البيان
والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة [: كتاب
المديان والتفليس الأول]
[: العبد يستتجره سيده ثم يفلس وعليه دين للناس]
كتاب المديان والتفليس الأول
(10/349)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما من سماع ابن القاسم من
مالك من كتاب الرطب باليابس قال ابن القاسم: قال مالك في العبد يستتجره
سيده ثم يفلس وعليه دين للناس: إن سيده لا يحاص الغرماء بما كان في يد
العبد من المال الذي استتجره به إلا أن يكون أسلفه سلفا أو باعه بيعا فإنه
يحاص به الغرماء، فإن باعه بيعا وكتب عليه دينا كثيرا لا يشبه مال العبد
فإن الغرماء أولى به إلا أن يكون ارتهن منه رهنا فهو أولى برهنه، وإن كان
الذي كتب عليه سيد العبد يشبه مال العبد فهو يحاص الغرماء به، قال سحنون:
وإنما يكون أولى بالرهن إلى مبلغ قدر قيمة سلعته وما يشبه أن يكون ثمن
سلعته، فأما ما لا يشبه أن يكون ثمن سلعته فلا يكون أولى به إلا بقدر قيمة
سلعته، ويسقط الفضل الذي ازداد على قدر قيمة السلعة.
قال محمد بن رشد: لا اختلاف في أن العبد إذا استتجره سيده ثم
(10/351)
فلس وعليه ديون للناس أن سيده لا يحاص
الغرماء بما دفع إلى العبد من المال الذي استتجره به ولا فيما أسلفه أو
باعه دون محاباة كالأجنبي يحاص الغرماء بما أسلفه وبثمن ما باعه، وإن كان
ارتهن منه بذلك رهنا كان أحق به من الغرماء، واختلف إن كان باعه بيعا حاباه
فيه العبد على قولين: أحدهما أنه لا يحاص الغرماء بشيء ويبطل جميع دينه،
وهو ظاهر هذه الرواية وما في كتاب المأذون له في التجارة من المدونة،
والثاني أنه يبطل الزائد على قيمة السلعة ويحاص الغرماء بقيمة سلعته، وقد
قيل: إن ذلك ليس باختلاف من القول وإن معنى قوله في هذه الرواية وفي
المدونة إن الغرماء أولى به يريد بالزائد على قيمة سلعته وإن له أن يحاصهم
بقيمة سلعته، وهو الصحيح في النظر وإن كان ظاهر ما في هذه الرواية وما في
المدونة خلافه، واختلف إن كان ارتهن منه رهنا بجميع دينه على ثلاثة أقوال:
أحدها أنه يكون أحق برهنه بجميع ما رهنه به، وهو ظاهر هذه الرواية وما في
المدونة، والثاني أنه يكون أحق برهنه إلى قدر قيمة سلعته ويبطل الزائد، وهو
قول سحنون، والثالث أن الرهن يفسخ ويكون أسوة الغرماء بقدر قيمة سلعته، وهو
قول ابن القاسم من رواية عيسى عنه في سماع ابن القاسم من كتاب الرهون، وقد
قيل: إن قول سحنون مفسر لقول ابن القاسم، وهو الصحيح في النظر، فترجع
المسألة إلى قولين: أحدهما أنه أولى برهنه إلى مبلغ قيمة سلعته، والثاني
أنه لا يكون أولى به ويحاص الغرماء بقيمة سلعته، وبالله التوفيق.
[مسألة: إذا خلع الرجل من ماله لغرمائه فإنه
يترك له ما يعيش به هو وأهله]
مسألة قال ابن القاسم: قال مالك: وإذا خلع الرجل من ماله لغرمائه فإنه يترك
له ما يعيش به هو وأهله، وإن واجر نفسه فكذلك، العتبي: وكذلك قال لي سحنون:
يترك له قدر كسوته ولا يترك قدر كسوة امرأته، قال ابن القاسم: أرى أن يترك
له ما يكفيه أياما هو وزوجته وولده إن كان ولد صغار، وتترك لبسته إلا
(10/352)
أن يكون فيها فضل عن لبسة مثله، وإن كان ما
له من ذلك الشيء اليسير الذي لا خطب له ترك له ما يعيش به الأيام.
قال محمد بن رشد: قوله: يترك له ما يعيش به هو وأهله يريد الأيام على ما
قاله ابن القاسم وعلى ما في المدونة، وهي العشرة ونحو ذلك، وقال مالك في
الواضحة وكتاب ابن المواز قدر الشهر، وليس ذلك عندي باختلاف من القول،
وإنما هو على قدر الأحوال وما جرى به العرف من تقوت أهل ذلك المكان، وقد
روى ابن نافع عن مالك أنه لا يترك له شيء، وهو قول ابن كنانة ووجه القياس،
والأول استحسان، ووجهه أن الغرماء قد علموا أنه ينفق على نفسه وعياله
فكأنهم عاملوه على ذلك، وأهله الذين يترك لهم النفقة الأيام أو الشهر على
ما ذكرناه من التفصيل في ذلك هم أزواجه وكل من تلزمه النفقة عليه من صغار
ولده وأمهات أولاده ومدبراته، ولم ير سحنون أن يترك له قدر كسوة امرأته،
وشك مالك في ذلك في المختصر لأنها لا تجب إلا بمعاوضة وبطول الانتفاع بها
فيكون ذلك كالنفقة لها بعد المدة المؤقتة، وهذا عندي إنما هو في ابتداء
كسوتها، وأما إذا فلس وعلى زوجته كسوة قد كساها إياها لا فضل فيها عن كسوة
مثلها وهو قائم الوجه فليس للغرماء أن يستردوها منها قولا واحدا، والله
أعلم، لأن الغرماء قد دخلوا معه على ذلك. وقوله في هذه الرواية وإن واجر
نفسه فكذلك معناه، وإن واجر نفسه ففضل عن نفقته ونفقة أهله فضل أنه يؤخذ
منه وبالله التوفيق.
[مسألة: اكتتب ذكر حق على رجل وأشهد له أنه إذا
جاء بذكر الحق فهو براءته]
مسألة قال ابن القاسم: وسمعت مالكا يقول فيمن اكتتب ذكر حق على رجل وأشهد
له أنه إذا جاء بذكر الحق فهو براءته، فجاء به فادعى أنه سرقه فقال: إذا
جاء به ترك واحلف بالله ما اغتلته وبرئ، وذلك مما يجوز بين الناس.
(10/353)
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وهو مما لا
اختلاف فيه أعلمه لأنه لما أشهد له أنه إن جاء به فقد برئ فأتى به وجب أن
يكون القول قوله مع يمينه إنه لم يأخذه إلا بعد أن أدى ما عليه فيه لا سيما
إذا ادعى عليه [فيه] سرقته وهو ممن لا تليق به السرقة، ولو أتى به فادعى
أنه قد أدى ما عليه فيه ولم يكن صاحب الحق أشهد له أنه برئ إن أتى به لما
برئ بالإتيان به ولكان القول قول الطالب إن ادعى أنه سرق منه أو ضاع له
فسقط إليه وما أشبه ذلك، وكذلك على مذهب سحنون إن ادعى عليه أنه سرقه منه،
ومعناه عندي إذا كان ممن يليق به ما ادعاه عليه من السرقة، وأما إن ادعى
أنه دفعه إليه ليدفع إليه حقه فلم يفعل فيتخرج في ذلك قولان: أحدهما أن
القول قول المطلوب، وهو الذي يأتي على ما في رسم العرية من سماع عيسى من
هذا الكتاب في مسألة الذي يقوم على رجل بذكر حق ممحو فيقر أنه محاه وظن أنه
قضاه، وعلى ما في رسم الشريكين من سماع ابن القاسم من كتاب الرهون في مسألة
الرهن يوجد بيد الراهن فيدعي أنه قد أدى ما عليه فيه، والثاني أن القول قول
الطالب إن كان بالقرب على ما في نوازل سحنون من كتاب الرهون، وإشهاده للذي
عليه الحق أنه إن جاء بذكر الحق فقد برئ خلاف إشهاده على أنه من جاء به
اقتضى ما فيه على ما يأتي له في رسم سن من هذا السماع ورسم الأقضية الثالث
من سماع أشهب، وبالله التوفيق.
[مسألة: يبارئ امرأته وهي حامل على أن تكفيه
مؤونة رضاع ولدها]
مسألة قال ابن القاسم: وسمعت مالكا يقول في شريكين تحاسبا فكتب أحدهما
لصاحبه البراءة من أخذ حق قبله ثم جاء بذكر حق قبله لم يقع في أصل البراءة
اسمه فادعى صاحب البراءة أنه قد دخل هو وغيره في البراءة، قال: يحلف بالله
لقد دخل في حسابنا
(10/354)
ويبرأ منه لأن القوم إذا تحاسبوا دخل أشباه
هذا بينهم، فلو كان كل من جاء منهم بعد ذلك بذكر حق فيه شهد آخر بما فيه لم
يتحاسبوا ليبرأ بعضهم من تباعة بعض.
قال الإمام القاضي: هذا بين لا إشكال فيه ولا اختلاف لأن ذكر الحق الذي قام
الطالب به قبل البراءة، وإذا كان قبلها فالقول قول المطلوب أنه قد دخل في
البراءة، لأن الحقوق إذا كانت لرجل على رجل بتواريخ مختلفة فالبراءة من شيء
منها دليل على البراءة مما قبله، وهذا من نحو قولهم فيمن أكرى دارا مشاهرة
أو مساناة إن دفع كراء سنة أو شهر براءة للدافع مما قبل ذلك، ومثل ذلك ما
وقع في رسم الأقضية من سماع أشهب من كتاب التخيير والتمليك في الذي يبارئ
امرأته وهي حامل على أن تكفيه مؤونة رضاع ولدها ثم تطلبه بنفقة الحمل فقال:
إنه لا شيء عليه من ذلك لأنه يعرف أنه لم يكن يمنعها الرضاع ويعطيها هذا،
وإنما الاختلاف إذا قام بذكر حق فادعى أنه بعد البراءة، وزعم المطلوب أنه
قبل البراءة وأنه قد دخل فيها، وفي ذلك ثلاثة أقوال قد مضى تحصيلها في سماع
أبي زيد من كتاب الشهادات، وسيأتي في الرسم الذي بعد هذا من هذا الكتاب،
وفي نوازل سحنون ورسم الكراء والأقضية من سماع أصبغ منه، وبالله التوفيق.
[مسألة: هلك وقبله ودائع للناس وقراض لا يعرف
شيء منها بعينه وعليه ديون]
مسألة قال: وسمعت مالكا يقول فيمن هلك وقبله ودائع للناس وقراض، وعليه
ديون، فلما هلك لم يوجد عنده شيء من ذلك يعرف ولم يوص، قال: يتحاصون جميعا
فيما ترك إلا أن يوصي في مال بعينه فيجوز لمن أوصى له به من قراض أو وديعة
لمن لا يتهم عليه، قال ابن القاسم: وأما في الفلس فلا يصدق لأنه لو أقر عند
الموت بدين لأجنبي جاز إقراره، ولو أقر به في الفلس لم يجز إقراره.
(10/355)
قال محمد بن رشد: قوله فيمن هلك وقبله
ودائع للناس وقراض لا يعرف شيء منها بعينه وعليه ديون إنهم يتحاصون جميعا
فيما ترك إلا أن يوصي في مال فيجوز لمن أوصى له به من قراض أو وديعة لمن لا
يتهم عليه صحيح لا اختلاف في شيء من ذلك كله أعلمه. وأما قوله: إنه لا يصدق
في التفليس فيما أقر به من قراض أو وديعة ففي ذلك اختلاف كثير، قيل: إن ذلك
جائز يريد مع يمين المقر لهم، وهو أحد قولي مالك في رسم العرية من سماع
عيسى، وقيل: إنه لا يجوز، وهو قول ابن القاسم ههنا، وفي آخر كتاب الوصايا
الثاني من المدونة، وفي رسم البيع والصرف من سماع أصبغ، وفي رسم الأقضية من
سماع أشهب، وقيل: إنه يجوز إن كان على الأصل بينة ولا يجوز إذا لم تكن على
الأصل بينة، وهو قول ابن القاسم في سماع أبي زيد، وقد قيل في رواية أبي
زيد: إنها مفسرة لأحد القولين، ولا اختلاف أنه لا يجوز إقراره بعد التفليس
بدين لأجنبي ولا لغيره. وقد مضى تحصيل القول في هذه المسألة في رسم الشجرة
تطعم بطنين في السنة من كتاب تضمين الصناع، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال لامرأتي علي من مهرها كذا وكذا وله
ولد من غيرها أو ولد منها]
مسألة قال: قال مالك: ومن قال: لامرأتي علي من مهرها كذا وكذا، قال: ذلك في
مرضه وله ولد من غيرها أو ولد منها لم يتهم أن يولج إليها ذلك دون ولده.
قال محمد بن رشد: قوله: ولد من غيرها أو ولد منها كلام مجمل لأن الولد يقع
على الصغير والكبير وعلى الواحد والجميع، وعلى الذكر والأنثى، والحكم في
ذلك يختلف، ويختلف أيضا باختلاف حاله معها، فالذي يتحصل عندي في هذه
المسألة على منهاج قول مالك وأصحابه - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أن حال الرجل
المقر لامرأته معها لا يخلو من ثلاثة أحوال: أحدها أن يعلم منه ميل إليها
وصبابة بها، والثاني أن يعلم منه
(10/356)
الشنآن لها والبغض فيها، والثالث أن يجهل
حاله معها ومذهبه فيها، فأما إذا علم منه ميل إليها وصبابة بها فلا يجوز
إقراره لها إلا أن يجيز ذلك الورثة، وأما إذا علم منه البغض فيها والشنآن
لها فإقراره جائز لها على الورثة، وأما إذا جهل حاله معها في الميل إليها
والبغض فيها فلا يخلو أمره من وجهين: أحدهما أن يورث بكلالة، والثاني أن
يورث بولد، فإذا ورث بكلالة فلا يجوز إقراره لها، وأما إذا ورث بولد فإن
الولد لا يخلو من أن يكونوا إناثا أو ذكورا، صغارا أو كبارا، واحدا أو
عددا، منها أو من غيرها، فأما إن كان الولد إناثا يرثنه مع العصبة فسواء كن
واحدة أو عددا، صغارا أو كبارا من غيرها أو كبارا منها يتخرج ذلك عندي على
قولين: أحدهما أن إقراره جائز، والثاني أنه لا يجوز من اختلافهم في إقراره
لبعض العصبة إذا ترك ابنة وعصبة، فإن كن صغارا منها لم يجز إقراره لها قولا
واحدا، وأما إن كان الولد ذكرا وكان واحدا فإقراره لها جائز، صغيرا كان
الولد أو كبيرا، منها أو من غيرها، وأما إن كان الولد ذكورا عددا فإقراره
لها جائز إلا أن يكون بعضهم صغيرا منها وبعضهم كبيرا من غيرها فلا يجوز
إقراره لها، فإن كان الولد الكبير في الموضع الذي ترفع التهمة عن الأب في
إقراره لزوجه عاقا له لم ترفع التهمة عنه وبطل الإقرار على ما في سماع أصبغ
وإحدى الروايتين في المدونة، وإن كان بعضهم عاقا له وبعضهم بارا به يخرج
ذلك على ما ذكرته من الاختلاف في إقراره لبعض العصبة إذا ترك ابنة وعصبة،
وكذلك الحكم سواء في إقرار الزوجة لزوجها، ولا فرق أيضا بين أن يقر أحدهما
لصاحبه بدين أو يقر أنه قبض منه ماله عليه من دين، وبالله التوفيق.
[: باع من رجل راويتي زيت بعشرين دينارا فقبض
عشرة دنانير وبقي عشرة ففلس]
ومن كتاب قطع الشجر من سماع ابن القاسم قال ابن القاسم: وسئل مالك عمن باع
من رجل راويتي زيت بعشرين دينارا فقبض عشرة دنانير وبقي عشرة ففلس
(10/357)
المشتري وقد باع راوية وبقيت في يده راوية
فأراد البائع أخذها بعينها، قال: أما في هذا الوجه فإني أرى حين اقتضى عشرة
أنه قبض نصف ثمن كل راوية، فأرى أن يرد خمسة دنانير نصف ثمن الراوية التي
أدرك بعينها، ثم يكون أحق بها من الغرماء، وكذلك أيضا لو باع عشرة روايا
زيت بمائة دينار ثم اقتضى خمسين وبقيت له خمسون فأفلس المشتري وقد باعها
إلا راوية واحدة فأراد البائع أخذها ولا يدخل الغرماء فيها أنه يرد خمسة
دنانير نصف ثمن الراوية هذه التي أدرك، وذلك أنه حين قبض خمسين دينارا فقد
اقتضى نصف ثمن كل راوية، فعلى نحو هذا يكون فيما نرى، وما كان من هذا الصنف
وما أشبهه من الأعدال التي تباع بالمال العظيم وأثمانها مستوية في جملة
واحدة فينتقد بعض الثمن فإنه ما انتقد من الثمن إنما ينتقده من ثمن جميعها
إن كان قليلا أو كثيرا، فعلى هذا يحسب إذا نزل مثل هذا الأمر في المفلس،
فكل ما كان من هذا النحو فإن الأمر فيه إذا جاءت فيه هذه المنزلة مثل ما
وصفنا فيمن وجد ماله بعينه وقد أخذ بعض الثمن وباع بعضا، وقد فسرنا ذلك في
موضع غير هذا، فذلك كذلك، قال مالك: إلا أن يشاء الغرماء في الراوية إذا
وجدها أن يدفعوا إليه ما بقي من ثمنها ويأخذوها فذلك لهم.
قال الإمام القاضي: هذه مسألة فيها في المذهب قولان: أحدهما هذا أن العشرة
المقبوضة من ثمن الراويتين تفض على ما باع منها المبتاع المفلس وعلى ما وجد
قائما بيده، فلا يكون للبائع أن يأخذ الراوية التي
(10/358)
أدرك بيد المبتاع إلا أن يرد ما نابها من
العشرة المقبوضة كما لو باعها على حدة بعشرة فاقتضى من ثمنها خمسة، والقول
الثاني أنه ليس للبائع أن يأخذ الراوية التي وجد إلا أن يرد جميع العشرة
التي قبض، فإن أراد ذلك قبض الراوية التي وجد وكان أسوة الغرماء بالعشرة
الأخرى التي هي ثمن للراوية الفائتة، وهو قول مالك في الموطأ لأنه قال فيه:
فإن قبض من ثمن المتاع شيئا فأحب أن يرده ويقبض ما وجده من متاعه ويكون
فيما لم يجد أسوة الغرماء فذلك له، وهذا القول أقيس لأنها صفقة واحدة فلا
تبعض، ووجه القول الأول أنه لما افترق حكم ما فات مما لم يفت حكم لكل واحد
منهما بحكم ما اشترى على حدة بعد أن يقبض الثمن على الجميع، ويأتي على مذهب
الشافعي في هذه المسألة أنه يأخذ الراوية التي أدرك بالعشرة التي بقيت له
ولا يرد شيئا، وتكون العشرة التي قبض ثمنا للراوية التي فاتت، وأهل الظاهر
يقولون: إنه إذا قبض من الثمن شيئا فهو أسوة الغرماء بجميع ما بقي له منها،
ولا يكون له حق في أخذ شيء مما أدرك بدليل قوله في الحديث: «أيما رجل باع
متاعا فأفلس الذي ابتاعه ولم يقبض الذي باعه من ثمنه شيئا فوجده بعينه فهو
أحق به» . وقوله في آخر المسألة قال مالك: إلا أن يشاء الغرماء في الراوية
التي وجدها أن يدفعوا إليه ما بقي من ثمنها ويأخذوها فذلك لهم صحيح على
قياس قوله في أول المسألة، يريد ويضرب بما بقي من دينه معهم، ويأتي على ما
في الموطأ أن ذلك ليس لهم حتى يدفعوا إليه جميع دينه، وهو نص قول مالك في
رواية ابن وهب عنه، ولو جد الراويتين جميعا وقد قبض بعض ثمنهما كان مخيرا
بين أن يسلفهما ويكون أسوة الغرماء بما بقي له وبين أن يرد ما قبض ويكون
أحق بهما قولا واحدا في المذهب خلافا لأهل الظاهر في أنه أسوة الغرماء ولا
خيار له، وخلافا للشافعي في أنه يكون له من الراويتين بحساب ما بقي له من
الثمن، وبالله التوفيق.
(10/359)
[مسألة: له على
رجل دين فقضاه واكتتب منه براءة]
مسألة وسئل عمن كان له على رجل دين فقضاه واكتتب منه براءة فيها: وهو آخر
حق كان له عليه فيأتيه بعد ذلك بذكر حق لا يعلم أكان قبل البراءة أو بعدها،
قال: أرى براءته من ذلك أن يحلف لقد دخل هذا الذكر حق في هذه البراءة ويبرأ
من ذلك، ولعله أن يأتي عليه بذلك بعد موته فلا يكون ذلك له.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة أن الطالب أتى بذكر حق أشكل إن كان
قبل البراءة أو بعدها إما لكونهما مؤرخين بشهر واحد أو عاريين من التاريخ
أو أحدهما فلا يعلم المتقدم من المتأخر منهما، ووقع قوله فيها لا يعلم أكان
قبل البراءة أو بعده معرى من الضبط، فإن كان أراد أن الطالب لا يعلم إن كان
ذكر الحق الذي قام به قبل البراءة أو بعدها فإيجابه اليمين على المطلوب لقد
دخل هذا الذكر حق في هذه البراءة مختلف فيه لأنها يمين تهمة من غير تحقيق
دعوى، فيجري على الاختلاف المعلوم في لحوق يمين التهمة وصرفها؛ وإن كان
أراد أن الطالب ادعى أن ذكر حقه الذي قام به بعد البراءة وحقق الدعوى بذلك
ولم يعلم صحة قوله لالتباس التواريخ فلا اختلاف ولا إشكال في لحوق اليمين
في ذلك ولا في وجوب صرفها، إلا أنه اختلف هل يكون القول قول الطالب أو قول
المطلوب على ما ذكرناه من الاختلاف في الرسم الذي قبل هذا، وبالله التوفيق.
[مسألة: العروض تكون مختلفة فيبيعها في صفة
واحدة ويقبض بعض ثمنها]
مسألة وسئل ابن القاسم عن الأثمان إذا كانت مختلفة أو العروض تكون مختلفة
فيبيعها في صفة واحدة ويقبض بعض ثمنها ثم
(10/360)
يفلس مشتريها قبل أن يقبض بقيته، قال: يقوم
ثم يفض الثمن عليها ثم ينظر إلى ما اقتضى فيوضع على كل سلعة قدر ما يصيبها
في المحاصة من قدر الثمن، فإن شاء الغرماء أن يتموا له بقية ثمن السلعة
التي وجد على قدر المحاصة كان ذلك لهم، وإن أبوا وشاء البائع أخذها رد بقدر
ما اقتضى من ثمنها وأخذ. سلعته، وتفسير ذلك أن يبيع ثلاثة أرؤس بمائة دينار
ويقبض من الثمن ثلاثين دينارا ثم يفلس ويكون قيمة العبيد أحدهم نصف الثمن،
والآخر ثلاثة أعشار الثمن، والآخر عشري الثمن، فيقسم الثلاثين على قيمة
العبيد فيكون لصاحب النصف خمسة عشر، ولصاحب الثلاثة أعشار تسعة دنانير،
ولصاحب العشرين ما بقي، فما فات منهم كان له في مال الغريم بقية ثمنه يحاص
به الغرماء، إن فات الذي قيمته نصف المائة كان قد اقتضى من ثمنه خمسة عشر
وبقي له من ثمنه خمسة وثلاثون يحاص به الغرماء، وإن أدركه فأراد أخذه رد
مما قبض خمسة عشر دينارا واحدة إلا أن يرغب الغرماء في حبسه فيعطوه خمسة
وثلاثين دينارا تمام الثمن، وكذلك إن أدرك صاحب العشرين فكان قد اقتضى من
ثمنه ستة دنانير وبقي له من ثمنه أربعة عشر، وإن أدرك صاحب الثلاثة أعشار
كان قد اقتضى من ثمنه تسعة دنانير وبقي له من ثمنه أحد وعشرون، فعلى ما
فسرت لك يكون الأمر فيهم، وإن أراد الغرماء أن يأخذوه أعطوه بقية الثمن على
ما فسرت لك الغرماء يخيرون عليه.
قال الإمام القاضي: هذه المسألة حقها أن تكون متصلة بالمسألة الأولى من
الرسم لأنها معطوفة عليها لأنها في المعنى مثلها، إذ لا فرق [في المعنى]
بينهما إلا في فض الثمن على ما فات منها، وما بقي فهو
(10/361)
يفض في المسألة الأولى على العدد لاستواء
المكيل والموزون في الصفة والقيمة، وفي هذه على القيم لاختلاف العروض في
الصفة والقيمة، فيدخل فيها من الاختلاف ما ذكرناه في المسألة الأولى، ولا
معنى لإعادته، والله الموفق.
[مسألة: أنفق من مال يتيمه في صنيع يصنعه له]
مسألة وقال فيمن ولي يتيما فزوجه أو ختنه فأنفق في ذلك [من ماله] نفقة
عظيمة ودعا لعابين وجعل لهم من ماله جعلا، قال مالك: كل ما أنفق من ماله في
باطل فعليه غرم ذلك، وما أنفق في وليمته من نفقة في صنيع معروف بغير سرف
فليس بذلك بأس ولا بأس على من دعي إليه أن يأكل منه.
قال محمد بن رشد: ساوى في ظاهر قوله بين التزويج والختان في أنه لا ضمان
عليه فيما أنفق من مال يتيمه في صنيع يصنعه له في ذلك بغير سرف، وهو في
التزويج أبين، لأن الوليمة فيه حق، وقد أمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بها، فهي مندوب إليها، ومحضوض عليها، ومن أهل العلم
من أوجبها بظاهر الأمر بها، والدعوة في الختان ليست بواجبة عند أحد من أهل
العلم ولا بمستحبة، وإنما هي من قبل الجائز الذي لا يكره تركه، ولا يستحب
فعله، فالوجه في إسقاط الضمان في ذلك عن الوصي ما جرى من العرف والعادة
بفعل أهل الثروة ذلك حتى صار ترك ذلك عندهم لوما. وأما ما أنفق من ماله في
لعب ولهو فلا إشكال في أنه لذلك ضامن كما ذكر، وبالله التوفيق.
[مسألة: الخراج بالضمان]
مسألة وقال مالك في الرجل يوصي إلى رجل بولده ويترك ثلاثمائة
(10/362)
دينار ويأمر الوصي أن يتجر لهم فيها فيتجر
لهم فيها الوصي فتصير ستمائة دينار ثم يأتي دين على الميت ألف دينار، قال:
أرى أن تؤخذ الستمائة دينار كلها في الدين، وذلك أن الثلاثمائة دينار لو
أنفقها الوصي على الورثة لم يضمنها له الوصي ولم يضمنها له الورثة المولى
عليهم، ولو كان الورثة كبارا كلهم لا يولى عليهم لم يستخلف عليهم وليس
مثلهم يولى عليهم باعوا مال الميت ثم تجروا بما نض في أيديهم من المال لم
يكن عليهم إلا ما كان نض في أيديهم، ولهم نماؤه وعليهم نقصانه، وكذلك ما
غابوا عليه من العين، وأما الحيوان الذي ورثوا مما تلف فإنه ليس عليهم ضمان
ما مات من ذلك إذا مات بأيديهم، قال ابن القاسم: أخبرني بهذه المسألة من
أثق به عن مالك ولم أسمعها أنا منه.
قال محمد بن رشد: قوله وذلك أن الثلاثمائة دينار لو أنفقها الوصي على
الورثة لم يضمنها الوصي ولم يضمنها الورثة المولى عليهم هو نص قول مالك في
النكاح الثاني من المدونة خلاف قول المخزومي فيه، وإنما قال: إن الستمائة
دينار كلها تؤخذ في الدين لأن ربح المال تابع للضمان فيه لقول النبي -
عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الخراج بالضمان» فلما كان عند مالك - رَحِمَهُ
اللَّهُ - ضمان الثلاثمائة دينار من الغريم الذي أحيا الدين على الميت تلفت
في يد الموصى الذي يتجر بها أو أنفقها على يتيمه وجب أن يكون الربح له،
والمخزومي يرى أن الربح للأيتام والضمان عليهم، وسواء كان الذي ترك المتوفى
ناضا أو عروضا فباعها الوصي وتجر فيها للأيتام، وفرق ابن الماجشون بين
العين والعروض فقال في العين كقول ابن القاسم وفي
(10/363)
العروض إذا باعها الوصي كقول المخزومي،
وهذا إذا لم يعلم الوصي بالدين الطارئ، وأما إذا علم به فتجر في المال فهو
كالمتعدي في الوديعة يتجر بها فيكون الربح فيها له والضمان عليه، واختلافهم
في هذه المسألة مبني على اختلافهم في الدين الطارئ على الميت هل هو متعين
في عين التركة أو واجب في ذمة الميت، فمن قال إنه متعين في عين التركة لأن
الميت لا ذمة له إذ قد [. . . . . . . . . . . .] قد جعل الربح للغرماء لأن
المال قد تعين لهم، ومن قال إنه واجب في الذمة إذ قد يطرأ له مال لم يعلم
به فيكون دينهم فيه إن تلف هذا المال جعل الربح للأيتام، والله الموفق.
[: يأخذ الأم ويحاص الغرماء بما وصل إليه من
ثمن الولد]
ومن كتاب سلعة سماها وسئل عن الرجل يبيع الرمكة من الرجل بثمن إلى أجل
فيأخذها المشتري فينزي عليها فتنتج عنده فيبيع نتاجها ثم يفلس فيجد البائع
رمكته فيقول: أنا أريد أن آخذ رمكتي وأحسب عليهم يريد الغرماء ما باع من
نتاجها، وقال الآخرون له: لا ولكن إن شئت فخذها بجميع مالك وإلا فدعها
وقاضنا، فتفكر فيها طويلا ثم قال: أريتك لو باع عبدا فاستغله؟ ثم قال:
أريتك لو باع منها بأكثر من ثمنها مثل أن يكون ابتاعها بعشرين ثم باع منها
بثلاثين دينارا بأي شيء يريد أن يرجع؟ ثم قال: ما أرى له شيئا إلا أن
يأخذها بجميع ماله الذي باعها به أو يتركها ويحاص الغرماء.
(10/364)
قال محمد بن رشد: حكم للولد في هذه المسألة
بحكم الغلة إذ قال: إنه [إذا] باع نتاجها ثم فلس أنه ليس للبائع إلا أن
يأخذها بجميع ماله الذي باعها به، أو يتركها ويحاص الغرماء، وقد اختلف في
ذلك فقيل: إنه يأخذها بما يقع عليها من الثمن، وذلك بأن يفض على قيمتها يوم
وقع البيع وعلى قيمة الولد يوم بيعوا ويحاص الغرماء بما يقع على الأولاد
منه، وقيل فيه أيضا: إنه يأخذ الأم ويحاص الغرماء بما وصل إليه من ثمن
الولد، وهذا القول هو الذي أنكره في هذه الرواية، وأما إذا باع الأمهات
وأدرك الأولاد فقيل: إنه يأخذهم بما ينوبهم من الثمن إذا فض على قيمة الأم
يوم وقع البيع فيها وعلى قيمة الأولاد يوم بيعوا ويحاص الغرماء بما ناب
الأم منه، وهو قول ابن القاسم في رسم بع ولا نقصان عليك من سماع عيسى بعد
هذا، ووقع فيه لمالك أن الأم تقوم فيحاص الغرماء بقيمتها ويأخذ الولد، وهو
غلط، والله أعلم، فقد رأيت في بعض الكتب أخذ الولد بما يصيبهم من الثمن
وحاص الغرماء بما يصيب الأم من الثمن مثل قول ابن القاسم، وهو الصحيح. وأما
إذا مات الولد أو الأم فلا اختلاف في أنه ليس له أن يأخذ إلا الباقي منها
بجميع الثمن أو يتركه ويحاص الغرماء، فهذا هو تحصيل القول في هذه المسألة.
[مسألة: إسقاط الحق قبل وجوبه]
مسألة وسئل عن رجل صالح رجلا على دراهم كانت له عليه على أن يدفع إليه خمسة
دراهم كل شهر وليس للذي عليه الحق أن يستحلف طالب الحق إن ادعى أنه دفع
إليه شيئا لم يأت ببينة عليه، قال مالك: هذا الشرط غير جائز، وإن قيم عليه
حلف، ولا ينفعه ما كتب في شرطه.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة كان الشيوخ يحملونها على
(10/365)
الخلاف لما في آخر الرسم الأول من سماع
أشهب من كتاب العيوب من إعماله الشرط فيه بإسقاط اليمين، ولما في رسم أخذ
يشرب خمرا من سماع ابن القاسم من كتاب البضائع والوكالات من تفرقته في ذلك
بين المأمون وغير المأمون، وبين الذي يبيع لنفسه ولغيره، فيحصلون من ذلك في
المسألة ثلاثة أقوال: إعمال الشرط، وإبطاله، والتفرقة بين المأمون والذي
يبيع لغيره، وبين الذي ليس بمأمون ويبيع لنفسه، والذي أقول به إنها ليست
بخلاف لذلك؛ لأن المعنى فيها مختلف: تلك أسقط اليمين فيها إن كانت قد وجبت
قبل أن يعلم بوجوبها، وهذه أسقط اليمين فيها قبل وجوبها، فلا يدخل الاختلاف
فيها إلا بالمعنى من أجل أن إسقاط الحق قبل وجوبه أصل مختلف فيه في المذهب
لا من هذه المسائل، وقد مضى بيان هذا مستوفى في سماع أشهب من كتاب العيوب،
فقف على ذلك هناك وتدبره، وبالله التوفيق.
[: تكارى من رجل على محامل كراء مضمونا فلم
يحمله حتى هلك المكاري]
ومن كتاب القبلة وسئل مالك عن رجل تكارى من رجل على محامل أو أحمال كراء
مضمونا فلم يحمله حتى هلك المكاري وعليه للناس دين، قال: يكون المتكاري
أسوة الغرماء يحاصهم بقدرها كما لو أن رجلا سلف في سلعة موصوفة يضمنها
البائع للمشتري ثم مات البائع معدما وترك ديونا حاص المبتاع الغرماء في
تركة البائع بقيمة السلعة يوم تكون المحاصة والقضاء حتى يصير له نصف سلعته
إن كان يصير للغرماء نصف حقوقهم، وثلثها إن صار لهم ثلث حقوقهم، ولا يدفع
إليه ذلك ثمنا، ولكن يشتري له من تلك السلعة على شرطه.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة، وقوله يحاصهم بقدرها يريد بقيمة
الركوب معجلا لا إلى أجل إن كان مؤجلا كما تكون المحاصة بالسلع الثابتة في
الذمة إلى أجل بقيمتها حالة يوم تكون المحاصة
(10/366)
والقضاء، هذا قول مالك في هذه الرواية،
ومثله في سماع أصبغ بعد هذا خلاف قول سحنون إنه يحاص له بقيمة ذلك إلى أجله
فما صار له في المحاصة بقيمة الكراء لا يقضيه ولكن يكتري له به إلى الجهة
التي يريد السير إليها، ولا يجوز له أن يأخذ ما وقع له في المحاصة على أن
يتبع المكري ببقية حقه لأن ذلك رباء وقيل: إن ذلك جائز لأن التفليس يرفع
التهمة، ولو أراد أن يأخذ ذلك بجميع حقه لجاز إن كان ذلك مثل رأس ماله فأقل
برضى المكتري لأنه إقالة، ومعنى المسألة أنه لم يقبض الجمال ولا ركب، ولو
قبض أو حمل عليها لكان أولى بها، وبالله التوفيق.
[: الرجل يرهقه الدين فيقوم غرماؤه عليه
فيمكنهم من ماله]
ومن كتاب شك وسئل مالك عن الرجل يرهقه الدين فيقوم غرماؤه عليه فيمكنهم من
ماله فيبيعونه ويقتسمونه ولا يأتون السلطان، ثم يداينه آخرون فيريدون أن
يدخلوا عليهم فيما في أيديهم، قال: ليس ذلك لهم، وأرى إذا بلغوا هذا أن
يكون مثل من جاء إلى السلطان، وأرى الآخرين فيه أسوة، وإنما يكون الآخرون
أولى من الأولين إذا كان ذلك من كسبه.
قال محمد بن رشد: قوله إذا كان ذلك من كسبه يريد إذا كان ذلك مما اكتسبه
بالتجارة من أموال الغرماء الآخرين لأن ما اكتسبه ببدنه من إجارة أو عمل
صناعة فالأولون يدخلون فيه مع الآخرين، وقوله: إن تفليس غرمائه إياه فيما
بينهم دون السلطان تفليس بمنزلة تفليس السلطان هو مثل ما في سماع أصبغ وأبي
زيد بخلاف إذا قاموا عليه فلم يجدوا عنده شيئا، وبالله تعالى التوفيق.
(10/367)
[: ما يجوز
للورثة من المصالحة إذا ترك المتوفى مالا يفي بديون الغرماء]
ومن كتاب ليرفعن أمرا وسئل مالك عن رجل هلك وعليه دين فقال ابنه لغرمائه:
من أراد منكم أن أصالحه على النصف ويكون أبي في سعة فعلت، ففعلوا، أترى
أباه قد برئ من الدين وأنه من ذلك في حل؟ قال: نعم.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة لا إشكال فيها ولا كلام، لأن المعنى
فيها أن الميت لم يترك مالا فسواء صدقه الغرماء [في] أنه لم يترك مالا أو
كذبوه، لأنهم إن صدقوه وقع الصلح على التحليل [خاصة] وإن كذبوه وقع على
التحليل وعلى إسقاط اليمين، وإن جاء غريم آخر لم يعلم به لم يلزمه أن
يصالحه كما صالح الأولين، ولم يكن له عليه إلا اليمين، ولا كان من حقه أن
يدخل على الأولين فيما صالحوا به، وسيأتي في الرسم الذي بعد هذا، وفي رسم
يسلف، ورسم البيوع من سماع أشهب القول فيما يجوز للورثة من المصالحة إذا
ترك المتوفى مالا يفي بديون الغرماء، وبالله التوفيق.
[مسألة: تقرعند الموت بصداق كان على زوجها أنها
قبضته منه]
مسألة وسئل مالك عن المرأة تقر عند الموت بصداق كان على زوجها أنها قبضته
منه أتصدق في ذلك؟ قال: هذه وجوه تختلف، أما كل امرأة يكون لها أولاد قد
كبروا وقد يكون بينها وبينه غير الحسن فهذه لا تتهم أن تكون ولجت ذلك إليه،
وأرى أن تصدق في ذلك، وأما المرأة التي لا ولد لها ومثلها يتهم فلا أرى ذلك
(10/368)
بجائز، ومثل ذلك الرجل يقر بالدين للرجل،
فلو أقر لولد أو لأخ أو لأب أو لمن يتهم أن يصنع ذلك له لانقطاعه إليه من
الرجال أو غيرهم لم أر أن يجوز ذلك إليه ولو كان لمن لا يتهم عليه مثل
التجار الذين يعرفوا أنهم لم يكن بينهم من الأمور الذين لا يتهمونه على شيء
رأيت ذلك جائزا، قال سحنون: وقد يتهم أيضا في صديق ملاطف إذا كان ورثته
عصبة.
قال الإمام القاضي: قد مضى في آخر أول رسم من السماع تحصيل القول في إقرار
أحد الزوجين لصاحبه بدين في المرض، فلا معنى لإعادته، وأما إقرار من سوى
أحدهما لصاحبه بدين في المرض فلا يخلو من أربعة أوجه: أحدها أن يقر لوارث،
والثاني أن يقر لقريب غير وارث أو صديق ملاطف، والثالث أن يقر لأجنبي،
والرابع أن يقر لمن لا يعرف، فأما إذا أقر لوارث والمقر له من الورثة في
القرب من المقر بمنزلة من لم يقر له منهم مثل أن يقر لأحد ولده أو لأحد
إخوته أو لأحد بني عمه الوارثين له وما أشبه ذلك، أو أقرب منهم مثل أن يقر
لابنته وله عصبة أو لأخ شقيق وله أخ لأم أو لأمه وله أخ شقيق، أو لأب أو
لأم أو عم أو ابن عم، فإن هذا لا اختلاف في أن إقراره له لا يجوز. قال في
كتاب ابن المواز: إذا لم يكن لذلك وجه أو سبب يدل على صدقه وإن لم يكن
قاطعا إلا أن يكون المقر له عاقا والذي لم يقر [له] بارا به فقيل: إن
إقراره له جائز كالزوجة إذا أقر لها وقد عرف الشنآن والبغض منه لها، وقيل:
إن إقراره له غير جائز بخلاف الزوجة على اختلاف الرواية في ذلك
(10/369)
في المدونة، وأما إذا أقر لوارث والمقر له
من الورثة أبعد من المقر ممن لم يقر له منهم، مثل أن يقر لعصبة وله ابنة أو
لأخ لأم وله أخ شقيق، أو لأخ شقيق أو لأب أو لأم وله أم فإن هذا لا اختلاف
في أن إقراره له جائز، واختلف إن كان من لم يقر له من ورثته بعضهم أقرب
إليه من المقر له وبعضهم بمنزلته مثل أن يقر لبعض إخوته أو عصبته وله ابنة،
أو لبعض بني عمه وله أخت، أو كان من لم يقر له منهم بعضهم أقرب إليه من
المقر له وبعضهم أبعد منه، مثل أن يقر لأمه وله ابنة وأخ أو أخت أو ما أشبه
ذلك على قولين: أحدهما أن إقراره جائز لأنه لا يتهم على ابنته للعصبة، ولا
على ابنته لأمه، والثاني أن إقراره لا يجوز لأنه يتهم على بعض العصبة لبعض
وعلى أمه لأخيه أو لأخته، لأنه إذا أقر لبعض العصبة وله ابنة فقد أخذ من
الابنة ومن بعض العصبة أو أعطى بعض العصبة، فمرة رأى إقراره جائزا لأنه لا
يتهم في أن ينتقص الابنة، ومرة رأى إقراره غير جائز لأنه رأى أن ينتقص بعض
العصبة دون بعض. وأما إذا أقر لقريب غير وارث أو صديق ملاطف فالمشهور في
المذهب أن إقراره يجوز إن كان يورث بولد، ولا يجوز إن كان يورث بكلالة، وهو
قول سحنون هذا، وقيل: إن إقراره جائز كان يورث بكلالة أو ولد، والقولان في
المدونة على ما وقع من اختلاف الرواية في كتاب الكفالة منها، وقد قيل: إن
كان يورث بولد جاز إقراره من رأس المال، وإن كان يورث بكلالة جاز من الثلث
وهذا على ما في كتاب المكاتب من المدونة، وقيل: إن إقراره لا يجوز كان يورث
بكلالة أو ولد، وهذا على ما في كتاب أمهات الأولاد من المدونة في الذي يقر
في أمة أنها ولدت منه ولا ولد معها. وأما إذا أقر لأجنبي فلا اختلاف في أن
إقراره له جائز، فإن طلب ولم يوجد تصدق بها عنه كاللقطة بعد التعريف على ما
قاله في رسم اغتسل من هذا الكتاب ومن كتاب الوصايا. وأما إذا أقر لمن لا
يعرف فإن كان يورث بولد جاز إقراره من رأس
(10/370)
المال أوصى بأن يتصدق به عنهم أو يوقف لهم،
واختلف إن كان يورث بكلالة فقيل: إنه إن أوصى أن يحبس ويوقف حتى يأتي لذلك
طالب فذلك جائز من رأس المال، وإن أوصى أن يتصدق به عنهم لم يقبل قوله ولا
يخرج من رأس المال ولا من الثلث، قال هذا في رسم إن خرجت من سماع عيسى بعد
هذا من هذا الكتاب، وقيل: إنه يكون من الثلث، وهذا القول قائم من كتاب
المكاتب من المدونة، وقيل: إنه إن كان يسيرا جاز من رأس المال، وإن كان
كثيرا لم يكن في رأس المال ولا في الثلث، وقعت هذه التفرقة في أول سماع
عيسى من كتاب الوصايا، وبالله التوفيق.
[مسألة: فلس العبد وفي يده مال لسيده]
مسألة وقال مالك: إذا فلس العبد وفي يده مال لسيده لم يؤخذ منه إلا أن يكون
استتجره به، فإن كان استتجره به أخذ منه وما كان له من مال، لم يلحق رقبته
من ذلك شيء.
قال محمد بن رشد: قوله: إذا فلس العبد وفي يده مال لسيده لم يؤخذ منه، يريد
أنه لا يؤخذ منه للغرماء، ويكون السيد أولى به، وهذا إذا قامت عليه بينة،
وأما إن لم يعرف ذلك إلا بإقرار العبد له فلا يجوز، وإن قامت عليه وفيه
محاباة فقد مضى الاختلاف في ذلك في أول رسم من السماع، فلا معنى لإعادته.
وقوله: فإن كان استتجره به أخذ منه وما كان له من مالا يريد أنه يؤخذ ذلك
منه للغرماء فيتحاصون فيه، ولا يضرب السيد معهم فيه به على ما مضى في أول
السماع، ولا اختلاف في ذلك. وقوله: إنه لا يكون في رقبته شيء من ذلك صحيح
لا اختلاف فيه لأنه دين
(10/371)
من الديون فهو في ذمته بخلاف الجنايات التي
تكون في رقبته، وبالله التوفيق.
[: هلك وترك عليه ثلاثة آلاف دينار ولم يترك من
المال إلا ألف دينار]
ومن كتاب أخذ يشرب خمرا وسئل مالك عن رجل هلك وترك عليه ثلاثة آلاف دينار
ولم يترك من المال إلا ألف دينار، ولم يترك وارثا إلا ابنا له، فيقول ابنه
لغرمائه: خلوا بيني وبين هذا الألف دينار التي ترك أبي وأنظروني بدين أبي
سنتين وأنا ضامن لكم جميع دين أبي، قال: أرأيت إن كان معه وارث غيره وترك
مالا لا يعرف أفيه وفاء أم لا؟ . قلت له: قد سمعت منك قولا، قال: فما هو؟
قلت له: إن كان فيه فضل كان بينه وبين ورثته على فرائض الله فلا بأس به،
وإن كان فيه فضل كان له بما ضمن من النقصان فلا خير فيه، قال: نعم، قلت له:
إنما أردت منك أنه وارث وحده ولم يترك إلا ألف دينار، وعلى أبيه ثلاثة
آلاف، فسأل الغرماء أن يؤخروه في الأجل على أن يضمن لهم ما نقص من المال،
فقال: أما مثل هذا فلا بأس به، وقد بلغني عن ابن هرمز مثل ذلك.
قال محمد بن رشد: رأيت لابن دحون أنه قال في هذه المسألة إنها مسألة ردية
لولا أن مالكا - رَحِمَهُ اللَّهُ - تبع فيها ابن هرمز ما أجازها لأنه أخذ
عينا ليعطي إلى أجل أكثر منه، ولأنه ضمن ما على أبيه من دين، وذلك مجهول لا
يدري ما يطرأ على والده من دين، فلو قدم غريم لم يعلم به للزمه أن يدفع
إليه، ولو اشترط ألا أودي إلا دين من حضر لم يجز لأن الغائب إذا قدم أخذ
حصته منه بالحق، فكله مجهول، وكله غرر. وقول ابن دحون هذا غير صحيح، إذ لا
يصح أن يتأول على مالك ولا على غيره من أهل العلم أنه أجاز هذه المسألة
اتباعا لابن هرمز وهو يرى أنه كمن أخذ عينا ليعطي إلى أجل أكثر منه، وليضمن
ما يطرأ على المتوفى من
(10/372)
دين، وهو مجهول، إذ لا يجوز عند أحد من
العلماء أن يقلد العالم العالم فيما يرى باجتهاده أنه خطأ، وإنما اختلفوا
هل له أن يترك النظر في نازلة إذا وقعت ويقلد من قد نظر فيها واجتهد أم لا؟
ومذهب مالك الذي تدل عليه مسائله أن ذلك لا يجوز، فلم يتابع مالك -
رَحِمَهُ اللَّهُ - في هذه المسألة ابن هرمز على قوله دون نظر، بل رآها
جائزة لا بأس بها بنظره، وحكى ما بلغه عن ابن هرمز من إجازتها استظهارا
لصحة نظره، واحتجاجا على من خالفه فيه، والوجه في ذلك أن الألف دينار التي
ترك المتوفى لم تدخل بعد في ضمان الغرماء فيكونوا قد دفعوها في أكثر منها
إلى أجل بدليل أنها لو تلفت ثم طرأ للميت مال لكانت ديونهم فيه، وكانت
مصيبة الألف من الوارث، فلما كانت الألف باقية على ملك المتوفى جاز أن يحل
الوارث فيها محله ويعمل مع الغرماء فيها ما كان يجوز له أن يعمله معهم لو
كان حيا، ألا ترى أنه لو فلس فلم يوجد له إلا ألف دينار وللغرماء عليه
ثلاثة آلاف دينار لجاز أن يتركوا له الألف ويؤخروه بحقوقهم حتى يتجر بها
ويوفيهم حقوقهم، ولم يكونوا إذا فعلوا ذلك قد أعطوا ألفا في أكثر منها إلى
أجل وإن كانوا قد ملكوا أخذ الألف إذ لم يحصل بعد في ضمانهم، فكذلك حالهم
مع الوارث لأنه إذا رضي بذلك فقد أنزل نفسه منزلته، وكأنه أحيا ذمته
وأبقاها، فهذا هو الذي ذهب إليه مالك، والذي يدل على ذلك من إرادته أنه لم
يجز ذلك لأحد الورثة إذا كانوا جماعة إلا على أن يكون الفضل بينهم، لأن
تجارته في الألف التي تركها الغرماء في يده إنما هي على ملك المتوفى، فهذا
وجه قول مالك في هذه المسألة، والله أعلم، وسيأتي في رسم البيوع من سماع
أشهب مسألة من هذا المعنى سنتكلم عليها إن شاء الله، وبه التوفيق.
[مسألة: يتيم كان له مال عند رجل فاستهلكه
وأفلس الرجل]
مسألة وسئل عن يتيم كان له مال عند رجل فاستهلكه وأفلس الرجل أترى أن يبدأ
اليتيم؟ قال: بل أراه أسوة الغرماء.
(10/373)
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله لأن
مال اليتيم إذا استهلكه صار دينا من الديون في ذمته، لا مزية له على سائر
الديون، فوجب أن يكون أسوة الغرماء، ولا خلاف في هذا أعلمه عند أحد من
العلماء، وبالله التوفيق.
[مسألة: إذا صالحه وهو لا يعرف أن له بينة فله
أن يقوم عليه ببقية حقه إذا وجد بينته]
مسألة وسئل عن رجل كان له على رجل ذكر حق فضاع كتابه منه ونسي شهوده
فاقتضاه فجحده بعض الحق وقال: ما لك علي إلا مائة دينار، وقال الآخر: بل لي
عليك مائتا دينار ولكن قد ضاع كتابي وما أحفظ ما أشهدت عليك فيه فيصالحه
على أن يزيده على المائة ويحط عنه من المائتين، ثم يجد بعد ذلك كتابه وفيه
أسماء شهوده فيقوم بذلك، أترى أن له عليه نقض ما كان صالحه عليه؟ قال: إذا
عرف هذا من قوله فإني أرى ذلك عليه، وأرى أن يغرم له بقية حقه.
قال محمد بن رشد: قوله إذا عرف هذا من قوله يريد إذا عرف من قوله قبل الصلح
أن له ذكر حق قد ضاع منه وما يعرف شهوده، ففي هذا دليل على أنه إن لم يعرف
ذلك من قوله فلا قيام له عليه في نقض الصلح، وذلك خلاف ما في كتاب الصلح من
المدونة أنه إذا صالحه وهو لا يعرف أن له بينة فله أن يقوم عليه ببقية حقه
إذا وجد بينته مثل ما في كتاب الجدار لمالك أنه إذا صالحه وهو جاهل ببينته
أنه لا حق له، وقد يحتمل أن يكون معنى قوله: إنه إذا عرف هذا من قوله رجع
ببقية حقه دون يمين، وإن لم يعرف ذلك من قوله لم يكن له أن يرجع عليه إلا
بعد يمينه أنه إنما صالحه وكتابه قد ضاع وهو لا يعرف شهوده، فلا يكون على
هذا
(10/374)
التأويل في هذه الرواية دليل على خلاف ما
في المدونة بل يكون مفسرا له في إيجاب اليمين، وقد فرق في كتاب الجدار بين
المسألتين، فيتحصل في جملة المسألة ثلاثة أقوال: أحدها أنه إذا صالحه فلا
رجوع له عليه بوجود ذكر حقه، ولا بعثوره على بينة لم يعلم بها، والثاني أن
له الرجوع عليه في الوجهين، والثالث أنه يرجع عليه إن وجد ذكر حقه ولا يرجع
عليه إن عثر على بينة لم يكن علم بها. وقد يحتمل أن يقال في هذه الرواية
على ظاهرها: إنها ليست بخلاف لما في المدونة وإنما فرق بين المسألتين،
فتأتي على هذا التأويل وهو تأويل ظاهر. وفي المسألة قول رابع وهي التفرقة
بعكس ما في كتاب الجدار، ولا اختلاف في أنه إذا صالحه ثم أقر له بحقه أن له
الرجوع عليه، ولا في أنه إذا صالحه وله بينة غائبة قريبة الغيبة يعلم بها
أنه لا رجوع له عليه إذا قدمت بينته، واختلف إذا كانت بعيدة الغيبة
فاستحلفه أو صالحه فلما قدمت بينته أراد القيام بها عليه على ثلاثة أقوال:
أحدها أنه لا قيام له عليه في الوجهين، والثاني أن له القيام عليه في
الوجهين، والثالث أنه له أن يقوم عليه إذا استحلفه وليس له أن يقوم عليه
إذا صالحه، وهذا القول هو مذهب ما في المدونة، وبالله التوفيق.
[مسألة: يكون له على الرجل الحق فيغيب شهوده ثم
يطلبه فيجحده أياما]
مسألة وسئل عن الرجل يكون له على الرجل الحق فيغيب شهوده ثم يطلبه فيجحده
أياما ثم يدعوه إلى الصلح فيشهد في السر ويقول: إني إنما أصالحه لأنه جحدني
وأخاف أن يذهب بحقي ولكن أصالحه فإذا حضر شهودي قمت على حقي، أفترى له ذلك؟
فقال: ما له تعجل يصالحه ثم يجيء يطلب هذا ويقول إنما أردت كذا وكذا؟ فكأنه
لم يرد ذلك له، ورأى الصلح
(10/375)
جائزا عليه فيما رأيت من تحسين قوله، قال
ابن القاسم: وهو رأيي.
قال محمد بن رشد: لم يفرق في هذه الرواية بين أن يكون مغيب شهوده قريبا أو
بعيدا، فالظاهر فيها أنه لا ينتفع بالإشهاد في السر وإن كانت غيبته بعيدة
جدا خلاف ما في نوازل أصبغ من كتاب الدعوى والصلح أنه ينتفع بالإشهاد إن
كانت غيبة شهوده بعيدة جدا، ويحتمل أن تتأول هذه الرواية على أن غيبة
الشهود فيها ليست ببعيدة فلا يكون في المسألة اختلاف، وهو الأولى، ولا
احتمال في أنه لا ينتفع بالإشهاد في السر إذا كانت بينته قريبة الغيبة،
وبالله التوفيق.
[: يهلك ويترك عرضا وعليه دين أكثر من عرضه]
ومن كتاب يسلف في المتاع وقال ابن القاسم: قال مالك في الرجل يهلك ويترك
عرضا وعليه دين أكثر من عرضه فيقول بعض ورثته لأهل الدين: لا تكسروا عروضه
ونحن نضمن لكم دينكم، قال مالك: لا أرى بأسا إن كانوا إن أصابوا في العروض
فضلا عن الدين اقتسموه على فرائض الله فلا أرى به بأسا، وإن كانوا لا
يقتسمونه على فرائض الله فلا أحبه، يعني بذلك الذين ضمنوه، قال ابن القاسم:
والناض مثل العروض.
قال الإمام القاضي: هذه مسألة قد مضى القول فيها مستوفى في أول الرسم الذي
قبل هذا، فلا معنى لإعادته. وقوله وإن كانوا لا يقتسمونه على فرائض الله
فلا أحبه معناه وإن كانوا لا يقتسمونه على فرائض الله ويكون [ذلك] للذين
ضمنوه فلا أحبه، وهو الذي أراد بقوله يعني بذلك
(10/376)
الذين ضمنوه وقول ابن القاسم إن الناض مثل
العروض يريد أنه مثله في أن ذلك لا يجوز، كان الفضل للذين ضمنوا، وأما إن
كان الفضل لجميع الورثة فالعروض أخف من العين، وهو جائز في الوجهين، وبالله
التوفيق.
[: كان عليه دين فذكر في مال عنده أنه وديعة
عنده]
ومن كتاب كتب عليه ذكر حق وسئل مالك عن رجل كان عليه دين فذكر في مال عنده
أنه وديعة عنده، قال: إن كانت له بينة أو أتى بأمر يعرف فصاحبه أحق به من
الدين إلا أن يأتي بأمر لا يعرف.
قال محمد بن رشد: قد مضى في آخر أول رسم من السماع أن إقراره بالدين جائز،
فهو في الوديعة مثله أو أجوز، فيجوز إقراره بها إلا أن يأتي بأمر لا يعرف،
وهو دليل قوله في هذه الرواية، وبالله التوفيق.
[مسألة: هلك وعليه دين وترك مالا فأراد الورثة
مصالحة امرأته]
مسألة وسئل مالك عن رجل هلك وعليه دين وترك مالا وعروضا فأراد ورثته أن
يصالحوا امرأته ويخرجوها من الميراث، قال: إن كانت العروض معروفة لم يكن به
بأس، وإن كان لا يعرف فلا أحبه، قال مالك: «إن عبد الله بن عمرو بن حرام
أبا جابر بن عبد الله صاحب النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كان استشهد يوم
أحد، وإنه كان عليه دين رهقه، فقال النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: إذا كان
الجداد فأت فآذني، قال: فآذنته، قال: فوضع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيه يده ودعا فيه، فكال منه لأهل دينه وبقي بعد ذلك
مثل
(10/377)
الذي كان فيه بعد قضاء الدين» .
قال محمد بن رشد: هذه مسألة مجملة يفسرها ما في [كتاب] الصلح من المدونة
لأن مصالحة الورثة المرأة على أن يخرجوها من الميراث اشتراء منهم لما يجب
لها من الميراث فيما تخلفه الميت بعد تأدية الدين بوجوب إخراج الدين قبل
الميراث بنص قول الله عز وجل: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ
دَيْنٍ} [النساء: 11] وبما فعله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فيما تخلفه أبو جابر الذي احتج به في الرواية مالك، فلا يجوز
ذلك إلا بما يصح التتابع به، فإن لم يكن فيما تخلفه الميت بعد تأدية الدين
دنانير ولا دراهم جاز أن يصالحوها بعرض من التركة وبما شاؤوا من أموالهم،
وإن كان فيما تخلفه الميت بعد تأدية الدين دنانير ودراهم جاز أن يصالحوها
بعرض من التركة ومن أموالهم، ولم يجز أن يصالحوها بدنانير ولا بدراهم من
أموالهم ولا من التركة إلا أن يكون ذلك مثل الواجب لها من ذلك أو أقل فتكون
واهبة لبقية حقها، وهذا كله على مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك في
المدونة وغيرها، وأما على ما في رسم البيوع من سماع أشهب فلا يجوز مصالحة
(10/378)
الورثة للمرأة علي حال من أجل الدين لقول
الله عز وجل: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء:
11] ، وبالله التوفيق.
[مسألة: لا سبيل للحميل على المحمول عنه حتى
يؤدي عنه]
مسألة وقال في رجلين اشتريا سلعة تعاقدا عليها، فلما أراد البائع أن يكتب
الكتاب عليهما قال أحدهما لصاحبه: أنا أكتب الكتاب علي ولا تكتبه عليك حتى
يكون خلوا إن أردت سفرا في متجرنا لم يمنع لمكان الدين، ثم كتب الكتاب على
أحدهما، ثم باعا السلعة، فقال الذي لم يكتب الكتاب عليه: ادفع إلي نصف
الثمن، فأبى الذي كتب عليه الكتاب وقال: أنا ألزم بهذا الدين وأتخوف أن
تأخذه فتفسده أو تقضيه غرماءك، فلا أدفع إليك منه شيئا، [وغلبه على ألا
يدفع إليه شيئا] فلما حل الأجل قال الذي عنده المال: سرق مني عشرة دنانير
فهي بيني وبينك كما كان يكون الربح بيني وبينك أن لو جاء فيها ربح، قال:
أرى أن يغرم العشرة التي كانت عنده الذي حبسها عن شريكه، ولو قال: إنها
سرقت مني أو هلك المال كله لم ينفعه ذلك ورأيته غارما لها إذا حبسها عنه،
فقيل له: أفرأيت لو استأدى عليه أترى أن يدفع إليه نصف الحق الذي كان عليه
للذي كتب عليه الحق؟ قال: لا أرى أن يدفع إليه منه شيئا.
(10/379)
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة أن
أحد المشترين طاع لصاحبه أن يكتب جميع الثمن عليه من ثمن السلعة ونصفه
حمالة عن شريكه فيها لئلا يكون للبائع أن يطالبه به فيمنعه من سفره، ومعنى
ذلك إذا أبرأه البائع ورضي باتباع الحميل دونه على اختلاف في ذلك، فقد قيل:
إن ذلك يلزمه ولا يكون له عليه رجوع، وقيل: إنه لا يرجع عليه إلا أن يموت
الحميل أو يفلس، وقيل: إن له الرجوع عليه إن شاء وإن لم يمت ولا فلس، وقيل:
إنه لا يعدى عليه حتى يبلى الغريم لأنه حمالة وشرطه باطل، فاحتبس المكتوب
عليه جميع الثمن من أجل أنه كتب عليه مخافة أن يفسده ويتلفه فلا يجد له
مالا يرجع فيه عليه إن أدى عنه فصار متعدلا عليه في إمساك حقه عنه، ووجب أن
يكون ضامنا له وأن لا يصدق فيما ادعاه من سرقته، إذ لو حاكمه وأراد أن يقبض
حصته من الثمن من أجل أنه تحمل به عنه لم يكن ذلك له، وفي كتاب ابن حبيب أن
ذلك له، وهو بعيد، إذ لا سبيل للحميل على المحمول عنه حتى يؤدي عنه، وبالله
التوفيق.
[: الغريم إذا غاب وحل أجله وقام غرماؤه يريدون
بيع ماله]
ومن كتاب أوله الشريكين قال مالك في الغريم: إذا غاب وحل أجله وقام غرماؤه
يريدون بيع ماله - قال مالك: أرى أن يبيع السلطان ماله ولا يستأنى به قدومه
إذا قامت البينة وأرادوا حقوقهم فذلك لهم ولا يستأنى به حجته.
قال محمد بن رشد: قوله: إنه لا يستأنى به قدومه ولا ينتظر به حجته صحيح لا
اختلاف فيه أعلمه، وإنما الاختلاف هل يستأنى به مخافة
(10/380)
أن يكون عليه دين لغير من قام به فروى ابن
وهب عن مالك أنه لا يستأنى به لأن له ذمة بخلاف الميت الذي لا ذمة له، وهو
ظاهر هذه الرواية لأنه قال فيها: إذا قامت البينة وأرادوا حقوقهم فذلك لهم،
ومعناه بعد أيمانهم، وفي المدونة أن الحي والميت سواء إذا كان معروفا
بالدين لم يعجل بقضاء من حضر، وأوقف حتى يستبرأ أمره ويجتمع أهل دينه أو
يعرفوا فيضرب لهم بحقوقهم، قال: فهذه أعدل روايتهم، وبالله التوفيق.
[مسألة: رجل يباع ماله في دينه]
مسألة قال مالك في رجل يباع ماله في دينه، قال مالك: على الوالي أن يستأني
بالعروض مثل الشهر والشهرين مثل الدور وما أشبه ذلك يستأني بها ويتسوق بها
ويطلب بها الأثمان، وأما الحيوان فيستأنى بها الشيء اليسير ولا يكون مثل
العروض.
قال محمد بن رشد: قوله إنه يستأنى بالعروض الشهر والشهرين مثل الدور لفظ
مشكل لاحتمال أن يكون أراد أن العروض يستأنى بها الشهر والشهرين كما يستأنى
بالدور، ويحتمل أن يكون قوله مثل الدور تفسير للعروض فيكون معنى قوله: إن
العروض التي هي الدور يستأنى بها الشهر والشهرين بخلاف الحيوان، ومثله في
كتاب ابن المواز أن الدور يستأنى بها الشهر والشهرين، والعروض والحيوان
يستأنى بها اليسير، محصل الاختلاف إنما هو في العروض هل يستأنى بها الشهر
والشهرين مثل الدور أو الأيام اليسيرة مثل الحيوان، والعلة في الحيوان أنه
لا يستأنى بها إلا لشيء اليسير هي ما يتكلف من الإنفاق عليها، وأما العروض
فالذي يوجبه النظر فيها أن يستأنى بما كان رفيعا كثير الثمن منها الشهر
والشهرين، وبما دون ذلك منها الأيام اليسيرة، ولا يستأنى بما كان يسير
الثمن منها شيئا، ويباع من ساعته، مثل الحبل والدلو والسوط وشبه ذلك،
وبالله التوفيق.
(10/381)
[: من أخذ
أموال الناس وتقعد عليها وادعى العدم وأنه أصيب بماله وتبين كذبه]
ومن كتاب البز وسئل عن رجل كان يبيع في السوق ويشتري من الناس، وكانت في
يده تجارة ثم إنه تفالس وزعم أنه أصيب به وشهد له ناس أنه ليس عنده شيء
قال: وكيف يعرف هؤلاء أنه ليس عنده شيء؟ ثم قال: فأين ما كان يرى عنده؟
قال: يزعم أنه أصيب به، قال: فأرى أن يسجنه ولا يعجل سراحه، يريد بذلك أنه
ملد ظالم يغيب أموال الناس، وإني لأرى لهؤلاء الذين يصنعون مثل هذا
يتفالسون بالأموال من غير أمر يأتون به أن يقاموا من الأسواق ولا يتركوا
يبيعون به وأن يخرجوا منه فإنه لا يزال رجل منهم يعمل مثل هذا ثم يقعد بعد
ذلك ويظهر له مال ومتاع، فأرى أن يخرجوا ولا يقروا في سوق المسلمين.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، إنه من أخذ أموال الناس وتقعد عليها وادعى
العدم وأنه أصيب بماله وتبين كذبه فإنه يحبس أبدا حتى يموت في السجن أو
يؤدي إلى الناس أموالهم ولا تقبل شهادة من شهد أنه ليس له مال إذا لم يعرف
تلاف ماله، وقد قيل: إنه يضرب بالدرة المرة بعد المرة، وهو قول سحنون؛ وأما
من اتهم أنه قد خبأ مالا وغيبه فإنه يحبس حتى يؤدي أو يثبت عدمه فيحلف
ويسرح، وأما من جهل حاله فإنه يحبس بقدر ما يتلوم له ويختبر فيه حاله
ويستكشف فيه عن أمره ثم يخلى سبيله وإن لم يثبت عدمه إذا لم يظهر يسره،
وقدر ما يستبرأ أمره فيه يختلف باختلاف الدين فيما روى ابن حبيب عن ابن
الماجشون، فيحبس
(10/382)
في الدريهمات اليسيرة قدر نصف شهر، وفي
الكبير من المال أربعة أشهر، وفي الوسط منه شهران، وبالله التوفيق.
[مسألة: يقر لامرأته بالدين تكون قد أسلفته
إياه فيما بينها وبينه ويقول قد قضيتك إياه]
مسألة وسئل مالك عن الرجل يقر لامرأته بالدين تكون قد أسلفته إياه فيما
بينها وبينه ويقول: قد قضيتك إياه، قال مالك: الدين عندي مثل المهر إن لم
تكن له بينة غرم، وهو مخالف عندي لما يشتري لها ويبيع لها ويقتضي لها إنما
ذلك وكالة، فالرجل توكله امرأته ويدفع إليها ولا يشهد فيما باع لها ولا
فيما ابتاع لها ولا فيما اقتضى لها، فليس في هذا إلا يمينه بعد، وهو مخالف
عندي لما أقر به من السلف، وأرى إن لم يأت ببينة أن عليه غرم ذلك.
قال محمد بن رشد: قوله وهو مخالف عندي لما يشتري لها ويبيع لها ويقتضي لها
إنما ذلك وكالة تدل على أنه يحكم له بحكم الوكيل فيما باع واشترى لامرأته
وإن لم تثبت وكالته للعرف الجاري من تصرف الرجال لأزواجهم في أمورهن. وقد
اختلف في الوكيل يدعي أنه دفع إلى موكله ما قبض له من غرمائه أو ما باع به
متاعه على أربعة أقوال: أحدها أن القول قوله مع يمينه جملة من غير تفصيل،
وهو قوله في هذه الرواية وفي سماع ابن القاسم من كتاب البضائع والوكالات
وفي المدونة، والثاني أنه إن كان لقرب ذلك بالأيام اليسيرة فالقول قول
الموكل أنه ما قبض منه شيئا وعلى الوكيل إقامة البينة، وإن تباعد الأمر مثل
الشهر ونحوه فالقول قول الوكيل مع يمينه يحلف ويبرأ، وإن طال الأمر جدا لم
يكن على الوكيل ولا على الزوج يمين، وهو قول مطرف عن مالك، والثالث أنه إن
كان بحضرة ذلك وقربه بالأيام اليسيرة صدق الوكيل مع يمينه، وإن طال الأمر
جدا صدق دون يمين، وهو قول ابن الماجشون وابن عبد الحكم، والرابع تفرقة
أصبغ بين
(10/383)
الوكيل على الشيء بعينه وبين الوكيل المفوض
إليه، فالوكيل على الشيء بعينه غارم حتى يقيم البينة على الدفع وإن طال
الأمر، والوكيل المفوض إليه يصدق في القرب مع يمينه وفي البعد دون يمين،
فإن مات الوكيل أو الزوج بحدثان ما جرى ذلك على أيديهما كان ذلك في
أموالهما إذا عرف القبض وجهل الدفع، وإن كان موتهما بغير حدثان ذلك وما
يكون في مثله المخرج والقضاء والدفع فلا شيء في أموالهما وإن لم يعرف الدفع
ولم يذكر، ولا خلاف عندي في هذا الوجه، وأما السلف والمهر فلا يصدق فيه على
الدفع في قرب ولا بعد، وبالله التوفيق.
[: أحق بزيته إذا عرف أنه هو بعينه وإن خلطه مع
غيره]
ومن كتاب باع غلاما وقال مالك في روايا زيت باعها صاحبها خمس روايا ثم إن
صاحبها صبها في جرار ثم صب معها جرتين أخريين اشتراهما وقد اقتضى نصف ثمن
الخمس روايا ثم فلس المشتري وقد باع بعض ذلك أو لم يبع، قال: إذا عرف ذلك
أخذه إن وجده بعينه إن لم يبع منه شيئا إذا أبى الغرماء أن يدفعوا إليه
حقه، وإن باع منه شيئا وقد اقتضى رد نصف ثمن ما وجد مما اقتضى على حساب
الروايا إذا لم يصبها وقد باع بعضها وبقي بعضها وقد وصفناه في موضع آخر.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة على معنى ما مضى في رسم قطع الشجرة
وعلى ما في كتاب المأذون له في التجارة من المدونة أنه أحق بزيته إذا عرف
أنه هو بعينه وإن خلطه مع غيره. وقوله وإن باع منه شيئا وقد اقتضى رد نصف
ثمن ما وجد مما اقتضى على حساب الروايا إذا لم يصبها وقد باع بعضها وبقي
بعضها كلام فيه التباس ومراده به أن ما باع من الروايا مفضوض على الخمس
روايا وعلى الجرتين اللتين صبهما معها، فإن كان باع منها جرتين وفيها
راويتان وبقيت الخمس روايا عنده حتى فلس وقد اقتضى البائع نصف ثمن الخمس
روايا كان
(10/384)
البائع أحق بخمسة أسباع الخمس روايا بعد أن
يرد من الثمن [الذي قبض] نصف خمسة أسباعه ويحاص الغرماء بنصف ثمن السبعين
الفائتين بالبيع، وبالله التوفيق.
[مسألة: له على رجل دين بغير بينة]
مسألة وسئل عن رجل كان له على رجل دين بغير بينة، ثم إن الذي عليه الدين
وقع له حق على الذي يسأله ولا بينة بينهما، فهلك الذي عليه الدين ولا دين
لأحد عليه غيره، فأراد أن يكتم الدين الذي عليه بدينه الذي له حين عرف أن
دينه لا يؤدى وحين لم تكن له بينة وحين عرف أنه إن أقر بما عنده أخذ منه،
قال مالك: ما أرى أن يكتم ورثته ذلك، ولكن يخبرهم صدق ذلك ويلحقه من ذلك ما
لحقه أو يغرم ما غرم.
فقلت له: يا أبا عبد الله أيحتسب الذي له ويؤدي؟ قال: نعم، وأخبرني عنه سعد
بن عبد الله المعافري في الجحد مثل ذلك إلا أن يجحد من جحده ولم أحضره أنا.
قال محمد بن رشد: لم يجز له في هذه الرواية أن يكتم ما عليه ويقتطعه في
الدين الذي له وإن لم يكن لأحد عليه دين سواه، وهو معنى ما في كتاب الوديعة
من المدونة، وفي ذلك اختلاف كثير، قيل: إن ذلك لا يجوز، وهو قوله في هذه
الرواية وفي المدونة، وقيل: إن ذلك له جائز، وهو قول أشهب وابن وهب، وقيل:
إنه له مكروه، وقيل: إنه له مستحب، وقيل: إن ذلك جائز إن لم يكن عليه دين،
ولا يجوز له إن كان عليه دين
(10/385)
إلا أن يأخذ مقدار ما يصير له في المحاصة،
وقيل: إنه يجوز له أن يأخذ مما دفع إليه بغير أمانة ولا يجوز له أن يأخذ
مما دفع إليه بأمانة، وقد مضى في سماع أصبغ من كتاب النذور القول على هذا
المعنى أيضا، فقف عليه، وبالله التوفيق.
[مسألة: إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى
أهلها]
مسألة وسئل عن رجل قال: ما كان لي على قرابتي من حق فهو لهم عند الموت فهلك
وكان له عند رجل منهم قراض، قال: أراه له فيما يحضرني والذي أرى.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة فيها نظر، وكان الأظهر ألا يكون له القراض إذا
كان قائما بيده لأنه في أمانته فهو له عنده، ولا يقال إنه له عليه إلا إذا
كان قد استهلكه فثبت له في ذمته، ووجه ما ذهب إليه أنه وإن كان له عنده
فعليه أن يؤديه إليه لقول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ
تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58] فإذا وهبه ماله عليه
من الحق في صرفه إليه وجب أن يكون له، وبالله التوفيق.
[مسألة: مات وعليه دين يحيط بماله]
مسألة وقال مالك: من مات وعليه دين يحيط بماله فإن الكفن مبدأ على الدين،
قال: ومن كان له رهن في يد رجل ثم مات ولا مال له غير ذلك الرهن فلا يكفن
منه، والمرتهن أحق به من الكفن.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة، وقد تكررت في هذا الرسم بعينه من
هذا السماع في كتاب الجنائز، ومضى القول عليها هناك مستوفى، فلا معنى
لإعادته، وبالله التوفيق.
(10/386)
[: هلك وترك
مالا ليس فيه وفاء من دينه]
ومن كتاب أوله صلى نهارا ثلاث ركعات وسئل مالك عن رجل هلك وترك مالا ليس
فيه وفاء من دينه فقال ابن له: أنا آخذ هذا المال وأضمن دين أبي، قال مالك:
إن كان يضمن دين أبيه وما كان فيه من فضل رده إلى الورثة فلا بأس به إن شاء
الله، وإن كان نقصانا كان عليه فلا بأس به، وإن كان يأخذه على أن يكون له
الفضل بما ضمن من النقصان فلا خير
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة والقول فيها مستوفى في رسم أخذ يشرب
خمرا فلا وجه لإعادته، وتكررت أيضا بالمعنى في رسم يسلف في المتاع، وبالله
التوفيق.
[: أوصى في مرضه أن لفلان عليه أربعين دينارا]
ومن كتاب تأخير صلاة العشاء
وسئل عن رجل أوصى في مرضه أن لفلان عليه أربعين دينارا، وأوصى مع ذلك أنه
مصدق فيما قال، قال: فادعى الرجل أن له عليه خمسين دينارا، قال: أرى أن
يحلف ويأخذ خمسين دينارا.
قال محمد بن رشد: قوله: أرى أن يحلف ويأخذ خمسين يريد يحلف على تحقيق دعواه
في الخمسين دينارا، وقال ابن دحون: إنما ألزمه اليمين لأن كل من اقتضى دينا
من مال ميت أو مفلس فلا بد له من أن يحلف ولا تنفعه بينته إلا أن يسقط ذلك
عنه الورثة أو الغرماء، ولو طرأ غريم غائب كان له أن يحلف من لم يحلف ويحلف
هو أيضا، وليس قول ابن دحون بصحيح لأن هذه اليمين لا بد منها، ولا اختلاف
فيها، وأما اليمين على تحقيق دعواه في الخمسين دينارا ففيها اختلاف وقع في
رسم البز من سماع ابن القاسم من كتاب الوصايا في الرجل يوصي لرجال بديون
لهم عليه فيقول: قد كنت أداين فلانا وفلانا فما ادعوه قبلي فهم فيه مصدقون
(10/387)
إن ذلك يكون لهم بلا يمين يستحلفون بها على
ما ادعوا فيحلف على هذه الرواية إن له عليه خمسين دينارا، وإنه ما قبضها
ولا أسقطها عنه، وإنها لباقية له إلى حين يمينه، ويحلف على ما في رسم البز
من كتاب الوصايا إنه ما قبض الخمسين دينارا التي صدقه المتوفى فيها ولا
أسقطها عنه، وإنها لباقية له قبله إلى حين يمينه. والاختلاف المذكور في
تحقيق دعواه في الخمسين جار على اختلافهم في لحوق يمين التهمة لأن الورثة
تتهمه في أن يدعي أكثر من ماله ولا تحقق عليه الدعوى بذلك ولو حققت عليه
الدعوى بذلك مثل أن يقول له: قد أقررت عندنا أنه لم يكن لك عليه إلا كذا
وكذا للزمته اليمين قولا واحدا، ولم يسقط عنه الميت اليمين وإنما أوصى أنه
مصدق فيما يدعيه ولم يقل بيمين ولا بغير يمين، ولو قال: إنه مصدق دون يمين
لما سقطت اليمين عنه بإسقاطه إياها عنه على ما في رسم أخذ يشرب خمرا من
سماع ابن القاسم من كتاب الشركة ومن كتاب الوصايا حسبما سنبينه هناك إن شاء
الله، وسيأتي في رسم أسلم من سماع عيسى ورسم الوصايا الصغير من سماع أصبغ
مسائل من هذا المعنى في التصديق في الدعوى نتكلم عليها إذا مررنا بها إن
شاء الله، وقد مضى في رسم العتق من سماع عيسى من كتاب الشهادات في التصديق
في الشهادة وبينا هناك الفرق بين التصديق في الدعوى وبين التصديق في
الشهادة، وبالله التوفيق.
[مسألة: يجبر على أخذها عند الموت والفلس]
مسألة وسئل عن رجل ابتاع طعاما إلى أجل من رجل فمات الذي عليه الحق فقيل
للذي له الحق: خذ حقك، قال ذلك له الورثة، قال: لا حتى يحل حقي، قال: أرى
أن يجبر عند موته على أخذه، وذلك أن مال الميت يباع، ولعله ألا يكون فيه
وفاء، فأرى أن يجبر على ذلك، قال ابن القاسم في العروض: يجبر على أخذها عند
الموت والفلس.
(10/388)
قال القاضي: هذه مسألة صحيحة بينة على معنى
ما في المدونة وغيرها لأن الدين يحل على المتوفى بموته، ومن حق من عليه دين
أن يؤديه عن نفسه، والله الموفق.
[: يوصي لرجل بدين فيطلب فلا يوجد ولا يعرف]
ومن كتاب أوله اغتسل على غير نية وسئل مالك عن الذي يوصي لرجل بدين فيطلب
فلا يوجد ولا يعرف، قال: يتصدق به عنه، قال مالك: ويقول: اللهم هذا عن
فلان.
قال محمد بن رشد: معنى قوله: ولا يعرف أي لا يعرف موضعه؛ لأنه إذا لم يعرف
فلا يصح أن يوجد، وقد مضى تحصيل القول في هذه المسألة في رسم حلف ليرفعن
أمرا، فلا وجه لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: الشهادة على خط المقركالشهادة على
إقراره]
مسألة وسئل عن رجل أوصى عند موته أن ينظر في كتبه فما كان له من حق قبض،
وما كان عليه قضي، فلما مات أخرجت كتبه الذكور الحق فإذا في ذكر حق منها
ذكر حق فلان على فلان بأربعة عشر دينارا، وفيه شهود، وأسفل منه بخط يد صاحب
الحق الميت: قبضت منه ثمانية دنانير مما في كتابي هذا، أعليه أن يحلف ويبرأ
من الثمانية دنانير؟ قال مالك: ما أرى عليه من يمين، ولكن يؤخذ منه ما بقي
بعد الثمانية بغير يمين.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأن الشهادة على خط المقر كالشهادة
على إقراره؛ سواء عند من يجيز الشهادة في ذلك على
(10/389)
الخط، والشهادة في ذلك جائزة على المشهور
في المذهب لم يختلف في ذلك قول مالك ولا قول أحد من أصحابه فيما علمت إلا
ما يروى عن محمد بن عبد الحكم من أنه قال: لا تجوز الشهادة على الخط مجملا
ولم يخص موضعا من موضع، وستأتي هذه المسألة في رسم بع ولا نقصان عليك من
سماع عيسى، وقد مضى من تحصيل القول في الشهادة على الخط في رسم الشجرة من
سماع ابن القاسم من كتاب الشهادات ما فيه شفاء، وبالله التوفيق.
[: البينة على من ادعى واليمين على من أنكر]
ومن كتاب مساجد القبائل وسئل عن عبد كان تاجرا وأنه باع متاعا من التجار
وكتب عليهم ذكورات حق وأنهم ادعوا أنهم قد دفعوا إلى سيده بعض ما كان له
عليهم، قال: أرأيت سيده أكان يقتضي شيئا؟ قال: نعم قد كان السيد يقتضي، وقد
كان العبد يقتضي، قال: أما إذا كان يقتضي فإني أرى أن يحلف السيد فيما ادعي
عليه ويحلف العبد فيما ادعي عليه.
قال محمد بن رشد: هذا بيّن على ما قاله [أنه] إذا كانا جميعا يقتضيان لزمت
كل واحد منهما اليمين فيما ادعي عليه لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -:
«البينة على من ادعى واليمين على من أنكر» ولو كان السيد لا يقتضي لم يجب
عليه اليمين في دعوى الاقتضاء على القول بأن اليمين لا تلحق بمجرد الدعوى
دون خلطة، وهو مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وكافة
(10/390)
أصحابه، وقد مضى القول في ذلك مستوفى في
رسم القضاء المحض من سماع أصبغ من كتاب الأقضية، وبالله التوفيق.
[مسألة: الكري تكون له الإبل يحمل عليها وهو
يديلها تحتهم فيفلس]
مسألة وسئل عن الكَرِيّ تكون له الإبل يحمل عليها وهو يديلها تحتهم فيفلس
وتحت أحدهم بعير منها، أتراه أحق به من سائرهم؟ قال: نعم أرى ذلك، قال ابن
القاسم: وذلك رأيي. قلت لسحنون: هل يكون أصحاب الكراء المضمون وغيرهم سواء
وكل واحد من أصحاب الحمولة أولى بما في يده من غيره؟ قال: نعم.
قلت: فلو أن الجمال احتاج فأراد أن يتسلف من بعض أهل الحمولة على أن يرهنه
ما في يده من الإبل أيجوز ذلك وتراه رهنا مقبوضا محوزا؟ قال: نعم، ألا ترى
أنه لو فلس الجمال كان كل واحد من هؤلاء أحق بما تحته من غيره من الغرماء
ومن أصحاب الأحمال؟
قلت لسحنون وأصحاب الأحمال: أولى بما تحت أحمالهم من الإبل كما يكونون في
المحامل؟ قال: نعم.
قلت: فإن أراد الجمال أن ينقل تلك الإبل ويديلها بينهم وأبى ذلك أصحاب
الأحمال؟ قال: لا يكون ذلك للجمال إلا عن رضى من أصحاب الحمولة، وهذا في
الكراء وغيره سواء.
قال محمد بن رشد: هذه المسألة معروفة لسحنون أجاز أن يرهنه
(10/391)
ما تحته وهو في منافع الراهن، وهو بعيد،
وكذلك أجاز أن يرهنه جملا تحت غيره يكون قبض راكبه له قبضا للمرتهن، وهو
أبعد؛ لأنه كان في قبض غيره ولم يحدث له قبض مستأنف للرهن؛ ولأنه في منافع
الراهن وفي أجرة غيره فهو بعيد من حكم الرهن وأصله، وقد مضت هذه المسألة
والقول فيها مستوفى في آخر سماع ابن القاسم من كتاب الرواحل والدواب، فلا
معنى لإعادة شيء من ذلك، وبالله التوفيق.
[: البيع على تعجيل الحق]
ومن كتاب أوله المحرم يتخذ الخرقة لفرجه وسئل عن رجل كان لقوم عليه دين
ولرجل منهم أربعة عشر دينارا ونصف، فأراد الخروج إلى موضع، فأراد قضاء
دينه، فقضاه أربعة عشر دينار ونصفًا دراهم، قال: لا خير فيه، هذا مكروه أن
يعطى في نصف دراهم قبل محل الأجل، ولكن يعطيه في ذلك عرضا، قيل: فيعطيه
دينارا ويأخذ منه نصفا فضة؟ قال: أعجب إلي أن يأخذ في ذلك عرضا، كأنه خففه
لقلة النصف، قال ابن القاسم: ولا بأس به.
قال محمد بن رشد: إنما لم يجز إذا كان له عليه أربعة عشر دينارا ونصف دينار
مؤجلة أن يأخذ منه قبل محل الأجل أربعة عشر دينارا وصرف نصف دينار لأنه لا
يجوز له أن يأخذ دراهم عن ذهب لم يحل أجلها؛ لأنه يدخله صرف إلى أجل، وأجاز
أن يأخذ منه أربعة عشر دينارا وعرضا بالنصف دينار، وفي ذلك نظر لأنه عجل له
الأربعة عشر دينارا على أن باع منه العرض بنصف دينار، والبيع على تعجيل
الحق لا يجوز؛ لأنه يدخله: "ضع وتعجل"، ألا ترى أنهما يتهمان على أن يعجل
له الأربعة عشر دينارا على أن يأخذ منه بالنصف دينار عرضا لا يساوي إلا ربع
دينار فيكون قد عجل له حقه على أن يحط عنه منه ربع دينار، ولم يجز أن يأخذ
منه خمسة عشر دينار ويدفع إليه بالنصف الزائد على حقه فضة لأنه صارفه في
النصف دينار على أن يعجل له الأربعة عشر دينارا ونصف التي كانت له
(10/392)
عليه، وذلك لا يجوز؛ لأنه يخاف أن يكون
زاده في صرف نصف المثقال لموضع التعجيل فيدخله: ضع وتعجل، وقد يدخله أيضا:
ذهب نقدا بفضة نقدا، وذَهَب إلى أجل؛ لأنه أعطاه خمسة عشر مثقالا نقدا على
دراهم معجلة وعن ذهب مؤجل، وخفف إذا أخذ منه خمسة عشر دينارا أن يدفع إليه
بالنصف دينار الزائد على حقه عرضا وإن كان يدخله: ضع وتعجل؛ لأنه يخاف أن
يكون أعطاه في النصف دينارٍ عرضا قيمته أكثر من نصف دينار على أن يعجل له
حقه إلا أنه استخف ذلك ليسارته، ولم ير ابن القاسم به بأسا، وقد كرهه مرة،
وقع اختلاف قوله في ذلك في سماع أبي زيد من كتاب الصرف، وقد مضى القول على
ذلك هنالك، وبالله التوفيق.
[: خالط رجلا بمال فكان لأحدهما قبل صاحبه فضل]
ومن كتاب أوله مرض وله أم ولد وسئل مالك: عن رجل خالط رجلا بمال فكان
لأحدهما قبل صاحبه فضل، ثم إن الذي غاب بفضل غاب وذهب ولا يعرفه صاحبه بنسب
ولا دار إلا الاسم، قال مالك: يتصدق به عنه ويقول حين يتصدق: اللهم هذا عن
فلان لمكان الذي له عندي، فإن جاء بعد ذلك دفع إليه حقه.
قال محمد بن رشد: قوله يتصدق به عنه، معناه: إن شاء، إذ لا يلزمه ذلك مخافة
أن يأتي فيلزمه غرمه؛ إذ هو ثابت في ذمته لا يبرأ منه إلا برده لربه أو بأن
يرفع ذلك إلى الإمام ويدفعه إليه فيوقفه الإمام له.
وقوله: ويقول حين يتصدق به عنه: اللهم هذا عن فلان، معناه: أنه يقول ذلك في
نفسه؛ لأن النية تكفيه في ذلك، وليس عليه أن يحرك بها لسانه.
وقوله: إنه إن جاء بعد ذلك دفع إليه حقه صحيح لا يدخل فيه الاختلاف الحاصل
بين أهل العلم فيمن تصدق باللقطة بعد التعريف هل يضمنها لصاحبها أم لا؛
لأنها ليست في ذمته بخلاف هذا، وقد جاء في الحديث «أن شأنه بها» ، وبالله
التوفيق.
(10/393)
[: الذكر حق
يكتب ويكتب فيه ومن جاء بذكر الحق اقتضاه فيأتي به غير صاحبه]
ومن كتاب سن رسول الله وقال مالك في الذكر حق يكتب ويكتب فيه: ومن جاء بذكر
الحق اقتضاه فيأتي به غير صاحبه، قال: لا أرى أن يدفع إليه شيئا إلا
بوكالة؛ لأني لا أدري بما وصل ذلك الكتاب إليه، لعله وجده وقد سقط من صاحبه
أو ما أشبه ذلك فلا أرى أن يعطى إلا بوكالة.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما يأتي في رسم الأقضية الثالث من سماع أشهب، وهي
مسألة صحيحة لا اختلاف فيها للمعنى الذي ذكره في الرواية وبينه فيها بإشهاد
صاحب الحق أن من جاء بذكر الحق اقتضاه غير عامل بخلاف إشهاده للذي عليه
الحق أنه إن جاء به فقد برئ، وقد مضى القول على ذلك في أول رسم من السماع،
وبالله التوفيق.
[مسألة: جحد رجلا حقا له فأراد صاحب الحق أن
يستحلفه]
مسألة وسئل: عن رجل جحد رجلا حقا له فأراد صاحب الحق أن يستحلفه: ما أسلفتك
شيئا، وقال الآخر: أحلف لك: ما لك عليّ شيء، قال: أرى أن يحلف: ما لك عندي
شيء، وما الذي ادعيت عليّ إلا باطلا، فإن أبى أن يحلف حلف صاحب الحق واستحق
حقه، وقال هذا مُوَرِّكٌ، قال أصبغ: حضرت ابن القاسم وقد
(10/394)
حكم أن يحلف ما أسلفه شيئا.
قال محمد بن رشد: قول مالك إنه يحلف: ما له عنده شيء وما الذي ادعى عليه
إلا باطلا هو في المعنى مثل ما في المدونة في الشهادات منها، ومثل ما حكى
أصبغ أنه حضر ابن القاسم وقد حكم بأن يحلف: ما أسلفه شيئا؛ لأن حلفه: ما
الذي ادعى عليه إلا باطلا يستغرق كل دعوى ويكفي من كل لفظ، وقد قيل: إنه
يقبل منه أن يحلف: ما له عنده حق، وقع الاختلاف في ذلك في آخر سماع أصبغ من
كتاب النذور، وفي غيره من المواضع، والأظهر أنه لا يقبل منه إلا أن يحلف:
ما أسلفه شيئا؛ لأن الطالب يقول بمفهوم قوله: إنه يريد أنه قضاني، وهو لو
صرح بأنه قضاني لكان القول قولي إني ما قبضت منه شيئا، فيريد أن يأتي بكلام
يتحيل فيه أن يكون القول قوله في القضاء، وهو قوله: ما لك عندي شيء، وما
أشبه ذلك من الألفاظ.
والأصل عندي في هذا الاختلاف اختلافهم في اليمين هل هي على نية الحالف أو
على نية المحلوف له، فمن رأى اليمين على نية الحالف قبل من الحالف أن يحلف:
ما له قبله حق؛ لأنه يقدر إن استحلفه ما أسلفه [شيئا] أن ينوي أنه ما أسلفه
شيئا هو عليه باق له، فلا يكون كاذبا في يمينه كما لو حلف ما له قبله حق،
فلما كان يقدر على هذا لم يكن لإيجاب اليمين عليه أنه ما أسلفه شيئا كبير
فائدة، ومن رأى اليمين على نية المحلوف له لم يقبل من الحالف إلا أن يحلف
ما أسلفه شيئا؛ لأنه إن حلف على ذلك، وقد كان أسلفه فقضاه كان آثما كاذبا،
فلزم ذلك لينكل عن اليمين فيكون القول قول الطالب، وبالله التوفيق.
[: يستدين فيزرع وقد استأجر فيه أجراء ثم يعجز
فيه فيستدين ثم يفلس]
من سماع أشهب وابن نافع من مالك
من كتاب الأقضية الثاني
قال سحنون: قال لي أشهب: سئل مالك: عن الذي يستدين
(10/395)
فيزرع وقد استأجر فيه أجراء ثم يعجز فيه
فيستدين ثم يفلس، قال: يبدأ صاحب الدين الآخر فالآخر، وإنما يكون ذلك إذا
فلس ولم يكن له شيء يحيي به الزرع فاستدان في عمله وحياته، فالآخر يبدأ وهو
خير للذي قبله أحياه له ولم يدعه يموت، فإن فضل فضل أخذه وإلا فلا شيء له؛
لأنه كان يموت ويذهب، وكذلك إن كان الأجراء قبل أوجروا فإنه يبدأ الآخر.
قال محمد بن رشد: معنى هذه المسألة أنه استدان دينا فزرع به زرعا واستأجر
في عمل الزرع أجراء بدين فعمل الأجراء ما استأجرهم عليه ثم عجز عن بقية عمل
الزرع فاستدان دينا آخر فاستأجر به أجراء على بقية عمل الزرع فيبدأ الدين
الآخر على الدين الأول وعلى إجارة الأجراء، فإن فضل فضل عن الدين الآخر بدئ
فيه الأجراء على الدين الأول، وهي مسألة صحيحة على معنى ما في الرهون من
المدونة في الزرع يرتهن فيخشى عليه الهلاك فيأخذ الراهن من رجل آخر مَالًا
فينفقه فيه - أن الآخر يكون أحق بالزرع، فإن فضل فضل كان للمرتهن الأول.
وعلى قياس القول [الأول] فإن أجير السقي أحق بالزرع من الغرماء، وقد اختلف
في ذلك فقيل: إنه أحق في الموت والفلس، وهو قول ابن القاسم في كتاب ابن
المواز وقول ابن الماجشون وأصبغ في الواضحة، وقيل: إنه أسوة الغرماء في
الموت والفلس جميعا، وهو قول المخزومي، وقيل: إنه أحق في التفليس دون
الموت، وهو قول ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة وغيرها، والقياس قول
المخزومي؛ لأنه لم يبع منه الزرع فيكون أحق به، وإنما باع منه منافع قد
استهلكت، ولكلا القولين الآخرين وجه من النظر، وذلك أن الزرع لما كان ناميا
بسقي الأجير صار كالبائع له ويده عليه إلا أنه في أرض المستأجر المفلس، فمن
غلب كون يده عليه رآه أحق به في الموت والفلس، كمن باع سلعته ففلس المبتاع
قبل قبضها، ومن غلب كونه
(10/396)
في أرض المستأجر رآه أحق به في الفلس دون
الموت، كمن باع سلعة ففلس المبتاع بعد قبضها، وهي قائمة بيده، وكذلك اختلف
أيضا في رب الأرض إذا فلس المكتري هل يكون أحق بالزرع أم لا على هذه
الثلاثة الأقوال؛ لأن المعنى فيها جميعا سواء.
واختلف على القول بأن كل واحد منهما أحق إذا اجتمعا، فقيل: إنهما يتحاصان،
وقيل: يبدأ رب الأرض، وقيل: يبدأ الأجير، فإن كان الزرع مرهونا كان المرتهن
أحق من الغرماء بما فضل عن رب الأرض وأجير السقي على مذهب ابن القاسم
وروايته عن مالك في المدونة وغيرها، فعلى هذا إذا اكترى الرجل أرضا فزرع
فيها زرعا فخشي عليه الهلاك فاستأجر على سقيه، ثم عجز عنه أيضا فاستأجر على
سقيه وإحيائه آخرين، ثم رهنه فإنه يبدأ الساقي الآخر على الأول، والأول على
المرتهن، والمرتهن على سائر الغرماء، ورب الأرض على ما ذكرناه فيه من
الاختلاف يحاص الأجراء الأولين في قول، ويكون أحق منهم في قول، ويكونون أحق
منه في قول، فهذا تحصيل القول في هذه المسألة.
ومعنى قوله: وكذلك إن كان الأجراء قبل أوجروا، فإنه يبدأ الآخر، يريد: أن
الأجير في الزرع وإن كان الحكم فيه أن يكون أولى بالزرع من الغرماء فلا
يكون في هذه المسألة أولى من الغرماء الآخرين بل يبدأ الغرماء الآخرون
عليه؛ لأن الزرع إنما حيي بأموالهم إذا كان صاحبه قد عجز عنه، فكما يبدأ
الغريم على الغريم من أجل أن الزرع إنما حيى بالدين المتأخر، فكذلك يبدأ
على الأجير من أجل ذلك، وقد وقع في كتاب ابن المواز لمالك: أن الأول من
الأجراء يبدأ على الثاني، وهو بعيد، وبالله التوفيق.
[مسألة: يحلف مع شاهده إنه عجوة]
مسألة وسئل مالك: عمن أتى على امرأة بذكر حق بعد موتها فيه كذا وكذا صاعا
من تمر عجوة فمحا الموضع الذي فيه
(10/397)
العجوة في السطر ولم يأت على الذكر حق
بشهادة إلا كاتب الصحيفة يشهد أنه يعرف كل ما في الكتاب إلا تسمية العجوة
إنه ليس كتابه، وقد محي، ولا أدري أعجوة هو أم لا؟
قال ابن القاسم: قال مالك: أما أنتم فلستم تحلفون إنه غير عجوة فأرى أن
يحلف مع شاهده إنه عجوة، وإن هذا الحق له، ثم يعطاه.
قال محمد بن رشد: قوله أما أنتم فلستم تحلفون إنه غير عجوة، معناه: أما
أنتم فإذا لم تحلفوا إنه غير عجوة فأرى أن يحلف مع شاهده إنه عجوة؛ لأن
القول قولهم إنه غير عجوة؛ لأنه لما ثبت له شاهد بالعدة وأنها تمر، قيل له:
احلف مع شاهدك على صحة ما شهد به، ثم يقال للورثة: احلفوا على أي صنف من
التمر تقرون به، فإن حلفوا على صنف ما أخذه، ولم يكن له غيره، وإن لم
يحلفوا، قيل له: احلف على أي صنف تدعيه وخذ، فتكون يمينه يمينا واحدة على
الصنف، وعلى أن شاهده شهد بحق، وعلى أنه لم يقبض ذلك، وبالله التوفيق.
[: جاء بسفينة له اشترى من رجال ولم يدفع إليهم
من الثمن شيئا حتى فلس]
ومن كتاب الأقضية الثالث وسئل مالك: عن رجل جاء بسفينة له، فاشترى من هذا
قمحا فصبه فيها، ثم اشترى من هذا قمحا فصبه فيها حتى اشترى من رجال فصبه في
السفينة كله ولم يدفع إليهم من الثمن شيئا حتى فلس، أتراهم أحق بقموحهم من
الغرماء؟
قال: نعم، إن علم ذلك اقتسموه بينهم بالمكيلة على الحصص.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة على معنى ما في المأذون له من المدونة
وعلى ما مضى في رسم باع غلاما وغيره من سماع
(10/398)
ابن القاسم، ولو نقص الكيل وكان من نقصان
المركب كان بينهم على الحصص، ولم يكن على المفلس شيء بخلاف إذا نقص ببيع أو
تلف أو استهلاك فإنهم يكونون أسوة الغرماء بما ناب ما نقص من الثمن، ولو
زاد القمح من نداوة البحر كانت الزيادة بينهم على قدر ما لكل واحد منهم،
وبالله التوفيق.
[مسألة: يكتب في ذكرحق ومن قام بذكر الحق
اقتضاه به ثم يجيء به رجل]
مسألة وسئل: فقيل له: قلت في الذي يكتب في ذكر حق، ومن قام بذكر الحق
اقتضاه به ثم يجيء به رجل أنه لا يقتضي ما فيه إلا بوكالة يقيمها، فقال:
نعم.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة، وقد تقدمت والعلة فيها في رسم من سماع
ابن القاسم، وبالله التوفيق.
[: يشتري سلعة بدين على أن يقضيه من عطائه إذا
خرج فلم يخرج]
ومن كتاب الأقضية وسئل: عن الرجل يتعين في عطائه فيحبس العطاء وله مال فيه
وفاء بما عليه من تلك العينة، أنأخذ ذلك من ماله؟
قال: لا أرى ذلك.
(10/399)
قال محمد بن رشد: تكررت هذه المسألة في آخر
السماع، والمعنى فيها أنه حكم للعطاء بحكم الدين الثابث في الذمة في أن
مصيبته ممن اشتراه إن مات الذي عليه الدين أو فلس، ومعنى ذلك في العطاء
المأمون، فإذا تعين على هذا في العطاء بأن يشتري سلعة بدين على أن يقضيه من
عطائه إذا خرج فلم يخرج بطل حقه، وإن خرج بعضه حل عليه من الدين بحساب ما
خرج منه على ما يأتي في آخر السماع.
وكذلك لو اشترى العطاء فلم يخرج لم يكن له على هذا القول شيء، وقد قيل: إنه
إذا تعين في عطائه أو باعه كان ذكر العطاء كالأجل وتعلق ذلك بذمته إن لم
يخرج العطاء أو مات قبل خروجه، وهو اختيار محمد بن المواز وقول مالك في
رواية أشهب عنه في الواضحة، وهذا القول يأتي على قياس قول غير ابن القاسم
في المدونة في الذي يشتري السلعة بدنانير له غائبة - أنه ضامن لها إن تلفت
وإن لم يشترط الضمان، ويأتي على قياس قول ابن القاسم في هذه المسألة ألا
يجوز التعيين في العطاء إلا بشرط الحلف.
فيتحصل في المسألة ثلاثة أقوال: أحدها: أن البيع لا يجوز إلا بشرط الضمان
لمن لم يخرج العطاء، والثاني: أنه جائز والحكم يوجب الضمان، والثالث: أنه
جائز ولا يلزمه الضمان، وأما العطاء الذي ليس بمأمون فلا يتعين فيه حق من
ابتاعه أو تعين فيه باتفاق، ويختلف هل يجوز ذلك بغير شرط الحلف أم لا على
قولين، ويحتمل أن يلفق بين الروايات بأن تحمل هذه الرواية على العطاء
المأمون، وما في الواضحة واختيار ابن المواز على العطاء الذي ليس بمأمون،
فلا يكون في المسألة اختلاف إلا في جواز البيع ابتداء بغير شرط الخلف في
العطاء الذي ليس بمأمون. وبالله التوفيق.
[مسألة: بايعه بشرط ألا يقاصه]
مسألة وسئل: عمن كان له على رجل مال فلقيه ومعه سلعة يبيعها
(10/400)
فأراد شراءها منه، فقال له البائع: إني
أخاف أن تقاصني بثمنها وأنا إنما أريد أن أبيعها لحاجة كذا وكذا، قال: فإني
لا أقاصك بثمنها، فاشتراها منه على ذلك، ثم أراد مقاصته بثمنها وللناس عليه
ديون سوى دينه كثرة إلا أنه لم يفلس، أترى أن يقاصه؟
قال: نعم، أرى ذلك له إن ألح على ذلك.
قيل له: إنه قد اشترى على أن لا يقاصه وعلم أنه إنما يبيعها لأمر سوى أمره
فاشتراها على ذلك، فقال: أرى ذلك له، وهو يقول: إنما اشتريت منك لأقاصك
ولأستوفي حقي من تحت يدي، فإني أرى ذلك، فروجع فيها، فقال: قد أنباتك بالذي
قبلي.
قال الإمام القاضي: قد اختلف وجوب الحكم بالمقاصة، فقيل: إنه لا يحكم بها،
وهي رواية زياد عن مالك، وظاهر مسألة كتاب الصرف من المدونة، والمشهور أنه
يحكم بها.
واختلف على هذا القول إذا بايعه بشرط ألا يقاصه على ثلاثة أقوال: أحدها
هذا: أن الشرط غير عامل، والثاني: أنه عامل، والثالث: أن البيع فاسد إذا
كان الدين حالا؛ لأنه إذا اشترط ترك المقاصة، فكأنه شرط أن يؤخره بالدين
فيدخله البيع والسلف.
فإذا قلنا: إن البيع جائز والشرط عامل فيلزمه أن يؤخره قدر ما يرى؛ لأن
قوله: لا أقاصك، بمنزلة قوله: أؤخرك، إذ لا يكون له أن يترك مقاصته ثم
يطالبه برده إليه في الحين، كالذي يسلف الرجل سلفا حالا ثم يطالبه بأدائه
في الوقت.
وقد مضى القول على هذه المسألة مستوفى في رسم العشور من سماع عيسى من كتاب
النذور، وبالله التوفيق.
[مسألة: له على رجل دين فقضاه إياه فأقام شهرا
ثم جاءه يتقاضاه]
مسألة وسئل: عن رجل كان له على رجل دين فقضاه إياه وأشهد على ذلك شاهدين،
فأقام شهرا ثم جاءه يتقاضاه
(10/401)
الدين، فقال له: قد قضيتك وأشهدت عليك بذلك
فلانا وفلانا، فقال: ما قضيتنيه، فقال له: أتحلف وأعطيكه؟ فقال له: نعم
أحلف، فحلف فقضا إياه. فلما حلف أراد أن يأتي عليه بالشاهدين، أترى ذلك له
عليه بعد يمينه ورضاه بها؟ قال: نعم، فليأت بهما.
قال محمد بن رشد: مثل هذا في كتاب ابن المواز من رواية ابن عبد الحكم عن
مالك، وفي الثمانية من قول مطرف وابن الماجشون.
وزاد ابن الماجشون: أنه أثم حين ألجأه إلى اليمين بالباطل وبينته حاضرة
يعلمها.
وفي الواضحة لمطرف وابن الماجشون خلاف قولهما في الثمانية مثل ما في
المدونة: أنه لا قيام له إذا استحلفه وهو عالم ببينته تاركا لها.
وجه هذا القول: أنه قد رضي بيمين صاحبه وإسقاط بينته فيلزمه ما رضي به؟
ووجه القول الآخر: أنه يقول لم أرض بيمينه وإسقاط بينتي، وإنما قلت له،
وأنا أظن به أنه لا يجترئ على اليمين بالباطل، ولو علمت أنه يجترئ على
اليمين لما مكنته منها، فلا يدخل هذا الاختلاف في الصلح.
وقد مضى تحصيل القول في هذه المسألة في رسم أخذ يشرب خمرا، وبالله التوفيق.
[مسألة: النساج يفلس فيخرج الغزل فيقول هذا
لفلان]
مسألة وسئل: عن النساج يفلس أو الصائغ، فيخرج النساج الغزل فيقول هذا
لفلان، أو يخرج الصائغ السبيكة فيقول هذه لفلان، فقال: لا، إلا أن يأتي
صاحب الحلي بشبهة بشاهد.
قيل: إنما أعطاه حليا فجاءه بسبيكة فقال هذه لفلان وهذه لفلان، فقال: ليس
هو في ذلك بمصدق، يقال له أفسدت أمانتك، ولعلك أن تكون تخص صديقك أو تواتي
هذا ليرد عليك، فلا أرى ذلك له عليه.
(10/402)
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى تحصيل
القول فيها في أول رسم من سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادته، ومضى القول
فيها أيضا مستوفى في رسم الشجرة تطعم بطنين من سماع ابن القاسم من كتابه
تضمين الصناع، وبالله التوفيق.
[: أعطى الابن الغرماء ما نض من مال الميت
وصالحهم في الباقي]
ومن كتاب البيوع وسئل: عمن توفي وترك عليه مائتي دينار دينا وستين دينارا،
وترك من العين مائتي دينار بيع فيها متاعه وما كان له، فقال ابن الميت: أنا
أدفع إليكم ما نض وأتحمل لكم بنصف ما بقي وتحللوا أبي من نصفه.
فقال: ما يعجبني هذا ولا أحبه، وإنما يجوز هذا بأن يقر مال أبيه بيده
ويتحمل بدينه كله، يكبر الصغير وينمو ويصلح ما في يده، ولا يكون ما فضل له
ولكن يكون للورثة معه، فهذا الذي يصلح ويجوز.
فأما أن ينض المال ويبيع المتاع ويصير عينا فيدفعه إليهم ويصالحهم فيما فضل
على أن يتحمل لهم بالنصف ويوضع عن أبيه النصف فلا يعجبني هذا.
قلت: أرأيت إن أسلم له كل شيء وتحمل به، ثم جاء بعد هذا الدين دين آخر،
فقال الغريم الذي طرأ: أنا أغرمك أيضا قد تحملت عن أبيك، وقال هو: إنما
تحملت بهذا الدين الذي قد علمت.
فقال: أرى ذلك لازما له أن يغرم لهم.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله أنه إذا أعطى الابن الغرماء ما نض من
مال الميت وصالحهم في الباقي على أن يتحمل لهم بنصفه ويضعوا عن أبيه النصف
لم يجز.
ووجه الكراهة في ذلك أنه إن جاء غريم آخر لم يعلم به كان له أن يدخل على
الغرماء فيما قبضوه فيحاصهم
(10/403)
في ذلك بجميع دينه إذ لم يضعوا عن الميت
منه شيئا، ولا يكون لهم أن يضربوا معه بجميع دينهم إذ قد وضعوا عن الميت
نصف ما كان بقي من حقوقهم، فيكون من حجتهم حينئذ أن يقولوا: لو علمنا أنه
يطرأ علينا من يدخل معنا فيما صار إلينا ويحاصنا فيه بجميع دينه لم نرض أن
نحط عن الميت شيئا لما في ذلك من انتقاص حقوقنا، فكان في هذا قولا وحجة،
فإذا لم تلزمهم الوضيعة لم يلزم الابن الضمان وانتقض الصلح.
ويجوز أن يضمن الابن جميع دين أبيه أو نصفه أو ثلاثة أرباعه على أن يقر
المال بيده عرضا كان أو عينا، وعلى أن يدفعه إليهم أيضا إذا لم يشترط عليهم
وضيعة شيء مما بقي من حقوقهم للعلة التي ذكرناها من طرو غريم لم يعلم به،
فلا دليل في قوله: وإنما يجوز هذا بأن يقر مال أبيه بيده ويتحمل بدينه كله
فيكبر الصغير وينمو ويصلح ما في يده، على أنه لا يجوز أن يتحمل بالبعض، ولا
على أنه لا يجوز إذا دفع إليهم ما اجتمع في تركة الميت أن يتحمل بالباقي في
كله أو بما شاء منه إذا لم يشترط عليهم وضيعة شيء من حقوقهم.
وقد مضى في رسم أخذ يشرب خمرا من سماع ابن القاسم وجه جواز دفع مال الميت
إلى ابنه بشرط ضمان ديون غرمائه فلا معنى لإعادته.
وإذا دفع إليه مال أبيه على أن يضمن للغرماء حقوقهم فطرأ غريم لم يعلم به
لزمه ضمان دينه، ولو اشترط ألا يضمن دين من طرأ لم يجز إذا كان الضمان على
أن أسلم إليه مال الميت، ولو لم يسلم إليه مال الميت ودفع إلى الغرماء لكان
له أن يضمن لهم أو لمن شاء منهم دون من يطرأ؛ لأنه متطوع بالضمان، وبالله
التوفيق.
[مسألة: له على رجل دين حال فقال له عجل لي
سبعين دينارا ولك تأخير غيره]
مسألة وسئل: عمن كان له على رجل دين حال، فقال له: عجل لي
(10/404)
سبعين دينارا ولك تأخير غيره إلى خمسة
أشهر، فجاءه فكتب عليه وأخذ السبعين، ثم قال: إني أراك أحب إليك لو وضعت
عنك وعجلتني، فقال: إي والله ولكن لم أطمع بذلك، فقال: فأنا أفعل فانقدني
مالي.
قال مالك: بعدما وجب ذلك وكتبه لا يصلح ذلك، فإن كان ذلك عند المراوضة قبل
وجوب ذلك فلا أرى بذلك بأسا، وإن كان بعد وجوبه ووقوعه فلا خير فيه، ولكن
أي شيء أعطاه في تلك الذهب؟ فقيل: طعام، فقال: لو أخذ منه ثيابا أو دواب
ولا يضع له بعضا ويأخذ بعضا يتعجله وإن كان ثمن ذلك الثياب والدواب أقل مما
اشتراها به، ولا يأخذ منه طعاما ولا إداما وإن كانت حالة.
قيل: له أرأيت إن أخذ من صنف طعامه أقل منه؟
فقال: لا يأخذه، يدخلون في الأمور حتى يغيروها عن حالها التي كانت عليها.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله أنه إذا أخذه ببعض ما كان له عليه من
الدنانير فلا يجوز له بعد ثبوت التأخير أن يضع عنه منه على أن يعجل له،
ويجوز له إن كانت الدنانير التي أخره بها من ثمن الطعام أن يأخذ منه بها
قبل محل الأجل ثيابا أو دواب قيمتها أقل مما كان له عليه، ولا يجوز له أن
يأخذ منه طعاما مخالفا للطعام الذي باعه ولا أفضل ولا أكثر عددا.
واختلف: هل يجوز له أن يأخذ أقل من كيل طعامه أو أدنى في الصفة، فلم يجز
ذلك في هذه الرواية، وأجازه في غيرها، وبالله التوفيق.
[مسألة: ادعى على الرجل مائة دينار فصالحه منها
على خمسين إلى أجل]
مسألة وسئل: عن رجل له على رجل عشرة دنانير فجحده إياها فأتى عليه بشاهد
واحد، فقيل له: احلف مع شاهدك وخذ حقك، فكره اليمين وخلا بغريمه، فقال له:
إني قد علمت أنك لم يدعك
(10/405)
أن تجحدني إلا العشرة فاطرح عني اليمين
وأنا أكتبها عليك إلى سنة، فقال: ما هذا بحسن، أرأيت لو قال أعطيك قرضا؟
قال محمد بن رشد: قول مالك هذا إنه لا يجوز له أن يطرح عنه اليمين على أن
يؤخره بالعشرة دنانير هو على أصله في المدونة، بدليل قوله في كتاب الصلح
منها: إن الرجل إذا ادعى على الرجل مائة دينار فصالحه منها على خمسين إلى
أجل إن ذلك جائز إذا كان مقرا؛ لأن العلة في أن ذلك لا يجوز عنده إذا كان
منكرا إسقاط اليمين عنه على أن يؤخره، إذ من حق المدعي عليه أن ينكل عن
اليمين فيردها على المدعي فيكون إنما أخره ليسقط عنه اليمين، خلاف قول ابن
القاسم إن ذلك جائز وإن كان منكرا.
وقوله أظهر؛ لأن الأيمان إنما هي شرع تعبد الناس بالحكم بها في الظاهر وهي
غير واجبة في الباطن، إذ لو كشف لنا عن حقيقة الأمر لم تكن ثم أيمان،
فالمدعي يعلم إذا كان محقا أنه لا يمين عليه وأن تحليف المدعى عليه إياه
بصرف اليمين عليه ظلم له، فلم يسقط عن نفسه بالتأخير شيئا واجبا عليه.
فالذي أقول به في هذه المسألة: إن تأخير الحق عنه على أن يسقط عنه اليمين
جائز إن كان المدعى عليه يعلم وجوب الحق عليه، وغير جائز إن كان يشك في
ذلك؛ لأن من حقه أن يحلفه إذا كان يشك فيما يدعيه قبله، ولا يحل له ذلك إذا
علم أن الحق قبله.
ووقع في سماع أشهب من كتاب الحمالة والحوالة مسألة، قال فيها بعض الشيوخ:
إنها معارضة لرواية أشهب هذه، وهي أنه سئل: عمن كانت له على رجل مائة درهم
فسأله أن ينظره ويتحمل له بها حميل، فقال: لا بأس بذلك.
ولا تعارض عندي بين المسألتين؛ لأن المعنى فيهما مختلف.
ووجه جواز تأخيره لحقه على أن يتحمل له به حميل: هو أنه لو شاء أخذ منه حقه
معجلا، فإذا أخره به على أن يتحمل له به حميل فهو بمنزلة ما لو أسلفه إياه
ابتداء على أن يأخذ منه به حميلا.
ولو كان معسرا إن قام عليه لم يجد عنده إلا بعض حقه لما جاز أن يؤخره
بالجميع على أن يعطيه به حميلا، والله الموفق.
(10/406)
[: يوصي فيقول
لي عند فلان كذا وكذا]
ومن كتاب الوصايا وسمعته يسأل عن الرجل يوصي فيقول لي عند فلان كذا وكذا،
فقال: يحلف المدعى عليه، وإن أبى أن يحلف غرم. قيل له: أيحلف من غير
مخالطة؟ قال: ليس في هذا مخالطة ولا شيء.
قال محمد بن رشد: قوله: إن المدعى عليه يحلف من غير مخالطة صحيح؛ لأن
الورثة لا يعلمون من يشهد لهم بالخلطة.
وهذه المسألة هي إحدى المسائل الخمس التي يجب اليمين فيها دون خلطة، وقد
مضى القول فيها في سماع أصبغ من كتاب الأقضية.
وسواء ادعى الورثة معرفة الدين قبله أو قالوا لا ندري إلا ما ادعاه
موروثتا.
وأما قوله: وإن أبى أن يحلف أغرم، فمعناه: بعد أيمان الورثة إن ادعوا معرفة
الدين قبله، وبالله التوفيق.
[: بيع الورثة للتركة إذا لم يعلموا بالدين]
ومن البيوع الأول وسئل مالك: عمن توفي وترك مالا قيمته ألفا دينار وترك
مائتي دينار دينا عليه، وقام بعض الورثة فباع بعض الأموال لنفسه وقال فيما
بقي وفاء لما عليه من الدين، قال: لا يجوز ذلك البيع ويفسخ، ولا ميراث لأحد
حتى يقضى الدين، ولعل تلك الأموال ستهلك، فأرى هذا البيع مردودا لقول الله
عز وجل: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11]
ولعل تلك الأموال ستهلك قبل أن تباع ويقضى الدين، وما يقال إنه يبلغ ألف
دينار لا يباع إلا بمائة.
قلت: أرأيت إن استقام ذلك وجاء الأمر على العافية أيجوز ذلك البيع؟
فقال: لا أرى ذلك يجوز وأرى أن يرد.
قال محمد بن رشد: رواية أشهب هذه أن البيع لا يجوز ويفسخ
(10/407)
وإن كان بإذن جميع الورثة من أجل الدين
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ}
[النساء: 11] ، خلاف ما مضى في رسم كتب عليه من سماع ابن القاسم من أن
مصالحة الورثة المرأة قبل تأدية الدين جائزة، وخلاف ما في كتاب المديان من
المدونة في أن بيع الورثة للتركة إذا لم يعلموا بالدين جائزة.
فالبيع والقسمة في شيء من التركة قبل تأدية الدين على رواية أشهب هذه مفسوخ
لمطابقة النهي له بمخالفة أمر الله فيه لقوله: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ
يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11] لا خيار للغرماء في إجازته، وذلك
جائز على مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك إذا وفوا الدين من أموالهم أو من
بقية التركة.
وعلى هذا يأتي قول مالك في الذي يحلف بعتق رقيقه ليقضين غريمه إلى شهر
فيمنع من بيع رقيقه حتى يقضي أنه إن باع منهم وقضى الحق من ثمنهم قبل الأجل
لسلم من الحنث، واضطرب قول ابن القاسم في انتقاض القسمة إذا كانوا قد قسموا
جميع التركة ثم طرأ دين فأبوا أن يخرجوه من أموالهم، وفي هذا تفصيل قد
ذكرته في غير هذا الكتاب، وهو كتاب المقدمات، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال لفلان عشرة دنانيرمن مالي وصية ولي
عليه خمسة فأنكر]
مسألة وسئل: عمن أوصى لرجل بمائة درهم أعطوه إياها وخذوا منها خمسة دنانير
لي عليه، فقال الموصى له: ما له علي شيء، فأطرق فيها، ثم قال: ما أراه
أعطاه المائة درهم إلا على هذا، فلينظر فإذا كان في المائة درهم فضل عن
الخمسة دنانير أعطيه الموصى له في رأيي، وإن كانت الخمسة دنانير أكثر من
المائة درهم أحلف فيما فضل في رأيي، فإن لم يحلف غرمها.
قيل له: يحلف وإن لم تكن بينهما مخالطة؟
فقال: وإن لم تكن بينهما، مخالطة، ليست المخالطة هنا شيئا.
ومن سماع عيسى
(10/408)
بن دينار في كتاب بع ولا نقصان عليك قال:
وقال مالك في الذي يقول عند الموت لفلان عندي عشرة دنانير ولي عنده خمسة
دنانير فأنكر الذي أقر له بالعشرة أن تكون عليه الخمسة، قال: يأخذ العشرة
وعلى الورثة البينة في الخمسة أنها عليه.
قيل: فلو قال لفلان عشرة دنانير من مالي وصية ولي عليه خمسة فأنكر؟
قال: لا يكون له إلا الخمسة؛ لأنه لم يوص إلا بالخمسة حين قال ولي عليه
خمسة، قال: وقال مالك كذلك.
قال محمد بن رشد: الفرق بين أن يوصي له بعشرة ويدعي أن له عليه خمسة وبين
أن يقر له بعشرة ويدعي أن له عليه خمسة بين لا إشكال فيه.
وقد مضى القول في إيجاب اليمين عليه دون خلطة فيما أوصى أن له عنده وفي
نكوله عن اليمين في رسم الوصايا فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[: يشتري من العبد الشيء اليسير مثل الخفين وما
أشبهه]
ومن كتاب أوله مساجد القبائل قال أشهب: سألت مالكا: عن الرجل يشتري من
العبد الشيء اليسير مثل الخفين وما أشبهه، فقال: لا يشتري من العبد إلا أن
يكون عبدا يشتري ويبيع، فإن كان عبدا لا يشتري ولا يبيع فلا يشتري منه إلا
بإذن أهله ولا يصدقه بقوله قد أذن لي أهلي حتى يسألهم عن ذلك أو يرده عليه
ولا يشتريه، وربما باع العبد ثيابه فليرده عليه ولا يشتريه وعسى بأهله أن
يكونوا عبيدا.
قال محمد بن رشد: في سماع أشهب من كتاب الضحايا أنه يصدق العبد الفصيح الذي
مثله يؤتمن فيما ادعى من أن ذلك له وأنه أذن
(10/409)
له في البيع، فيحتمل أن تفسر بذلك رواية
أشهب هذه، فإن حملت على ظاهرها فذلك على التورع لا على ما يلزم ويجوز بدليل
ما روي من أن عبد الله بن عمر مر في بعض أسفاره على راع يرعى على رأس جبل
فاشترى منه شاة ضحى بها ولم يسأله عن شيء، وبالله التوفيق.
[: اعترف في مرضه لامرأة له بثلاثين دينارا ثم
صح فقال إنما أردت أن أولجها إليها]
ومن كتاب الوصايا الصغير قال أشهب: وسمعته يسأل عمن اعترف في مرضه لامرأة
له بثلاثين دينارا ثم صح، فقال: إنما أردت أن أولجها إليها أتراها تلزمه؟
قال: نعم تلزمه، أقر لها وهو مريض وينكرها وهو صحيح.
وسئل عنها سحنون فقال مثله.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأن الإقرار في المرض يلزمه إذا صح، ولا
اختلاف في هذا ولا كلام، وإنما الكلام إذا أقر أحد الزوجين في مرضه ثم مات
من مرضه ذلك قبل أن يصح منه، وقد مضى تحصيل القول في ذلك في آخر أول رسم من
سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: أقرت بقبض المهر وأقر الزوج بأنه لم
يدفعه فطلبت المرأة مهرها]
مسألة قيل لسحنون: فلو أن امرأة قالت في مرضها إني قبضت مهري من زوجي، ثم
إن زوجها مرض، فقال: إني لم أدفع إلى امرأتي مهرها فمات الزوج وبقيت
المرأة.
وكيف إن لم يمت الزوج وقامت المرأة تطلب مهرها وتزعم أن قولها في مرضها كان
محاباة له، وتقول: قد أقر لي زوجي ولم يستحل ما قلت، وقال الزوج: بل كان
الكلام الذي تكلمت به في مرضي محاباة لك، فكل واحد منهما يكذب صاحبه.
قال سحنون: يلزمها إذا صحت، فإن مات الزوج وأراد ورثته أن يلزموها ذلك كان
ذلك
(10/410)
لهم، وإن تمادى بالزوجة المرض حتى مات
الزوج ثم ماتت بعده فالإقرار يلزمها.
قال محمد بن رشد: إذا أقرت المرأة في مرضها أنها قد قبضت مهرها من زوجها ثم
مرض هو فأقر أنه لم يدفع إليها مهرها، ثم قامت المرأة تطلب مهرها، فلا يخلو
الأمر من ثلاثة أوجه: أحدها: أن تكون طالبة له وهي مريضة لم تصح بعد من
مرضها؛ والثاني: أن تقوم طالبة له بعد أن صحت من مرضها؛ والثالث: أن تموت
من مرضها فيقوم ورثتها طالبين له بعد موتها.
وكل وجه من هذه الوجوه الثلاثة لا يخلو من ثلاثة أوجه: أحدها: أن تقوم عليه
وهو مريض لم يصح بعد من مرضه. والثاني: أن تقوم على ورثته بعد أن مات من
مرضه، والثالث: أن تقوم عليه بعد صحته.
فأما الوجه الأول: وهو أن تقوم عليه وهي مريضة فإن كان هو مريضا بعد أو قد
صح من مرضه كان لها صداقها، وإن كان قد مات من مرضه لم يكن لها شيء.
وأما الوجه الثاني: وهو أن تقوم طالبة له بعد أن صحت من مرضها، فإن كان هو
مريضا بعد أو قد مات لم يكن لها شيء، وإن كان قد صح من مرضه كان لها
صداقها.
وأما الوجه الثالث: وهو أن تموت من مرضها فيقوم ورثتها طالبين له بعد
موتها، فإن كان هو مريضا بعد أو قد صح من مرضه كان لها صداقها، وإن كان هو
قد مات من مرضه ذلك نظرت فإن كانت ماتت قبله كان لها صداقها، وإن مات قبلها
فقيل: إن الإقرار يلزمها ولا يكون لها شيء، وهو قول سحنون في هذه الرواية
وروي مثله عن مالك، وقيل: إن الإقرار لا يلزمها ويكون لها صداقها، وهو قول
محمد بن عبد الحكم، وبالله التوفيق.
[: والي اليتيم يسأله السائل فيعطيه شيئا من
زرع يتيمه]
ومن كتاب الوصايا والحج والزكاة وسمعته يسأل عن والي اليتيم يسأله السائل
فيعطيه شيئا من
(10/411)
زرع يتيمه أو غير ذلك، فقال: أرجو ألا يكون
بذلك بأس يرجو بركة ذلك لليتيم.
قال محمد بن رشد: هذا صحيح، ومعناه: في اليسير الذي جرت العادة بالمسامحة
فيه.
والأصل في جواز ذلك قول الله عز وجل: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا
فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ}
[النساء: 6] فإذا جاز للوصي أن يأكل بالمعروف من مال يتيمه كان أحرى أن
تجوز له به الصدقة عن اليتيم لما يرجوه له في ذلك من الأجر والثواب، وبالله
التوفيق.
[مسألة: المولى عليه يدان ثم يموت]
مسألة وسمعته سئل: عن المولى عليه يدان ثم يموت، فقال: لا يقضى دينه ولا
يكون في ماله، وهو في موته مثله في حياته، إلا أن يوصي به بثلثه فذلك له
إذا أمره به وقد بلغ الوصية.
قال محمد بن رشد: قد قيل: إن الدين يكون في ثلثه إذا أقر به في مرضه أو في
صحته، ولم يختلف أنه إن أوصى به في ثلثه جاز ولزم ذلك على جهة الوصية إلا
ما حكى ابن حبيب في الواضحة عن أصبغ أن ذلك جائز ما لم يكثر، والصحيح أنه
لا يكون في ثلثه إلا أن يوصي بذلك، فإن أوصى به كان ذلك في ثلثه قل أو كثر،
وبالله التوفيق.
[مسألة: السفيه في ماله المأمون في نفسه وذاته]
مسألة وسمعته يسأل فقيل له: إن ابني تزوج امرأة ولم يوامرني وهو يريد
الذهاب معها ويتركني وأنا شيخ كبير لا أقدر على نزع الشوكة من رجلي حتى
تنزع عني، فقال: إن كان ابنك قد بلغ وهو
(10/412)
يلي نفسه وليس بسفيه ولا ضعيف العقل فذلك
جائز، وإن كان لا يلي نفسه وهو سفيه مأخوذ على يديه فليس ذلك له، فقال
الرجل: أله أن يخرج عني ويدعني؟
فقال: نعم ذلك له إن كان غير سفيه وهو رجل يسافر ويخرج إلى العراق، فإذا
كان قد بلغ ولم يكن سفيها ولا مأخوذا على يديه فذلك له، وإن كان سفيها أو
ضعيفا يخاف عليه فليس له ذلك.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال إن المالك لأمر نفسه له أن يذهب حيث شاء وليس
لأبيه أن يمنعه من ذلك، وأما السفيه الذي لا يملك ماله ويخشى منه أبوه أو
وليه السفه في ذاته والفجور بانفراده فله أن يضمه إلى نفسه ويمنعه من السفر
والمغيب عنه.
واختلف في السفيه في ماله المأمون في نفسه وذاته، فقيل: إن للوالي أن يضمه
إليه ويمنعه من الذهاب والسفر حيث شاء، وهو قول مالك في هذه الرواية، وقيل:
ليس ذلك له، وهو ظاهر قول مالك في كتاب النكاح من المدونة إذا احتلم الغلام
فله أن يذهب حيث شاء على ما تأوله عليه ابن أبي زيد من قوله، يريد بنفسه لا
بماله، وبالله التوفيق.
[: أسلف رجلا أربعين درهما أمر له بها عند صراف
فقبضها منه]
ومن كتاب الأقضية الأول وسئل مالك: عن رجل أسلف رجلا أربعين درهما أمر له
بها عند صراف فقبضها منه، فلما تقاضاه إياها قال دفعتها إلى الصراف حسبته
لك وكيلا.
فقال: ما شأنه وشأن الصراف، ذلك عليه.
قيل: أترى أن يحلف له الصراف إن جحده؟
فقال: ذلك يختلف، إن كان متهما رأيت أن يحلف هذه شبهة، وإن لم يكن متهما لم
أر أن يحلف.
قال سحنون: وقال ابن نافع: ويحلف له الصراف على كل حال.
(10/413)
قال الإمام القاضي: قول ابن نافع هو الصحيح
في النظر الجاري على الأصول.
وأما تفرقة مالك بين المتهم في ذلك فهو استحسان على غير حقيقة القياس،
وإنما يرجع الأمر في ذلك إلى اعتبار الخلطة، فإذا قلت إنها قد حصلت بينه
وبين الصراف بقبض الدراهم عنده وجبت له عليه اليمين وهو قول ابن نافع، وإن
قلت: إنها ليست بخلطة فلا يحلف في وجه القياس كان متهما أو لم يكن، وبالله
التوفيق.
[مسألة: تصدق بمال له وقام الغرماء عليه فلم
يجدوا غير ذلك الذي تصدق به]
مسألة وسئل: عن رجل تصدق بمال له أو أعتق عبدا له ثم مكث حينا ثم إن
الغرماء قاموا عليه فلم يجدوا له شيئا غير ذلك الذي تصدق به أو العبد الذي
أعتق، كيف يفعل به؟
قال مالك: أما الصدقة فإن جاء الغرماء بالبينة أنه تصدق بها يوم تصدق وهو
لا وفاء عنده فيما يرون ردت الصدقة ولم تجز وإلا جازت، وأما العبد فلا يرد
عتقه؛ لأن شهادته قد جازت وتمت حرمته وصار حرا جرت عليه الحدود وله.
قال ابن القاسم في الصدقة: إذا لم يعلموا بالصدقة وأقاموا البينة على أنه
لم يكن له وفاء يوم تصدق به ردوا منها قدر حقوقهم وكان ما بقي لمن تصدق به
عليه، وإن علموا كانت الصدقة جائزة لمن تصدق بها عليه ولم يرد منها شيئا.
قال محمد بن رشد: الذي يعرف من قول ابن القاسم وروايته عن مالك أن العبد
يرد عتقه أيضا إذا أعتقه وهو مستغرق الذمة بغير علم الغرماء كالصدقة سواء،
ورواية أشهب هذه أن العتق لا يرد لحرمته وجواز شهادته استحسان، ومعناه: إذا
طالت المدة، وهو قول مالك في كتاب ابن المواز إن العتق لا يرد علم الغرماء
به أو لم يعلموا إذا طال ذلك وولد له الأولاد.
والوجه في ذلك: أن المدة إذا طالت احتمل أن يكون الغريم قد أفاد فيها مالا
ثم ذهب ولم يعرف، فلم ير أن يرد العتق الذي قد تمت حرمته إلا بيقين، وهو أن
يقوم الغرماء بعقب العتق.
وقد تأول أن قول ابن
(10/414)
القاسم ليس بخلاف لهذه الرواية، ومعناه:
إذا قام الغرماء بعقب العتق، ومعنى هذه الرواية إذا قاموا بعد المدة
الطويلة، فتتفق الروايتان على هذا التأويل.
والأظهر أنه اختلاف من القول إذا طالت المدة، فوجه القول في أن العتق يرد
أنه عتق عداء، إذ لا يجوز لمن عليه دين أن يتلف ماله بالعتق كما لا يجوز أن
يتلفه بالصدقة، فوجب أن يرد العتق كما ترد الصدقة.
ووجه القول بأنه لا يرد أن دين الغرماء إنما هو في ذمة السيد لا في عين
العبد، إذ لو تلف العبد لم يبطل الدين، فوجب أن ينفذ العتق لحرمته، إذ لا
يبطل الدين بعتقه؛ لأنه باق في الذمة، وبالله التوفيق.
[مسألة: رهن المشتري السلعة من رجل آخر ثم أفلس
المشتري قبل الأجل]
مسألة وسئل مالك: عن رجل باع سلعة بدين من رجل إلى أجل، فرهن المشتري
السلعة من رجل آخر ثم أفلس المشتري قبل الأجل والسلعة قائمة عند مرتهنها.
قال مالك: بائعها بالخيار إن شاء افْتَكَّهَا من مرتهنها بما رهنت عنده
ويحاص الغرماء بما افتداها به كان ذلك له، وإن أحب أن يسلمها ويحاص الغرماء
بثمنها كان ذلك له.
فإن افتداها من المرتهن كان الغرماء بالخيار، إن شاءوا دفعوها إليه، وإن
شاءوا أعطوه ثمنها؛ فإن أعطوه ثمنها وتركها حاص في جميع ذلك بما افتداها
به، ولا يحاص بثمنها إلا في إسلامها للمرتهن وتركها.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة المعنى لا وجه للقول فيها.
وقد قيل: إنه لا يضرب بما افتك به الرهن كافتكاك رقبة العبد الجاني إذا كان
قد باعه وجنى وفلس المشتري قبل أن يفتكه، وهو بعيد، وبالله التوفيق.
[مسألة: يشتري بالدين في عطائه فيكتب ذلك في
ديوانه فيخرج له نصف العطاء]
مسألة وسئل: عن الرجل يشتري من الرجل بالدين في عطائه أو
(10/415)
إلى أول عطاء يخرج له، فيكتب ذلك في
ديوانه، فيخرج له نصف العطاء، أيحل حقه كله عليه؟
قال: إن أمثل ذلك عندي لو أخذ منه ما خرج من عطائه فقط.
وسئل: عن الرجل يتعين في عطائه فيحبس العطاء وله مال فيه وفاء بما عليه من
تلك العينة، أيؤخذ ذلك من ماله؟
قال: لا أرى ذلك.
قال الإمام القاضي: هذه مسألة قد مضى القول فيها مستوفى في رسم الأقضية من
هذا السماع، فلا وجه لإعادته وبالله التوفيق ولا حول ولا قوة إلا بالله
وصلى الله على سيدنا محمد.
(10/416)
|