يقلع ويقر على
حاله من أجل أنه جعل سكوته على البنيان مع العلم به كالإذن له فيه، وهو أصل
قد اختلف فيه، قوله حسبما ذكرناه في غير ما موضع من هذا الديوان، وكذلك
ساوى ابن نافع أيضا بين المسألتين في أن البنيان يقلع ولا يمضي الضرر على
من حصل عليه، ووجه ما ذهب إليه أنه رأى حكم السلطان بذلك خطأ منه إذ قد
تبين الضرر فبان له أنه قد أخطأ في حكمه ولم ير السكوت بمنزلة الإذن، وقول
ابن القاسم أصح لأنه لم يخطئ في وجه الاجتهاد وإنما أخطأ عليه الشهود، ولو
أخطأ في وجه الاجتهاد مثل أن يظن أن من حقه أن يبني رحاه في حقه وإن أبطل
ذلك رحى غيره لوجب عليه أن ينقض حكمه بذلك قولا واحدا، إذ لم يختلف في أنه
ليس له أن يبني رحى في موضع يبطل به رحى غيره، وإنما اختلف هل له ذلك إذا
كان لا يبطلها وينقص من طحينها حسبما مضى القول فيه في رسم المكاتب من سماع
يحيى، وفي سماع محمد بن خالد وقول ابن وهب في الذي ترك الرجل يبني رحى في
موضع يضر برحاه ثم أراد أن يقوم عليه في ذلك أنه ليس له ذلك موافق لقول ابن
(10/340)
القاسم في الجواب ومخالف له في العلة، لأنه
جعل العلة في ذلك أن النهر موات فمن أنشأ فيه رحى كان كمن أحيا مواتا من
الأرض إن تركه حتى عاد إلى حالته الأولى كان لمن أحياه بعده، فجعل تركه
إياه يبني رحى في موضع يبطل به رحاه بمنزلة تركه إياه رحاه حتى تبطل، إذ لو
ترك رحاه حتى تبطل وتذهب ويعود الموضع إلى حاله قبل أن يبني فيه الرحى لكان
لغيره أن يبني في ذلك الموضع بعينه رحى، فكيف فيما قرب منه؟ وهذا إنما يصح
فيمن بنى على النهر رحى في موضع لا حق له فيه وإنما هو لجماعة المسلمين،
وبالله التوفيق.
[مسألة: لا يؤخذ أحد بأكثر مما يقر به على نفسه]
مسألة قال: وسمعته يقول: إذا كانت أرض لرجل على أرض رجل وللأسفل موضع رحى
في أرضه ليس له موضع ساقية، فيقول لجاره الأعلى: ائذن لي أشق بالنهر في
أرضك فأمر الساقية فيها إلى رحائي، فيأذن له وتطحن الرحى، فيريد صاحب الأرض
العليا أن يؤخر الساقية عن أرضه فيقول رب الرحى: قد أنفقت النفقات حتى طحنت
رحائي، فلما استقامت أردت أن تبطلها علي، فقال: ينظر في ذلك، فإن كان قد
وهبها له لم يكن ذلك له، وإن كان إنما أذن له فيها ولا يعرف أهبة أم شراء
أم صدقة أحلف رب الأرض [بالله] لما تصدق عليه ولا وهب ولا كان ذلك الإذن
منه إلا عارية، فإذا حلف نظر، فإن كان مضى لذلك من الأجل ما يرى أن مثل تلك
العارية تكون إلى مثله في مثل ما اعتمره عاملها أخرج له صاحب الرحى وأعطاه
رب الأرض قيمة ما أنشأ على
(10/341)
تلك الساقية من عمل إن قلع كان له ثمن، وإن
لم ينشئ شيئا أكثر من حفر الساقية وإجراء الماء فيها لمنفعته فلا أرى فيها
قيمة عمل، وأرى له إخراجه منها، وإن لم يكن سكن مثل الذي يرى أن مثله عمل
ذلك العمل إليه ثم أراد إخراجه لم يكن له ذلك حتى يتم أجل مثلها.
قال محمد بن رشد: وقعت هذه المسألة في بعض الكتب، وقوله فيها إنه إذا لم
يعلم على أي وجه أذن له في ذلك إن كان على الهبة أو العارية كان القول قوله
مع يمينه أنه إنما أذن له في ذلك على سبيل العارية صحيح لا اختلاف فيه، إذ
لا يؤخذ أحد بأكثر مما يقر به على نفسه، فإن نكل عن اليمين كان القول قول
رب الساقية، وهذا إذا تداعيا في ذلك فقال صاحب الساقية: وهبتني، وقال صاحب
الأرض: بل أعرتك، وأما إذا لم يدع صاحب الساقية على صاحب الأرض الإفصاح
بالهبة وقال: إنما ظننت أنك تريد الهبة، وعلى ذلك حفرت الساقية، ولو علمت
أنك لم ترد الهبة لما حفرتها وأراد أن يحلفه على ذلك لجرى ذلك على الاختلاف
في لحوق يمين التهمة. وقوله إنه إذا حلف على العارية ومضى لها من الأجل ما
يرى أنه أعاره إياه لم يكن له إلا قيمة نقضه منقوضا إن كان له فيما عمل
فيها نقض هو مثل ما له في المدونة خلاف رواية المدنيين عن مالك، وأما قوله
إن أراد إخراجه قبل أن يمضي من المدة ما يرى أنه أعاره إليه فليس ذلك له
فهو خلاف ما له في كتاب العارية من المدونة لأن الذي له فيها إن له أن
يخرجه ويعطيه قيمة بنيانه قائما، وبالله التوفيق.
[مسألة: تكون المخاضة في أرضه فيريد أن ينشئ
فيها رحى وذلك الرحى توعر المخاضة]
مسألة وسألته عن الرجل يتخذ في أرضه رحى فيسد النهر حتى إذا انتهى إلى آخر
السد إلى البرية عرض له رجل من فوقه جرف فيقول: لا تسد إلى موضع جرفي إني
أخاف إذا خنق الماء من
(10/342)
أسفل وجاء السيل أن يحفر الجرف فيذهب أرضي،
فنظر فيه فوجد ذلك إذا كان السيل ربما احتفر فكان كذلك، وربما نجا فلم يضر
بأرضه ولم يحتفر، قال ابن القاسم: لا أرى أن يمنعه بذلك من سد النهر إلى
موضع الجرف لأنه قد احتج بضرورة وعساها ألا تنزل أبدا به فيمنع هذا لما
يخاف أن يجيء أو لا يجيء من منافعه الحاضرة لشيء لا يدري أيكون أم لا؟ وأرى
أن يعمل ولا يمنع، قال: فأما لو نظر إليه أهل البصر بعمل الأرحية والأنهار
فقالوا: إنه لا شك [أنه] إن جاء سيل إن كان على صاحب الجرف فذهب بأرضه
لرأيت له قلع ذلك السد وكل ما يخشى ضرره في أرضه مما هو آت لا شك فيه، وليس
هذا مثل الأول أن يقول: ربما أفسده البنيان أو ربما سلم، هذا لا يمنع من
العمل لشيء لا يدري أيكون أم لا يكون؟ وهذا الأمر الآخر [هو] الذي لا أشك
فيه ولا يترك وإنشاء الضرر عليه في أرضه.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم هذا في هذه المسألة إنه لا يمنع من منافعه
الحاضرة لشيء لا يدري هل يكون أم لا صحيح وليس بمعارض على ما ظنه بعض الناس
لما وقع في رسم الصبرة من سماع يحيى في الذي تكون المخاضة في أرضه فيريد أن
ينشئ فيها رحى وذلك الرحى توعر المخاضة أو تغرقها أنه يمنع من العمل، فإن
لم
(10/343)
يتيقن الضرر بالمخاضة إلا بعد الفراغ من
العمل قيل له: إن الذي يريد من العمل يخاف عاقبته، فإن زعمت أنه غير مضر
فاعمل، فإن تبين ضرر عملك أبطلناه عليك ورددنا المخاضة على حالها، فإن شاء
أن يعمل على ذلك عمل. والفرق بين المسألتين أن الضرر في مسألة سماع يحيى
وإن كان لا يتبين قبل العمل فهو يتبين بعده، فإن تبين بعده قدر على إزاحته،
وما يخاف ويتقى في هذه المسألة ليس له حد معلوم إذ لا يتبين بتمام العمل،
ولعله لا يقع ولا يقدر على إزاحته أيضا إن وقع، ولا يصح أن يقال للذي يريد
العمل اعمل على أنه إن وقع ما يخاف لزمك الضمان، إذ لا يدرى متى يقع إن
وقع، ولعله لا يقع إلا بعد موته وبعد انتقال الأملاك، وهذا بين والحمد لله.
[مسألة: وجه المنفعة بالماء السقي]
مسألة وسألته عن النهر الصغير تكون عليه الأرحية والأجنة والكروم والشجر
فيسقي بماء ذلك النهر أهل كل قرية شجرهم وأجنتهم والأرحية بعضها فوق بعض
إلى آخر النهر والقرى على النهر فيشربون من مائه ويردون عليه بمواشيهم فيقل
ماؤه في الصيف من أجل ما كثر عليه من السداد سداد الأرحية فلا يأتي القرى
السفلى من الماء ما يسقون به ويردونه بمواشيهم، وربما جفت شجرهم، قال: أرى
أن يهدم الوالي تلك السداد إذا علم أن الماء سيأتيهم عامة بهدم السداد
ويكون ذلك منفعة للقرى فأرى أن يأمر بخرق السداد إلا أن يخرج من أرض قوم
وحوزهم فيكونون أولى بذلك وأحق حتى يفرغوا من حاجتهم، ثم يكون الأسفلون
كلهم فيها بالسوية، ثم يقسم أهل كل قرية ماءهم إذا كانوا يحتاجون إليه
(10/344)
على قدر ما لهم في القرية، قال: وإن كان
لأحدهم شرب معلوم من أهل القرية الأسفلين أعطيه إذا ثبت ذلك له إذا أحقه
ببينة عدول أو أمر بين.
قلت: فإن كانوا يردون آبارا لهم وعيونا بمواشيهم وكان نهرهم كما وصفت لك من
الأرحية والأجنة والشجر فقل ماء النهر في الصيف أترى أن يخرق تلك السداد
ويسقي الناس شجرهم وأجنتهم ويبطل الأرحاء؟ فقال: نعم أرى ذلك إذا كان خرقها
يبلغ إليهم ويتمتعون به رأيت ذلك ورأيت ألا يمنعوا منافعهم من ذلك، فإن رأى
أن ذلك الخرق في السداد لا ينفعهم ولا يسقون به شيئا لم أر خرق تلك السداد
إذ لا ينفعهم ولا يسقون به شيئا. فلا أرى لهم أن يخرقوه.
قال الإمام القاضي: وقعت هذه المسألة في بعض الكتب، وهي مسألة صحيحة بينة
لا وجه للقول فيها لأن وجه المنفعة بالماء السقي، فهو مقدم على الطحن، فإذا
قل الماء ولم يمكن السقي به إلا بهدم السداد وجب أن تهدم، والله الموفق.
[مسألة: النهر الكبير الذي يكون عليه السواني
والأرحية]
مسألة وسألته عن النهر الكبير الذي يكون عليه السواني والأرحية فيكثر ذلك
فيقل ماؤه في الصيف فيسد الأعلى رحاه فيحبس الماء ليلة وبعض يوم ثم يرسله
فيطحن رحاه ويسقي شجره، ثم يتولاه الذي يليه فيفعل مثل ذلك، فربما بقي
الأسفل لا يطحن رحاه أياما يحبس الأعلون الماء عنه، قال: أرى للوالي أن
يأمر رجالا أمناء كل قوم بناحيتهم فيمنعون من سد ذلك الماء ولا يدعونهم
وذلك، ويرسلونه إذا كان في إرساله للأسفلين في طحينهم
(10/345)
وأجنتهم منفعة، قال: فإن لم يكن لهم في ذلك
منفعة تركوا وذلك ولم أر أن يمنعوا من منافعها إذا لم يضروا بأحد.
قال محمد بن رشد: هذه المسألة وقعت أيضا في بعض الكتب، وهي بينة لا وجه
للقول فيها، والله ولي التوفيق برحمته.
[مسألة: اشترى من رجل حظه في قرية من عامرها
وغامرها ولم يعرف حد ما اشترى]
مسألة قال ابن القاسم: من اشترى من رجل حظه في قرية من عامرها وغامرها ولم
يعرف حد ما اشترى في تلك القرية [من الشعراء] ولا حد ما يصير للبائع ولا كم
جزء ينقسم فلا يجوز الاشتراء وأراه بيعا مفسوخا.
قلت لابن القاسم: فإن كل المشتري قد غرس من تلك الشعراء ما كان يصير لصاحبه
أو دونه قليلا؟ قال: أرى ذلك قد فات بعمارته لأنه قد دخلها نماء ويمضي
البيع ويقوم الحظ كله العمران والشعراء والدور على المعرفة بها بعد رؤيتها
جميعا ويعطى البائع تلك القيمة ويمضي البيع للمشتري.
قلت: فإن كان المشتري عمر من الشعراء الشيء اليسير؟ قال: أرى أن يرد البيع
ويفسخ ويعطى هذا قيمة مثله في عمله يوم يحكم فيها، وإنما هو عندي بمنزلة
الرجل يشتري دارا بيعا مفسوخا فيهدم منها بيتا أو يبني فيها بيتا فإن ذلك
لا يفوت له ردها.
قال محمد بن رشد: وهذه المسألة أيضا في بعض الكتب في بعض الروايات وهي
صحيحة، قوله فيها: إن البيع فاسد إذا لم يدر قدر ما
(10/346)
اشترى كما قال، ومعناه إذا لم يعرف البائع
أيضا قدر ما باع، وهو مما لا اختلاف فيه أحفظه لأن البيع لا يجوز إلا أن
يكون معلوما في معلوم إذ لا يصح فيه المجهول «لنهي النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع الغرر» ، وقد مضى تحصيل القول في هذه المسألة
في رسم أوصى أن ينفق على أمهات أولاده من سماع عيسى من كتاب جامع البيوع
لأنها تنقسم إلى سبعة أقسام، فمن أحب الوقوف عليها وأراد الشفاء منها
تأملها في موضعها المذكور، وتفرقته إذا كان البيع في الحظ المشترى فاسدا
بين أن يغرس من الشعراء اليسير جدا أو ما له منها قدر وبال صحيح أيضا، وقد
مضى بيانه والقول فيه في كتاب جامع البيوع في أول رسم من سماع أشهب منه وفي
نوازل أصبغ أيضا فلا معنى لإعادته، والله ولي التوفيق برحمته، وله الحمد
كثيرا، وصلى الله على سيدنا محمد وآله.
انتهى كتاب السداد والأنهار بحمد الله وعونه
(10/347)
|