البيان
والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة [: كتاب
المديان والتفليس الثاني] [مسألة: يحبس
في الدين ولا مال له]
(10/417)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم من سماع عيسى بن دينار من ابن
القاسم من كتاب أوله
نقدها نقدها قال عيسى: وسألته عن الرجل يحبس في الدين ولا مال له، قال: ليس
على القاضي أن يسأل الذي عليه الحق البينة أنه لا مال له، والذي يشهد في
مثل هذا على البتات أنه لا مال له شاهد زور، وإنما يسأل القاضي عنه أهل
الخبرة به والمعرفة، فإن لم يجد له مالا أحلفه وخلى سبيله.
قال القاضي: قوله وسألته عن الرجل يحبس في الدين ولا مال له، معناه: ولا
مال له في ظاهر أمره، إذ لو عرف أنه لا مال له لم يجب سجنه لقول الله عز
وجل: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة:
280] .
وقوله: إنه ليس على القاضي أن يسأل الذي عليه الحق البينة أنه لا مال له،
ومعناه: أنه ليس ذلك عليه حتى لا يجزئه دونه، إذ له أن يجتزئ في ذلك بأن
يسأل عنه أهل الخبرة والمعرفة. وإذا لم يكن ذلك عليه فليس له أن يفعله
ويترك السؤال عنه، وإن فعل ذلك مضى. وهذا في المجهول الحال الذي لا يتهم
(10/419)
بتغييب ماله فيحبس حبس تلوم واختبار. وأما
من حبس للتهمة بأنه غيب ماله فلا يجوز للقاضي أن يكتفي بالسؤال عنه دون أن
يكلفه البينة على عدمه.
وصفة الشهادة على العدم أن يقول الشاهد إنه يعرفه فقيرا عديما لا يعلم له
مالا ظاهرا ولا باطنا.
واختلف إن شهد أنه فقير عديم لا مال له ظاهرا ولا باطنا، فقيل: إنها شهادة
لا تجوز؛ لأنها تحمل على ظاهرها من البتات.
وقيل: إنها جائزة؛ لأنها تحمل على العلم.
وأما إن نص في شهادته على البت والقطع فلا تجوز شهادته قولا واحدا.
فقوله في هذه الرواية: والذي يشهد في مثل هذا على البتات أنه لا مال له
شاهد زور صحيح لا اختلاف فيه إن كان نص في شهادته على البت والقطع، وإن كان
لم ينص على ذلك فيها وإنما قال إنه لا مال له ولم يزد على ذلك فهو أعدل،
على أحد القولين.
وقد مضى في سماع أشهب من كتاب الشهادات التكلم على هذا المعنى في نظير هذه
المسألة، فتأمل ذلك وقابله بقولي هاهنا فإن بعضه مبين لبعض، وبالله
التوفيق.
[مسألة: له على رجلين دين فأخذ أحدهما فحبسه في
حقه]
مسألة وسئل: عن رجل له على رجلين دين كتب عليهما وأيهما شاء أخذ بحقه، فأخذ
أحدهما فحبسه في حقه، فأراد المحبوس أن يحبس الذي أبى صاحب الحق أن يحبسه.
قال ذلك له إذا كان له مال أو يخاف أن يكون قد خبأ مالا، فذلك له يعمل به
مثل ما يعمل صاحب الدين بالذي عليه الحق.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأنه ضامن لنصف الحق عنه، فإذا سجن فيه كان
له هو أن يسجن الذي ضمن عنه لما يجب له من الرجوع عليه فيما سجن فيه،
وبالله التوفيق.
(10/420)
[مسألة: له على
رجلين حق فسأله رجل عن حقه فقال ما لي عليهما شيء]
مسألة وعن رجل له على رجلين حق وأيهما شاء أخذ بحقه، فسأله رجل عن حقه،
فقال: ما لي عليهما شيء، ثم ادعى كل واحد منهما أنه قد دفع إليه ذلك الحق،
وأقر صاحب الحق أنه قد قبضه من أحدهما، فقال: أراه شاهدا للذي زعم أنه دفع
إليه؛ لأنه لم تبق لصاحب الحق تهمة يجر بها إلى نفسه شيئا، فأراها شهادة
قاطعة.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأنه شاهد لأحدهما على الآخر بما لا
منفعة له فيه، وبالله التوفيق.
[مسألة: الرجل قد أشهد هاهنا ثم يزيد شهودا بعد
شهود]
مسألة وسئل: عن رجل ادعى على رجل مائة دينار وأقر بها الذي ادعيت قبله وأنه
قد أوصلها إليه، فأقام شهيدين يشهدان أنه أقر أنه أوصل إليه خمسين دينارا
وأقام عليه شهيدين آخرين أنه أوصله خمسين دينارا، وقال الذي له الحق: إنما
هي خمسون دينارا ولكني أشهدت له شهودا بعد شهود، أفتراها مائة أم خمسين؟
قال: أراها خمسين؛ لأن الرجل قد أشهد هاهنا ثم يزيد شهودا بعد شهود، فأراها
خمسين إلا أن يكون كتب له براءتين، فإن هذا مما يستدل أنه أمران مختلفان
وإلا فلا شيء عليه.
قال محمد بن رشد: قوله أراها خمسين، يريد مع يمين الذي له الحق أنها خمسون
واحدة.
وفي رسم حمل صبيا من سماع عيسى من كتاب
(10/421)
الشهادات خلاف هذا أن القول قول الذي عليه
الحق. وقد مضى القول على ذلك هنالك مستوفى فلا معنى لإعادته، وبالله
التوفيق.
[مسألة: ادعى على رجل حقا فقال المدعى عليه ما
أعرفك]
مسألة وعن رجل ادعى على رجل حقا فقال المدعى عليه ما أعرفك ولا كانت بيني
وبينك خلطة قط، ثم ادعى بعد ذلك المدعى عليه قبل المدعي بحق وأتى عليه
ببينة، هل تنفعه بينته وهو قد أنكر خلطته، فقال: لا أرى أن تنفعه بينته ولا
تجوز شهادتهم إلا أن تكون بعد ذلك خلطة.
قال الإمام القاضي: هذه مسألة جارية على أصل مختلف فيه في المذهب قائم من
المدونة من كتاب اللعان وغيره.
وقوله في آخر المسألة: إلا أن تكون بعد ذلك خلطة - لفظ وقع على غير تحصيل،
إذ لا تعتبر الخلطة مع قيام البينة.
فإذا أقام البينة بحق له عليه من معاملة قديمة قبل إنكاره أن تكون بينه
وبينه خلطة لم ينتفع بها، وإن أقام البينة بحق له عليه من معاملة حديثة بعد
إنكاره أن يكون بينه وبينه خلطة قضي له بها وإن لم يكن بينهما بعد ذلك
خلطة.
وإن قالت البينة لا تدري هل كانت المعاملة قبل الإقرار أو بعده فالقول قول
الطالب مع يمينه أنها بعد الإقرار. وإنما تعتبر الخلطة مع مجرد الدعوى.
فقوله: إلا أن تكون بعد ذلك خلطة إنما يصح إن ادعى قبله دعوى لم يقم عليها
بينة من معاملة حديثة بعد أن أنكر خلطته؛ لأنه إن كانت بينهما بعد ذلك خلطة
لحقته اليمين، وإن لم تكن بينهما خلطة لم تلحقه، وبالله التوفيق.
[: أكراه الدار بستة دنانير فنقده ثلاثة وبقي
عليه ثلاثة ففلس المكتري]
ومن كتاب استأذن سيده وسألته: عن الذي يكتري الدار سنة بستة دنانير فينقده
ثلاثة
(10/422)
دنانير ويبقى عليه] ثلاثة، فلما سكن ستة
أشهر فلس المكتري.
قال: يخير صاحب الدار، فإن شاء ترك الدار لتمام السنة وحاص الغرماء بثلاثة
دنانير في مال المفلس، فإن أبى إلا أن يأخذ داره رد نصف الثلاثة التي قبض
وقبض داره وحاص الغرماء بما زاد في مال المفلس؛ لأن الثلاثة التي قبض كانت
كراء لما سكن ولما بقي، فلما كانت كراء لما سكن ولما بقي، قيل له: رد ما
كان كراء لما بقي من السنة وتأخذ دارك وتحاص الغرماء بنصف كراء ما سكن؛
لأنه قد صار لك عديما بذلك، إلا أن يشاء الغرماء أن يعطوه دينارا ونصفا
تمام كراء الستة الأشهر التي بقيت ويأخذوا الدار إلى السنة فيكون ذلك لهم
إذا أعطوه دينارا ونصفا؛ لأنه لو أخذ داره كان عليه أن يرد عليهم دينارا
ونصفا، فإذا أقروا ذلك في يده وأعطوه دينارا ونصفا فذلك تمام ثلاثة دنانير
كراء الستة أشهر التي بقيت، فيكونون أولى بالدار ويحاص بدينار ونصف صاحب
الدار في مال المفلس، وذلك تمام ستة دنانير.
وكذلك أيضا العمل في البز وفي جميع الأشياء إذا اشترى رجل عدلين ففلس
المشتري فلم يوجد عنده إلا عدلا واحدا وقد قبض البائع نصف الثمن كان العمل
فيه على ما فسرت لك في كراء الدور وفي كل شيء كذلك العمل فيه.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة على مذهب ابن القاسم
(10/423)
في المدونة وعلى معنى ما تقدم في رسم قطع
الشجر من سماع ابن القاسم، وفي بعض وجوهها اختلاف.
فأما قوله: إذا فلس المكتري بعد ستة أشهر إن صاحب الدار يخير فإن شاء ترك
الدار إلى تمام السنة وحاص الغرماء بثلاثة دنانير في مال المفلس، فلا أعرف
فيه نص خلاف، إلا أنه داخل فيه بالمعنى، وذلك أن هذا إنما يصح على قياس قول
أشهب الذي يرى قبض أوائل الكراء قبضا لجميع الكراء، فيجيز أخذ الدار للمكري
من الدين.
وأما ابن القاسم فالقياس على أصله أن يحاص الغرماء بكراء ما مضى ويأخذ
داره، ولا يكون له أن يسلمها ويحاص الغرماء بالثلاثة دنانير.
وإذا أسلم الدار وحاص الغرماء ببقية كرائه قبض ما صار له في المحاصة إن كان
الكراء وقع بالنقد.
وأما إن لم يكن وقع بالنقد ولا كان العرف فيه النقد فلا يجب أن يقبض ما صار
له في المحاصة؛ لأنه لم يسلم السكنى، ويوقف، فكلما سكن شيئا أخذ بقدره من
ذلك.
وأما قوله فإن أبى إلا أن يأخذ داره رد نصف الثلاثة التي قبض وقبض داره،
ففيه ثلاثة أقوال في المذهب: أحدها هذا، والثاني: أنه ليس له أن يأخذها إلا
أن يرد الثلاثة التي قبض وهو الذي يأتي على ما في الموطأ لمالك، والثالث:
أن له أن يأخذ داره ولا يرد شيئا، وتكون الثلاثة التي قبض ثمن الستة التي
سكن، روي ذلك عن ابن أبي زيد وهو مذهب الشافعي.
وأهل الظاهر يقولون إنه إذا قبض من الثمن شيئا فهو أسوة الغرماء بجميع ما
بقي له منه، ولا يكون له حق في أخذ شيء مما أدرك بدليل قوله في الحديث:
«أيما رجل باع متاعا فأفلس الذي ابتاعه ولم يقبض الذي باعه من ثمنه شيئا
فوجده بعينه فهو أحق به» .
واختلف إذا أعطاه الغرماء دينارا ونصفا تمام كراء الستة الأشهر التي بقيت
وأخذوا الدار إلى تمام السنة، فقيل: إنهم يكونون أحق بها ويحاص صاحب الدار
بدينار ونصف في مال المفلس سوى الدار، وهو
(10/424)
قوله في هذه الرواية، وقيل: إنهم يكونون
أحق بدينار ونصف من السكنى؛ لأنهم افتدوه بذلك فيكرون به الستة الأشهر
الباقية حتى يستوفوه منها كما لو فدوها به من رهن؛ لأنهم حلوا فيها محل
ربها، فلما كان أحق بها كانوا أحق منها بما فدوه حتى يستوفوه، وقيل: إنهم
لا يكونون أحق بشيء منه ويحاصهم فيه صاحب الدار بالدينار ونصف الباقي له من
ثمن الماضي.
وقد قال ابن وهب: إنه ليس للغرماء أخذ بقية الكراء حتى يدفعوا إليه جميع
دينه من الكراء، وبالله التوفيق.
[: حصد الزرع ودرس وجاء الغرماء فطلب الولد في
الزرع إجارة ما حصدوا]
من كتاب العرية وعن رجل توفي وترك ولدا وترك زرعا قد أفرك، فلما حصد ودرس
جاء غرماء الميت ولم يترك مالا غير الزرع فطلب الولد في الزرع إجارة ما
حصدوا ودرسوا، هل ترى ذلك لهم؟
قال ابن القاسم: نعم، ذلك لهم يأخذون إجارة ما عملوا فيه.
قال محمد بن رشد: هذا بين لا إشكال فيه، إذ لا يلزم الورثة أن يحصدوه
ويدرسوه للغرماء من أموالهم، وبالله التوفيق.
[مسألة: سلف دنانير في عبد موصوف إلى أجل فمات
قبل أن يدفع العبد]
مسألة وفي رجل سلف رجلا دنانير في عبد موصوف إلى أجل فمات الذي عليه العبد
قبل أن يدفع العبد كيف يحاص أهل الدين؟
وهل يجوز له أن يأخذ ثمنه منه وإن كان اشترى منه قمحا؟
قال ابن القاسم: يحاص أهل الدين بقيمة تلك السلعة ما كانت، فما صار له في
المحاصة اشترى له به ما بلغ من حقه، ويكون ما بقي دينا له على الغريم يتبعه
به إن بلغ ما صار إليه في
(10/425)
المحاصة نصف عبد أو ثلث عبد اشتري ذلك له،
واتبعه بنصف عبد أيضا إن كان الذي صار له في المحاصة نصف عبد، وإن كان أقل
أو أكثر من ذلك فإنما يتبعه بما نقص من العبد.
قال محمد بن رشد: قوله: إنه يحاص أهل الدين بقيمة تلك السلعة ما كانت، يريد
قيمتها حالة خلاف قول سحنون إنه يحاص له بقيمتها إلى أجلها.
وقد مضى هذا المعنى وغيره من معاني المسألة في رسم القبلة من سماع ابن
القاسم.
وإذا وقف ما صار لهم بالمحاصة ليشتري لهم به ما بلغ من حقوقهم فحال السعر
بزيادة اتبعوا الغريم بالنقصان، وإن حال بنقصان لم يرجع الغرماء عليهم
بالفضل إلا أن يكون فيما صار لهم أكثر من حقوقهم فيردوا الفضل على الغرماء،
قاله ابن حبيب في الواضحة، وهو بيان وزيادة في المسألة، والأصل في ذلك أن
الرخص والغلاء للغريم وعليه؛ لأنه موقوف على ملكه، ولو تلف لكانت مصيبته
منه ولم يلحق سائر الغرماء من ذلك شيء، وبالله التوفيق.
[مسألة: رجل أفلس فأدرك رجل ماله بعينه]
مسألة وعن الرجل يفلس فيوقف السلطان ماله ويكون في ماله دابة لرجل، فيموت
الغريم الذي عليه الدين قبل أن يقسم السلطان ماله، فيجد صاحب الدابة دابته
هل تراه أحق بدابته من الغرماء؟
قال مالك: إذا وقفت له فهو أحق بها وإن مات الغريم قبل أن يقبضها، وإن مات
الغريم قبل أن توقف له فهو أسوة الغرماء.
قلت: ما يوقف له أليس إذ أفلس ووقف ماله فهو أحق بدابته وإن لم يجيء إلا
بعد موت المفلس إذا لم يقسم ماله؟
قال: لا يكون وقف ماله وقفا حتى توقف له الدابة بعينها، يتعلق بها فلس
فيقول هذه دابتي وتوقف له حتى يثبتها.
قال الإمام القاضي: هذه مسألة صحيحة مفسرة لما في كتاب
(10/426)
الهبات من المدونة. والأصل فيها قول النبي
- عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أيما رجل أفلس فأدرك رجل ماله بعينه فهو أحق به
من غيره» ؛ لأنه إذا وقف له ليثبته ففد أدركه، وبالله التوفيق.
[مسألة: السكوت هل يعد إذنا في الشيء وإقرارا
به أم لا]
مسألة وسئل: عن رجل جاء قوما فقال أنا أشهدكم أن لي على فلان كذا وكذا
دينارا وفلان ذلك مع القوم في المجلس ساكت فلم يقل نعم ولا لا، ولم يسأله
الشهود عن شيء، ثم جاء يطلب ذلك قبله فأنكر أن يكون عليه شيء، هل يلزمه
شيء؟
قال: نعم، ذلك لازم إذ سكت ولم يقل شيئا.
قال محمد بن رشد: اختلف في السكوت هل يعد إذنا في الشيء وإقرارا به أم لا
على قولين مشهورين في المذهب منصوص عليهما لابن القاسم في غير ما موضع من
كتبه: أحدهما هذا: أنه إذن، والثاني: أنه ليس بإذن، وهو قول ابن القاسم
أيضا في سماع عيسى من كتاب الدعوى والصلح وفي سماع أصبغ من كتاب المدبر.
وأظهر القولين أنه ليس بإذن؛ لأن في قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «والبكر تستأذن في نفسها وإذنها صماتها» دليلا على أن غير
البكر بخلاف البكر في الصمت.
وقد أجمعوا على ذلك في النكاح، فوجب أن يقاس ما عداه عليه إلا ما يعلم
بمستقر العادة أن أحدا لا يسكت عليه إلا راضيا به فلا يختلف في أن السكوت
عليه إقرار به، كالذي يرى حمل امرأته فيسكت ولا ينكر ثم ينكره بعد ذلك وما
أشبه
(10/427)
ذلك. وقد مضى هذا في رسم أسلم من سماع عيسى
من كتاب النكاح وفي غير ما موضع من كتابنا هذا، وبالله التوفيق.
[مسألة: قام بذكر حق له ممحو على رجل فطلبه
فادعى أنه قد قضاه]
مسألة وسئل: عن رجل قام بذكر حق له ممحو على رجل فطلب منه ما فيه وأقام
عليه بما فيه البينة، فادعى الغريم أنه قد قضاه إياه ومحاه عنه، فهل يلزمه
الحق أو ما ترى؟
فقال ابن القاسم: يلزمه الحق إذا ثبتت البينة ويحلف بالله ما قضاه ولا محاه
عنه.
وعن رجل قام بذكر حق على رجل ممحو وأقر صاحب الحق أنه محاه وظن أنه قد قضاه
وله بينة على ما في هذا الذكر الحق قال الغريم قد قضيته وما محاه إلا من
قبض، فما ترى؟
قال ابن القاسم: يحلف الغريم بالله لقد قضاه ولا شيء عليه، وهذه مخالفة
للأولى؛ لأن هذا قد أقر له بأنه محاه.
قال محمد بن رشد: الفرق بين المسألتين بين على ما قاله، ولا اختلاف في
المسألة الأولى.
وأما الثانية فيتخرج فيها بالمعنى اختلاف حسبما ذكرته في أول رسم من سماع
ابن القاسم، وبالله التوفيق.
[مسألة: يبتاع العبد بماله بدين إلى أجل ففلس
مشتريه وقد مات العبد]
مسألة وسألته: عن الرجل يبتاع العبد بماله بدين إلى أجل ففلس مشتريه وقد
مات العبد في يده وبقي ماله أو بقي العبد وفات ماله.
قال: إذا وجد العبد وفات ماله بانتزاع من السيد فاستهلكه أو غير ذلك أو
استهلاك من العبد أو بوجه من الوجوه فإنه يقال له إن شئت فخذ العبد ولا شيء
لك غيره، وإن شئت فدع وحاص فيه وفي جميع ماله المفلس بمالك عليه، فإن اختار
العبد فلا شيء له غيره إلا أن يشاء الغرماء أن يدفعوا ماله على المفلس
(10/428)
ويأخذوا العبد فذلك لهم.
وإن كان العبد قد فات فوجد ماله فإنه لا سبيل إلى مال العبد ولا خيار له في
ذلك وهو أسوة الغرماء في مال العبد والمفلس.
قلت له: وإن كان مال العبد رقيقا أو عروضا قائمة معروفة؟
قال: وإن كان معروفا فلا سبيل له إليه، وقال: مال العبد ضعيف، ألا ترى أن
مالكا قال: لو أن رجلا ابتاع عبدا بماله فذهب بعض ماله أو كله في عهدة
الثلاث لم يكن له أن يرده لما ذهب من ماله، ولو أنه وجد به عيبا وقد ذهب
ماله رده ولم يكن عليه فيما ذهب من ماله شيء، إلا أن يكون انتزعه منه فيكون
عليه أن يرد معه ما انتزع من ماله مما اشتراه به.
قلت: فما اكتسبه عنده أله أن يحبسه إذا رده بالعيب وقد كان انتزعه منه قبل
أن يظهر على العيب، أعليه أن يرده مع العبد إذا رده بالعيب؟
قال ابن القاسم: قال مالك: إذا رده رد معه ما اكتسب من ماله كان عنده
اكتسبه أو اشتراه به فانتزعه أو كان في يده فإنه يرده ويرد ماله.
قال الإمام القاضي: هذه مسألة صحيحة جارية على أصولهم في أن مال العبد تبع
له، ولا اختلاف أحفظه في شيء من وجوهها إلا في مجرد انتزاع مال العبد في
التفليس هل هو فوت فيه بخلاف الرد بالعيب أو ليس بفوت فيه مثل الرد بالعيب؟
فقيل: إنه ليس بفوت فيه مثل الرد بالعيب.
وإذا فلس مشتري العبد بعد أن انتزع ماله وهو قائم بيده لم يتلف ولا استهلكه
بعد أن البائع أحق به يأخذه مع العبد إن شاء أخذ العبد وترك محاصة الغرماء،
كما أن مشتري العبد إذ وجد به عيبا بعد أن انتزع ماله وهو قائم بيده لم يكن
له أن يرده إلا بماله، وهو قول ابن القاسم في هذه الرواية بدليل قوله فيها:
وفات ماله بانتزاع من السيد فاستهلكه، إذ لم ير مجرد الانتزاع في المال
فوتا فيه إلا أن يستهلكه السيد، وسواء استهلكه بالانتفاع به مثل أن يكون
طعاما فيأكله أو ثوبا فيستهلكه باللباس أو بما لا منفعة له فيه، مثل أن
يكون
(10/429)
عبدا فيقتله أو يعتقه أو يهبه أو يتصدق به،
الحكم في ذلك كله سواء، هو في التفليس فوت بخلاف الرد بالعيب، إذ ليس
لمشتري العبد أن يرده بالعيب بعد أن استهلك ماله بشيء من هذه الوجوه إلا أن
يرد قيمة ذلك معه. وقيل: إن مجرد الانتزاع فيه فوت.
وإذا فلس المشتري بعد أن انتزع المال وهو قائم بيده فليس للبائع أن يأخذه،
وهو بالخيار بين أن يأخذ العبد بجميع الثمن وبترك ماله، أو يتركه ويحاص
الغرماء بجميع الثمن فيه وفي ماله وفي سائر مال المفلس، بخلاف الرد بالعيب،
إذ ليس للمشتري أن يرد العبد بعد انتزاع ماله إلا أن يرثه معه، فإتلاف مال
العبد فوت في التفليس وفي الرد بالعيب، تلف قبل الانتزاع أو بعده، يكون
الحكم في ذلك كله بمنزلة إذا لم يكن له مال.
واستهلاك المشتري إياه قبل الانتزاع أو بعده يفترق فيه التفليس والرد
بالعيب، يكون الحكم فيه في التفليس بمنزلة إذا لم يكن له مال، وفي الرد
بالعيب لا يرده إلا أن يرد معه قيمة ما استهلك من ماله أو مثله في ماله
مثل.
ومجرد الانتزاع إذ كان المال قائما بيد المبتاع يختلف فيه في التفليس على
قولين: أحدهما: أن الانتزاع فوت كالتلف، والثاني: أنه ليس بفوت فيه ويكون
للبائع أن يأخذه مع العبد إن أراد أخذه، وفي الرد بالعيب ليس له أن يرده
إلا بماله.
وسواء في هذا كله ابتاع المشتري العبد بماله أو اكتسبه عنده بتجارة أو وهب
إياه، إلا أن يكون السيد هو الذي وهبه إياه أو اكتسبه عنده من عمل يده فلا
يكون للبائع فيه حق لا في التفليس إن أراد أن يأخذه ولا في الرد بالعيب إن
رد عليه.
والحكم في مال العبد في الاستحقاق بخلاف هذا، للمستحق أن يأخذ مال العبد من
يد المشتري وإن كان العبد قد مات عنده قبل الاستحقاق.
والفرق في هذا بين الاستحقاق وبين التفليس أن العبد في الاستحقاق لم يخرج
عن ملك مستحقه فكان له أن يأخذ ماله سواء وجد العبد أو لم يجده، وكذلك له
أن يغرم المشتري الذي استحق العبد من يده
(10/430)
قيمة مال العبد إن كان قد استهلكه، وجد
العبد أو لم يجده، ويأخذه من يد الموهوب له إن كان وهبه، وبالله التوفيق.
[مسألة: الصائغ يفلس فيقر لقوم بمتاع عنده ولا
بينة لهم إلا قوله]
مسألة وعن الصائغ يفلس فيقر لقوم بمتاع عنده ولا بينة لهم إلا قوله، هل
يقبل قوله: إذا قال هذا لفلان ولا بينة لهم، أو أقر بدين لرجل عليه وليس له
بينة، أيأخذ مع من أقام البينة أم لا؟
قال: سمعت مالكا يقول غير مرة: إن إقراره بالمتاع جائز لأهل المتاع.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول فيها في أول رسم من سماع ابن
القاسم من هذا الكتاب، ومضى تحصيل القول فيها أيضا في رسم الشجرة تطعم
بطنين في السنة من سماع ابن القاسم من كتاب تضمين الصناع، فلا معنى لإعادة
شيء من ذلك، وبالله التوفيق.
[مسألة: يبيع الغزل من الرجل فيستنسجه ثوبا ثم
يفلس فيوجد الثوب في يده]
مسألة وسألته: عن الصناع إذا صنع أحدهم لرجل عملا فقال له صاحب المتاع: هات
ما عملت لي وسآتيك بحقك، أو وخره أياما ثم فلس قبل أن يتقاضى الصانع أجرة
عمله، هل يكون الصانع أولى بذلك الشيء الذي عمله فيه من الغرماء إذا وجده
بعينه حتى يتقاضى حقه؟
قال: إن كل صنعة صنعها صانع لرجل لم يجعل فيها أكثر من عمل يديه مثل
الخياطة والقصارة والصياغة ونحو ذلك من الأعمال، فإذا خرجت من يده بما ذكرت
فليس هو أولى بها، وإن وجدها فهو أسوة الغرماء بأجر عمله الذي وجب له عليه
في جميع مال المفلس، وكل صانع أخرج من عنده عمله شيئا
(10/431)
سوى عمله فأدخله في ذلك الشيء مثل الصباغ
يجعل الصباغ والصيقل يجعل متاع السيف والفراء يسترقع الفرو فيجعل من عنده
الجلود، فإن هؤلاء ونحوهم إذا أدركوا السلعة قائمة بعينها نظر إلى قيمة
الصبغ الذي في الثوب كم قيمته لا يبالي نقص ذلك الصبغ الثوب أو زاده، ثم
ينظر كم قيمة الثوب أبيض وكم قيمة الصبغ.
وإنما ينظر قيمة ذلك يوم يحكم فيه، فإن كان قيمة الصبغ خمسة دراهم وقيمة
الثوب أبيض عشرة دراهم كان لصاحب الصبغ ثلث الثوب ولغرمائه ثلثاه إلا أن
يشاء الغرماء أن يدفعوا إليه جميع ما واجبه عليه المفلس من الأجر ويأخذوا
الثلث فذلك لهم، أو يرضى هو أن يكون أسوة الغرماء في مال المفلس بجميع حقه
فيكون ذلك له.
وإن لم يرض أن يكون أسوة الغرماء ولم يرض الغرماء أن يفتكوا ذلك الثوب،
فالثلث له بالغ ما بلغ ثمنه وإن زاد على أجره الأول أضعافا أو نقص أضعافا
من أجره الأول أضعافا، فإذا أسلم إليه فيه ثلثه فله نماؤه وعليه نقصانه،
وهو بمنزلة الرجل يبيع الغزل من الرجل فيستنسجه ثوبا ثم يفلس فيوجد الثوب
في يده، فإن صاحب الغزل مخير إن شاء أسلمه وكان أسوة الغرماء، وإن أبى نظر
إلى قيمة الغزل وقيمة العمل عمل الثوب، فإن كان قيمة الثوب الغزل خمسة
دراهم وقيمة العمل عشرة دراهم أو قيمة العمل خمسة دراهم وقيمة الغزل عشرة
دراهم كان هو والغرماء شركاء في الثوب، هذا بقيمة الغزل والغرماء بقيمة
العمل، إلا أن يشاء الغرماء أن يعطوه جميع حقه ويستخلصوا جميع الثوب فذلك
لهم، وإن أبوا وأسلموا إليه ما
(10/432)
صار له في الثوب كان ذلك له ولم يكن له
أكثر من ذلك نقص الثمن الذي صار له في الثوب عن ثمن الغزل أو زاد فذلك له،
إذا أسلم إليه كان له نماؤه وعليه نقصانه، وليس له في مال المفلس أكثر مما
له في الثوب وإن نقص الذي صار إليه في الثوب أضعاف ثمن الغزل ليس له أكثر
من ذلك، وليس ينظر في هذا إلى ثمن الثوب، ربما كان ثمن الثوب أدنى من قيمة
العمل وربما كان قيمة الغزل أكثر من جميع الثوب، وإنما ينظر إلى قيمة الغزل
وقيمة عمل الثوب فيكونون فيه شركاء في الثلث والثلثين أو النصف أو ما كان
فيضربون بذلك السهم في ثمن الثمن، فقس ما يرد عليك من الصناعات والغزل
ونحوه مما يعمل على ما فسرت لك، والله الموفق للصواب.
قال محمد بن رشد: الأصل في مسألة الصانع يفلس الذي استأجره والشيء الذي
استعمل إياه بيده قبل أن يدفعه إليه أو بعد أن دفعه إليه وفي مسألة الغزل
التي أدخلها عليها ونظرها بها - قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «أيما رجل أفلس فأدرك الرجل ماله بعينه فهو أحق به من غيره» ؛
لأن الصانع بائع للصنعة التي استؤجر على عملها، فإذا أفلس المستأجر قبل أن
يدفع الأجرة والسلعة بيد الصانع لم يدفعها بعد فلا اختلاف في أنه أحق
بالسلعة من الغرماء حتى يستوفي أجرته؛ لأنها كالرهن في يديه، ولا اختلاف في
هذا.
وأما إذا أفلس قبل أن يدفع الأجرة وقد قبض السلعة معمولة، فإن لم يكن
للصانع فيها غير عمل يده مثل أن يكون ثوبا فخاطه أو قصره أو غزلا فنسجه أو
فضة فصاغها وما أشبه ذلك، فالمشهور أنه أسوة الغرماء، وهو قوله في هذه
الرواية، وقيل: إنه أحق بعمله، فإن شاء أخذه بأجرته وكان شريكا للغرماء في
المتاع المعمول بقيمة عمله فيه، وإن شاء
(10/433)
تركه وكان أسوة الغرماء، وهي رواية أبي زيد
عن ابن القاسم في هذا الكتاب.
وهذا إذا علم أن الصانع لم يأخذ أجرته ببينة قامت على ذلك، مثل أن يكون دفع
إليه المتاع معمولا على أن يأتيه بأجرته بحضرة بينة.
وأما إن فلس والمتاع بيده معمولا فلا يصدق بعد التفليس أنه لم يدفع الأجرة
على أصولهم في أن المفلس لا يجوز إقراره بعد التفليس.
وأما إن كان له فيها شيء قد أخرجه من ماله سوى العمل، مثل الصباغ يصبغ
الثوب بصبغة أو الرقاع يرقع الثوب برقاعة أو الصيقل يجعل متاع السيف من
عنده وما أشبه ذلك فلا اختلاف في أنه أحق بما أخرج من ذلك كله من عنده؛
لأنه قائم بعينه كالسلعة المبيعة يدركها البائع في التفليس قائمة لم تفت.
وأما عمل يده المستهلك فيكون أحق به على رواية أبي زيد التي ذكرناها، ولا
يكون أحق به على رواية عيسى وهو المشهور في المذهب حسبما ذكرناه.
فيكون على قياس رواية أبي زيد إذا أبى الغرماء أن يعطوه جميع أجرته بالخيار
بين أن يكون أسوة الغرماء بجميع أجرته، وبين أن يكون أحق بقيمة ما جعل في
السلعة من عنده من صبغ أو رقاع وبقيمة عمل يده، يكون بذلك كله شريكا
للغرماء في السلعة، بأن يقال كم قيمة السلعة غير معمولة؟
فإن قيل: عشرة، قيل: كم قيمة ما أخرج فيها من عنده وكم قيمة عمل يده؟
فإن كان قيمة ما أخرج فيها من عنده خمسة وقيمة عمل يده خمسة كان شريكا
للغرماء فيها بالنصف، والقيمة في ذلك يوم الحكم على ما نص عليه في هذه
الرواية.
وقد قيل: إنه يكون شريكا فيها بما زاد عمله فيها من صبغ أو غيره، قاله ابن
القاسم في كتاب ابن المواز، وهو بعيد في القياس، إذ قد يزيد عمله فيها
أضعاف قيمته وقد لا يزيد فيها إلا بعض قيمة عمله، وقد لا يزيد فيها شيئا،
وقد ينقص من قيمتها، فالقياس أن يكون شريكا بقيمة ما أخرج من عنده من صبغ
وعمل يوم يحكم بالغا ما بلغ، كما يأخذ البائع في التفليس سلعته إذا وجدها
قائمة زادت قيمتها أو نقصت.
وأما على قياس رواية عيسى هذه وهو المشهور في المذهب فلا يكون إذا أبى
الغرماء أن يعطوه جميع أجرته أحق إلا بقيمة ما أخرج من عنده، وهو الذي يكون
به شريكا.
وأما قيمة عمل يده فقيل: إنه يكون به
(10/434)
أسوة الغرماء وهو القياس، وقيل: إنه لا
يكون له فيه شيء، وإنما يقال له أنت بالخيار بين أن تحاص الغرماء بجميع
أجرتك، وبين أن تكون شريكا لهم في السلعة بقيمة ما أخرجت فيها من عندك خاصة
دون عمل يدك، وهو ظاهر رواية عيسى هذه، ولا يحمله القياس.
ومسألة الغزل التي ساقها على هذه المسألة ومثلها بها صحيحة لا اختلاف أحفظه
فيها ولا إشكال في شيء من معانيها، والحجة بها لإيجاب الشركة للصانع فيما
أخرج من عنده بينة واضحة، ولم ير النسج في الغزل المبيع فوتا، ومثله البقعة
تبنى.
وفي كتاب محمد أن الرجل إذا باع جلودا من رجل فقطعها المشتري نعالا ثم فلس
فلا يكون البائع أحق بها؛ لأنها قد فاتت، ومثله حكى ابن حبيب في الواضحة عن
أصبغ في الثوب يقطعه قميصا أو ظهائر، والخشبة يعمل منها توابت وأبوابا.
والفرق عندهم بين ذلك وبين الغزل ينسج والبقعة تبنى أن البقعة والغزل قائم
بعينه إلا أنه قد زيد فيه غيره، والقطع في الثياب والجلود نقصان فيها
وإفاتة لها.
وقد وقف مالك في رواية مطرف عنه في الثياب تقطع فقال: ما أدري ما هذا لو
كانت أدما فقطعت خفافا أو نعالا وتفاوت هذا لم أره شيئا، وإن كان شيئا
متقاربا لم يأت فيه فوت فأراه أحق به من الغرماء.
والذي يوجبه عندي فحص القياس على ما أجمعوا عليه في الجارية يصيبها عور أو
عمى أو الثوب يخلق أو يبلى أن صاحبه أحق به إن شاء أن يأخذه بجميع الثمن أن
لا يكون القطع في الثياب ولا في الجلود فوتا، وأن يكون لصاحبها أن يأخذها
مقطوعة ناقصة بجميع الثمن إن شاء، وأن يكون شريكا مع المبتاع فيها بقيمة
الخياطة والعمل إن لم يأت حتى خيطت الثياب أو عملت النعال من الجلود، إلا
أن يكون القطع فيها فسادا لها مثل أن يقطع الثوب تبابين وهو لا يقطع من
مثله تبابين، أو الجلد نعالا وهو لا يقطع من مثله نعال، فيكون ذلك فوتا
فيها بمنزلة البلى والفساد في الثوب إذا تفاحش جدا.
وإذا كان عور الجارية أو نقصان الثوب من جناية قد أخذ لها المبتاع ثمنا نصف
ثمنهما مثلا فإن صاحبها الغريم مخير بين أن يأخذها بنصف حقه ويحاص الغرماء
بالنصف الباقي أو يتركها ويحاص الغرماء بجميع حقه، إلا أن يشاء الغرماء أن
يدفعوا إليه حقه كاملا
(10/435)
فلا يكون له كلام، وبالله التوفيق.
[: من تقاضى منه شيئا قبل أن يفلس فهو له دون
الغرماء]
ومن كتاب [أوله] يوصي لمكاتبه بوضع نجم من نجومه وسألته: عن الرجل يكون
عليه دين للناس وقد غرق في الدين إلا أنه لم يفلس بعد ولم يوقف للتفليس
ففطن به بعض غرمائه أنه قد غرق في الدين فيبادر إليه فيتقاضى منه حقه ثم
يعلم الغرماء بذلك ويقومون على تفليسه.
قال: قال مالك: من تقاضى منه شيئا قبل أن يفلس فهو له دون الغرماء، وإن كان
قد أحاط الدين بماله وغرق في الدين فمن تقاضى منه شيئا ما دام قائم الوجه
وهو يتاجر الناس فهو له.
قال ابن القاسم: وإن كان الذي تقاضى منه قد فطن لعدمه وبادر الغرماء فذلك
له دون الغرماء.
قلت: فلو كان جميع الغرماء قد تشاوروا في فلسه وأرادوا أن يفلسوه إلا أنهم
لم يرفعوا ذلك بعد إلى السلطان ولم يقفوه للتفليس بعد إلا أنهم قد تشاوروا
في فلسه فخالف بعض الغرماء فتقاضى منه، أيكون له ذلك؟
قال: لا أرى ذلك له، وهو بين جميع الغرماء.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم هذا: إن قضاء الغريم بعض غرمائه بعد أن
تشاوروا في تفليسه لا يجوز - هو مفسر لأحد قولي مالك في المدونة، والقول
الثاني: أن قضاءه لا يجوز وإن لم يتشاوروا بعد في تفليسه، وأصبغ يرى قضاءه
جائزا وإن تشاوروا في تفليسه ما لم يفلسوه، فهي ثلاثة أقوال، أظهرها ما
اختاره ابن القاسم من قولي مالك أن قضاءه جائز ما لم يتشاور الغرماء في
تفليسه، وبالله التوفيق.
(10/436)
[مسألة: يواجر
الرجل ببقرة ليدرس له فيدرس النهار ثم يفلس صاحب الزرع]
مسألة وسألت ابن القاسم: عن الرجل يواجر الرجل ببقرة يدرس له زرعا فيدرس
النهار وينقلب الليل، ثم يفلس صاحب الزرع، قال: الدارس أولى بالطعام حتى
يستوفي إجارته.
قال الإمام القاضي: قال ابن المواز: لأنه وإن انقلب في الليل فإن الأندر
بحاله لا ينقلب به صاحبه، بخلاف الصانع في دار الرجل مثل الخياطة والصياغة
وما أشبه ذلك من الأعمال فينقلب ويتركها، فلا يكون الصانع أحق بها من
الغرماء.
وقول محمد بن المواز صحيح؛ لأنه ما لم يتم عمل الزرع فله حكم كونه بيده وإن
غاب عنه بالليل لما يلزمه من حفظه حين مغيبه عنه.
وكذلك لو أكمل عمله ما لم يسلمه إلى ربه بأن يقول له: خذ زرعك فقد أكملت
عمله هو أحق به؛ لأنه كالرهن بيده ضمانه منه إن ضيعه.
ولو فلس صاحبه بعد أن أسلمه إليه لكان أسوة الغرماء فيه وفيما سواه من ماله
بجميع أجرته.
ويأتي على قياس رواية أبي زيد في النسج أن يكون أحق من الغرماء بقيمة عمله
في الزرع يكون له فيه شريكا.
وقد مضى هذا المعنى في الرسم الذي قبل هذا، وتأتي المسألة متكررة في سماع
أبي زيد، وسنتكلم عليها إذا مررنا بها إن شاء الله تعالى.
[مسألة: الذي أقر بالاقتضاء لا يصدق فيما ادعاه
إن كان إقراره على وجه الشكر]
مسألة وسئل: عن رجل لقي رجلا فقال: أشهدك أني قد تقاضيت من فلان مائة دينار
كانت لي عليه فجزاه الله خيرا فإنه أحسن قضائي فليس لي عليه قليل ولا كثير،
فلقي الرجل الذي أشهده الرجل الذي زعم أنه قد قضاه فقال له: قد لقيني فلان
فزعم أنك قد قضيته مائة دينار كانت له عليك وقد أشهدني على ذلك، فقال: قد
كذب إنما أسلفته مائة دينار، فالقول قول من؟
قال ابن القاسم: القول قول من زعم أنه أسلفه مع يمينه إلا أن يأتي الآخر
(10/437)
ببينة أنه قد تقاضاها في دينه.
وقال ابن القاسم: هي بينة. قال أبو حمزة: وكذلك قال المخزومي.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في آخر كتاب المديان من المدونة، ومثل ما في
رسم المكاتب من سماع يحيى أن الذي أقر بالاقتضاء لا يصدق فيما ادعاه من أنه
اقتضى ذلك من حق واجب له إن كان إقراره على وجه الشكر، قال ذلك في هذه
الرواية من قوله في كتاب الشهادات من المدونة.
وفي سماع سحنون بعد هذا من هذا الكتاب أن من أقر للرجل أنه أسلفه فقضاه -
يصدق في دعوى القضاء إذا كان إقراره بالسلف على وجه الشكر.
والفرق عندي بين أن يقر الرجل للرجل أنه أسلفه على وجه الشكر فقضاه فينكر
المقر له الاقتضاء، وبين أن يقر أنه اقتضى منه حقا له قبله على وجه الشكر
له في أنه أحسن قضاءه فينكر أن يكون كان له عليه حق ويطلبه بما أقر أنه
اقتضاه منه - هو أن السلف معروف آتاه الله وفضل تفضل به عليه يلزمه [شكره
لقول الله عز وجل: {اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان: 14] ، ولقوله:
{وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة: 237] ، ولقول النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من آلت إليه يد فليشكرها» الحديث،
فحمل عليه أنه إنما قصد إلى أداء ما تعين عليه من الشكر، لا إلى الإقرار
على نفسه بوجوب السلف عليه، إذ قد قضاه إياه على ما ذكر، وحسن القضاء واجب
على من عليه أن يفعله، فلم يجب على المقتضي أن ينكره، فلما لم يجب ذلك عليه
وجب ألا يكون له تأثير في الدعوى وأن يكون القول قول القاضي؛ لأن المقتضي
قد أقر بالقبض ويدعى أنه كان له عليه حقا فلا يصدق في ذلك على مذهب ابن
القاسم، ويأتي على أصل أشهب في قوله: إنه لا يؤخذ أحد
(10/438)
بأكثر مما يقر به على نفسه أن يكون القول
قول المقتضي؛ لأنه لم يقر أنه قبض منه إلا ما له عليه، وهو قول ابن
الماجشون نصا في هذه المسألة بعينها.
ويقوم من هذه المسألة أن من كان له حق على رجل بوثيقة فدفع الذي عليه الحق
ذلك الحق إلى الذي له الحق ودعا إلى قبض الوثيقة منه أو تخريقها أن ذلك ليس
له، وإنما له أن يشهد عليه وتبقى الوثيقة بيد صاحب الدين؛ لأنه يدفع بها عن
نفسه، إذ لعل الذي كان عليه الدين يسترعي بينة قد سمعوا إقرار صاحب الدين
بقبضه منه أو حضروا دفعه إليه ولم يعلموا على أي وجه كان الدفع، فيدعي أنه
إنما دفع إليه ذلك المال سلفا أو وديعة ويقول هات بينة تشهد لك أنك إنما
قبضت ذلك مني لحق واجب لك، فبقاء الوثيقة بيده وقيامه بها يسقط عنه هذه
الدعوى التي تلزمه.
وكان شيخنا الفقيه أبو جعفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقيم ذلك فيما أخبرني عنه
غير واحد من أصحابنا وأنا أشك أن أكون سمعته منه من آخر مسألة من كتاب
المديان من المدونة، وهو كلام صحيح، إلا أن محمد بن عبد الحكم يرى أنه من
الحق أخذ الوثيقة وقطعها، وهو قول عيسى بن دينار في بعض روايات العتبية،
وقول أصبغ في الواضحة مثله في المرأة تقوم على ورثة زوجها بكتاب فيه بقية
صداقها وليس بكتاب نكاحها إذا أخذت ما فيه نقدا ولم تأخذ عما فيه أرضا أو
عقارا، ولا أعلم من يخالفهم في ذلك نصا، وإنما اختلف أصحاب مالك في كتاب
النكاح إذا قامت به على ورثة زوجها وقبضت ما كان لها فيه من حق وأبت من
دفعه، فقال مطرف: إن للورثة قبضه منها وقطعه، وقال أصبغ: ليس ذلك لهم.
وأما إذا أبى الذي بيده الوثيقة من الإشهاد على نفسه بقبض ما فيها وقال
للذي كان عليه الدين خذ الوثيقة أو قطعها فتلك براءتك، فليس ذلك له ويلزمه
الإشهاد على نفسه، يقوم ذلك من غير ما مسألة، منها مسألة في رسم العرية من
هذا السماع، وبالله التوفيق.
[: المشتري يرد بالعيب فلم يقبض ثمنه من البائع
حتى فلس والعبد بيده]
ومن كتاب أوصى أن ينفق على أمهات أولاده وقال في عبد بيع فباعه مشتريه ثم
فلس وقد خرج عن ملكه
(10/439)
فحاص بالثمن ثم وجد بالعبد عيبا فرده،
فقال: أنا آخذه وأرد ما أخذت، إن ذلك له.
قال محمد بن رشد: ويتحاص فيما يرد الغرماء، وهذا على القول بأن الرد بالعيب
نقض بيع، وأما على القول بأنه ابتداء بيع فلا يكون ذلك له، وهو أصل قد
اختلف فيه قول ابن القاسم وأشهب، فالمشهور عن ابن القاسم أنه ابتداء بيع،
والمشهور عن أشهب أنه نقض بيع.
وقد مضى بيان هذا في أول رسم من سماع أشهب من كتاب العيوب.
وعلى قياس القول بأنه نقض بيع قال ابن القاسم في كتاب ابن المواز في
المشتري يرد بالعيب فلم يقبض ثمنه من البائع حتى فلس والعبد بيده، فلا يكون
الراد له أولى به من الغرماء، ويأتي على قياس القول بأنه ابتداء بيع أن
يكون أحق به من الغرماء.
وأما من اشترى سلعة شراء فاسدا ففسخ البيع وقد فلس البائع فلا يكون المبتاع
أحق بها حتى يستوفي ثمنها، قال ذلك ابن المواز وهو صحيح؛ لأن ردها بالفساد
نقض للبيع، ولا يقال فيه إنه ابتداء بيع، لكونهما جميعا مغلوبين على الرد.
وقد روي عن سحنون أن المبتاع أحق بها حتى يستوفي ثمنها، فحكم للرد بالفساد
بحكم ابتداء البيع لما كان الملك قد انتقل للمشتري بالبيع الفاسد ووجب به
الضمان منه، فهو قول له وجه.
وإنما يكون الرد بالفساد نقض بيع على الحقيقة دون شبهة ولا اختلاف على
القول بأن الملك لا ينتقل بالبيع الفاسد وأن المصيبة فيه من البائع وإن قبض
المشتري إذا قامت البينة على التلف، وبالله التوفيق.
[مسألة: عبد بيع فأبق ثم فلس مشتريه فقال
البائع أنا أحاص بالثمن]
مسألة وقال في عبد بيع فأبق ثم فلس مشتريه، فقال البائع: أنا أحاص بالثمن،
فإن رجع العبد يوما ما أو وجد أخذته ورددت ما أخذت.
قال: ليس ذلك له، إما أن يرضى أن يتبع العبد ويطلبه ولا شيء له غيره، وإما
أن يحاص بالثمن، إلا أن يشاء الغرماء أن يدفعوا الثمن إليه.
(10/440)
قال محمد بن رشد: هذه المسألة متكررة في
سماع أبي زيد وفي آخر أول رسم من سماع أشهب من كتاب السلم والآجال أن
البائع مخير بين أن يحاص الغرماء وبين أن يطلب العبد، فإن وجده كان أحق به،
وإن لم يجده رجع فحاص الغرماء.
وفي ذلك من قوله نظر، إذ لا حد لوقت طلبه يجب له بالبلوغ إليه الرجوع إلى
محاصة الغرماء والرجوع على كل واحد منهم بما كان يجب له في المحاصة لو
حاصهم إن تحاصوا قبل أن يجده.
قال أصبغ: ليس له إلا المحاصة، ولا يجوز له أن يتركها ويتبع العبد؛ لأنه
دين بدين وخطار، وهو أظهر الأقوال، ومثله ما في سماع عيسى من كتاب الجنايات
أن العبد إذا جرح ثم أبق، فقال المجروح إما أن تدفع إلي قيمة جرحى وإما أن
تخلي بيني وبين الغلام أطلبه، أنه لا خير فيه؛ لأنه غرر وخطار، والواجب في
ذلك على قوله أن يرجى الأمر إلى أن يوجد العبد فيخير سيده بين أن يسلمه أو
يفتكه بدية الجرح، وبالله التوفيق.
[مسألة: الجارية توهب للثواب وتوطأ]
مسألة وقال في الجارية توهب للثواب إن الوطء فيها إذا وطئها فوت تجب به
القيمة، وكذلك الاعتصار إذا وطئها الابن لم يكن للأب أن يعتصرها وإن لم
تحمل، [قال ابن القاسم] : ولكن المفلس لو فلس بعدما وطئها أخذها صاحبها وهي
سلعته بعينها، وهو أولى من الغرماء.
قال محمد بن رشد: في النوادر لسحنون عقب هذه المسألة: لا أدري ما هذا يريد،
لا أدري ما الفرق بينهما.
وما الفرق بينهما عندي إلا بين، وذلك أن الوطء لو لم يكن في الهبة للثواب
ولا في الاعتصار فوتا لآل ذلك إلى عارية الفروج وإحلالها بأن يهب الرجل
الجارية لمن له اعتصارها منه أو للثواب فيستمتع بها مدة من الزمان ثم
يستردها.
والتفليس لا تهمة
(10/441)
في التخيير فيه بعد الوطء؛ لأنه أمر طارئ
يوجبه الحكم بالسنة القائمة فيه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -، فلا يتهمان فيه على القصد إلى المكروه، وبالله التوفيق.
[: يبيع الأمة من الرجل بدين فيفلس صاحبها وقد
ولدت عنده أولادا]
ومن كتاب [أوله] بع ولا نقصان عليك وسئل: عن الرجل يبيع الأمة من الرجل
بدين فيفلس صاحبها وقد ولدت عنده أولادا فباعهم، فوجد بائع الأمة أمته.
قال: إن وجد أمته خير بين أن يأخذها وليس له في ولدها شيء، وبين أن يتركها
ويضرب مع الغرماء بثمنها كله.
وأما إذا وجد أولادها وقد باع الأمة قسم الثمن على الأمة وأولادها، فأخذ
الأولاد بنصيبهم من الثمن، ويضرب مع الغرماء في مال المفلس بما أصاب الأم
من الثمن.
فقلت: ففي أي مسألة يكون مخيرا إذا وجد الأولاد ولم يجد الأم بين أن يأخذهم
ولا شيء له غيرهم وبين أن يدعهم ويضرب مع الغرماء جميع الثمن؟
قال: ذلك إذا ماتت الأم ووجد الأولاد.
قال سحنون: قال ابن القاسم: لو أن رجلا ابتاع جارية أو رمكة فولدت عنده
أولادا فباع أولادها وأكل أثمانهم، ثم فلس وقام صاحبها فإنه إن أحب أخذها
لم يأخذها إلا بجميع ما باعها به أو يسلمها.
ولو وجد ولدها- وقد فاتت الأم بموت- لم يكن له أن يأخذ ولدها إلا بجميع ما
باع به أمهم أو يسلمهم فيحاص الغرماء.
وقال مالك: إذا فاتت الأمهات في يدي الغريم لم يضمن، وإن كان باع الأم وبقي
ولد أخذ الولد وقومت الأم فحاص بقيمتها الغرماء.
قال الإمام القاضي: تحصيل القول في هذه المسألة أنه إن فاتت
(10/442)
الأم أو الأولاد بموت لم يكن له أن يأخذ
الباقي منهما إلا بجميع الثمن، وأما إن فات الأولاد ببيع ففي ذلك ثلاثة
أقوال: أحدها: أنه ليس له إلا أن يأخذ الأم بجميع الثمن أو يترك ويحاص
الغرماء، وهو قول ابن القاسم هاهنا وفي الواضحة وروايته عن مالك، والثاني:
أنه يأخذ الأم بما يقع عليها من الثمن بأن يفض على قيمة الأم يوم وقع البيع
وعلى قيمة الولد يوم بيعوا ويحاص بما وقع على الولد من الثمن؛ والقول
الثالث: أنه يأخذ الأم ويحاص الغرماء بما وصل إليه من ثمن الولد، فحكم
للولد في القول الأول بحكم الغلة، وحكم له في القول الثاني بحكم أمه، وأما
القول الثالث فليس بجار على أصل.
وأما إن فاتت الأم ببيع ووجد الأولاد ففي ذلك قولان: أحدهما: أنه مخير بين
أن يحاص الغرماء بجميع الثمن وبين أن يأخذ الأولاد بما يصيبهم من الثمن
ويحاص الغرماء بما أصاب الأم منه، إلا أن يشاء الغرماء أن يدفعوا إليه جميع
الثمن، والقول الثاني: أنه يأخذ الولد ويحاص الغرماء بقيمة الأم، وهو قول
مالك هاهنا في بعض الروايات، ومعناه: إذا أبى الغرماء أن يدفعوا إليه جميع
الثمن وأبى هو من ترك الأولاد ومحاصة الغرماء بجميع الثمن.
وفي بعض الروايات: أخذ الولد بما يصيبهم من الثمن وحاص الغرماء بما يصيب
الأم من الثمن، مثل قول ابن القاسم.
فعلى هذه الرواية لا يكون في هذا الوجه إلا قول واحد، ولم يجر ابن القاسم
في هذه المسألة على أصل واحد في القياس؛ لأنه حكم في بعض وجوهها للولد بحكم
الغلة، وذلك إذ فات الأولاد ببيع أو موت، وحكم لهم بحكم الأم في بعض
الوجوه، وذلك إذا فاتت الأم ببيع أو موت ووجد الأولاد، وإذا وجدهم قياما مع
الأم وكان القياس أن يحكم لهم بحكم الغلة في جميع الوجوه، فلا يكون له إذا
وجد الأم إلا أن يأخذها وحدها بجميع الثمن أو يحاص الغرماء، كان الأولاد
قياما معها أو كانوا قد فاتوا ببيع أو موت، ولا يكون له إلى الولد سبيل وإن
وجدهم مع الأم أو دونها، أو أن يحكم لهم في جميع الوجوه، فيكون له إذا
وجدهم مع أمهم أن يأخذهم معها بجميع الثمن، وإن وجدهم قياما وقد فاتت أمهم
ببيع أو موت كان له أخذهم بما ينوبهم من الثمن، وكذلك إذا وجد الأم قائمة
وقد
(10/443)
فات الولد ببيع أو موت كان له أن يأخذ الأم
بما ينوبها من الثمن إلا أن هذا لم يقولوه، وبالله التوفيق.
[مسألة: حضرته الوفاة وفي بيته خيش ومسح فقال
المسح الشعر أعطوه فلانا]
مسألة وعن رجل حضرته الوفاة وفي بيته خيش ومسح مملوئين طعاما، فقال المسح
الشعر أعطوه فلانا، هل يأخذه بالطعام أو بغير الطعام؟ قال: بل بالطعام.
قيل: فإن قال: الخريطة الحمراء أعطوها فلانا والخريطة مملوءة دنانير، قال:
تكون له الخريطة وما فيها.
قال ابن القاسم في الذي يقول أعطوا فلانا زقا كذا وكذا فيوجد الزق ملآن
عسلا، قال: يعطاه بالعسل.
قيل: فلو كان ملآن دراهم؟ قال: إذا لا يكون له إلا الزق إلا أن يكون عرف أن
فيه دراهم فهو له.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة المعنى لا وجه للقول فيها. وبالله
التوفيق.
[مسألة: الحكم بالشهادة على الخط]
مسألة
وسمعته يسأل عن رجل توفى ففتح تابوت له فإذا فيه كيس مكتوب عليه لفلان بن
فلان، وفيه مال، فطلب ذلك الرجل الكيس، فقال: أرى إن شهد له أنه خط الميت
المستودع وكتابه بيده رأيت أن يدفع إليه، وإن لم يشهد على ذلك لم يدفع إليه
إلا ببينة.
وإنما هو بمنزلة القرطاس يوجد عنده فيه حساب لفلان عندي كذا وكذا، فإن شهد
أنه خط الميت رأيت ذلك له، وإلا لم
(10/444)
يكن له شيء، وقاله أصبغ. أو خط المستودع
صاحب المال الذي كتب اسمه عليه مع ما وجد أنه في حوز المستودع حيث أقر
فأراه لربه أيضا.
قال أصبغ: وهذا لمن يقضي بالخط، والخط عندنا علم ثابت واضح صحيح. وقد بلغنا
عن عمر بن عبد العزيز أنه كان يقضي بالخط في شهادة الشاهد، وهو أشد.
وأما خط المرء بعينه فهو الإقرار صراحا، وقد قال مالك: إذا شهد على الخط
شاهدان لم يكن على صاحب الحق يمين؛ لأن ذلك إقرار، وإن لم يكن له إلا شاهد
واحد حلف معه واستحق، وإن يكن شاهد بالحق وشاهد على الخط تمت الشهادة.
قال الإمام القاضي: ساوى أصبغ بين أن يشهد أنه خط الميت للمستودع أو خط
صاحب الوديعة مع وجودها في حرز الميت المستودع، وقد قيل: إنه لا يقضى بها
لصاحب الوديعة إذا شهد أن الخط خطه؛ لأنه يمكن أن يكون بعض الورثة أخرجها
إليه فكتب عليها اسمه وأخذ على ذلك جعلا.
ولا اختلاف في أنه لا يقضى له بها إذا وجد عليها اسمه ولم يدر من كتبه، ولا
في أنه يقضى له بها إذا شهد أنه خط الميت المستودع أو خط صاحب الوديعة إلا
على مذهب من لا يرى الحكم بالشهادة على الخط في موضع من المواضع.
وقد مضى تحصيل القول في الشهادة على الخط في رسم الشجرة تطعم بطنين في
السنة من سماع ابن القاسم من كتاب الشهادات، فمن أحب الوقوف على ذلك تأمله
هناك، وبالله التوفيق.
[: يستأجر البناء يبني له عرصة مقاطعة فيبنيها
ثم يفلس صاحبها]
ومن كتاب سلف دينارا في ثوب قال ابن القاسم، في الرجل يستأجر البناء يبني
له عرصة مقاطعة كل ذلك من عند البناء فيبنيها ثم يفلس صاحبها: إن البناء
أولى بها بمنزلة سلعته بعينها.
(10/445)
قال القاضي: قوله كل ذلك من عند البناء،
يريد: أن كل ما يحتاج إليه في بنيانها من نقض وقراميد وجص وغير ذلك من
عنده.
وقد تأول بعض الشيوخ أن العرصة أيضا من عند البناء، لقوله: إن البناء أولى
بها، أي: بالدار، إذ لم يفرق بين أن تكون من عنده أو قد أسلمها إلى المفلس،
وهو من التأويل البعيد؛ لأن العرصة إذا كانت من عند البناء فالبيع أملك بما
تعاملا عليه من الإجارة، وهو قد سماها إجارة.
وقوله: إن البناء أولى بها - يحتمل أن يريد: أن البناء أولى بالدار مبينة
حتى يستوفي جميع أجرته.
ومعنى ذلك: إذا كانت الدار بيده لم يسلمها بعد إلى صاحبها المفلس؛ لأنها
كالرهن بيده وإن لم يخرج فيها شيئا من عنده غير عمل يده.
ويحتمل أن يكون إنما تكلم على أنه قد أسلم الدار إلى المفلس، فيكون معنى
قوله: إنه أولى بها - أنه أولى بقيمة ما أخرج من عنده في بنيانها من نقض
وصخر وآجر وقرميد وغير ذلك، كان مما يمكن قلعه وأخذه أو مستهلكا مما لا
يمكن ذلك فيه، يكون بذلك كله شريكا للغرماء في العرصة مبنية بقيمته يوم
الحكم إلا أن يشاء أن يترك حقه في ذلك ويحاص الغرماء بجميع أجرته، أو يشاء
الغرماء أن يدفعوا إليه جميع أجرته ويستخلصوا الدار، وهو أولى ما حملت عليه
المسألة، لقوله فيها كل ذلك من عند البناء، فدل على أنه إنما قال: إنه أولى
بها من أجل ذلك؛ إذ لو كانت الدار بيده لم يسلمها بعد لكان أحق بها في
أجرته وإن لم يخرج فيها شيئا من عنده غير عمل يده.
وإذا شارك الغرماء في الدار مبنية بقيمة ما أخرج فيها من عنده لم يكن له في
قيمة عمل يده شيء على ظاهر قوله في رسم العرية من سماع عيسى، والقياس على
أصله أن يحاص بذلك الغرماء.
وقد قيل: إن من حقه أن يقوم عمل يده مع ما أخرج من عنده فيكون بذلك شريكا
في الدار، وهو الذي يأتي على ما في سماع أبي زيد في مسألة النسج، وبالله
التوفيق.
[مسألة: يشتري الضأن عليها الصوف فيجزها ويزيد
في ثمنها ثم يفلس]
مسألة وقال ابن القاسم، في رجل يشتري الضأن عليها الصوف
(10/446)
فيجزها ويزيد في ثمنها لمكان الصوف، فيجز
صوفها ثم يفلس: إنه ينظر في ذلك كم كان قدر الصوف من رقابها، ولا ينظر إلى
ما بلغ ثمن الصوف، ثم يأخذ غنمه بما بقي بعد حصة قيمة الصوف من الثمن، ثم
يحاص الغرماء بحصة قيمة الصوف، إلا أن يشاء الغرماء أن يدفعوا إليه الذي
يأخذ به غنمه فذلك لهم، ويحاص بحصة قيمة الصوف من الثمن، وكذلك الأصول كلها
إذا اشتراها وفيها ثمر قد طاب وحل بيعه فيبيع الثمرة ثم يفلس وكذلك الدار
لها الغلة قد حلت فاشتراها بغلتها بما تجوز به المبايعة إن كانت غلتها عرضا
فاشتراها بعين أو كانت الغلة عينا فاشتراها بعرض، فهو على ما فسرت لك في
الغنم يجز صوفها.
وإذا اشترى الرجل شيئا من ذلك وليس فيه شيء مثل النخل ليس فيه تمر قد طاب
والدار ليست فيها غلة قد حلت، فيغتل المشتري ذلك سنين، أو يفيد العبد مالا
عند المشتري فينزعه منه، أو تكتسي الغنم عنده صوفا فيجزها سنين ثم يفلس،
فليس للبائع في شيء مما اغتل المشتري شيء، إن شاء أخذ سلعته بعينها بجميع
دينه وإن شاء أسلمها وحاص الغرماء بجميع دينه.
وإنما يأخذ سلعته يوم يأخذها على نحو ما باعها عليه إن كانت النخل فيها تمر
قد طاب يوم يأخذها، فالتمر للغرماء، ويأخذ الأصل كما باعه ليس فيه تمر إن
شاء، أو يسلمه ويحاص الغرماء بجميع دينه.
والدار كذلك إذا حلت الغلة، فإن أرادَ صاحبُ الأصلِ أَخْذَهَا أَخَذَهَا
وكانت الغلة للغرماء مثل التمر.
فأما العبد فله أن يأخذه بماله الذي أفاد عند مشتريه، والغنم كذلك له أن
يأخذها وعليها صوفها إلا أن يعطيه الغرماء ديته فذلك لهم، ليس غلة الدار
وثمرة النخل مثل العبد بماله أو الغنم بصوفها، فرق بين ذلك أن الرجل يشتري
الضأن وعليها صوفها ولا يسميه ولا يشترطه ويكون له، ويشتري النخل
(10/447)
وفيها التمر وقد طاب فلا يكون له إلا أن
يشترطه، وقد قال مالك في غير هذا الكتاب: إذا باع الحائط ولا ثمر فيه ثم
فلس وفيه ثمرة إنه يأخذه بثمره.
قال الإمام القاضي: قوله في أول المسألة في الذي يشتري الضأن عليها صوفها
فيجزها ثم يفلس إن البائع يأخذ الغنم مجزوزة بما يصيبها من الثمن ويحاص
الغرماء بما يصيب الصوف منه، معناه: إذا كان الصوف قد فات بعد الجز، وأما
لو أدركه قائما بيد المشتري المفلس لكان أحق به يأخذه إن شاء مع الغنم
بجميع الثمن ويؤدي ثمن جزازه؛ لأنه كمشتري سلعتين.
ولغير ابن القاسم وهو أشهب في التفليس من المدونة أن الصوف إذا جزه المشتري
غلة ليس للبائع إلا أن يأخذها مجزوزة بجميع الثمن أو يتركها ويحاص الغرماء،
وهو قول ابن وهب في رواية أصبغ عنه.
وأما إن اشترى الغنم ولا صوف عليها فحدث لها صوف ثم فلس فالصوف تبع للغنم
ما لم يجز، فإن جز كان غلة، ولا اختلاف في هذا.
وأما إن اشترى الأصول وفيها ثمرة قد طابت ثم فلس فالبائع أحق بالنخل
والثمرة وإن جذت ما كانت قائمة، كمشتري سلعتين، ولا اختلاف في هذا بين ابن
القاسم وأشهب.
والفرق عند أشهب بين هذه المسألة وبين الغنم تشترى وعليها صوفها أن الصوف
لما كان يدخل في البيع وإن لم يشترط كان في حكم التبع لها، كالأصول تشتري
بثمرتها قبل الإبار.
وأما إذا اشترى الأصول ولا ثمرة فيها أو فيها ثمرة لم تؤبر ثم فلس ففي ذلك
أربعة أقوال:
أحدها: أن البائع أحق بالثمرة ما لم تؤبر، وذلك يتخرج على قول أصبغ في الرد
بفساد البيع؛ لأنه إذا قال فيه إن الثمرة تبقى للمبتاع وإن لم تطب إذا كانت
قد أبرت، فأحرى أن تبقى للغرماء في التفليس، وعلى قول بعض المدنيين في
المدونة قول أشهب وأكثر الرواة أنه لا حق للشفيع في الثمرة إذا لم يدركها
حتى أبرت.
والثاني: أنه أحق بها ما لم تطب، وهو قول ابن القاسم في هذه الرواية.
والثالث: أنه أحق بها ما لم تيبس.
والرابع أنه أحق بها ما لم تجذ، وهو نص ما في المدونة وظاهر قول مالك في
هذه الرواية.
وأما إذا اشترى الأصول وفيها ثمرة قد أبرت ولم تطب ثم فلس ففي ذلك
(10/448)
ثلاثة أقوال: أحدها: أن البائع أحق بالثمرة
ما لم تطب.
والثاني: أنه أحق بها ما لم تيبس.
والثالث: أنه أحق بها ما لم تجذ، وهو قوله في المدونة.
فسواء على مذهب ما في المدونة اشترى الأصول ولا ثمرة فيها أو اشتراها وفيها
ثمرة لم تؤبر أو اشتراها وفيها ثمرة قد أبرت ولم تطب إذا فلس، فالبائع أحق
بالثمرة ما لم تجذ. فهذا تحصيل القول في هذه المسألة، وبالله التوفيق.
[: شهدا على رجل أنه قال لفلان علي مائة دينار
أو لفلان لا يدريان أيهما هو]
ومن كتاب يدير ماله وقال في رجلين شهدا على رجل أنه قال لفلان علي مائة
دينار أو لفلان، لا يدريان أيهما هو.
قال: ليس عليه أن يغرم أكثر من المائة ويحلف هذان ويقتسمان المائة بينهما.
قال محمد بن رشد: وقعت هذه المسألة متكررة في رسم البيوع من سماع أصبغ من
كتاب الدعوى والصلح، وزاد فيها هناك: قال أصبغ: يحلف كل واحد منهما أنه هو
وأن له عليه مائة ثانية، فمن نكل منهما فهي للآخر إن حلف، وإن نكلا جميعا
اقتسماها بغير يمين بمنزلة حلفهما جميعا، فإن رجع الشهيدان عن شهادتهما بعد
الحكم وزورا أنفسهما غرما ذلك للمشهود عليه إذا كان يوم شهدا منكرا
لشهادتهما. وقول أصبغ هذا تفسير لقول ابن القاسم.
وفي قوله: فإن رجع الشهيدان عن شهادتهما بعد الحكم وزورا أنفسهما غرما ذلك
للمشهود عليه إذا كان يوم شهادتهما منكرا لشهادتهما - دليل على أنه لا فرق
فيما يلزم المقر بهذه الشهادة بين أن يكون مقرا بها أو منكرا لها.
وإنما يفترق ذلك فيما يلزم الشهيدين من الغرم برجوعهما عن الشهادة.
وقد رأيت لابن دحون أنه قال: معنى هذه المسألة أن المقر هو الشاك وأنه أنكر
إقراره فيلزمه بالبينة غرم المائة ويحلف الرجلان ويقتسمانها بينهما.
ولو كان مقرا بما قال للزمه غرم مائتين، فرد ابن دحون هذه المسألة بالتأويل
إلى ما في رسم يوصي من سماع عيسى من كتاب الدعوى والصلح من أن الرجل إذا
قال علي مائة دينار دين لا
(10/449)
أدري هل هي لفلان أو لفلان، فادعاها
الرجلان جميعا أنهما يحلفان ويغرم لكل واحد منهما مائة مائة، بخلاف الوديعة
يقر بها ويقول: لا أدري لمن هي منهما - أنهما يحلفان جميعا ويقتسمانها
بينهما.
وقد اختلف في الوديعة أيضا على ما وقع لمالك في رسم القطعان من سماع عيسى
من كتاب القراض في المقارض بمالين يزعم أنه قد ربح خمسين دينارا ولا يدري
من أي المالين الربح نسي ذلك أنه لا شيء له من الخمسين وتكون لصاحبي
المالين، لكل واحد منهما خمسة وعشرون.
فعلى التأويل الأول يدخل الاختلاف في الدين كما دخل في الوديعة، ويتحصل في
جملة المسألة ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه يلزمه لكل واحد منهما غرم مائة مائة في الوديعة والدين إذا حلفا
أو نكلا، وهو الذي يأتي على ما في رسم القطعان من كتاب القراض في مسألة
القراض؛ لأنه إذا لزمه أن يغرم لكل واحد منهما مائة مائة فيما في أمانته،
فأحرى أن يلزمه ذلك فيما في ذمته.
والثاني: أنه لا يلزمه أن يغرم لهما أكثر من مائة واحدة فيقتسمانها بينهما
إن حلفا أو نكلا، وتكون للحالف منهما إن نكل أحدهما عن اليمين، وهو الذي
يأتي على ما تأولناه في هذه الرواية؛ لأنه إذا لم يلزمه في الدين الذي هو
في ذمته أن يغرم أكثر من مائة فأحرى ألا يلزمه ذلك في الوديعة التي هي في
أمانته.
والثالث: الفرق بين الوديعة والدين على ما في رسم يوصي من سماع عيسى من
كتاب الدعوى، وعلى ما تأوله ابن دحون تخرج مسألة الدين من الاختلاف.
وقوله لا يدريان أيهما هو، معناه: أنهما لا يدريان ذلك من أجل أن المشهود
عليه هو الذي قال لفلان علي مائة دينار أو لفلان من أجل أنه لم يدر لمن هي
منهما، فحصل الشك من المشهود عليه لا من الشاهدين.
ولو كان الشك من الشاهدين بأن يقولا أشهدنا فلان أن عليه مائة دينار لأحد
هذين الرجلين وسماه لنا إلا أننا لا ندري من هو منهما نسيناه، لما جازت
شهادتهما على المشهور في المذهب، وحلف لكل واحد منهما إن كان منكرا أو لمن
أنكر منهما إن كان مقرا لأحدهما.
وقد قيل: إن شهادتهما جائزة يلزمه بها مائة واحدة تكون لمن حلف منهما إن
نكل أحدهما، أو لهما
(10/450)
يقتسمانها بينهما إن حلفا أو نكلا، وهو
الذي يأتي على ما وقع في رسم الأسدية من كتاب الأيمان بالطلاق من المدونة
ولابن وهب في رسم الأقضية والوصايا من سماع أصبغ من كتاب الصدقات والهبات.
وقد قيل في هذا النحو من الشهادة: إنها تجوز في الوصية بعد الموت ولا تجوز
على الحي.
ويتحصل فيها في الجملة ثلاثة أقوال: إجازتها في الوجهين، وإبطالها في
الوجهين، والفرق بين الموضعين، وبالله التوفيق.
[مسألة: تطلق وهي حامل ثم يفلس زوجها الذي
طلقها]
مسألة وقال في المرأة تطلق وهي حامل ثم يفلس زوجها الذي طلقها، قال: لا
تحاص بنفقتها الغرماء وإنما هي بمنزلة امرأته التي تكون تحته فيفلس أنها لا
تحسب لها نفقة، يريد: أنه لا تحاص بنفقتها الغرماء.
قال محمد بن رشد: معناه: لا تحاص بنفقتها فيما يستقبل، وأما ما أنفقت على
نفسها فيما مضى فلها أن تحاص به الغرماء إن كانت ديونهم مستحدثة بعد أمد
إنفاقها على ما مضى لسحنون في رسم باع غلاما من سماع ابن القاسم من كتاب
طلاق السنة.
وقد مضى من القول على ذلك هناك ما فيه كفاية، وبالله التوفيق.
[: يدفع إلى امرأته نفقة ولدها وقد طلقها ثم
يفلس]
ومن كتاب أوله إن خرجت من هذه الدار
وقال ابن القاسم، في الرجل يدفع إلى امرأته نفقة ولدها وقد طلقها فيدفع
إليها نفقة كثيرة ثلاثين دينارا أو نحو ذلك ثم يفلس، قال: إن كان يوم دفع
إليها عليه دين يحيط بماله أخذ ذلك كله منها؛ لأنه فار بماله.
(10/451)
قال القاضي: وقعت هذه المسألة في سماع عيسى
من كتاب الرضاع وزاد فيها هناك فإن لم يكن عليه دين لم يؤخذ منها شيء.
فأما قوله: إنه إن كان يوم دفع ذلك إليها عليه دين يحيط بماله أخذ ذلك كله
منها؛ لأنه فار بماله، فهو صحيح لا اختلاف فيه إذا فلس بحدثان دفعها قبل أن
ينفق منها شيء، وأما إن فلس بعد أن أنفق بعضها فإنما يرد ما بقي منها، إذ
من حق المديان أن ينفق على ولده مما بيده من المال وإن كانت الديون مستغرقة
له ما لم يفلس.
وأما قوله في كتاب الرضاع: فإن لم يكن عليه دين لم يؤخذ منها شيء - فإنما
يصح على قول أشهب وروايته عن مالك، لا على أصل ابن القاسم.
وقد بينا ذلك في السماع المذكور من كتاب الرضاع فتأمل ذلك هناك تجده صحيحا
إن شاء الله.
[مسألة: الغرماء يحلفون مع شاهدهم على إبراء
الميت من الصداق ويستحقون حقوقهم]
مسألة وسألته: عن الرجل يهلك فتقوم عليه امرأته بصداق عليه إلى أجل ببينة
وقد قام عليه غرماؤه فشهد لهم عليها شاهد واحد أن المرأة صالحت زوجها على
أن وضعت عنه ذلك الصداق.
قال: يحلف الغرماء مع شاهدهم ويستحقون حقوقهم، فإن أبوا أن يحلفوا حلف من
رضي واستحقوا حقهم، قيل له: فإن حلفوا فاستحقوا حقهم.
ثم طرأ للميت مال فطلبت المرأة حقها، هل يحلف الورثة مع شاهدهم أيضا ويبطل
حق المرأة؟ أم أيمان أهل الدين تجزئهم؟
قال: بل يحلفوا مع شاهدهم ويبطلوا حق المرأة.
(10/452)
قال محمد بن رشد: قوله: إن الغرماء يحلفون
مع شاهدهم على إبراء الميت من الصداق ويستحقون حقوقهم، أي: يستحقون حقوقهم
في تركة الميت فيتحاصون بها دون المرأة - صحيح على قياس قول مالك في الميت
يقوم عليه الغرماء وله دين بشاهد واحد أن الغرماء يحلفون مع الشاهد على
الدين فيستحقونه؛ لأنفسهم من ديونهم؛ لأنها يمين مع الشاهد يصلون بها إلى
استيفاء حقوقهم في المسألتين جميعا، فلا فرق في المعنى والقياس بين أن
يبرئوا الميت من الصداق بحلفهم مع الشاهد فيستحقون تركته في ديونهم وبين أن
يثبتوا له الدين بحلفهم عليه مع الشاهد به فيستحقونه في ديونهم.
وقد حكى ابن حبيب عن أصبغ أنه لا يحلف الغرماء في إبراء الميت وإنما يحلفون
في دين له؛ لأن حلفهم على الدين رجم بالغيب، إذ لا يعلمون ذلك، وهو بعيد قد
أنكره ابن المواز، وقال: إن ذلك ليس رجما بالغيب وإنما يحلفون بخبر مخبر
كحلفهم على إثبات دين له، وذلك بين لا فرق في هذا المعنى بين الموضعين.
وأما قوله: فإن أبوا أن يحلفوا، حلف من رضي منهم واستحقوا حقهم - يريد:
ويرجع اليمين على المرأة في حظ من نكل منهم، فيحاص بذلك من حلف.
مثال ذلك: أن يترك الميت عشرين دينارا وعليه لامرأته عشرون دينارا،
ولغريمين عشرون دينارا، عشرة عشرة لكل واحد منهما، فإن حلف الغريمان جميعا
مع الشاهد على إبراء الميت من الصداق أخذا العشرين لأنفسهما فاستوفيا
حقوقهما، وإن نكلا جميعا حلفت هي وحاصتهما في العشرين التي ترك المتوفى
بجميع حقها، فصار لها عشرة ولكل واحد منهما خمسة خمسة، وإن حلف أحدهما ونكل
الآخر رجعت اليمين عليها في حظ الناكل، فإن حلفت استحقت ما كان يصيب الناكل
لو حلف، وذلك خمسة، فيكون لها خمسة وللحالف عشرة وللناكل خمسة.
وقد قيل: إن حقها يبطل بيمين من حلف منهم؛ لأنه إنما يحلف أن ما شهد به
الشاهد حق، إذ لا يمكن أن تبعض شهادة الشاهد فيحلف على مقدار حقه منها.
ويلزم على قياس هذا القول أن يكتفي بيمين أحدهم.
وإن لم ينكل واحد منهم فيقال لهم إما أن يحلف واحد منكم أن ما شهد به
الشاهد حق، وإما أن يرجع اليمين عليها
(10/453)
فتحلف على تكذيبه وتستحق حقها فتحاصكم
بجميعه.
والقول الأول أصح أن يحلفوا جميعا فيستحق كل واحد منهم بيمينه قدر حقه مما
حلف عليه، كما يحلف جميع الورثة إذا لم يكن عليه دين فيستحق كل واحد منهم
بيمينه قدر حقه مما حلف عليه. وكما يحلف جميع الغرماء مع الشاهدين للميت.
وقال في هذه المسألة: إن الغرماء يحلفون مع شاهدهم ويستحقون حقوقهم.
فالظاهر من قوله أنه بدأ الغرماء بالأيمان على الورثة، وفي هذا تفصيل.
أما إذا كان فيما ترك المتوفى فضل عن ديون الغرماء فلا اختلاف في أن الورثة
يبدءون بالأيمان، فإن حلفوا بطل دين الميت واستحقوا ما فضل عن ديون
الغرماء، وإن أبوا أن يحلفوا حلف الغرماء واستحقوا حقوقهم وحلفت المرأة
فاستحقت في دينها ما فضل عن ديون الغرماء، إذ قد نكل الورثة أولا عن
اليمين.
وإن نكل الغرماء أيضا عن اليمين حلفت المرأة فاستحقت دينها وحاصت الغرماء
في جميع ما يخلفه المتوفى.
وأما إن لم يكن فيما ترك المتوفى فضل عن ديون الغرماء فاختلف قول مالك فيمن
يبدأ باليمين إن كان الورثة أو الغرماء، فالظاهر من قوله في موطأه إن
الورثة يبدءون باليمين، وروى ابن وهب عنه أن الغرماء يبدءون باليمين وهو
اختيار سحنون وعليه تأول قول مالك في موطأه، فقال: إنما بدأ الورثة باليمين
من أجل أن الغرماء لم يحلفوا بعدما قبضوا ديونهم، ولو كانوا قد حلفوا
لكانوا هم المبدئين باليمين، وهو تأويل بعيد.
والصواب: أن ذلك اختلاف من قول مالك، والاختلاف في هذا جار على اختلافهم في
تعليل الدين الثابت على المتوفى، هل هو متعين في تركة الميت أو في ذمته؟
فمن علل أنه متعين في ذمة الميت بدأ الورثة باليمين، ومن علل أنه متعين في
عين التركة بدأ الغرماء باليمين.
وهذا الاختلاف في التعليل لا يرجع إلى الاختلاف في الحكم.
ووجهه: أن الميت لا يطرأ له مال إلا في النادر، فمن راعى ذلك النادر قال:
دين المتوفى متعين في ذمته؛ لأنه إن تلف ما تخلف من المال وطرأ له مال لم
يعلم به كان الدين فيه باتفاق، ومن لم
(10/454)
يراع ذلك النادر، قال: الميت لا ذمة له،
فالديون التي عليه متعينة في تركته.
فوجه تبدئة الورثة باليمين وإن لم يكن في تركته فضل عن ديون الغرماء هو أنه
قد يطرأ للميت مال فيكون من حقوقهم أن يحلفوا مع الشاهد على إبطال دين
المرأة فيستحقوا ذلك المال الطارئ، وبالله التوفيق.
[مسألة: البيع والسلف لا يفسخ إذا رضي مشترط
السلف بتركه أو رده بعد قبضه]
مسألة وسئل: عن رجل جاء بذكر حق فيه شراء وسلف، فقال صاحب الحق: إنما بعته
متاعا بهذه الدنانير وأسلفته إياها بعد بيعي منه، وقال الذي عليه الحق:
إنما هو بيع وسلف، قال: القول قول صاحب الحق إلا أن يأتي الذي عليه الحق
ببينة، وعلى صاحب الحق اليمين، فإن أبى أن يحلف حلف الذي عليه الحق وفسخ
الشراء، وقاله سحنون.
قال الإمام القاضي: هذا بين على ما قاله إذا كان ما قد وقع في ذكر الحق
محتملا للصحة والفساد، مثل أن يذكر فيه أنه باع منه سلعة بمائة دينار
وأسلفه عشرة دنانير فادعى البائع أنه أسلفه العشرة الدنانير بعد نفوذ البيع
على غير شرط، وقال المبتاع: بل شرطت ذلك عليك في عقدة البيع، فوجب أن يكون
القول قول البائع؛ لأنه مدعي الصحة، فإن نكل عن اليمين كان القول قول
المبتاع على ما ادعى من الفساد.
وفي قوله: إن الشراء إذا حلف يفسخ - نظر؛ لأن المشهور من مذهب ابن القاسم
وروايته عن مالك: أن البيع والسلف لا يفسخ إذا رضي مشترط السلف بتركه أو
رده بعد قبضه على ما وقع في أصل الأسدية وأصلحه سحنون في المدونة، فيحتمل
أن يكون قوله في هذه الرواية إن البيع يفسخ على ما روي عنه من أن
(10/455)
البيع والسلف إذا وقع يفسخ على كل حال،
ويحتمل أن يكون إنما رأى فسخه من أجل أن السلف قد قبض، مثل قول سحنون وما
ذهب إليه ابن حبيب من أن السلف إذا قبض فقد تم الفساد ووجب فسخ البيع ولم
يجز إمضاؤه برد السلف.
وأما إن كان ما وقع في ذكر الحق ظاهره الصحة على ما ادعى البائع فلا يمين
للمبتاع عليه فيما ادعاه من الفساد، إلا أن يقول: كنا أشهدنا على الحلال
ومعاملتنا في السر على الحرام، فتلزمه اليمين إن كان ممن يتهم باستحلال مثل
هذا، ولا تلزمه اليمين إن كان ممن لا يتهم بذلك.
ولو باع منه السلعة بمائة دينار نقدا على أن يسلف البائع المبتاع عشرة
دنانير إلى شهر وكتبا بذلك ذكر حق تشاهدا عليه، فقال البائع: إنما بعتك
السلعة بمائة دينار على أن أسلفك من ثمنها عشرة دنانير إلى شهر، فالبيع
صحيح لا فساد فيه؛ لأن مآله إلى أن بعت منك السلعة بتسعين دينارا نقدا
وعشرة دنانير إلى أجل، وقال المبتاع: إنما اشتريت منك السلعة على أن تسلفني
عشرة دنانير من غير ثمنها فالبيع فاسد؛ لأنه يدخله بيع وسلف، وذهب وعروض
بذهب معجلة ومؤجلة لوجب أن يكون القول قول البائع مع يمينه؛ لأنه مدعي
الصحة، فإن نكل عن اليمين فسخ البيع بالنكول دون أن ترجع اليمين على
المبتاع لتشاهدهما على الفساد في الظاهر، بدليل ما وقع في رسم الكبش من
سماع يحيى من كتاب الدعوى والصلح في مسألة الذي يصالح الوارث على جميع حظه
من ميراث رجل وله حظ مجهول في منزل ببلد آخر، فادعى أحدهما على صاحبه أنه
علم ذلك الحظ ففسد الصلح لوقوعه عليه، فأنكر أن يكون علم به أو وقع الصلح
عليه ليصح فيما عداه مما علما به، فقال: إنه يحلف ما علم به، فإن نكل فسخ
الصلح، يريد دون رد يمين؛ لأن الظاهر أن الصلح قد وقع عليه؛ لأنه من المورث
وهما قد تصالحا على جميع المورث.
وقد قال بعض الشيوخ: إن رد اليمين في هذه المسألة خلاف قوله في مسألة كتاب
الدعوى والصلح المذكورة، إذ قال فيها: إن البيع يفسخ دون رد يمين، وليس ذلك
بصحيح، بل يرجع اليمين في ذلك في وجه دون وجه على ما فصلناه، وبينا القول
فيه وشرحناه، وبالله التوفيق.
(10/456)
[مسألة: أوصى
أن عليه دينا لأناس لا يعرفون وأوصى أن يتصدق ببعض متاعه]
مسألة وسئل: عن رجل أوصى أن عليه دينا لأناس لا يعرفون، وأوصى أن يتصدق
ببعض متاعه، يقول: ليس هو لي وليس له صاحب يعرف.
قال: يبدأ هذا على الدين إلا أن يقيم بينة على الدين فيبدأ به ثم يبدأ هذا
بعده.
قال: وهذا كله واحد، فإن كان ورثه ولد قبل قوله في جميع ذلك أوصى بأن يتصدق
به عنهم أو يوقف لهم، وإن كان يورث كلالة فأوصى أن يحبس ويوقف حتى يأتي
لذلك طالب فذلك جائز عليهم من رأس المال، وإن أوصى بأن يتصدق به عنهم لم
يقبل قوله ولم يخرج من رأس المال ولا من الثلث، وهذا ناحية قول مالك.
قال محمد بن رشد: قوله: يبدأ هذا على الدين، يريد: أنه تبدأ الأشياء
المعينة على الدين، وهذا إذا لم تقم على واحد منهما بينة أو قامت على
جميعهما بينة.
وأما إن قامت على أحدهما بينة دون الآخر فيبدأ الذي قامت عليه البينة منهما
على الذي لم تقم عليه البينة.
وقد مضى تمام القول في هذه المسألة مستوفى في رسم ليرفعن أمرا إلى السلطان
من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[: يرهقه الدين وفي يده جارية فيزعم أنها قد
أسقطت منه]
ومن كتاب أسلم وله بنون وسئل: عن الرجل يرهقه الدين وفي يده جارية فيزعم
أنها قد أسقطت منه، أيقبل قوله أم تباع للغرماء؟
قال: لا يقبل قوله في ذلك إلا أن تقوم على ذلك بينة من النساء، أو يكون قبل
ادعائه بذلك سماع أو أمر قد فشا في الجيران حتى يستدل به على صدقه، فإن كان
كذلك قبل قوله، وإلا فقوله باطل وهي تباع للغرماء.
وفي رواية محمد بن خالد عن ابن القاسم مثله. قال ابن القاسم: أو يكون قد
سمع ذلك منه.
(10/457)
قال الإمام القاضي: قول ابن القاسم: أو
يكون قد سمع ذلك منه قبل أن تستغرق الديون ذمته، وهو ثابت في بعض الروايات
دون بعض، والمسألة كلها صحيحة لا اختلاف أعلمه في أنه لا يصدق من استغرقت
الديون ذمته في أنه أعتق أمته ولا في أنها ولدت منه إذا لم يكن معها ولد،
ولا في أنه يصدق إذا كان معها ولد.
واختلف إذا باعها ثم أقر بعد البيع أنها كانت ولدت منه ولا ولد معها، فقيل:
إنه لا يصدق كما لا يصدق إذا زعم أنه أعتقها، وقيل: إنه يصدق وترد إليه إذا
لم يتهم فيها بخلاف إذا زعم أنه أعتقها. والقولان في كتاب اللقطة من
المدونة.
واختلف إذا أقر في مرضه الذي مات منه أنها ولدت منه ولا ولد معها على ثلاثة
أقوال:
أحدها: أنه إن كان يورث بولد عتقت من رأس المال، وإن كان يورث بكلالة لم
تعتق من رأس المال ولا من الثلث؟
والثاني: أنه إن كان يورث بولد أعتقت من رأس المال، وإن كان يورث بكلالة
أعتقت من الثلث؟
والثالث: أنها لا تعتق من رأس المال ولا من الثلث كان يورث بكلالة أو ولد.
فيتحصل من ذلك في كل طرف قولان: تعتق من رأس المال، ولا تعتق من رأس المال
ولا من الثلث إذا ورث بولد، وتعتق من الثلث ولا تعتق من رأس المال ولا من
الثلث إذا ورث بكلالة، وبالله التوفيق.
[مسألة: للشريك أن يدخل على شريكه فيما اقتضى
بغيرإذنه من دين هو بينهما]
مسألة قال عيسى: وسألته عن الرجلين لهما الحق على الرجل بذكر حق واحد وللذي
عليه الحق حق على أحدهما فيقاصه الشريك الذي عليه للغريم الحق بماله من ذلك
الحق المشترك بنصيبه منه بغير إذن صاحبه. أيكون له ذلك؟
فقال: يدخل معه صاحبه فيما اقتضى منه كانت مقاصة أو تقاضيا عن ظهر يد.
قلت: وإن كان الذي عليه الحق مليا؟
قال: نعم، وإن كان الذي عليه الحق مليا.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، إذ لا فرق في المعنى بين أن
(10/458)
يقتضي منه حقه أو يقاصه به، فيما كان له
عليه من دين، ولا اختلاف أعلمه في أن للشريك أن يدخل على شريكه فيما اقتضى
بغير إذنه من دين هو بينهما دخلا فيه بالطوع منهما.
وإنما اختلف إذا باعه بعرض أو كان عرضا فباعه بعين، فقيل: إنه لا يدخل
عليه، وهو الذي يأتي على ما في السلم الثاني من المدونة على اختلاف في
تأويل ذلك، وقيل: إنه يدخل عليه إن شاء، فيأخذ منه نصف ما أخذ ويكون ما بقي
على الغريم بينهما، وقيل: إنه يأخذ منه نصف ما أخذ، فإذا اقتضى حقه رجع
عليه بقيمة ما أخذ منه يوم أخذه إن كان أخذ منه عرضا، قيل: بالغا ما بلغ،
وقيل: ما لم يكن أكثر من نصف ما بقي على الغريم وبعدد ما أخذ منه إن كان
أخذ عينا، ويكون أيضا ما بقي على الغريم بينهما، وقيل: إنه يأخذ منه نصف ما
أخذ، فإذا اقتضى حقه رجع عليه شريكه بعدد ما قبض منه.
واختلف أيضا إذا كان الدين لهما من ميراث أو جناية لم يدخلا فيه بطوعهما،
فقيل: إنه يدخل على شريكه فيما اقتضى منه، وهو قول ابن القاسم، وقيل: إنه
لا يدخل عليه في ذلك وهو مذهب سحنون.
واختلف إذا صالحه أحدهما ببعض حقه فاختار الرجوع عليه، فقيل: إنه يرجع عليه
على حساب ما كان له عليه في الأصل، وقيل: بل إنما يرجع عليه على حساب ما
بقي له عليه بعد ما وضع عنه. والقولان في كتاب الصلح من المدونة.
قيل: ويتبعان جميعا الغريم، وقيل: بل يتبعه الذي لم يصالح، فإذا قبض حقه
رجع عليه الذي صالح بما أخذ منه، وبالله التوفيق.
[مسألة: يوصي بوصايا ويقول من جاء يدعي من
دينار لعشرين فاقضوه]
مسألة قال ابن القاسم: وسألت مالكا عن الذي يوصي بوصايا ويقول من جاء يدعي
قبلي من دينار إلى عشرين دينارا فاقضوه بغير بينة، فقال: تكون تلك العشرون
دينارا من رأس المال ولا يزاد من ماله على عشرين دينارا أن لو جاء يدعي
قبله بأكثر منها، لو ادعى رجل عشرة دنانير وآخر خمسة عشر وادعى قبله من نحو
(10/459)
هذا العدد حتى بلغت أكثر من مائة دينار؟
قال: يتحاصون في العشرين دينارا على قدر ما ادعى كل واحد منهم إن كان عدد
ما ادعى كل واحد منهم أدنى من عشرين دينارا.
قال ابن القاسم: ولا أرى لمن ادعى قبله أكثر من عشرين دينارا في عشرين
دينارا شيئا.
قال مالك: وأرى أن لا يعجل في العشرين دينارا حتى يعلم كل من يدعي قبله
شيئا.
قال: ولا يشاع هذا الأمر ولا يفشى ولا يستتر به.
قال ابن القاسم: والدين الذي تكون عليه بينة مبدأ على العشرين دينارا.
وفي سماع محمد بن خالد قال ابن القاسم: قال مالك في رجل حضرته الوفاة، فقال
عند موته: إنني كنت لابست الناس ووقعت بيني وبينهم ديون، فمن جاء يدعي قبلي
شيئا من دينار إلى خمسة وعشرين دينارا فاقضوه إياه: إنه إن جاء أحد يطلب
كما ذكر صدق مع يمينه وكان ذلك من رأس ماله.
قال الإمام القاضي: قوله في الذي يوصي فيقول من جاء يدعي قبلي من دينار إلى
عشرين دينارا فاقضوه بغير بينة، إن العشرين تخرج من رأس ماله دون زيادة
عليها، فيتحاص فيها كل من ادعى أدنى من عشرين صحيح في المعنى.
والوجه في ذلك أن لفظة من في قوله من جاء يدعي قبلي من كذا إلى كذا، يحتمل
أن تكون بمعنى الشرط فيقتضي العموم ويكون بمنزلة قوله كل من جاء يدعي قبلي
من كذا إلى كذا فاقضوه، ويكون المعنى المفهوم من إرادته أنه علم أن عليه
لجماعة لا يعرف عددهم حقوقا دون العشرين فأراد أن يقضي كل من ادعى أن له
عليه أدنى من عشرين ليتخلص من جميع ما عليه من الديون، ويحتمل أن تكون لفظة
من في قوله من جاء يدعي قبلي من كذا إلى كذا بمعنى الذي، فلا تقتضي العموم،
ويكون ذلك بمنزلة قوله الرجل الذي يدعي قبلي من كذا إلى كذا فاقضوه، ويكون
المعنى المفهوم من إرادته أنه علم أن عليه حقا دون العشرين لرجل واحد لا
يعرف عينه ولا اسمه، فأراد أن يقضي ذلك
(10/460)
الرجل حقه وجعل العلامة على أنه صاحب الحق
إتيانه وادعاءه القدر الذي سمى.
فلما كان اللفظ محتملا للوجهين على ما ذكرناه وجب أن يحمل على الثاني منهما
الذي هو بمعنى الذي؛ لأنه الأقل على أصولهم في وجوب ترك الحكم بما شك فيه
من الوصايا وغيرها.
ولو جاء بعد لفظة "مَنْ" بفعل يظهر فيه الإعراب لارتفع في ذلك الإشكال، مثل
أن يقول: مَنْ يجئ بالجزم يدعي من كذا إلى كذا فاقضوه، أو مَنْ يِجِيءُ
بالرفع يدعي من كذا وكذا إلى كذا وكذا فاقضوه؛ لأن الجزم يدل على الشرط وهو
بمعنى العموم بخلاف الرفع، ولا خلاف فيما ذكره من أن العشرين إذا أخرجت من
رأس المال يتحاص فيها كل من ادعى أدنى من عشرين، يريد: بعد أيمانهم، وأنه
لا حق فيها لمن ادعى أكثر من عشرين.
واختلف فيمن ادعى عشرين فقيل: إنه لا شيء له حكى ذلك سحنون عن ابن القاسم،
وهو على القول بأن "إلى" غاية لا يدخل ما بعدها فيما قبلها، وقيل: إنه يحاص
بها وهو على القول بأن "إلى" بمعنى "مع"، وهو الأظهر في هذه المسألة. وفي
ألفاظ المسألة دليل على القولين.
وأما من ادعى دينارا فإنه يحاص به في العشرين، قال: من جاء يدعي قبلي
دينارا إلى عشرين أو من دينار إلى عشرين. ولو قال: من جاء يدعي قبلي ما بين
دينار إلى عشرين لدخل الاختلاف في الدينار أيضا، فقد اختلف أهل العلم فيمن
قال لفلان: علي ما بين دينار إلى عشرة، فقيل: إنه يحكم عليه بثمانية، وقيل:
بتسعة، وقيل: بعشرة، ولكل قول منها وجه.
وقد قيل: إنه لا يحكم عليه بشيء؛ لأنه إنما أقر له بما بين الواحد والعشرة
ولا شيء بينهما وهو بعيد.
وما في سماع محمد بن خالد عن مالك من رواية ابن القاسم عنه ليس بخلاف لما
قبله من قوله في رواية عيسى عن ابن القاسم؛ لأن قوله: إني كنت لابست الناس
ووقعت بيني وبينهم ديون - دليل على أنه أراد بقوله من جاء يدعي قبلي حقا من
دينار إلى خمسة وعشرين دينارا العموم، بمنزلة ما لو قال: كل من جاء يدعي
قبلي حقا من دينار إلى خمسة وعشرين دينارا.
وقد رأيت لابن دحون أنه قال: هو
(10/461)
خلاف لما قبله، لا يلزم الورثة في هذه
المسألة على ما قبله غير إخراج خمسة وعشرين دينارا فيتحاص فيها كل من ادعى
خمسة وعشرين فأقل، وقوله بعيد جدا، لا إشكال عندي في أنه لا يجوز رد هذه
المسألة إلى التي قبلها.
ولو قال: إن التي قبلها ترد إليها لكان له وجه لما ذكرناه من الاحتمال
فيها.
وهذا الذي ذهبنا إليه من الفرق بين أن يقول من جاء يدعي قبلي من كذا إلى
كذا، وبين أن يقول كل من جاء يدعي قبلي من كذا إلى كذا قد نص عليه ابن حبيب
في الواضحة عن أصبغ، فلم يراع التسمية مع كل إلا أنه قصر ذلك على الثلث
بمنزلة ترك التسمية، مثل أن يقول: من ادعى علي حقا فاقضوه إياه، وذلك من
قصره إياه على الثلث خلاف لما في العتبية، إذ لم يقصر فيها شيئا من ذلك على
الثلث عم أو خص سمى العدد أو لم يسمه.
وإيجاب اليمين عليه في سماع محمد بن خالد يجري على الاختلاف في لحوق يمين
التهمة حسبما ذكرناه في مسألة رسم تأخير صلاة العشاء من سماع ابن القاسم.
وقد قيل: إن الخلاف في ذلك لا يدخل في هذه؛ لأن المصدق في تلك معين وفي هذه
غير معين، والقياس أن لا فرق بينهما؛ لأن المعنى يجمعهما، وهو اتهام الورثة
مع تصديق المتهم.
ولو نص المتوفى على تصديقهم دون يمين لسقطت عنهم اليمين قولا واحدا، والله
أعلم، وبالله التوفيق.
[: نكاح اليتيم بغير إذن وصيه]
ومن كتاب جاع فباع امرأته وسئل: عن يتيم له وصي واليتيم مصلح وقد بلغ الحلم
ومثله لو طلب ماله أعطيه لصلاحه، تزوج بغير إذن وليه، ثم فسد وقبحت حاله
بعد النكاح وقبل أن يدخل عليها، وسفه وصار ممن تجوز عليه الولاية فطلقها في
سفاهة ثم صالح أختانه على أن أخذ منهم أقل من نصف ما ساق إليها، وذلك بعلم
الوصي.
قال: لا يجوز أن يضع عنهم شيئا من نصف الصداق وإن أذن بذلك الوصي.
قيل له: فإن زعم
(10/462)
ختنه أنه قد دفع إليه أكثر من النصف وأنكر
هو ذلك؟
قال: يغرم ختنه نصف الصداق كاملا إلى وصيه وإن أقر له السفيه أنه قد اقتضاه
كله لم يبره ذلك وكان عليه غرمه مرة أخرى؛ لأنه لم يكن له أن يعطيه شيئا.
وأما نكاحه على ما ذكرت من صلاحه من غير إذن وليه فهو جائز، وهو مثل ما لو
أذن له وليه إذا كان يوم تزوج على ما ذكرت من حسن حاله.
قال محمد بن رشد: أجاز ابن القاسم نكاح اليتيم بغير إذن وصيه إذا كان في
تلك الحال رشيدا في أحواله، وهذا هو المعلوم من مذهبه المشهور من أقواله أن
الولاية الثابتة على اليتيم لا يعتبر بثبوتها إذا علم الرشد ولا بسقوطها
إذا علم السفه، خلاف للمشهور من مذهب مالك وعامة أصحابه أن المولى عليه
بوصي من قبل أب أو مقدم من قبل سلطان لا تجوز أفعاله وإن علم رشده حتى يطلق
من الولاية التي لزمته.
وقد روى زونان عن ابن القاسم مثل قول مالك، وروى ابن وهب عن مالك مثل قول
ابن القاسم.
وأما اليتيم الذي لم يوص به أبوه إلى أحد ولا قدم عليه السلطان وليا ولا
ناظرا ففي ذلك أربعة أقوال:
أحدها: أن أفعاله كلها بعد البلوغ جائزة نافذة رشيدا كان أو سفيها معلنا
بالسفه أو غير معلن به، اتصل سفهه من حيت بلوغه أو سفه بعد أن أنس منه
الرشد من غير تفصيل في شيء من ذلك، وهو قول مالك وكبراء أصحابه.
والثاني: أنه إن كان متصل السفه من حين بلوغه فلا يجوز شيء من أفعاله، وأما
إن سفه بعد أن أنس منه الرشد فأفعاله جائزة عليه ولازمة ما لم يكن بيعه بيع
سفه وخديعة بينة، مثل أن يبيع ثمن ألف دينار بمائة دينار وما أشبه ذلك، فلا
يجوز ذلك عليه ولا يتبع بالثمن إن أفسده من غير تفصيل بين أن يكون معلنا
بالسفه أو غير معلن به، وهو قول مطرف وابن الماجشون.
والثالث: أنه إن كان معلنا بالسفه فأفعاله غير جائزة، وإن لم يكن معلنا به
فأفعاله جائزة، من غير تفصيل بين أن يتصل سفهه أو لا يتصل، وهو قول أصبغ.
والرابع: أنه ينظر
(10/463)
إلى حاله يوم بيعه وابتياعه وما قضى به في
ماله، فإن كان رشيدا في أحواله جازت أفعاله كلها، وإن كان سفيها لم يجز
منها شيء من غير تفصيل بأن يتصل سفهه أو لا يتصل، وهو قول ابن القاسم.
واتفق جميعهم على أن أفعاله جائزة لا يرد منها شيء إذا جهلت حاله ولم يعلم
برشد ولا بسفه.
وكذلك اتفقوا أيضا أن على الإمام أن يولي عليه إذا ثبت عنده سفهه فخشي ذهاب
ماله، وبالله التوفيق لا شريك له وبه التوفيق.
[: بيع مال الغائب لغرمائه]
ومن كتاب الجواب وسألته: عن الرجل يغيب ببلد قريب الغيبة أو بعيد فيبيع
السلطان ماله لغرمائه، والغائب حي يعرف موضعه ولا يُعْرَفُ عَدَمُهُ وَلَا
مَلَاؤُهُ فيجد الرجل السلعة بعينها فيريد أخذها، هل يكون ذلك له؟
قال ابن القاسم: إن كانت غيبته غيبة قريبة الأيام اليسيرة التي ليس فيها
ضرر على الغرماء ولا يعرف ملاؤه في ذلك كتب إليه فيه وكشف عن أمره حتى يفلس
فيأخذ أصحاب السلع سلعهم، أو لا يفلس.
وإن كانت غيبته بعيدة ولا يعرف عدمه فيها ولا ملاؤه، أو يعرف عدمه ولا يدرى
أين هو أو لا يعرف موضعه، فهو بمنزلة المفلس يأخذ من وجد سلعته بعينها،
ويتحاص جميع غرمائه في ماله الذين حلت ديونهم والذين لم تحل جميعا.
وإن كانت غيبته بعيدة، إلا أنه يعرف ملاؤه فيها بموضعه الذي هو فيه لم يفلس
ولم يكن مفلسا، وقضي الغرماء الذين حلت ديونهم كما تعدى على مال الغائب
ويترك الآخرون إلى آجالهم، ومن وجد سلعته لم يكن له إليها سبيل. ورواها
أصبغ عن ابن القاسم،
(10/464)
وقال: هي حسنة إن شاء الله تعالى.
وفي آخرها غمز وكسر ولا يحملها القياس، وأشهب يخالفه فيها ويرى أن يفلس وإن
كان يعرف ملاؤه في غيبته، سألته عنها فقال لي: واحتج، قال لي: أرأيت رجلا
حاضرا بمصر وله مال بالأندلس لا يدرى ما حدث عليه، ألا يفلسوه؟
قال أصبغ: وذلك القياس عندي، وهو أعجب لي.
وقد قال في كتاب القضاء المحض: قول ابن القاسم أحب إلي استحسانا، قال:
والقياس قول أشهب.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة حسنة تكلم فيها على وجهين: أحدهما: بيع مال
الغائب لغرمائه، والثاني: تفليسه.
فأما بيع ماله لغرمائه فلا اختلاف في وجوب بيع ذلك لهم كما لو كان حاضرا،
إلا أنه يختلف هل يُستأنَى بذلك إن خشي أن يكون عليه دين لسواهم أم لا،
فقيل: إنه لا يستأنى به؛ لأن له ذمة، وهو قول مالك في رواية ابن وهب عنه في
بعض روايات المدونة، وظاهر قوله في هذه الرواية، وقيل: إنه يستأنى به ولا
يعجل بقضاء من حضر حتى يستبرأ أمره ويجتمع أهل دينه كالميت الذي لا ذمة له،
وهو قول ابن القاسم وغيره من الرواة في المدونة.
وهذا في الحاضر والقريب الغيبة، وأما البعيد الغيبة فلا اختلاف في وجوب
الاستيناء به إذا خشي أن يكون عليه دين.
وأما تفليسه حتى يقضى دين من لم يحل دينه ويكون من وجد سلعته أحق بها إذا
جهلت حاله فلا اختلاف في أنه لا يقضى بذلك في القريب الغيبة حتى يكتب في
أمره ويكشف عن حاله، ولا في أنه يقضى بذلك في البعيد الغيبة.
واختلف إن علم ملاؤه في بعد غيبته، فقيل: إنه يفلس، وقيل: إنه لا يفلس، على
القولين المذكورين في هذه الرواية.
وهذا الاختلاف إنما هو عندي فيما كان على مسيرة العشرة الأيام ونحوها، وأما
الغيبة البعيدة على مسيرة الشهر ونحوه وفي مثل مصر من الأندلس فلا اختلاف
في أنه يجب تفليسه فيها وإن عرف ملاؤه، وبالله التوفيق.
(10/465)
[مسألة: ليس له
أن يرجع إلى اليمين بعد أن يردها على المدعي]
مسألة وسئل: عن الرجل يدعي قبل الرجل حقا فيقول: احلف لي على أن ما ادعيت
عليك به ليس بحق وابرأ، فيقول المدعى عليه: بل احلف أنت وخذ، فإذا هم
المدعي أن يحلف بدا للمدعي عليه، وقال: لا أرضى بيمينك ولم أظن أنك تجترئ
على اليمين وما أشبه ذلك، وهل ذلك عند السلطان وغيره سواء؟
قال ابن القاسم: ليس للمدعى عليه أن يرجع، ولكن يحلف المدعي ويحق حقه على
ما أحب الآخر أو كره، قد رد عليه اليمين فليس له الرجوع فيها، وسواء كان
ذلك عند السلطان أو غيره إذا شهد عليه بذلك أو أقر به.
قال الإمام القاضي: هذه مسألة متكررة في هذا السماع من كتاب الدعوى والصلح،
ومثله في كتاب الديات من المدونة، ولا اختلاف أعلمه في أن ليس له أن يرجع
إلى اليمين بعد أن يردها على المدعي.
واختلف هل له أن يرجع إليها بعد أن نكل عنها ما لم يردها على المدعي، فقال:
ليس ذلك له، وهو ظاهر ما في الديات من المدونة، ورواية عيسى من ابن القاسم
في المدنية.
وقيل: ذلك له، وهو ظاهر قول ابن نافع في المدنية، والقولان يحتملان، وبالله
التوفيق.
[مسألة: المرأة يكون لها على زوجها الصداق
فيحيط بماله إلى أجل قريب أو بعيد]
مسألة وسمعته يسأل عن المرأة يكون لها على زوجها الصداق يحيط بماله إلى أجل
قريب أو بعيد، هل له أن يعتق أو يهب؟
قال ابن القاسم: لا، ليس ذلك له، وهو دين من الديون.
(10/466)
والدليل على ذلك أن المرأة أسوة الغرماء
إذا فلس الزوج أو مات، تضرب مع الغرماء بصداقها، فلما نزلت هذه المنزلة لم
يكن لزوجها أن يبطل دينها عليه.
قال محمد بن رشد: أما إذا دخل الرجل بزوجته فلا إشكال ولا اختلاف في أنه لا
يجوز له أن يهب ولا أن يعتق إذا كان الصداق الذي عليه يحيط بماله إلا أن
يدخل الاختلاف في ذلك من اختلافهم في وجوب إسقاط الزكاة به، وهو بعيد.
وأما إذا لم يدخل بزوجته فله أن يهب ويعتق إذا لم يحط بماله نصف صداقها؛
لأنه يملك إسقاط نصفه عن نفسه بالطلاق، وبالله التوفيق.
[: أقر له بعشرة دنانير فأتاه بدنانير ينقص كل
دينار ثلث أو ربع وقال هذا مالك]
ومن كتاب العتق وسئل: عن رجل أقر أن لرجل عليه عشرة دنانير نقدا، فأتاه
بدنانير ينقص كل دينار ثلث أو ربع، وقال: هذا مالك علي، أيقبل قوله؟
قال: نعم، يقبل قوله ويحلف إذا كان إنما هو بإقراره، وإنما النقصان بمنزلة
العدد، بمنزلة ما لو قال: ليس لك إلا خمسة أو ستة وادعى الآخر غير ذلك،
فالقول قول المقر.
وقد بين أيضا له النقصان في أول.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة بينة صحيحة لا إشكال فيها ولا لبس في شيء من
معانيها، وبالله التوفيق.
[: المبتوتة تكون في بيت بكراء فيفلس زوجها]
ومن كتاب باع شاة وسألته: عن المبتوتة تكون في بيت بكراء فيفلس زوجها، هل
هي أولى من الغرماء؟
قال ابن القاسم: إن كان زوجها قد غرم الكراء فهي أولى به من الغرماء، وإن
كان لم يؤد كانت أولى وكان عليها الكراء من مالها.
(10/467)
قال محمد بن رشد: قوله تكون في بيت بكراء،
يريد كراء لوجيبة معلومة تستغرق العدة، بدليل قوله: وإن لم يؤد كانت أولى
وكان عليها الكراء، إذ لو كان الكراء مشاهرة لكان أهل الدار أحق بدراهم.
وقوله: إن كان زوجها قد غرم الكراء فهي أولى به صحيح؛ لأنه إذا غرم الكراء
صار السكنى حقا من حقوقه، فوجب أن تكون المرأة أحق به من الغرماء، كما كانت
تكون أحق به من الورثة لو مات بعد أن بت طلاقها وهي ساكنة فيها، وكما كانت
تكون أحق به منهم في عدة الوفاة.
وقوله: إن الكراء يكون عليها من مالها إن كان الزوج لم يؤده قبل أن يفلس
صحيح، يريد: ولا تحاص به الغرماء إذ لم يجب لها قبل التفليس، وإنما يجب لها
في المستقبل.
وقوله هذا يدل على قياس قول ابن القاسم في المدنية في الذي يطلق امرأته
طلاقا بائنا ثم يموت: إن حق المرأة لا يسقط في السكنى إن كانت الدار للميت
أو كانت بكراء فنقد الكراء، ويسقط إن لم تكن الدار للميت؛ لأن القياس يوجب
أن تكون أحق من الغرماء في التفليس في الموضع الذي تكون فيه أحق من الورثة
في الموت.
ويجب في هذه المسألة إذا فلس الزوج قبل أن ينقد الكراء أن يحاص به الغرماء
على قياس قول ابن القاسم في كتاب طلاق السنة من المدونة: إن الكراء لا يسقط
عن الزوج بالموت إذا طلق ثم مات؛ لأنه إذا لم يسقط بالموت وكان دينا من
الديون يبدأ في الموت على الميراث وجب ألا يسقط في التفليس وأن يكون دينا
من الديون يحاص به الغرماء.
ويجب في هذه المسألة ألا تكون المرأة أحق بالسكنى وإن كان الزوج قد نقد
الكراء على قياس رواية ابن نافع عن مالك في كتاب طلاق السنة من أن السكن
الواجب بالطلاق يسقط بالموت، كان المسكن للميت أو لم يكن.
ولو طلقها ولا مسكن له فدفع إليها خراج عدتها ثم فلس لتخرج ذلك على قولين:
أحدهما: أن الغرماء أولى بذلك، والثاني: أنها هي أولى به منهم إن كان يوم
دفع ذلك إليها قائم الوجه.
وقد تكلمنا على وجه تخريج هذين القولين في رسم نقدها من سماع عيسى من كتاب
الرضاع فأغنى ذلك عن إعادته هاهنا، وبالله التوفيق.
(10/468)
[مسألة: يشهد
لامرأته في صحته بحق لها عليه ثم مكثت سنتين أو ثلاثا ثم فلس]
مسألة وسئل: عن الرجل يشهد لامرأته في صحته بحق لها عليه ثم مكثت سنتين أو
ثلاثا ثم فلس أتحاص الغرماء؟ قال: نعم إذا جاءت ببينة.
قال ابن القاسم: إذا قامت عليه البينة على إقراره قبل التفليس حاصت
الغرماء.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة على المشهور في المذهب من أن من أقر بدين
لوارث في صحته أن ذلك له في حياته وبعد وفاته، ويأتي فيها على قول ابن
كنانة والمخزومي وابن أبي حازم ومحمد بن مسلمة أن ذلك لا يكون له إلا في
حياته، ولا يكون له بعد وفاته إلا أن يكون لها أن تحاص بذلك الغرماء بعد
التفليس، وبالله التوفيق.
[: البينة على من ادعى واليمين على من أنكر]
من نوازل عيسى بن دينار وسئل عيسى: عن رجل كانت له دنانير أو دراهم أو شيء
مما يكال أو يوزن مما إذا غاب عليه لم يعرفه بعينه على رجل وعلى أبيه، فدفع
الأب ما عليه إلى ابنه ليدفعه إلى الغريم، فقال له: هذا ما لك على أبي، ثم
ادعى الغريم بعد ذلك أنه إنما قبضه من الابن قضاء عنه وأنكر ما قال الابن.
قال: القول ما قال الغريم مع يمينه، إلا أن يأتي الابن ببينة تشهد له أنه
قال له: هذا الحق على أبي.
قلت: فإن أتى بالبينة على أمر أبيه إياه أن يدفع ذلك عنه؟
قال: لا ينفعه ذلك حتى يأتي بالبينة على الدفع، كان على الأمر بينة أو لم
تكن.
قال عيسى: إلا أن تقوم البينة أن ذلك الشيء الذي قضى شيء أبيه.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأن الابن مدع فيما ذكر من أنه قضاه
الحق الذي كان له على أبيه، وقد أحكمت السنة أن البينة على من ادعى واليمين
على من أنكر، وبالله التوفيق.
(10/469)
[مسألة: يسلف
في ضحايا ليوتى بها في الأضحى فلا يأتيه بها إلا بعد ذلك]
مسألة وسئل: عن الرجل يقول لغريمه وقد حل حقه: إن عجلت لي كذا وكذا من حقي
فبقيته عنك موضوع إن عجلت ذلك لي نقدا الساعة أو إلى أجل يسميه، فعجل ذلك
له نقدا أو إلى أجل إلا الدرهم والنصف أو أكثر من ذلك يعجز عنه، هل تكون له
الوضيعة لازمة؟
فقال: ما أرى الوضيعة تلزمه إذا لم يعجل له جميع ذلك، وأرى الذي له الحق
على شرطه.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة يتحصل فيها أربعة أقوال:
أحدها: قوله في هذه الرواية وهو قول أصبغ في الواضحة، ومثله في آخر كتاب
الصلح من المدونة: أن الوضيعة لا تلزمه إلا أن يعجل له جميع ما شرط إلى
الأجل الذي سمى وهو أصح الأقوال.
والثاني: أن الوضيعة له لازمة بكل حال، ولا ينتفع صاحب الدين بشرطه، وهو
قول ابن الماجشون، ونحوه ما في سماع أشهب من كتاب الضحايا في الذي يسلف في
ضحايا ليوتى بها في الأضحى فلا يأتيه بها المسلم إليه إلا بعد ذلك أنه
يلزمه أخذها ولا خيار له في تركها، وما في السلم من المدونة في السلم ينعقد
على تعجيل رأس المال فيتأخر النقد إلى حلول الأجل بهروب من المسلم وهو عرض
أن السلم لازم للمسلم إليه، ولا خيار له فيه.
والثالث: أن الوضيعة لا تلزمه إلا أن ينقص الشيء اليسير من شرطه، وهو على
ما روى مطرف عن مالك في الذي يسلف في الضحايا على أن يؤتى بها في الأضحى
فلا يؤتى بها في الأضحى أنها لا تلزمه إلا أن يأتيه بها بقرب الأضحى بعد
اليوم واليومين.
والرابع: أنه يلزمه من الوضيعة بقدر ما عجل له من حقه، وهذا يأتي على ما في
سماع عيسى من كتاب الصدقات والهبات، وبالله التوفيق.
(10/470)
[مسألة:
السلطان إذ باع مال الميت فقضى بعض غرمائه وبقيتهم حضور]
مسألة وسئل: عن الرجل يكون له على الرجل الذكر الحق فلا يقوم عليه حتى يموت
الذي عليه الحق، فاقتسم ورثته ماله وهذا حاضر ينظر، ثم قام بعد بذكر الحق.
قال: فلا شيء له إلا أن يكون له عذر في تركه القيام أو يكون لهم سلطان
يمتنعون به أو نحو هذا مما يعذر به فهو على حقه أبدا وإن طال زمانه إذا كان
له عذر من بعض ما وصفنا؛ لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: «لا يبطل حق امرئ مسلم وإن قدم» .
قال الإمام القاضي: هذا خلاف قول سحنون في نوازله من هذا الكتاب: إن
السلطان إذ باع مال الميت فقضى بعض غرمائه وبقيتهم حضور ثم قاموا عليهم أن
لهم الدخول عليهم، ولا يضرهم علمهم بموت صاحبهم وأن ماله بيع لمن قام طالبا
لحقه من غرمائه، وفرق بين ذلك وبين بيع مال المفلس يباع لبعض غرمائه
وبقيتهم حضور لا يقومون، إن المفلس له ذمة تتبع، فيحمل سكوتهم على أنهم
رضوا باتباع ذمته، والميت لا ذمة له فيكون القول قولهم إنهم إنما سكتوا غير
راضين بترك حقوقهم، وقد كان شيخنا الفقيه أبو جعفر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
- يقول: ليس بين المسألتين فرق بين، ولو قيل في هذا الفرق بالعكس لكان
راتبه.
فتحصل في المسألة على ما كان يذهب إليه أربعة أقوال: ألا قيام في
المسألتين، والقيام فيهما جميعا، والفرق بينهما على ما في نوازل سحنون،
والفرق بينهما على عكسه حسبما ذكرناه عن الشيخ، وبالله التوفيق.
[مسألة: السفيه يبيع قبل أن يولى عليه]
مسألة وسئل عيسى: عن السفيه يبيع قبل أن يولى عليه، هل يجوز بيعه؟
قال: أما ابن كنانة وابن نافع وجميع أصحاب مالك فيقولون بيعه قبل أن يولى
عليه جائز إلا ابن القاسم وحده فإنه كان يقول
(10/471)
بيعه وقضاؤه في ماله قبل أن يولي عليه سواء
لا يجوز؛ لأنه لم يزل في ولاية منذ كان وإن لم يكن له ولي؛ لأن السلطان ولي
من لا ولي له، فإذا كان في ولاية السلطان حتى ولى السلطان عليه وليا يتولاه
ويقوم به، جعل عليه من أمره مثل الذي كان إليه منه.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول فيها في رسم جاع من سماع عيسى،
فلا وجه لإعادته، وبالله التوفيق.
[: رجل فلس فأدرك رجل ماله بعينه]
من سماع يحيى من ابن القاسم من كتاب الأقضية وسئل عبد الله بن وهب: عن
الرجل يفلس فيجد أحد الغرماء متاعه بعينه بيد المفلس فيريد أخذه ويريد
الغريم دفعه إليه، فيقول الغرماء: لا ندفعه إليه بل نحبسه عليك لما نرجو
فيه من الزيادة وندفع إلى رب السلعة حقه الذي له عليك، فيقول المفلس: إني
أخاف أن يهلك قبل أن يباع علي فيبقى حق رب السلعة دينا علي ولم ننتفع بالذي
نرجو من الزيادة فيه، فإن حبستموه علي فهو لكم بالثمن وأنا بريء من ضمانه،
فيقولون: بل ضمانه منك وزيادته لك، ونحن أحق بحبسه عليك لما نرجو من زيادته
لك فيما نقص من حقنا الذي عليك، فيدفعوا (كذا) إلى الغريم حقه ثم تهلك
السلعة قبل أن تباع.
قال: أرى ضمانها من الغرماء يقاصهم بها المفلس فيما لهم عليه، فإن بيعت
وسلمت كان فضلها للمفلس.
قال محمد بن رشد: الأصل في هذه المسألة قول النبي عليه
(10/472)
السلام: «أيما رجل فلس فأدرك رجل ماله
بعينه فهو أحق به من غيره» فاتفق مالك وأصحابه لهذا الحديث وما كان في
معناه: على أن البائع أحق بسلعته التي باع في التفليس من الغرماء بجميع
الثمن الذي باعها به، واختلفوا إن أراد الغرماء أن يأخذوها لفضل يرجونه
فيها ويئول إليه ثمنها على ثلاثة أقوال:
أحدها: أن ذلك لهم شاء المفلس أو أبى. فعلى هذا القول وهو قول ابن القاسم
في سماع أصبغ وروايته عن مالك في المدونة وفي رسم طلق من سماع ابن القاسم
من هذا الكتاب في بعض الروايات تكون مصيبة السلعة إن تلفت من المفلس
والنقصان عليه إن بيعت بأقل من الثمن، كما تكون الزيادة له إن بيعت بأكثر
من الثمن.
فإن كانوا أدوا الثمن إلى البائع من مال الغريم المفلس تحاصوا في ثمنها قل
أو كثر، وإن كانوا أدوه من أموالهم فبيعت بأكثر من الثمن أخذ الثمن من أداه
منهم أو جميعهم إن كانوا أدوه جميعا وتحاصوا في الفضل مع جملة مال الميت،
وإن بيعت بأقل من الثمن أخذه من أداه منهم واتبع الغريم بالبقية فحاص به
الغرماء. وإن تلفت اتبعوا الغريم بجميع الثمن الذي أدوه فيها وحاصوا به
الغرماء؛ لأنه كان السلف منهم له.
والثاني: أن ذلك لا يكون لهم إلا برضا المفلس، فعلى هذا القول وهو قول ابن
وهب في هذه الرواية إن رضي كانت المصيبة منه والنقصان عليه كما تكون
الزيادة له حسبما مضى تفسيره في القول الأول، وإن كان لم يرض كان الربح
والزيادة [لهم حسبما مضى تفسيره في القول الأول، وكانت المصيبة والنقصان
منهم.
فإن كانوا أدوا الثمن من أموالهم خسروه إن تلف، وخسروا النقصان إن بيعت
بأقل من الثمن الذي أدوه فيها.
وإن كانوا أدوه من مال المفلس فتلفت السلعة] حوسبوا بجميع الثمن فيما لهم
عليه من الديون، فكان ذلك قصاصا منها، وتحاصوا في بقية مال المفلس بما بقي
من ديونهم، وهو معنى قوله في هذه الرواية: أرى ضمانها من الغرماء يقاصهم
بها المفلس فيما لهم عليه. وإن
(10/473)
كانوا أدوه من مال المفلس فبيعت السلعة
بنقصان حوسبوا أيضا بما انتقص من ثمنها فيما لهم عليه من الديون فكان ذلك
قصاصا منها.
والقول الثالث: أن ذلك لا يكون لهم إلا أن يزيدوا زيادة يحطونها عن المشتري
المفلس من دينهم، وتكون السلعة لهم نماؤها وعليهم بوارها، وهو قول أشهب،
وبالله التوفيق.
[: إذا تقاضى الآخرين ادعى كل واحد منهم أنه هو
الذي قضاه العشرة]
ومن كتاب المكاتب وسألته: عن الرجل تكون له ثلاثون دينارا على ثلاثة نفر
على كل رجل عشرة، فيقتضي من أحدهم العشرة التي قبله فإذا تقاضى الآخرين
ادعى كل واحد منهم أنه هو الذي قضاه العشرة دنانير فيشك المقتضي.
قال: إن لم ينص الذي اقتضاها منه باسمه حلف الغرماء كلهم وبرءوا من
الثلاثين دينارا.
قال الإمام القاضي: وهذا كما قال؛ لأنه قد أقر أنه قبض العشرة من أحدهم،
فالقول قول كل واحد منهم مع يمينه أنه هو الذي قبض منه، ولا اختلاف في هذا
عندي إذا جاءوا مجتمعين؛ لأنه يحقق الدعوى على اثنين منهم أنهما كاذبان،
فلا بد من يمين كل واحد منهم، ولو جاءوا مفترقين لجرى له الأمر في إيجاب
اليمين على كل واحد منهم على الاختلاف في لحوق يمين التهمة.
ولو جاءوا مجتمعين فنكلوا عن اليمين لوجب على أصولهم أن يحلف هو ما يعلم من
دفعها إليه منهم، فلو حلف كانت العشرة بين جميعهم فأدى كل واحد منهم سبعة
إلا ثلثا، وإن نكل عن اليمين لم يكن له شيء.
وإن حلف واحد منهم ونكل اثنان برئ من حلف ورجعت اليمين على المقتضي، فإن
حلف أدى كل واحد من الناكلين سبعة إلا ثلثا، وإن نكل لم يكن له شيء.
وإن حلف اثنان منهم ونكل واحد برئ الحالفان ورجعت اليمين على المقتضي، فإن
حلف أدى الناكل سبعة
(10/474)
إلا ثلثا، وإن نكل لم يكن له شيء.
ولو جاءوا مفترقين فنكل كل واحد منهم عن اليمين على القول بإيجابها عليه
لغرم العشرة بعد يمين المقتضي على الاختلاف في رد يمين التهمة، ولو جاءوا
مجتمعين فحلفوا له ثم تذكر ممن قبض لم ينفعه ذلك ولا كان له طلب على أحد
منهم؛ لأنه حكم قد نفذ.
ولو وجد بينة لم يعلم بها بالذي قبض منه كان له القيام بها، فإن كان علم
بها وحلفهم كان الحكم على قولين: أحدهما: أنه لا قيام له وهو قول ابن
القاسم، والثاني: أن له القيام وهو قول مالك في رواية أشهب من هذا الكتاب.
[مسألة: ليس للغرماء أن ينتزعوا مال المدبر]
مسألة قال يحيى: قلت له: فإن تصدق رجل على رجل مفلس بدنانير يؤديها في دينه
فلم يقبل وقال الغرماء: نحن نقبل ذلك عليك فلا ينبغي لك أن تضر بنا في ترك
ما تصدق به عليك.
قال: لا يجبر على أخذ الصدقة؛ لأنه يقول: لا ألزم نفسي مذمة ولا أوجب علي
منة وسيرزقني الله فأؤدي إن شاء الله.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة قد أغنى ابن القاسم عن القول فيها بنصه
على العلة فيها.
ولو قبض الهبة على أنه بالخيار في قبولها وردها فأراد ردها، وقال الغرماء:
نحن نقبلها - لتخرج ذلك على قولين: أحدهما: أن ذلك للغرماء وهو الذي يأتي
على ما في رسم أخذ يشرب خمرا من سماع ابن القاسم من كتاب الحبس، والثاني:
أن ذلك ليس لهم وهو الذي يأتي على ما في كتاب التفليس من المدونة في أنه
ليس للغرماء أن ينتزعوا مال المدبر، فتدبر ذلك، والمسألة متكررة في هذا
الرسم من هذا السماع من كتاب الهبات والصدقات، وبالله التوفيق.
[مسألة: يقر بوطء أمة رجل ويدعي أنه اشتراها
منه وينكرسيدها أن يكون باعها منه]
مسألة وسئل يحيى عن الرجل يقول للرجل إن لي عليك مائتي
(10/475)
دينار وقد قضيتني منها مائة فاقضني المائة
الباقية، فقال الرجل: ما لك علي شيء ولا كان لك عندي شيء قط، ولكنك مقر
بأنك قبضت مني مائة دينار، فأثبت أنها كانت لك علي من دين، وإلا فارددها
علي. أفترى يرد عليه إذا لم يثبت أنها كانت له دينا عليه؟ أم لا ترى ذلك
عليه؟
قال: يقال لهذا المقر له: بأي شيء دفعت إليه ما قال إنه قبضه منك؟
فإن قال: دفعت إليه وديعة وما كان له عندي شيء قط حلف على قوله بالله أنه
دفعها إليه وديعة أو سلفا إن ادعاه، ثم يبرأ من الذي ادعاه عليه بعد أن
يحلف ما كان له عليه شيء قط ويأخذ المائة.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة جارية على أصل اختلف فيه قول ابن القاسم في غير
ما مسألة، من ذلك قوله في الرجل يقر بوطء أمة رجل ويدعي أنه اشتراها منه
وينكر سيدها أن يكون باعها منه، فالمشهور من قول ابن القاسم في المدونة
وغيرها أنه يحد إن لم يقم بينة على الشراء، وروى عيسى عنه في رسم استأذن من
سماع عيسى من كتاب الأقضية أنه يدرأ عنه الحد بالشبهة، وهو الذي يأتي على
قول أشهب أنه لا يؤخذ أحد بأكثر مما أقر به على نفسه، وهو لم يقر بزنا
وإنما أقر بوطء من يحل له على زعمه.
فجواب يحيى بن يحيى في هذه المسألة على المشهور من مذهب ابن القاسم؛ لأن
مدعي المائتين يقر أنه قبض من المدعى عليه مائة ويدعي أنه قبضها من حق واجب
له، فعليه أن يقيم البينة على ذلك، فإن عجز عن إقامة البينة حلف المدعى
عليه أنه ما له عليه حق وأخذ منه المائة التي أقر أنه قبضها منه.
قال في الرواية بعد يمينه على ما يدعي من أنه دفعها إليه وديعة أو سلفا،
واعترض ذلك ابن دحون، فقال: لا يلزمه أن يحلف أنها وديعة أو سلف؛ لأن
القابض قد أقر بالقبض وادعى أنه قبضها من دين له فليس على البائع أكثر من
اليمين أنه ليس له عليه شيء، وليس باعتراض بين؛ لأنه لم يقر أنه قبض المائة
إلا من حق واجب له، فإذا لم يصدق في ذلك وكان مدعيا فيه وجب أن يكون القول
قول المدعى عليه إنه دفعها إليه
(10/476)
وديعة أو سلفا.
ويأتي في هذه المسألة على قول ابن القاسم الثاني وعلى قول أشهب وأصله في
أنه لا يؤخذ أحد بأكثر مما يقر به على نفسه أن يحلفا جميعا ولا يكون على
واحد منهما شيء، يحلف المدعى عليه المائتين أنه ما له عليه حق، ويحلف
المدعي أنه ما قبض المائة التي أقر بقبضها إلا من المائتين التي كانت له
عليه على ما زعم.
ولو أقر أنه قبض منه مائة ولم يبين فلما طلبها منه وادعى أنه أسلفه إياها
أو أودعه إياها قال: إنما قبضتها من مائتين كانت لي عليه دينا لم يصدق في
ذلك على أصولهم قولا واحدا، وبالله التوفيق.
[: باع متاعا فأفلس الذي ابتاعه ولم يقبض الذي
باعه من ثمنه شيئا]
ومن سماع سحنون وسؤاله ابن القاسم وأشهب قال سحنون: سألت أشهب عن قوم
اكتروا من جمال ودفعوا إليه دنانيرهم ثم أفلس الجمال قبل أن يركبوا ثم أدرك
رجل منهم دنانيره في يده بعينها يشهد له عليها هل يكون أحق بها؟
قال: لا، وليس هذا مثل السلع.
قلت: فإن كانوا قد أخذوا عليه حميلا ثم دفع القوم إلى الجمال إلا رجلا منهم
واحدا دفع إلى الحميل، ثم فلس والمال في يد الحميل، لمن هو؟
قال: إن كان الجمال لم يأمر الدافع بالدفع إلى الحميل بالمال فإن الدافع لا
يدخل عليه أصحابه، وإن كان الجمال أمر الدافع بالدفع فالمال الذي بيد
الحميل للغرماءكلهم.
قال محمد بن رشد: قول أشهب هذا إن المكتري إذا فلس المكري لا يكون أحق
بدنانيره وإن أدركها قائمة بيد المكري يشهد له أنها دنانيره بعينها، هو مثل
قوله في كتاب المأذون له بالتجارة من المدونة خلاف مذهب ابن القاسم وروايته
عن مالك وعامة أصحاب مالك في أن الرجل أحق بالعين والعرض في الفلس كان
العين والعرض من بيع أو قرض، وخلاف ما ذهب إليه ابن المواز من أنه أحق
بالعين والعرض إذا
(10/477)
كانا جميعا من بيع، وأسوة الغرماء فيهما
جميعا إذا كانا من قرض.
والاختلاف الحاصل بين ابن القاسم وأشهب في العين هل يكون صاحبه أحق به من
الغرماء في الفلس جار على اختلافهم في العين هل يتعين أم لا، والصحيح قول
ابن القاسم وروايته عن مالك أنه أحق في الفلس بالعرض والعين كانا من بيع أو
قرض، بدليل قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أيما رجل
أفلس فأدرك رجل ماله بعينه فهو أحق به من غيره» ؛ لأنه - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عم بقوله «فأدرك رجل ماله» ، إذ لم يخص فيه عينا من
عرض ولا قرضا ولا بيعا.
ووجه ما ذهب إليه ابن المواز: قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «أيما رجل باع متاعا فأفلس الذي ابتاعه ولم يقبض الذي باعه من
ثمنه شيئا فهو أحق به من غيره» الحديث؛ لأنه جعل هذا الحديث مخصصا لعموم
الحديث الأول ومبينا له في أن المراد به البيع دون القرض، وهو بعيد؛ لأن
الخاص لا يحمل على التخصيص للعام إلا إذا كان معارضا له.
ووجه قول أشهب أن العين لا يتعين، وهو أبعد الثلاثة الأقوال.
وأما تفرقته بين أن يدفع المكتري الدنانير إلى الحميل بأمر الجمال أو بغير
أمره، فهي صحيحة على أصله في أن العين لا يتعين؛ لأن قبض الحميل بأمر
الجمال كقبض الجمال؛ إذ هو وكيل له فصارت يده كيده..
وإذا دفع إليه بغير أمره فليس بوكيل له، وإنما هو وكيل للدافع، فوجب أن
تكون يده كيده وأن يكون أحق بما في يده كالرهن في الموت والفلس قولا واحدا،
وبالله التوفيق.
[مسألة: المتكاري أولى بالإبل]
مسألة وسئل ابن القاسم: عن الرجل يكتري كراء مضمونا إلى مكة ذاهبا وراجعا
فإذا أتى مكة نزل عن بعض الإبل التي كانت تحته وأخذ في حجه وخرجت الإبل إلى
الرعي ثم فلس الجمال، هل
(10/478)
يكون أولى بها أم تراها إذا خرجت إلى الرعي
خروجا من يده فيكون أسوة الغرماء؟ قال: المتكاري أولى بالإبل.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد غمزها محمد بن المواز، وقال: إنما يجب أن
يكونوا أولى بالإبل إذا كان الكراء في معين، وقد أجرى أصحاب مالك المعين
والمضمون على حكم واحد أنه أولى بما تحته. وقد علم أن الجمال يقبض جماله في
كل ليلة ويرعاها ويتصرف فيها.
والذي ذهب إليه محمد بن المواز من التفرقة في هذا المعنى بين الكراء
المضمون والمعين وهو ظاهر قول غير ابن القاسم في كتاب الرواحل والدواب من
المدونة ليس الراحلة بعينها مثل المضمون، وقد مضى الكلام على هذا المعنى
مستوفى في آخر سماع ابن القاسم من كتاب الرواحل والدواب، فلا معنى لإعادته،
ومضى في رسم القبائل من سماع ابن القاسم من هذا الكتاب الكلام على طرف منه.
[مسألة: أقر بدين من غير قرض وادعى قضاءه]
مسألة وقال في الرجل، يقول: كان لفلان علي دينار فتقاضاه مني أسوأ التقاضي
فلا جزي خيرا، فيقول المقر له: ما تقاضيت شيئا.
قال: أرى الدين على المقر، وليس هو بمنزلة الذي يقر على وجه الشكر.
قال محمد بن رشد: قوله في هذه المسألة: وليس هو بمنزلة الذي يقر على وجه
الشكر، يريد: أنه ليس بمنزلة الذي يقر بالسلف على وجه الشكر ويدعي القضاء.
وقد مضى في رسم يوصي من سماع عيسى الفرق بين الذي يقر بالسلف على وجه الشكر
ويدعي القضاء وبين الذي يقر بالاقتضاء على وجه الشكر ويدعي أنه اقتضى حقا
كان له.
ولو أقر بدين من غير قرض وادعى قضاءه لم يصدق، وروى ذلك ابن أبي أويس عن
مالك، قال: قال مالك، في الرجل يقول: كان لفلان علي ألف دينار فقضيته، قال
مالك: هو لها ضامن حتى يأتي بالبينة أنه قد قضاه إياها، وسواء عندي كان
(10/479)
إقراره بذلك على شكر أو على غير شكر، إذ
ليس بموضع شكر على ما مضى القول فيه في رسم يوصي من سماع عيسى، وبالله
التوفيق.
[مسألة: الصحة تدفع التهمة]
مسألة وقال في الرجل يقر في مرضه لبعض من يتهم عليه بدين من وارث أو غيره
ممن لو مات لم يكن له، فأوصى بذلك ثم صح بعد ذلك صحة بينة ثم مرض فمات،
فذلك الدين ثابت عليه يؤخذ من رأس ماله ويحاص به الغرماء المعروفين الذين
لهم البينات.
قال الإمام القاضي: هذا كما قال: إن ذلك يكون من رأس ماله؛ لأن الصحة تدفع
التهمة، فسواء أقر له وهو صحيح أو أقر له وهو مريض ثم صح.
وقوله: إنه يحاص به الغرماء المعروفين الذين لهم البينات، معناه: إذا كان
الدين الذي للأجنبيين محدثا بعد الإقرار، وبالله التوفيق.
[مسألة: السفيه الذي يموت أبوه ولا يوصي به إلى
أحد فيبيع متاعه أو يتلفه]
مسألة وسئل: عن السفيه الذي يموت أبوه ولا يوصي به إلى أحد أو مات وصي أبيه
ولم يوص به إلى غيره، فيبيع متاعه أو يتلفه ولا ولي له بأمر السلطان ولا
وصي له فيليان ماله، أترى ما باع من ماله جائزا لمن اشتراه منه؟
قال ابن القاسم: إذا كان معروفا بالسفه وهو يعرف بالتبذير فباع شيئا لم يجز
اشتراؤه لمن اشتراه ورأيته مفسوخا وإن طال زمانه ولا أرى أن يعدى عليه برأس
ماله ولا غيره، وهو كمن هو في الولاية؛ لأن حاله مسخوطة فلا أرى أن يجوز من
أمره شيء، وذلك رأي من أرضى من أهل العلم والذي آخذ به.
قلت له: إن قوما زعموا أن كل ما باع أو بذر من ماله
(10/480)
وهو لا وصي له ولا ولي بأمر القاضي يرد ذلك
عليه أنه جائز، قال: لا أرى ذلك له ولم أسمعه ممن أرتضيه، وهذا مما لا
ينبغي له أن يقوله ولا يجوزه، وأرى أن يفسخ عنه كل ما باع أو بذر إذا كان
حاله على ما أخبرتك.
قيل: فإن كان ممن لا يعرف بالتبذير ولا بالخير ولا بالشر إلا أنه يشرب
الخمر وهو في ذلك ربما أحسن النظر في ماله، أترى أن بيعه جائز؟
قال: لا أرى مثل هذا جائز الأمر إذا وقع لعله لا يرد فعله إذا لم يكن مولى
عليه، وقد يموت الرجل فجأة ولا يوصي ويموت وصيه ولا يوصى به، فإن السلطان
وصي من لا وصي له، وقد يغفل القاضي ولا يولي عليه، فلا يجوز لذلك بيع
السفيه، ولا يجوز بيعه إذا كانت حاله حالا يسخطه، وقد قال الله تعالى:
{وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ
آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ}
[النساء: 6] ، فأرى أن يرد كل ما بذر من ماله ولا يعدى عليه في شيء؛ لأنه
ممن وجبت عليه الولاية، إلا أن يجد الرجل ماله بعينه فيكون أحق به منه،
وليس يخرجه من حال السفه وإن لم يكن له ولي إلا حال الرشد والصلاح؛ لأنه
ممن وجب عليه الولاية فلا أرى بيعه جائزا.
قال الإمام القاضي: هذه مسألة قد تقدمت والقول فيها مستوفى في رسم جاع من
سماع عيسى، ومضت أيضا في نوازله فلا معنى لإعادة القول في ذلك.
(10/481)
[مسألة: البكر
أفعالها لا تجوز حتى تدخل بيتها ويرضى حالها]
مسألة قلت له في البكر تأخذ مبلغها الذي يجوز لها القضاء فيه في مالها،
أرأيت إذا بلغت ثلاثين سنة أتراها جائزة الأمر في مالها؟
فقال: لا أراها جائزة القضاء في مالها وإن تزوجت وإن مات عنها أبوها وإن
بلغت ما ذكرت حتى تدخل بيتها ويرضى حالها، كذلك قال لي مالك.
قلت: فابنة الخمسين والستين وقد وقفت عن الأزواج أتراها بمنزلة التي ذكرت؟
قال ابن القاسم: إذا عنست كما ذكرت وكان لا بأس بنظرها جاز قضاؤها في
مالها، وإن كانت على غير ذلك لم يجز ذلك.
قال محمد بن رشد: ساوى في هذه الرواية في البكر بين أن تكون ذات أب أو وصي
أو يتيمة مهملة في أن أفعالها لا تجوز حتى تدخل بيتها ويرضى حالها، يريد:
بأن يشهد العدول على صلاح أمرها، فأفعالهما جميعا على هذه الرواية قبل أن
يتزوجهما ويدخل بهما زوجهما ما لم تعنسا مردودة وإن علم رشدهما ما لم يحكم
لهما به.
وبعد أن تعنسا ببلوغ الخمسين سنة أو الستين سنة أو تتزوجا ويدخل بهما
زوجهما مردودة إلا أن يعلم رشدهما وإن لم يحكم لهما به، هذا الظاهر من قول
ابن القاسم في هذه الرواية؛ لأنه قال فيها: إنها إذا عنست وكان لا بأس
بنظرها جاز قضاؤها في مالها.
فالظاهر من قوله أنه لم يجز قضاؤها في مالها بعد التعنيس إلا أن يعلم حسن
نظرها، فهما جميعا على هذه الرواية بدخول أزواجهما بهما أو بتعنيسهما قبله
ببلوغ الخمسين سنة أو الستين محمولتان على السفه ما لم يعلم رشدهما، وفيما
قبل ذلك لا تجوز أفعالهما وإن علم رشدهما ما لم يحكم السلطان لهما بالرشد
أو يرشدهما الأب إن كانت ذات أب.
وقد تئول على ابن القاسم في هذه الرواية أنها إذا عنست وهي بكر
(10/482)
كانت محمولة على الرشد وجازت أفعالها إلا
أن يعلم سفهها، وهو خلاف ما بيناه من ظاهرها.
وقد اختلف في هاتين المسألتين اختلافا كثيرا، فقيل في ذات الأب: إنها تخرج
بالحيض من ولاية أبيها، وقيل: إنها لا تخرج به من ولايته حتى تتزوج ويدخل
بها زوجها ويمر بها بعد دخول زوجها بها العام ونحوه، وقيل: حتى يمر بها
بعده العامان، وقيل: حتى يمر بها بعده سبعة أعوام، وقيل: إنها لا تخرج من
ولايته وإن طالت إقامتها مع زوجها حتى يشهد العدول على صلاح حالها، وقيل:
إنها تخرج من ولايته إذا عنست وإن لم يدخل بها زوجها.
واختلف في حد تعنيسها فقيل: أربعون عاما، وقيل: من الخمسين إلى الستين،
وقيل: إن أفعالها جائزة بعد البلوغ، وقيل: إنها لا تجوز حتى تتزوج ويدخل
بها زوجها ويمر بها بعد دخوله بها العام ونحوه، وقيل: العامين ونحوهما،
وقيل: الثلاثة الأعوام ونحوها، وقيل: إنها لا تخرج من الولاية وإن تزوجت
ودخل بها زوجها حتى يشهد العدول على صلاح أمرها، وهو الظاهر من هذه الرواية
على ما بيناه، وقيل: إنها تجوز إذا عنست وإن لم تتزوج.
واختلف في حد تعنيسها من الثلاثين سنة ومما دون الثلاثين إلى الخمسين
والستين، وهو حد انقطاع المحيض عنها.
فهذه ستة أقوال، ويتخرج فيها قول سابع أيضا وهو أن تجوز أفعالها بمرور سبعة
أعوام من دخول زوجها بها.
والمشهور في البكر ذات الأب أنها لا تخرج من ولاية أبيها ولا تجوز أفعالها
وإن تزوجت حتى يشهد العدول على صلاح أمرها.
والذي جرى به العمل عندنا أن تكون أفعالها جائزة إذا مرت سبعة أعوام أو
نحوها من دخول زوجها بها على رواية منسوبة إلى ابن القاسم، والمشهور في
البكر اليتيمة المهملة أن تكون أفعالها جائزة إذا عنست أو مضى لدخول زوجها
بها العام ونحوه، وهذا الذي جرى به العمل.
فإن عنست في بيت زوجها جازت أفعالها باتفاق إذا علم رشدها أو جهل حالها،
وعلى اختلاف إذا علم سفهها.
وإذا مات الأب فإن عنست في بيت زوجها جازت أفعالها باتفاق إن علم رشدها أو
جهل حالها، وردت إن علم سفهها.
هذا الذي أعتقده في هذه المسألة على منهاج قولهم، وبالله التوفيق.
(10/483)
[: ضعيف العقل
تزوج فأراد وليه أن يغير ذلك]
من نوازل سحنون قال سحنون، في البكر تعطي زوجها بعض مالها وذلك قبل الدخول
بها ليملكها أمرها أو تباريه بشيء من مالها، فقال: إن كان لها أب أو وصي
فلا يجوز لها أن تعطيه شيئا من مالها قبل البناء؛ لأنها محجور عليها، ويلزم
الزوج الطلاق ويرد عليها ما أخذ منها.
ولو كانت البكر يتيمة وكانت لا أب لها ولا وصي حتى لا تكون محجورا عليها في
مالها جاز ذلك للزوج ولم يرد ما أخذ منها؛ لأنها عندي بمنزلة السفيه الذي
لا وصي له أن أموره كلها جائزة عليه [بياعاته] وأشريته وهبته وصدقته ما لم
يحجر عليه، فإذا حجر لم يجز شيء مما صنع، لا بيعه ولا شراؤه ولا هبته [ولا
صدقته] ولا أعطايته، فكذلك البكر في عطيتها زوجها ومخالعتها بمالها جائز
عليها إن كانت يتيمة ولم تكن محجورا عليها، فإن كان لها أب أو وصي حتى تكون
محجورا عليها لم يجز لها شيء مما صنعت وكان مردودا إليها ولزم الزوج
الطلاق.
قال سحنون: ومما يدل على ذلك أن مالكا سئل: عن رجل ضعيف العقل تزوج فأراد
وليه أن يغير ذلك، قال: إن كان مُوَلَّى عليه لم أر نكاحه جائزا فإن كان
غير ذلك فهو جائز.
قال محمد بن رشد: قوله: إن كان لها أب أو وصي فلا يجوز لها أن تعطيه شيئا
من مالها قبل البناء - فيه نظر، إذ لا فرق في ذلك بين قبل البناء وبعده [في
المهملة ولا في ذات الأب والوصي؛ لأن ذات الوصي لا تخرج من ولاية الوصي إلا
بإثبات الرشد، وذات الأب لا تخرج من ولاية
(10/484)
الأب بنفس البناء دون أن تمضي مدة ما عند
أحد من العلماء.
فإن خالعت ذات الوصي زوجها دون إذن الوصي قبل البناء أو بعده] رد عليها ما
أخذ منها ومضى الطلاق عليه.
وإن خالعت ذات الأب زوجها دون إذن أبيها قبل البناء أو بعده بمدة يسيرة رد
عليها ما أخذ منها ومضى الطلاق عليه، وإن كان بعده بمدة كثيرة جرى الأمر
على ما ذكرناه من الاختلاف قبل هذا في آخر سماع سحنون.
واختلف فيما حلفت به أو نذرته من صدقة مالها هل يلزمها ذلك إذا ملكت أمر
نفسها أم لا؟ على قولين مرويين عن مالك: أحدهما: في سماع ابن القاسم من
كتاب النذور، والثاني: في سماعه أيضا من كتاب النكاح، وقد مضى بيان ذلك
هنالك.
وأما اليتيمة البكر المهملة دون أب ولا وصي فالمشهور أن خلعها لا يجوز ولا
شيء من أفعالها، وهو نص قول أصبغ في نوازله من هذا الكتاب ومن كتاب التخيير
والتمليك.
وذهب سحنون هاهنا إلى أن خلعها يجوز وكذلك سائر أفعالها قياسا على السفيه
اليتيم الذي لا وصي له.
فعلى قوله تجوز أفعالها وإن كانت سفيهة معلومة السفه، وهو شذوذ من القول لم
يتابعه عليه أحد من أصحاب مالك، وأجمع أصحاب مالك كلهم حاشا ابن القاسم على
أن أفعال السفيه جائزة إذا لم يكن في ولاية، وقد روى ابن وهب عن مالك أن
أفعاله لا تجوز مثل قول ابن القاسم، وبالله التوفيق.
[مسألة: أقر على نفسه في مرضه أن لفلان علي جل
المائة]
مسألة وسئل: عن رجل أقر على نفسه في مرضه أن لِفُلَانٍ عَلَيَّ جُلَّ
المائةِ أو عظم المائة] أو قرب المائة أو أكثر المائة أو نحو المائة أو شبه
المائة أو مائةً إلا قليلا، أو مائة إلا شيئا، فقال: الذي سمعت من أصحابنا
ورأيت عليه أكثرهم أن قالوا يعطى
(10/485)
المقر له من ثلثي المائة إلى أكثر على قدر
ما يرى الحاكم، وقد خالفنا فيه هؤلاء، يعني أهل العراق، وقالوا: يزاد على
الخمسين دينارا ودينارين.
قال الإمام القاضي: وهذا كما قال؛ لأن هذه الألفاظ كلها تقتضي بأن له عليه
أكثر المائة، فوجب ألا يحط عنه منها إلا أقل من ثلثها؛ لأن الثلث هو آخر حد
القليل وأول حد الكثير.
وقول أهل العراق بعيد، إذ لا يقال في واحد وخمسين ولا في اثنين وخمسين إنها
جل المائة ولا إنها أكثر المائة ولا إنها مائة إلا شيئا ولا مائة إلا
قليلا.
وقد روي عن ابن الماجشون أنه إذا قال له: عندي مائة إلا شيئا - أن الشيء
عقد من عقود المائة فما دونها فيعطى تسعين ويجتهد فيما يزاد عليها، وهو قول
له وجه.
وهذا كله إنما يحتاج إليه في الميت الذي يتعذر سؤاله عن مراده، وأما المقر
الحاضر فيسأل عن تفسير ما أرد بقوله ويصدق في ذلك مع يمينه إن نازعه في ذلك
المقر له فادعى أكثر مما أقر له به، وتحقق الدعوى في ذلك.
وأما إن لم تحقق الدعوى فعلى قولين في إيجاب اليمين عليه، وبالله التوفيق.
[مسألة: يقول وصي اليتيمة أبا هذه أوصى بها
وبمالها إلي فأنا أبرأ إليه من مالها]
مسألة وسئل: عن الذي يأتي باليتيمة التي قد بلغت أو باليتيم الذي قد بلغ
إلى القاضي فيقول: إن أبا هذا أو أبا هذه أوصى به وبماله إلي وقد بلغ مبلغ
الرضا فأنا أبرأ إليه من ماله واكتب لي براءة منه، أترى أن يكتب له منه
براءة ولا يعرف أنه وصيه إلا بقوله؟
قال: نعم.
قيل: كيف تكتب له البراءة؟
قال: يكتب إن فلانا أتى بفتى على صفة كذا وكذا وزعم أنه وصيه وزعم أنه يسمى
فلانا،
(10/486)
أو بامرأة من صفتها كذا وكذا وزعم أنها
تسمى كذا فذكر أن أباها أوصى بها إليه وبمالها وأنها قد بلغت مبلغ الأخذ
لنفسها والإعطاء منها فسألنا أن نأمره يدفع إليها مالها وأن نكتب له
البراءة منه فأمرناه بذلك فدفع ذلك عندنا وهو كذا وكذا، وقد أشهدنا على
براءته من المسمى في هذا الكتاب.
قيل: ولا يجوز له أن يكتبها إلا هكذا؟
قال: نعم، لا يجوز له أن يكتبها إلا هكذا.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة على أصولهم وعلى معنى ما في كتاب طلاق
السنة من المدونة وعلى ما جاء في آخر سماع أصبغ من كتاب السلطان في مسألة
الذي ادعى أن رجلا رهنه قدحا في كساء أن السلطان يأمره ببيع القدح في
الكساء على ما زعم أنه عنده رهن به من غير حكم على الغائب، وفي ذلك اختلاف،
قد قيل: إنه لا يأمره ببيعه حتى يثبت عنده ارتهانه إياه، وبذلك جرى العمل،
وهو على أصل مطرف وابن الماجشون في مسألة كتاب طلاق السنة التي أشرنا
إليها، وعلى قياس ذلك لا يلزم القاضي في هذه المسألة أن يأمر الرجل بدفع
شيء ولا أن يكتب له براءة بشيء، ويقول له: شأنك في الدفع إليه والإشهاد
عليه إلا أن يثبت عنده ما ذكره من أن أباه أوصى به إليه، وقد قيل: إنه لا
يكتب له إلا أن يثبت ما ذكره من أن أباه أوصى به إليه وأنه رشيد، وهذا على
القول بأن وصي الأب ليس له أن يرشد إلا بأمر السلطان، وقيل: يكتب له إذا
ثبت عنده أنه رشيد وإن لم يثبت عنده أنه وصي عليه، فهي أربعة أقوال في
المسألة، وبالله التوفيق.
[مسألة: السفيه المولى عليه يبتاع أمة فتحمل
منه ثم يعثر على ذلك]
مسألة قال أصبغ في السفيه المولى عليه، يبتاع أمة فتحمل منه ثم يعثر على
ذلك، فقال: أرى أن ترد الأمة إلى بائعها ويرد البائع
(10/487)
الثمن كله على السفيه ويكون الولد ولده ولا
يكون عليه من قيمتهم شيء.
قال عيسى: ولو أن رجلا أسلف مولى عليه مالا أو أسلمه إياه في شيء أو ابتاع
منه شيئا فاشترى به المولى عليه أمة فحملت منه كانت أم ولد ولم يكن للمشتري
أن يأخذها بسلفه إياه المال وابتياعه منه شيئا، فإن كان قد قبض منه ما كان
ابتاع بالمال رد ذلك الشيء إلى المولى عليه، وأسقط الثمن.
قال محمد بن رشد: أما إذا أولد السفيه الجارية التي ابتاعها بمال أسلف إياه
أو بثمن سلعة باعها فلا خلاف في أنه لا سبيل للذي أسلفه أو باعه عليها؛
لأنها وإن كانت من أموالهما فليست بعين أموالهما، وهما سلطاه على أموالهما.
وأما إذا أولد الأمة التي اشتراها فقيل: إن ذلك فوت أيضا لا سبيل للذي باعه
إياها عليها؛ لأنه هو سلطه عليها، فإنما فعل من وطئه إياها بعد الشراء ما
يجوز له، والحمل ليس من كسبه إذ لم يقع باختياره ولا هو من فعله، بخلاف
العتق الذي هو من فعله وكسبه، وهو قول أصبغ في سماع عيسى من كتاب العتق.
وقيل: إن ذلك ليس بفوت وترد الأمة إلى بائعها، وهو قول أصبغ هاهنا وقول
عيسى بن دينار في سماعه من كتاب العتق؛ لأنه وإن كان الحمل ليس من كسبه ولا
من فعله فالأمة عين مال البائع، وهذا استحسان، والقول الأول هو القياس إلا
فرق بين أن يولد الأمة التي اشتراها من مال يسلفه إياه أو من سلعة باعها،
كما لا يفترق ذلك في المديان للعلة التي ذكرناها، والله الموفق.
[مسألة: البينة على من ادعى واليمين على من
أنكر]
مسألة وسئل سحنون: عن الرجل يقر على نفسه أن لفلان عليه مائة دينار ناقصة
ويدعي المقر له أنها وازنة، قال: ليس له إلا ما أقر له به.
قال محمد بن رشد: يريد ويحلف المقر على ما يذكره من النقصان، وهذا ما لا
إشكال فيه ولا اختلاف، إذ لا فرق بين اختلافهما في
(10/488)
العدد أو في قدر النقصان، وقد قال رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «البينة على من ادعى واليمين
على من أنكر» ، وبالله التوفيق.
[مسألة: أتى بذكر حق له على رجل فيه ألف دينار
فأتى المشهود عليه ببراءة ألفي دينار]
مسألة قيل: أرأيت إن أتى بذكر حق له على رجل فيه ألف دينار فأتى المشهود
عليه ببراءة ألفي دينار يزعم أن تلك الألف قد دخلت في هذه المحاسبة
والقضاء، قال: يحلف ويبرأ.
قيل له: فإن أتى ببراءات مفترقة إذا اجتمعت مع الذكر الحق أو الذكورات الحق
كانت أكثر أو أقل، وليس شيء من ذلك منسوبا أنه من الذكورات الحق ولا من غير
ذلك؟
فقال: إذا كانت البراءات مفترقة وليس واحدة منها إذا انفردت فيها جميع هذه
الذكورات الحق أو الذكر الحق فإني لا أراها براءة مما أثبت قبله، وإن كان
في واحد منها جميع هذا الذكر الحق وصارت بقية البراءات زيادة على ما أثبت
قبله فإني أرى أن يحلف ويبرأ.
قال القاضي: تفرقة سحنون هذه بين أن يأتي المطلوب ببراءة واحدة تستغرق ما
في ذكر الحق الذي عليه وبين أن يأتي ببراءات كثيرة تستغرقه إذا جمعت تفرقة
ضعيفة لا وجه لها؛ لأن الحق قد يقضى مجتمعا ومفترقا شيئا بعد شيء.
وقد روى ابنه محمد عنه أنه رجع عن هذا القول إلى أنه يبرأ بالبراءات
المفترقة وإن كانت ليس في كل واحدة منها إذا انفردت كفاف ذكر الحق.
ولو قيل: إنه إن كانت البراءة واحدة أو البراءات إذا جمعت مثل ذكر الحق
سواء أو أقل كانت براءة، وإن كانت البراءة الواحدة والبراءات إذا جمعت أكثر
من ذكر الحق لم تكن براءة لكان لذلك وجه بأن يقال: إن
(10/489)
المعنى في ذلك أن المطلوب أنكر المخالطة
وزعم أنه لم يبايعه سوى هذه المبايعة التي فيها ذكر الحق وادعاها الطالب،
فإذا لم يكن في البراءة الواحدة بانفرادها أو البراءات باجتماعها أكثر من
ذكر الحق لم يكن للطالب دليل على ما ادعاه من المخالطة، وأنه قد عامله غير
هذه المعاملة التي فيها ذكر الحق، فوجب أن يحلف المطلوب أنه لم يكن له عليه
سوى ذكر الحق، وتكون البراءة أو البراءات براءة له منه.
وإن كان في البراءة الواحدة أو البراءات زيادة على ذكر الحق كان في ذلك
للطالب دليل على ما ادعاه من المخالطة وأنه قد عامله فيما سوى هذا الذكر
الحق، فوجب أن يحلف الطالب أنه قد عامله فيما سوى هذا الذكر الحق وأن
البراءة أو البراءات التي استظهر بها المطلوب إنما هي من ذلك، فلا يكون شيء
من ذلك براءة للمطلوب من الذكر الحق.
وقد مضى القول على هذه المسألة في سماع أبي زيد من كتاب الشهادات ما فيه
بيان لها وكشف عن معانيها، وبالله التوفيق.
[: رجل أفلس فأدرك رجل ماله بعينه]
ومن سماع محمد بن خالد من ابن القاسم قال محمد: سألت ابن القاسم عن الرجل
يسلف الرجل مالا فيشتري المسلف به متاعا ثم يفلس فيقوم المسلف مع الغرماء
فيجد المتاع الذي اشتري بماله، فيقول: هذا المتاع أنا أولى به؛ لأنه ابتيع
بمالي.
قال ابن القاسم: قال مالك: هو أسوة الغرماء.
قال الإمام القاضي: وهذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه، إذ ليس المتاع
ماله الذي أسلفه بعينه، وقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «أيما رجل أفلس فأدرك رجل ماله بعينه فهو أحق به من غيره» ،
وبالله التوفيق.
(10/490)
[مسألة: يبيع
من الرجل شققا إلى أجل فيقطعها ثيابا ويخيطها ثم يفلس]
مسألة قال: وسألته عن الرجل يبيع من الرجل شققا إلى أجل فيقطعها ثيابا
ويخيطها ثم يفلس المبتاع ويجد البائع شققه مقطوعة، كيف الأمر في ذلك؟
قال: يسلك به في ذلك قول مالك في الذي يبيع العرصة فيبني فيها المبتاع ثم
يفلس.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول فيها مستوفى في آخر رسم العرية من
سماع عيسى، فلا معنى لإعادة القول في ذلك، وبالله التوفيق.
(10/491)
|