البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة

 [: كتاب المديان والتفليس الثالث] [مسألة: السيد لا يحجر على عبده إلا بالسلطان]

(10/493)


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
صلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم من سماع أصبغ من ابن القاسم من كتاب البيوع والعيوب قال أصبغ: سمعت ابن القاسم يقول، فيمن دفع إلى عبده مالا يتجر به وأمره ألا يبيع إلا بالنقد ولا يشتري إلا به وحجر عليه في ذلك، فداين العبد الناس: إنهم أحق بما في يده لا شك فيه وإن لم تكن هي أموالهم بعينها.
قال أصبغ: وهذا مأذون له إذا أطلقه على البعض فهو الكل، كمثل ما لو وضعه يتجر في البز وحده فتجر في غيره كان لازما له؛ لأنه قد نصبه للناس، وليس كل الناس يعلمون بعضا دون بعض.
وقال أصبغ: قلت له: فإن قصر ما في يديه عما عليه، أيكون ما بقي في ذمته أيضا؟
قال: هو الذي أُصْغِي إليه وَأَسْتَحْسِنُهُ ويسبق إليَّ، والله أعلم.
وقاله أصبغ على قياس القول الأول في صدر هذه المسألة وطريقها استحسانا، وفيها ضعف إن شاء الله.
قال سحنون: هو كما شرط سيده، وليس له أن يتعدى ما أُمِرَ به، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو دفع إلى عبده مالا قراضا أنه يصير بذلك مأذونا له في التجارة وحكم القراض ألا يباع بالدين في الأحرار والعبيد، وكل من قبض

(10/495)


مالا قراضا فليس له أن يبيع بالدين. وكذلك الذي يشترط على عبد هو مأذون له في التجارة ممنوع أن يبيع بالدين، فإذا باع به كان متعديا ولا يجوز على مولاه عداه.
قال محمد بن رشد: قوله في صدر هذه المسألة: إنهم أحق بما في يديه - لا شك فيه، وإن لم تكن هي أموالهم بعينها، يريد: أنهم يكونون فيما في يديه أسوة للغرماء إن لم تكن أموالهم بعينها، وإن كانت أموالهم بعينها كان من وجد منهم ماله بعينه أحق به من غيره من الغرماء على حكم الحر إذا فلس. وهذا مما لا إشكال فيه.
وفي قوله: لأنه قد نصبه للناس وليس كل الناس يعلمون بعضا دون بعض دليل على أنه لو أشهد بتجارته في البز وحده وأعلن بذلك وعلم به ثم تجر في غيره لم يلزمه في ماله ما داين به، وهو دليل قوله أيضا في المدونة؛ لأنه لا يدري الناس لأي أنواع التجارة أقعده.
ويدخل في هذا اختلاف بالمعنى؛ لأنه من باب التحجير، فيأتي على قول مالك في المدونة: إن السيد لا يحجر على عبده إلا بالسلطان أنه لا ينفع إشهاد السيد وإعلانه إنما أذن له بالتجارة في البز وحده. ويأتي على قول سحنون: إن السيد يحجر البيع بالدين على عبده دون السلطان - أن الإشهاد والإعلان ينفعه في ذلك.
وقوله: إن ما قصر عنه ما في يده يكون في ذمته، هو مثل ما في المدونة ولا خلاف فيه أعلمه.
وقوله: وقاله أصبغ على قياس القول الأول، يريد: أن ما بقي مما لم يف به ما في يديه فيكون في ذمته على قياس القول بأن تحجير البيع بالدين عليه لا يلزمه، ويكون من داينه أحق بما في يديه.
والقول الثاني هو قول سحنون الذي حكاه بعد ذلك من أن تحجير البيع بالدين عليه لازم له، فلا يكون من بايعه بالدين أحق بما في يديه، إذ لا يجوز عدوه على سيده.
وظاهر قول سحنون أن السيد إذا أذن لعبده في التجارة وحجر عليه الدين أن الغرماء لا يكون لهم حق فيما في يده من المال الذي أذن له بالتجارة فيه وإن لم يعلموا بذلك.
ومسألة القراض التي احتج بها لا يلزم ابن القاسم الحجة بها، إذ لا يوافقه عليها بل يخالفه فيها، فيقول: إنه إذا دفع إلى عبده مالا قراضا فداين فيه

(10/496)


الناس تكون فيه ديونهم إلى أن يعلموا أنه بيده قراض فلا يكون لهم فيه شيء.
وكذلك الحر أيضا لو دفع إليه مالا قراضا فعلم الغرماء الذين عاملوه فيه بالدين أنه مال قراض بيده لم يكن لهم فيه شيء واتبعوا ذمته بديونهم.
وأما إذا لم يعلموا فيفترق الحر من العبد؛ لأن الحر يلزمه ضمان المال فيكون لصاحبه محاصة الغرماء فيه، والعبد لا يضمن لسيده فينفرد الغرماء إذا لم يعلموا بجميعه؛ لأنه فرط حين لم يعلمهم.
وقال ابن دحون: قول سحنون ضعيف ليس المأذون له مكان المقارض؛ لأن المأذون له حجر عليه التجارة فيما عدا البز لم يلزمه بخلاف المقارض.
وقول ابن دحون ليس بصحيح؛ لأن قول سحنون إنما ضعف من أجل أنه جعل تحجير السيد على عبده الدين لازما للغرماء وإن لم يعلموا بتحجيره المداينة عليه، لا من أجل الفرق بين تحجير الدين على العبد وبين دفع المال إليه على سبيل القراض، إذ قد بينا أنه لا فرق بينهما، وبالله التوفيق.

[مسألة: سلف في ثوب أو دابة ففلس المسلف إليه]
مسألة قال أصبغ: وسئل: عمن سلف في ثوب أو دابة ففلس المسلف إليه، فقال: الذي اشترى والغرماء أسوة في المال يحاص بقيمة دابته أو ثوبه الذي سلف فيه، فما حصل له في المحاصة اشترى له به شرطه أو ما بلغ شرطه.
قال أصبغ: وتفسيره أن يحاص بقيمته وما يساوي مثله يوم التفليس؛ لأنه لو تم المال يومئذ كان يعجل له، فما أدرك في محاصته جعل له في مثله من أجزائه يشترى له يكون به شريكا ثم يبيع بباقيه جزءا نصفا أو ربعا أو ثلثا على مثل ذلك مما ثاب لغرمائه مال، إن شاء الله.
وكذلك لو سلف في طعام ففلس المسلف إليه أنه يحاص بقيمة طعامه حالا، فما صار له في المحاصة اشترى له به طعام وما عجز عن حقه اتبعه به في ذمته.
وقال سحنون: يحاص بقيمته طعاما إلى أجله.

(10/497)


قال الإمام القاضي: قد مضت هذه المسألة في رسم القبلة من سماع ابن القاسم وفي رسم العرية من سماع عيسى، وقول ابن القاسم أصح من قول سحنون؛ لأنه لا يلزم على قول سحنون إذا كان له على المفلس دين إلى أجل ألا يحاص الغرماء إلا بقيمة الدين إلى أجله.

[: الرجل إذا ادعى على الرجل مائة دينار فصالحه منها على خمسين إلى أجل]
ومن كتاب البيع والصرف قال: وسئل: عن رجل له على رجل حق فجحده إياه، فأراد إحلافه، فقال: لا تحلفني، وأخرني إلى سنة، وأنا أقر لك، فقال: لا خير فيه، وهو سلف جر منفعة، قلت له: إن وقع أيفسخ التأخير ويثبت الحق معجلا، والمقر يجحده ويقول: إنما أقررت ورضيت بما رضيت به من ذلك على ما جعل لي من التأخير افتداء من اليمين على رءوس الناس والشهرة والشغب والخصومة، ونحو ذلك من القول، وأنا أحلف ما له علي شيء، هل يكون له ذلك أم لا؟ وهل يسقط عنه إذا حلف مع سقوط التأخير الذي أسقطته؟
قال لي: نعم، يكون على رأس خصومته، وأرى ذلك له، ولا يلزمه من ذلك الإقرار شيء.
قال محمد بن رشد: قوله في تأخير الحق عنه على أن يسقط عنه اليمين إنه سلف جر منفعة، هو على أصل مالك في سماع أشهب في رسم البيوع، وعلى أصله أيضا في المدونة بدليل قوله في كتاب الصلح منها: إن الرجل إذا ادعى على الرجل مائة دينار، فصالحه منها على خمسين إلى أجل، إن ذلك جائز إذا كان مقرا خلاف قول ابن القاسم فيها: إن ذلك جائز، وإن كان منكرا؛ لأنه إن كان حقه حقا فله تأخيره، وإن كان باطلا فليس له أن يأخذ منه شيئا.
وقد مضى في رسم البيوع من سماع أشهب من القول على هذه المسألة ما فيه بيان، إن شاء الله وبه التوفيق.

(10/498)


[مسألة: المقارض يفلس بديون عليه فيقر في بعض ما في يديه أنه مال القراض]
مسألة وسألته: عن المقارض يفلس بديون عليه، فيقر في بعض ما في يديه أنه مال القراض.
قال: لا يقبل قوله.
قال محمد بن رشد: قد مضى تحصيل القول في هذه المسألة في أول رسم من سماع ابن القاسم من هذا الكتاب وفي رسم الشجرة تطعم بطنين في السنة، من سماع ابن القاسم أيضا من كتاب تضمين الصناع، وقلنا: إنها مسألة يتحصل فيها ثلاثة أقوال:
أحدها: أن إقراره جائز، والثاني: أنه لا يجوز، والثالث: الفرق بين أن تكون على أصل القراض بينة أو لا تكون، وهي رواية أبي زيد عن ابن القاسم.
ومن الناس من ذهب إلى أن الخلاف في جواز إقراره، إنما هو إذا لم يكن على أصل القراض بينة، وأما إذا كان على أصله بينة فلا اختلاف في أن إقراره جائز، وهذا بعيد؛ لأن الظاهر من هذه المسألة الذي هو كالنص فيها، إنما تكلم على من فلس وقد علم أنه مقارض، وقد قال فيها: إن قوله لا يقبل.
ومن ذهب إلى أنه لا خلاف في جواز إقراره إذا كان على الأصل بينة - يقول في هذه المسألة: المعنى فيها أن يقر فيما في يديه مما ليس من تجر القراض أنه من القراض؛ لئلا يباع عليه ثياب أو بسط توجد في داره وهو يتجر بالقراض في الحنطة، فيقول هي من القراض، فلا يصدق. ولو كان يتجر في مال القراض في الثياب أو البسط قبل منه بعد يمينه ولم يبع عليه.
ومنهم من ذهب إلى أن رواية أبي زيد في الفرق بين أن يكون على الأصل بينة أو لا تكون مفسرة للقولين جميعا، فلا يكون في المسألة على هذا التأويل اختلاف، وبالله التوفيق.

[: المال يباع على العامل إذا قام عليه غرماء صاحب المال]
ومن كتاب البيوع قال: وسمعته يقول في رجل أخذ من رجل مالا قراضا فاشترى متاعا وخرج إلى أطرابلس، فقام عليه بأطرابلس، غرماء صاحب المال وغرماء العامل، قال: فرق مالك بين أن يقوم عليه

(10/499)


غرماء صاحب المال، وغرماء العامل، فقال: إذا قام غرماء صاحب المال بيع المتاع، فأعطي العامل حصته من ذلك، وكان ما بقي لغرماء صاحب المال، فإذا قام على العامل غرماؤه، فأرادوا أن يباع فيأخذوا ربحه؛ لأن لهم فيه فضلا، لم يبع حتى يحضر صاحب المال.
قال أصبغ مثله؛ لأنه ليس للعامل في المال بعينيه شيء.
ولا يجبر العامل على البيع ولا يمنع منه إن شاء ذلك هو عند ذلك أو بعده، فإذا باع ونض فوجد المال قضى لهم صاحب المال دينهم.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة متكررة في رسم أوصى أن ينفق على أمهات أولاده من سماع عيسى من كتاب القراض.
وقوله: إنه إذا قام على العامل غرماء صاحب المال، بيع المتاع، فأعطى العامل حصته من ذلك، وكان ما بقي لغرماء صاحب المال، معناه: إذا كان لبيعه وجه لا ضرر فيه على العامل، فإن كان عليه فيه ضرر لربح يرتجيه في أسواقه لم يبع عليه حتى يأتي أسواقه، وكذلك في تفسير ابن مزين، وكتاب ابن المواز عن مالك أنه لا يباع إلا أن يرى لذلك وجه ومصلحة، وهو معنى ما في المدونة.
وقوله: وقال أصبغ مثله، معناه: وقال أصبغ مثل قول ابن القاسم: إن العامل إذا قام عليه غرماؤه لم يبع عليه مال القراض، حتى يحضر صاحب المال.
وعلل ذلك بما ذكره من أنه ليس للعامل في المال بعينه شيء، وهو تعليل صحيح، إذ لا شيء له في المال حتى يباع وينفق إلى رب المال رأس ماله.
وقوله بعد ذلك: ولا يجبر العامل على البيع ... إلى آخر قوله - معناه: إذا قام عليه غرماء صاحب المال، بدليل قوله في آخره: قضى لهم صاحب المال دينهم، ومن قوله الذي تقدم: إن المال يباع على العامل إذا قام عليه غرماء صاحب المال، فلا وجه له عندي إلا أن يكون معناه: يجبر على البيع ولا يمنع منه إن شاء ذلك، إذا قام عليه غرماء صاحب المال، ولا وجه لبيعه في ذلك الوقت.
وأما إذا قام على العامل غرماؤه،

(10/500)


فلا إشكال في أنه لا يباع المال عليه حتى يحضر صاحبه؛ لأنه لا ربح له في المال حتى يرجع إلى رب المال رأس ماله. وبالله التوفيق.

[مسألة: ابتاع عبدا بيعا فاسدا فأعتقه وقيمته أكثر من الثمن وليس له غيره]
مسألة قال أصبغ وسحنون: سألنا ابن القاسم: عن الذي يعتق عبيدا له وعليه دين يستغرق بعضهم، ثم يستحدث دينا بعد ذلك، ثم يقوم به الغرماء الأولون الذين أعتق ولهم عليه الدين.
قال: يرد من عتق العبيد بقدر الذي كان لهم من الدين يوم أعتق، فيباع ذلك لهم، ويدخل معهم فيه الغرماء الآخرون، ثم يعتق ما بقي من العبيد، ولا يباع منهم شيء بعد ذلك، ولا يباع للأولين. إلا أول مرة على ما فسرته لك فقط.
قال أصبغ: وقد قال بعض الناس: إذا دخل الآخرون على الأولين في ثمن ما بيع لهم أولا فحاصوهم فيه حتى ينتقصوهم فيه، بيع للأولين ثانية بقدر ما أخذ منهم، فدخلوا عليهم فيه أيضا بالحصص، ثم يرجع إلى البيع أيضا أبدا هكذا حتى يستوفي الديون أو يستغرق بيع العبيد، فلا يعتق منهم شيء.
قال أصبغ: وليس هذا عندنا بشيء فكأن هذا يصير ردا للعتق للآخرين. وليس للآخرين في العتق مقال؛ لأنه قد سبق ديونهم، وإنما يرد للأولين قدر ما تلف من ديونهم يوم قاموا عليه، ثم أعتق ما بقي، وأثبت عتقه، ولا يزول، فإذا بيع ذلك للأولين، صار كأنه مال لهم عليه أقروه في يديه، إلى أن استحدث دينا وفلس، فإنهم يتحاصون جميعا في ماله، وليس ما كان نفذ فيه العتق، مما فضل يوم أعتق على الدين بمال له.
ولا لهم وقد سألت ابن القاسم عن هذا القول الذي قاله من قاله، فعرفه ولم يعجبه، ولم يره ولا رآه ظلما ولا أعلم إلا وقد خلا

(10/501)


بصدره، أو قاله مرة ثم رجع عنه على بصيرة وعلم إلى ما كتبت عنه في سؤالي إياه.
قال محمد بن رشد: قوله: وقد قال بعض الناس، هو أشهب، والله أعلم.
وقد حكى ابن المواز عنه فيمن ابتاع عبدا بيعا فاسدا فأعتقه، وقيمته أكثر من الثمن، وليس له غيره، فإنه يباع منه قدر الثمن فقط؛ لأن القيمة إن كانت أكثر، لم يلزمه إلا بعد القبض ولكن يتبع بالزائد، فقال: إن ذلك من قوله رجوع منه إلى أصل ابن القاسم في غريم قبل غريم، وليس ذلك من قوله بصحيح؛ لأنه إنما تكلم على أن المبتاع أعتق العبد وهو في يد البائع قبل أن يقبضه، وما كان بيده فهو رهن بالثمن الذي وقع البيع به، فلا يصح أن يدخل عليه فيه بحال، ولو أعتقه بعد القبض لنفذ عتقه على أصله، واتبع بالقيمة دينا في ذمته، فلم يختلف قول أشهب فيمن أعتق عبده وعليه دين لا يستغرقه، ثم استدان دينا بعد العتق فدخل الغرماء الآخرون على الأولين فيما بيع لهم من العبد أنه يباع لهم منه ثانية بقدر ما أخذ منهم ثم إن دخلوا عليهم في ذلك بيع لهم منه ثالثة بقدر ما أخذ منهم، وهكذا أبدا حتى تستوفي الديون جميعا أو تستغرق بيع العبد، ولا اختلف قول أصبغ في أنه لا يباع للغرماء الأولين ثانية ما انتقصهم به الآخرون واختلف في ذلك قول ابن القاسم، فكان أولا يقول مثل قول أشهب، ثم رجع فقال: إنه يباع من العبد بقدر ديون الأولين فيدخل عليهم في ذلك الغرماء الآخرون، ولا يباع للأولين إلا قدر ما بيع لهم أولا، واختلف في ذلك أيضا قول مالك، فمرة قال: إنه لا يباع للغرماء الأولين ثانية بما انتقصهم به الغرماء الآخرون، ومرة قال: إنه يباع لهم منه بذلك أبدا حتى تستوفى جميع الديون، أو تستغرق بيع جميع العبد.
وهذا القول هو الذي رجع إليه مالك على ما حكاه ابن كنانة وابن نافع عنه في المدونة. وحكى ابن القاسم عنه فيها أن القول الآخر هو الذي رجع إليه، وأقام عليه.
حكى عنه القولين فيمن دبر عبده وعليه دين لا يستغرقه، ثم استدان بعد التدبير دينا آخر. ولا فرق في هذا بين التدبير والعتق والصدقة والحبس والهبة.

(10/502)


واختلف في هذه المسألة أيضا قول ابن كنانة، فله في المدنية فيمن دبر عبده وعليه دين ثم استدان بعد التدبير دينا آخر، أنه يباع من المدبر بقدر الدين الذي كان قبل التدبير، فيعطيه أصحاب الدين كان ذلك لهم، ولا يباع للآخرين منه شيء حتى يموت السيد.
ورأيت له في مسائل منتخبة لابن لبابة: سئل: عن الرجل يدبر عبده وعليه دين، فيجرح المدبر رجلا حرا، ويقوم أهل الدين عليه بدينهم؟ فقال: لا ترقه الجناية، وإنما يرقه دين سيده، فإن قام غرماؤه يريدون رد تدبيره، بيع منه بقدر دينهم، فإذا بيع قال المجني عليه: أنا أولى بما بيع منه؛ لأن جرحي في رقبته، وديونكم في مال سيده، فيأخذه ثم يباع منه أيضا بقدر ديونهم، فيقول المجني عليه: أنا أولى بما بيع منه؛ لأن جرحي في رقبته، وديونكم في مال سيده، فيأخذ المجروح فلا يزال هكذا يباع ويأخذه المجروح حتى يباع منه بقدر الجرح وبقدر الدين، فإن بقي منه شيء كان مدبرا حتى يموت السيد، فدين السيد يرقه؛ لأنه لا يجوز له تدبير وعليه دين، والمجروح يأخذه؛ لأن جرحه في رقبته، ولولا الدين لم يرق ولم يبع منه شيء، وأخذه المجروح فاختدمه دون الغرماء حتى يموت السيد، فإن كان له مال يعتق فيه عتق واتبعه المجروح ببقية عقل جرحه.
وإن لم يكن له مال عتق ثلثه ورق ثلثاه، واتبع العتيق بثلث ما بقي من جرحه، وكان الورثة مخيرين في افتكاك الثلثين بثلثي ما بقي من دية جرحه أو إسلامه، فأي ذلك فعلوا كان لهم.
وهذا اختلاف من قول ابن كنانة، إذ لا فرق بين المسألتين في المعنى والقياس، والذي يلزم في مسألة جناية المدبر هذه على قياس قوله الآخر ألا يباع من المدبر شيء لأهل الدين ثانية، ويكون دينهم في ذمة السيد المدبر، يتبعونه به إلى أن يموت، ويكون أهل الجناية أحق باختدام ما بقي من المدبر بعد الذي بيع منه في الدين واختدموه في جنايتهم، فإن استوفوا بقية جنايتهم من خدمته قبل أن يموت السيد اختدمه أهل الدين أيضا إلى أن يموت السيد، فيباع منه بما بقي من دينهم ويعتق ثلث الباقي.
وإن لم يستوف أهل الجناية بقية جنايتهم من خدمته إلى أن يموت سيده، بيع منه لأهل الدين بدينهم، إذ قد ذهبت

(10/503)


ذمته بموته، فكان أهل الجناية أحق بما بيع منه، ثم يباع لهم بدينهم ثانية، فيكون أهل الجناية أحق، هكذا أَبَدًا إلى أن يستغرق ذلك بيع المدبر، أو يفضل منه فضلة فيعتق ثلثها، ويرق للورثة ثلثاها.
ولا اختلاف بعد موت السيد في وجوب البيع ثانية للغرماء إذا أخذ منهم ذلك أهل الجناية، وهكذا أبدا إلى أن يباع المدبر كله أو يفضل منه فضلة فيعتق ثلثها، ويرق ثلثاها للورثة.
ولو دبر الرجل عبده ثم استدان دينا بعد التدبير، وجنى المدبر جناية، لكان أهل الجناية أحق باختدام المدبر في جنايتهم من أهل الدين، ولا يباع من المدبر شيء حتى يموت السيد، فإذا مات بيع منه لأهل الدين بدينهم، وكان أهل الجناية أحق بذلك، ثم يباع لهم ثانية وثالثة أبدا إلى أن يستغرق البيع جميعه أو تفضل منه فضلة فيعتق ثلثها، ويرق للورثة ثلثاها.
مثال ذلك: أن يدبر الرجل عبده، وقيمته مائة دينار، ثم يستدين بعد التدبير عشرة دنانير، ويجني المدبر جناية قيمتها ثمانون دينارا، فيكون الحكم في ذلك أن يستخدم أهل الجناية المدبر في جنايتهم إلى أن يموت السيد، ويكونون أحق بذلك من الغرماء، فإن استوفوا في حياة السيد من خدمة المدبر عشرة دنانير مثلا، ثم مات السيد، كان الباقي لهم من الجناية سبعين دينارا، وللغرماء في ديونهم عشرة دنانير، فيباع لهم من المدبر عشره بعشرة دنانير، ويكون أهل الجناية أحق بذلك، فيأخذوه منهم، ثم يباع لهم منه ثانية أيضا عشره بعشرة دنانير، ويكون أهل الجناية أحق بذلك، فيأخذوه منهم، ثم يباع لهم منه ثالثة أيضا عشره بعشرة دنانير، ويكون أهل الجناية أحق بذلك، فيأخذوه منهم، ثم يباع لهم منه رابعة فيأخذوه أهل الجناية، ثم خامسة، فيأخذوه أهل الجناية، ثم سادسة فيأخذوه أهل الجناية، ثم سابعة، فيأخذوه أهل الجناية، فيستوفوا بذلك جميع جنايتهم، ثم يباع لهم ثامنةً - عشرُهُ بعشرةِ دنانيرَ، فيستوفوا دينهم، ويبقى من المدبر خمسه، فيعتق ثلثه ويرق ثلثاه للورثة، ولا اختلاف في هذا أعلمه.
ورأيت لابن دحون أنه قال: اتفاقهم على هذه المسألة حجة على ابن

(10/504)


القاسم فيما اختاره وأخذ به ورجع إليه في الذي يعتق وعليه دين لا يستغرق العبد المعتق، ثم يستدين بعد العتق دينا آخر، من أنه لا يباع للغرماء الأولين ثانية، بما انتقصهم به الغرماء الآخرون مما بيع لهم، إذ لا فرق بين المسألتين؛ لأن الدين يرد التدبير، والجناية أولى بذلك، وكذلك دين الأولين، يرد العتق، والغرماء الآخرون أولى ببعض ذلك، فإذا وجب في مسألة الجناية أن يباع من المدبر ثانية لأهل الدين بما أخذ منهم أهل الجناية، وجب في مسألة العتق أن يباع للغرماء الأولين ثانية بما أخذه منهم الغرماء الآخرون، فترد المسألة المختلف فيها إلى المسألة المتفق عليها.
هذا معنى قوله دون لفظه، وليس قوله عندي بصحيح، والفرق بين المسألتين على ما اختاره ابن القاسم، وأخذ به في مسألة العتق، أن العتق لا يرده الدين الحادث بعده إذا مات المدبر، والمدبر مملوك، والمعتق حر، فلا يعود عليه دين حدث بعد عتقه، ودين الآخرين حدث بعد عتقه، فإذا دخلوا على الأولين، كان ما انتقصهم دينا حدث لهم على المعتق، فلا يرد العتق به؛ لأن الذي حدث للأولين من الدين إنما هو من أخذ الآخرين، ودين الآخرين بعد العتق، فلا يرد العتق من أجله؛ لأن ذلك ظلم للعبيد، وهو قوله في الرواية ورآه ظلما، يريد ظلما للعبيد في أن يرد عتقهم بدين حادث بعد عتقهم.
والتدبير بخلاف ذلك؛ لأنه يرده كل دين حدث بعده إذا مات السيد المدبر، ويتخرج في مسألة العتق عندي قول ثالث، وهو ألا يكون للغرماء الآخرين دخول على الغرماء الأولين في ثمن ما بيع لهم من العبد المعتق؛ لأنه إنما بيع لهم، فمصيبة الثمن منهم إن تلف، على معنى ما في المدونة في ثمن الرهن يضيع بيد الذي أمره السلطان ببيعه، أن مصيبته من المرتهن الذي بيع له، لا من الراهن الذي بيع عليه، ويلزم في مسألة العتق على قياس قوله فيما لو تلف الثمن في يد البائع قبل أن يدفع إلى الغرماء الأولين أن تكون مصيبته من الغريم المعتق، فيباع بذلك من العبد المعتق ثانية.
ووجه إيجابه للغرماء الآخرين الدخول على الغرماء الأولين في ثمن ما بيع لهم من العبد المعتق أو العبيد المعتقين أنه إنما بيع ذلك لجميعهم، ولو بيع للأولين ولم يعلم بدين الآخرين إلا بعد البيع

(10/505)


لوجب ألا يكون لهم عليهم في ذلك دخول قولا واحدا، والله أعلم، وبه التوفيق.

[: الصبي يكون له شاهد واحد على حقه من مورثه فيستحلف الذي عليه الحق ليبرأ]
ومن كتاب البيوع وسئل: عن الصبي يكون له شاهد واحد على حقه من مورثه فيستحلف الذي عليه الحق ليبرأ؛ لأن الصبي لا يحلف، فيحلف فيكبر الصبي فيقال له: احلف مع شاهدك واستحق، فيرد اليمين على الغريم ويقول له: احلف وتبرأ.
قال: ليس عليه أن يحلف ثانية قد حلف مرة، فاليمين ساقطة عنه.
قال أصبغ: لأنه قد برئ يوم حلف، وهو بريء أبدا حتى يحلف الصبي فيكون حلفه كالشهادة الحادثة القاطعة.
قال محمد بن رشد: قول أصبغ: لأنه قد برئ يوم حلف وهو بريء أبدا حتى يحلف الصبي ... إلى آخر قوله - يقتضي أنه لا يجب توقيف الدين، وقد قيل: إنه إذا حلف الذي عليه الحق أخذ الدين منه ووقف حتى يكبر الصبي فيحلف ويأخذه، ومعنى ذلك إذا لم يكن مليا.
وقد مضى القول على هذه المسألة مستوفى في رسم جاع فباع امرأته من سماع عيسى من كتاب الشهادات، فلا معنى لإعادته، وسيأتي من معنى هذه المسألة وما يتعلق بها في هذا الرسم، وفي رسم الوصايا والأقضية من هذا السماع ما فيه بيان لها.
وقد مضى القول عليها في سماع أصبغ من كتاب الشهادات أيضا، وبالله التوفيق.

[مسألة: إقرارالمريض بالدين لمن لا يتهم عليه]
مسألة وسألته: عن المريض يكون عليه الدين للناس، فيقضي بعض غرمائه في مرضه، ثم يموت في ذلك المرض ولم يترك مالا، هل يرجع الآخرون على هؤلاء بشيء يحاصونهم؟
فقال: إن

(10/506)


كان مرضا مخوفا فليس له أن يقضي بعضهم دون بعض، وإن كان مرضا ليس بمخوف حتى يحجب عن القضاء في ماله، فقضاؤه جائز.
قال الإمام القاضي: تفرقته في هذه الرواية بين أن يكون مرضه مرضا مخوفا أو غير مخوف - مفسر لقول ابن القاسم وروايته عن مالك في كتاب المديان من المدونة، في أن المريض إذا كان الدين يغترق ماله لا يجوز له أن يقضي بعض غرمائه دون بعض، خلاف قول غيره فيها: المريض لم تحجر عليه التجارة، وهو كالصحيح في تجارته وإقراره بالدين لمن لا يتهم عليه؛ لأن الظاهر منه أن قضاءه بعض غرمائه جائز، وهو قول سحنون، وأحد قولي مالك، وقع اختلاف قوله في ذلك في كتاب الإقرار من النوادر. فالاختلاف في جواز قضائه بعض غرمائه دون بعض - إنما هو إذا كان مرضه مرضا مخوفا يحجب فيه عن القضاء في ماله.
وأما إذا كان مرضه مرضا غير مخوف، لا يحجب فيه عن القضاء في ماله، فلا اختلاف في أن حاله في مرضه ذلك حال الصحيح، وقد اختلف قول مالك في المدونة في رهنه وقضائه.
فيتحصل في جملة المسألة ثلاثة أقوال: أحدها: أن رهنه وقضاءه جائز وإن كان مريضا؛ والثاني: أن رهنه وقضاءه لا يجوز وإن كان صحيحا؛ والثالث: الفرق في ذلك بين أن يكون مريضا أو صحيحا، وكذلك إقراره بالدين لمن يتهم عليه.
وأما إقراره بالدين لمن لا يتهم عليه، فلا اختلاف في جوازه، وإن كان مريضا، وإنما لا يجوز قضاؤه بعض غرمائه دون بعض، على القول بأن قضاءه لا يجوز، إذا كان ما بيده من المال لا يفي بما عليه، وأما إن كان ما بيده من المال يفي بما عليه من الديون، وإن كانت مستغرقة له، فقضاؤه جائز.
قال ذلك إسماعيل القاضي، وهو صحيح ينبغي أن يحمل على التفسير لما في المدونة ولهذه الرواية؛ لأنه إذا قضى بعض غرمائه وفيما بقي من ماله ما يفي بحقوق من بقي منهم، فلم يحاب من قضاه على ما لم يقضه، فمعنى قوله في المدونة إذا كان الدين يغترق ماله، أي إذا لم يكن له به وفاء. ومعنى قوله في هذه

(10/507)


الرواية: يكون عليه الدين للناس، أي: دين لا يفي به ما بيده من المال. وبالله التوفيق.

[مسألة: الأيمان هل تحمل على بساطها]
مسألة وسألته عن الرجل يكون له الحق على الرجل حالا فيسأله أن يؤخره وينظره به إلى الصدر، فيأبى ويقول: اكتب حقي عليك حالا وأنا أنظرك حتى يتهايا، ففعل، ثم بدا له أن يأخذه به قبل أن يتهايا له، فقال: إن شهد له على أنه قد أنظره إلى أن يتهايا له رأيت ذلك له.
وإن كان كتبه له حالا وإنما هو رجل أشهد له بحقه أنه حال وأنظره إلى أن يتهايا له، رأيت ذلك له، إلا أن يحلف بالله الذي لا إله إلا هو ما أراد يتهايا بعد الصدر وما أراد إلا فيما بينه وبين ذلك إن تهايا إلى ذلك، فإن حلف رأيت ذلك له.
قال أصبغ: لا أرى له فيما بينه وبين الصدر شيئا إذا لم يتهايا له بغير مرزية من بيع عقار يلجئه إليه، أو ربع قد كان له، إنما استنظره مخافة ذلك، وذلك في الذي كتبه حالا، فإذا حل الصدر أخذه به ولم يحلف، وأما الوجه الآخر إذا أنظره فيهما إلى أن يتهايا له فهو على الصدر وبعد الصدر متى ما تهايا له، إذا لم يكن في بساط التأخير طلب للذي عليه الحق للصدر، فإذا كان كذلك لم يجاوز الصدر، ولم يتعجل دونه إن شاء الله.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة بين والاختلاف الواقع فيها بين ابن القاسم وأصبغ، جار على أصل مختلف فيه في المذهب، وهو الأيمان هل تحمل على بساطها أو على ما تقتضيه ألفاظها دون الاعتبار بما خرجت عليه من بساطها؟
فجعل ابن القاسم ذكر الصدر الذي خرج التأخير عليه دليلا على صدق قوله فيما ادعى أنه لم يرد أن يؤخره إلى ما بعده، واستحلفه على ذلك. واستحلافه على ذلك جار على

(10/508)


الاختلاف في لحوق يمين التهمة.
وجعل أصبغ ذكر الصدر الذي خرج التأخير عليه كالتصريح بأنه إنما أخذه فيما بينه وبين الصدر، ويتخرج في المسألة قول ثالث، وهو أن يلزمه التأخير إلى أن يتهايا له، كان ذلك قبل الصدر أو بعده. وهذا على القول بترك الاعتبار بالبساط ومراعاة ما تقتضيه الألفاظ. وبالله التوفيق.

[مسألة: هلك وترك دينا له عليه شاهد واحد وترك ولدا كبيرا سفيها مولى عليه]
مسألة وسألته: عن رجل هلك وترك دينا على رجل له عليه شاهد واحد، وترك ولدا كبيرا سفيها مولى عليه.
قال: يحلف ويستحق حقه، فإن نكل حلف المطلوب، فإن حلف برئ وبطل عنه ما ادعى عليه، وإن حسنت حالة السفيه يوما ما لم يكن له أن يحلف ويأخذ، ولو كان يكون ذلك له ما كان له أن يحلف وهو سفيه ويستحق حقه، ولو كان ينتظر به حتى يحسن حاله، بمنزلة الصغير ينتظر به الكبر، وكذلك النصراني يكون له شاهد واحد فيحلف معه، فإن حلف استحق، وإن نكل حلف المطلوب، وليس يقال: وإن أسلم يوما ما حلف، والنصراني حالته شر من السفيه في حالته، ولعله أن يكون نصرانيا سفيها فيؤمر إن أسلم يوما ما أن يحلف بعد أن يترك، ليس هذا بشيء.
قال الإمام القاضي: قد مضت هذه المسألة، والقول فيها في هذا السماع من كتاب الشهادات، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.

[مسألة: اشترى سلعتين مختلفتين ففلس المشتري فوجد البائع إحدى السلعتين]
مسألة وسمعته، يقول عن مالك: إنه بلغه عنه أنه قال في رجل اشترى سلعتين مختلفتين ففلس المشتري، فوجد البائع إحدى

(10/509)


السلعتين في يديه وفاتت الأخرى، فافتك الغرماء السلعة الباقية بثمنها، ودفعوه إليه، أنه يرجع يحاصهم بثمن السلعة الفائتة في ثمن السلعة التي افتكوها.
قال أصبغ: وذلك أنها مال من مال المفلس ضمانها منه، ونماؤها له، يعني الغريم، يحط به عنه من دينه، وإنما الثمن الذي افتكوها به سلف منهم له جائز لهم، ماض ذلك عليه في صريح الحكم في قول العلماء والناس.
قال القاضي: قوله: فافتك الغرماء السلعة الباقية بثمنها، معناه: بما أصابها من الثمن الذي باعها به مع الأخرى.
وقوله: إنه يرجع فيحاصهم بثمن السلعة الفائتة في ثمن السلعة التي افتكوها، يريد: ويضربون معه فيها وفي جميع مال المفلس بما لهم عليه من الديون، وبالثمن الذي افتكوها به، وإن كانوا افتكوها من أموالهم، كما كان يضرب هو به لو أسلمها ولم يؤدوا إليه ثمنها؛ لأن ذلك كالسلف منهم له، على ما قاله أصبغ، وإن كانوا افتكوها من مال المفلس، ضربوا معه فيها وفي سائر مال المفلس بما كان لهم عليه من الديون.
وقول أصبغ: وذلك أنها مال من مال المفلس ضمانها منه ونماؤها له، يعني الغريم، تعليل صحيح، وذلك مذهبه.
وقوله في المدونة وفي سماع ابن القاسم من هذا الكتاب في بعض الروايات، خلاف ما مضى في أول سماع يحيى من أن الضمان والنقصان من الغرماء، والفضل للمفلس، فعلى هذا لا يضرب الغرماء معه فيها بما افتكوها به من أموالهم إلا إذا سلمت وبيعت بربح. وقد مضى القول على هذه المسألة مستوفى في أول سماع يحيى، وبالله التوفيق.

[مسألة: عليه دين يحيط بماله أو بعضه فتحمل بحمالة وهو يعلم أنه سيغرم]
مسألة قال أصبغ: سمعته يقول في رجل عليه دين يحيط بماله أو بعضه، فتحمل بحمالة وهو يعلم أنه سيغرم: إنه لا يسعه ذلك فيما بينه وبين الله.
قال: والحمالة أيضا عند مالك مفسوخة لا تجوز،

(10/510)


ورآها من ناحية الصدقة، ولم يرها من ناحية البيع.
قال أصبغ: وذلك أن الحمالة معروف. ألا ترى أن حمالة المرأة لا تجوز إذا كانت ذات زوج إذا جاوزت الثلث الذي يجوز قضاؤها فيه؛ لأنها أنزلت كالصدقة. ألا ترى أن حمالة العبد الْْمُسْتَتْجَرِ أيضا لا تجوز؛ لأنها ليست من التجارة، إنما هي معروف وليس المعروف من التجارة التي سلط عليها.
قال محمد بن رشد: قوله في الذي عليه دين يحيط بماله أو ببعضه، إنه لا يسعه فيما بينه وبين خالقه أن يتحمل بحمالة وهو يعلم أنه يغرم، وإن الحمالة تفسخ وترد ولا تجوز؛ لأنها من المعروف، صحيح بين لا إشكال فيه.
وقوله في الذي لا يحيط الدين إلا ببعض ماله: إن حمالته لا تجوز، معناه: إذا كانت حمالته التي تحمل بها لا يحملها ما فضل من ماله عن الدين الذي عليه، وأما إن كانت الحمالة التي تحمل بها يحملها ما يفضل من ماله بعد ما عليه من الدين، فهي جائزة في الحكم سائغة لمن فعلها، وإذا كان الرجل قائم الوجه يبيع ويشتري ويتصرف في ماله، فحمالته وهبته وصدقته جائزة نافدة، وإن علم أن عليه ديونا كثيرة، ما لم يعلم أنها مستغرقة لماله، فهي على الجواز حتى يثبت أنه لا وفاء له بما فعل من المعروف.
وقد مضى هذا المعنى في سماع عيسى من كتاب الرضاع، والمسألة بعينها متكررة في سماع أبي زيد من كتاب الكفالة والحوالة، وبالله التوفيق.

[مسألة: فلسه قوم ثم داينه رجل منهم]
مسألة قال: وسمعته يسأل عن رجل فلسه قوم ثم داينه رجل منهم، ثم فلس ثانية، فلم يكن في ماله وفاء بدينه الذي أسحره الآخر به، ثم داينه بعد ذلك بشيء آخر، فربح فيه ربحا كثيرا ثم فلس ثالثة، أيكون هذا الذي داينه أولى بجميع ما بيده حتى

(10/511)


يستوفي دينه الأول والأوسط والآخر؟
قال: لا. ولكن له ماله الذي داينه به آخر مرة، وما فضل فهو والغرماء الأولون فيه أسوة بجميع دينه ما بقي من أول وأوسط، وإنما ذلك بمنزلة ما لو داينه غيره، فكل من فلس ثم داينه آخرون، ثم فلس ثانية، فالذين داينوه بعد تفليسه أولى حتى يستوفوا رءوس أموالهم، ويكون الربح والفضل لجميع غرمائه. قال أصبغ مثله، وهي جيدة صواب كلها.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة على معنى ما في المدونة، فلا وجه للقول فيها، وبالله التوفيق.

[مسألة: عليه دين قام عليه الغرماء ولا مال له فجاء من يسلفه أو يعينه إلى أجل]
مسألة قال أصبغ: وسمعته وسئل: عن رجل عليه دين قام عليه الغرماء، ولا مال له، فجاء من يسلفه أو يعينه إلى أجل، أعليه أن يأخذ ذلك فيقضيه الغرماء؟
قال: ليس ذلك عليه، وفي التعيين أبين، والسلف أيضا ليس ذلك عليه، وقاله أصبغ.
قال الإمام القاضي: هذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه أعلمه أنه لا يلزم المديان أن يستسلف، ولا أن يستوهب، ولا أن يستعين ليؤدي ما عليه من الدين ولا أن يقبل شيئا من ذلك إن طاع له بذلك أحد، لأن الغرماء لم يعاملوه على ذلك ولا دخلوا معه عليه، ولا يلزمه قبول معروف أحد، ولا تحمل مِنَّتِهِ وإن طاع الرجل أن يسلف الطالب فيقضيه ماله على الغريم المطلوب ويرجع به عليه، لزمه ذلك ولم يكن له أن يمتنع منه؛ لأن المعروف إنما هو للطالب ليس للغريم المطلوب، فلا قول له في ذلك ولا وجه لامتناعه منه، هذا قول مالك وجميع أصحابه، خلاف ما ذهب إليه أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد من أن من أدى عن رجل مالا بغير أمره فليس له أن يرجع به عليه، وبالله التوفيق.

(10/512)


[مسألة: قام عليه غرماؤه ففلسوه فيما بينهم وأخذوا ماله ثم داينه آخرون]
مسألة قال: وسمعته يقول عن مالك في رجل قام عليه غرماؤه ففلسوه فيما بينهم وأخذوا ماله، ثم داينه آخرون أن الآخرين أولى بما في يديه بمنزلة تفليس السلطان.
قال أصبغ: قال لي ابن القاسم: ولو قاموا عليه فلم يجدوا في يديه شيئا فتركوه، لم أر هذا تفليسا ورأيت إن داينه آخرون بعد ذلك ثم فلس، أن يدخل الأولون مع الآخرين، إلا أن يكونوا بلغوا به السلطان وكان هو الذي فلسه، فذلك تفليس وإن لم يوجد له شيء، وذلك أن السلطان يكشفه ويبلغ من كشفه ما لا يبلغ هؤلاء، قال: ولو أعلم أنهم كانوا يبلغون منه مثل ذلك؛ لأنفسهم دون السلطان لرأيت ذلك تفليسا، ولكن لا أحب أن أقوله مخافة ألا يبلغوا ذلك، وقاله أصبغ.
قال: وتفليسهم إياه فيما بينهم أليق إذا فعلوا ذلك واجتمعوا فيه وبلغوه، وتبين ذلك تفليسا كالسلطان.
ومما يبين ذلك أن يجدوا له الشيء اليسير، أو السقط في الحانوت الذي يكشف فيه ويفلس، فيأخذون ما وجدوا ويقتسمونه على تفليسه، واليأس من ماله، فيطلقونه فهو عندي تفليس كالسلطان سواء، والسلطان هكذا كان يفعل ونحوه.
قال محمد بن رشد: هذا هو حد التفليس الذي يمنع من دخول من فلسه على من عامله بعد التفليس.
وأما حد التفليس الذي يمنع قبول إقراره، فهو أن يقوم عليه غرماؤه فيسجنوه أو يقوموا عليه فيتستر عنهم فلا يجدوه، قال محمد: ويحولوا بينه وبين التصرف في ماله بالبيع والشراء، والأخذ والعطاء، إلا ألا يكون لواحد منهم بينة، فيكون إقراره جائزا لمن أقر له، إذا كان في مجلس واحد أو قريب بعضه من بعض.
قال ابن حبيب: وإن كان المقر لهم ممن يتهم عليه أو إلا أن يكون من له بينة لا

(10/513)


يستغرق ماله أو إلا أن يكون إقراره عند القيام عليه قبل أن يستسلم ويسكت، فيجوز، إذ لا يقدر على أكثر من ذلك.
وقد روي عن مالك أن إقرار المفلس يجوز لمن يعلم منه إليه تقاضيا ومداينة وخلطة مع يمينه، ويحاص من له بينة، ولذلك وجه.
واختلف إذا قضى بعض غرمائه بعد أن تشاوروا في تفليسه قبل أن يفلسوه فلم يجزه ابن القاسم، وأجازه أصبغ.
وفي قوله في هذه الرواية: وذلك أن السلطان يكشفه ويبلغ من كشفه ما لا يبلغ هؤلاء، ما يقوم منه أن للإمام أن يفتش عليه داره، وكذلك قال ابن شعبان: إنه تفتش عليه داره.
وكان الشيوخ المتأخرون يختلفون في ذلك، والأظهر أن يفتش عليه، فما ألفي فيها من متاع النساء فادعته زوجته كان لها، وما ألفي فيها من عروض تجارته بيع لغرمائه، ولم يصدق إن ادعى أنه ليس له.
وما ألفي فيها من العروض التي ليست من تجارته فادعى أنها وديعة عنده أو عارية أو ما أشبه ذلك، جرى ذلك على ما قد ذكرته من الاختلاف في ذلك في غير ما موضع، من ذلك ما في رسم البيع والصرف من هذا السماع، وبالله التوفيق.

[مسألة: تكارى أرضا يزرعها واستأجر أجراء يقومون فيها بسقيها وعلاجها ثم فلس]
مسألة قال: وسمعته، وسئل: عمن تكارى أرضا يزرعها واستأجر أجراء يقومون فيها بسقيها وعلاجها، ثم فلس، قال: صاحب الأرض والأجراء في الزرع أولى من سائر الغرماء، وأنهم يتحاصون في ذلك رب الأرض والأجراء. وقاله أصبغ.
وقال: قلت لابن القاسم: فإن كان استأجر فيها أجراء لسقيها فعجزوا عنها ثم تركوها، فاستأجر غيرهم ثم فلس، ففضل عن رب الأرض والأجراء فضلة، أيكون أولئك الأولون العاجزون أحق بما فضل، أو يكونون كذا أسوة مع من بقي.
قال: بل يكونوا (كذا) أحق بما فضل عنهم حتى يستوفوا، وقاله أصبغ؛ لأنهم أحيوا أولا وأول

(10/514)


حياته منهم وبهم، وإنما بدئ هؤلاء عليهم؛ لأن بهم تم بمنزلة الرهن أن لو رهنه قوما فأحيوا بما لهم، ثم عجزوا فرهنه غيرهم، إن الآخرين أحق، وما فضل فللأولين برهنهم وإحيائهم.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول فيها مستوفى في أول سماع أشهب، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.

[: الأجير يستأجره الرجل فيستتجره]
ومن كتاب الصدقة والأحباس وقال مالك في الأجير يستأجره الرجل فيستتجره: إنه لا بأس بذلك، قال: وما استدان في ذلك فإنما يلحق ذمته إذا لم يكن في يديه مال، قيل لابن القاسم: الضمان يقع عليه إذا استأجره وأطلعه في حانوت أجلسه فيه يعمل فيه، فما دخل عليه كان للذي استأجره، قال: نعم، قلت: وترى هذه الإجارة جائزة؟
قال: نعم، قلت له: ألا تراه كأنه استأجره بشرط على أن يضمن له ما تلف؟
قال: لا، وأين الشرط؟
قلت: إذا كان الضمان يقع عليه، فكأنه شرطه في الأصل، قال: لا، وهذه سنة المسلمين لا شك فيها، أرأيت الرجل يستأجر النواتية في سفينته بشيء مسمى يحملون فيها، ويكرونها له، إنه لا بأس به، والضمان عليهم فيما حملوا من الأطعمات، فهذه سنة المسلمين وأجرتهم وعملهم.
وكذلك لو تكارى قوما في ظهر له يكرونه ويحملون عليه ويرحلونه، فهم ضامنون لما حملوا من الأطعمة، وكذلك عبده الصانع يضعه للعمل ويستتجره، فما لحقه في ذلك، كان في ذمته.
قال الإمام القاضي: قوله في أول المسألة في الأجير يستأجره الرجل فيستتجره: إنه لا بأس بذلك - صحيح، ومعناه: إذا كان العمل الذي استأجره لعمله من نحو العمل فيما استتجره فيه، فيجوز ذلك إذا رضي الأجير ولا

(10/515)


يكون به بأس. وهذا على معنى قوله في كتاب الرواحل من المدونة في أن من أكرى دابة إلى بلد فليس له أن يركبها إلى بلد غيره إلا برضا المكري.
وقد قيل: إن له أن يركبها إلى غير ذلك البلد إذا كان الطريق مثله في الحزونة والسهولة، شاء ذلك المكري أو أبى، وهو قول مالك في أول رسم من سماع ابن القاسم من كتاب الجعل والإجارة، وقيل: إنه لا يجوز أن يركبها إلى غير ذلك البلد وإن رضي المكري؛ لأنه فسخ دين في دين، وهو قول غير ابن القاسم في كتاب الرواحل والدواب من المدونة.
فهذه الثلاثة الأقوال تدخل في هذه المسألة، ولو استأجره على أن يستتجره لجاز ذلك باتفاق إذا لم يضرب عليه خراجا معلوما، ولم يجز باتفاق إذا ضرب عليه خراجا معلوما، ويجوز على اختلاف إذا استأجره على أن يجيئه بغلته وخراجه من غير أن يسمي عليه من ذلك شيئا معلوما.
وقوله: إذا استأجره فاستتجره إن ما استدان في ذلك يلحق ذمته إذا لم يكن في يديه مال، معناه: إنه يلحق ذمته منه ما لم يف به ما بيده من المال الذي استتجره فيه، إذ لا يصح أن يستتجره بغير مال.
وقوله بعد ذلك متصلا بقول مالك، قيل لابن القاسم: الضمان يقع عليه إذا استأجره وأطلعه في حانوت أجلسه فيه يعمل فيه إلى آخر قوله استئناف مسألة أخرى غير الأولى؛ لأن الأولى في اسْتِتْجَارِ الرجل من استأجره، وقد ذكرنا ما يتخرج في ذلك من الأقوال، والثانية: في الأجير الصانع يجلسه الذي استأجره في حانوت على أن يعمل للناس ويلي معاملتهم، وهذا جائز باتفاق إذا رضي بذلك الأجير الصانع، إذ لا يلزمه بغير اختياره، لما يتمونه في ذلك من الأخذ والإعطاء، ويلزمه في ذلك من الضمان.
ولو استأجره على ذلك ابتداء لتخرج ذلك على قولين، كالذي يستأجر الأجير على أن يجيئه بالغلة، وقد ذكرنا ذلك، وبالله التوفيق.

[: إقراره بالدين في مرضه الذي مات منه لبعض أبناءه دون بعض]
ومن كتاب الوصايا قال أصبغ: سمعت ابن القاسم، قال في رجل له ولد، كلهم

(10/516)


بار به في حال واحدة، فأوصى أن لبعضهم عليه دينا، قال: لا يجوز إقراره ذلك، وقال: إن كان بعضهم بارا حسن الحال، وآخر عاق خبيث فأوصى لهذا العاق الخبيث بدين له عليه، ذكره من قبل أمه أو بشيء فهو جائز، وإن كان أوصى بذلك للبار لم يجز.
قال أصبغ: هي جيدة، وذلك إن التهمة بالتوليج تسقط في العاق ويصير كالأجنبي، وإن التهمة واقعة في الآخر بأن يكون أوصى له بما ليس عليه، فتكون وصية لوارث، وذلك بمنزلة الزوجة يقر لها بدين فإن كان بها صبا معروفا ذلك منه، أو كان يورث كلالة لم يجز وكانت تهمة، وإن كان له ولد وكان بها غير صب وليس الذي بينهما بالحسن لم يتهم وجاز لها؛ لأنه أقر بدين وليس بوصية، وسواء كان الولد منها أو من غيرها إذا لم يتهم فيها بصبابة وميل.
قال محمد بن رشد: قوله: إن وصيته للعاق من ولده بدين له عليه جائزة، مثل إحدى الروايتين في كتاب المديان من المدونة.
وتحصيل القول في هذه المسألة: إذا كان ولده كلهم مستوين في البر به أو العقوق له، فلا اختلاف في أنه لا يجوز إقراره بالدين في مرضه الذي مات منه لبعضهم دون بعض، وأما إذا كان بعضهم بارا وبعضهم عاقا له، فاختلف في إقراره للعاق على قولين: أحدهما: أنه جائز، وهو قوله في هذه الرواية، وفي إحدى الروايتين من كتاب المديان من المدونة، والثاني: أنه لا يجوز، وهو قوله في الرواية الثانية من المدونة، والوصية بالدين في الصحة أو المرض كالإقرار له بالدين في مرضه الذي توفي منه سواء. وكذلك القول في الإخوة والأخوات وسائر العصبة والقرابات.
وأما إقرار أحد الزوجين بدين في مرضه الذي مات منه، أو وصيته له به في صحته أو في مرضه الذي مات منه، ففيه تفصيل قد مضى تحصيله في آخر أول رسم من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته. وشهادة الأب لأحد بينه على بعض من هذا

(10/517)


المعنى، إلا أن تهمته في الشهادة لبعضهم على بعض أخف من تهمته في إقراره لبعضهم دون بعض بدين في مرضه الذي توفي منه أو وصيته له به، ففي الموضع الذي يتفق على أنه لا يجوز إقراره له، وهو إذا كانوا مستويين في البر به أو العقوق له، يختلف في جواز شهادته له، وفي الموضع الذي يختلف في جواز إقراره له وهو إذا كان بعضهم بارا به، وبعضهم عاقا فأقر للعاق منهم يتفق على جواز شهادته له، إلا أن يكون المشهود له في حجره صغيرا، أو كبيرا سفيها، والمشهود عليه كبيرا، فلا تجوز شهادته له باتفاق؛ لأنه يتهم لحيازته المال.
وأما شهادته لبعض ولده على أجنبي، فلا تجوز بحال، وإن كان المشهود له عاقا، وأما شهادته عليه لأجنبي فتجوز، إلا أن يكون عاقا له ومعاديا، وبالله التوفيق.

[مسألة: يقول في مرضه لفلان علي ثلاثون دينارا وثلاثون من بقية حساب بيننا]
مسألة وسئل: عن الرجل يقر في مرضه فيقول لفلان علي ثلاثون دينارا، وثلاثون من بقية حساب بيني وبينه، ولم يسم في الأولى شيئا، قال: أرى له عليه ستين دينارا إذا قال: له عليَّ ثلاثون دينارا، وثلاثون دينارا من بقية حساب بيني وبينه، فله ستون يأخذها، سمعته يقولها، وهو رأيي.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله لا إشكال فيه ولا احتمال؛ لأن الشيء لا يعطف على نفسه، إنما يعطف على غيره، وبالله التوفيق.

[: العبد تكون تحته الحرة الحجر عليها في مالها]
ومن كتاب الوصايا والأقضية قال أصبغ: سألت ابن وهب عن العبد تكون تحته الحرة، الحجر عليها في مالها إلا في الثلث، كما أيحجر الحر على امرأته إلا في ثلثها. قال: وما للعبد وما لها؟ قلت: إنها زوجته، فالمولى

(10/518)


يرثها، وليس له على مالها سبيل، ليس له أن يحجر عليها، قيل له: أيتصدق بمالها؟
قال: نعم..
قلت له: لعله يعتق يوما ما.
فقال: والله ما اجتمع الناس في الحر رأسا.
قلت: أفليس ذلك رأيك في الحر أنه يحجر على امرأته في مالها إلا في الثلث؟
قال: ذلك أحب إلي.
قلت: فالحر تحته الأمة يحجر عليها؟
قال: ما للحر وما للأمة؟ الأمة مالها لسيدها. ألا ترى أن الأمة لا تختلع من زوجها إلا بإذن سيدها؟
قال أصبغ: ليس قوله في الحرة تحت العبد بشيء، ذلك له، وهو زوج وهو حق من حقه.
قال: وقال مالك في رواية أشهب وابن نافع مثله، ورواية أبي زيد عن ابن القاسم مثل رواية أشهب وابن نافع عن مالك.
قال محمد بن رشد: وقعت رواية أشهب هذه في أول سماع أشهب من كتاب النكاح كاملة، ورواية أبي زيد في سماعه من كتاب الصدقات والهبات، وذلك أظهر من قول ابن وهب؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال، عَلَى مَا رُوِيَ عَنْهُ: «لا يجوز لامرأة قضاء في ذي بال من مالها بغير إذن زوجها» ، فعم ولم يخص زوجا من غير زوج، ولا حرا من عبد، فوجب أن يحمل قوله على عمومه، لا سيما إذا كان لذلك وجه من النظر، وهو ما ذكره في سماع أشهب، وبالله التوفيق.

[مسألة: الميت يثبت عليه الدين فيجد الوصي براءة منه بشاهد واحد والورثة صغار]
مسألة قال أصبغ: سألت أشهب عن الميت يثبت عليه الدين فيجد الوصي براءة منه بشاهد واحد، والورثة صغار. قال: يحلف

(10/519)


الطالب أنه ما قبض، فإن حلف دفع إليه المال وعجل له، فإذا كبر الصغار حلفوا، فإن حلفوا استرجعوا المال. قال أصبغ: هي جيدة حسنة.
وكذلك لو كان الدين لهم عليه بشاهد واحد حلف، فإن حلف برئ إلى مبلغهم.
وهذا قول مالك وابن القاسم في هذا، فالآخر مثله.
قال الإمام القاضي: قوله: فإن حلف الطالب دفع إليه المال، يدل على أنه لا يؤخذ منه، فيوقف إذا حلف في المسألة الأخرى، وهو دليل قول أصبغ فيها: فإن حلف برئ إلى مبلغهم على ما قد ذكرناه في رسم البيوع من هذا السماع.
وقد قيل: إنه يؤخذ منهم فيوقف حتى يكبر الصغار فيحلفوا مع شاهدهم. ومعنى ذلك إذا خيف عليه العدم.
وقد مضى القول على هذه المسألة فيما تقدم من هذا السماع، ومن رسم جاع فباع امرأته من سماع عيسى من كتاب الشهادات فلا معنى لإعادته، والله الموفق.

[مسألة: أوصى فقال لفلان في هذا الكيس مال]
مسألة وسئل: عن رجل أوصى فقال: لفلان في هذا الكيس مال، فقال: أما أنا فأرى أن يعطى عشرين دينارا؛ لأن عشرين دينارا تجب فيه الزكاة، فهي مال، قيل له: أرأيت إن كان فيه مائتا درهم، أترى أن يعطاها؟ قال: نعم بعد أن يحلف.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة حسنة، وجهها: أن الله تبارك وتعالى إنما سمى مالا من الأموال ما تجب فيه الزكاة منها، وذلك أنه قال: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103] ، وعنى بذلك المقادير التي تجب فيها الزكاة بما بينه على لسان رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من قوله: «ليس فيما دون

(10/520)


خمس أواق من الورق زكاة» وليس في عشرين دينارا ناقصة بينة النقصان زكاة، فوجب إذا قال الموصي في وصيته: يعطى فلان من هذا الكيس مال أن يعطى منه أقل ما سماه الله مالا، وهو عشرون دينارا إن كان فيه ذهب، أو مائتا درهم إن كان فيه ورق، وإذا قال له فيه مال أن يعطى عشرين دينارا إن كان فيه دنانير، أو مائتي درهم إن كان فيه دراهم، بعد يمينه على ما ادعى إذا ادعى أن له فيه عشرين دينارا أو أكثر، أو مائتي درهم أو أكثر باتفاق، إن كذبه الورثة وادعوا أن حقه فيه أقل من ذلك، أو على اختلاف إن قال الورثة لا نعلم مقدار ما فيه ونحن نتهمه فيما ادعاه، وكذلك إن ادعى أن له فيه أقل من عشرين دينارا أو أقل من مائتي درهم، فيكون له ما ادعى من ذلك بعد يمينه على ما ادعاه باتفاق، إن كذبه الورثة، أو على اختلاف إن لم يكذبوه واتهموه. وبالله التوفيق.

[: قال كان بيني وبين فلان معاملة فما ادعى من شيء أعطوه وهو فيه مصدق]
ومن كتاب الوصايا الصغير قال أصبغ: قيل لابن القاسم: فإن أوصى فقال: كان بيني وبين فلان معاملة، فما ادعى من شيء أعطوه، وهو فيه مصدق.
فقال: إن ادعى ما يشبه معاملة مثله لمثله أعطيه، وأحسبه رواها عن مالك.
قال ابن القاسم: ويكون ذلك من رأس المال.
قال: وليس كل الناس في قلتها وكثرتها سواء.
قال: وإن ادعى ما لا يشبه بطل ذلك فلم يكن في رأس مال ولا ثلث.
قال أصبغ:

(10/521)


وإنما يبطل عند ذلك الزيادة على ما يشبه، ولا يبطل عنه كل شيء، يعطى ما يشبه مما لا يتبين فيه كذبه، ويحمل محمل الشهادة له وعليه.
قال محمد بن رشد: هذه المسألة صحيحة بينة لا اختلاف فيها إلا في اليمين، فإنه سكت عنها.
وقد اختلف في وجوبها حسبما مضى القول فيه في رسم تأخير صلاة العشاء من سماع ابن القاسم، ورسم أسلم من سماع عيسى، فلا معنى لإعادته. وقول أصبغ مفسر لقول ابن القاسم، لا خلاف له.
ولو قال: أعطوه ما ادعى واحسبوه من ثلثي، لكان له ما ادعى وإن لم يشبه ما لم يتجاوز الثلث، وبالله التوفيق [اللهم لطفك يا مولاي] .

[: يبيع أرضا أو دارا لولده في حجره]
ومن كتاب الكراء والأقضية وسمعته يقول، في الذي يبيع أرضا أو دارا لولده في حجره، والأب مليء أو مفلس أو سفيه أو لا بأس بحاله، قال: إن كان الأب ليس بسفيه ولا مولى عليه جاز بيعه، ولم يكن للابن أن يرده إن كبر إذا كان نظرا له، ويتبع أباه بثمن ما باع من ماله، ويكون لأبيه أن يحاسبه بما أنفق عليه إن شاء عند ذلك من يوم باع.
وإن كان الأب سفيها مثله يولى عليه لم يجز عليه بيعه وإن لم يكن عليه ولي؛ لأنه لو باع لنفسه لم يجز له بيع؛ لأن كل من كان مثله يولى عليه في سفهه إذا مات أبوه أو وصيه، كان بمنزلة المولى عليه؛ لأن جل الناس يهلكون في الأسفار ويموت الرجل فجأة، ولعل ذلك لا يرفع إلى قاض فيستخلف عليه نظرا له، فيبايع مثل هذا فيذهب بماله، فهذا عظيم فيمن كان في مثل هذا الحد ممن قد ولي عليه إن لم يول عليه بمنزلة واحدة. وليس من مات فجأة

(10/522)


أو مات بأرض غربة، أو غفل عن وصية يكون ولده أدنى حرمة ممن أوصي بهم، وهذا عظيم، وهو الذي سمعت من غيري وهو رأيي، والحق بَيِّنٌ نَيِّرٌ.
قال الإمام القاضي: الظاهر من قول ابن القاسم في هذه الرواية: إن كان الأب ليس بسفيه ولا مولى عليه جاز بيعه، أنه إن كان مولى عليه، لم يجز بيعه ولا فعله وإن علم رشده، خلاف ما تقدم من قوله في رسم جاع فباع امرأته من سماع عيسى من أن أفعال المولى عليه جائزة إذا علم رشده، فلم يعتبر في رواية عيسى بالولاية ولا بعدمها، واعتبر حاله في حين قضائه، واعتبر في هذه الرواية بالولاية ولم يعتبر بعدمها وهي رواية زونان عنه: أن من لزمته ولاية وصي من أب أو سلطان لا يحلها عنه إلا السلطان.
والمشهور من قول مالك أنه يعتبر بالولاية وبعدمها، فلا تجوز أفعال المولى عليه وإن علم رشده، وتجوز أفعال الذي ليس بمولى عليه وإن علم سفهه، فقف على تحصيل هذه الثلاثة الأقوال، فإنها جيدة دقيقة خفية قل من يعرفها ويحصلها.
وقوله: ولم يكن للابن أن يرده إن كبر إذا كان نظرا له، يدل على أن الأب في بيع عقار ابنه بخلاف الوصي في بيعه عقار يتيمه، إذ لا يجوز للوصي أن يبيع عقار يتيمه إلا لوجوه معلومة قد حصرها أهل العلم بالعد لها.
واختلف الشيوخ المتأخرون هل يصدق الوصي فيها أم لا؟
فقيل: إنه يصدق فيها ولا يلزمه إقامة البينة عليها، وقيل: إنه لا يصدق فيها ويلزمه إقامة البينة عليها.
وأما الأب فيجوز بيعه عقار ابنه الذي في حجره إذا كان بيعه على وجه النظر، من غير أن يحصر وجوه النظر في ذلك بعدد، وفعله في ذلك على النظر حتى يثبت خلافه، مليا كان أو مفلسا على ما نص عليه في الرواية.
وقوله: ويكون لأبيه أن يحاسبه؛ فما أنفق عليه إن شاء عند ذلك من يوم باع - يدل على أنه لا يكون له عنده أن يحاسبه بما أنفق عليه قبل أن

(10/523)


يبيع، ومعناه: إذا لم يكتب النفقة، وذلك خلاف لما في رسم باع شاة من سماع عيسى من كتاب طلاق السنة. وأما النفقة فلا اختلاف أن له أن يحاسبه بها.
وقد مضى في رسم جاع فباع امرأته من سماع عيسى تحصيل الخلاف في أفعال السفيه الذي ليس في ولاية، وبذلك تتم المسألة، وبالله التوفيق.

[مسألة: الرجلين إذا أسلما إلى رجل في طعام أو عروض فأقاله أحدهما]
مسألة وسمعته يقول، وسئل: عن رجلين لهما على رجل حق فوكلا عليه وكيلا فقام، فقال: إنما اقتضيت حق فلان، وقال الغريم: بل دفعت لك حق فلان الآخر، والغريم معدم. فقال: إن كان حقهما واحدا مجتمعا فهو بينهما، وقاله أصبغ.
قال محمد بن رشد: أما إذا كان حقهما مجتمعا فلا إشكال في أن ما اقتضى الوكيل بينهما وإن اتفقا على أنه إنما اقتضى حق أحدهما فكيف إذا اختلفا في ذلك؛ لأن الدين إذا كان بين الشريكين فاقتضى أحدهما منه شيئا كان لصاحبه الدخول معه فيه، ولا خلاف في هذا أحفظه إذا كان ذلك الدين اشتركا فيه بطوعهما لم يصر لهما من ميراث ولا جناية؛ لأن سحنون يفرق بين الوجهين، فيقول: إنما يكون لصاحبه الدخول معه فيما اقتضى إذا كان ذلك الدين اشتركا فيه بطوعهما إلا ما وقع في كتاب السلم الثاني من المدونة في أن الرجلين إذا أسلما إلى رجل في طعام أو عروض فأقاله أحدهما من نصيبه دون صاحبه أن ذلك جائز وإن لم يرض صاحبه.
فقيل: إن ذلك اختلاف من القول، وقيل: إن ذلك ليس باختلاف من القول وإنه إنما لم ير مالك لشريكه الدخول على شريكه فيما أخذ من غريمهما؛ لأنه إن دخل عليه في ذلك كان كل واحد منهما قد أقاله من بعض حقه فيصير بيعا وسلفا وبيع الطعام قبل أن يستوفى. فلما لم يجز لم ير مالك الدخول على شريكه فيما أقاله فيه.
وفي قوله في المسألة: إن كان حقهما واحدا مجتمعا فهو بينهما - دليل على أنه إذا لم يكن واحدا مجتمعا فلا يكون

(10/524)


بينهما. وإذا لم يكن بينهما فالقول قول الوكيل، وهو قول أصبغ، وحكى ذلك ابن لبابة في منتخبه عن ابن القاسم، وروى عيسى عنه في رسم العارية من سماع عيسى من كتاب البضائع والوكالات أن ذلك بينهما وإن اختلفا، فقال الغريم قضيت حق فلان، وقال الوكيل بل قبضت منك حق فلان. وكذلك على هذه الرواية لو اتفقا على أنه إنما اقتضى حق أحدهما.
ووجه هذا القول أن الوكيل لا يصدق إذا كان الغريم عديما مفلسا على أنه إنما طلب حق أحدهما إذا لم يكن له على ذلك بينة؛ لأنه يتهم على محاباته والجر إليه، كما يتهم الغريم على ذلك، والأظهر أن القول قوله ولا يتهم في ذلك، وبالله التوفيق.

[مسألة: غاب عن أهله ثم بعث إليهم بمائة دينار نفقة وعليه دين]
مسألة وسئل ابن القاسم، عن رجل غاب عن أهله ثم بعث إليهم بمائة دينار نفقة وعليه دين فطلب الغرماء حقوقهم منها، فقال الرسول قد أوصلتها إلى عياله. هل يعدى الغرماء على عياله أو على الرسول أو يقبل قول الرسول قد دفعت؟
فقال: أرى أن يحلف الرسول على الدفع ويقبل قوله ويعدى الغرماء على أهل الرجل فينتزع منهم إن كان أقاموا عليهم بحضرة ذلك، يريد إن أقروا، وإن كانوا إنما أقاموا بعد ما يرى أنهم قد أكلوها واستنفقوها لبعد ذلك وطوله فلا شيء عليهم، وهو بمنزلة ما ينفق الرجل على عياله وعليه دين، وقاله أصبغ كله.
وإن ادعى العيال أنهم قضوا منه دينا كانوا أدانوه وفي كراء منزل حين قام الغرماء بحدثان ذلك في الحين الذي يجوز لهم القيام، لم يصدقوا إلا أن يأتوا من ذلك ببرهان أو لطخ أو سبب.

(10/525)


قال الإمام القاضي: قوله أرى أن يحلف الرسول على الدفع ويقبل قوله ويعدى الغرماء على أهل الرجل إن أقروا، خلاف المشهور من قول ابن القاسم المعلوم من مذهبه وروايته عن مالك في أن من دفع مالا إلى رجل وأمره أن يدفعه إلى غيره أن عليه ما على ولي مال اليتيم من الإشهاد بقوله عز وجل: {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا} [النساء: 6] ... الآية، وأنه لا يبرأ من المال ولا يصدق بدفعه إلى المأمور إذا أنكر المأمور القبض، مثل قول ابن الماجشون فيمن بعث ببضاعة مع رجل إلى رجل أنه لا يلزمه الإشهاد في دفعها إليه، وهو مصدق وإن أنكر القابض كانت دينا أو صلة.
ويمكن أن يقول ابن القاسم مثله في المعنى من مسألة اللؤلؤ الواقعة في كتاب الوكالات من المدونة؛ لأنها تقتضي تعمير ذمة الآمر بقول المأمور قد فعلت ما أمرتني به.
وإذا وجب أن يعمرها بقوله قد فعلت ما أمرتني به من الشراء وجب أن تخلى ذمة نفسه بقوله قد فعلت ما أمرتني به من الدفع. وإذا وجب أن تخلى ذمته بقوله فإخلاء أمانته بقوله أوجب.
ومن رواية عيسى عنه في كتاب الخيار في الذي يشتري الثوب من الثوبين على أن أحدهما قد وجب عليه يختاره فيضيع أحدهما فيدعي أنه قد كان اختار هذا الباقي ورضيه أنه يصدق في ذلك.
وقد رأيت للقاضي ابن زرب في هذه المسألة أنه قال إنما صدق الرسول على الدفع؛ لأنه إنما وكله على دفع نفقتهم على ما كان يدفعها هو، وليس من شأن الأزواج والآباء أن يدفعوا النفقات بالبينات إلا أن تكون الزوجة قد رفعت أمرها إلى الإمام فاستعدته على الزوج.
فإن لم يعلم الرسول بذلك ودفع بدون بينة فأنكرت الزوجة حلف وبرئ أيضا، وغرم الزوج للمرأة نفقتها بعد يمينها، ولم يكن له الرجوع على الرسول.
وإن كان الرسول قد علم برفع المرأة أمرها إلى الحاكم ودفع دون بينة فأنكرت المرأة ضمن للزوج؛ لأنه حينئذ متعد بتفريطه.
قال غيره من الشيوخ على قياس قوله ولو ادعى على الرسول أنه علم برفعها إلى الإمام وأنكر ذلك حلف الرسول ما علم بذلك ثم يحلف

(10/526)


على الدفع ويبرأ، وذلك كله لا يصح؛ لأن الزوج إنما يصدق في دفع النفقة إلى امرأته إذا ادعى بعد مضي المدة أنه كان ينفق عليها وأنه كان يدفع إليها نفقتها أو ما تنفق منه شيئا بعد شيء أو جملة واحدة.
وأما إن ادعى أنه دفع إليها مائة دينار لتنفق منهما على نفسها فيما يستقبل أو في سنة قد كانت أنفقت على نفسها من مالها فيما مضى وأنكرت ذلك فلا يصدق بإجماع.
فحكم الرسول في المائة دينار التي بعثها الزوج معه إلى امرأته لتنفقها حكمه في ألا يصدق في دفعها إليها إذا أنكرت إلا على ما وصفناه من مذهب ابن الماجشون وما يتخرج على قول ابن القاسم في المسائل التي ذكرناها فإنه يصدق على الدفع ويبرأ، أو تصدق هي فيما زعمته من أنها لم تقبض وتأخذ نفقتها من الزوج، ولا يعدى عليه الغرماء بشيء.
ولو كان القول قول الزوج في دفع المائة إليها لنفقتها وكان الرسول قد حل محله في ذلك على ما زعم ابن زرب لوجب أن يكون للغرماء أن يأخذوا المائة منها وإن أنكرت إذا حلف الرسول على الدفع.
وإلى هذا ذهب وقد خالفه أصبغ بقوله: يريد إن أقروا. فقول ابن زرب خطأ صراح لا خفاء به، ولا وجه للمسألة سوى ما ذكرنا، وبالله التوفيق.

[مسألة: يأتي بذكر حق له على آخر بمائة دينار ويأتي المطلوب ببراءة بمائة دينار]
مسألة قال: وسمعته وسئل: عن الرجل يأتي بذكر حق فيه شهود على رجل بمائة دينار، ويأتي المطلوب ببراءة بمائة دينار دفعها إليه لا يدري شهودها أكانت قبل ذلك الذكر حق أو بعده، ليس فيها تاريخ. قال: يحلف ويبرأ، يعني صاحب البراءة.
قال أصبغ: يعني يحلف أنها قضاء لذلك الحق ويبرأ. وقاله أصبغ، وهذا هو القضاء وصوابه ولا يجعل له مالين، كما لو كان للحق تاريخ والبراءة بعده بمال دفعه وادعى صاحب الحق أنه غيره لم يقبل قوله، وحلف الآخر أنه هو وبرئ.
وسئل: عن رجل أتى بذكر حق على رجل فيه ألف دينار،

(10/527)


فأتى المشهود عليه ببراءة بألفي دينار فزعم أن تلك الألف قد دخلت في هذا عند المحاسبة والقضاء، أو أتى ببراءات مفترقة إذا جمعت استوت مع الذكر الحق أو الذكورات الحقوق أو كانت أكثر أو أقل، وليس شيء من ذلك منسوب ليس فيه شيء يشبه أن يكون من الذكورات الحقوق ولا غير ذلك، ويقول في الأكثر قد دخل فيه على الحساب والقضاء مع غيره، فرأى ذلك كله سواء وأنه له براءة يحلف في ذلك إذا ادعى الآخر غير ذلك، وقاله لي قولا لفظا ثابتا، ويتم له بقية الذكورات الحق إذا كانت البراءات أقل من ذلك.
قال: وهو أحب إلي، وهو الذي أرى وأستحسن. قال أصبغ: ورددتها عليه مرة بعد مرة فثبت على ذلك، وقاله أصبغ كله. فهذا كله باب واحد، وهو كالطلاق وللطلاق تفسير.
قال محمد بن رشد: مساواته في هذه الرواية بين أن تكون البراءة الواحدة أو البراءات أقل من ذكر الحق أو أكثر في أنها براءة للمطلوب، هو المشهور في المذهب الأظهر من الأقوال.
وقد قيل: إنها لا تكون براءة له، وهو قول ابن نافع في سماع يحيى من كتاب الدعوى والصلح، وذلك إذا كانت بينهما مخالطة. [وأما إذا لم تكن بينهما مخالطة] فلا اختلاف في أنها تكون له براءة. وقد مضى تحصيل القول في هذه المسألة في سماع أبي زيد من كتاب الشهادات.
وتفرقة سحنون في نوازله من هذا الكتاب قول ثالث في المسألة ضعيف لا وجه له. وقد مضى هنالك بيان القول في ذلك.
ومعنى قوله وهو كالطلاق وللطلاق تفسير، هو أن يطلق الرجل امرأته فيدعي بعد انقضاء عدتها أنه قد كان راجعها قبل أن تنقضي عدتها ويأتي برجعة مكتوبة قبل ذلك بمدة لا يعلم إن كانت قبل الطلاق أو بعده، فيقول

(10/528)


هي بعد الطلاق، وتقول المرأة هي قبله من طلاق آخر، فيدخل في ذلك من الاختلاف ما يدخل في البراءة التي لا يعلم إن كانت متأخرة عن ذكر الحق أو متقدمة عليه، وبالله التوفيق.

[مسألة: يتزوج بصداق مائة فينقدها خمسين ثم يطلقها قبل الدخول]
مسألة قال أصبغ: وسألت عن الرجل يتزوج بصداق مائة فينقدها خمسين ثم يطلقها قبل الدخول ويقوم عليه غرماؤه.
قال: يقسم ما أخذت على النصفين النصف الذي لها والنصف الآخر؛ لأنها إنما أخذتها على الجميع، فيسترجع منها نصف ما كانت أخذت يأخذه الغرماء منها وتحاصهم المرأة فيها بتمام نصف صداقها، بمنزلة الرجل يبيع السلعتين أو العبدين بمائة دينار فيقتضي الخمسين ثم تستحق إحدى السلعتين أو العبدين ويفوت الآخر في يد المشتري ثم يفلس، فيفض ما كان أخذ على قيمتهما، فما أصاب المستحق من ذلك أخذه الغرماء؛ لأنه إنما اقتضى ما اقتضى عنهما جميعا، ثم رجع البائع فحاصهم فيه ببقية ثمن الفائت وفي جميع مال المفلس، وقاله أصبغ، وهو بمنزلة السلعتين يبيعهما بمائة أو الرأسين فيقتضي خمسين وتفوت واحدة أخرى فيكون أحق بها، فإن أخذها كانت الخمسون التي اقتضى عنها عليهما جميعا، فرد لهذه التي أخذ خمسة وعشرين فكانت مالا من مال المفلس، ودخل فيها وفي غيرها من ماله مع غرمائه بما بقي من ثمن السلعة الفائتة وهو خمسة وعشرون. وهذا قول مالك وأصحابه وأصح أقاويله وأقاويلهم فيها.
وكذلك مسألة المرأة، وتفسيرها في المرأة أن الخمسين التي أخذت نصفها للنصف الذي يكون لها بالطلاق، والنصف للذي يسقط عنه به؛ لأنه له، ولا يكون عليه؛ لأنها قد قبضتها على البضع كله حين قبضتها حتى يتمه، فلم يتم البضع

(10/529)


فعليها رد حصة ما لم يتم تتبع به. فالخمسون تقسم نصفين: نصفها لها على نصف صداقها. ويتبقى لها نصفها وهو ربع الصداق وهو خمسة وعشرون، فترد الباقي وهو خمسة وعشرون، ثم تضرب به مع الغرماء دينا في مال الزوج كله كشيء لم يقبض، فكأنها إنما قبضت خمسة وعشرين ثم طلق قبل التفليس فكانت لها في نصف صداقها، وتتبعه بما بقي، وهي حسنة كلها، وهو قول مالك في الرأسين وهي من غر المسائل.
قال محمد بن رشد: قوله في الذي يتزوج المرأة بصداق مائة فينقدها خمسين ثم يطلقها قبل الدخول ويقوم عليه غرماؤه: إن ما أخذت يقسم على النصفين، يريد: النصف الذي يجب لها بالطلاق، والنصف الآخر الذي لا يجب لها إلا بالموت أو الدخول، فيسترجع منه نصفه؛ لأنها قبضته عما لم يجب لها إذا طلقها قبل أن يدخل بها، كان الذي قبضته النصف أو أقل أو أكثر، إنها ترد أبدا نصف ما قبضت إلى الغرماء، ثم تحاصهم فيه وفي جميع مال الزوج المفلس بما يبقى لها من نصف صداقها.
ومعنى ذلك عندي إذا قام عليه الغرماء قبل أن يطلقها فطلقها، وأما إن طلقها قبل أن يقوم عليه الغرماء فيتخرج ذلك على قولين:
أحدهما: أنها ترد نصف ما قبضت أيضا إلا أن يكون الزوج قد سلم لها جميعه قبل أن يقوم عليه الغرماء، وهو الظاهر من هذه الرواية إذ لم يفرق فيها بين أن يكون الطلاق قبل قيام الغرماء عليه أو بعد ذلك، وهو الذي ينقاس أيضا على أصل ابن القاسم.
والثاني: أنها لا ترد إلا ما زاد على النصف الذي يجب لها بالطلاق إن كانت قبضت أكثر من النصف؛ لأن ما قبضت قد صار في يدها وحازته كالرهن فوجب أن تكون أحق به، وهو الذي ينقاس على أصل أشهب في أن من صار بيده شيء من مال غريمه فهو أحق به من الغرماء كالرهن وإن لم يرهن إياه.
وهذا كله على القول بأن المرأة لا يجب لها بالعقد إلا نصف الصداق وأنها إن قبضت جميعه فالغلة بينهما والضمان عليهما، وأما على القول بأن الغلة لها والضمان منها فلا إشكال في أنها

(10/530)


لا ترد إذا طلقت وقام على الزوج الغرماء إلا ما زاد على النصف الواجب لها بالطلاق.
وقد اختلف إذا فلس الزوج قبل الدخول فحاصت المرأة الغرماء بجميع صداقها ثم طلقها، فقيل: إنها ترد نصف ما صار لها في المحاصة؛ لأنها حاصت بجميع صداقها وإنما كان لها أن تحاص بنصفه، وهو قول ابن القاسم في رواية عيسى عنه في المدنية، فقف على افتراق هذه الوجوه الثلاثة إذا طلق قبل أن يقوم الغرماء عليه، أو إذا طلق قبل أن قام الغرماء عليه وقبل المحاصة، وإذا طلق بعد أن قام الغرماء عليه وبعد المحاصة.
وأما مسألة الذي يبيع السلعتين بمائة دينار فيقتضي خمسين ثم تستحق إحدى السلعتين وتفوت الأخرى في يد المشتري ويفلس المشتري، فإن فلس قبل استحقاق السلعة فض ما كان أخذ على قيمتها قولا واحدا، وإن فلس بعد استحقاق السلعة فعل ما ذكرناه مما يتخرج في ذلك من الاختلاف إذا فلس الزوج بعد الطلاق وقول أصبغ في المسألة التي ساقها عليها وشبهها بها، وهذا قول مالك وأصحابه، وأصح أقاويله وأقاويلهم كلام فيه نظر؛ لأن قوله: وهذا قول مالك وأصحابه، يقتضي أنهم اتفقوا عليه. وقوله: وأصح أقاويله وأقاويلهم، يقتضي أن أقاويلهم اختلفت في ذلك.
فمعنى الكلام: وهذا مشهور قول مالك وأصحابه وأصح أقاويله وأقاويلهم؛ لأن الاختلاف في ذلك معلوم من قوله وقول أصحابه، وقد ذكرنا ذلك في رسم قطع الشجر من سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.

[: يسأل رجلا دينارين فأتاه بدينار فأبى الطالب أخذه إلا جميعا أيجبر على ذلك]
ومن كتاب البيوع والعيوب قال أصبغ: وسئل: عن رجل يسأل رجلا دينارين، فأتاه بدينار فأبى الطالب أخذه إلا جميعا، أيجبر على ذلك؟
فقال: إن كان الذي عليه الحق موسرا لم يجبر الطالب على أخذ الدينار وأجبر الغريم على دفع الدينارين جميعا إليه، وإن كان معسرا أجبر الطالب على أخذ الدينار وأنظر المطلوب بما بقي، وقاله أصبغ، والحق حقه. وروى أبو زيد عن ابن القاسم في الرجل

(10/531)


يكون له على الرجل حق وقد حل فيأتيه ببعض حقه فيقول: لا أقبله منك إلا جملة، أله ذلك، أم يجبر على قبض ما جاءه به؟ قال: أرى أن يجبر على قبض ما جاءه به.
قال القاضي: أما إذا كان الغريم معسرا فلا اختلاف ولا إشكال في أنه يجبر الذي له الحق على قبض ما جاءه به وينظره ببقية حقه، لقوله عز وجل: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] .
وأما إن كان موسرا ففي ذلك قولان:
أحدهما: أنه يجبر على قبض ما جاءه به، وهو قول ابن القاسم في رواية أبي زيد هذه وقول مالك في كتاب ابن المواز.
والثاني: أنه لا يجبر على قبض ما جاءه به ويجبر الغريم على دفع جميع حقه إليه، وهو قول أشهب هاهنا وفي كتاب العدة وقول ابن القاسم في كتاب ابن المواز.
وكذلك لو كان له عليه دينار مجموع فأتاه بنصف دينار وهو موسر أو معسر.
وأما لو كان له عليه دينار دراهم لم يلزمه أن يأخذه منه إلا أن يشاء موسرا كان أو معسرا. وهذا إذا بايعه بالدينار صفقة واحدة.
وقد مضى بيان هذا في رسم تأخير العشاء في الحرس من سماع ابن القاسم من كتاب الصرف فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.

[: لا توله والدة على ولدها]
من مسائل نوازل سئل عنها أصبغ قال أصبغ، في رجل له أمة ولها ولد صغير فدبر ولدها الصغير ثم ادَّانَ ولا مال له غير الأمة وولدها، فقام عليه الغرماء بدينهم فأرادوا بيع الأمة.
قال: لا أرى للسلطان أن يبيعها لهم، وذلك أن بيعها تفرقة بينها وبين ولدها، وقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تُوَلَّهْ والدة على ولدها» .
ولا يجوز للسلطان أن يبيعها

(10/532)


لهؤلاء الغرماء، وأرى أن تحبس على ولدها موقوفة حتى يبلغ التفرقة، فإذا بلغ بيعت في دين سيدها.
وإنما رأيت حسبها على ولدها؛ لأن ولدها لما امتنع فيه البيع للذي سبق فيه من التدبير ولم يجز في السنة التفرقة بينها وبين ولدها صارت كالمدبرة مع ولدها فهي موقوفة عليه تخرج لهم فيتقاضون من خراجها دينهم إلى أن يبلغ ولدها التفرقة كما لو كانت مدبرة، فإن تقاضوا من خراجها دينهم قبل أن يبلغوا التفرقة فذلك، وإن بلغوا التفرقة وبقي من دينهم بيعت أو بيع منها وفاء دينهم، أو يموت السيد قبل ذلك فينظر، فإن كان في الأمة وفاء بالدين بيعت وعتق ثلث المدبر؛ لأنه ثلث ما بقي من ماله، وإن كان في بعضها وفاء لدينه نظر إلى ثلث ما بقي بعد قضاء الدين فيعتق مبلغ ذلك من قيمة الصبي المدبر.
قال: وإن كانت هي المدبرة ولا تدبير في ولدها فالجواب فيها سواء تخارج لهم إلى موت سيدها أو يبلغ ولدها التفرقة فيباع لهم في دينهم، فإن كان فيه وفاء وإلا فما بقي من الدين اقتضوه من خراجها إلى أن يموت سيدها فيباع منها بقدر الدين ويعتق منها ثلث ما بقي.
قال أصبغ: ولو أن نصرانيا له أمة نصرانية ولها ولد صغير فدبر السيد ولدها الصغير ثم إنها أسلمت لم يجز للسلطان أن يبيعها عليه من المسلمين؛ لأن بيعها تفرقة، ولكن يخارجها عليه وتخرج من خدمته كما كان يفعل بها لو كانت هي المدبرة إلى أن يبلغ ولدها التفرقة ثم تباع من المسلمين، إلا إن رجع النصراني في تدبير الصبي فيباع مع أمه من المسلمين ولا يعرض له في رجوعه عن تدبيره.
قال محمد بن رشد: هاتان المسألتان صحيحتان لا وجه للقول فيهما، إذ لا إشكال في شيء من معانيهما، وبالله التوفيق.

(10/533)


[مسألة: يكون له عليه مائة دينار فيأتيه رجل يزعم أنه رسول صاحب المائة]
مسألة وسئل: عن الرجل يكون له على الرجل مائة دينار فيأتيه رجل يزعم أنه رسول صاحب المائة إليه أرسله فيقول للذي عليه الدين هات خمسين وأنا أحط عنك خمسين فإن أبى صاحبها الذي أرسلني أن يحطها فهي علي في مالي أنا لها ضامن، أو يزعم أنه وكله على قبض خمسين وقد وضع عنك خمسين فلا يصدقه الغريم فيقول الرسول هات الخمسين وأنا ضامن للخمسين التي أحط عنك إن أنكرها، هل تلزم الرسول الخمسين في الوجهين جميعا إن أنكر صاحب المائة على مثل هذا الشرط؟ أم تراها لازمة له إذا زعم أن الغريم حطها ولا تلزمه إذا حطها هو وضمنها وعلى ذلك قبض الخمسين؟
قال أصبغ: أراهما جميعا سواء إذا كان يقبض على هذا الشرط أن ذلك عليه كله، فأرى أن ينظر في قبضه، فإن كان إنما يقتضي لغائب بعيد الغيبة أو بوجه يطول عليه مكثها عنده إلى ذلك لينتفع بها انتفاعا أو يتقاضى ويقضي فيها ما شاء فلا أراه جائزا وأراه ضامنا للانتفاع وزيادتها له.
وإن كان صاحبها قريبا ومفاصلته إياه قريبا وإنما هو كالرسول يأخذ ويذهب به فيعرف ذلك فيرضى أو لا يرضى فيضمن وليس لقبضه إياه عنده مكث كمكث الودائع والبضائع المطول أمرها، فأراه جائزا وأراه لازما، وليس في هذه جريرة زيادة لا ضمان زيادة ولا تهمة فهو عند هذا معروف له.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله أن الضمان لازم له في الوجهين جميعا في حياته وبعد وفاته؛ لأن ذلك يشبه المبايعة، إذ لم يرض الذي عليه الدين أن يدفع إليه الخمسين إلا على أن يضمن له حط الخمسين الأخرى عنه، فإذا كان التزم له ضمانها لانتفاعه بالخمسين التي

(10/534)


قبض لطول كونها في يده جرح فيما بينه وبين خالقه ولم يسقط ذلك عنه ما لزمه من الضمان، ولو كان حطها عنه والتزم له ضمانها في مكان يلزمه دفع الخمسين إليه للزمه ذلك في حياته وسقطت عنه بعد وفاته؛ لأنه معروف على غير عوض، وبالله التوفيق.

[مسألة: الذي يبطل من بيع السفيه]
مسألة وسئل أصبغ عن البكر تحتاج فتبيع بعض عروضها وتنفق ذلك على نفسها وتصنع في ذلك البيع والإنفاق على نفسها ما كان يصنعه السلطان، أو تبيع ذلك عليها أمها أو واحد ينظر لها من أقاربها وهو غير وصي.
ولو أرادت أو أراد من باع ذلك لها رفع ذلك إلى السلطان لم يقدر على ذلك وخاف فيما بين ذلك ضيعة عليها.
وكيف إن كانت قادرة على أن ترفع ذلك إلى السلطان أو يرفع ذلك الذي نظر لها فيه فتركت إلا أنها نظرت في ذلك أو نظر لها الناظر بالذي كان ينظر به السلطان من حسن البيع واستقصاء الثمن وبيع ما لم يكن لها بد من أن يباع لها وحسن النظر في الإنفاق، هل يرد مثل هذا السلطان إذا ثبت عنده على هذه الصفة، وهذا الذي اجتهد كان يأمر به لها.
قال أصبغ: أما بلوغ المعذرة من السلطان وغير المعذرة فسواء، ليس هذا ينقص ولا يزيد ولا يقدم ولا يؤخر، والقول فيها أنا نرى إن كان الذي باعت أو بيع لها الشيء الذي له بال وقدر مثل العقار الصالح والأمر الكبير من غيره، فهو مردود على كل حال أصله لا يجوز ولا يجاز، وهو بيع سفيه وسفه ومال يتيم لم يبلغ مما لا يباع عليه إلا بالوالي الناظر أو السلطان الناظر بعد النظر والحاجة والاستقصاء، فهو مردود، وأصله لا يجوز: فإذا رد نظر فإن كان الثمن حول في نفقة لا بد منها ولها بيع وأمر لا محيص عنه ولا غناء ولا يرجع

(10/535)


إلى شيء غيره لها بوجه من الوجوه مهما كان لو باعه وصي أو سلطان كان كذلك يبيع، ومما لو رفع إلى القاضي لباع به للحاجة ومما لا بد منه، فأرى حينئذ أن يحسب للمشتري ذلك الذي أكلت أو أنفقت أو أنفق عليها منه في الحد الذي لو كان بيع بصحة أنفق منه وأقيم له، ولا يبطل كله فيكون ظلما، ويكون قد كان غنى لأهله.
وإنما الذي يبطل من بيع السفيه ما لا مخرج له منه إذا قبضه حتى يصنع به ما شاء ويبذره ويعمل فيه بشهواته، فهو الذي يكون هدرا كله عنه، فأما ما وصفت لك فلا أرى ذلك وأراه بمنزلة ما لو أدرك في يد السفيه بعد قبضه وقبل تلفه فهو كان يرد إلى المشتري ويفسخ البيع، فكذلك ما دخل في موضعه وجرى فيه فأراه محسوبا له، غير أن أصل بيع العقار يفسخ ويرد وإن كان الذي باع أو بيع بما وصفت خفيفا لا قدر له مثل الدويرة الصغيرة والغلقة والبيت الخرب والأمر اليسير جدا الخفيف باله فبيع لنفقته ومصلحته كما وصفت لك ودخل مدخل ذلك فهو نافذ، وبيع من باع مثل هذا نظر جائز إذا كان موضعه وحقه، ولا يرد أصله إذا كان جعل في نفقة اليتيم ومصلحته وانتفع به في حينه ولم يكن له شيء غيره ونحوه. وقد سألته أنا عنها أو ما يشبههما [إن شاء الله تعالى] .
قال محمد بن رشد: فرق أصبغ فيما باعته البكر على نفسها فيما لا بد لها منه من نفقتها أو باعه عليها حاضنها لذلك بوجه السداد الذي لو رفع الأمر فيه إلى الإمام لفعله، بين أن يكون ذلك الشيء الخفيف الذي لا قدر له مثل الدويرة الصغيرة والغلقة والبيت الخرب وما أشبه ذلك، وبين أن يكون الشيء الذي له بال مثل العقار الصالح والأمر الكبير، فقال في الشيء

(10/536)


الخفيف والأمر اليسير من ذلك: إنه يجوز ولا يرد، ومعنى ذلك إذا علمت الحاجة إلى البيع، وأما إن لم تعلم الحاجة فالبيع مردود، وذلك بين من قوله ولا يرد أصله إذا كان جعل في نفقة اليتيم [ومصلحته وانتفع به في حينه ولم يكن له شيء غيره.
وقال في الشيء الذي له بال وقدر مثل العقار الصالح والأمر الكبير: إن البيع يرد ولا يجوز على كل حال، غير أنه إن كان الثمن حول في نفقة اليتيم وما] لا بد له منه ولا محيص له عنه لم يبطل عنه وأخذ المشتري من ماله، وفي ذلك من قوله نظر: كيف يرد السلطان بيع ما كان بيعه سدادا وما لو رفع إليه لفعله؟
ووجه ذلك: هو أنه قد يحدث من الأحوال ما يكون رد البيع به يوم يرد هو الحظ لليتيم بخلاف ما كان الأمر يوم وقع البيع به.
وفي هذا اختلاف: قد قيل: إن السلطان لا يرد البيع إذا كان سدادا يوم وقع، وقد مضى بيان هذا في رسم الصبرة من سماع يحيى من كتاب التخيير والتمليك.
وقول أصبغ: إن اليتيم لا يبطل عنه ثمن ما باع من ماله أو باعه عليه من لا يجوز بيعه عليه إذا أنفقه في مصلحته وما لا بد له منه، خلاف ما روي عن ابن القاسم في المدنية والمبسوطة من أنه لا يتبع به على حال من الحال، أنفقه في فساد أو غير ذلك، مثل قول ابن كنانة فيهما، قال: ولو أن المولى عليه باع سلعة أو ابتاعها من أحد بدين أو أخذ مالا من أحد سلفا فاستهلكه، إن ذلك المال يبطل عنه ولا يتبع به مليا كان أو معدما، إلا أن يكون استنفق ذلك في شيء وقى به النفقة عن ماله، مثل أن يكون اكتسى أو ابتاع به طعاما أو نحو ذلك مما لو لم يكن ابتاعه هو من ذلك المال ابتيع له ذلك من ماله، فأرى أن يكون ذلك في ماله إن كان له مال، وما أنفق منه من قليل أو كثير في فساد فإنه يبطل ولا يتبع به، وهو اختيار عيسى بن دينار، قال: قول ابن كنانة هو الحق الذي لا ينبغي أن يكون غير ذلك إن شاء الله.
فيتحصل فيما باع اليتيم دون إذن وصيه أو الصغير من عقاره أو أصوله بوجه من السداد في نفقته التي لا بد له منها إذا كان لا شيء له غير الذي

(10/537)


باع أو كان ذلك أحق ما باعه من أصوله ثلاثة أقوال: أحدها: أن البيع يرد على كل حال ولا يتبع بشيء من الثمن، وهو قول ابن القاسم [وهو أضعف الأقوال] .
والثاني: أن البيع يرد إن رأى ذلك الوصي، ولا يبطل الثمن عن اليتيم ويؤخذ من ماله، وهو قول أصبغ.
والثالث: أن البيع يمضي ولا يرد إلا أن يكون باع بأقل من القيمة أو باع ما غير ذلك أحق بالبيع في نفقته فلا اختلاف في أن البيع يرد وإن لم يبطل الثمن على اليتيم لإنفاقه إياه فيما لا بد له منه.
وأما ما باع اليتيم من ماله وأنفق ثمنه في شهواته التي يستغني عنها فلا اختلاف في أنه يرد ولا يتبع بشيء من الثمن كان الذي باع من ماله يسيرا أو كثيرا أصلا أو عرضا، وهو محمول فيما باع وقبض من الثمن أنه أنفقه فيما له منه بد حتى يثبت أنه أنفقه فيما ليس له منه بد.
وقد قيل: إن بيع الحاضن على محضونه في نفقته ماله قدر وبال جائز، ذكر ذلك ابن الهندي في وثائقه، وهو الذي يأتي على مذهب من أنزله منزلة الوصي بالحضانة، وهو دليل ما في كتاب القسمة من المدونة ورواية ابن غانم عن مالك أن كل من ولي يتيما قريبا كان أو بعيدا فهو يحوز ما وهب له، وقال ذلك ابن وهب في الأمهات والأجداد والجدات دون سائر القرابات، وقاله ابن كنانة في الأخ أيضا.
فيتحصل في ذلك أربعة أقوال: أحدها: أن الحاضن لا يكون كالوصي بحال، والثاني: أنه يكون كالوصي على كل حال، والثالث: أنه يكون كالوصي إذا كان أما أو من الأجداد أو الجدات دون سائر القرابات، والرابع: أنه يكون كالوصي إذا كان من الأجداد أو الجدات أو الإخوة دون سائر القرابات، وبالله التوفيق.

[مسألة: إذا كانت بالغة في السن قد عرف رشدها فباعت أيجوز بيعها]
مسألة قلت له: يا أبا عبد الله إذا كانت بالغة في السن قد عرف رشدها فباعت، أيجوز بيعها؟ فقال: نعم بيعها جائز إذا بلغت في

(10/538)


السن وعرف رشدها وكان بيعها نظرا لنفسها.
فقال له رجل من أصحابنا: أترى أن أربعين سنة من السنين لها؟ فقال: نعم، ولم يذكر لنا عقارا ولا غيره.
قال محمد بن رشد: قد مضى تحصيل القول في هذه المسألة وبيانه مستوفى في سماع سحنون، فلا معنى لإعادته، والله الموفق.

[مسألة: قال لفلان علي وعلى فلان وفلان ألف درهم]
مسألة قال ابن القاسم: إذا قال الرجل لفلان علي ألف درهم وعلى فلان وفلان، فأراها كلها عليه خاصة وإن كان كلامه نسقا.
قال: وإذا قال لفلان علي وعلى فلان وفلان ألف درهم فلا أرى عليه إلا ثلث الألف؛ لأن الأول قد أقر بألف على نفسه، ثم ندم فأدخل ما أدخل ليسقط بعض ذلك عن نفسه، ولأن الآخر إنما هو إقرار واحد وشهادة واحدة فيؤخذ بحصة ما يلزمه من ذلك ويسقط عنه ما بقي إذ لم تجز شهادته فيما بقي.
قال محمد بن رشد: أما الذي قال لفلان علي وعلى فلان وفلان ألف درهم فلا اختلاف أنه لا يلزمه بإقراره هذا إلا ثلث الألف، وأما إذا قال لفلان علي ألف درهم وعلى فلان وفلان فإن لم يكن ذلك نسقا [لزمته الألف كلها، وإن كان ذلك نسقا] متتابعا فقيل: إنه تلزمه الألف كلها ويحمل ذلك منه على الندم، وقيل: إنه لا يلزمه إلا ثلثها ويصدق فيما ادعاه من أن آخر كلامه مبين لأوله.
وقد مضت هذه المسألة والقول فيها مستوفى

(10/539)


في رسم الكراء والأقضية من سماع أصبغ من كتاب جامع البيوع، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.

[مسألة: قام عليه غريمه بعد موته فادعى أن له عليه مائة دينار]
مسألة قال أصبغ، في رجل قام عليه غريمه بعد موته فادعى أن له عليه مائة دينار فشهد له عند السلطان وطلب مال الميت فلم يوجد له كفاف لدين هذا الطالب، فباع السلطان ماله ثم أوقفه على يدي عدل وضاع المال وجاء غرماء يطلبون دينا كان لهم على الميت وأثبتوا دينهم.
قال أصبغ: مصيبة المال من الذي وضع له المال، ويرجع الغرماء عليه فيحاصونه بأخذ كل واحد منهم على قدر دينهم.
قال الإمام القاضي: قوله: إن مصيبة المال من الذي وضع له المال صحيح لا اختلاف في أن ما وقف لغريم بعينه في الموت أو في الفلس حتى يدفع إليه أن مصيبته منه إن تلف قبل أن يدفع إليه.
وأما قوله: إن الغرماء الذين طرءوا يرجعون عليه فيحاصونه ففي ذلك اختلاف، قيل: إنهم يرجعون عليه، وهو قول أصبغ هذا وظاهر ما في كتاب التفليس من المدونة، وقيل: إنهم لا رجوع لهم عليه، وهو الذي يأتي على ما في كتاب القسمة من المدونة في بعض الروايات أن الذين إذا طرأ على الورثة وقد اقتسموا التركة وتلف جميع ما في يدي بعضهم ببينة قامت على ذلك أن من تلف جميع ما في يديه ببينة فلا يرجع ولا يرجع عليه؛ لأن ما تلف بيد الأمين فهو بمنزلة ما قامت البينة على تلفه، لا فرق بين تلفه بيد الأمين أو ببينة قامت عليه بعد قبضه إياه.
وهذا على اختلافهم في الوارث يطرأ على الورثة والغريم على الغرماء أو الموصى له على الموصى لهم وقد تلف ما في أيدي بعضهم ببينة قامت على ذلك، فقيل: إنه لا رجوع له على من تلف ما في يديه ببينة، وقيل: إن له الرجوع عليه، وقيل: يرجع عليه في العين ولا يرجع عليه في العرض، فهي ثلاثة أقوال.

(10/540)


وأما ما وقف في التفليس أو الموقف لاستبراء ما على المفلس أو الميت من الديون، فقيل: إن ضمانه من المفلس عرضا كان أو عينا وهو قول أشهب، وقيل: إن ضمانه من الغرماء عينا كان أو عرضا وهو قول ابن الماجشون وروايته عن مالك، وقيل: إن ضمانه من الغرماء إن كان عينا ومن المفلس إن كان عرضا وهو قول ابن القاسم، ومعناه: إذا كانت ديونهم عينا، وأما إن كانت ديونهم مماثلة للمال الموقف فضمانه منهم عينا كان أو عرضا.
فتحصيل مذهبه: أن ما يحتاج إلى بيعه فضمانه من الغريم المفلس؛ لأنه إنما باع على ملكه، وما لا يحتاج إلى بيعه فضمانه من الغرماء.
وقال أصبغ: المصيبة في الموت من الغرماء وفي التفليس من الغريم المفلس، وبالله التوفيق.

[: أجير السقي وصاحب الأرض المكري لها إذا فلس المكتري أو مات]
من سماع أبي زيد بن أبي الغمر من ابن القاسم قال أبو زيد: قال ابن القاسم في أجير يسقي الزرع وأجير يحرز الزرع وصاحب الأرض أنه إذا فلس صاحب الزرع فإن صاحب الأرض والأجير الذي يسقي الزرع أولى من الغرماء يتحاصون بينهم، فإن فضل شيء من حقهم تحاص فيه الغرماء ودخل معهم الأجير الذي يحرز.
قال محمد بن رشد: لا اختلاف في أن الأجير الذي يحرز الزرع أسوة الغرماء في الموت والفلس جميعا، وإنما اختلف في أجير السقي وصاحب الأرض المكري لها إذا فلس المكتري أو مات، وقد مضى تحصيل هذا الاختلاف وتوجيهه مستوفى في أول سماع أشهب، فلا معنى لإعادته، وبالله تعالى التوفيق.

[مسألة: النوتي يكون له المركب يحمل عليه القمح ثم يفلس النوتي والمركب له]
مسألة وسئل ابن القاسم، عن النوتي يكون له المركب يحمل عليه

(10/541)


القمح ثم يفلس النوتي والمركب له، قال: هو أسوة الغرماء، ولا يكون أولى بالمركب من الغرماء.
قال محمد بن رشد: المعنى عندي في هذه المسألة أن صاحب المركب أكرى من الرجل على أن يحمل له طعاما أو متاعا في مركبه ولم يعين له المركب بأن يشير إليه فيقول مركبي هذا أو يسميه فيقول مركبي الفلاني ولا أسلم إليه المركب، فوجب أن يكون المكتري إذا فلس المكري صاحب المركب أسوة الغرماء، كمن اكترى دابة غير معينة لحمل طعام أو متاع ففلس الكري صاحب الدابة قبل أن يسلمها إلى المكتري.
وإذا حاص الغرماء اكتري له بما صار له من الكراء ما بلغ واتبعه ببقية حقه.
ولو عين المركب لوجب أن يكون أحق به قبض أو لم يقبض على قياس الدابة المعينة.
وقد قال بعض أهل النظر في هذه المسألة: إنها مسألة حائلة مخالفة للأصول وليس قوله بصحيح؛ لأن المعنى فيها هو ما حملتها عليه، وبه يصح ويرتفع الاعتراض عنها.
وقد مضى القول مستوفى في مسألة الكري يفلس في آخر سماع ابن القاسم من كتاب الرواحل والدواب فلا معنى لإعادته، وتكررت المسألة أيضا في رسم مساجد القبائل من سماع ابن القاسم من هذا الكتاب، وبالله التوفيق.

[مسألة: هو أسوة الغرماء في تلك السلعة ولا يكون أولى بها]
مسألة وسئل ابن القاسم، عن رجل كان لي عليه عشرة دنانير فتقاضيته فأعطى رجلا سلعة يبيعها ويوفيني الثمن، ففلس الرجل الذي لي عليه العشرة قبل أن يبيع ذلك الرجل السلعة. قال: هو أسوة الغرماء في تلك السلعة ولا يكون أولى بها.
قال الإمام القاضي: هذه مسألة صحيحة على قياس قول ابن القاسم في الرهون من المدونة أن الراهن ذا قال للمرتهن أنفق على الرهن على أن نفقتك فيه - أنه يكون أحق بما فضل من الرهن عن حقه حتى

(10/542)


يستوفي نفقته، إلا أن يكون عليه غرماء فلا يكون أحق ببقية الرهن في نفقته منهم.
ولو أراد صاحب السلعة أن يسترد السلعة من عند الذي دفعها إليه ليبيعها ويؤدي ثمنها إلى صاحب العشرة الدنانير لم يكن ذلك له على قياس قول ابن القاسم في مسألة الذي أنفق على الرهن على أن تكون نفقته فيه، وأشهب يرى أنه يكون أحق من الغرماء ببقية الرهن في نفقته لقوله أنفق ونفقتك فيه.
فعلى قياس قوله يكون صاحب العشرة دنانير أحق بالسلعة من الغرماء وإن لم ينص على أنها له بيده رهن بحقه، فالخلاف بين ابن القاسم وأشهب قائم من هذه المسألة في الرهن، هل تفتقر صحته إلى التصريح به أم لا؟
فلو دفع رجل إلى رجل سلعة ولم يزد على أن قال له أمسكها حتى أدفع إليك حقك لكانت له رهنا يكون أحق بها من الغرماء عند أشهب، ولم تكن له رهنا يكون أحق بها من الغرماء عند ابن القاسم، لكنه يكون من حقه أن يمسكها حتى يدفع إليه حقه ما لم يقم عليه الغرماء، وبالله التوفيق.

[مسألة: رجل فلس فأقر فقال هذا مال فلان لرجل قارضه]
مسألة قال ابن القاسم، في رجل فلس فأقر فقال: هذا مال فلان، لرجل قارضه أو هذا المتاع من ماله القراض - كان مصدقا، وكذلك الموت، هو في ذلك مصدق في التفليس والموت، وصاحبه أولى به إذا كانت له بينة على أصل القراض والوديعة.
قلت: أرأيت إن فلس فأقر في شيء بعينه أنه لفلان وأنها سلعته بعينيها وعلى أصل البيع بينة إلا أنهم لا يعرفون السلعة بعينها إنما يشهدون على إقرارهما أنه باع منه عبدا أو جارية أو دابة بكذا وكذا قبل التفليس ثم أقر في التفليس ولا يشهدون أن هذه دابته - أن قوله جائز.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى بيان القول فيها في رسم البيع والصرف من سماع أصبغ وفي غيره من المواضع المذكورة فيه، فلا وجه لإعادة شيء من ذلك، وبالله التوفيق.

(10/543)


[مسألة: عبد بيع فأبق ثم فلس مشتريه]
مسألة قال ابن القاسم، في عبد بيع فأبق ثم فلس مشتريه، فقال البائع: أنا أحاص بالثمن فإن رجع العبد يوما ما أو وجد أخذته ورددت ما أخذت، قال: ليس ذلك له إما أن يرضى أن يتبع العبد ويطلبه ولا شيء له، وإما أن يحاص بالثمن إلا أن يشاء الغرماء أن يدفعوا إليه الثمن.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد تكررت في رسم أوصى من سماع عيسى، وقد مضى القول عليها هناك مستوفى فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.

[مسألة: يتحاصان صاحب الأرض والأجير]
مسألة وقال، في رجل اكترى أرضا فزرعها واستأجر أجيرا فعمل له فيها فعجز الأجير عن سقيها فاستأجر غيره ثم فلس مكتري الأرض، قال: يتحاصان صاحب الأرض والأجير الآخر، ويكونون أولى من الغرماء، فإن فضل عن حقهم شيء كان الأجير الأول أولى من الغرماء حتى يستوفي حقه.
قال الإمام القاضي: هذه مسألة قد مضى القول فيها مستوفى في أول سماع أشهب فلا معنى لإعادته، والله الموفق.

[مسألة: دفع إلى رجل ثوبا يصبغه فصبغه ثم دفعه إلى صاحبه ثم فلس صاحب الثوب]
مسألة وقال في رجل دفع إلى رجل ثوبا يصبغه أو غزلا ينسجه فصبغه أو نسجه ثم دفعه إلى صاحبه قبل أن يستوفي حقه ثم فلس صاحب الثوب، قال: يكون العامل شريكا في الثوب بقيمة الصبغ

(10/544)


والنسج. قيل له: فإن كان الصبغ ينقص الثوب؟ قال: وإن كان ينقص فإنما يكون شريكا بقيمة الصبغ.
قال الإمام القاضي: قوله: إنه يكون شريكا بقيمة النسج وهو لم يخرج فيه إلا عمل يده خلاف ما مضى في رسم العرية من سماع عيسى، وقد مضى القول على هذه المسألة هناك مستوفى فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.

[مسألة: يكرى البناء يبني له دارا فيبني ثم يفلس صاحب الدار]
مسألة وسئل: عن رجل استأجر صائغا يعمل له في بيته حليا فكان الصائغ يأتي البيت يعمل فإذا كان الليل ترك الحلي ثم انصرف إلى منزله، ففلس صاحب الحلي؟ قال: الصائغ أسوة الغرماء؛ لأنه لا ضمان عليه.
قيل له: أرأيت من استأجر أجيرا ببقره يدرس له أندرا، فكان يأتي ببقره فيدرس فإذا كان الليل انقلب ثم فلس صاحب الزرع؟ قال: فهو أولى، ولا يشبه الصائغ.
قيل له: فالرجل يكرى البناء يبني له دارا فيبني ثم يفلس صاحب الدار؟ قال: فالبناء أسوة الغرماء.
وسئل: عمن دفع عبده إلى رغاف وأعطاه إجارة على تعليمه، فكان عنده يعلمه ففلس السيد؟ قال: المعلم أولى به من الغرماء، يريد: إلا أن يدفعه في عمل ينقلب إلى سيده كل ليلة مثل الصباغ والخياط فإنه يكون أسوة الغرماء.
قال محمد بن رشد: قد مضى في رسم يوصى لمكاتبه في سماع عيسى القول في مسألة المستأجر على درس الزرع والفرق بينها وبين مسألة الصائغ يستأجر على أن يعمل في بيت الرجل، فلا معنى لإعادته.
وقوله في مسألة البناء: إنه أسوة الغرماء - معناه: إذا لم يخرج في البنيان أكثر

(10/545)


من عمل يده، وهو خلاف ما تقدم له قبل هذا في مسألة النسج. وأما إذا جعل شيئا أخرجه من عنده مع عمل يديه فلا اختلاف في أنه يكون أحق به. وقد مضى القول على ذلك مستوفى في رسم سلف من سماع عيسى، فلا معنى لإعادته.
وتفرقته في مسألة الذي يدفع عبده إلى رغاف ليعلمه بإجارة معلومة بين أن ينقلب إلى سيده كل ليلة أو لا ينقلب ويكون مأواه ومبيته عند الرغاف صحيحة، ومعناه عندي: إذا فلس سيده وهو عنده لم يرده إلى الرغاف، وأما إذا فلس وهو بيد الرغاف قد رجع إليه من عند سيده على عادته فهو أحق به أيضا؛ لأنه كالرهن بيده.
ومعنى قوله: أعطاه إجارة على تعليمه، أي: واجبة عليها، وبالله التوفيق.

[مسألة: أعطى مالا قراضا فادان ديونا فأفلس]
مسألة وقال، في رجل أعطى مالا قراضا فادان ديونا فأفلس: إن المقارض فيما أعطاه أسوة الغرماء إلا أن يدرك من ماله شيئا بعينه فيكون أحق به، وقول المقارض: إن هذا مال فلان، فلا يقبل قوله في ذلك؛ لأنه مصدق على ما لا يتهم أن يكون في ذمته إلا مثل ما يلزم ذمته من غيره، وهو أيضا يقبل قوله فيما يدعي من وضيعة أو ربح، وذلك لمن يؤذن له في المدانية.
قال الإمام القاضي: كذا وقع، وقال في رجل أعطى مالا قراضا فادان ديونا فأفلس، وصواب الكلام في رجل أعطي مالا قراضا فادان ديونا فأفلس؛ لأن المفلس إنما هو المقارض الذي أعطي المال لا المقارض الذي أعطاه، وذلك بين من قوله: إن المقارض فيما أعطاه أسوة الغرماء، ويريد بقوله فيما أعطاه أي بما أعطاه؛ لأنه إذا لم يدرك ماله الذي أعطاه بعينيه كان به أسوة الغرماء في جميع مال المفلس، وإذا أدرك ماله بعينه وقامت بذلك البينة فهو أحق به من الغرماء بلا خلاف.
وأما إذا لم تقم بينة ففي تصديق المقارض المفلس في أن هذا هو مال القراض اختلاف قد مضى تحصيله في رسم البيع والصرف من سماع أصبغ وفي غير ما موضع

(10/546)


فلا معنى لإعادته.
ووقع في هذه الرواية: وقول المقارض إن هذا مال فلان فلا يقبل قوله في ذلك، وفي رواية أخرى: فيقبل قوله في ذلك، وهي الرواية الصحيحة؛ لأنه اعتل لقبول قوله بما ذكره من أنه مصدق على ما لا يتهم أن يكون في ذمته إلا مثل ما يلزم ذمته من غيره، يريد: أن الذي يلزم ذمته قبل قوله أو لم يقبل سواء فلا تهمة عليه في إقراره.
بيان ذلك بالمثال: أن يكون مال القراض مائة فيفلس المقارض رجلان لكل واحد منهما عليه مائة مائة فيوجد له مائتان، فيقول المقارض المفلس في إحدى المائتين إنها مال المقارض بعينه.
فإن قبل قوله أخذها وكان أحق بها، وكانت المائة الباقية بين الغريمين واتبعاه بمائة خمسين خمسين، وإن لم يقبل قوله تحاصوا ثلاثتهم في المائتين فوجب لكل واحد منهم منها ستة وستون وثلثان واتبعوه جميعا بمائة: ثلاثة وثلاثين وثلث، ثلاثة وثلاثين وثلث، فالتعليل يدل على صحة هذه الرواية، ويدل على صحتها أيضا قوله: وهو أيضا يقبل قوله فيما يدعي من وضيعة أو ربح، إذ لا يصح أن يقول وهو أيضا يقبل قوله وهو قد قال أولا إنه لا يقبل قوله.
وقوله في الرواية وذلك لمن يؤذن له في المداينة صحيح إن كان عمل في مال القراض بالدين؛ لأن المقارض لا يجوز له أن يعمل في مال القراض بالدين إلا بإذن صاحب المال، فإن عمل فيه بالدين دون إذن صاحب المال كانت الوضيعة عليه، وإن كان عمل فيه بالدين بإذنه كانت الوضيعة عليه وكان العامل مصدقا فيها كما لو باع واشترى بالنقد فادعى الوضيعة، وبالله التوفيق.

[مسألة: صاحب السفينة أولى بما فيها من الغرماء]
مسألة وقال في الجمال يتكارى على حمل متاع فيحمل ثم يفلس صاحب المتاع والمتاع على الإبل: إنه أولى به.
وسئل: هل يكون صاحب الحانوت أولى بما فيه من الغرماء؟ قال لا.
قيل: له فصاحب السفينة أولى بما فيها من الغرماء؟ قال: نعم إنما هي حمولة.
قيل: له وكذلك الجمال؟ قال: نعم.

(10/547)


قال محمد بن رشد: قوله في المتكاري يفلس ومتاعه على الإبل التي اكتراها: إن الجمال أولى به حتى يستوفي كراءه - هو نص قوله في المدونة وغيرها، وفي ذلك تفصيل: أما إذا أسلم المتاع إلى الجمال ليحمله على جماله فأفلس صاحب المتاع والمتاع بيد الجمال فلا اختلاف في أنه أحق به في الموت والفلس من الغرماء؛ لأنه كالرهن بيده، وأما إذا أسلم الجمال الإبل إلى المكتري ليحمل عليها متاعه ففلس المكتري قبل أن يصل أو عند وصوله قبل أن يحوز متاعه ويرد الإبل إلى الجمال، فالمشهور أن الجمال أولى بالمتاع حتى يستوفي جميع كرائه، وهو الذي في كتاب التفليس من المدونة.
وعلل ذلك بأنه إنما بلغ الموضع على إبله، والعلة الصحيحة في ذلك أنه كالرهن بيده؛ لأن كونه على ظهور إبله قبض ويتخرج في ذلك قولان سواه: أحدهما: أنه أسوة الغرماء في الموت والفلس جميعا، إذ ليس المتاع بيده رهن له قد حازه فيكون أحق به في الموت والفلس جميعا، ولا هو عين ما باعه فيكون أحق به في التفليس دون الموت على ما جاء في الحديث المأثور الصحيح في ذلك، والثاني: أنه أحق في الفلس دون الموت، ووجه هذا القول أن حمل المتاع من البلد إلى البلد على الإبل تنمية له، فأشبه اكتراؤه عليه ابتياعه إياه فوجب أن يكون المكري الجمال أحق به في الفلس دون الموت كما لو باعه منه.
وهذا على قياس القول في رب الأرض يكري الأرض فيزرعها المكتري ثم يفلس أن رب الأرض أحق بالزرع من الغرماء في الفلس دون الموت على هذا التعليل الذي وصفناه.
وقد مضى في أول سماع أشهب ما يبين ما ذهبنا إليه في هذه المسألة، ومسألة السفينة محمولة على مسألة الدابة؛ لأن المعنى فيهما جميعا سواء.
وأما مسألة الحانوت والدار فلا اختلاف في أنه لا يكون واحد منهما أولى بما فيها من المتاع والأثاث إذا فلس المكتري لهما قبل أن يستوفي كراءه منهما لا في الموت ولا في الفلس إذ لم يبعه شيئا من ذلك ولا هو رهن بيده، وبالله التوفيق.

[مسألة: اشترى عرصة وبنى فيها فجاء البائع يطلب الثمن فوجده قد فلس]
مسألة وسئل: عن رجل باع عرصة فبنى فيها المشتري ثم جاء

(10/548)


البائع يطلب ثمن عرصته فإذا الرجل المشتري قد فلس، قال: إن شاء حاص الغرماء بماله وإن أبى نظر كم قيمة العرصة وقيمة البنيان، فإن كانت قيمة العرصة ربع الدار أو ثلثها بيعت الدار فدفع إليه ثلث ثمن الدار أو ربع ثمنها، فعلى هذا يحسب.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة لا إشكال فيها ولا اختلاف، وهي نظيرة مسألة الغزل التي مضت في رسم العرية من سماع عيسى ومضى التكلم عليها هناك فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.

[مسألة: دفع إلى صائغ سوارين يعملهما له ثم فلس]
مسألة وسئل: عن رجل دفع إلى صائغ سوارا يعمله له، ثم دفع إليه سوارا آخر بعد ذلك، فعمل أحدهما فأخذه صاحبه ولم يعطه أجره، فلم يفرغ من الآخر حتى فلس.
قال يحيى: السوار الذي في يده بإجارته فيه، ويكون أسوة الغرماء في السوار الآخر الذي دفع إليه كان معا أو مفترقا، يريد دفع السوارين.
قلت له: أرأيت إن كان لم يفلس فعمل أحدهما ولم يعمل الآخر فقال الصائغ ادفع إلي إجارة السوارين فقال قد دفعت إليك إجارة الأول الذي أخذته وقال الصائغ لم آخذ منك شيئا؟
قال: إن كان دفعهما جميعا معا والإجارة واحدة كان القول قول الصائغ، فإن كانا مفترقين واحدا بعد واحد حلف صاحب السوارين وكان القول قوله: إلا أن يطلب إجارته بحدثان ذلك، فإن فعل ذلك رأيت القول قول الصائغ مع يمينه.
قال محمد بن رشد: قوله في الذي فلس بعد أن قبض أحد السوارين من الصائغ قبل أن يدفع إليه من أجرته شيئا إن الصائغ يكون أحق بالسوار الذي بيده في أجرته فيه ويكون أسوة الغرماء بأجرة السوار

(10/549)


الذي دفعه، صحيح إذا كان استعماله إياهما في صفقتين.
وأما إن كان استعماله إياهما في صفقة واحدة فمن حق الصائغ أن يمسك السوار الذي بيده بجميع أجرته في السوارين كالرهن؛ لأنه ارتهنهما جميعا صفقة واحدة بأجرتهما جميعا، فمن حقه أن يمسك الباقي في يديه حتى يقبض جميع حقه، كمن ارتهن سوارين أو عبدين بعشرين دينارا فدفع أحدهما إلى الراهن ليدفع إليه نصف حقه فلم يفعل حتى فلس أنه أحق بالباقي في يده من السوارين أو العبدين من الغرماء حتى يستوفي جميع حقه. وهذا مما لا إشكال فيه ولا اختلاف.
فقوله: كانا معا أو مفترقين - يريد: دفع السوارين، كلام غير صحيح وقع على غير تحصيل. وتفرقته في مسألة اختلافهما في دفع الأجرة بين أن تكون الأجرة وقعت فيهما صفقة واحدة أو في صفقتين يمضي على مسألة التفليس ويبين ما ذهبنا إليه فيها من الفرق بين الوجهين.
وقوله: إن الصائغ إذا طلب أجرته بحدثان ما دفع السلعة التي استعمل إياها كان القول قوله مع يمينه وحدثان ذلك هو اليوم واليومان والثلاثة على ما في كتاب الرواحل والدواب من المدونة، وبالله التوفيق.

[مسألة: حبس في دين فجاء من يشهد للمحبوس أنه ليس له شيء]
مسألة وسئل: عن رجل حبس في دين فجاء من يشهد للمحبوس أنه ليس له شيء، وجاء من يشهد للغريم أن المحبوس موسر بهذا الدين.
قال: لا ينظر إلى الذين شهدوا لهذا ولا لهذا، وأرى أن يرسل ويدس في ذلك أهل الصلاح في السر، فإن كان له مال ضيق عليه حتى يؤخذ منه الحق، وإن كان معدما لا شيء له فأرى أن يخلى حتى يرزقه الله تعالى. وإنما يدس في ذلك أهل العدل والمعرفة.
قال الإمام القاضي: هذه مسألة وقعت في بعض الروايات، وفيها

(10/550)


إذا اعتبرت اضطراب؛ لأنه قال فيها: إنه لا ينظر إلى الذين شهدوا لهذا ولا لهذا، وأرى أن يرسل ويدس في ذلك أهل الصلاح في السر.
وقوله فيها إنه لا ينظر إلى الذين شهدوا لهذا ولا لهذا، يريد إذا تكافأت البينتان في العدالة فوجب أن يبقى مسجونا على الأصل في أنه محمول على الملأ حتى يثبت عدمه، وهو قد قال: إنه يرسل، فيقوم من الرواية قولان: أحدهما: أنه ينظر إلى أعدل البينتين، فإن استوتا في العدالة سقطتا وبقي مسجونا على حاله فكانت بينة العدم على هذا أعمل عند تكافئ البينتين، والثاني: أنه ينظر إلى أعدل البينتين، فإن استوتا في العدالة سقطتا أيضا وأرسل من السجن حتى يسأل عنه في السر فينكشف من حاله ما يوجب أن يعاد إليه، فكانت بينة العدم على هذا أعمل عند تكافئ البينتين.
وفي المسألة قولان آخران: أحدهما: أن بينة العدم أعمل وإن كانت أقل عدالة، وقع هذا القول في أحكام ابن زياد لمحمد بن غالب وغيره من معاصيره، قالوا: إن شهادة الذين شهدوا على اليسار أعمل ويحبس بشهادتهم حتى تقوم بينة أنه أعدم بعد ذلك بجائحة أصابته.
ووجه ما ذهبوا إليه أنهم رأوا أن الذين شهدوا بملائه علموا من حاله ما جهلته البينة الأخرى التي شهدت بعدمه، فجعلوا ذلك من باب الزيادة في الشهادة.
والقول الثاني: أن شهادة العدم أعمل وإن كانت أقل عدالة وهذا القول يتركب على قياس قوله في هذه الرواية إنه ينظر إلى أعدل البينتين؛ لأنه لا ينظر إلى أعدل البينتين إلا عند استوائهما جميعا في ألا مزية عند أحدهما في زيادة معرفة أو علم على الآخر أو إذا لم يجعل للذين شهدوا بالملأ مزيد في العلم والمعرفة على الذين شهدوا بالعدم على مذهبه في هذه الرواية، وهو الصحيح في المعنى، إذ لم يثبتوا الشهادة بأنهم يعرفون له مالا أخفاه وإنما شهدوا أنهم يعلمونه عديما في ظاهر حاله كما شهدت البينة الأخرى أنهم يعلمونه عديما في ظاهر حاله، وجب أن تكون بينة العدم أعمل من بينة الملأ؛ لأن بينة العدم أوجبت حكما وهو إطلاقه من السجن إن كان قد سجن أو ارتفاع السجن عنه فيما ثبت عليه من الدين إن كان لم يسجن، وبينة الملأ لم توجب حكما؛ لأنها أبقته على حكم الأصل من كونه محمولا على الملأ الذي يوجب سجنه بما ثبت

(10/551)


عليه من الدين حتى يثبت عدمه، اللهم إلا أن تكون الشهادتان بعد أن أطلق من السجن بما بان من عدمه؛ لأن شهادة الملأ هنا هي التي توجب الحكم برده إلى السجن، وشهادة العدم لا توجب إلا بقاءه على حكم الأصل الذي به وجب تسريحه من السجن.
ولو قال الشهود بملائه إنهم يعلمون له مالا باطنا أخفاه لما صح أن يختلف في أن شهادتهم أعمل من شهادة من شهد بعدمه، وبالله التوفيق.

[مسألة: المقارض إذا تداين في القراض بإذن رب المال]
مسألة وسئل: عن رجل أفلس وضرب على يده ولم يكن له مال فأتاه رجل من الناس فأعطاه مالا قراضا وهو يعلم بإفلاسه، فداين به الناس حتى فلس، ثم أراد الذي أعطاه المال أن يأخذ ماله، لم يكن ذلك له؛ لأن الناس إنما داينوه لما في يديه ولم يداينوه في ذمته، فالغرماء أولى بماله.
فإن فضل فضل كان له إلا أن يتعدى المقارض في المال بشيء، مثل أن يسلف أو يخالف إلى ما نهاه عنه، فكل ما تعدى فيه كان ضامنا له، بمنزلة ما لو أسلفه إياه فيكون في ذمته، فكذلك ما تعدى فيه.
قال ابن القاسم: كذلك قال لي مالك لا ينبغي أن يداين في القراض، فإن أدان فيه فهم أولى به.
قال: ولا يحل القراض على أن يقول داين، وإن كان تعدى وماله معروف في الذي تعدى فيه ببينة أو إقرار فهو أحق به من الغرماء.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة بينة صحيحة لا إشكال فيها أن المقارض إذا تداين في القراض بإذن رب المال فالغرماء أولى بالمال منه حتى يستوفوا ديونهم، وإذا تداين فيه بغير إذن رب المال وقد علموا أنه مال قراض فرب المال أولى بماله من الغرماء.
وكذلك إذا أسلف منه أو تعدى ما أمره به فهو أحق بماله في جميع ذلك، ولا يجوز على رب المال

(10/552)


عداؤه. وقد مضى في أول سماع أصبغ ما فيه بيان لهذه المسألة، وبالله التوفيق.

[مسألة: أجير السقي في الزرع أو النخل إذا فلس صاحب الزرع أو النخل]
مسألة قال ابن القاسم، في أجير السقي في الزرع أو النخل إذا فلس صاحب الزرع أو النخل: إن الأجير أولى من الغرماء. وأما الأجير يحرس الزرع أو النخل فهو أسوة الغرماء.
قال الإمام القاضي: قد تكررت هذه المسألة في أول هذا السماع ومضى القول عليها مستوفى في أول سماع أشهب، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.

[مسألة: رجل قام عليه غرماؤه ففلسوه فيما بينهم وأخذوا ماله ثم داينه آخرون]
مسألة قال ابن القاسم: قال مالك، في رجل قام عليه غرماؤه ففلسوه فيما بينهم وأخذوا ماله ثم داينه آخرون: إن الآخرين أولى بما في يديه من الأولين بمنزلة السلطان.
قال ابن القاسم: ولو قاموا فلم يجدوا في يديه شيئا وداينوه فلم يجدوا له شيئا فتركوه، لم أر هذا تفليسا، وروايته: إن داينه آخرون بعد ذلك ثم فلس أنه يدخل الأولون من الآخرين إلا أن يكون بلغوا به السلطان وكان السلطان هو الذي فلسه لهم فذلك تفليس، وإن لم يوجد له شيء، وذلك أن السلطان يكشفه ويبلغ من كشفه مَا لَا يَبْلُغُ هؤلاء ولو أعلم أنهم كانوا يبلغون من ذلك لرأيت أَنَا ذلك تفليسا، ولكن لا أحب أن أقوله مخافة ألا يكونوا يبلغون ذلك.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة والقول فيها في رسم البيوع الثاني من سماع أصبغ فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.

(10/553)


[مسألة: تزوج امرأة وأصدقها عبدين ودفعهما إليها ثم فلست المرأة وطلقها الزوج]
مسألة وقال في رجل تزوج امرأة وأصدقها عبدين ودفعهما إليها ثم فلست المرأة وطلقها الزوج، قال: هو أحق بأحد العبدين من الغرماء.
قال محمد بن رشد: قوله وطلقها الزوج، يريد قبل البناء. وقوله: إنه أحق بأحد العبدين من الغرماء، يريد: أنه يكون شريكا فيهما، قاله ابن أبي زيد وهو صحيح. والمسألة كلها صحيحة لا اختلاف فيها.
والأصل في أنه يكون أحق من الغرماء بما وجب له من الصداق إذا أدركه قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أيما رجل فلس فأدرك رجل ماله بعينه فهو أحق به من غيره» .
ولو فات الصداق في يديها باستهلاك منها له لكان له محاصة الغرماء بنصف قيمته، ولو فات في يديها بأمر من السماء لم يكن عليها فيه شيء على مذهب ابن القاسم روايته عن مالك في أنهما شريكين فيه إذا طلقها قبل البناء تكون المصيبة إن تلف منهما والغلة بينهما.
وعلى القول بأن الغلة لهما والمصيبة منها إن أصدقها عبدا فمات وطلقها قبل البناء وقد فلست - أنه يحاص الغرماء بنصف قيمته.
وقد قال ابن المواز على قياس قول ابن القاسم وروايته عن مالك: إن المرأة إذا طلقت قبل البناء وفلست فإن عرف المهر بيدها فالزوج أحق بنصفه، وإن لم يوجد إلا نصفه فإن عرف هلاكه بغير سببها فليس له إلا نصف ما وجد ولا محاصة له بما بقي، وإن هلك بسببها حاص بنصف ما ذهب فيه وفي سائر مالها، وهو صحيح، وبالله التوفيق.

[مسألة: يحاص الذي كان له عليك المائة مع غرماء العبد فيما في يد العبد]
مسألة قال ابن القاسم، في عبد كان لي وأذنت له في التجارة

(10/554)


فداين الناس وكان لرجل علي مائة دينار فأحلته بها على عبدي ثم فلس العبد. قال: يحاص الذي كان له عليك المائة مع غرماء العبد فيما في يد العبد.
قيل له: فإنه حاص فصار له في المحاصة نصف حقه، قال: يرجع على السيد بنصف الحق ويرجع غرماء العبد على السيد بما صار لغريمه في المحاصة وهو خمسون دينارا؛ لأنه هو الذي أدخله عليهم، فإن لم يكن عنده شيء باعوا من العبد ما كان لهم أن يرجعوا به على السيد.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة فيها نظر، ولا تصح إلا على معنى ما، وهو أن يكون السيد أحال غريمه على عبده ولا دين له عليه، فلما فلس العبد لم يعلم إن كانت الإحالة قبل ديون الغرماء فيكون من حق المحال أن يحاص الغرماء ولا يكون للغرماء رجوع على السيد بشيء، أو بعد ديون الغرماء فلا يكون للمحال محاصة الغرماء، والسيد مقر أن الإحالة كانت بعد ديون الغرماء والمحال منكر لذلك ومدع أن الديون إنما لحقت العبد بعد الإحالة. فعلى هذا التأويل تستقيم المسألة.
وقد قال فيها ابن دحون: إنها مسألة غير مستقيمة؛ لأنه إن كان أحال الغريم على دين له على العبد فليس للمحال رجوع ولا للغرماء رجوع على السيد بما وقع للمحال في المحاصة، وإن كان أحاله على ماله الذي في يدي العبد فلا يخلو أن يكون ذلك قبل أن يتداين العبد أو بعد أن يتداين، فإن كان قبل أن يتداين فلم يقبض المحال حتى فلس العبد فلا رجوع له ولا للغرماء على السيد بما يقع للمحال في المحاصة؛ لأنه أحد أهل دين العبد، وإن كان بعد أن تداين العبد أحال عليه فذلك لا يجوز على الغرماء؛ لأنهم أولى بما في يدي العبد من السيد وممن أحاله السيد.
وليس قوله بصحيح لاحتمال المسألة سوى الوجوه التي قسم المسألة إليها وفسرها على معنى ما في المدونة وما في سماع ابن القاسم من كتاب الكفالة والحوالة.
فمن الوجوه التي تحتملها الوجه الذي ذكرنا أنه تصح عليه المسألة، وهو أن السيد أحال غريمه على العبد على غير أصل دين كان له على العبد؛ لأن الحوالة على غير أصل

(10/555)


دين حمالة، وحمالة العبد لسيده إذا لم يكن عليه دين جائزة لازمة له في ذمته، وإن مات أو فلس كالحر سواء.
فلما أحاله عليه قبل أن يفلس ثم فلس كان له أن يحاص الغرماء ويرجع على الذي أحاله ببقية حقه لما ذكرناه من أن الحوالة على غير أصل دين حمالة، وكان لغرماء العبد أن يرجعوا على السيد بما صار لغريمه المحال في المحاصة على ما ذكرناه في تأويل المسألة من أن السيد مقر أنه أحاله على عبده بعد أن اغترقت الديون ذمته، وبالله التوفيق.

[مسألة: مفلسا ورث أباه أووهب له ماذا يكون للغرماء منه]
مسألة قلت: أرأيت لو أن مفلسا ورث أباه أو وهب له ماذا يكون للغرماء منه؟
قال: إن ورثه لم يعتق إذا كان الدين يحيط به وكان الدين أولى به كشيء أفاده. وأما إن وهب له فهو معتق عليه وليس لأهل الدين فيه شيء؛ لأنه لم يوهب له ليأخذه أهل الدين إنما أراد حين وهب له أن يعتقه، فإذا أخذه أهل الدين كان أضر به.
قال الإمام القاضي: أشهب يقول: إن العتق أولى به في الميراث كالهبة، وبه قال محمد بن المواز، ولا وجه للتفرقة في ذلك بين الميراث والهبة.
واعتلاله لوجوب العتق فيه بالهبة بأنه لم يوهب له ليأخذه أهل الدين، إنما أراد أن يعتقه - اعتلال فاسد، إذ لا يدرى حقيقة ما أراد، فلعله إنما أراد منفعة الموهوب له بأن تؤدى عنه ديونه من ثمنه، لا سيما إن كان ممن يجهل أنه لا يصح له ملكه.
ولا يصح في المسألة على مقتضى القياس إلا قولين (كذا) : أحدهما: أنه يعتق في الوجهين جميعا وهو قول أشهب، والثاني: أنه لا يعتق في الوجهين جميعا ويباع للغرماء فيهما.
والأصل في هذا الاختلاف اختلافهم فيمن ملك من يعتق عليه هل هو حر بنفس ملكه إياه أو ليس بحر حتى يعتقه أو يعتق عليه، فعلى القول بأنه حر بنفس ملكه إياه يكون حرا في الوجهين جميعا ولا يكون لأهل الدين فيه حق وهو قول أشهب، وعلى القول بأنه لا يكون حرا حتى يعتقه أو يعتق

(10/556)


عليه بدليل ما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أنه قال: «لا يجزي ولد والدا إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه» ، لا يعتق عليه ويباع للغرماء في الوجهين جميعا.
وعلى هذا الاختلاف يأتي الاختلاف الواقع في كتاب العتق الأول من المدونة في الذي يشتري أباه وعليه دين يغترقه، هل يرد البيع أو يباع عليه في الدين؟
وإذا اشتراه وليس عنده ثمنه كله هل يرد البيع أو يباع منه ببقية الثمن للبائع ويعتق الباقي؟
فذهب مالك إلى أنه يرد البيع في المسألتين جميعا على قياس القول بأنه لا يصح أن يتقرر له عليه ملك، وذهب ابن القاسم إلى أنه يباع عليه إذا اشتراه وعليه دين ويباع عليه منه ببقية الثمن للبائع وبعتق الباقي إذا اشتراه وليس عنده ثمنه كله.
وقد تأول بعض الناس على ما في المدونة لمالك بظاهر قوله فيها إنه فرق بين المسألتين، فقال في الذي يشتري أباه وعليه دين: إنه يباع عليه في الدين، وفي الذي يشتريه وليس عنده ثمنه كله: إن البيع يرد، وليس ذلك بصحيح، إذ لا وجه للتفرقة بين المسألتين كما لا وجه للتفرقة بين الميراث والهبة.
وإنما أدخل سحنون قول المخزومي في المدونة حجة لمالك على ابن القاسم في المسألتين جميعا.
ويتخرج على قياس القول بأن من ملك من يعتق عليه لا يكون حرا بنفس الملك حتى يعتق عليه أنه لا يحد إن كانت أمة فوطئها عالما بوجوب عتقها عليه خلاف ما في سماع عيسى من كتاب الحدود من أنه يحد إلا أن يعذر بجهالة ولو اشترى الرجل من يعتق عليه من ورثته وهو صحيح أو مريض بثلث ماله فأقل فلم يعلم بذلك حتى مات، ورثه على القول بأنه حر بنفس الشراء، ولم يرثه على القول بأنه لا يكون حرا حتى يعتق.
وقد اختلف إذا اشتراه في مرضه بثلث ماله فأقل وعلم بذلك قبل أن يموت، فقيل: إنه يعجل له العتق في مرضه ويرث، وهو ظاهر ما في المدونة، وقيل: إنه لا ميراث له بحال؛ لأن فعل المريض لا ينظر فيه إلا بعد الموت وهو قول أشهب، وقيل: إنه ينظر فيه بعد الموت فإن خرج

(10/557)


من الثلث ورث، وإن لم يخرج من الثلث لم يرث، وهو ظاهر قول ابن القاسم في أول سماع عيسى من كتاب الوصايا.
وأما إذا اشتراه في مرضه بأكثر من الثلث فقيل: إنه لا يرث بحال وهو قول أشهب، وقيل: إنه يرث إن حمله الثلث بعد الموت، وهو أحد قولي ابن القاسم، وقيل: إنه إن كان ممن له أن يستلحقه كان له أن يشتريه بجميع ماله ويرث، وإن لم يكن له أن يستلحقه لم يكن له أن يشتريه إلا بالثلث ولا يرث، وقيل: إنه إن كان ممن يحجب جميع الورثة عن الميراث كان له أن يشتريه بجميع ماله ويرث، وإن لم يكن ممن يحجب جميع الورثة عن الميراث لم يكن له أن يشتريه إلا بالثلث ولا يرث، وبالله التوفيق.

[مسألة: الجمال يفلس وفي يدي هذا جمل يركبه]
مسألة وسئل ابن القاسم: عن الجمال يفلس وفي يدي هذا جمل يركبه، قال: كل من كان في يديه جمل يركبه كان أولى به من غيره.
قال أصبغ: كذلك قال لنا ابن القاسم.
قيل له: إنه كان يدخل بينهم يجعل هذا البعير تحت هذا يوما ثم يجعل تحته غيره من الغد، ويجعل ذلك البعير تحت غيره.
قال: إنما ينظر إليه حين فلس، فكل من كان في يديه بعير حين فلس كان أحق به وإن كانت تحته أمس غيره.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة في رسم القبائل من سماع ابن القاسم من هذا الكتاب وكتاب الرواحل والدواب، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.

[مسألة: المريض يبيع في مرضه فيحابي في بيعه بأكثر من الثلث]
مسألة قال سحنون: لو أن رجلا مرض فباع في مرضه دارا ثمنها ثلاثمائة دينار بمائتي دينار وحابى بمائة دينار ولا مال له غيرها ثم

(10/558)


أخذ المائتين فاستنفقها ثم مات، فإنه يقال للورثة: إن صاحبكم قد حابى بمائة ولا يحمل ذلك ثلثه من قبل أنه استنفق المائتين، فإما أن تمضوا بيعه وإما أن تختلعوا من ثلثه للمشتري، فإن أجازوا مضى البيع، وإن لم يجيزوا بيع من الدار بقدر المائتين التي استنفقها، ثم يكون للمشتري ثلث ما بقي من الدار بعد الذي بيع منها.
قال الإمام القاضي: اختلف في المريض يبيع في مرضه فيحابي في بيعه بأكثر من الثلث، مثل أن يكون له عبد قيمته ثلاثمائة دينار فيبيعه بمائة دينار ثم يموت ولا مال له غيره على ثلاثة أقوال: أحدها: أن الورثة يخيرون ابتداء بين أن يجيزوا البيع وبين أن يمضوا للمشتري من العبد ثلثه بالوصية وثلثه بالمائة التي دفع، وهذا إذا كانت قيمته على حالها والمائة باقية، وهو قول ابن القاسم في سماع أبي زيد من كتاب الوصايا.
والثاني: أنه يمضي منه للمشتري بالثمن قدر ما لا محاباة فيه ثم يخير الورثة في المحاباة فإن شاءوا أجازوها وأمضوها وإلا قطعوا له بثلث الميت وهو ثلث العبد إذ لا مال له غيره، وهذا قول عيسى بن دينار من رأيه، وهو قريب من القول الأول، إذ لا فرق بينه وبينه إلا في تخيير الورثة هل يكون ابتداء أو بعد أن يمضي منه للمشتري بالثمن قدر ما لا محاباة فيه، ولا يئول ذلك إلى اختلاف في المعنى.
والقول الثالث: أن الورثة يخيرون ابتداء بين أن يجيزوا البيع وبين أن يردوه ويعطوا المشتري مِئَتَهُ التي كان دفع ويقطعوا له بثلث الميت في العبد المبيع وهو ثلثه إذ لا مال له سواه، وهو قول ابن القاسم في سماع سحنون من كتاب الشفعة ورواية أصبغ عن ابن القاسم عن مالك في الواضحة.
وعلى هذا القول يأتي قول سحنون هذا في الذي باع في مرضه دارا تساوي ثلاثمائة بمائتين ولا مال له غيرها فأخذ المائتين واستنفقها في مرضه ثم مات؛ لأن الثلث إنما ينظر فيه بعد الموت، فلما مات وهو قد استنفق المائتين التي قبضها من المشتري لم يصح أن يمضي له المائة التي

(10/559)


حاباه بها في مرضه، إذ لا مال به سواها، فوجب ألا يكون له إلا ثلثها يقطع له بذلك في الدار، وكان وجه العمل في ذلك على ما قال، إن لم يجز الورثة البيع أن يباع من الدار للمشتري بالمائتين التي استنفقها الميت على التنقيص بأن يقال للمشترين كم تأخذون من هذه الدار بمائتين؟ فيقول أحدهم: أنا آخذ خمسة أسداسها بمائتين، ويقول الآخر: أنا آخذ أربعة أخماسها بذلك، ويقول الآخر: أنا آخذ ثلاثة أرباعها بذلك، ويقول الآخر: أنا آخذ ثلثيها بذلك، ويقول الآخر: أنا آخذ نصفها بذلك، فإذا وقفت على ما وقفت عليه من الأجزاء بيع منها ذلك الجزء بالمائتين ودفعت إلى المشتري، وكان له ثلث ما يبقى من الدار، السدس إن كان بيع منها بالمائتين النصف، والتسع إن كان بيع منها بالمائتين الثلثان، ونصف السدس إن كان بيع منها بالمائتين الثلاثة الأرباع، ويكون للورثة ما بقي، الثلث أو التسعان أو السدس، وهذا على القول بأن من أوصي له بشيء بعينه فلم يحمله الثلث ولا أجازه الورثة يقطع له بالثلث في الذي أوصي له به.
وأما على القول بأنه يكون له شائعا في جميع مال الميت فتباع الدار كلها فيعطى المشتري من ذلك المائتين التي استنفق الميت وثلث ما بقي إذ لا مال له سوى الدار، ولا يكون على ظاهر هذه الرواية للورثة أن يلزموا المشتري أن يأخذ في المائتين من الدار ما يجب لهما منها بغير رضاه ولا له أن يلزمهم ذلك بغير رضاهم، خلاف ظاهر ما في سماع أبي زيد من كتاب الوصايا.
وقد رأيت لابن دحون أنه قال في قول سحنون في هذه المسألة: لا يتم هذا الجواب حتى يكون المشتري يبرأ إليهم بما اشترى ويطلب رأس ماله فهناك تباع الدار ويعطى رأس ماله وثلث ما يبقى، فكأنه ذهب إلى أن يفسر قول سحنون هذا بما في سماع أبي زيد، وما في سماع أبي زيد بقول سحنون، والظاهر أنه اختلاف.
واختلف أيضا إن أراد المشتري أن يزيد ما حاباه به الميت زائدا على الثلث ويستخلص البيع هل يكون ذلك له أم لا؟ على قولين: أحدهما: أن ذلك له وهو قول ابن القاسم في سماع سحنون من كتاب الشفعة، والثاني: أن ذلك ليس له وهو ظاهر ما في سماع أبي زيد من كتاب الوصايا، وبالله التوفيق.

(10/560)


[مسألة: يشتري البيض على أن تفقس]
مسألة وسئل مالك: عن الذي يشتري البيض على أن تفقس: أن ذلك جائز.
قال محمد بن رشد: قيل في التفقيس إن معناه: أن يكشف عن البيض ليعلم فاسدها من غير ذلك، ويحتمل أن يريد بالتفقيس الكسر، فإن كان اشتراها على أن يختبرها بما يصح اختبارها به من غير كسر فما وجد منها فاسدا رده فلا إشكال في جواز البيع على هذا الشرط، وإن كان اشتراها على أن يكسرها فما وجد منها فاسدا رده مكسورا فذلك جائز أيضا؛ لأن الحكم يوجب له رده إذا وجد فاسدا قبل الكسر وبعده، اشترط ذلك أو لم يشترطه، وبالله التوفيق.

[: سجن الرجل في دين امرأته فأراد أن تدخل عليه امرأته في السجن تبيت معه]
من نوازل سئل عنها سحنون قال سحنون: إذا سجن الرجل في دين امرأته فأراد أن تدخل عليه امرأته في السجن تبيت معه فإنه لا يكون له ذلك.
وكذلك إن سجن لغير امرأته فليس له أن تدخل امرأته عليه في السجن؛ لأنه إنما أدخل تأديبا له وتضييقا عليه، فإذا كان لا يمنع من لذته فلم يضيق عليه.
قال الإمام القاضي: قول سحنون هذا صحيح بين في المعنى.
وقد قال ابن المواز: إذا حبس الزوجان في دين فطلب الغريم أن يفرق بينهما وطلب الزوجان أن يجمعا فذلك لهما إن كان السجن خاليا، وإن كان فيه غيرها حبست المرأة مع النساء وحبس الرجل مع الرجال، ولا يفرق بين الأب والابن ولا بين الإخوة في السجن.
وقول ابن المواز: إن للزوجين أن يجمعا في السجن إذا كان خاليا خلاف لقول سحنون، وقول سحنون أظهر، والله أعلم.

(10/561)


[مسألة: لا يجوز أن يشترى دين على الميت]
مسألة قال سحنون: إذا مات الرجل وعليه دين لقوم شتى فقام بعضهم إلى السلطان فأثبت عنده دينه فباع السلطان مال الميت وقضى هؤلاء الذين قاموا بحقوقهم، فقام الآخرون بعد ذلك يريدون الدخول مع الذين اقتضوا فيما اقتضوا: فإن ذلك لهم يدخلون عليهم فيأخذون منهم قدر حقوقهم، ولا يضرهم أن يكونوا علموا بموت صاحبهم، وأن ماله يباع لغرمائه؛ لأنهم يقولون كنا على حقوقنا، وعلمنا أنه لا يبطلها عنا قيام أصحابنا.
قيل له: فما الفرق بينه وبين المفلس إذا باع السلطان ماله لبعض غرمائه وبقيتهم حضور لا يقومون فلم ير لهم الدخول على الذين اقتضوا حقوقهم؟
فقال: إن المفلس له ذمة تتبع، وإن الميت قد انقطعت ذمته، فلذلك رأيت لهم الدخول على أصحابهم.
وقد أخبرني ابن القاسم أنه قال: لا يجوز أن يشترى دين على الميت؛ لأن الميت لا ذمة له يطلب فيها وقد انقطعت ذمته، وأن المفلس له ذمة يتبع بها، فهذا أيضا يدلك على مسألتك.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول على هذه المسألة في نوازل عيسى فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.

[مسألة: يكون له على النصراني الدين فيموت ويترك خمرا وخنازير]
مسألة وسئل سحنون: عن الرجل يكون له على النصراني الدين فيترك النصراني خمرا أو خنازير هل يجبر ورثة النصراني على بيع الخمر والخنازير حتى يقضوا المسلم حقه؟
قال: لا يجبرهم السلطان على بيعه، ولكن صاحب الدين يتربص بورثة الميت، فإذا باعوا وصارت الخمر والخنازير مالا قضى السلطان على الذين

(10/562)


باعوها بدفع الدين إلى المسلم.
وكذلك المركب من الروم يرسي بساحلنا معهم الخمر وغير ذلك أن السلطان لا يجبرهم على بيعها للعشور، ولكن يوكل من يتحفظ بها حتى إذا بيعت أخذ من ثمنها العشور.
قال محمد بن رشد: أما قوله في الذي يكون له على النصراني الدين فيموت ويترك خمرا وخنازير: إن السلطان لا يجبر ورثته على بيع الخمر والخنازير، ولكن صاحب الدين يتربص بورثة الميت فإذا باعوا وصارت الخمر والخنازير مالا قضى السلطان على الذين باعوها بدفع الدين إلى المسلم - فهو صحيح بيّن في المعنى؛ لأن دين صاحب الدين ليس في عين الخمر والخنازير، وإنما هو في ذمة الميت، ولو كان في عين الخمر والخنازير لما وجب أن يبيعها ليستوفي حقه منها، ولما كان الواجب في ذلك، إلا أن يأخذ حقه منها المتعين له فيها فيهرق الخمر ويقتل الخنازير أو يسرحها إن لم يقدر على قتلها وتغييب جيفها، وخشي أن يضر ذلك بالناس.
وأما قوله في المركب من الروم يرسي بساحل المسلمين ومعهم الخمر وغير ذلك للبيع: إن السلطان لا يجبرهم على بيعها للعشور، ولكن يوكل من يتحفظ بها حتى إذا بيعت أخذ من ثمنها العشر، فهو بعيد، إلا أن يكون معنى ذلك أنهم صولحوا على أن يؤخذ منهم العشر إذا باعوا كأهل الذمة.
وأما إن كانوا صولحوا على العشر فالواجب أن يؤخذ منهم عشر ما معهم من الخمر والخنازير فتكسر الخمر وتقتل الخنازير أو تسرح؛ لأن المسلمين أشراك لهم في جميع ما نزلوا به باعوا أو لم يبيعوا، هذا قول ابن القاسم في سماع عيسى وسحنون وأصبغ من كتاب التجارة إلى أرض الحرب.
ألا ترى أنهم يمنعون عنده من وطء جواريهم للشرك الذي للمسلمين معهم، وأنهم إن أرادوا الرجوع بمن معهم من الرقيق أو بما معهم من الأموال قبل البيع أخذ منهم العشر من ذلك كله وانطلقوا بما بقي.
وقد قال سحنون في نوازله من كتاب القراض في النصراني يقارض النصراني، فيشتري المقارض بمال القراض خمرا أو خنازير ثم يسلم صاحب المال: إن ذلك مصيبة نزلت

(10/563)


به، وينظر إلى قدر فضل النصراني فيها فيعطاه منها، ويهراق ما صار للمسلم.
فإذا قال هذا في مال القراض مع أن من حجة صاحب المال أن يقول إنما قارضته بمال ولم أقارضه بخمر، فأنا أنتظر حتى ينض المال فآخذ رأس مالي وحصتي من الربح فأحرى أن يقوله في مال الحربي الذي قدم للتجارة بأمان، فإنما يصح قول سحنون في هذه المسألة على قول ابن وهب في سماع أصبغ من كتاب التجارة إلى أرض الحرب، وما لأشهب في كتاب ابن المواز من أن أهل الحرب إذا قدموا للتجارة لا يؤخذ منهم ما صولحوا عليه من عشر أو غيره حتى يبيعوا كأهل الذمة، وبالله التوفيق.

[مسألة: لا تجوز شهادة خصم ولا ظنين ولا جار لنفسه ولا دافع مغرم]
مسألة وسئل: عن رجلين لهما دين بصك واحد على رجل، فشهد أحدهما أنهما قد تقاضيا دينهما ذلك، قال سحنون: أرى شهادته على شريكه ساقطة، لما يريد أن يدفع عن نفسه من رجوع صاحبه عليه، وأرى أن يرجع على شريكه بما ينوبه ويرجع المشهود عليه بتمام حقه على غريمه، ولا يكون للشاهد الرجوع على أحد.
قيل: لسحنون: وترى شهادته ساقطة، كان المشهود عليه مليئا أو معدما؟ قال: نعم.
قال محمد بن رشد: وهذا بيّن على ما قاله، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تجوز شهادة خصم ولا ظنين ولا جارٍّ لنفسه ولا دافع مغرم» فهو إذا شهد على شريكه في الدين أنه قد قبض حقه منه كما قبض هو يدفع عن نفسه بشهادته عليه ما يجب له عليه من الرجوع عليه بنصف ما قبض وتغريمه إياه ذلك.
وإذا بطلت شهادته عنه ورجع عليه لم يكن له هو الرجوع على الذي كان عليه الدين كما قال؛ لأنه مقر أنهما قد استوفيا

(10/564)


حقهما منه فلا شيء لهما قبله. وسواء على ما قال كان المشهود عليه مليا أو معدما؛ لأن له الرجوع عليه في الحالتين جميعا، وبالله التوفيق.

[مسألة: له دين عليه فقال له اقضني خمسين وأنا أضع عنك الباقي]
مسألة وسئل سحنون: عن رجل كان له دين على رجل، فقال له قبل محل الأجل: اقضني من ديني خمسين دينارا وأنا أضع عنك ما بقي، فلم يعلم بمكروه ذلك إلا بعد الأجل أو قبل حلول الأجل.
قال: إن علم بذلك قبل حلول الأجل رد ما كان أخذ منه وكان المال إلى أجله، وإن لم يعلم بذلك إلا بعد الأجل فإن رب الحق يرجع بما وضع عنه عليه.
قال محمد بن رشد: هذا بيّن على ما قاله، وهو مما لا إشكال فيه؛ لأن تعجيل بعض الحق قبل حلول أجله على أن يوضع عنه بقيته سلف جر منفعة، وذلك رِبًا عند مالك وعامة أهل العلم، مقيس على الربا المحرم في التنزيل على ما أجمع عليه أهل التأويل، وهو أن يؤخره بدينه بعد حلول أجله على أن يزيده فيه، فإذا عثر على ذلك قبل حلول الأجل رد إليه ما عجل له؛ لأن التمادي على ذلك إلى الأجل حرام، وإن لم يعثر على ذلك حتى حل الأجل رجع عليه ببقية حقه؛ لأن إسقاطه عنه على أن يعجل له مما عجل ربا ولم يرد عليه شيئا مما عجل له؛ لأن ذلك قد فات، وبالله التوفيق.

[مسألة: لرجل على رجل ثلاثمائة درهم فدفع المطلوب منها إلى الطالب مائة]
مسألة قلت: أرأيت إن كان لرجل على رجل ثلاثمائة درهم كل مائة منها في صك على حدة، منها صك قرض، وصك منها كفالة عن رجل، وصك منها كفالة عن رجل آخر، ودفع المطلوب منها إلى الطالب مائة، من أيها تكون؟
قال: إن قال الذي عليه الحق

(10/565)


قضيت حق فلان، وقال الطالب: ما قبضت منك إلا مبهما، رأيت أن يكون ثلث ما قبض عن كل صك؛ لأنه كان يقتضيه إياها كلها وهي حالّة.
وإن كان قضاه إياها ومنها الحالّ والآجل فهي من الحق الحال وليست من الآجل، وليس يقبل قول القاضي إنما قضيتك حق فلان؛ لأنه الآن يحابي من أحب منهم.
ولو أنه حين أتاه بالمال قال: أقضيك حق فلان - كان القول في ذلك قول القاضي؛ لأنه مال يقضي القاضي أيها شاء إلا أن يكون المطلوب مخوفا فيكون المال بينهم.
وكذلك لو مات الطالب قبل أن يبين من أي شيء اقتضى كان المال على الصكوك كلها إذا كانت حالّة، وإن ادعى القاضي غير ذلك. قال: فإن ماتا جميعا فكذلك يكون أيضا.
قال محمد بن رشد: في بعض الكتب: ولو أنه حين أتاه بالمال قال أقضيك حق فلان كان القول في ذلك قول الطالب؛ لأنه مال فيقتضي القابض أيه شاء.
والأول أصح؛ لأن القاضي وهو الدافع أملك بالقضاء، فوجب أن يكون من حقه أن يدفع أيها شاء إذا نازعه الطالب في ذلك عند القضاء.
وأما إذا اختلفا بعد القضاء، فقال القاضي: إنما قضيتك حق فلان، وقال الطالب: ما قبضت منك إلا مبهما - فالقول قول الطالب مع يمينه يحلف ما قبض إلا مبهما ويكون ذلك مفضوضا على الصكوك كلها، ولا يصدق الدافع القاضي؛ لأنه مدع ويتهم أيضا بمحاباة الذي يدعي أنه قضى عنه.
وكذلك لو قال الطالب: إنما قبضت حق فلان وقال القاضي: بل قضيتك مبهما - كان القول قوله مع يمينه ومضى ذلك على الصكوك كلها.
ولو اختلفا فقال الطالب: إنما دفعت إلي حق فلان، وقال القاضي: بل دفعت إليك حق فلان لوجب أن يفض ذلك على الصكوك جميعا بعد يمين كل واحد منهما على دعواه أو نكولهما جميعا عن اليمين، فإن حلف أحدهما ونكل الآخر عن اليمين كان القول قول الحالف منهما.
وهذا كله على قياس قول ابن القاسم في هذه الرواية ومذهبه في المدونة وروايته عن مالك فيهما. وقد

(10/566)


قيل: إن القول قول القاضي المقتضي، وهو قول غير ابن القاسم في المدونة.
وقد قيل: إن القول قول القاضي الذي عليه الحق، وهو قول ابن كنانة ورواية محمد بن صدقة عن مالك في المدنية، فسواء على هذين القولين ادعيا البيان جميعا أو ادعى أحدهما البيان والآخر الإبهام يحلف على القول الواحد الطالب على ما يدعي من البيان أو على ما يدعي من الإبهام، فإن حلف على ما يدعي من الإبهام فض ذلك على جميع الصكوك، ويحلف على القول الثاني المطلوب على ما يدعي من البيان أيضا أو على ما يدعي من الإبهام، فإن حلف ما يدعي من الإبهام فض ذلك على جميع الصكوك، فإن نكل عن اليمين حلف الآخر، وكان القول قوله على حكم المدعي والمدعى عليه، وبالله التوفيق.

[مسألة: أوصى لرجل بألف درهم وقال لي عنده عشرون دينارا فاقتضوها منه]
مسألة وسئل سحنون: عمن أوصى عند موته لرجل بألف درهم، وقال: لي عنده عشرون دينارا فاقتضوها منه، فأخبر الموصى له بالوصية، وسئل: عن العشرين فتبرأ، وأنكر أن يكون له قِبَله شيء وطلب الوصية.
قال سحنون: يحاسب في الألف بالعشرين ثم يكون له ما بقي.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة والقول فيها في رسم البيوع الأول من سماع أشهب من هذا الكتاب فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
تم كتاب المديان والتفليس والحمد لله.

(10/567)