البيان
والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة [كتاب الرهون الأول] [يبعث
مع الرجل بالثوب يرهنه ويأمره بشيء فيزداد لنفسه بغير علم صاحب الثوب]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وصلى الله على سيدنا محمد وآله
وصحبه وسلم كتاب الرهون الأول من سماع
ابن القاسم عن مالك من كتاب الرطب باليابس أخبرني محمد بن عمر بن لبابة
قال: أخبرني العتبي قال: قال سحنون: قال عبد الرحمن بن القاسم: قال مالك في
الرجل يبعث مع الرجل بالثوب يرهنه ويأمره بشيء، فيزداد لنفسه بغير علم صاحب
الثوب، فلما حل الأجل طلب المرتهن عشرة، فقال رب الثوب: ما دفع إليّ إلا
خمسة، وما أمرته إلا بذلك، فأقر الرسول أو أنكر، فقال: يؤخذ من صاحب الثوب
الآمر العشرة إن كان ثمن الثوب ذلك، وتكون الخمسة لصاحب الثوب قبل رسوله،
فإن زعم أنه دفعها إليه كلها، حلف وبرئ، وإن أنكر أن يكون أخذ من المرتهن
إلا خمسة، كان الغرم كله على صاحب الثوب أيضا، وكان على الرسول اليمين
بالله ما أخذها، ويبرأ. قال سحنون وعيسى بن دينار: إذا قال: إنما أمرته
بخمسة، وقال الرسول: ما ارتهنته إلا بخمسة، فإن كان للراهن بينة أنه أمره
بخمسة غرم خمسة وأخذ رهنه، ولم يكن للمرتهن على الرسول إلا يمينه بالله ما
رهنه إلا
(11/5)
بخمسة، ويبرأ، وإن لم تكن له بينة، وإنما
هو قوله وقول الرسول، وقال المرتهن: ارتهنته بعشرة، فالقول قول المرتهن
فيما بينه وبين أن يحيط بالرهن مع يمينه، ثم يقال لصاحب الرهن: افد رهنك
بقيمته أو دعه بما فيه، فإن كان الذي ادعى المرتهن أكثر من ثمن الرهن، أحلف
الرسول بالله ما رهنته إلا بخمسة ويبرأ، ولا يكون لصاحب الرهن ولا للمرتهن
أن يتبعاه بشيء، فإن قال الرسول: رهنته بعشرة، وما أمرني الراهن أن أرهنه
إلا بخمسة، فكان لصاحب الرهن بينة، أنه إنما أمره بخمسة، غرم خمسة، وأخذ
رهنه، واتبع الرسول المرتهن بخمسة، وإن لم تكن له بينة، وله البينة على أن
الرهن له، أحلف أنه لم يأمره إلا بخمسة، ثم غرم قيمة الرهن إن كانت أدنى من
عشرة، وأخذ رهنه، واتبع المرتهن الرسول بما نقص من العشرة، واتبعه الراهن،
بما غرم فوق الخمسة. قال: وإن قال الرسول: أمرتني بعشرة، وقال الآمر: ما
أمرتك إلا بخمسة، كان القول قول الرسول مع يمينه، وقيل لهذا افتك رهنك أو
دعه، فإن فداه لم يتبع الرسول بقليل ولا كثير، إذا حلف أنه أمره بعشرة.
قال الإمام القاضي: قول مالك في أول هذه المسألة: إذا طلب المرتهن عشرة،
وقال رب الثوب: لم آمره إلا بخمسة، إن العشرة تؤخذ من صاحب الثوب إذا كان
ثمنه ذلك. أقر الرسول أو أنكر، معناه: أقر الرسول أنه رهنه بعشرة أو أنكر،
وزعم أنه إنما رهنه بخمسة، وهو صحيح؛ لأن الرهن شاهد لمرتهنه بمبلغ
(11/6)
قيمته، فالقول قوله مع يمينه أنه ارتهنه
بعشرة، ويأخذ العشرة من صاحب الثوب، ويرجع صاحب الثوب على الرسول، فإن كان
مقرا أنه رهنه بعشرة، فاستزاد الخمسة لنفسه، أخذها منه، وإن ادعى أنه إنما
رهنه، فالعشرة له، ودفعها إليه، فالقول قوله مع يمينه على ذلك، وفي تصديقه
على أنه قد دفع العشرة إليه اختلاف كثير، قيل: إنه يصدق مع يمينه، قرب أو
بعد، وقيل: إنه لا يصدق بحال، وقيل: إنه يصدق في القرب مع يمينه، وفي البعد
دون يمين، وقيل: إنه لا يصدق في القرب ويصدق في البعد مع يمينه. وإن أنكر
وزعم أنه إنما رهنها بخمسة، لم يكن عليه إلا اليمين ويبرأ، وإذا أقر الرسول
أنه رهنها بعشرة، وأن الخمسة استزادها لنفسه فرضي المرتهن أن يتبعه بالخمسة
سقطت عنه اليمين.
والمسألة كلها صحيحة مبنية على أصل مالك ومذهبه، في أن الرهن شاهد لمرتهنه
إلى مبلغ قيمته، إذا كان قائما بيده، أو بيد من جعلاه على يده على اختلاف
في ذلك، أعني في كونه شاهدا له إذا لم يكن بيده، وإنما جعلاه على يدي عدل
بدليل قول الله عز وجل {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا
كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] ؛ لأنه تعالى لما جعل الرهن
عوض التوثق بالكتاب، والإشهاد عند عدم الكتاب، وجب أن ينوب منابه في بعض
أحواله، وهو ما ذهب إليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -، من أن يكون شاهدا له
إلى مبلغ قيمته، قيل: ويستحق ذلك في ذمة الراهن، وهو قول مالك في هذه
الرواية يؤخذ
(11/7)
من صاحب الثوب الآمر العشرة دينار، خلافا
لقول مالك في هذا. وفيما سواه تفسير له.
قولهما فإن كان للراهن بينة أنه أمره بخمسة، غرم خمسة، وأخذ رهنه، ولم يكن
للمرتهن على الرسول إلا يمينه بالله ما رهنته إلا بخمسة، ويبرأ، صحيح لا
اختلاف فيه؛ لأن الراهن إذا أخذ رهنه خرج من الرهن؛ ولم يبق بيد المرتهن ما
يكون له شاهدا على دعواه وقولهما: وإن لم تكن له بينة، وإنما هو قوله، وقول
الرسول، وقال المرتهن: ارتهنته بعشرة، فالقول قول المرتهن فيما بينه وبين
أن يحيط بالرهن مع يمينه صحيح أيضا لا اختلاف فيه في المذهب؛ لأن الرهن
إنما هو شاهد للمرتهن بقيمته، وأما قولهما: ثم يقال لصاحب الرهن: افد رهنك
بقيمته أو دعه بما فيه، فقد ذكرنا أن ذلك خلاف لما تقدم من قول مالك.
وقوله: فإن كان الذي ادعى المرتهن أكثر من ثمن الرهن، يريد مثل أن يكون
قيمة الرهن ثمانية، فيدعي أنه ارتهنه منه بعشرة، حلف الرسول بالله ما رهنته
إلا بخمسة، ويبرأ، ولا يكون لصاحب الرهن ولا للمرتهن أن يتبعاه بشيء، يريد
ويحلف المرتهن، لقد ارتهنته بعشرة، فيستحق بيمينه قيمة الرهن، ويبرأ صاحب
الثوب بيمين الرسول الراهن فيما زاد على قيمة الرهن؛ لأن رسوله بمنزلته،
(11/8)
لو كان هو الراهن، ولو نكل الرسول عن
اليمين لغرم الخمسة تمام العشرة التي حلف المرتهن عليها؛ لأنه ضيع بتركه
الإشهاد، وإن نكل المرتهن عن اليمين، وحلف الرسول، لم يكن له إلا الخمسة
التي حلف عليها الرسول قبل صاحب الثوب، والقول قول الرسول أنه دفعها إليه
إن أنكر أن يكون قبضها منه، وقد ذكرنا الاختلاف في ذلك.
وقولهما: فإن قال الرسول رهنته بعشرة، وما أمرني الراهن أن أرهنه إلا
بخمسة، فكان لصاحب الرهن بينة، أنه إنما أمره بخمسة، غرم خمسة وأخذ رهنه،
واتبع الرسول المرتهن بخمسة، صحيح لا اختلاف فيه؛ لأن الراهن إذا أخذ رهنه
خرج من الرهن، ولم يبق بيد المرتهن ما يكون له شاهدا على دعواه، حسبما
ذكرناه. وقولهما: وإن لم تكن له بينة وله البينة على أن الرهن له، أحلف أنه
لم يأمره إلا بخمسة، ثم غرم قيمة الرهن إن كانت قيمته أدنى من عشرة، وأخذ
رهنه. واتبع المرتهن الرسول بما نقص من العشرة، واتبعه الراهن، يريد صاحب
الثوب الآمر بالرهن بما غرم فوق الخمسة صحيح، وبيانه: أن الرسول قد أقر أنه
رهنه بعشرة، وأن صاحب الثوب لم يأمره إلا بخمسة، فإن أراد المرتهن أن يتبع
صاحب الثوب بالخمسة التي أقر أنه تعدى فيها، لم يكن عليه يمين، وإن أراد أن
يتبع صاحب الثوب بقيمة الرهن، والرسول ببقية العشرة، كما قال، لم يكن ذلك
له إلا بعد أن يحلف أنه رهنه إياه
(11/9)
بعشرة، فإن نكل عن اليمين لم يكن له قِبَل
صاحب الثوب إلا الخمسة التي أمر بها، ويتبع الرسول بالخمسة التي أقر له بها
وإذا حلف وأخذ من صاحب الثوب قيمته، كان لصاحب الثوب أن يرجع على الرسول
بما غرم زائدا على الخمسة، لإقراره أنه لم يأمره إلا بخمسة، وأنه تعدى في
الخمسة الأخرى، فهذا بيان قوله هذا.
وقولهما قال: وإن قال الرسول أمرتني بعشرة وقال الآمر: ما أمرتك إلا
بالخمسة، كان القول قول الرسول مع يمينه. وقيل لهذا افد رهنك أو دعه، فإن
لم يتبع الرسول بقليل ولا كثير، إذا حلف أنه أمره بعشرة صحيح، إلا أن فيه
إجمالا، يفتقر إلى شرح.
وبيان ذلك، أن الرسول يحلف لقد أمره بالعشرة التي رهنتها به، ولقد دفعها
إليه، فجمع ذلك في يمين واحدة، وقيل: بل يحلف يمينين، فإذا حلف كان صاحب
الثوب مخيرا بين أن يفتك ثوبه بقيمته، أو يسلمه، ولم يكن له على الرسول
شيء؛ لأنه قد حلف أنه أمره بعشرة، ودفعها إليه، ويرجع المرتهن على الرسول
ببقية العشرة التي أقر بقبضها منه إن كانت قيمة الثوب أقل من عشرة، ولو
ادعى المرتهن عشرين، وأقر الآمر بخمسة، وقال الرسول خمسة عشر، وقيمة الثوب
عشرة، فليحلف المرتهن، ثم يحلف رب الثوب، فإن شاء الآمر ثوبه فليرد عشرة،
ثم يحلف الرسول يمينين ويغرم خمسة التي زادت على قيمة الثوب؛ لأنه أقر أنه
قبض من المرتهن خمسة عشر، ويحلف للآمر يمينا لقد أوصل إليه عشرة، وأخرى
للمرتهن، ما قبضت منك إلا خمسة عشر. قال ذلك في كتاب ابن المواز، وهو صحيح
على أصولهم. وبالله التوفيق.
(11/10)
[مسألة: ارتهن
زرعا فعجز عنه صاحبه فقال له زدني مالا آخر أصلح به زرعي]
مسألة وقال مالك من ارتهن زرعا فعجز عنه صاحبه، فقال صاحب الزرع: زدني
مالا، آخر أصلح به زرعي ليلا، فأبى، فأخذ مالا من غيره. فأصلح به زرعه حتى
انتعش، قال: يبدأ الذي أسلفه على المرتهن الأول في الزرع حتى يستوفي حقه.
قال محمد بن رشد: هذا نص ما في كتاب الرهون من المدونة في هذه المسألة،
ومعناها: إذا أذن المرتهن في ذلك للراهن. وفي كتاب ابن المواز لمالك أن
الأول يبدأ ثم الثاني. ولكلا القولين وجه. فوجه القول الأول أن المرتهن لما
أذن للراهن أن يستسلف ما يصلح به الزرع ليلّا يهلك، فقد رضي بتبدئته على
نفسه، وصار حائزا له.
ووجه القول الثاني أن المرتهن الأول قد حاز الزرع لنفسه، فلا يخرج مقدار
دينه منه عن يده، ويكون فيه حائزا لغيره إلا بإفصاح وبيان، وحسبه أن يكون
بإذنه في ذلك حائزا للثاني ما فضل عن حقه، ولو لم يأذن له في ذلك لوجب أن
يكون الثاني أسوة الغرماء فيما فضل من الرهن عن حق المرتهن الأول وبالله
التوفيق.
[مسألة: باع من غلام له سلعة بدين وارتهن منه
رهنا فلحق العبد دين]
مسألة وقال مالك في رجل باع من غلام له سلعة بدين وارتهن منه
(11/11)
رهنا فلحق العبد دين. قال: إن كان دين
السيد معروفا ببينة، وكان دينه بقدر مال العبد، فهو أحق بالرهن، وإن كان
على غير ذلك، ولو قامت له بينة، لم أر أن يكون أحق به من الغرماء. قال
عيسى: قال ابن القاسم: أرى أن يفسخ للبائع رهنه؛ لأنه لم يكن ذلك على وجه
الرهن، وإنما هو على وجه التاليج، فيحاص بقيمة ما باع عبده الغرماء، فيما
ارتهن وفيما بقي من ماله، ولا يكون أولى بالرهن فيما له عليه؛ لأنه كان
أوله غير جائز، والأجنبي لا يشبهه؛ لأن الأجنبي لو باع جارية قيمتها خمسون
دينارا بألف دينار، وارتهن رهنا، وكان مشتريها من غير أهل السلعة، جاز ذلك،
والسيد ليس كذلك في عبده، فهذا فرق ما بين مبايعة السيد عبده، والأجنبي لم
يروها سحنون. قال سحنون: إذا تبين في ذلك محاباة، وارتهن به رهنا، كان أولى
بالرهن بقيمة السلعة التي باع منه، ولا يكون أولى بالرهن بقيمة السلعة التي
باع منه، ولا يكون أولى بالرهن بالزيادة التي ازدادها على قيمة سلعته،
ولكنها تسقط الزيادة، وتثبت منه قدر قيمة السلعة ويكون أولى بالرهن بتلك
القيمة من الغرماء.
قال محمد بن رشد: هذه المسألة قد مضى القول فيها مستوفى في أول سماع ابن
القاسم من كتاب المديان والتفليس، فمن أحب الوقوف عليه. تأمله هنالك.
وفي قوله: والأجنبي لا يشبهه؛ لأن الأجنبي لو باع جارية قيمتها خمسون
دينارا بألف دينار، وارتهن رهنا، وكان مشتريها من غير أهل السفه جاز ذلك،
ما يدل على أنه لا قيام على بيع المكايسة بالغبن ولا أعرف في المذهب في ذلك
نص خلاف، وكان من الشيوخ من يحمل مسألة سماع أشهب، الواقعة في أول رسم منه
على الخلاف، ويتأول منها وجوب القيام بالغبن في بيع المكايسة؛ لقوله فيها:
إن كان هذا المال رابحا كثير الفضل على ما باعه
(11/12)
إياه، لا يشبه تغابن الناس في البيوع، فأرى
أن يرد عليه ماله ويقضيه دينه، ويقع عليه الحنث، ليس ذلك عندي بصحيح؛ لأنه
إنما رأى له الرد بالغبن من أجل اضطراره إلى البيع مخافة الحنث على ما ذكر
في الرواية. وهذا من نحو تضعيفهم وكالة الراهن من المرتهن على بيع الرهن،
حسبما يأتي القول عليه في الرسم الذي بعد هذا إن شاء الله.
وقد حكى بعض البغداديين على المذهب وأراه ابن القصار، أنه يجب الرد بالغبن
إذا كان أكثر من الثلث، وليس ذلك بصحيح لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا يبع حاضر لباد، دعوا الناس يرزق الله بعضهم من
بعض» . وفي قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «غبن المسترسل ظلم»
دليل أنه لا ظلم في غبن المسترسل، وما لم يكن فيه ظلم، فهو حق لا يحب
القيام به. وقد استدل بعض الناس على ذلك بقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في
الأمة «إن زنت فبيعوها ولو بضفير» وبقوله لعمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - «لا تشتره ولو باعكه بدرهم» وهذا لا دليل فيه؛ لأنه خرج على
التقليل مثل قوله في
(11/13)
الحقيقة: «ولو بعصفور» وقوله: «من بنى
مسجدا ولو بقدر مفحص قطاة بنى الله له بيتا في الجنة» (12) وما أشبه ذلك
كثير، وإنما الخلاف المعلوم في الرد بالغلط في بيع المكايسة، حسبما مضى
القول فيه في الأقضية الثاني من سماع أشهب من كتاب جامع البيوع. وبالله
التوفيق.
[مسألة: ارتهن رهنا دارا أو غلة ثم قال المرتهن
للراهن استأجرني أتقاضى لك]
مسألة وقال مالك في رجل ارتهن رهنا: دارا أو غلة، ثم قال المرتهن للراهن:
استأجرني أتقاضى لك، وآخذ الخراج وأتقاضى لك بإجارة معلومة، فما اجتمع من
مال فضل عن إجارتي حبسته، فكلما حل شيء من حقي اقتضيته لمحله. قال مالك: لا
بأس به إذا لم يتعجل القضاء إلا لمحله، ولم يكن في أصل البيع شرط. قال
الإمام القاضي: يلزم على أصولهم أن يكون ما يقتضي مطبوعا عليه، حتى يحل نجم
من حقه، فيقتضيه، ويطلع على الباقي حتى يحل نجم آخر هكذا أبدا.
وقوله ولم يكن في أصل البيع شرط أي لم يشترط عند عقد الصفقة أنه يستوفي
دينه من الخراج؛ لأن هذا لا يجوز، إذ هو مجهول، وإذ لا يدري لعل الغلة لا
تصح، إلا أن يشترط عليه ضمان
(11/14)
ذلك، على ما وقع في آخر رسم الرهون من سماع
عيسى بعد هذا. وإنما شرط ألا يتعجل القضاء؛ لأنه يخاف أن يكون أرخص عليه في
الأجرة، ليعجل له بالقضاء، فيدخل له، ضع وتعجل. وكذلك لو تقاضى له الخراج
دون أجر، على أن يستوفيه من دينه قبل محله، لم يجز إذ كان في اقتضائه عناء.
وقد أجاز في كتاب حريم البير من المدونة أن يأذن راهن الدار لمرتهنها بعد
عقد البيع أن يكريها ويأخذ حقه من كرائها، ومعنى ذلك إذا كان الدين حالا أو
لم يكن في ذلك عناء. وبالله التوفيق.
[مسألة: قال للراهن قد حزت لك رهنك وقبضته فهل
يضمن بذلك]
مسألة وقال له لو أن رجلا قال لرجل أراد أن يضع على يديه رهنا لرجل ويسلفه
أو يبيعه قد حزت لك رهنك وقبضته، فدفع بقوله: إنه ضامن.
قال ابن القاسم: وذلك رأي، إنه ضامن لقيمة الرهن الذي أراد أن يرهنه.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله، لا إشكال في أنه ضامن لقيمة الرهن
لأنه قد غره. وبالله التوفيق.
[يرهنه الرهن ويقول له إن لم آتك بحقك إلى وقت
كذا فأنت موكل ببيعه]
ومن كتاب أوله شك في طوافه وسئل مالك عن الرجل يرهن الرجل الرهن، ويقول له:
إن لم آتك بحقك إلى كذا وكذا من الأجل، فأنت موكل ببيعه، وتستوفي حقك،
ويشهد له بذلك، قال مالك: لا يباع الرهن إلا
(11/15)
بإذن السلطان، كان على يدي أحد، أو على يدي
صاحب الرهن، وهو مما يكتبونه في رهونهم، إنه ليس في حرج وما أشبهه. وهذا
كله فيه لا يباع رهن، اشترط فيه بيع إلا بأمر السلطان، وشدد في ذلك وقال:
لا يباع رهن اشترط فيه بيع إلا بأمر السلطان. قال ابن القاسم: وقد بلغني عن
مالك أنه قال: إذا أصاب وجه البيع إنه يمضي، فات أو لم يفت، ثم قال: إذا
كان ذلك شيئا تافها رأيت أن يمضي البيع، فات أو لم يفت، وإن كان شيئا له
بال، مثل الدور والأرضين وما أشبه ذلك، رد إذا لم يفت، وأحب قوله: إلى أن
يمضي البيع إذا أصاب وجهه وكان تافها أو شيئا له بال؛ لأن صاحبه قد ضمن
وباع المرتهن ما أذن له فيه فأرى البيع له جائزا إذا أصاب وجه البيع، فات
أو لم يفت:
قال محمد بن رشد: الرهن وثيقة في يد المرتهن بحقه، وهو باق على ملك ربه،
فليس له أن يبيعه إلا بإذنه، فإن أدى وغاب، رفع أمره إلى السلطان فباعه له
عليه بعد أن يثبت عنده الدين والرهن. واختلف هل عليه أن يثبت عنده ملك
الراهن له؟ على قولين، يتخرجان على المذهب، وذلك عندي إذا أشبه أن يكون له،
وأما إذا لم يشبه أن يكون له، مثل أن يرهن الرجل حليا أو ثوبا لا يشبه أن
يكون من لباسه ولا من تجارته، أو ترهن المرأة سلاحا أوثوبا لا يشبه أن يكون
من لباسها، فلا يبيعه السلطان حتى يثبت عنده ملك الراهن له، فإن لم يكن في
البلد سلطان، أو كان وعسر الرفع إليه باعه بحضرة العدول، وجاز البيع على
الراهن، ولم يكن له على المشتري فيه سبيل، إلا أن يكون باعه بأقل من قيمته،
فيكون له أن يأخذه بالثمن الذي اشتراه به، وهذا في العروض، وأما العقار
والأصول فله أن يأخذها من المشتري بالثمن، إذا لم يبعها السلطان، وإنما
باعها هو بحضرة العدول، وإن استقصى الثمن وباع بالقيمة، وقال أشهب: إن كان
مقتاة أو قضبا أو ثمرا
(11/16)
يجنى شيئا بعد شيء، فيخشى عليه الفساد،
فبيع المرتهن له جائز، دون مؤامرة السلطان، ولا ملأ، ولا جماعة. وقوله عندي
مفسر لما تقدم.
وقد حمله بعض الناس على أنه خلاف لمذهب مالك في رواية ابن القاسم عنه في
المدونة وغيرها، واختلف إن شرط المرتهن على الراهن في أصل العقد أنه موكل
على بيع الرهن، مثل أن يقول: أبيعك بكذا إلى أجل كذا، على أن ترهنني كذا،
وأنا موكل على بيعه دون مؤامرة سلطان، أو يقول له بعد أن حل دينه عليه:
أؤخرك بديني إلى أجل كذا، وعلى أن ترهنني كذا وأنا موكل على بيعه دون
مؤامرة سلطان أو يقول له بعد أن حل دينه عليه: أؤخرك بديني إلى أجل كذا،
على أن ترهنني كذا وأنا موكل على بيعه دون مؤامرة سلطان على قولين: أحدهما
إن ذلك جائز لازم، ليس له أن يفسخ وكالته ولا يعزله عن بيعه، لما له في ذلك
من الحق، وهو إسقاط العناء عنه في الرفع إلى السلطان، إذ أدى به، وإسقاط
الإثبات عنه إن أنكر وكان غائبا، وهو قول إسماعيل القاضي، وابن القصار،
وأبي محمد عبد الوهاب. والثاني إن ذلك لا يجوز ابتداء، وله أن يعزله.
واختلف على هذا القول إن باع قبل أن يعزله على ثلاثة أقوال: أحدها إن ذلك
جائز جملة من غير تفصيل بين الأصول والعروض، وهو قول مالك الأول الذي بلغ
ابن القاسم على ما وقع هنا وفي المدونة، واختيار ابن القاسم هنا، وهو قول
أصبغ. وهذا إذا أصاب وجه البيع، وأما إن باع بأقل من القيمة، فيكون للراهن
أن يأخذه من المشتري بالثمن الذي اشتراه به، فإن تداولته الأملاك كان له أن
يأخذه بأي الأثمان شاء على حكم الشفيع يأتي بعد أن تداولت الأملاك بالبيع
في الشقص. والثاني إن ذلك جائز في العروض، إذا أصاب وجه البيع، ومردود في
الأصول، وإن أصاب وجه البيع، ما لم تفت، يريد بما يفوت به البيع الفاسد في
العروض، من حوالة الأسواق فما فوقه، فإن فات بشيء من ذلك،
(11/17)
مضت، ولم يكن للراهن عليها سبيل، وإن كانت
قائمة بيد المشتري لم تفت بوجه من وجوه الفوت، كان للراهن أن يأخذها
بالثمن، وهو قول مالك الثاني الذي رجع إليه هاهنا. والثالث إن ذلك جائز في
العروض إذا أصاب وجه البيع، ومردود في الأصول، فاتت أو لم تفت، وهو قول
أشهب؛ لأنه قال: إن فاتت كان بائعها ضامنا. ومعنى قوله عندي: إن له أن
يأخذها حيث وجدها، وعلى أي حال وجدها بالثمن الذي باعها به الراهن،
واستوفاه لنفسه في حقه. ويكون الرجوع بالدرك عليه إن كان في ذلك درك، مثل
أن يجد الدار في يد المشتري مهدومة، وقد اشتراها قائمة بمائة، وقيمتها
مهدومة على ما وجدها عليه خمسون، فيدفع إلى المشتري المائة التي اشتراها
به، ويرجع على البائع بخمسين، وإن وجدها عند مشتر اشتراها من المشتري من
الراهن بأكثر من الثمن الذي باعها به الراهن، أخذها من المشتري الثاني
بالثمن الذي اشتراها به المشتري الأول من الراهن، وانتقض البيع الثاني
فيها، فرجع المشتري الثاني الذي أخذت من يده الدار، ببقية ثمنه، على الذي
باع منه وهو المشتري الأول.
وإنما وقع هذا الاختلاف في توكيل الراهن للمرتهن، على بيع الرهن عند حلول
الأجل، من غير مؤامرة سلطان، من أجل أنها وكالة اضطرار، لحاجته إلى ابتياع
ما اشتري أو إلى استقراض ما اقترض أو إلى التأخير بما حل عليه من الدين بعد
حلوله، ولأن الرهن لا يباع على الراهن إلا إذا أدى في بيعه أو بعد غيبته،
ولم يوجد له مال يقضى عنه الدين منه فيحتاج إلى البحث عن ذلك وعن قرب غيبته
من بعدها، وذلك ما لا يفعله إلا القاضي، فأشبه ذلك حكمه على الغائب. ولو
طاع الراهن للمرتهن بعد البيع وقبل حلول أجل الدين بأن يرهنه رهنا ويوكله
على بيعه عند حلول أجل دينه دون مؤامرة سلطان لجاز ذلك باتفاق؛ لأن ذلك كله
معروف من الراهن المرتهن في الرهن والتوكيل على البيع. وبالله التوفيق.
(11/18)
[هلك وعنده سيف
رهنا فجاء صاحبه إلى الورثة فقال إنما رهنته بدينار]
ومن كتاب شك في طوافه قال وسئل مالك عن رجل هلك وعنده سيف رهنا فجاء صاحبه
إلى الورثة فقال: إنما رهنته بدينار، وقال الورثة لا علم لنا بما رهنته،
إلا أن سيفك قيمته خمسة دنانير، قال: أرى أن يحلف ويأخذه.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله لأن الورثة ينزلون منزلة موروثهم،
فإذا لم يدعوا علم ما ارتهنه به، كانوا بمنزلة موروثهم لو كان حيا، فقال:
لا أدري بكم ارتهنته، أو أعرف، إلا أني لا أريد أن أحلف، ووجب أن يكون
القول قول الراهن فيما يقر أنه رهنه به، وإن كان ذلك أقل من قيمة الرهن،
ولو ادعوا علم ما ارتهنه به موروثهم، لوجب أن يكون القول قولهم إلى مبلغ
قيمة الرهن. وهذا إذا أقر الورثة بالرهن، أو قامت للراهن به بينة، ولو ادعى
أنه رهن ولم يكن له على دعواه بينة، فقال الورثة: لا علم لنا بما تدعيه،
وإنما وجدنا هذا المتاع في تركة موروثنا، ولا نعلم لك فيه حقا، لوجب أن
يحلف على ذلك من كان منهم كبيرا يظن به علم ذلك على اختلاف في ذلك، إن لم
يدع الراهن عليهم العلم، فإن نكلوا عن اليمين على القول بوجوبها عليهم، حلف
الراهن، لقد علموا ذلك، على اختلاف في ذلك أيضا. وأما إن ادعى الراهن عليهم
العلم، فلا اختلاف في وجوب اليمين عليهم ولا في وجوبها على الراهن إذا
نكلوا عن اليمين، وكذلك لا اختلاف في وجوب اليمين على الورثة، ولا في ردها
على الراهن إذا أنكروا الرهن وكذبوا الراهن، وادعوا أنهم يعرفون ملك السلعة
لموروثهم.
وستأتي هذه المسألة في رسم صلى نهارا ثلاث ركعات من هذا السماع، بزيادة،
وفي رسم إن أمكنتني من سماع عيسى. وتأتي أيضا في رسم أسلم منه وفي آخر رسم
الرهون منه عكس هذه المسألة إذا مات الراهن،
(11/19)
فتداعا ورثته مع المرتهن وسنتكلم عليها إذا
مررنا بها إن شاء الله. وبه التوفيق.
[مسألة: رهنت السيف بخمسة فقضيته أربعة وبقي
دينار وكان السيف يساوي خمسة]
مسألة قال ابن القاسم وسمعت مالكا قال: ولو رهنته بخمسة، فقضيته أربعة،
وبقي دينار، فكان السيف يساوي خمسة، لم يأخذه حتى يغرم الخمسة، إنما كان
على الميت اليمين، وقد سقطت عنه حين مات، فلا يأخذه حتى يؤدي الخمسة، من
رواية عيسى عن ابن القاسم، وأما سحنون فلم يروه عن أحد وقد أجازه برأيه،
قال ابن القاسم: وإنما ذلك للإقرار بأصل الدين.
قال محمد بن رشد: قوله في هذه المسألة: وكان السيف يساوي خمسة، لا فائدة
له؛ لأن الغرم يلزمه، كان يساوي خمسة أو أقل أو أكثر، لإقراره أنه رهن
بخمسة، وادعائه أنه قد قضى الأربعة، ويلزم من كان مالكا أمر نفسه من الورثة
أن يحلف ما علم أن الميت قبض الأربعة التي ادعى أنه دفعها إليه، على اختلاف
في لزومها له، وفي وجوب ردها عليه، إلا أن تحقق عليه الدعوى بالعلم، فتجب
عليه اليمين ويكون له ردها باتفاق.
وقد مضى بيان هذا قبل هذا وبالله التوفيق.
[مسألة: كانت له جارية ولها بنت صغيرة فأراد
سيدها أن يرهن الصبية]
مسألة وسئل عن رجل كانت له جارية، ولها بنت صغيرة بنت ست سنين أو أقل،
فأراد سيدها أن يرهن الصبية من رجل، ويخرج بأمها إلى بلد وهي جارية يطؤها
ويستمتع منها، وتخدمه، قال مالك: لا خير في ذلك، إلا أن تكون قد أثغرت
وكأنه رأى إذا لم تثغر إثغارا يعجل عليها وضرب لذلك مثلا فقال: ابنة مخاض،
وابنة لبون،
(11/20)
ليستا سواء، كلها بنات المخاض، ولا بنات
اللبون، وقال له رجل: إنه لا يبيعها، وهو يفتكها،. قال: ليس هذا بشيء أرأيت
لو مات في سفره أو فلس ألم يبعها الغريم في حقه؟ ليس يصلح هذا.
قال محمد بن رشد: قوله: إنه لا خير في أن يرهن الرجل عبده ابن أمته الصغير،
ويخرج بأمه إلى بلد آخر، صحيح، لا إشكال فيه، إذ لا كلام في أنه لا يجوز أن
يفرق بين الوالدة وولدها في الحوز وإن جمعهما الملك، وإنما الكلام هل يفرق
بينهما في الملك إذا جمعهما الحوز، فأجازوا ذلك في الهبة والصدقة، لما كان
طريقها المعروف، ولم يجيزوه في البيع لما كان طريقه المكايسة، وكذلك لو
رهنه عبده الصغير، لم يجز أن يحوزه إياه وحده دون أمه وإن لم يخرج بها عن
البلد. وإذا رهن الرجل الرجل عبده الصغير دون أمه، فلا يخلو ذلك من ثلاثة
أوجه: أحدها أن يرهنه إياه بشرط أن يحوزه إياه دون أمه، والثاني أن يرهنه
إياه على أن يحوزه إياه مع أمه. والثالث أن يرهنه إياه دون شرط، فأما إذا
رهنه إياه بشرط أن يحوزه إياه دون أمه، فهو رهن فاسد لا يجوز، ويفسخ، وأما
إذا رهنه إياه على أن يحوزه إياه مع أمه، فهو رهن جائز، إلا أنه يختلف هل
يكره ذلك ابتداء أم لا؟ فكره ذلك كله مالك في سماع يحيى بعد هذا، ولم ير
ابن وهب به بأسا، وهو الأظهر، إذ لا يخرج الرهن بارتهانه عن ملك راهنه على
أن تكون أمه معه في الرهن، فلم يفترقا في ملك ولا حوز، وكرهه مالك لوجهين
ضعيفين: أحدهما أنه رأى المرتهن كأنه قد ملك الرهن لما كان أحق به من
الغرماء، والثاني أنه لما كان لا يجوز أن يباع منفردا دون أمه، لم يكن فيه
من الحق إلا ما يقع عليه من الثمن إذا بيع أمه، وذلك لا يعرف إلا بعد
التقويم، فأشبه ذلك رهن الغرر، إذ قد اختلف فيه حسبما يأتي بيانه في تكلمنا
على أول مسألة من سماع أصبغ إن شاء الله. وأما إذا رهنه إياه دون شرط، فإنه
يجبر على أن يحوز معه أمه، وهو قول ابن القاسم في سماع أبي زيد. بعد هذا،
قال: أمه تكون معه في الرهن؛ لأن معناه أنها تكون معه في الحوز، لا داخلة
معه في الرهن ويتخرج
(11/21)
في ذلك قول آخر على معنى ما في كتاب
التجارة إلى أرض الحرب من المدونة، وهو أنه إذا أبى الراهن، أن يحوز الأم
معه، وأبى المرتهن إلا أن يحوز رهنه أن يباعا جميعا من رجل واحد، فيكون
للمرتهن رهنا ما ناب الولد من الثمن. وقوله: إن الإثغار ليس بحد لجواز
التفرقة إلا إذا لم يعجل، صحيح في المعنى، منصوص عليه في كتاب التجارة إلى
أرض الحرب من المدونة. وبالله التوفيق.
[أسلف رجلا سلفا ورهنه عبدا ووضعه على يدي رجل
وشرط عليه]
ومن كتاب الشجرة تطعم بطنين في السنة وسئل عن رجل أسلف رجلا، سلفا ورهنه
عبدا ووضعه على يدي رجل، وشرط الذي أسلف على الذي وضع الرهن على يديه، أنك
ضامن لما أصاب الرهن، فهلك العبد، أتراه ضامنا؟ قال: نعم، أراه ضامنا، قيل
له: فإن قال: ما نقص رهنك، قال ما أحراه أن يضمن، وأراه ضامنا، قال لا:
ولكن الآخر أبين، وما أراه أن يضمن.
قال الإمام القاضي: قد مضى القول على هذه المسألة مستوفى في أول رسم، فلا
معنى لإعادته. وبالله التوفيق.
[يرهن الدار من رجل ويضعها على يديه ثم يطلب أن
يعطى في ذلك أجرا]
ومن كتاب طلق بن حبيب وسئل مالك عن الرجل يرهن الدار من رجل ويضعها على
يديه، ويقتضي غلتها، ويقوم في ذلك، ثم يطلب أن يعطى في ذلك أجرا فيما قام
به، قال: من الناس من يكون ذلك له، فأما الرجل الذي مثله يشبه أن يعمل،
ومثله يؤاجر نفسه في مثله، فإن
(11/22)
طلبه فأرى ذلك له، وأما من مثله يعين فلا
أرى ذلك له.
قال محمد بن رشد: هذا نحو ما في رسم جاع فباع امرأته من كتاب الجعل
والإجارة، أنه تكون له إجارة مثله إن كان يشبه أن يكون مثله يعمل بالإجارة،
وإنما يكون ذلك له بعد يمينه أنه ما قام في ذلك وعني فيه احتسابا، وأنه
إنما فعل ذلك ليرجع بحقه فيه، على معنى ما قاله في أول سماع يحيى من الكتاب
المذكور، وبالله التوفيق.
[وضع حائطا مرهونا على يدي رجل فأراد الذي وضع
على يديه أن يساقيه صاحبه]
ومن كتاب أخذ يشرب خمرا قال: وسئل عن رجل رهن رجلا حائطا له ووضعه على يدي
رجل، فأراد الذي وضع على يديه أن يساقيه صاحبه الذي هو له، قال: أراه عيبا،
وأراه قد رهن رهنه وكأنه لا يراه رهنا، فقيل له: أفيساقيه الذي له الدين من
الذي وضع على يديه؟ قال: ما أرى بذلك بأسا، قيل له: أفيضع الرهن على يدي
ابن الذي له الحائط؟ قال: أراه قد رهن رهنه، وضعفه، وقال: لا يعجبني أن
يضعفه على يدي ابنه ولا امرأته ولا أخيه، وقال: هذا وهن للرهن وضعف له، فلا
خير فيه. قال سحنون: معناه في الابن أنه صغير، ولو كان كبيرا بائنا عنه
جاز.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله: إن العدل إذا ساقى في الحائط الراهن
بطل الرهن، وإذا ساقى المرتهن صاحب الدين لم يكن بذلك بأس؛ لأن الرهن لا
يكون رهنا إلا أن يحاز عن الراهن، لقول الله عز وجل
(11/23)
{فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283]
فإذا رجع إلى الراهن بأي وجه كان من مساقاة أو عارية أو إجارة بطل، وإذا
رجع من العدل إلى المرتهن لم يؤثر ذلك في صحة الرهن، إذ لو حازه لنفسه من
أول لجاز ذلك؛ لأن حيازته لنفسه أقوى من حيازة غيره له؛ لأنه إذا حاز
لنفسه، كان الرهن شاهدا له على اتفاق في المذهب، وإذا حازه له غيره، لم يكن
شاهدا إلا على اختلاف، وهو أحق به من الغرماء في الوجهين جميعا قولا واحدا،
وقول سحنون في الابن، معناه: أنه صغير ولو كان كبيرا بائنا عنه جاز صحيح،
مفسر لقول مالك، فقوله: إنه لا يعجبه أن يضع الرهن على يدي ابن الراهن،
معناه: إذا كان ساكنا معه، وأما إذا كان بائنا عنه غير ساكن معه، فحيازته
له جائزة إن كان كبيرا، أو غير جائزة إن كان صغيرا. هذا قول سحنون ها هنا.
وقول ابن الماجشون في الواضحة والقياس أن يستوفي الصغير والكبير في أن
حيازتهما للرهن جائزة إذا كانا بائنين عنه، كما يستويان في أن حيازتهما
ليست بجائزة، إذا كانا ساكنين معه، وكذلك الزوجة والأخ لو كانا بائنين عن
الرهن جاز أن يوضع الرهن على أيديهما. وقد نص على ذلك ابن الماجشون في
الزوجة، وكذلك إن كانا ساكنين معه، فحازا ذلك في غير موضع سكناهما وبالله
التوفيق.
[مسألة: أراد الذي له الدين أن يبيعه بيعا
ويرتهن منه رهنا ويجعل آجالها واحدة]
مسألة وسئل عن رجل كانت له أذهاب إلى آجال مختلفة، فأراد الذي له الدين أن
يبيعه بيعا، ويرتهن منه رهنا، ويجعل آجالها واحدة في الرهن، قال: لا خير
فيه، فقيل له: أفيبيعه بيعا ويرهنه رهنا ويجعل فيه دينه كله الذي له عليه؟
قال: لا خير فيه، قال ابن القاسم: وإنما كره ذلك؛ لأن الرجل لو كان له على
رجل دين إلى
(11/24)
أجل، فقال له الذي له الحق، هل لك أن أعطيك
دينارا أو دراهم على أن ترهنني بحقي الذي لي عليك أو أضع من حقي الذي عليك،
على أن ترهنني، لم يكن في هذا خير، وهو وجه من وجوه الربا، كأنه ازداد في
حقه، فإذا باعه بيعا على أن يرهنه رهنا بدين له آخر، فقد صار بمنزلة ما
وصفت لك؛ لأنه يضع له من ثمنه على أن يرهنه، وهو أيضا يشبه الحمالة بالجعل،
فالرهن والحمالة في هذا سواء، وهما قول مالك جميعا.
قال الإمام القاضي: أما إذا كانت له عليه أذهاب إلى آجال مختلفة فباعه بيعا
على أن يرهنه رهنا بثمن ما باعه منه وبالأذهاب التي له عليه إلى آجال
مختلفة، على أن يكون إلى أجل واحد، فلا اختلاف في أن ذلك لا يجوز؛ لأنه
يدخله البيع والسلف، شرط أن تكون الأذهاب حالة، أو إلى أقرب الآجال أو إلى
أبعدها، أو مؤخرة عن ذلك؛ لأنه إن شرط أن تكون معجلة أو إلى أقرب الآجال،
كان السلف من المبتاع، وإن شرط أن تكون إلى أبعد الآجال، أو مؤخرة عن ذلك،
كان السلف من البائع، ولا يجوز البيع على شرط السلف من أحد المتبايعين،
وأما إن باعه بيعا على أن يرهنه رهنا بثمن ما باع منه، وبالأذهاب التي له
عليه إلى آجالها بأعيانها فقال في هذه الرواية: إنه لا خير في ذلك؛ لأن
قوله أفيبيعه بيعا ويرهنه رهنا ويجعل فيه دينه كله الذي له عليه؟ معناه:
يجعله فيه كله إلى أجله، لا يعجله له ولا يؤخره هو عنه، وهو مثل ما في رسم
أوصى من سماع عيسى من كتاب السلم والآجال. وعلى قياس ما قاله ها هنا من أنه
لا يجوز أن يعطيه شيئا، ولا أن يضع عنه
(11/25)
من دينه الذي له عليه شيئا على أن يرهنه به
رهنا؛ لأنه إذا باعه على أن يرهنه، فقد وضع عنه من ثمن ما باعه، على أن
يرهنه، وقد أجاز ذلك كله في رسم القضاء المحض من سماع أصبغ من كتاب الكفالة
والحوالة، وهو الأظهر؛ لأن قوله في هذه الرواية: وهو وجه من وجوه الربا
كأنه ازداد في حقه، ليس ببين، إنما العلة في ذلك الغرر في الرهن، حسبما
بيناه في رسم أوصى من سماع عيسى من كتاب السلم والآجال، فيحتمل أن يكون
أراد أن الغرر في الرهن، هو الذي ازداده في حقه بما زاد في ثمن السلعة التي
ابتاع، أو في قيمة التي باع، فرأى ذلك مما يضارع الربا، وهو بعيد، والأظهر
فيه الجواز، والله أعلم. وقوله أيضا: وهو شبه الحمالة بالجعل، ليس بشبه
بين؛ لأن الحمالة بالجعل إنما هي أن يعطي الحميل شيئا، أو يضع عنه شيئا،
على أن يتحمل عنه، وإنما أعطى أو وضع للمحتمل عنه على أن يعطيه حميلا أو
رهنا، ولا يظهر للفساد في ذلك وجه، سواء ما بينه في رسم أوصى من سماع عيسى
من الكتاب المذكور، والشبه الذي رآه بينهما، هو أنه ابتياع غرر في
المسألتين جميعا، إلا أنه في الحمالة بالجعل، غرر في حق المتبايعين جميعا،
وفي إعطاء العرض على أخذ الرهن غرر من جهة أخذ الرهن، لا من جهة معطيه.
والله أعلم.
[أسلف رجلا مالا ورهنه دارا ووضعها على يدي رجل]
ومن كتاب كتب عليه ذكر حق وسئل مالك عن رجل أسلف رجلا مالا ورهنه دارا
ووضعها
على يدي رجل، وقال الذي وضعت على يديه: أنا حميل بما نقص من رهنك، وأسلفه
سلفا آخر، وأرهنه رهنا آخر، ووضع على يدي
(11/26)
الرجل الذي وضع على يديه الرهن الأول الذي
يحمل له بما نقص من رهنه، فحل أجلهما فقضاه بعض حقه، ثم لقيه بعد ذلك فقال:
إنما قضيت لك الحق في الحمالة التي فيها الرهن، وقد أعلمتك ذلك عند القضاء،
فأنكره ذلك وقال: بل هذا من الآخر. قال: قال مالك: أرى أن يقسم الذي اقتضى
بينهما، فإن كان الأول ستين، والآخر ثلاثين، كان قد اقتضى من الأول عشرين؛
ومن الآخر عشرة، للأول الثلثين، وللآخر الثلث، يقسم عليهم بالحصص إذا كان
مثل هذا، فعلى مثل هذا النحو يكون فيه الأمر.
قال محمد بن رشد: قوله: إنما قضيت لك الحق في الحمالة التي فيها الرهن غلط،
وإنما صوابه في الرهن الذي فيه الحمالة؛ لأن السلفين في كل واحد منهما رهن،
ولا حمالة إلا في أحدهما، وقوله: أرى أن يقسم الذي اقتضى بينهما، يريد بعد
أيمانهما، يحلف كل واحد منهما على ما ادعاه، فإن حلفا جميعا، أو نكلا
جميعا، قسم ما اقتضى بين المالين كما ذكر، وإن حلف أحدهما ونكل الآخر، كان
القول قول الحالف. ووجه ذلك، أنه لم ير واحدا منهما أشبه بالدعوى فوجب إلا
يبدأ أحدهما على صاحبه باليمين، وهذا مثل ما في كتاب الكفالة من المدونة في
الجعل، أحدهما من قرض، والآخر من كفالة، ومثل ما في كتاب الرهون منها في
الحقين يكون في أحدهما رهن دون الآخر. وقد قيل: إن القول قول القابض مع
يمينه، وهو قول غير ابن القاسم في كتاب الكفالة من المدونة وقول ابن القاسم
في سماع أبي زيد من كتاب المديان والتفليس. وقيل: إن القول قول الدافع مع
يمينه، وهو قول ابن كنانة ورواية محمد بن صدقة بن حبيب عن مالك، وكذلك لو
اختلفا عند القضاء، في أي الحقين يبدأ بالقضاء؟ لجرى الأمر فيه عندي على
هذا الاختلاف، إلا أنه لا يمين في شيء من ذلك. وقد فرق في سماع أبي زيد، من
كتاب المديان والتفليس، بين اختلافهما عند القضاء، وبعد القضاء، على اختلاف
وقع في ذلك في الرواية، فانظر ذلك، وأنعم النظر فيه. وبالله التوفيق.
(11/27)
[مسألة: الغلام
أو الدار المرهونة توضع على يد رجل أيكريها]
مسألة وسألت مالكا عن الرهن: الدار، أو الغلام يؤاجره، أو يكري الدار الذي
وضع على يديه الرهن، أم المرتهن، أم صاحب الدار، أو الغلام؟ قال ليس لصاحب
الدار أن يكريها، ولا يؤاجر غلامه، والمرتهن أولى بإكرائها من الذي وضعت
على يديه ومن صاحبها، وكيف حيازة الرهن أن يكري المرتهن الدار أو الغلام،
أو الذي وضعت على يديه؟ وإلا لم تعرف له حيازة حتى يرى يكريها ويرهنه ديون
أخرى، فلا أرى لصاحبها أن يكريها، والحيازة أن يكريها المرتهن، أو الذي
وضعت على يديه، إلا أنهم يجمعون له الغلة.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة، لا اختلاف فيها ولا إشكال في شيء
من معانيها، فلا وجه للقول فيها. وبالله التوفيق.
[مسألة: رهن رهنا ووضعه على يدي رجل واشترط أنه
حميل بما نقص]
مسألة وسئل مالك عن رجل رهن رهنا ووضعه على يدي رجل، فاشترط الذي وضع على
يديه أنه حميل بما نقص رهنه، فحل الحق، فأمره السلطان أن يبيع الدار في
حقه، فبيعت فنقص من حقها وأمره أن توقف بعد البيع شهرين، يطلب بها الزيادة،
فقال صاحب الحق للذي تحمل له يما نقص من الرهن: قد بيعت الدار، وليس فيها
وفاء، فاقضني ما نقص، وقال الحميل: قد ضرب لي أجل شهرين لطلب الزيادة في
الدار، فإن وجدت الزيادة وإلا غرمت إليك، وأبى صاحب الحق. قال: أرى ذلك
للذي وضع الرهن على يديه الذي تحمل بما نقص من الرهن أن يؤخر عنه ذلك
الشهرين الذين ضرب السلطان.
(11/28)
قال محمد بن رشد: وقعت هذه المسألة في بعض
الروايات، وهي مسألة ضعيفة؛ لأنه ضمن الحميل ما تقص عن حقه. وهو إنما ضمن
ما نقص من رهنه.
وقد مضى القول على هذا المعنى مستوفى في أول رسم من السماع فلا معنى
لإعادته. وستأتي هذه المسألة في نوازل أصبغ بزيادة معنى سنتكلم عليه إذا
مررنا به - إن شاء الله - وبالله التوفيق.
[مسألة: رهن رجلا جارية إلى أجل وهو معسر فأيسر
صاحب الجارية]
مسألة وسئل مالك عن رجل رهن رجلا جارية إلى أجل، وهو معسر، فأيسر صاحب
الجارية، فقال لصاحب دينه: أنا أعطيك رهنا من هذه الجارية: أصلا أو دارا أو
ما أشبهه، وادفع إلي الجارية، فإني أريد أن أبيعها، فإنها ليست لي بموافقة،
فقال: ليس ذلك إلا برضى صاحب الحق. قيل له: فإنه باعها. قال: إن كان باعها
رأيت أن يعطى المرتهن الثمن في حقه، حل الأجل أو لم يحل، ويمضي عليه البيع.
قال محمد بن رشد: قوله: إنه ليس للراهن أن يعوض المرتهن من الرهن الذي رهنه
إياه برهن آخر إلا بإذنه ورضاه، بين صحيح لا إشكال فيه؛ لأنه قد تعين له حق
في عينه، فهو يقول: لا يخرج من يدي بعوض سواه، وإن كانت قيمته أكثر؛ لأني
أخشى أن يستحق العوض من يدي وأنا أعني في بيعه إن كان أصلا لا يباع إلا بعد
التقصي في طلب الزيادة فيه. وقوله: إن الراهن إذا باع الرهن يريد بغير إذن
المرتهن يعطي المرتهن الثمن في حقه، حل الأجل أو لم يحل، ويمضي عليه البيع،
نص في أنه لا خيار له في أن يفسخ البيع، ومعناه: إذا باعه بمثل حقه فأكثر؛
إذ لا منفعة له في نقص البيع، بل فيه ضرر عليه وعلى الراهن، وأما إن باعه
بأقل من حقه،
(11/29)
فله أن ينقض البيع، ويبقى له رهنا بحاله؛
لأنه يقول: أنا أرجو أن ترتفع أسواقه إلى وقت بيعه عند حلول الأجل، أو ينمو
إلى ذلك إن كان حيوانا، وأما ما وقع في المدونة من قوله: إن البيع لا يجوز
إلا أن يجيزه المرتهن، معناه. إذا باعه بأقل من حقه، أو كان الدين عرضا؛ إذ
لا يلزمه قبض العرض قبل حلوله، إلا أن يكون ... ولو كان الرهن عينا، فباع
الراهن الرهن بعرض، لكان المرتهن بالخيار، بين أن يرد البيع أو يجيزه،
فيوقف له العرض رهنا إلى حلول الأجل، فليس ما في المدونة بخلاف لهذه
الرواية على ما تأولناه فيهما وذهب أشهب إلى أن بيع الراهن الرهن بغير إذن
المرتهن إذا لم يجز بيعه بمنزلة عتقه، يعجل للمرتهن حقه من ثمن الرهن إن
كان فيه وفاء أو من مال الراهن إن لم يكن فيه وفاء، ويمضي البيع، ولا يكون
للمرتهن خيار في رده إذا تمسك به أحد المتبايعين، وإن لم يكن في ثمنه وفاء
بحقه، إذا كان للراهن مال يفي بما نقص من حقه، وإن أجاز بيعه بقي دينه إلى
أجله، ووقف له الثمن رهنا إلا أن يأتي الراهن برهن ثقة يشبه الرهن الذي
باع. وذهب سحنون إلى أنه إن لم يأت برهن يشبه الرهن الذي باع، عجل له
الثمن، إذ لا فائدة في توقيفه، وهو ظاهر ما في كتاب التجارة إلى أرض الحرب
من المدونة في مسألة النصراني يرهن عبده بعد أن يسلم؛ لأنه قال فيها: يباع
فيقضي الغريم دينه، إلا أن يأتي برهن ثقة، وكذلك روى ابن وهب والحكم عن
مالك، أنه يعجل الثمن إذا لم يأت برهن، خلاف قوله في كتاب الرهون من
المدونة. قاله فيها في الراهن يبيع الرهن بإذن المرتهن، فقال: لم آذن له في
بيعه ليأخذ الثمن، لا فرق بين أن يبيعه بإذنه أو بغير إذنه، فيجيز البيع،
وبالله التوفيق.
(11/30)
[دفع إلى رجل
رهنا ثم قضاه ثم جاء صاحب الدين بعد ذلك يدعي أنه أعطاه الرهن]
ومن كتاب الشريكين يكون لهما مال قال: وقال مالك في رجل دفع إلى رجل رهنا
ثم إنه قضاه، ودفع إليه رهنه، ثم جاء صاحب الدين بعد ذلك، يدعي أنه أعطاه
الرهن، وأنه لم يوفه حقه كله، وقد أعطاه بعضه. قال مالك: أرى أن يحلف
الراهن، ويسقط عنه ما ادعاه عليه الذي أسلفه.
قال محمد بن رشد: وكذلك لو أنكر المرتهن أن يكون قبض منه شيئا من حقه،
وقال: دفعت إليه الرهن على أن يأتيني بحقه، فلم يفعل، لكان القول قول
الراهن على هذه الرواية، خلاف ما في نوازل سحنون بعد هذا من أن القول قول
المرتهن إذا كان قيامه عليه بالقرب، ولا اختلاف بينهم إذا طال الأمر، إن
القول قول الراهن، إذ لا فرق بين اختلافهما في جميع الحق أو في بعضه، ولكلا
القولين وجه، والاختلاف في هذا جار عندي على اختلاف قول مالك في المتبايعين
يختلفان في الثمن بعد قبض السلعة، فقول مالك هذا على قياس رواية ابن وهب عن
مالك: إن القول قول المشتري في الثمن إذا قبض السلعة، وهذا القول أظهر؛ لأن
القبض باب من الأيمان. قال الله عز وجل: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا
فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} [البقرة: 283] وقول سحنون في
نوازله على قياس رواية ابن القاسم عن مالك إنهما يتحالفان ويتفاسخان، وإن
قبض المشتري السلعة، وهو على خلاف أصله في نوازله من كتاب جامع البيوع،
لاختياره فيها رواية ابن وهب، على رواية ابن القاسم. وقد روى ابن القاسم
عنه الروايتين جميعا. ولو لم يقر المرتهن بدفع الرهن إلى الراهن، وادعى أنه
تلف له، فسقط إليه، لكان القول قوله قولا واحدا إذا كان قيامه عليه بالقرب.
وقد مضى في أول رسم من سماع ابن
(11/31)
القاسم من كتاب المديان، بيان هذا مع نظائر
لها هناك. وبالله التوفيق.
[مسألة: تسلف من امرأته سلفا ورهنها جارية كانت
تخدمها]
مسألة وقال مالك في رجل تسلف من امرأته سلفا ورهنها جارية كانت تخدمها، هل
يكون ذلك حيازة للرهن أو قبضا له؟ قال: أحب إلي أن لو جعلها بين غيرها.
قال محمد بن رشد: قوله: أحب إلي أن لو جعلها بين غيرها، تضعيف منه لحيازتها
إياها عنه، لكونها معه في منزل واحد، وهو نحو ما يأتي في سماع أصبغ من هذا
الكتاب، خلاف قول ابن وهب في سماع زونان وخلاف قول سحنون في آخر سماع ابن
القاسم من كتاب الصدقات والهبات، وكذلك اختلف أيضا إذا تصدق عليها بها أو
وهبها وهي معها تخدمها، هل تصح حيازتها لها عنه أم لا؟ على قولين فيتحصل في
جملة المسألة ثلاثة أقوال: أحدها أن ذلك جائز في الرهن والصدقة، وهو قول
سحنون في رسم اغتسل من سماع ابن القاسم من كتاب الصدقات والهبات؛ لأنه إذا
رأى الحيازة عاملة في الرهن، فأحرى أن يراها عاملة في الصدقة. والثاني أن
ذلك غير جائز فيهما جميعا وهو قول مالك في هذه الرواية، وقوله في سماع أشهب
من كتاب الصدقات والهبات؛ لأنه إذا ضعف الحيازة في الصدقة، فأحرى أن يضعفها
في الرهن. والثالث الفرق بين الصدقة، والرهن، وهو قول ابن القاسم في سماع
أصبغ بعد هذا من هذا الكتاب، وكذلك لو تصدقت هي بالخادم التي تخدمها على
زوجها، أو رهنته إياها، بدليل ما وقع في سماع أشهب، من كتاب الصدقات
والهبات، من استدلاله بهبتها له، على هبته لها؛ لأن أيديهما جميعا على
الخادم، فمرة غلب يده، ومرة غلب يدها، والأظهر أن تغلب يده، فيفرق بين أن
يكون هو الذي وهبها أو رهنها، أو تكون هي التي وهبتها ورهنته لأن يده أقوى
من يدها، بدليل أنه يختلف قول مالك وابن القاسم، في أن القول قول الزوج إذا
اختلفا في متاع البيت، وهو مما يكون
(11/32)
للرجال والنساء. وقد قيل: إنه لا يد لها مع
الزوج، والقول قوله إذا اختلفا في متاع البيت، وإن كان ذلك من متاع النساء.
وبالله التوفيق.
[مسألة: ارتهن في حقه مصفحا أو كتبا ثم احتاج
أن يقرأ فيها]
مسألة وقال مالك في رجل ارتهن في حقه مصفحا أو كتبا فيها علم، أو سلاحا، ثم
احتاج أن يقرأ في المصحف أو الكتاب، أو نزل به عدو، فاحتاج إلى السلاح،
فقال: لا ينتفع بشيء من الرهن.
قال الإمام القاضي هذه الرواية تدل على جواز بيع كتب العلم، خلاف ما في
المدونة من أنه كره بيعها، إذ لا يصح أن يرهن ما لا يجوز بيعه بحال، وهو قد
أجاز رهنها، إذ لم يمنع إلا من الانتفاع بها بعد رهنها. وقوله: ثم احتاج أن
يقرأ في المصحف أو في الكتب، أو يقاتل بالسلاح، ثم احتاج الراهن إلى ذلك،
فقال: إنه لا ينتفع بشيء من الرهن، ولم يبين إن فعل، هل يبطل الرهن بذلك أم
لا؟ وفي هذا تفصيل. أما المصحف والكتب، فإن قرأ فيها عند المرتهن دون أن
يخرجها من يده، فلا يبطل الرهن فيها بذلك أذن فيها المرتهن أو لم يأذن، إلا
أن يكون رهنه إياها على ذلك، وأما إن أخذها من عنده، فقرأ فيها عند نفسه،
فإن كان بغير إذن المرتهن لم يبطل الرهن بذلك، وإن كان بإذنه كان ذلك حكم
المرتهن لغير الرهن إن قام عليه الغرماء قبل أن يرده كان إسوة الغرماء.
واختلف هل من حقه أن يرده إليه رهنا كما كان أم لا؟ فقيل: ذلك من حقه، وهو
قول أشهب في كتبه، وقيل: ليس ذلك من حقه، إلا أن يكون أعاره على ذلك، وهو
قول ابن القاسم في المدونة في رسم العتق من سماع عيسى بعد هذا. وقول أشهب
(11/33)
أظهر؛ لأن من حكم العارية أن ترجع إلى
المعير بعد انقضاء أمد العارية إن كان لها أمد، أو بعد أن يمضي من المدة ما
يرى أنه أعارها إليه إن لم يكن لها أمد، فإذا رجعت إليه على مذهب أشهب الذي
يوجب صرفها إليه، كانت رهنا على حالها الأول.
واختلف إن ردها إليه باختياره على القول بأنه لا يجب عليه ردها، هل يكون
رهنا أم لا؟ على قولين: أحدهما أنها لا تكون رهنا، وهو قول مالك في رسم
العتق بعد هذا من سماع عيسى. والثاني ألا تكون رهنا على حالها الأول، وهو
قول ابن القاسم فيه. والاختلاف في هذا يرجع إلى اختلافهم في الرهن، هل
تفتقر صحته إلى التصريح به أم لا؟ فيفتقر إليه على قول مالك هذا. وقول ابن
القاسم في المدونة: إن المرتهن لا يكون أحق بما أنفق على الرهن من الغرماء،
وإن قال له الراهن: أنفق على أن نفقتك في الرهن حتى يقول له: أنفق على أن
نفقتك الرهن بها أيضا، ولا تفتقر إليه على قول ابن القاسم ها هنا وقد مضى
القول على هذا المعنى في أول سماع أبي زيد، من كتاب المديان والتفليس وحكم
السلاح يقاتل به إلى الراهن حكم الكتب، يقرأ فيها عند نفسه على ما ذكرناه.
وأما انتفاع المرتهن بالرهن فلا يجوز بغير إذن الراهن، ويجوز بإذنه إذا كان
ذلك شرطا في أصل البيع في الدور والأرضين باتفاق. وفي الحيوان والثياب على
اختلاف، ولا يجوز ذلك بعد عقد البيع ولا في السلف بحال.
وهذا كله منصوص عليه في المدونة وبالله التوفيق.
(11/34)
[رجل أوصى عند موته أن متاعا كذا وكذا
لفلان عندي ولم يسم الثمن]
ومن كتاب صلى نهارا وسئل عن رجل أوصى عند موته
أن متاعا كذا وكذا لفلان عندي ولم يسم الثمن الذي رهنه به عنده،
فسئل صاحب المتاع فقال: صدق، متاعي عنده رهن بكذا وكذا عشرة دنانير، وقد
قضيته خمسة دنانير من ذلك، فقال مالك الرهن: يسوى ذلك، قال: نعم، الرهن
يسوى أكثر من ذلك. قال: لا يصدق فيما قال: إني دفعت إليه، ولكن يأخذه حتى
يدفع إليه العشرة دنانير، ثم قال: أرأيت لو قال قضيته إياها أكان يصدق؟
إنما كانت على الميت يمين. وقد ذهب، وسقطت عنه اليمين حين مات، قيل له:
أيحلف الورثة أن أباهم لم يقبض الخمسة؟ قال مالك: إن كان فيهم من يتهم أنه
يعلم ذلك أحلف.
قال محمد بن رشد: سؤال مالك في هذه المسألة السائل، هل يسوى الرهن ما زعم
الراهن أنه رهنه به أم لا؟ لا تأثير له في حكم المسألة؛ لأنه قد أقر أنه
رهنه بعشرة، فسواء كان الرهن يساوي عشرة أو لا يساويها لا يصدق فيما زعم
أنه قضاه منها.
وقد مضت هذه المسألة والقول فيها في أول رسم شك في طوافه الثاني قبل هذا
فلا معنى لإعادته. وقوله: إن كان فيهم من يتهم أنه يعلم ذلك أحلف, هذا على
القول بلحوق يمين التهمة دون تحقيق الدعوى. والقولان قائمان من المدونة من
كتاب النكاح والغرر والسرقة. وبالله التوفيق.
[مسألة: يهلك وعنده رهن لرجل فيقول صاحب الرهن
هو رهن في دينار]
مسألة قال سحنون: وسألت أشهب عن رجل يهلك، وعنده رهن لرجل، فيقول صاحب
الرهن: إنما هو رهن في دينار، وقيمته
(11/35)
عشرة دنانير. قال: إن لم يكن أحد يدعي فيه
شيئا ولا يعرف إلا بقول الراهن أحلف وأخذ رهنه، فقلت له: فإن كان في عشرة
دنانير، وقد قبضت خمسة وبقيت خمسة، قال: أراه ضامنا لعشرة، وأرى على الورثة
إن كان فيهم أحد بالغ يرى أن مثله يعلم ما قال الراهن، فاليمين عليه أنه لا
يعلم أن أباه اقتضى شيئا، وأما من كان غائبا أو صغيرا فلا يمين عليهم.
قال محمد بن رشد: هذه المسألة والتي قبلها سواء. وقد مضى القول فيهما
وبالله التوفيق. اللهم لطفك.
[ترك رهنا رأسا وهلك ولم يكن مال يكفن فيه]
ومن كتاب اغتسل على غير نية وفي رجل ترك رهنا رأسا وهلك، ولم يكن مال يكفن
فيه هل ترى أن يؤخذ من ثمن الغلام ما يكفن به، أم الرهن أولى؟ قال: أرى
أولى من الكفن.
قال محمد بن رشد: قد تكررت هذه المسألة في رسم باع غلاما من سماع ابن
القاسم من كتاب المديان والتفليس، ومن كتاب الجنائز. ومضى القول عليها في
كتاب الجنائز، فلا معنى لإعادته وبالله التوفيق.
[ارتهن بدين له على رجل عبدا له بعينه ووضعه
على يدي ابنه]
من سماع أشهب وابن نافع من مالك من كتاب الأقضية
قال سحنون: قال لي ابن نافع وأشهب: سئل مالك عمن
(11/36)
ارتهن بدين له على رجل عبدا له بعينه ووضعه
على يدي ابنه وضمن له ابنه دينه، والابن مع أبيه في منزله، فوثب علي
الغرماء يريدون محاصتي، فقال له: رهنك ضعيف، وابنه معه في المنزل، والعبد
يخدمه، فهم يقولون: لم تحز رهنك، فإن كان ابنه الذي تحمل لك هذا ليس مولى
عليه، فهو ضامن لما خس من حقك، إن دخل عليه الغرماء في العبد فذلك لك عليه،
وإنما تكتب الحمالات في الرهون مخافة مثل هذا، فأنا أرى ذلك عليه إن لم يكن
مولى عليه، فقال له: إن الابن يقول: إنما تحملت لك، وبيدي العبد، فهذا
العبد أنا أدفعه إليك وأسلمه بيدك، فقال مالك: ليس ذلك له، وهو لما خس من
حقك ضامن.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله من أن الابن ضامن لما نقص من حقه إذا
دخل عليه الغرماء في الرهن، من أجل أنه ضمن دينه وفرط في الرهن إذا لم يجزه
عن أبيه الراهن له. وبالله التوفيق.
[مسألة: رهن الأمة الحامل]
مسألة وسئل عن الأمة الحامل ترهن، أيجوز أن يشترط، فيقول: ليس ولدها معها
في الرهن؟ قال: لا يجوز ذلك لأحد.
قال محمد بن رشد؛ رأيت لبعض أهل النظر، أنه قال: إنما لم يجز أن يستثنى
الولد في الرهن؛ لأنه لا يجوز أن يستثنى في البيع، وليس ذلك ببين؛ لأن
الأمة الحامل، إنما لم يجز له أن يستثني جنينها لأنه يصير مشتريا للجنين
بما وضع من ثمن الأم، فكأنه باع الأمة بالثمن الذي سما فيها وبالجنين الذي
اشترطه، فصار بائعا للأمة، مبتاعا للجنين في صفقة واحدة، وهذا بين على
القول بأن المستثنى مشترى، وأما على القول بأنه مبقى على
(11/37)
ملك البائع، فلا علة في ذلك تفسره، وعلى
هذا أجازه من أجازه من أهل العلم.
وهذا لا يدخل. في الرهن؛ لأن الأمة وجنينها باقيان على ملكه، وإن رهن
أحدهما دون الآخر؛ لأنه لما لم يجز أن يرهن الجنين دون أمه ابتاعها على غير
قياس، لم يجز أن ترهن الأم دون الجنين استحسانا أيضا دون قياس. فهذا وجه
المنع من رهن الأمة دون جنينها. ولقد كان القياس أن يجوز رهن كل واحد منهما
دون الآخر قياسا على جواز رهن الثمرة التي لم تؤبر دون الأصل، ورهن الأصل
دونها، وإن كان ذلك لا يجوز في البيع؛ لأنه غرر، فلا يدخل على التحقيق في
رهن الأمة دون جنينها، إلا ما يدخل في رهن الأمة لها الولد الصغير، دون
ولدها عند من كره ذلك، فينبغي أن يدخل في رهن الأمة دون جنينها الذي في
بطنها، ذلك الاختلاف. وقد مضى تحصيله في رسم شك في طوافه الثاني فلا معنى
لإعادته وبالله التوفيق.
[مسألة: له عليه دين وارتهن منه حائطا له وأحلف
بالطلاق ليوفينه الثمن إلى أجل]
مسألة وسئل عمن له على رجل دين، وارتهن منه حائطا له، وأحلف بالطلاق
ليوفينه الثمن إلى أجل سماه له، فلما دنا الأجل وخاف الحنث، باعه تلك النخل
التي ارتهنه إياها بذلك الدين، ثم قال له: إنما بعته حين خفت الحنث، وأنا
أظنه سيرد علي مالي وأقضيه حقه، وقال المشتري: ابتعت منك بالشهود والبينة،
فقال مالك: أرأيت هذا الذي يطلب رد هذا الحائط عليه، أطيب النفس بالحنث؟
فقيل له: نعم، فقال: إن كان هذا المال مالا رابحا كثير الفضل على ما باعه
إياه، لا يشبه تغابن الناس في البيوع، فأرى أن يرد عليه ماله الذي باع،
ويقضيه دينه، ويقع عليه الحنث.
قال الإمام القاضي: اعترض ابن دحون هذه المسألة فقال فيها:
(11/38)
إنها مسألة ضعيفة، كيف يفسخ البيع للغبن،
وذلك جائز بين كل متبايعين، إلا من خصته السنة بالرد؟ لو اشترى رجل من غير
مولى عليه ما يساوي مائة درهم بدرهم، لزم ذلك ولم يفسخ، ولم يختلف في ذلك.
وقد مضى القول في توجيهها وما يتعلق بها في أول رسم من سماع ابن القاسم فلا
معنى لإعادته. وبالله التوفيق.
[مسألة: توفي وترك رهونا لا يعرف أصحابها ولا
يدرى كم فيها]
مسألة وسئل عمن توفي وترك رهونا لا يعرف أصحابها، ولا يدرى كم فيها؟ ولذلك
زمان، قال: أرى أن تباع هذه الرهون، ثم يحبس ثمنها سنة أو نحوها ينتظر
الخبر، وأن يعرف أصحابها، قيل له: سنة، قال: ليس في ذلك وقت ينتظر فيهم إلا
قدر ما يرى، فإن لم يأت لها طالب يستحقها، قبضها الغرماء في حقوقهم، فإن
جاء بعد ذلك طالب يستحق شيئا رجع على الغرماء.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة بينة صحيحة؛ لأن المعنى فيها أنه قد علم أنها
رهون ببينة أو بإقرار الورثة بذلك، وإنما يباع ويوقف أثمانها إذا كان لذلك
وجه، مثل أن يخشى الفساد عليها وما أشبه ذلك، وأما إن لم يخش الفساد عليها،
فتوقيفها أولى من توقيف أثمانها، إذ قد يحتاج إلى الشهادة على أعيانها،
ويريد من استحق منها شيئا متاعه بعينه، وإذا بيعت ووقفت أثمانها فتكتب
صفاتها، فإن جاء من يدعي شيئا منها فعجزعن إقامة البينة عليه ووصفه، استحقه
بيمينه على الصفة، فأخذه وودى ما أقر أنه رهنه به مع يمينه على ذلك أيضا.
وبالله التوفيق.
[مسألة: غريم لم يكن فيمن علم به الابن من
غرماء أبيه وكان الابن قد دفع إليه مال أبيه]
مسألة قيل له: أرأيت إن جاء غريم لم يكن فيمن علم به الابن من غرماء أبيه،
وكان الابن قد دفع إليه مال أبيه، وتحمل بما على أبيه
(11/39)
من دين أيغرمه له الابن؟ فإنه يقول: لم
أعلم أن هذا عليه، وإنما تحملت بما علمت، قال مالك: إن جاء غريم لم يكن
الابن علم به، فإن الغريم يأخذ ماله على أبيه من ابنه؛ لأنه قد رضي بذلك.
قال الإمام القاضي هذه مسألة مقطوعة، وأصلها في رسم البيوع من سماع أشهب من
كتاب المديان والتفليس، وفي رسم أخذ يشرب خمرا من سماع ابن القاسم منه. وقد
غمزت إن كانت التركة عينا والدين عينا، فقيل كيف يجوز للابن أن يسلم إليه
عينا ليؤدي عينا أكثر منه إلى وقت، أو يؤدي ذهبا وقد أخذ فضة، أو فضة وقد
أخذ ذهبا؟ وقد بينا هذه المسألة في الموضعين المذكورين من كتاب المديان
بيانا شافيا، وبينا منه قول مالك فيها بيانا لائحا، ينفي اعتراض المعترض
عليه فيها. وبالله التوفيق.
[ارتهن حائطا فأصابت الريح نخلا فطرحتها فأراد
صاحب الأصل بيع الخشب]
ومن كتاب الأقضية الثاني قال وسئل عمن ارتهن أصل حائط، فأصابت الريح نخلا
فطرحتها، فأراد صاحب الأصل أن يبيع الخشب، فمنعه صاحب الرهن، وقال: هي من
رهني، فقال: ذلك له، وقد صدق فأرى أن تباع ويوضع الثمن على يدي عدل حتى يحل
حقه فيقضيه؛ لأن من الخشب ما إن ترك فسد. قلت: أرأيت إن كان خشبا لا يفسد
إلى حلول الأجل؟ قال: إن كان من الخشب ما إن ترك فسد.
قلت: أرأيت أن يترك ولا يباع حتى يحل الحق، إلا أن يجتمع رأي صاحب المال
وصاحب الأصل جميعا على البيع، فيباع ويوضع الثمن على يدي عدل إلى الأجل،
فإن لم يجتمع رأيهما
(11/40)
على ذلك، ترك دينا ولم يبع حتى يحل الأجل.
قال الإمام القاضي: قوله: إن القول قول المرتهن في أن النخل من الرهن، وقد
صدق، صحيح لا اختلاف فيه؛ لأن النخل تبع للأصل في الرهن، بمنزلة البيع، إذا
باعه الأصل دخل فيه النخل، كذا قال في المدونة: إن النخل تبع للأصل والأصل
تبع للنخل، وكذلك قوله: إنه يباع إذا خشي عليه الفساد صحيح، لا اختلاف فيه؛
لأن تركه حتى يفسد، من إضاعة المال المنهي عنه، فمن دعا إلى ذلك منهما، كان
ذلك له، بخلاف إذا لم يخش عليه الفساد، لا يباع إلا أن يجتمع رأيهما على
ذلك، بخلاف المتقارضين يختلفان في بيع سلع القراض. إن الإمام ينظر في ذلك،
وإنما قال: إن الثمن يوضع على يدي عدل، وإن كان الأصل بيد المرتهن؛ لأن من
حق الراهن أن يقول: أنا لا أئتمنه على الثمن، وإن كنت أئتمنته على الأصل،
ولا يدخل في هذا الاختلاف الذي يدخل في الرهن إذا أراد المرتهن أن يكون في
يديه وأبى ذلك الراهن، على ما يأتي القول قيه في رسم الصلاة من سماع يحيى.
وأما قوله: إنه يكون على يدي العدل حتى يحل الأجل، فمعناه إلا أن يأتي
الراهن برهن مثله، فيكون من حقه أن يأخذ الثمن، فإن لم يأت برهن مثله ففي
ذلك اختلاف. قيل: إن الثمن يوقف إلى الأجل، وهو قوله ها هنا، وقوله في
المدونة في الرهن يبيعه الراهن بإذن المرتهن، إذ لا فرق بين أن يبيعه
بإذنه، أو يبيعه بوجه نظر، يحكم له به عليه وقيل: إنه يعجل له حقه، إذ لا
فائدة في تأخيره، وهو قول سحنون. ودليل ما في كتاب التجارة إلى أرض الحرب
من المدونة وقول مالك في رسم الأقضية الثالث بعد
(11/41)
هذا من هذا السماع، وقول أشهب في سماع أصبغ
من كتاب الخدمة، وأما إن باعه بغير إذنه، فلا اختلاف في أنه يعجل له حقه
إذا كان فيه وفاء، واختلف إذا لم يكن فيه وفاء، فقيل إنه يعجل له بقية حقه
من ماله، بمنزلة العتق، وهو قول أشهب، وقيل: إنه لا يقضي بقية حقه حتى يحل
الأجل.
وقد مضى هذا المعنى في رسم كتب عليه ذكر حق من سماع ابن القاسم وبالله
التوفيق.
[الأمة ترهن ولها ولد صغير بغير ولدها]
ومن كتاب الأقضية الثالث وسئل عن الأمة ترهن، ولها ولد صغير، بغير ولدها،
أجائز هو؟ قال: نعم ذلك الرهن جائز، وقد ترهن الوليدة ولها أولاد صغار
يبيعونه فيكون الرهن جائزا، فإذا بيعت الوليدة في الرهن، بيع معها ولدها،
فكان له في رهنه ثمن الوليدة، ولم يكن له ثمن أولادها في الرهن، إلا أن
يفضل فضل عن ثمن الوليدة، فيكون أسوة الغرماء في ثمنهم. قيل له: ترى الرهن
ماضيا. وإذا بيعت الأم بيع أولادها معها، فقال: نعم إلا أن يشتريها سيد
ولدها، قلت له: إنما فلس، قال: تباع بولدها، ثم يكون ثمنها للمرتهن في حقه.
قال محمد بن رشد: أجاز مالك في هذه الرواية أن يرهن الرجل الرجل أمته، ولها
ولد صغير، يريد ويكون الولد معها في حوز المرتهن، وكره ذلك في سماع يحيى.
وقد مضى القول على ذلك في آخر رسم شك في طوافه من سماع ابن القاسم، إذ لا
فرق بين الولد دون الأم أو الأم دون
(11/42)
الولد. وقوله في آخر المسألة إلا أن
يشتريها سيد ولدها، لا يستقيم على المسألة التي ذكر، وهو أن تكون الأمة
وولدها للراهن الذي عليه الدين، بدليل قوله فيها: إلا أن يفضل فضل عن ثمن
الوليدة، فيكون أسوة الغرماء في ثمنهم؛ لأنها لم تخرج عن ملكه والدين عليه،
وكيف يشتريها؟ وإنما يبيعها مع ولدها فيما عليه من الدين، أو تباع عليه مع
ولدها في التفليس، فيكون أحق من الغرماء بما ناب الأم، فإن فضل من دينه فضل
عما ناب الأم، كان أسوة الغرماء فيما ناب الولد. وإنما يستقيم على وجهين:
أحدهما أن تكون الأمة وولدها لغير الذي عليه الدين، فيرهن الأم منها دون
الولد، عند الذي له الدين، عن الذي عليه الدين؛ لأن الحكم في ذلك إذا حل
الأجل أن تباع الجارية مع ولدها، فيكون للمرتهن ما ناب الأم من الثمن،
وللراهن ما ناب الولد منه إلا أن يشاء أن يأخذها بما ينوبها مما يعطى فيها
مع ولدها، فيكون ذلك له، وتبقى الجارية على ملكه مع ولدها، ويدفع ما ناب
الأم من الثمن إلى المرتهن، ويتبع به الذي عليه الدين والوجه الثاني، أن
يكون الولد لغير الراهن الذي عليه بهبة أو صدقة، مثل أن يكون لرجل فيهب
أحدهما لرجل، أو يهب الأم لرجل، والولد لآخر؛ لأن الحكم في ذلك أن يقرا على
ما هما عليه من افتراق الملك، ويقضى عليهما بأن يجمعا بينهما في حوز واحد،
فإن رهن صاحب الأمة الأمة فيما عليه من الدين، جاز ذلك، وحاز المرتهن الأمة
مع ولدها إن رضي بذلك سيد الولد، وإن لم يرض بذلك كانت الأم عنده مع ولدها،
فكان من ذلك حائزا للمرتهن، فإذا حل الأجل بيعت الجارية مع ولدها من رجل
واحد، فكان ما ناب الأم للمرتهن، وما ناب الولد لصاحبه، إلا أن يشتري الأم
سيد الولد على ما قال، وبالله التوفيق.
[مسألة: الرجل يبيع جاريته من جار معه في الدار
ولها ولد صغير]
مسألة قيل له: أفرأيت الرجل يبيع جاريته من جار معه في الدار، ولها ولد
صغير، يختلف إليها، ويكون معها؟ قال: لا أرى ذلك،
(11/43)
لا أرى أن يباعا إلا جميعا في واحد، إن ذلك
الجار قد ينتقل ويموت، فتباع الجارية، فلا أرى أن يباعا إلا جميعا.
قال محمد بن رشد: قوله: إنه لا يجوز أن يبيع الرجل أمته دون ولدها الصغير،
من جار معه في بيت واحد، صحيح على أصله، في أنه لا يجوز في البيع أن يجمع
بينهما في حوز واحد، بخلاف الهبة والصدقة، فإنه أجاز فيهما الجمع في حوز
واحد. هذا مذهبه في المدونة. وقوله في المسألة التي قبل هذه: والقياس ألا
فرق بينهما؛ لأن العلة التي اعتل بها في البيع، من أن ذلك الجار ينتقل
ويموت، موجودة في الهبة والصدقة، ووجه التفرقة بينهما على ضعفها، أن البيع
على سبيل المكايسة، ويمكن رده، والهبة والصدقه على سبيل المعروف، ولا يمكن
رده، فاستخف في الهبة والصدقة من الجمع في حوز واحد لهذه العلة، ما لم
يستحف في البيع. وقال ها هنا في بيع الأم دون ولدها الصغير: لا أرى ذلك،
ولم يقل ما يكون الحكم فيه إذا وقع. وقد اختلف في ذلك على قولين: أحدهما
أنه بيع فاسد، لمطابقة النهي، والثاني أنه ليس ببيع فاسد، لإمكان زوال
المعنى الذي من أجله منع منه، كاشتراء النصراني مصحفا أو مسلما. واختلف على
القول بأنه بيع فاسد إذا فات، فقيل: إنه يمضي بالثمن، وقيل: إنه يرد إلى
القيمة ويباع عليهما جميعا من رجل واحد مضى بالثمن أو رد إلى القيمة.
واختلف أيضا على القول بأنه ليس ببيع فاسد، فقيل: إنهما يؤمران أن يجمعا
بينهما في ملك أحدهما، فإن أبيا رد البيع، وقيل: إنهما يؤمران بذلك، فإن
أبيا بيع عليهما، ولم يرد البيع، وقيل: إنهما يؤمران أن يجمعا بينهما في
ملك أحدهما، أو يبيعاهما من رجل واحد، فإن أبيا من ذلك رد البيع، فالقول
الأول على قياس المنع من جمع الرجلين سلعتيهما في البيع؛ لأنه على هذا
القول إذا أبيا أن يبيع أحدهما من صاحبه، لم يكن بد من رد البيع، وإن لم
يكن فاسدا. والقول الثاني على قياس إجازة جمع الرجلين سلعتيهما في البيع؛
لأنه إذا أمكن أن يجمع بينهما في ملك واحد، بأن يباعا عليهما من
(11/44)
رجل واحد، لم يرد البيع، إذ ليس ببيع فاسد،
ووجه القول الثالث أنه رأى رد البيع أيسر من جمع الرجلين سلعتيهما في
البيع، فحكم بذلك إذا أبيا من الجمع بينهما على حال. وبالله التوفيق.
[مسألة: ابتاع من رجل بيعا بدنانير إلى ستة
أشهر ورهنه بذلك رهنا]
مسألة وسئل عن رجل ابتاع من رجل بيعا بدنانير إلى ستة أشهر، ورهنه بذلك
رهنا قبضه، وحازه، ثم ابتاع بعد ذلك بأيام من رجل آخر بيعا بدنانير إلى أجل
شهر، ورهنه، فضل ذلك الرهن الذي رهنه الأول، وقال له: فلان مبدأ عليك في
الرهن، ثم ما فضل لك رهن بحقك، فحل أجل المرتهن الآخر قبل الأول المبدإ
عليه في الرهن، فقال مالك: ألم يعلم المرتهن الآخر أن حق الغريم الأول إلى
ستة أشهر؟ فقيل له: لم يعلم أن أجل حق المرتهن الأول إلى ستة أشهر، فقال:
أرى أن يباع ويعطى حقه من ثمنه. فقيل له: إذا بيع هذا العبد المرتهن، أيعطى
الذي لم يحل حقه جميع حقه، ثم يعطى هذا ما فضل؟ أو يوضع له حقه حتى يحل
الأجل، ويعطى المرتهن الآخر ما فضل في حقه؟ فقال بل يعطى صاحب الحق الذي لم
يحل حقه كله، أحب إلي، ثم يعطى هذا ما فضل.
قال محمد بن رشد: لم يذكر في هذه الرواية أن المرتهن الأول علم بما فعل
الراهن من رهنه فضلة الرهن الذي بيده لغيره، وقال: إن فضلة الرهن تكون له،
واعترض ذلك ابن دحون فقال: إن ذلك من قوله خارج عن الأصول، كيف يصح أن تكون
له فضلة الرهن ولم يقبضها له المرتهن الأول؟ ولا يلزم عندي هذا الاعتراض؛
لأن المسألة محتملة للتأويل. وقد اختلف فمن رهن رجلا رهنا قبضه وحازه ثم
رهن فضلته من آخر، فقيل: إن الفضلة تكون له رهنا وإن لم يعلم المرتهن الأول
بذلك، وهو قول أشهب في
(11/45)
الواضحة وغيرها، وقول ابن القاسم في
المبسوطة، وقيل: إنها لا تكون رهنا له، إلا أن يعلم بذلك المرتهن الأول،
ويرضى به، وهو المشهور المعلوم من قول مالك في المدونة وغيرها، وهذا إذا
كان الرهن بيد المرتهن الأول، وأما إن كان موضوعا على يدي عدل فالاعتبار في
ذلك إنما هو بعلمه بدون علم المرتهن صاحب الحق. ومن مذهب مالك في المدونة
أن قبض المحرم قبض للموهوب له وكذلك المودع على مذهبه، وإن لم يعلم خلاف ما
في سماع سحنون من كتاب الصدقات والهبات، فالظاهر من مذهب مالك أنه فرق في
هذا المعنى بين الرهن والهبة؛ لأن الرهن أقوى في الحيازة. فيأتي في جملة
المسألة ثلاثة أقوال: أحدها أن ذلك حيازة في الرهن والهبة، والثاني أن ذلك
ليس بحيازة لا في الرهن ولا في الهبة، والثالث أن ذلك حيازة في الهبة، وليس
بحيازة في الرهن. وفائدة هذا الاختلاف، إنما هو إذا قام الغرماء على
الراهن، هل يكون المرتهن الثاني أحق بالفضلة من الغرماء أم لا؟ وأما إذا
قام المرتهن الأول والثاني على الراهن، ولم يكن له غرماء أو قبل قيام
الغرماء، فلا كلام في أن فضلة الرهن تكون له، إذ لا ينازعه فيها أحد،
فيتحمل أن يكون إنما تكلم في هذه المسألة على أن المرتهن الثاني، قام يريد
قبض فضلة الرهن في حقه الذي حل أو لم يحل بعد حق المرتهن الأول، ولا غرماء
على الراهن، فلا يلزم على هذا التأويل اعتراض ابن دحون على المسألة. وقول
مالك: ألم يعلم المرتهن الآخر، أن حق الغريم الأول إلى ستة أشهر؟ يدل على
أن القصد بالسؤال، إنما هو إلى هل يكون للثاني أن يأخذ فضلة الرهن، إذ قد
حل حقه أم لا يكون ذلك له حتى يحل المرتهن الأول فيأخذ حقه؟ إذ هو مبدأ
عليه في الرهن، لا إلى هل يكون المرتهن الآخر أحق بالفضلة من الغرماء أم
لا؟ ولو كان القصد عنده بالسؤال إلى هذا السائل، هل علم المرتهن الأول بذلك
ورضي به أم لا؟ على
(11/46)
المعلوم من مذهبه، في أن المرتهن لا يكون
حائزا لغيره فضلة الرهن إلا أن يعلم بذلك ويرضى به، ولو علم المرتهن الثاني
بأجل المرتهن الأول، لم يبع الرهن له حتى يحل أجله؛ لأنه على ذلك دخل،
وقوله: إنه إذا بيع الرهن يعطى الذي لم يحل حقه كله، ولا يوضع له، إلا أن
يحل أجله، معناه: إذا لم يأت برهن يشبه الرهن الأول، وهو خلاف ما مضى في
رسم الأقضية الثاني من هذا السماع، مثل قول سحنون، وظاهر ما في كتاب
التجارة إلى أرض الحرب من المدونة ويشبه أن يقال في هذه المسألة: إنه يعجل
للمرتهن فيها حقه باتفاق، ولا يكون للراهن أن يأتي برهن آخر؛ لأنه أدخل على
المرتهن بيع رهنه، فأشبه ذلك إذا باع الرهن بغير إذن المرتهن، وهو الأظهر،
وما يبقى من الرهن بعد أن يباع منه بحق الأول مجهول، فيقوم من هذه المسألة
جواز رهن الغرر في أصل البيع، وقد اختلف في ذلك، والقولان قائمان من
المدونة، يقوم ذلك من اختلاف قول مالك وابن القاسم فيها في المرتهن يشترط
في أصل البيع الانتفاع بالرهن، وهو ثياب أو حيوان، وبالله التوفيق:
[مسألة: يرهنه رهنا ويُشهدان على ذلك ثم يأتي الراهن فيزداد منه سرا]
مسألة وسئل عن الرجل يرتهن من الرجل رهنا بعشرة دنانير، ويُشهدان على ذلك
شهودا عدولا، ثم يأتي صاحب الرهن إلى المرتهن سرا، فيزداد منه فيه خمسة
دنانير، فإذا تقاضاه حقه قال: إنما رهنتك الرهن بعشرة دنانير، وقال الذي في
يديه الرهن، بل رهنتنيه بخمسة عشر دينارا، جئتني سرا، فازددت مني فيه خمسة
دنانير، فقال مالك: على الذي في يديه الرهن بذلك البينة، وإلا حلف الراهن
ما ازداد منه فيه شيئا، وكان القول قوله في الخمسة دنانير التي تداعيا
فيها. قيل له: أرأيت الذي يرهن الرجل رهنا بلا بينة، ثم يتداعيان فيه،
فيقول الذي في يديه الرهن: ارتهنته بخمسة عشر، ويقول الراهن: بل رهنه بعشرة
دنانير؟ قال: فالقول قول
(11/47)
الذي في يديه الرهن، ويحلف، ويقبل قوله،
وليس هذا مثل الأول الذي سأل عنه الرجل. قلت: أليس إنما يكون في هذا القول
قول الذي في يديه الرهن ويحلف إذا كانت قيمة الرهن مما ادعا فيه المرتهن؟
قال لي: إنما يصدق الذي في يديه الرهن في مثل هذا فيما بينه وبين قيمة
الرهن، وليس هذا مثل الأول.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة مفسرة لجميع المسائل، إنما يكون
القول قول المرتهن إلى مبلغ قيمة الرهن على مذهب مالك وأصحابه إلى أن الرهن
شاهد لمرتهنه إلى مبلغ قيمته، وخالفه أهل العراق فقالوا: القول قول الراهن؛
لأنه مدعى عليه، والمرتهن مدع، وليس قولهم بصحيح؟ إذ ليس كل مدعى عليه يكون
القول قوله، بل قد يكون القول قول المدعي إذا كان له دليل على دعواه،
والقرآن دليل لمالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في هذه. وقد ذكرنا ذلك في غير هذا
الكتاب. ومن أهل العلم من قال: إن القول قول المرتهن وإن ادعا أكثر من قيمة
الرهن وهو قول شاذ. ففي المسألة ثلاثة أقوال وبالله التوفيق.
[العبد المرتهن يجرح]
من سماع عيسى بن دينار
من ابن القاسم من كتاب أوله نقدها نقدها قال عيسى بن دينار: قال ابن القاسم
في العبد المرتهن يجرح: إن المرتهن أولى
بجرحه حتى يستوفي حقه لأن ذلك نقص من رقبته.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه؛ لأن ما يغرمه الجارح
ثمن ما نقص منه. وأما ما يغرمه الجارح في الجراح التي
(11/48)
لها ديات، ولا ينقص من قيمته شيئا، مثل
المأمومة، والمنقلة، والموضحة والجائفة، فهي للسيد، ولا حق للمرتهن فيها،
إلا أن ينقص ذلك من قيمته، فيكون له مما أخذ السيد قدر ما نقص من قيمته.
وبالله التوفيق. اللهم لطفك.
[الرجل يأمر الرجل أن يرهن له رهنا بدينارين
فذهب فرهنه له بخمسة]
ومن كتاب العرية وسألته عن الرجل يأمر الرجل أن يرهن له رهنا بدينارين،
فذهب فرهنه له بخمسة، فجاءه صاحب الرهن يطلب رهنه، فقال المرتهن: ارتهنته
بخمسة وقال صاحب الرهن: إنما أمرته بدينارين، وقال الرسول: إنما رهنته
بدينارين. قال: إن كان لصاحب الرهن بينة إنما أمره بدينارين، غرم دينارين
وأخذ رهنه، ولم يكن للمرتهن على الرسول إلا يمينه بالله ما رهنته إلا
بدينارين ويبرأ وإن لم تكن له بينة، وإنما هو قوله وقول الرسول. وقال
المرتهن: ارتهنته بخمسة دنانير، فالقول قول المرتهن فيما بينه وبين أن يحيط
بالرهن مع يمينه، ثم يقال لصاحب الرهن افد رهنك بقيمته أو دعه بما فيه، فإن
كان الذي ادعى المرتهن أكثر من ثمن الرهن، أحلف الرسول بالله ما رهنته إلا
بدينارين، ثم يبرأ، ولا يكون لصاحب الرهن ولا للمرتهن أن يتبعاه بشيء، قلص:
ولم لا
(11/49)
يتبع المرتهن الرسول بثلاثة دنانير، إذا
أقام صاحب الرهن البينة أنه إنما أمره بدينارين، والرهن يساوي خمسة؟ لم لا
يصدق المرتهن فيما بينه وبين أن يحيط بثمن الرهن، فيكون لهذا رهنه يغرم
الدينارين، ويرجع المرتهن فيتبع الرسول بثلاثة دنانير، إذا كانت قيمة الرهن
خمسة دنانير كما ادعى المرتهن؟ قال: لأن الرسول إنما يدعي أنه رهنه
بدينارين فالمرتهن مدع قبله بثلاثة دنانير؛ لأن الرهن الذي كان يصدق عليه
فيه قد أخرجه صاحب الرهن من يديه، فكل رهن استحق في يدي المرتهن، فأخرج من
يديه، فالقول قول الراهن فيما يزعم أنه رهنه مع يمينه، ألا ترى أن مالكا
قال: لو أن رجلا رهن عند رجل عبدا فمات العبد في يديه، وقيمته عشرون
دينارا، فقال المرتهن: ارتهنته بعشرة دنانير، وقال الراهن رهنته بدينارين،
كان القول قول الراهن مع يمينه إذا مات العبد، ولا يلتفت إلى قيمة العبد
يوم مات، ولو أن رجلا مات وفي يديه رهن يوم مات، فقال لورثته: هذا الرهن
لفلان، ولم يسم بكم رهنه، ثم مات، كان القول قول الراهن مع يمينه، ولا
يلتفت فيه إلى قيمة الرهن، وكل وديعة أو عارية أو شيء من الأشياء رهنه رجل
فاستحقه صاحبه في يدي المرتهن، بوجه من الوجوه، حتى أخرجه من يده، فالقول
قول الراهن فيما زعم أنه رهنه به مع يمينه، ولا يلتفت إلى الرهن، وإن من
قول جميع العراقيين، إن القول قول الراهن في الرهن، وإن كان الرهن قائما في
يدي المرتهن لم يستحقه أحد؛ لأنهم يرون أن المرتهن مدع فكيف يرى أيضا أن
القول قول المرتهن إذا خرج من يديه؟ فهذا هو الصواب إن شاء الله.
قلت: فإن قال الرسول رهنته بخمسة، وقال المرتهن ارتهنته بخمسة، وقال صاحب
الرهن: إنما رهنته بدينارين، قال: إن كان
(11/50)
لصاحب الرهن بينة، أنه إنما أمره بدينارين،
غرم دينارين، وأخذ رهنه، واتبع المرتهن الرسول بثلاثة دنانير، وإن لم تكن
له بينة على ما أمره به وهو مدع أنه أمره بدينارين، وله البينة على أن
الرهن له، والرسول يقول: إنما أمرتني بدينارين، ورهنته بخمسة، أحلف أنه لم
يأمره إلا بدينارين، ثم غرم قيمة الرهن إن كانت قيمته أدنى من خمسة دنانير،
وأخذ رهنه، واتبع المرتهن الرسول بما نقص من الخمسة دنانير، واتبعه صاحب
الأصل بما غرم فوق الدينارين التي زعم أنه رهنه بهما، وإن كان قال الرسول:
أمرتني بخمسة، وقال الآمر: لم آمرك بدينارين، كان القول قول الرسول مع
يمينه، وقيل لهذا: افد رهنك أو دعه. فإن فداه لم يتبع الرسول بقليل ولا
كثير، إذا حلف أنه أمره بخمسة.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول فيها مستوفى في أول سماع ابن
القاسم، والأصل فيها أن الرهن شاهد لمرتهنه إلى مبلغ قيمته إذا اختلف مع
الراهن فيما رهنه به عنده، والرهن قائم بيده، أو بيد من جعلاه على يده، لم
يستحق، ولا تلف تلافا لا يلزمه غيره، ولا يخلو اختلافهما من أربعة أحوال:
أحدها: أن يدعي المرتهن أكثر من قيمة الرهن، والراهن أقل من قيمة رهنه،
والثاني: أن يدعي المرتهن قيمة الرهن فأقل، والراهن أقل من ذلك، والثالث:
أن يدعي المرتهن أكثر من قيمة الرهن والراهن قيمة الرهن. والرابع: أن يدعيا
جميعا أكثر من قيمة الرهن.
فأما إن ادعى المرتهن أكثر من قيمة الرهن، والراهن أقل من قيمته. مثال ذلك:
أن تكون قيمته عشرة، فيدعي، المرتهن أنه ارتهنه بخمسة عشر، ويقول الراهن:
بل رهنته إياه بخمسة، فالحكم في ذلك أن يقال للمرتهن: احلف لقد أرهنته
بخمسة عشر، فإن حلف على ذلك، قيل للراهن: احلف لقد رهنته إياه بخمسة، فإن
حلف على ذلك، فقيل: إنه يلزمه غرم قيمة
(11/51)
الرهن، ويأخذ رهنه، وهو ظاهر قول مالك في
أول سماع ابن القاسم، وقيل: إنه يكون مخيرا بين أن يفتك رهنه بالعشرة، وبين
أن يتركه للمرتهن بما فيه، وهو المشهور من قول ابن القاسم، وروايته عن
مالك؛ لأن الرهن لا يشهد على ما في الذمة، وقيل: إنه يكون مخيرا بين أن
يترك الرهن بما فيه أو يفتكه بالخمسة عشر التي حلف عليها المرتهن، وهو قول
ابن القاسم في سماع يحيى بعد هذا من هذا الكتاب.
وأما إن ادعى المرتهن قيمة الرهن بأقل، وقال الراهن: بل رهنته إياه بأقل من
ذلك. مثال ذلك أن تكون قيمة الرهن عشرة، فيدعي المرتهن أنه ارتهنه بعشرة أو
بثمانية، ويقول الراهن: بل رهنته بخمسة، فالحكم في ذلك أن يحلف المرتهن،
لقد ارتهنته منه بعشرة أو بثمانية، فإن حلف بذلك لزم الراهن، أداء ذلك إليه
على قياس ظاهر قول مالك في أول سماع ابن القاسم، وأما على المشهور من قول
ابن القاسم، وروايته عن مالك، من أن الرهن لا يكون شاهدا إلا على نفسه، لا
على ما في الذمة، بدليل أنه لو تلف تلفا ظاهرا لم يكن للمرتهن شاهد، فيقال
للراهن: إما أن تؤدي للمرتهن ما حلف عليه، وتأخذ رهنك، وإلا فاحلف وابرأ.
وأما إن ادعى كل واحد منهما أكثر من قيمة الرهن، أو ادعى المرتهن أكثر من
قيمة الرهن، وادعى الراهن قيمة الرهن، فلا اختلاف في المذهب في أن القول
قول الراهن. وبالله - تعالى - التوفيق. اللهم لطفك.
[ارتهن منه رهنا وشرط عليه أن يجعل الرهن على
يدي عدل]
ومن كتاب أوصى بوضع نجم من نجومه وسئل عن رجل باع من رجل بيعا، وارتهن منه
رهنا وشرط المرتهن على الراهن عند عقده البيع، أنه يجعل الرهن على يدي عدل،
ثم زعم المرتهن أن الرهن ضاع عند الذي وضعه على يديه،
(11/52)
وصدقه الذي زعم أنه وضعه على يديه، وقال
الراهن: لم تضعه على يدي أحد، وإنما هلك عندك، وليس للمرتهن بينة على أنه
وضعه على يدي الذي زعم أنه وضعه على يديه، إلا قوله وقول الذي زعم أنه وضعه
على يديه. قال ابن القاسم: إن كان الذي زعم أنه وضعه على يديه عدلا، فلا
ضمان عليه، ويرجع بجميع حقه على الراهن.
قال محمد بن رشد: مثل هذا حكى ابن حبيب في هذه المسألة بعينها عن ابن
القاسم، من رواية أصبغ عنه. وحكى عن أصبغ أنه قال: أراه ضامنا، وإن أقر له
الأمين، ولا يبرأ إلا ببينة على دفع ذلك إليه، وإياه اختار ابن حبيب. وقول
ابن القاسم عندي أظهر؛ لأنه لما رهنه عنده بشرط أن يجعله عند غيره، لم يحصل
في ضمانه، لكونه كالرسول به، فوجب أن يصدق في دفعه إليه إذا أقر بقبضه،
وادعى تلفه على أحد قولي ابن القاسم في المودع يؤمر بإيداع الوديعة عند
غيره، فيزعم أنه أودعها وتلفت عند المودع، ويقر بذلك المودع، وهو مذهبه في
المدونة خلاف ما في كتاب ابن المواز وقوله: إن كان الذي زعم أنه وضعه على
يديه عدلا، فلا ضمان عليه صحيح؛ لأنه إنما أذن له أن يدفعه إلى عدل، فإن
وضعه على يدي غير عدل لزمه الضمان، وإن قامت البينة على تلفه عنده، فإن
ادعى أنه لم يعلم أنه غير عدل، وأنه إنما دفعه إليه وهو يظنه عدلا، صدق في
ذلك، إلا أن يكون معلنا بالفسق، مشهورا به عند الناس، وهو قول ابن القاسم
في الدمياطية سئل عن رجل قال لرجل ادفع هذه الدنانير إلى ثقة يدفعها إلى
أهلي، فدفعها الرجل إلى رجل عنده ثقة فيما يرى، فتلفت، قال: إن قال: إنه
كان عند ثقة، لم أر عليه شيئا، ولا ضمان على الموضع على يديه بحال، كان
عدلا أو غير عدل وسواء سمى له العدل الذي شرط عليه أن يضعه على يديه، أو لم
يسمه له فيما يجب من تصديقه في دفعه إليه، وقد قال ابن دحون: إنه إن سماه
له لم يصدق في
(11/53)
الدفع إليه إذا ضاع عنده، وإن صدقه، بخلاف
إذا لم يسمه له، ولا وجه لتفرقته في ذلك. ووجه قول أصبغ الذي اختاره ابن
حبيب، أن المرتهن لما كان ضامنا للرهن الذي قبضه، إذا ادعى تلفه ولم يأت
على ذلك ببينة، أشبه من دفع من ذمة إلى أمانة، فأقر القابض وادعى التلف؛
لأن المشهور في هذا أن الدافع ضامن، إلا إن قيم البينة على معاينة الدفع،
ويتخرج على قول ابن القاسم في مسألة اللؤلؤ، من كتاب الوكالات من المدونة،
إنه مصدق في ذلك مع يمينه وبالله التوفيق.
[ارتهن رهنا وحازه فترة ثم أتى رجل فزعم أنه قد
ارتهنه قبله وحازه]
ومن كتاب بع ولا نقصان عليك وسئل عن رجل ارتهن رهنا وحازه، فمكث في يديه
سنة أو سنتين، ثم أتى رجل، فزعم أنه قد ارتهنه قبله وحازه، وأقام البينة
على الرهن والحيازة، وادعى أنه لم يعلم برهن هذا، قال أرى أن يبدأ الأول
ويكون لهذا الآخر ما بقي عن الأول دون الغرماء، فقال له صاحب الحق الآخر:
إن الرهن كان دارا فباعها القاضي في حقي، فاشتريتها ثم أتى الذي استحقها
بالرهن الأول بعد اشترائي إياها، فقلت: إذا استحقها هذا برهنه، فافسخ
الاشتراء عني، قال: يمضي الاشتراء عليك، ويبدأ بهذا المرتهن الأول، ويكون
لك ما فضل بعده، قال عيسى: قلت لابن القاسم: كيف جعلت ما فضل عن المرتهن
الأول لهذا دون الغرماء، وأنت تقول: من رهن رهنا فليس له أن يرهن فضلته من
آخر إلا بإذن المرتهن؟ قال: هذا قد حاز وقبض، فأرى أن ينفعه حيازته وقبضه.
قال محمد بن رشد: في هذه المسألة معنى خفي، يجب أن يوقف عليه، وهو أن الرهن
لا يبطل برجوعه إلى الراهن بعد أن حازه المرتهن، إلا
(11/54)
أن يعلم بذلك فيسكت، ولا يقوم برد رهنه إلى
حوزه؛ لأنه لم ير رهن الراهن الرهن من الثاني بعد أن كان رهنه الأول. وحوزه
إياه إبطالا لرهنه، إذ لم يعلم بذلك، فجعله أحق برهنه إلى مبلغ حقه، وجعل
للثاني ما فضل منه عن حقه؛ لأنه قد حازه لنفسه، بمنزلة من ارتهن رهنا فحازه
ثم استحق منه بعضه، ولا يلزم ابن القاسم ما اعترض به عليه عيسى؛ لأنه إنما
احتيج إلى علم المرتهن الأول في رهن فضلة الرهن، فيكون حائزا له إياها، لا
لنفسه، وفي مسألة المرتهن الثاني قد حازها لنفسه، إذ حاز جميع الرهن، فلو
علم الأول بذلك وأذن فيه لبطل رهنه جملة، وكان الثاني أحق بجميعه. وقوله:
إن الاشتراء يمضي عليه صحيح؛ لأنه بيع وقع بحكم حاكم على صاحب الدار
الراهن، ولم يستحق المرتهن الأول من رقبة الدار شيئا، فيفسخ البيع فيه،
وإنما استحق ارتهان الدار في حقه، فيكون أحق بثمنها الذي بيعت به حتى
يستوفي حقه، ويكون للآخر ما فضل عنه. وبالله - تعالى - التوفيق. اللهم لطفك
يا مولاي.
[أخذ سوارين لامرأته من غير أمرها فرهنهما]
ومن كتاب إن خرجت من هذه الدار وسئل عن رجل أخذ سوارين لامرأته من غير
أمرها، فرهنهما، فافتقدت المرأة سواريها، فقال لها زوجها: أنا أخذتهما
ورهنتهما، وسأفتكهما، فأقامت زمانا تنتظر افتكاكهما، فلما طال ذلك عليها،
تعلقت بسواريها عند المرتهن، قال: إن قامت بحدثان ما علمت، بذلك، فذلك لها،
وتحلف بالله ما دفعتهما إليه، ولا علمت بأمرهما حتى افتقدتهما، وإن تطاول
ذلك بعد علمها بذلك، فلا شيء لها.
قال محمد بن رشد: قوله في هذه المسألة: فأقامت زمانا تنتظر
(11/55)
افتكاكهما، كلام وقع في السؤال حكاية لقول
المرتهن، ودعواه من غير أن تكون المرأة مقرة بذلك، إذ لو أقرت المرأة أنها
أقامت منتظرة لافتكاكه إياهما، لما كان إليهما سبيل، وإن قامت بحدثان ذلك،
وإنما يكون لها أن تقوم. فيهما بحدثان ذلك، إذا سكتت حين أعلمها، فقالت: لم
أسكت إلا على أن أقوم بحقي، لا راضية بما فعلت، ولا منتظرة لفكه إياهما.
فقوله: وإن قامت بحدثان ما علمت بذلك فذلك لها، وتحلف بالله ما دفعتهما
إليه، ولا علمت بأمرهما حتى افتقدتهما، يريد وتزيد في يمينها، إنها ما سكتت
منذ علمت، إلى حين قيامها، إلا على أن تقوم بحقها، لا رضي منها بفعله، ولو
قامت ساعة علمت، لم يكن عليها أن تزيد ذلك في يمينها، والقول قولها إنها لم
تعلم إلا حين قيامها، فإن ادعى عليها أنها علمت قبل ذلك وسكت، حلفت على
ذلك، واختلف إن طال سكوتها بعد علمها، فقال: ها هنا: إن ذلك يبطل قيامها،
ووقع في سماع أصبغ، ما ظاهره أن لها أن تقوم بعد طول الزمان، وتحلف ما
رضيت، ولا كان سكوتها تركا لحقها، والذي ها هنا أظهر، والله أعلم.
وهذا كله إذا كانت علمت بعد الارتهان ولم تحضره، وأما إذا كانت حاضرة
الارتهان، فإن أنكرت في الحال، لم يلزمها ذلك، وإن سكتت حتى تم التواجب
بينهما على الارتهان، ثم أنكرت بعد ذلك قبل انفصالهما من المجلس، جرى ذلك
على الاختلاف في السكوت، هل هو كالإقرار أم لا؟ وأما إن لم تنكره ولا تكلمت
حتى انقضى المجلس، وانفصلا عنه، فليلزمها ذلك قولا واحدا. والله أعلم.
[جاء بثوب فقال هذا رهن عندي قد هلك صاحبه ولي
عليه دينار]
ومن كتاب أوله أسلم وله بنون صغار
وعن رجل جاء بثوب، فقال هذا رهن عندي قد هلك صاحبه، ولي عليه دينار، وليس
له بينة، والورثة لا يعرفون الثوب، ولا
(11/56)
يعرفون ما يقول الرجل، قال: أرى إن أنكر
الورثة وزعموا أنهم لا يعرفون شيئا مما يدعي من الرهن، حلفوا على علمهم،
وأخذوا رهنهم، ولا يقبل قوله إلا ببينة.
قال محمد بن رشد: إنما يحلف الورثة إذا كان فيهم من يتهم أن عنده من هذا
علما فأما الغائب منهم وشبهه ممن يعلم أنه لا علم عنده، فلا يمين عليه.
وسيأتي هذا المعنى في آخر رسم الرهون. وقد مضى في رسم شك في طوافه، ورسم
صلى نهارا ثلاث ركعات، من سماع ابن القاسم، عكس هذه المسألة، إذا اختلف
ورثة المرتهن مع الراهن. ويأتي أيضا في رسم إن أمكنتني من هذا السماع،
وبالله التوفيق.
[ارتهن جارية وضعها على يدي رجل فعمد الرجل
فأرسلها إلى الراهن]
ومن كتاب حبل حبالة وسئل عن رجل ارتهن جارية، وضعها على يدي رجل، فعمد
الرجل الذي وضعت على يديه، فأرسلها إلى الراهن وردها إليه فوطئها، فحملت.
قال ابن القاسم: إن كان للغريم مال، أخذ منه الحق، فدفع إلى صاحب الحق،
وكانت الأمة أم ولده، وإن لم يكن للغريم مال، أخذ قيمة الأمة من الأمين يوم
وطئها إن كان له مال، واتبع الأمين الغريم بما أدى عنه، وإن لم يكن لسيد
الأمة ولا للأمين مال، بيعت الأمة إذا وضعت، وقضي حق الغريم إن كان الحق
محيطا بقيمتها، أو بيع منها قدر حق الغريم، واعتق ما بقي. قال: والولد يتبع
أباه، ولا يباع مع أمه على حال. وهذا إذا كان المرتهن لم يعلم بوطئه إياها.
(11/57)
قلت لابن القاسم: فلو لم تحمل وهو يطؤها
حتى فلس سيدها، هل كانت تكون خارجة من الرهن ويكون الأمين ضامنا؟ قال: إن
كان للأمين مال، كان ضامنا لقيمتها، وكان مع الغرماء فيها وفي غيرها من
ماله أسوة، وكانت القيمة للمرتهن. قال عيسى: وإن لم يكن للأمين مال كان
المرتهن أحق بالجارية. وهذا كله إذا لم يعلم المرتهن بالرد، فإذا علم فلا
رهن له.
قال محمد بن رشد: الأمين الموضوع على يديه الجارية المرتهنة، متعد على
الراهن في دفعها إلى المرتهن، وعلى المرتهن في صرفها إلى الراهن، فإن صرفها
إليه ضمن للمرتهن ما انتقص من حقه بسبب ذلك إن حملت من الراهن، أو قبلها،
أو دخل عليه الغرماء فيها، على القول بأنها تخرج من الرهن بإسلامه إياها
إلى الراهن. وقد اختلف في ذلك، قيل: إنها تخرج من الرهن، ويكون المرتهن
فيها أسوة الغرماء إن قاموا بتفليسه، والجارية بيده قبل أن يقوم فيها
المرتهن فيقبضها، وهو قول عيسى بن دينار ومحمد بن المواز، وقيل إنها لا
تخرج من الرهن، ويكون المرتهن أحق بها، وهو مذهب ابن القاسم، وقول أصبغ.
وهذا إذا لم يعلم المرتهن برد العدل إياها إلى الراهن، وأما إذا علم بذلك،
فلا اختلاف في أنه لا رهن له فيها. والقول بأنها لا تخرج من الرهن على قياس
القول بأن كون الرهن بيد العدل، ككونه في يد المرتهن يكون له شاهدا، والقول
بأنها تخرج من الرهن على قياس القول: بأن الرهن لا يكون شاهدا للمرتهن إذا
كان بيد عدل، فإذا دفع العدل الجارية إلى الراهن بغير إذن المرتهن فوطئها،
فحملت نظر، فإن كان للغريم الراهن مال، يفي بحق المرتهن، أخذ منه الحق،
فدفع إليه، وكانت الأمة أم ولد للغريم الراهن، وإن لم يكن للغريم مال، قال
في الرواية: أخذ قيمة الأمة من الأمين يوم وطئها، يريد، إلا أن يكون الحق
أقل من ثمنها، فلا يؤخذ منه إلا الحق، فيدفع ذلك إلى المرتهن، ويتبع الأمين
للغريم الراهن، وإن لم يكن لسيد الأمة مال، ولا للأمين، قال
(11/58)
في الرواية: بيعت الأمة إذا وضعت، وقضي حق
الغريم إن كان الحق محيطا بقيمتها، أو بيع منها قدر حق الغريم، وأعتق ما
بقي، يريد، إلا أن لا يوجد من يبتاع منها بقدر حق الغريم، فتباع كلها ويقضي
المرتهن من ذلك حقه، ويتصدق الراهن بالفضل؛ لأنه ثمن لأم ولده، وقد قيل:
إنها تباع كلها، وإن وجد من يبتاع منها بقدر حق الغريم، من أجل الضرر الذي
عليها في تبعيض عتقها، ولا تباع إن كان الحق مؤجلا حتى يحل الأجل، قاله
محمد بن المواز. وهذا على القول بأن الرهن لا يخرج من الرهن بإسلام العدل
إياه إلى الراهن بغير إذن المرتهن، وهو نص قول أصبغ في آخر هذه الرواية،
وأما على القول بأنه يخرج من الرهن فلا تباع، وتكون أم ولد للراهن، ويتبع
المرتهن بحقه إياهما أيسر أولا، من الراهن أو الأمين، فإن أخذ حقه من
الأمين، رجع به الأمين على الراهن، وإن أخذه من الراهن لم يكن له رجوع على
أحد. وقوله: إنه يعتق من الأمة ما بقي إن كان الحق لا يحيط بقيمتها، هو على
قياس قول ابن القاسم في كتاب أمهات الأولاد من المدونة وعلى قياس قول غيره
فيه: يبقى الباقي أم ولد، فمتى ما اشترى ما بيع منها حلت له، وأما إذا
دفعها إليه بغير إذن المرتهن، فلم تحمل، فعلى القول بأنها لا تكون خارجة من
الرهن يكون المرتهن أحق بها، وعلى القول بأنها تكون خارجة من الرهن، يكون
المرتهن فيها أسوة الغرماء، ويكون له الرجوع على الأمين فيما انتقص من حقه
في كونه فيها أسوة الغرماء. وتفسير ذلك أن ينظر كم دين المرتهن؟ فإن كان
عشرين، ودين الغريم الآخر عشرين، وقيمة الرهن عشرون، كان الرهن بينهما
بنصفين، ورجع المرتهن على الأمين بعشرة؛ لأن ذلك هو الذي انتقصه من حقه
بالمحاصة، ولو كان قيمة الرهن عشرة، وللغريم عشرة، ودين كل واحد منهما
عشرون، لرجع المرتهن على الأمين بثلاثة وثلث؛ لأن مال الغريم على هذا
التنزيل عشرون: عشرة نقدا وعشرة قيمة الرهن، فيصير لكل واحد منهما من ذلك
بالمحاصة عشرة، عشرة، نصف حقه، ويقول المرتهن للأمين: لو كان الرهن بيدك
لكنت
(11/59)
أحق به، ولحاصصت في العشرة، ببقية حقي، وهو
عشرة، فصار لى منها ثلاثة وثلث، فادفعها إلي فإنها هي التي انتقص من حقي
بالمحاصة، ولو كان الرهن قد أفاته الراهن على الأمين، ووجدا له عشرين
دينارا، فتحاصا فيها، وصار لكل واحد منهما منها عشرة، عشرة، لرجع المرتهن
على الأمين بسبعة إلا ثلثا؛ لأنه يقول له: لو كان الرهن حاضرا بيدك، لأخذته
وكنت أحق، وحاصصت الغريم في العشرين ببقية حقي، وهو عشرة، فصار لي منها
سبعة إلا ثلث، فادفعها إلي، فإنها هي التي انتقص من حقي بالمحاصة، بجميع
حقي في العشرين، إذ تلف الرهن الذي فوته علي، وكنت أحق به، ولو طرأ للغريم
مال بعد المحاصة؛ لأنتقضت المحاصة، وتحاصا ثانية في جميع مال الغريم، مثال
ذلك، أن يكون الأمر على ما ذكرناه، من أن قيمة الرهن عشرة، للغريم عشرة،
ولكل واحد منهما عشرون، فتحاصا في ذلك على ما ذكرناه، ورجع المرتهن على
الأمين بثلاثة وثلث، ثم طرأ للغريم عشرة، فإنه ينتقض المحاصة الأولى،
ويتحاصان ثانية، على أن مال الغريم ثلاثون: عشرة قيمة الرهن، وعشرة كانت
بيده، وعشرة طرأت له بعد المحاصة، فيصير لكل واحد منهما خمسة عشر، ثلاثة
أرباع حقه، ثم يقول المرتهن للأمين: لو كان الرهن بيدك، لكنت أحق به،
ولحاصصت في العشرين الباقية، ببقية حقي، وهو عشرة، فصار لي منها سبعة إلا
ثلثا، فجملة ما كان يصير لي سبعة عشر إلا ثلثا، وأنا قد أخذت خمسة عشر،
وبقي لي ديناران إلا ثلثا فادفعها إلي، وأرد عليك الثلاثة إلا ثلثا التي
قبضت منك بالمحاصة الأولى التي انتقضت، أو قاصني بها وأرد عليك الباقية
وذلك دينار. وكذلك كل ما طرأ بعد ذلك يستأنف فيه العمل، وينتقض ما تقدم.
ولما سأله في الرواية هل تكون الأمة خارجة من الرهن إذا فلس سيدها وهو
يطؤها ولم تحمل؟ لم يعطه في ذلك جوابا بينا، وقال: إن كان للأمين مال، كان
ضامنا لقيمتها، وكان مع الغرماء فيها وفي غيرها من ماله إسوة، وكانت القيمة
للمرتهن، ولا كلام في أن الأمين لا يكون أحق بها من الغرماء فيما
(11/60)
يرجع به على الغريم، إذا رجع عليه المرتهن،
إذ ليست له برهن، وإنما الخلاف هل يكون المرتهن أحق بها؟ فمذهب ابن القاسم
أنها لا تكون خارجة من الرهن، ويكون المرتهن أحق بها، بدليل قوله: إنها
تباع إذا حملت منه ولا مال له ولا للأمين، بمنزلة إذا تسور عليها فوطئها
وهي عند المرتهن فحملت، على ما في المدونة. وقال عيسى: إن لم يكن للأمين
مال، كان المرتهن في الجارية إسوة الغرماء، وقال أصبغ: إن لم يكن له مال،
كان المرتهن أحق بالجارية، وكذلك إن كان للأمين مال، كان المرتهن في
الجارية عند عيسى إسوة الغرماء إن لم يرد الرجوع على الأمين، وعند أصبغ أحق
بها إن لم يرد الرجوع عليه، إذ لا فرق في كون المرتهن أحق بالجارية بين أن
يكون الأمين مليا أو معدما، إذا لم يرد الرجوع عليه. وإنما تكلم كل واحد
منهما على أنه إن كان مليا لا يختار الرجوع إلا عليه، فلا يقام من قول واحد
منهما دليل على أن الملي عنده في ذلك بخلاف المعدم، وقد ذهب إلى ذلك بعض
الناس، فيأتي في هذه المسألة على ما ذهب إليه أربعة أقوال: أحدها أن
المرتهن أحق بالجارية من الغرماء في ملإ الأمين وعدمه؟ والثاني أنه إسوة
الغرماء فيها في ملائه وعدمه، والثالث أنه أحق بها في ملائه، وإسوة الغرماء
فيها في عدمه، وهو قول عيسى؛ والرابع بعكس ذلك أنه أحق بها في عدمه، وإسوة
الغرماء في ملائه. وهو بعيد، وبالله التوفيق.
(11/61)
|