البيان
والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة [كتاب الرهون
الثاني] [غلة الحائط المرهون والدار والعبد]
من سماع عيسى من كتاب الرهون قال في غلة الحائط
المرهون والدار والعبد: إنها للراهن، وإنها لا تكون رهنا مع الرهن،
إلا أن يشترط ذلك المرتهن في رهنه، ولا يصلح للمرتهن أن يشترط أن يتقاضى في
البيع غلة الرهن في كل عام؛ لأن ذلك ليس بشيء ثابت معلوم، إنما ذلك يكون
مرة ويخطئ مرة أخرى، ويكثر مرة، ويقل أخرى، ولا بأس به في السلف، ولا يلزم
المرتهن في الوجهين جميعا كلاهما عمل الحائط، ولا مرمة الدار ولا إصلاحها،
ولا نفقة العبد ولا كسوته، اشترط المرتهن الغلة أو لم يشترطها، وإنما ذلك
على الراهن الذي له الغلة، يلزمه ذلك المرتهن، اشترط ذلك أو لم يشترطه
عليه، ولا يترك الراهن وخراب الرهن وهلاكه؛ لأن ذلك يدخل على المرتهن في
هلاك حقه وذهابه ضررا ووهنا. وقد كان الرهن وثيقة من حقه، ومن أجل ذلك جعلت
الغلة في السنة للراهن؛ لأنه لا يقوى على عمل الراهن وإصلاحه ونفقته إلا
بالغلة، وليس للمرتهن
(11/63)
رهنا له غلة أن يحول بين الراهن وبين
استعمال رهنه، وليس للراهن أن يفعل ذلك إلا بإذنه وعلمه، وإن لم يشترط
المرتهن الغلة رهنا مع الأصل؛ لأن المرتهن قد قبض رهنه من الراهن، وحازه
دونه أو وضع له على يد من حازه له وقبضه، فلو جاز للراهن أن يعامل في
الحائط من أحب أو يكري الدار أو يؤاجر العبد ممن أحب، لأدخل عليه الراهن
بذلك في رهنه ضررا إذ صار يقضي عليه بإذنه وبغير إذنه. وقال ابن القاسم:
المرتهن هو الذي يعامل في عمل الحائط، ويبيع الغلة، ويؤاجر الدار، وليس
للراهن في ذلك أمر.
قال الإمام القاضي قوله في غلة الحائط المرهون والدار والعبد: إنها للراهن،
وإنها لا تكون رهنا مع الرهن، إلا أن يشترط ذلك المرتهن في رهنه، هو
المشهور في المذهب، لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الرهن لمن رهنه،
له غنمه، وعليه غرمه وغنمه وغلته» . وقد وقع في المبسوطة من رواية ابن
القاسم عن مالك، أنه سمعه يقول: من استرهن دارا أو عبدا قبضه أو لم يقبضه،
فإن إجارة العبد وكراء الدار، لجمع لا يصل إلى الراهن ولا إلى المرتهن حتى
يفك الرهن، فيكون تبعا للرهن، فإن كان في الدار أو العبد كفاف الحق، كانت
الإجارة للراهن، قال ابن الماجشون: لا أعرف هذا، والخراج والكراء للراهن،
إلا أن يشترطه المرتهن، وقال ابن نافع مثله، وزاد، إنما يجوز له أن يشترطه
من مبايعة لا من سلف، وهذه الرواية عن مالك شاذة، لا تعرف في المذهب، وقول
ابن
(11/64)
الماجشون هو المعلوم، وأما قول ابن نافع:
إنما يجوز للمرتهن أن يشترط ذلك من مبايعة لا من سلف، فهو غلط. والله أعلم؛
لأن ذلك إنما هو إذا اشترط ذلك المرتهن لنفسه، كذا وقع في المدونة وغيرها
في اشتراط المرتهن الانتفاع بالرهن، وأما اشتراطه أن يكون الرهن رهنا معه،
فلا اختلاف في جواز ذلك في أصل البيع وبعده، وفي أصل السلف وبعده، ولا تدخل
الثمرة في رهن الأصول، إلا باشتراط المرتهن، كانت قد أبرت أو لم توبر،
وإنما يفترق ذلك في البيع، لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من باع
نخلا قد أبرت فثمرهما للبائع إلا أن يشترطه المبتاع» . فدل ذلك من قوله على
أنها للمبتاع، إذا كانت لم تؤبر، كما يكون له ما ينبت بعد الابتياع والسنة
قد أحكمت أن الغلة في الرهن للراهن، فوجب أن تكون له الثمرة أبرت أو لمن
تؤبر أو نبتت بعد الارتهان، إلا أن يشترط ذلك المرتهن في الرهن، والجنين
داخل في الرهن وإن لم يشترط، بخلاف الثمرة التي لم تؤبر، وإن استويا في
البيع والفرق بين الجنين والثمرة التي لم تؤبر في الرهن، أن السنة قد أحكمت
أن غلة الرهن للراهن، والجنين ليس بغلة، وإنما هو عضو من أعضاء أمه، فوجب
أن تكون معه في الرهن، كما تدخل في البيع، والأصل في هذا أن النماء في
الرهن على وجهين: متميز عن الرهن وغير متميز عنه، فأما غير المتميز عنه،
فلا اختلاف في أنه يدخل في الرهن، وذلك مثل سمن الدابة والجارية، وكبرهما،
ونماء النخل، وكبرها. وأما المتميز عنه فإنه على وجهين: أحدهما أن يكون على
صورته
(11/65)
وخلقته، والثاني ألا يكون على صورته
وخلقته. فأما ما كان على صورته وخلقته، كالولد من بني آدم ومن سائر
الحيوان، وكفسلان النخل، فإنه داخل مع الأصول في الرهن وإن لم يشترط وأما
ما كان على غير صورته وخلقته، فإنه لا يدخل في الرهن إلا بشرط، كان متولدا
عنه، كثمرة الحائط ولبن الغنم وصوفها، أو غير متولد عنه ككراء الدار، وخراج
الغلام. هذا على ما ذكرناه من المشهور في المذهب.
ودهب أبو حنيفة إلى أن ذلك كله داخل في الرهن، كان متميزا عنه أو غير
متميز، متولدا عنه على خلفته وصورته، أو على غير خلقته وصورته، قياسا على
نسل الحيوان، وعلى النماء المتصل بالرهن الذي لا يتميز منه.
وذهب الشافعي إلى أنه لا يدخل في الرهن من النماء، إلا ما كان غير متميز
منه كسمن الدابة والجارية وكبرهما. وأما قوله: إنه لا يصلح للمرتهن أن
يشترط أن يتقاضى في البيع غلة الرهن في كل عام؛ لأن ذلك ليس بشيء ثابت
معلوم؛ لأنه يكون ويخطئ ويقل ويكثر، ولا بأس به في السلف فهو صحيح، ومثله
في كتاب حريم البئر من المدونة أن ذلك لا يجوز في عقد البيع، وهو جائز في
أصل عقد السلف وبعده.
وأما قوله ولا يلزم المرتهن عمل الحائط ولا مرمة الدار، ولا إصلاحها ولا
نفقة العبد ولا كسوته، اشترط المرتهن الغلة أو لم يشترطها، وإنما ذلك على
الراهن الذي له الغلة، فهو أمر صحيح لا اختلاف أعلمه فيه، لقول النبي -
عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الرهن لمن رهنه،
(11/66)
له غنمه وعليه غرمه» وقوله: وليس للمرتهن
رهنا له غلة أن يحول بين الراهن وبين استعمال رهنه، معناه: ليس له أن يحول
بينه وبين مؤاجرته إن كان ممن يؤاجر، وكرائه إن كان ممن يكرى وأما استعماله
بأن يستخدم العبد، أو يلبس الثوب، أو يركب الدابة وما أشبه ذلك، فله أن
يمنعه منه؛ لأن ذلك إن أذن له فيه، خروج من الرهن، وقد وقع في هذه الرواية
اضطراب ألفاظ فيمن يلي مؤاجرة ذلك وكراءه، فقال في أول كلامه: ليس للمرتهن
رهنا له غلة أن يحول بين الراهن وبين استعمال رهنه، يريد ليس له أن يحول
بينه وبين ولاية عقد الإجارة والكراء فيه. قال: وليس للراهن أن يفعل ذلك
إلا بإذنه وعلمه، فدل ذلك من قوله على أن الراهن هو الذي يلي ذلك بإذن
المرتهن، وقال في آخر المسألة: والمرتهن هو الذي يعامل في عمل الحائط،
ويبيع الغلة، ويؤاجر الدار، وليس للراهن في ذلك أمر، فدل ذلك من قوله على
أن المرتهن الذي يلي ذلك.
والذي أقول به في تفسير ذلك، أنه إن كانت الغلة للراهن، لم يشترطها
المرتهن، ولي المرتهن الكراء، ولم يجز أن يليه الراهن؛ لأنه إذا ولي الكراء
بإذن المرتهن، وأخذ الغلة، فقد صار منتفعا بالرهن، وبطلت حيازة المرتهن،
وهذا نص قوله في المدونة: إنه إذا أذن له أن يكري الدار، فقد خرجت من
الرهن، معناه عندي: إذا أذن له أن يكريها ويأخذ كراءها، وعلى هذا يحمل قوله
في آخر المسألة: والمرتهن هو الذي يعامل في ذلك، وليس للراهن فيه أمر، وإن
كانت الغلة رهنا باشتراط المرتهن، وعلى هذا
(11/67)
يلي الراهن عقد الكراء والإجارة لها بإذن
المرتهن، وعلى هذا يحمل قوله في أول الكلام: وليس للراهن أن يفعل ذلك إلا
بإذنه وعلمه.
فيتحصل من هذا أنه لا يجوز للراهن أن يلي عقد الكراء والإجارة بغير إذن
المرتهن، ويجوز أن يلي ذلك بإذنه إن كانت الغلة رهنا مع الأصل، ولا يجوز إن
لم تكن الغلة رهنا مع الأصل؛ وأما ولاية المرتهن لعقد الكراء دون إذن
الراهن ففي ذلك اختلاف.
قال محمد بن المواز: لا يكري المرتهن الرهن إلا بإذن الراهن، معناه: إذا
كان الكراء للراهن، ومثله في حريم البئر من المدونة، قال: إن لم يأمره
الراهن أن يكري ترك ذلك ولم يكر، وإن أمره بذلك أكراه، وكان الكراء لرب
الأرض، وأما إن كان الكراء في الرهن باشتراط المرتهن له، فله أن يكريه بغير
إذنه، وليس للراهن أن يمنعه من كرائه؛ لأن ذلك من حقه. قال ذلك أشهب، وعلى
ذلك تحمل رواية ابن عبد الحكم، أن للمرتهن أن يكري الرهن دون إذن صاحبه.
وقد قيل: إن ذلك يجب على المرتهن، فإن لم يفعل ضمن إذا كان الرهن مما يتخذ
للكراء، وله قدر، وهو قول ابن الماجشون. وقال أصبغ: لا ضمان عليه، وهو ظاهر
ما في المدونة وغيرها من قول ابن القاسم وروايته عن مالك، إذ لم يفرق في
شيء من ذلك بين ما كان متخذا للكراء، أو غير متخذ له، وبالله التوفيق.
[مسألة: رهن لرجلين يقوم أحدهما ببيع الرهن وقد
كان الآخر أنظره بحقه سنة]
مسألة وقال في رجلين يكون لهما رهن بينهما، فيقوم أحدهما على بيع الرهن في
حقه، وقد كان الآخر أنظره بحقه سنة، إنه إن كان
(11/68)
يقدر على قسم الرهن بما لا ينقص الذي قام
على أخذ حقه قسم، ثم بيع له نصف الرهن فأوفي حقة، وأوقف النصف الآخر للذي
أنظره بحقه إلى الأجل.
قلت: فإن كان لا يقدر على قسم الرهن إلا بما ينقص حق الذي قام على أخذ حقه،
بيع الرهن كله، فأعطي الذي قام على الأخذ بحقه حقه كله من ذلك، فإن طابت
نفس الذي أنظر بحقه سنة، أن يدفع بقية ثمن الرهن إلى الراهن إلى أن يحل
حقه، دفع إلى الراهن، فإن كره أحلف بالله ما أنظرته بحقي إلا ليوقف في رهنه
على هيئته، ثم أعطي حقه ولم يحبس عنه، ولم يوقف له إلى الأجل وقد بيع رهنه؛
لأن إيقاف الرهن على المرتهن في غير منفعة تصل منه إلى الراهن، وهو له
ضامن، فدفع الحق إلى المرتهن، وإبراء الراهن من ضمانه خير لهما جميعا.
قال ابن القاسم: قال مالك: إلا أن يأتي الراهن برهن يكون فيه وفاء بحق الذي
أنظره، فيكون له أخذ ثمن الرهن إلى الأجل.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم عن مالك: إلا أن يأتي الراهن برهن يكون
فيه وفاء بحق الذي أنظره، فيكون له أخذ ثمن الرهن إلى الأجل صحيح مبين لما
تقدم من قوله ". والمسألة كلها صحيحة بينة، وهي متكررة في سماع أبي زيد،
ولا اختلاف في شيء منها إلا إذا لم يأت الراهن برهن يشبه الرهن الأول يكون
فيه وفاء بحق الذي أنظره، هل يوقف الثمن إلى الأجل الذي أنظره إليه أم يعجل
له؟ فقيل: إنه يعجل له كما قال ها هنا، وقيل: إنه يوقف إلى الأجل ولا يعجل
له، لعل الغريم يجد في باقي الأجل رهنا يضعه في مكان الثمن وينتفع به إلى
الأجل.
وقد مضى الاختلاف في ذلك في رسم كتب عليه ذكر حق من سماع ابن
(11/69)
القاسم، وفي رسم الأقضية الثاني والثالث من
سماع أشهب. والقولان قائمان من المدونة من كتاب الرهون وكتاب التجارة إلى
أرض الحرب، وبالله التوفيق.
[مسألة: ضمان المرتهن ما ضاع من الحلي والثياب
والمتاع عنده]
مسألة قال ابن القاسم: وإنما يضمن المرتهن ما ضاع من الحلي والثياب والمتاع
عنده قيمة ما ضاع عنده يوم ضاع وليس قيمته يوم ارتهنه.
قال الإمام القاضي: قال ها هنا إنه يغرم المرتهن قيمة ما ضاع عنده من الحلي
والثياب يوم ضاع، وقال فيما يأتي قرب آخر هذا الرسم: إنه يغرم قيمته يوم
ارتهنه، وليس ذلك عندي اختلافا من القول، ومعنى ما ها هنا أنه ظهر عنده
المتاع والحلي في الوقت الذي ادعى أنه ضاع فيه، فعلم أنه لم يضع قبل ذلك؟
ومعنى ما يأتي في آخر هذا إذ لم يعلم متى ضاع ولا ظهر عنده منذ ارتهنه،
وغاب عليه، فيلزمه قيمته يوم ارتهنه، إذ لا يصدق في وقت ضياعه، كما لا يصدق
في ضياعه، إلا أن تكون قيمته في الوقت الذي ادعى أنه تلف فيه أكثر من قيمته
يوم ارتهنه، فيلزمه قيمته يوم ضاع؛ لأنه مقر على نفسه، وكذلك لو ظهر عنده
بعد ارتهانه إياه بمدة، لسقطت عنه قيمته يوم ارتهنه، إذ قد علم بظهوره عنده
سقوط الضمان عنه فيه فيما مضى من المدة، ولزمته قيمته يوم ظهر عنده، ولم
يصدق إن ادعى أنه تلف بعد ذلك بمدة، إلا أن تكون قيمته في اليوم الذي ادعى
أنه تلف فيه أكثر. وذهب ابن دحون إلى أن ذلك اختلاف من القول. فقال: أكثر
أقواله، إن الضمان إنما يكون يوم ارتهنه، قال: وهو القياس؛ لأن في ذلك
اليوم دخل في ضمانه، وكل من دخل في ضمانه شيء ثم ضاع بعد ذلك بمدة، فإنما
عليه قيمته يوم دخل ذلك في ضمانه كالغاصب والصانع ونحوهما، وليس قوله
بصحيح، أما الغاصب فهو كما قال، وأما الصانع والمرتهن فالحكم فيهما بخلاف
ما
(11/70)
ذكر. وقد قال غيره: إنما يلزم المرتهن قيمة
الرهن يوم ضاع، إذا لم يعلم قيمته يوم الرهن ولا بعده، فلم يجعل ذلك
اختلافا من القول، ورد ما ها هنا بالتأويل، إلى الذي يأتي بعد هذا، من أن
على المرتهن في الرهن إذا هلك عنده قيمته يوم ارتهنه، خلاف ما ذهبنا إليه
من رد ما يأتي بعد هذا إلى ها هنا، من أن المرتهن يلزمه إذا ضاع الرهن عنده
قيمته يوم ضاع بما ذكرنا من التأويل، فإن جهل وقت الرهن، كان القول فيه قول
المرتهن، فإن ادعى أنه تلف بعد ذلك بمدة، وقيمته في ذلك الوقت أقل من قيمته
يوم الرهن، لم يصدق في ذلك، على ما ذكرناه. وفي سماع أصبغ من كتاب الوديعة
ما يبين ما ذهبنا إليه في هذه المسألة. وبالله التوفيق.
[مسألة: ارتهن رهنا في حق له إلى أجل فأتى رجل
يطلبه بدين قبل محل الأجل]
مسألة وقال فيمن ارتهن غريمه دارا أو رقيقا في حق له إلى أجل، فيأتي رجل
يطلبه بدين قبل محل الأجل، أجل المرتهن، إنه إن كان في الرهن فضل عما رهن
فيه بيع فقضى صاحب الحق والغريم الذي جاء، وإن لم يكن في الرهن فضل لم يبع
حتى يحل الحق الذي رهن فيه؛ لأنه رهن.
قال الإمام القاضي: هذا مثل ما تقدم في المسألة التي قبل هذه المسألة،
مسألة في تعجيل الحق قبل حلول الأجل. وقد مضى ذكر الخلاف في ذلك هنالك، وفي
المواضع المذكورة فيه. ومعنى هذا: إذا كان الدين الذي لم يحل عينا أو عرضا
من قرض، وأما إن كان عرضا من بيع لم يبع إلا أن يحل أجل المرتهن. وبالله
التوفيق.
[مسألة: رهنه رهنا فأتى الراهن إلى رجل فقال له
بعني سلعتك هذه بدين إلى أجل]
مسألة قال في رجل رهن رجلا رهنا في سلعة له: عليه إلى أجل، فأتى الراهن إلى
رجل فقال له: بعني سلعتك هذه بدين إلى أجل،
(11/71)
لأفتك به رهنا لي عند فلان، فسأله البائع
حميلا، فلم يجد إلا صاحب رهنه، فلا ينبغي للمرتهن أن يتحمل عنه شيئا يصير
من حقه إليه، كما لا ينبغي له أن يبيع له شيئا يصير له قضاء من حقه.
قال محمد بن رشد: تنظيره مسألة الذي سأل الرجل أن يتحمل عنه بثمن شيء يصير
من حقه إليه، بمسألة الرجل يبيع الرجل شيئا يصير له قضاء من حقه، ليس
بتنظير صحيح؛ لأنهما مسألتان متغايرتان متباينتان مفترقتا المعنى، أما
مسألة الحمالة فالعلة فيها أن الحميل تحمل بالرجل، رجاء أن يقضيه المتحمل
عنه السلعة التي اشتراها فأشبه الحمالة بالجعل. وأما مسألة الذي يبيع الرجل
شيئا يصير له قضاء من حقه، فمعناها أن يبيعه شيئا بثمن إلى أجل، يصير له
قضاء من حقه الذي قد حل له. والعلة فيها أنه يدخلها فسخ الدنانير في أكثر
منها إلى أجل، وهو الربا المحرم بالقرآن، مثال ذلك: أن يكون للرجل على
الرجل عشرة دنانير حالة، فيبيعه سلعة قيمتها عشرة دنانير، بخمسة عشر إلى
أجل، ليبيعها بعشرة، ويقضيها إياه، فيكون البائع قد رجع إليه ثمن سلعته،
فكأنه باعها من غيره أو منه بعشرة دنانير، وأخره بالعشرة الحالة التي كانت
عليه إلى أجل، على أن يزيده فيها خمسة دنانير ربا، ووجه التنظير بينهما على
تغايرهما وافتراقهما، أن المكروه في كل واحدة من المسألتين، لم يشترطاه،
وإنما رجواه، ولو اشترطاه، فقال الحميل: إنما أتحمل عنك بثمن السلعة، على
أن تقضيني إياها في حقي، وقال البائع للشيء: إنما أبيعك إياه بالدين، على
أن تبيعه أنت بالنقد، وتوفيني ثمنه فيما لي عليك، لكان المكروه في كل واحدة
منهما أشد وأبين. وبالله التوفيق.
[مسألة: الرهن يحل بيعه وصاحبه ناء عن السلطان
فيأمره ببيعه]
مسألة وعن الرهن يحل بيعه، وصاحبه ناء عن السلطان، فيأمره ببيعه، فلا يجد
أحدا يعنى فيه إلا بجعل، على من يكون الجعل،
(11/72)
أعلى صاحب الرهن أم على المرتهن؟ فقال:
الجعل على من طلب البيع منهما والتقاضي، قال عيسى ما أرى الجعل إلا على
الراهن.
قال محمد بن رشد: قول عيسى بن دينار أظهر من قول ابن القاسم لأن الراهن
مأمور بالقضاء، واجب عليه فعله، فهو أولى بغرم الإجارة على ما يتوصل به إلى
أداء الواجب عنه.
ووجه قول ابن القاسم: إن الراهن يقول: أنا لا أريد بيع الرهن؛ لأني أرجو أن
يتيسر لي الحق دون بيع الرهن، فإذا أردت أنت تعجيله، فأد الجعل على بيعه.
وبالله التوفيق.
[مسألة: رهنه عبدا لامرأته بعلم منها فقال رجل
للمرتهن أنا آخذه وأضمنه لك]
مسألة وقال في رجل رهن رجلا عبدا لامرأته بعلم منها ورِضى، فقام رجل غير
الذي عليه الحق، فقال للمرتهن: أنا آخذ هذا الرهن، فيكون بيدي وأضمنه لك من
كل شيء إلا الموت، فإن حل الأجل أعطيتك حقك، فرضي بذلك صاحب الحق، وأقر
الحميل العبد عند المرأة، ولم يقبضه، ولم يحزه، فلما حل الأجل، قام الحميل
على العبد لبيعه في قضاء الحق، فحالت المرأة دونه، وقالت: غلامي بيدي، لم
يفارقني ولم يقبضه، واحتج الحميل بإذنها في رهن العبد ورضاها، قال: يغرم
الحميل لصاحب الرهن ما ضيع حين لم يقبض الرهن، وغر المرتهن من الرهن، ويطلب
الحميل زوج المرأة بما غرم عنه وليس له قبل المرأة في عبدها شيء؛ لأن الرهن
ليس مقبوضا. ولو باعت المرأة العبد أو أعتقته، جاز ذلك لها، ولم يرد، ولو
أن الحميل أقر العبد عند المرأة أياما، ثم قام على أخذه قبل محل الأجل، لم
يكن للمرأة تحول بينه وبين
(11/73)
قبض العبد؛ لأنه يقدر في مثل هذا بالشغل
يعرض له والسفر، فأما إذا أخر قبضه حتى يحل الحق، فإنه يعلم أن ليس ذلك
برهن مقبوض؛ لأن الناس إنما يأخذون الرهن لأن يكون لهم وثيقة من حقوقهم إذا
حلت.
قال الإمام القاضي: هذا بين على ما قاله، من أن الحميل الضامن للرهن يلزمه
أن يغرم لصاحب الرهن ما ضيع حين لم يقبض الرهن وتركه بيد المرأة حتى حل
الأجل؛ لأنه إذا فعل ذلك فقد رضي بتركه عندها وإبطال حق المرتهن فيه، بخلاف
إذا تركه عندها الأيام اليسيرة، ثم قام على قبضه حسبما قاله.
وقد مضى في أول سماع ابن القاسم، القول فيما يلزم الضامن للرهن إذا قال أنا
ضامن لرهنك، أو لما نقص من رهنك، أو لما نقص من حقك، أو لما أصاب رهنك
مستوفى، فلا معنى لإعادته. والله الموفق.
[مسألة: اشترى من رجل أرضا إلى أجل على أن
يعطيه كل شهر دينارا]
مسألة وعن رجل اشترى من رجل أرضا إلى أجل، على أن يعطيه كل شهر دينارا،
فإذا حل الأجل أعطى له بقية الحق، وجعله له رهنا بحقه على يدي رجل، فهلك
المشتري قبل أن يحل أجل الحق، ولا مال له، إلا الأرض، وليس في ثمن الأرض
وفاء بحقه ذلك، وعليه ديون للناس، سوى هذا الحق، فأراد الورثة أن يعطوه
دينارا كل شهر، على ما كان اشترط عند البيع، ولا يكسر عليهم أرضهم. قال:
أما إذا مات الذي عليه الحق، فقد حل عليه كل حق عليه إلى أجل، وإن لم يأت
ذلك الأجل، وتباع الأرض بما قامت، وإن لم يكن في ثمنها وفاء للحق الذي رهنت
فيه، والمرتهن أولى بثمنها من الغرماء؛ لأنها رهنت في حقه.
(11/74)
قال الإمام القاضي: وكذلك لو اشترط تكون
الأرض رهنا بيده إلى ذلك الأجل، لجاز ذلك؛ لأن الأرض يجوز أن تباع على أن
تقبض إلى أجل، بخلاف العروض والحيوان التي لا يجوز أن تباع على أن تقبض إلى
أجل، فلو باع رجل شيئا من الحيوان أو العروض بثمن إلى أجل، واشترط أن يبقى
ذلك بيده رهنا إلى ذلك الأجل لم يجز، وكان بيعا مفسوخا. كذلك روى ابن وهب
عن مالك في الحيوان، قاله ابن القاسم في العروض، ولو وضع هذه الأشياء التي
لا يجوز ارتهانه إياها عند بيعها على يدي غيره، لكان ذلك جائزا، وكان أحق
به من الغرماء. وقد قيل: إنه لا يجوز أن يبيع الرجل شيئا من الأشياء بثمن
إلى أجل، على أن يكون له رهنا بحقه وإن وضعه على يدي عدل، قال ذلك أصبغ
ورواه عن أشهب في سماع سحنون من كتاب السلم، والآجال، وعلى قياس ذلك يأتي
ما حكى ابن حبيب في الواضحة من رواية أصبغ عن ابن القاسم، أنه لا يحل أن
يتواضع الثمن في البيع المضمون، ولا بأس بالرهن والحميل من البائع إذ انتقد
الثمن، والعلة في ذلك عندهما أنه إذا حل الأجل وأعسر بالثمن، بيع الدار،
فإن كان فيها فضل كان للمشتري، وإن كان نقصان فعليه، فكأنه باع منه دارا أو
شيئا لا يقبضه، على أن يكون له ما زاد، وعليه ما نقص، وقد اختلف إذا وقع
على هذا القول، فقيل: إنه بيع فاسد، يسلك به مسلك البيع الفاسد في كون
الغلة للمشتري بالضمان، وسائر أحكام البيع الفاسد، وقيل: أنه ليس ببيع
فاسد، وإنها هي إجارة فاسدة، كأن رب الدار استأجره على أن يبيعها له بثمن
سماه، على أن يكون له ما زاد على الثمن إجارة له، فإن باعها كان الثمن لرب
الدار، وكان للذي باعها أجر مثله، في بيعه إياها، وإلى هذا ذهب أصبغ، على
ما اختاره من اختلافهم في الذي يبيع من الرجل السلعة على ألا نقصان عليه،
فقد قيل فيها القولان جميعا، اختلف في ذلك قول مالك وعبد العزيز بن أبي
سلمة.
وقد مضى القول على هذا في سماع سحنون من كتاب السلم والأجال.
(11/75)
وفي رسم أخذ يشرب خمرا من سماع ابن القاسم
من كتاب الأيمان بالطلاق. وبالله التوفيق.
[مسألة: باع رجلا بيعا فرهنه خدمة مدبر]
مسألة وقال في رجل باع رجلا بيعا فرهنه خدمة مدبر له، فقال: لا يعجبني هذا،
إلا أن يكون مؤاجرا أو مخارجا، فيرهنه أجرته.
قال محمد بن رشد: إنما لم يُجز خدمة المدبر لأن ذلك غرر إذ لا يدري مبلغ ما
يوأجره به، ومعنى ذلك، إذا كان الرهن في أصل البيع، على القول بأن رهن
الغرر لا يجوز في أصل البيع، والمشهور أن ذلك جائز، وهو الظاهر من قول ابن
القاسم في المدونة في إطلاقه إجارة رهن الثمرة التي لم يبد طلاحها، والزرع
الذي لم يبد صلاحه، وقد أجاز في كتاب المدبر منها رهن المدبر، ولم يفرق بين
أن يكون ذلك في أصل البيع وبعد عقده. وإذا جاز رهن المدبر مع ما فيه من
الغرر، إذ لا يباع للمرتهن في حياة الراهن، وجاز ارتهان الثمرة قبل أن يبدو
صلاحها فما الذي يمنع من ارتهان خدمة المدبر؟ وهو يقدر على أن يؤاجره في
الوقت، فتكون إجارته رهنا له، وذلك أخف في الغرر والجعل من رهن الثمرة التي
لم يبد صلاحها، والزرع الذي لي يبد صلاحه، وأما رهن إجارته إذا كان مؤاجرا
فلا إشكال في جواز ذلك. والحيازة تصح في ذلك بإشهاد المرتهن على الراهن
بحضرة المستأجر، فإذا حلت الإجارة عليه قبضها المرتهن، وطبع عليها عنده،
لئلا ينتفع بها، وجعلت على يدي عدل، وفي قوله: إلا أن يكون مخارجا نظر؛ لأن
كونه مخارجا هو أن يكون السيد قد ضرب عليه خراجا معلوما يأخذه منه مياومة
أو مشاهرة، وإذا كان ذلك، فلا يصح ارتهانه؛ لأن الرهن لا يصح إلا بالحيازة
لقول الله عز وجل: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] ولا يصح أن يكون
العبد حائزا
(11/76)
للمرتهن ما عليه من الخراج؛ لأن يده كيد
سيده الراهن فيما ضرب عليه من الخراج. وبالله التوفيق.
[مسألة: الرهن إذا لم يقبض من الراهن ويحز عنه
بأمر الراهن فيه]
مسألة قال ابن القاسم: وكل رهن لم يقبض من الراهن ويحز عنه بأمر الراهن فيه
جاز، إن أعتق أو وطئ أو باع أو وهب أو نحل أو تصدق، وكل ما صنع فيه من شيء
فهو جائز له إذا كان موسرا، ويؤخذ منه ما عليه من الدين، ويعطى صاحبه، وإن
لم يكن موسرا لم يجز منه شيئا، إلا أن يطأ أمة فتحمل منه، أو شيئا فيبيعه
فينفذ بيعه، فأما عتق أو هبة أو صدقة فإنه لا يجوز له أن يكون موسرا لأنه
لم يقبض منه فليس هو برهن، وإن أفلس الراهن قبل أن يقبض المرتهن رهنه،
ويقوم عليه، كان المرتهن فيه إسوة الغرماء، فإن قام المرتهن على قبضه وحوزه
قبل أن يحدث الراهن فيه شيئا مما يفوت به، كان للمرتهن أن يخرجه من يد
الراهن حتى يكون له رهنا مقبوضا يجعله المرتهن على يديه أو يدي من يرضى به،
إن كره الراهن أن يكون على يدي المرتهن، ولم يكن المرتهن اشترط ذلك على
الراهن عند ارتهانه الرهن، بجعله المرتهن على يدي من يرضى به، وكذلك كل من
اشترط رهنا في بيع أو سلف، ولم يشترط قبضه، ثم طلب ذلك قبل أن يفوت الرهن،
فإن ذلك له، وإن كره الراهن أن يكون في يدي المرتهن، فقال لا أرضى أن يكون
رهني في يديك وضع لهما على يدي من يرضيان به جميعا، ولم يجعل على يدي
المرتهن؛ لأنه لم يشترط ذلك على الراهن عند ارتهانه إياه.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة لا إشكال فيها ولا
(11/77)
اختلاف في شيء من وجوهها ومعانيها. وقوله
فيها: فإما عتق أو هبة أو صدقة، فإنه لا يجوز له، إلا أن يكون موسرا،
معناه: موسرا بما عليه من الدين وقوله: إن للمرتهن أن يقوم على الراهن، بأن
يخرج الرهن من يديه، حتى يكون له رهنا مقبوضا يجعله المرتهن على يديه، أو
يدي من يرضى به، إن كره الراهن أن يكون بيد المرتهن، معناه: إذا رضي الراهن
أن يكون بيد الذي رضي المرتهن أن يكون بيده، فإن لم يرض بذلك وضعه السلطان
بيد من يرضى به إذا لم يتفقا جميعا على من يكون بيده، يبين هذا قوله في آخر
المسألة: وضع لهما على يدي من يرضيان به جميعا، وإنما جاز تفويت الراهن
للرهن بعد أن رهنه بما ذكره وإن كان الرهن يلزم بالعقد، ويحكم للمرتهن
بقبضه، مراعاة لقول من يقول: إنه لا يكون رهنا، ولا يلزم الحكم به، وإن
تشاهدا عليه، ما لم يقبض، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ}
[البقرة: 283] والرهن في هذا بخلاف الهبة والصدقة ومن وهب أو تصدق، فلا
يجوز له بيع ما وهب، ولا هبته لغيره، وإن لم يحز عنه ولا قبضت منه؛ لأن
الحيازة في الرهن ألزم منها في الهبة والصدقة. قد قال ناس في الهبة
والصدقة: إنهما لا يفتقران إلى حيازة، ولم يقل ذلك، أحد في الرهن، لقول
الله عز وجل: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] .
فصل وهذا إذا أطاع الراهن للمرتهن بالرهن بعد عقد البيع، أو بعد عقد السلف،
وأما إن باعه بيعا أو أسلفه سلفا على أن يرهنه عبدا أسماه فباعه أو أعتقه
قبل أن يقبضه المرتهن، فإن كان فرط في قبضه حتى باعه الراهن أو أعتقه، فلا
حق للمرتهن فيه، ولا شيء له على الراهن المبتاع لأنه قد ترك رهنه بتفريطه
في قبضه، وإن كان أعتقه أو باعه بفور رهنه إياه، دون أن يطول، ولم يكن من
المرتهن تفريط في قبضه، مضى البيع والعتق أيضا، وكان للمرتهن أن يفسخ البيع
عن نفسه؛ لأنه إنما بايعه على ذلك الرهن بعينه، فلما فوته عليه كان أحق
بسلعته إن كانت قائمة، أو قيمتها إن كانت فائتة. هذا معنى ما في كتاب
الرهون من المدونة. وقد قيل: إن الثمن يوضع
(11/78)
له رهنا. قاله أبو إسحاق التونسي، على قياس
قول أشهب في الراهن يكاتب العبد الرهن قبل أن يقبضه المرتهن إن الكتابة
تكون رهنا. وفي كتاب ابن المواز: إنه يوضع له رهن مكانه، وقد سأله في
المدونة عن هذا فلم يجبه عليه، وهذا إذا كان المرتهن قد دفع السلعة أو
السلف، وأما إن كانت سلعته لم تخرج من يده ولا سلفه فهو أحق بسلعته أو
سلفه، سواء فرط في القبض أو لم يفرط، ولم يختلفوا إذا دبر قبل الحوز أن
خدمة المدبر، لا تكون رهنا؛ لأنها نحلة ولم يكن ارتهن شيئا من الغلة.
وبالله التوفيق.
[مسألة: ارتهن رهنا فكتب أنه قبضه المرتهن
وحازه ولم يفعل ثم باعه صاحبه]
مسألة ومن ارتهن رهنا فكتب أنه قبضه المرتهن، وحازه ولم يفعل، ثم إن صاحبه
باعه، فبيعه جائز؛ لأنه ليس برهن مقبوض، فأمر صاحبه فيه جائز، وليس كتاب
المرتهن أنه قبضه وحازه ولم يفعل بشيء.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: إن الشاهد في الرهن على الحيازة والقبض، لا
معنى له في وجه من الوجوه، إذا علم أن ذلك لم يكن بإقرار المرتهن بذلك، ولو
تشاهدا على القبض والحيازة، ولم تعاين البينة ذلك، ثم باع الراهن الرهن،
فادعى المرتهن أنه باعه تعديا عليه، ومناقصة له فيه بعد أن قبضه منه على ما
تشاهدا عليه، لوجب أن ينفذ البيع ويبطل الرهن، إن كان الرهن بيد الراهن أو
بيد المبتاع، وأن لا ينفذ على اختلاف إن كان بيد المرتهن، وكذلك لو قام
الغرماء على الراهن، فألفي الرهن بيد المرتهن، فقال: قبضته حين تشاهدنا على
ذلك قبل قيام الغرماء، وقال الغرماء: بل قبضته بعد قيامنا، لكان المرتهن
أحق به على اختلاف.
والقولان في هذين الوجهين يتخرجان على القولين القائمين بين كتاب الهبة
والصدقة من المدونة في الذي يهب الجارية لرجل، ويشهد له أنه قد
(11/79)
قبضها وحازها ولم تعاين البينة القبض
والحيازة، ثم مات الواهب وألفيت الجارية في يد الموهوب له، فقال: قبضتها في
صحة الواهب، حين أشهد لي بقبضها، وقال الورثة: بل قبضتها بعد موته، ولما
تشاهدا على الرهن والهبة دون القبض والحيازة، فألفي الرهن بيد المرتهن، أو
الهبة بيد الموهوب له بعد الموت أو بعد قيام الغرماء، فادعيا أنهما قبضا
ذلك، لم يصدق واحد منهما في ذلك باتفاق، إلا أن تكون لهما بينة على ذلك،
ولا ينتفع في الرهن بإقامة البينة على أنه قد مضى قبضه وحازه قبل قيام
الغرماء إلا أن تشهد البينة أنه قبضه وحازه بأمر الراهن وإذنه، والرهن في
هذا بخلاف الهبة؛ لأن القبض فيه أوجه لقول الله عز وجل: {فَرِهَانٌ
مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] ولأن من أهل العلم من يقول: لا يكون رهنا حتى
يكون مقبوضا. وبالله التوفيق.
[مسألة: ارتهن رهنا بحق له إلى أجل واشترط وضع
الرهن على يد رجل]
مسألة ولو أن رجلا ارتهن من رجل رهنا بحق له إلى أجل، واشترط وضع الرهن على
يد رجل ضمن للمرتهن قبضه وحوزه، وتحمل له مع ذلك بالحق إلى الأجل الذي رهن
الرهن إليه فيه، فتركه عند الراهن ولم يقبضه، فقام صاحب الحق على قبض الرهن
وحوزه، فقال الحميل: أنا أخرته عند الراهن، إرادة الرفق به، وأنا له وللحق
ضامن إلى الأجل، فإن الحجة في ذلك إلى المرتهن؛ لأنه يقول: أخاف أن يفلس
الحميل، والذي عليه الحق، فيدخل معي في الرهن عندي ولا آخذ من حقي وفاء
فأرى أن يؤمر الحميل بقبض الرهن من الراهن، فإن لم يفعل نزع منه، ووضع
للمرتهن على يدي غيره. والحمالة بالحق عليه كما هي.
قال محمد بن رشد؛ هذه مسألة بينة صحيحة، لا وجه للقول فيها، إذ لا إشكال في
شيء من وجوهها ومعانيها. وبالله التوفيق.
(11/80)
[مسألة:
المرتهن يفتات على الراهن في بيع الرهن فيفوت]
مسألة وقال في المرتهن يفتات على الراهن، في بيع الرهن، فيفوت، ولا يعرف له
الراهن ولا المرتهن صفة ولا قيمة يؤخذ بها، ولا بينة بينهما، واختلفا على
ذلك، واجتمعا على الحق، ولم يختلفا فيه: إن المرتهن يحلف على ما باع به
الرهن، ثم يجعل ذلك ثمنه.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة: أن الراهن يدعي أن قيمة الرهن
رهنه أكثر مما باعه به المرتهن، والمرتهن يقول: بل قيمته ما بعته به، وهذا
وجه قوله: واختلفا على ذلك، ويحتمل أن يكون وجه اختلافهما أن كل واحد منهما
يدعي على صاحبه أنه يعلم صفته، فالراهن يقول للمرتهن: صفه فيتبين من وصفك
إياه أنك بعته بأقل من قيمته، والمرتهن يقول للراهن: صفه أنت فيتبين من
وصفك إياه أني بعته بقيمته. ووجه الحكم في ذلك إن ادعى الراهن أن قيمة
الرهن أكثر مما باعه المرتهن، ولم يدع واحد منهما على صاحبه أنه يعلم صفته،
أن يحلف المرتهن ما كانت قيمته أكثر مما باعه به، ويزيد في يمينه: ولقد
باعه بكذا وكذا إن لم يكن له بينة على معرفة ما باعه به، فإن نكل عن اليمين
حلف الراهن أن قيمته كذا وكذا، واستوجب ما حلف عليه، وأما إن ادعى كل واحد
منهما على صاحبه أنه يعرف صفته، فيحلف كل واحد منهما على صاحبه أنه يعرف
صفته لصاحبه ابتداء أنه ما يعلم صفته، فإن حلفا جميعا أو نكلا جميعا أو حلف
الراهن، ونكل المرتهن عن اليمين، كان الحكم في ذلك على ما وصفت لك من يمين
المرتهن، إن لم يدع واحد منهما على صاحبه أنه يعرف صفته، وإن حلف المرتهن
أنه ما يعلم صفته، ونكل الراهن عن اليمين أنه ما يعلم صفته، لم يجب على
المرتهن اليمين، بأن يحلف ما كانت قيمته أكثر مما باعه به، ويحلف لقد باعه
بكذا وكذا، إن لم تكن له بينة على معرفة ما باعه به، وقوله
(11/81)
في الرواية: إن المرتهن يحلف على ما باع به
الرهن، ثم يجعل ذلك ثمنه، معناه: إذا لم تكن له بينة على معرفة ما باعه ولم
يدع عليه الراهن أنه باعه بأقل من قيمته، ولو ادعى ذلك عليه، لوجب أن يزيد
في يمينه وما كانت قيمته أكثر من ذلك، ولو لم يدع ذلك عليه وكانت له بينة
على معرفة ما باعه، لم يجب عليه يمين.
ووقع في بعض الكتب في هذه المسألة مكان واختلفا على ذلك: وحلفا على ذلك،
ومعناه: إذا ادعى كل واحد منهما على صاحبه أنه يعلم صفته على ما ذكرناه،
ورأيت لابن دحون أنه قال في ذلك: يمين الراهن لا معنى لها، هو يأخذ ما أقر
به المرتهن من الثمن إذا جهلا الصفة، فلا معنى ليمين الراهن، وإنما يصح
قوله إذا لم يدع واحد منهما على صاحبه، أنه يعرف صفته، وإنما اختلفا في
مبلغ ما باع به الرهن. وظاهر الكلام خلاف هذا لأن قوله على ذلك، إنما هو
إشارة منه إلى ما تقدم من أن كل واحد منهما يقول: لا أعرف صفته ومعناه،
ويقول لصاحبه: وأنت تعرفها، فلا وجه للمسألة غير ما ذكرناه فيها. وبالله
التوفيق.
[مسألة: الراهن والمرتهن يختلفان في الرهن
بعينه]
مسألة وقال في الراهن والمرتهن يختلفان في الرهن بعينه فيقول الراهن: رهنتك
ثوبا جديدا ويقول المرتهن: بل رهنتنيه ثوبا خلقا، وهو هذا بعينه، ولا بينة
بينهما، واجتمعا على الحق، كان القول قول المرتهن مع يمينه.
قال محمد بن رشد: أما إذا اتفق الراهن والمرتهن على الرهن بعينه، واختلفا
في صفته يوم رهنه إياه، فقال الراهن: كان جديدا وقال المرتهن: كان خلقا على
ما هو عليه، فلا اختلاف ولا إشكال في أن قول المرتهن، في أنه رهنه إياه
خلقا على ما هو عليه؛ لأن الراهن مدع عليه أنه
(11/82)
لبس الثوب حتى أخلقه، وقد أحكمت السنة أن
البينة على من ادعى، واليمين على من أنكر. وأما إن أتى المرتهن بالثوب خلقا
فقال الراهن: ليس هذا ثوبي؛ لأني رهنتك ثوبا جديدا وقال المرتهن: بل هو
ثوبك بعينه، رهنتنيه إياه خلقا على ما هو عليه، قال ابن القاسم ها هنا: إن
القول قول المرتهن، ظاهر قوله أشبه أن يكون ذلك الثوب خلقا على ما هو عليه،
يرهن في مثل ذلك الحق، أو لم يشبه، إذ لم يفرق بين ذلك، خلاف قول أصبغ في
نوازله بعد هذا ومثل قول أشهب. وبالله التوفيق.
[مسألة: رهن عبدا فأعتقه الراهن أو دبره]
مسألة وعن رجل رهن عبدا فأعتقه الراهن أو دبره، إن الراهن إذا كان موسرا
بما عليه دفع إلى المرتهن حقه، وجاز عتقه أو تدبيره وإن كان غير موسر بما
رهنه، فلا عتاقة ولا تدبير له، والمرتهن أحق برهنه حتى يستوفي حقه.
قال محمد بن رشد: ساوى في هذه الرواية بين العتق والتدبير، في اليسر
والعدم، فقال: إن كان موسرا بما رهنه به، عجل له حقه، وجاز عتقه أو تدبيره،
وإن كان غير موسر بذلك، فلا عتاقة له ولا تدبير، وفرق بينهما في المدونة في
اليسر والعدم أيضا، فقال في التدبير: إنه جائز، ويكون رهنا بحاله؛ لأن
للرجل أن يرهن مدبره.
قال محمد بن المواز: فإذا حل الأجل ولا مال له بيع، يريد: وإن كان موسرا
يوم رهنه، بخلاف ما قاله في العتق، والذي يوجبه النظر الصحيح في هذه
المسألة، أن يفرق فيها بين أن يكون الراهن يوم دبره موسرا بما رهنه فيه، أو
غير موسر بذلك، فإن كان موسرا بذلك، عجل له حقه وجاز تدبيره على ما قاله في
هذه الرواية، خلاف ما في المدونة؛ لأن التدبير إن أجيز على ما في المدونة
دون أن يعجل للمرتهن حقه، فحل الأجل ولا مال للراهن غير
(11/83)
المدبر، فإن لم يبع للمرتهن من أجل أن
الراهن كان موسرا يوم دبره، والتدبير لا يرد. في حال الحياة الدين الحادث
بعده دخل عليه ضرر في رهنه، وإن بيع له في رهنه على ما قاله محمد بن
المواز، كان ذلك إبطالا للتدبير الذي قد توجه تنفيذه بإجازته، وإن لم يكن
موسرا بذلك، جاز تدبيره على ماله في المدونة خلاف قوله في هذه الرواية: إنه
إن كان غير موسر بما رهنه فلا عتاقة ولا تدبير له؛ لأنه إن لم يكن موص بما
رهنه يوم دبره بما رهنه على المرتهن ضرر في تدبيره، إياه؛ لأن من حقه أن
يباع له في دينه إذا حل أجله وإن كان قد دبره؛ لأن دينه قد سبق التدبير،
فلا وجه لرد تدبيره إذا لم يكن موسرا يوم دبره بما رهنه به، وكذلك اختلف،
إذا كاتب الراهن عبده بعد أن رهنه، فقال محمد بن المواز يبقى مكاتبا، وفي
هذا نظر؛ لأنه قد يعسر يوم حلول الأجل، فلا يكون في ثمن الكتابة إذا بيعت
وفاء بالدين، فتبطل الكتابة. وقال في المدونة: إن ذلك بمنزلة العتق، إن كان
للسيد مال، أخذ منه ومضت الكتابة، يريد: وإن لم يكن له مال نقضت الكتابة،
إلا أن تكون قيمة الكتابة مثل الدين، فيجوز بيع الكتابة في دينه، وإن لم
يكن في قيمة الكتابة وفاء بالدين، نقصت كلها؛ لأنه لا يكون بعضه مكاتبا،
بخلاف المدبر إذا كان بعضه يفي بالدين؛ لأنه يجوز أن يكون بعضه مدبرا عند
ابن القاسم. وقال محمد: لا يكون بعضه مدبرا، كما لا يكون بعضه مكاتبا.
والذي في المدونة من أن الكتابة في هذا بمنزلة العتق هو الصواب المشهور في
المذهب، ولم يختلفوا في العتق أنه إن كان له مال أخذ منه الحق معجلا، ومضى
العتق، وإن لم يكن له مال، وكان في العبد فضل، بيع منه، وقضي الدين، وأعتق
الفضل، وإن لم يكن فيه فضل لم يبع حتى يحل الأجل، لعله أن يكون فيه حينئذ
فضل، فقوله في هذه الرواية: وإن كان غير موسر بما رهنه، فلا عتاقة له ولا
تدبير، معناه: إن لم يكن فيه فضل للعتق أو للتدبير، وقال أبو الزناد: إذا
لم يكن مع السيد مال، فقضى العبد ما هو فيه مرهون أعتق ولم يتبع سيده بشيء
من ذلك، والصواب أن يتبع سيده بذلك، إذا أداه
(11/84)
عنه على سبيل السلف لأنه لما تعدى بعتق
العبد، فقد رضي ببقاء الدين في ذمته، فلو رضي المرتهن بإجازة العتق واتباع
ذمته بحقه، لكان ذلك له، ولو أدى ذلك الدين أحد عنه سلفا، لكان له أن يتبعه
له، ويمضي عتق العبد، ولم يكن له في ذلك كلام، إذ قد رضي بعتق العبد، وبقاء
الدين في ذمته. فلو رضي المرتهن بإجازة العتق واتباع ذمته بحقه، لكان ذلك
له، ولو أدى ذلك الدين أحد عنه سلفا، لكان له أن يتبعه به ويمضي عتق العبد،
ولم يكن له في ذلك كلام، إذ قد رضي بعتق العبد وبقاء الدين في ذمته، فكذلك
العبد إذا أراد أن يسلف سيده المال، ويتبعه به دينا في ذمته. ووجه ما ذهب
إليه أبو الزناد، أن عتقه لما لم يتم إلا بقضاء الدين، صار كأنه أداه، وهو
في ملك سيده. وفي هذا نظر، قد ذكره أبو إسحاق التونسي في كتابه فمن شاء وقف
عليه فيه. هذا كله إذا أعتق الراهن العبد المرهون أو دبره بعد أن حازه
المرتهن.
وقد مضى القول في هذا الرسم إذا فوت الراهن الرهن بشيء من وجوه الفوت، قبل
أن يحوزه المرتهن، فلا وجه لإعادته، بالله التوفيق.
[مسألة: يرتهن الجارية فيزوجها غلاما له بغير
إذن سيدها فتلد وتموت]
مسألة وعن الرجل يرتهن الجارية فيزوجها غلاما له، بغير إذن سيدها، فتلد له،
فتموت من نفاس أو لا تموت، إن ولدها لسيدها، وهم رهن مع أمهم، ويفسخ
نكاحها، وأما إن ماتت من نفاس نكاحها ذلك، فلا ضمان عليه. قال ابن القاسم
بلغني هذا عن مالك ولست آخذ به، وأراه ضامنا لها إذا ماتت من قبل الحمل.
قال محمد بن رشد: قد قال مالك في غير هذا الكتاب: إنه ضامن، مثل قول ابن
القاسم. وقال أشهب: لا ضمان عليه في الموت من
(11/85)
الولادة؛ لأن الحمل ليس بإرادة المرتهن.
وقال أصبغ: لأنه إنما تعدى في النكاح لا في الوطء. وقول ابن القاسم، هو
الصحيح؛ لأن الحمل سببه الوطء، وقد قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: جل
النساء على الحمل، فإذا زوجها المرتهن، فقد أباحها للوطأ وعرضها للحمل. وقد
قالوا فيمن طرد صيدا من الحرم إلى الحل؛ إن عليه الجزاء، من أجل أنه عرضه
للصيد. وهذا مثله في المعنى وبالله التوفيق.
[مسألة: رهن رهنا في حق له إلى أجل فأقاما
الرهن بأربعة دنانير فضاع الرهن]
مسألة وقال في رجل رهن رجلا رهنا في حق له إلى أجل، فأقاما الرهن بأربعة
دنانير، فضاع الرهن، فأرى قيمة الرهن، ما قوماه به، إلا أن يكونا قصرا في
قيمة الرهن أو زادا فيه، فيرد إلى قيمته إذا علم ذلك. قال ابن القاسم: كل
من ارتهن رهنا مما يغاب عليه، فالقيمة فيه يوم رهنه، وإن تداعيا في الحق
والرهن قائم، فالقيمة فيه يوم يتداعيان فيه.
قال محمد بن رشد: قال ها هنا في الرهن الذي يغاب عليه إذا أهلك عند
المرتهن: إن عليه قيمته يوم ارتهنه. وقال فيما تقدم في هذا الرسم: إن عليه
قيمته يوم ضاع عنده.
وقد مضى القول على ذلك هناك مستوفى فلا معنى لإعادته. وإذا وجبت عليه قيمته
يوم ارتهنه على ظاهر هذه الرواية، أو على ما حملناها عليه، وكانا قد قوما
الرهن يوم الارتهان، فالواجب أن تكون قيمته ما قوماه به، إلا أن يكونا قصرا
في تقويمه كما ذكر. وبالله التوفيق.
[مسألة: ارتهن رهنا بغير بينة ثم زعم أنه قد
رده إلى صاحبه وأخذ حقه منه]
مسألة ومن ارتهن رهنا بغير بينة ثم زعم أنه قد رده إلى صاحبه، وأخذ حقه
منه، فينكر ذلك صاحب الرهن، إن صاحب الرهن
(11/86)
يحلف على ما قال، ويضمن المرتهن الرهن.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأن ما كان لا يصدق في دعوى الضياع
فيه من العواري والرهون التي يغاب عليها، فلا يصدق في دعوى الرد فيه، سواء
قبض ذلك ببينة أو بغير بينة. وهذا ما لا اختلاف فيه لحفظه في المذهب، إلا
ما وقع في آخر سماع أبي زيد من كتاب الوديعة، فإن فيه دليلا على أنه يصدق
في دعوى رد الرهن إذا قبضه بغير بينة، وهو بعيد، فلعله إنما تكلم على الرهن
الذي لا يغاب عليه، فتصح المسألة وتأتي على الأصل.
وقد مضى في أول سماع عيسى وسماع أصبغ من كتاب الرواحل والدواب، تحصيل القول
في هذا الأصل. وبالله التوفيق.
[مسألة: كان عنده رهن فمات المرتهن والرهن عنده]
مسألة ولو أن رجلا كان عنده رهن فمات المرتهن والرهن عنده، واستخلف رجلا
فأعطى الخليفة الرهن بعض ما يلي ممن استخلفه عليه من ورثة الميت أن يقتضي
له دين أبيه، فانطلق المأمور برهنه، فطلب الخليفة نقض ذلك، وأخذ الرهن،
قال: يحلف الخليفة بالله أنه لم يأمره أن يرهنه ثم يأخذه:
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله، إنه ليس له أن ينقض ذلك ويأخذ
الرهن، إلا بعد يمينه أنه لم يأمره أن يرهنه إن ادعى عليه المرتهن أنه أمره
بذلك، وحقق الدعوى وأما إن لم يحقق عليه الدعوى بذلك وأراد أن يحلفه من غير
تحقيق الدعوى، فيجري ذلك على الاختلاف في وجوب لحوق يمين التهمة. وبالله
التوفيق.
[مسألة: جاء إلى ورثة رجل فقال إن أباكم رهنني
سيفه هذا بكذا]
مسألة وعن رجل جاء إلى ورثة رجل، فقال لهم: إن أباكم رهنني
(11/87)
سيفه هذا بكذا وكذا، فهاتوا حقي، وخذوا سيف
أبيكم، فقال الورثة: ما نعلم ما تدعي من الحق والرهن، فهات سيف أبينا،
فقال: إن جاء ببينة على ما ذكر من الحق والرهن، أخذه، وإن لم يأت ببينة لم
يصدق، ودفع السيف إلى أهله، وحلفوا إن كان فيهم من يظن أنه يعلم ذلك.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة، على معنى ما في المدونة وغيرها. وقد
تقدمت في رسم أسلم من سماع عيسى. والقول فيها. وبالله التوفيق.
[مسألة: باع من رجل سلعة بثلاثين درهما وارتهن
بها منه غلاما]
مسألة وعن رجل باع من رجل سلعة بثلاثين درهما إلى شهر، وارتهن بها منه
غلاما يغل كل يوم درهما، واشترط أنه يطرد حقه كل يوم في خراج غلام، وإن لم
يجد الغلام كل يوم درهما، أخذه من سيده، وكان له ضامنا. قال: إذا كان
مضمونا كما ذكرت، إن لم يجده عند الغلام أخذه من الراهن، كان جائزا لا بأس
به، ولو لم يكن البيع على ذلك من الشرط أنه يضمن له درهما كل يوم، إلا أنه
ارتهن العبد في حقه إلى محله، فطاع له الراهن بدرهم كل يوم من خراج غلامه،
لم يكن بذلك بأس أيضا ما لم يرد المرتهن العبد على سيده لذلك فيكون الراهن
إنما فعل ذلك للذي رد عليه من رهنه. قال عيسى: وهذا كله في البيع، فأما في
السلف فلا بأس فيه.
قال الإمام القاضي: أما إذا وقع البيع على أن يرهنه العبد وهو يغل كل يوم
درهما على أن يقتضي غلته من حقه، فلا يجوز، إلا أن يكون السيد ضامنا لذلك،
إن لم يجد عند الغلام الدرهم كل يوم أخذه من السيد الراهن. ولو رهنه الغلام
بعد عقد البيع، وطاع له أن يأخذ غلته من حقه، لجاز ذلك
(11/88)
من غير ضمان. وأما السلف فذلك جائز فيه من
غير ضمان، كان شرطا في أصل السلف أو طوعا بعد ذلك، إلا أن يطوع له بذلك على
أن يرد عليه العبد، فلا يجوز بحال، لا في البيع ولا في السلف، وإن التزم
السيد ضمان ذلك، إلا أن يكون الأجل قد حل ففي قول عيسى بن دينار: وهذا كله
في البيع، فأما في السلف فلا بأس به، وفيه نظر، إذ إنما يفترق البيع من
السلف في موضع واحد، وهو أن يشترط ذلك في أصل البيع وأصل السلف، ولا يجوز
في أصل البيع. وهو نص قول مالك في كتاب حريم البئر من المدونة وعلى هذا
الوجه خاصة، ينبغي أن يرد قول عيسى بن دينار، ولا يحمل على عمومه في كل
المواضع. وبالله التوفيق.
[يموت المرتهن ويأتي الراهن ببينة أنه رهنه ولا
يشهد له بكم رهنه]
ومن كتاب إن أمكنتني من حلق رأسك وسألته عن الرجل يرهن الرهن ثم يموت
المرتهن، ويأتي الراهن ببينة، أنه رهنه ولا يشهد له بكم رهنه، ويزعم أنه
رهنه بدينار، أو يسمى شيئا هو أدنى من الرهن، ويقول للورثة: لا علم لنا بما
رهنه به عندك، القول قول من يكون؟ قال ابن القاسم سمعت مالكا يقول في
المرتهن يموت: إن القول قول الراهن فيما زعم، أنه رهنه به، إذا لم يكن
الميت ذكر شيئا، ولم يدع الورثة علما، ويحلف على ذلك، وإن كانت قيمة الرهن
أكثر مما ذكر.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة. وقد تقدمت والقول فيها في رسم صلى
نهارا ثلاث ركعات من سماع ابن القاسم. ومضت أيضا في رسم شك منه. ومضى في
الرسم الذي قبل هذا من هذا السماع، وفي رسم أسلم منه إذا أنكر الراهن ما
ادعاه ورثة المرتهن من الرهن، فلا معنى لإعادة شيء من ذلك. وبالله التوفيق.
(11/89)
[يرتهن الرهن
على من يكون كراء موضعه]
ومن كتاب العتق وسئل عن الرجل يرتهن الرهن، على من ترى كراء موضعه؟ قال:
أما ما يحوزه المرتهن في منزله، مثل الرأس والثوب وما أشبه مما لا يكون في
مثله مؤونة فلا كراء فيه لأن هذا يرتهنه الرجل ويحوزه معه في منزله، وعلى
هذا أمر الناس، وأما إن كان الشيء له قدر وبال، مثل الشيء يخزنه وما أشبهه،
فكراؤه على صاحبه؛ لأن هذا من النفقة، ونفقة الرهن على صاحبه.
قال الإمام القاضي: أما الشيء الكثير مثل الطعام يختزن، أو المتاع أو العدد
من العبيد الذين يحتاجون إلى مسكن يكونون فيه، فلا اختلاف ولا إشكال في أن
الكراء في ذلك كله على الراهن، كما قال. وأما مثل الرأس وشبهه الذي يحوزه
الرجل في منزله ولا يشغل له مكانا لكرائه، قدر وقيمة. فقال في هذه الرواية:
إنه لا كراء للمرتهن في ذلك. وقال الشيوخ: إن هذا معارض لقول ابن القاسم في
المدونة: إن للحاضنة على الأب السكنى مع النفقة والكسوة، يريد على عدد
الجماجم، مثل قول ابن وهب في الدمياطية وأحد قولي ابن القاسم فيها: إنه لا
سكنى لها ولا خدمة والاختلاف في هذا عندي جار على اختلافهم في الحضانة، هل
هي من حق الحاضن، أو من حق المحضون؟ فمن رآها من حق الحاضن، لم يوجب نفقة
ولا سكنى؛ إذ لا يستقيم أن يكون من حقه أن يكفله ويؤويه إلى نفسه ويجب له
بذلك حق، ومن رآها من حق المحضون، أوجب له السكنى والنفقة، أجرة لحضانته
فيجب على قياس هذا الذي قلناه أنه إن كان المرتهن اشترط كون العبد الرهن
بيده فأخذه لحقه وحازه في بيته أن لا يكون له كراء إن طلبه، وإن كان لم
يشترط كونه بيده فدفعه إليه الراهن بطوعه، ليحوزه لنفسه في بيته أن يكون له
الكراء إن طلبه. وبالله التوفيق.
(11/90)
[مسألة: يستعير
الثوب من رجل ليرهنه بعشرة دنانير فرهنه بها ثم تلف الثوب]
مسألة وسئل عن الرجل يستعير الثوب من رجل ليرهنه بعشرة دنانير، فرهنه بها
ثم تلف الثوب، فقال: يضمن المرتهن للراهن، ويضمنه الراهن لصاحبه، وهو
بمنزلة ما لو بيع في حقه؛ لأنه يقص به عن الراهن في حق المرتهن، فإذا كان
يحط به من دينه لمكانه، فهو يغرم ذلك لصاحبه.
قال الإمام القاضي: المعنى في هذه المسألة: أن الثوب ضاع بيد المرتهن،
ولذلك قال: إنه يضمنه للراهن، ولو جعله الراهن المستعير للمرتهن بيد عدل
فضاع عنده لضمنه الراهن لربه، ولم يكن على المرتهن شيء، ولو جعلاه جميعا
المعير والمستعير للمرتهن بيد عدل فضاع عنده، لكان ضمانه من ربه المعير،
ولم يكن على المستعير ولا على المرتهن شيء. وقال أشهب: إنه إذا ضاع عند
المرتهن ضمن قيمته للراهن، وضمن الراهن المستعير قيمته لربه المعير يوم
طلبه به، يريد أشهب والله أعلم إن المرتهن يغرم للراهن من قيمته يوم ضاع،
إذا علم أنه كان عنده يوم ادعى ضياعه على ما ذكرناه في رسم الرهون، وفي
قوله: إن المستعير يغرم للمعير قيمته يوم يطلبه نظر، فتدبره. قال: وإذا بيع
للمرتهن في حقه، فليس على المستعير من ثمنه إلا ما قضى عنه منه، إن كله
فكله، وإن بعضه فبعضه، ويرد الباقي إلى المستعير، يريد فيدفعه إلى المعير
وإن ذهب عند الأمين الذي باعه بأمر السلطان، فضمانه من المعير، وليس على
المستعير إلا ما قضى عنه منه. وبالله التوفيق.
[مسألة: يرتهن الرهن ثم يعيره للراهن لبعض
حوائجه فيغيب به الأيام ثم يرجع]
مسألة وسئل عن الرجل يرتهن الرهن، ثم يعيره المرتهن الراهن، لبعض حوائجه،
فيغيب به الأيام الثلاثة أو أقل أو أكثر، ثم يرجع،
(11/91)
فيريد المرتهن قبضه على رهنه كما هو، ويأبى
ذلك الراهن، ويقول: قد فسخت رهنك، وعاريتك إياي ترد، قال: لا أرى له رهنا
ولا أرى له أخذه، إلا أن يرده إليه طائعا، وإن فلس قبل أن يرده إليه، لم
يكن له رهن، وكان إسوة الغرماء، وقد اختلف في إن رده إليه بعد ذلك وفلس، هل
يكون رهنا أو لا يكون رهنا؟ فمالك قال: ليس برهن، والغرماء أولى به، وهو
معهم إسوة، وأما أنا فأحب إلي أن يكون رهنا إن هو حازه قبل أن يفلس. وفي
كتاب أسد: قلت لابن القاسم: أيكون على الراهن أن يرده ويكون للمرتهن أن
يقوم على الراهن فيأخذ رهنه؟ قال: لا إلا أن يكون أعاره على ذلك.
قال محمد بن رشد: الرهن لا يكون إلا مقبوضا لقول الله عز وجل {فَرِهَانٌ
مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] فإذا صرف المرتهن الرهن إلى الراهن بعارية أو
إجارة أو إيداع، فقد نقض رهنه، وأبطله وأخرجه عن أن يكون رهنا، فإن أراد أن
يقوم عليه بعد ذلك، فيأخذ منه رهنه ليرده إلى حالته الأولى، فأما في
العارية فليس له ذلك، أراد أن يأخذه منه قبل أن ينتفع به الراهن القدر الذي
يرى أنه إنما أعاره إياه لذلك، ولا اختلاف في هذا، بخلاف إذا أعار الرجل
متاعه لرجل، ثم أراد أن يأخذه منه قبل أن ينتفع به، فقد قيل: إن ذلك له،
وهو الذي يأتي على ما في كتاب العارية من المدونة؛ لأنه قال فيها: إن الرجل
إذا أعار أرضه رجلا على أن يبني فيها، إن له أن يخرجه منها قبل أن يبني،
وبعد أن يبني، ويعطيه قيمة بنيانه قائما إلا أن يكون قد مضى في المدة ما
يرى أنه أعاره إلى مثله، فيكون له قيمة بنيانه منقوضا. وقيل إنه ليس له أن
يخرجه منها بنى أو لم يبن حتى يمضي لعاريته من الأجل، ما يرى أنه أعاره إلى
مثله. وأما إن أراد أن يأخذه منه بعد أن انتفع به الراهن القدر الذي يرى
أنه أعاره إليه لذلك، ففي ذلك اختلاف. قال ابن القاسم في هذه الرواية: وفي
المدونة
(11/92)
ليس ذلك له. وقال أشهب: ذلك له، وأما إن
كان أراد أن يأخذه منه بعد انقضاء أجل العارية، وقد كان ضرب لها أجلا فذلك
له باتفاق، بمنزلة إذا أعاره إياه، على أن يرده إليه، فإن رده إليه في
الموضع الذي يلزمه أن يرده إليه باتفاق، رجع رهنا على حاله باتفاق، وكذلك
يرجع رهنا على حاله إن رده إليه في الموضع الذي يختلف هل يلزمه أن يرده
إليه أم لا؟ على مذهب من يرى أنه يلزمه أن يرده إليه. واختلف إن رده إليه
باختياره في الموضع الذي لا يلزمه أن يرده إليه باتفاق، أو في الموضع الذي
يختلف هل يلزمه أن يرده إليه أم لا؟ على قول من يرى أنه لا يلزمه أن يرده
إليه هل يرجع بمجرد رده إليه رهنا على حاله الأول أم لا؟ فأما مالك فقال في
هذه الرواية: إنه لا يكون رهنا، يريد أنه لا يرجع بمجرد رده إليه، إلا أن
ينص على أنه قد رهنه إياه برده إليه، إذ قد خرج من الرهن الأول بعاريته
إياه، وأما ابن القاسم فقال فيها: إنه يكون رهنا، يريد أنه يرجع بمجرد رده
إليه رهنا على حاله الأول، فالاختلاف في هذا راجع إلى الرهن، هل تفتقر صحته
إلى التصريح به أم لا؟ ومن مذهب ابن القاسم في المدونة أن صحته تفتقر إلى
التصريح به حسبما بيناه في سماع أبي زيد من كتاب المديان والتفليس، لكنه
راعى في هذه المسألة تقدم الرهن، فأقام ذلك مقام التصريح به، فليس قوله
بخلاف لمذهبه في المدونة من أن الرهن تفتقر صحته إلى التصريح به، وأما مالك
فلم يراع تقدم رهنه، إذ قد بطل برده إلى الراهن، فرأى أنه إذا رده إليه لا
يكون رهنا حتى يصرح بذكر الرهن، ويجب على مذهبه إذا لم يكن رهنا أن يكون
أحق به، ما لم يكن ثم غرماء، على معنى ما في المدونة وفي سماع أبي زيد من
كتاب المديان والتفليس، وأما إذا رد المرتهن الرهن إلى الراهن بإجارة، فله
أن يقوم عليه ويأخذه منه، فيكون رهنا بيده على حاله الأول إذا انقضت
الإجارة، وأما إن قام عليه فأراد أخذه منه قبل انقضاء أجل الإجارة، فليس
ذلك له، وقد قيل: إنه إن ادعى أنه جهل أن ذلك يكون نقضا لرهنه، وأشبه ما
قال، إنه يحلف على ذلك، ويكون له رده، ما لم يقم عليه
(11/93)
الغرماء، وأما إذا رده إليه بإيداع، فلا
أقف في وقتي هذا على نص الرواية في ذلك، والذي أقول به: إن له أن يقوم عليه
فيأخذه منه، ويكون له رهنا. إن لم يكن عليه دين يستغرقه باتفاق، أو ما لم
يقم عليه الغرماء على اختلاف قول مالك فيمن رهن رهنا وعليه دين محيط بماله.
وبالله سبحانه التوفيق.
[مسألة: يرتهن الدار وللدار طريق لجميع الناس
فيسلكها الراهن معهم]
مسألة وسئل عن الرجل يرتهن الدار، وللدار طريق لجميع الناس، فيسلكها الراهن
معهم، فقال: إذا حاز المرتهن البيوت وأكراها، فلا يضره؛ لأنه حق لغير صاحب
الدار.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأنه إنما رهنه البيوت التي له، ولم
يرهنه الطريق الذي ليس له من الحق فيه إلا ما لغيره من المرور فيه. وبالله
التوفيق.
[يرتهن الحيوان فيهلك في يديه فيدعي أنه ارتهنه
بعشرين دينارا]
من سماع يحيى بن يحيى من ابن القاسم
من كتاب الصلاة قال يحيى وسألت ابن القاسم عن الرجل يرتهن الحيوان فيهلك
الرهن في يديه، فيدعي أنه ارتهنه بعشرين دينارا، أو يزعم الراهن أنه رهنه
إياه بعشرة دنانير، والبينة تثبت أن قيمة الرهن الذي هلك عشرون دينارا، إن
البينة على المرتهن فيما ادعى فوق العشرة دنانير التي أقر بها الراهن؛ لأنه
لا يقاص شيء من قيمة الرهن الهالك، وهو فيها ادعى فوق العشرة، كمن ادعى مثل
ذلك فيمن لم يرتهن شيئا، فليس له إلا ما أقر به غريمه إذا هلك الرهن في
يديه. قيل له: أرأيت الذي يرهن المتاع الذي يغيب عليه، فتقوم البينة على
هلاكه وقيمته، والقيمة عشرون دينارا، وادعى أنه ارتهنه
(11/94)
بعشرين دينارا؛ وأنكر الراهن أن يكون رهنه
بأكثر من عشرة دنانير؟ فقال: إذا هلك الرهن هلاكا ظاهرا يشهد به العدول حتى
يبرأ بذلك المرتهن من ضمان الرهن، فلا حق له على الغريم الراهن، إلا ما أقر
له به مع يمينه، أو ما أثبتته البينة، وإنما جعله مالك مصدقا فيما يدعي
فيما بينه وبين قيمة الرهن، إذا كان هلاك الرهن غير معروف، ووجب ضمانه على
المرتهن، فعند ذلك يصدق المرتهن مع يمينه فيما ادعى ما بينه وبين قيمة
الرهن.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما تقدم في سماع عيسى من أن الرهن إنما يكون
شاهدا لمرتهنه إذا كان قائما بيده لم يفت، أو كان قد فات وادعى ضياعه، وهو
مما يغيب عليه، فلزمته قيمته؛ لأن القيمة الثانية في ذمته، كالرهن القائم
في يديه. وأما إن استحق من يده أو تلف تلفا ظاهرا؛ كان مما يغاب عليه، أو
ادعى ضياعه وهو مما لا يغاب عليه، فصدق في ذلك مع يمينه، وسقط عنه ضمانه،
فلا يكون شاهدا له. وهذا مما لا أعرف فيه نص خالف في المذهب، وهو بين، على
القول بأن الرهن لا يكون شاهدا على ما في الذمة، وإنما يشهد على نفسه، وأما
على القول بأنه يشهد على ما في الذمة، وهو ظاهر قول مالك في أول سماع ابن
القاسم على ما ذكرناه هناك، فيتخرج على قياسه أن يكون شاهدا له بقيمته يوم
رهنه، كان قائما بيده لم يفت باستحقاق ولا غيره، أو كان قد استحق أو تلف
لزمته قيمته أو لم تلزمه، وهو القياس، إن كانوا لم يقولوا ذلك؛ لأنه إنما
يكون شاهد له من أجل أنه يدل على صدق دعواه؛ لأنه يقال للراهن: إذا قال:
إنه رهنه بخمسة في التمثيل، وادعى المرتهن أنه ارتهنه بعشرة، والرهن يساوي
عشرة، قول المرتهن أشبه من قولك، إذ لو لم يكن له عليك إلا خمسة فما رهنته
بها رهنا قيمته عشرة، فوجب على هذا التعليل، ألا يلتفت إلى ما أصاب الرهن
بعد ذلك من نقصان قيمته بحوالة الأسواق، أو تلافه، أو استحقاقه. وبالله
التوفيق.
(11/95)
[مسألة: تواضعا
الرهن بيد أمين ثم اختلفا فيمن رهن به ولا بينة]
مسألة قيل له: أرأيت لو أن الرهن كان سالما ظاهرا بيد المرتهن، وقيمته خمسة
عشر دينارا؟ فقال: إنما ارتهنته منك بعشرين دينارا، وقال الراهن بل رهنتكه
بعشرة دنانير، فصدق المرتهن فيما ادعى إلى أن بلغ قيمة الرهن الخمسة عشر
دينارا، فقال الراهن: أنا آخذ رهني وأقضيك الخمسة عشر التي صدقت بها، أيكون
ذلك له؟ فقال: لا يكون له أن يأخذ الرهن إلا أن يعطيه العشرين التي ادعى
كلها، قيل له: فإذا لم يكن ذلك له، فإن قال المرتهن للراهن: أنا أتطوع لك
به على أن تعطيني الخمسة عشر التي صدقت بها، فكره ذلك الراهن، وقال: بل
احبس رهنك بجميع حقك علي، فقال إن يرى المرتهن إلى الراهن بالرهن لم يكن له
عليه إلا العشرة دنانير التي أقر بها. قال أصبغ: وكذلك لو تواضعا الرهن بيد
أمين، ثم اختلفا فيمن رهن به، ولم تكن بينهما بينة: إن القول قول المرتهن
مع يمينه؛ لأنه لم يتله في يديه ولم يقبضه على الائتمان.
قال محمد بن رشد: لم ير ابن القاسم في هذه الرواية إذا اختلف الراهن
والمرتهن في مبلغ ما رهن فيه الرهن، فادعى المرتهن أكثر من قيمته، وادعى
الراهن أقل من قيمته، فحلف كل واحد منهما على ما ادعاه من حق الراهن على
المرتهن أن يفتك الرهن منه بقيمته، ولا من حق المرتهن على الراهن، أن يسلمه
إليه بقيمته، ورأى الراهن إذا حلفا جميعا بما فيه، ليس للراهن أن يأخذه من
المرتهن، إلا أن يدفع إليه جميع ما ادعاه، وحلف عليه، ولا للمرتهن أن يسلمه
إلى الراهن، ويأخذ منه قيمته، وإنما له أن يمسكه او يأخذ من الراهن ما أقر.
وهذا هو حقيقة القياس، على القول بأن
(11/96)
الرهن لا يكون شاهدا إلا على نفسه، خلاف
قول عيسى بن دينار وقول سحنون في سماع ابن القاسم، وقول ابن القاسم في أول
رسم العرية، من سماع عيسى إن الراهن مخير بين أن يفتك الرهن بقيمته، أو
يتركه بما فيه، وخلاف ظاهر ما في المدونة، وما في أول سماع ابن القاسم من
قول مالك: إن الراهن يلزمه أن يفتك الرهن بقيمته، فيتحصل في المسألة ثلاثة
أقوال: أحدها قول مالك: إن الراهن يلزمه افتكاك الرهن بقيمته، والثاني: إنه
مخير بين أن يكون يفتكه بقيمته، أو يسلمه، وهو قول سحنون وعيسى بن دينار
وروايته عن ابن القاسم. والثالث إنه مخير بين أن يفتكه بما حلف عليه
المرتهن، أو يسلمه، وكلا هذين القولين: الثاني والثالث، قد تؤولا على ما في
الموطأ. وأما قول أصبغ: إن القول قول الراهن فيما رهن فيه الرهن، إذا وضع
بيد أمين، فهو دليل ما في الموطأ خلاف المشهور في المذهب الذي تدل عليه
ظواهر الروايات في المدونة وغيرها. وقد نص على ذلك ابن المواز في كتابه
فقال: إن القول فيه قول المرتهن، وإن وضع بيد أمين. وحكى ذلك إسماعيل
القاضي عن مالك في أحكام القرآن. وهو القياس، إذ لا فرق في كونه دليلا على
صدق المرتهن، بين أن يكون في يديه، أو على يدي عدل، ويلزم على قياس قول
أصبغ أن يكون من حق المرتهن الرهن، أن يكون على يديه، ليكون له شاهدا وإن
كره ذلك الراهن، خلاف ما مضى في رسم الرهون من سماع عيسى. وبالله التوفيق.
[مسألة: يرهن الرجل أمته ولها ولد صغير]
مسألة قال يحيى: قال ابن القاسم: وسمعت مالكا كره أن يرهن الرجل أمته ولها
ولد صغير، لا يجوز له أن يفرق بينهما، وينهى عن ذلك. قال يحيى: وسألت عنه
ابن وهب فلم ير به بأسا.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول على هذه المسألة مستوفى في رسم شك في طوافه
الثاني من سماع ابن القاسم، وفي رسم الأقضية الثالث
(11/97)
من سماع أشهب فلا معنى لإعادة شيء من ذلك.
وبالله التوفيق.
[يرتهن الرهن بحق له على أن يضمن له رجل ما نقص الرهن من حقه]
ومن كتاب يشتري الدار والمزارع وسئل عن الرجل
يرتهن الرهن بحق له على أن يضمن له رجل ما نقص الرهن من حقه، فحالت
الأسواق حتى قل ثمن الرهن جدا، أو دخله عيب أعطبه أو نقصه نقصانا فاحشا أو
هلك، ماذا يضمن الحميل للمرتهن؟ قال: إن هلك الرهن بعطب أصابه من مرض أو
مات، ضمن الحميل جميع الحق، وكذلك يضمن ما دخله من النقصان، قل أو كثر كان
ذلك النقصان من عيوب حدثت به، أو حوالة الأسواق.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، إنه إذا ضمن ما نقص الرهن من حقه، إنه ضامن
لما نقص من حقه إذا بيع الرهن، ولكل ما أصاب الرهن، ولا اختلاف في ذلك.
وقد مضى تحصيل القول في هذه المسألة في أول رسم من سماع ابن القاسم فلا
معنى لإعادته. وبالله التوفيق.
[يسأل الرجل سلفا ويأتيه برهن مما يغاب عليه ليدفعه إليه]
ومن كتاب المكاتب قال وسألته عن الرجل يسأل
الرجل سلفا ويأتيه برهن مما يغاب عليه ليدفعه إليه، فيقول له
المستسلف: ضع رهنك عندي وعد إلي غدا أدفع إليك ما سألتني من السلف، فإذا
غدا إليه ليقتضي ما وعده، وجد الرهن قد هلك عند الذي قبضه، أتراه له. ضامنا
أو يكون مؤتمنا فيه؟ قال: بل يضمنه، وذلك أنه إنما أخذه على حال
(11/98)
الاستيناف، فما أراد أن يسلفه، ولم يؤتمن
عليه.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأنه إنما دفعه إليه، ليكون عنده
رهنا له، فيما وعده به من السلف، وهو أبين في الضمان، من مسألة كتاب تضمين
الصناع من المدونة، في الصانع يفرغ من عمل الثوب، فيقول لصاحب الثوب: خذه،
فلا يأتي حتى يضيع عنده إنه ضامن له على حاله.
[يرتهن الثمرة فتهور البئر]
ومن كتاب الأقضية قال: وقال ابن القاسم في الذي يرتهن الثمرة، فتهور البئر،
إن إصلاحه على الراهن حتى تتم الثمرة ويتم الرهن لصاحبه، قيل له: فإن أبى
أن يصلح، قال: يجبر على ذلك إن كان له مال، فإن لم يكن له مال، نظر، فإن
رأى أن يبيع بعض الأصل خير له، بيع منه ما يصلح به بئره، فإن تطوع المرتهن
في بنيانها، فإن رأى أن تطوعه خير لرب الأرض، قيل للمرتهن: إذا تطوعت فابن
وأنفق، ويكون الأصل رهنا لك بالذي تنفق في البئر، قيل له: فبماذا يطلب
الراهن، أبما أنفق بعينه أو بقيمته ما وضع من الجص والحجارة وأشباه ذلك
مقلوعا أو قيمته قائما؟ فقال: بالذي أنفق كاملا؛ لأنه كالسلف على الراهن.
قال محمد بن رشد: قوله: إن الراهن يجبر على إصلاح البئر حتى تتم الثمرة
ويتم الرهن لصاحبه، إلى آخر قوله، خلاف ما في المدونة إن
(11/99)
الراهن إذا أبى أن يصلح البئر، كان للمرتهن
أن يصلحها ليحيى رهنه، ولا يرجع بذلك على الراهن، وتكون نفقته في الرهن
مبدأة على الدين، فإن وفى الرهن بالنفقة والدين، وفضل منه فضل، كان للراهن،
وإن لم يكن في الرهن إلا مقدار النفقة، رجع المرتهن بذمته على الراهن، وإن
لم يف الرهن بالنفقة لم يرجع على الراهن بما بقي له من نفقته، قال أشهب:
ويكون أولى بماء البئر، حتى يعطيه بقية نفقته، فإذا أعطاه إياها أخذ البئر
بمائها، ولم يكن له عليه بما انتفع من مائها شيء؛ لأنه كان ضامنا له
بنفقته، لو غار ماؤها ذهبت نفقته، فيكون له الماء بالضمان. فقول ابن القاسم
في المدونة: إن المرتهن إذا أنفق في إصلاح الرهن لا يرجع بشيء من ذلك على
الراهن، وإنما تكون نفقته في الرهن مبدأة على الدين، فإن لم يف الرهن بها،
لم يتبعه بالبقية، يدل على أن الراهن عنده لا يلزمه إصلاح البئر، وإن كان
له مال، خلاف رواية يحيى هذه، إن ذلك يلزمه إن كان له مال، ويأتي على مذهبه
بأن ذلك يلزمه أن المرتهن إن تطوع بإصلاحها فلم يف الرهن بنفقته في
إصلاحها، اتبع الراهن بما بقي من نفقته مع دينه، ويحتمل أن نتأول في هذه
الرواية على أن الرهن كان مشترطا في أصل البيع أو السلف، فلا يكون ذلك
اختلافا من القول. وبالله التوفيق.
[باع سلعة من رجل وارتهن عبدا فاستحق من يده]
من سماع سحنون من ابن القاسم قلت لسحنون: بلغني عنك أنك تقول في رجل باع
سلعة من رجل، وارتهن عبدا فاستحق من يده، فقلت: إن كان الراهن غره به، كان
الحق عليه كله معجلا، وهو بمنزلة ما لو كان باعه ثقة، وإن كان لم يغره كان
بمنزلة موته، أفأنت تقوله؟ قال نعم، أنا أقوله، فقلت: له: فسواء عندك أن
كان بايعه على رهن بعينه، أو بغير عينه، فقال: ليس ذلك عندي سواء، إن كان
الرهن بعينه، فهو على ما ذكرت لك، وإن كان بغير عينه، أتاه برهن آخر من
حقه.
(11/100)
قال محمد بن رشد: فوت الرهن المعين
واستحقاقه، إذا لم يغر به، بمنزلة سواء، إذا كان ذلك قبل لبعض المرتهن له،
كان بالخيار بين أن ينقض البيع، أو يمضيه برهن غيره إن طاع له بذلك
المبتاع، أو بغير رهن، وإن كان قد دفع السلعة استردها إن كانت قائمة، أو
قيمتها إن كانت فائتة. قال عبد الملك: وله إن شاء إذا فاتت بالعيوب
المفسدة، أن يجيز البيع إلى الأجل، وهو بعيد؛ لأنه يكون على هذا مخيرا بين
عشرة نقدا وخمسة عشر إلى أجل، وإن كان ذلك بعد قبض المرتهن له كانت مهيبته
منه ولم يكن له على الراهن شيء، وأما إذا غره به، فاستحق من يده بعد قبضه،
ففي ذلك اختلاف. قال سحنون في هذه الرواية: يعجل للمرتهن حقه بمنزلة ما لو
باعه. وقال عبد الملك يكون عليه رهن مثله.
قال محمد: فإن لم يفعل، رجع في سلعته. إن كانت قائمة، أو قيمتها إن كانت
فائتة، إلا أن يشاء أن يجيز البيع بلا رهن. وفي تخييره في إمضاء البيع إذا
فاتت السلعة بعد، على ما تقدم، وأما إن استحق من يده قبل قبضه، فعلى ما
تقدم، إذا لم يغره به، إذ لا فرق في استحقاقه قبل قبضه بين أن يغر منه أو
لا يغر. وبالله التوفيق.
[يرتهن السلعة منه بحق له عليه إلى أجل ويشهد
له على ذلك]
من مسائل نوازل سئل عنها سحنون قيل لسحنون: أرأيت الرجل يرتهن السلعة من
رجل بحق له عليه إلى أجل، وأشهد له على ذلك الحق إلى أجله، ودفع الرهن
إليه، فلما حل الأجل قام طالب الحق بحقه، فألفى الرهن بيد المرتهن، وزعم
أنه دفع إليه الحق وأخذ رهنه، ويقول: لم يكن ليعطيني الرهن إلا بقبض الحق،
وقد بريت إليه بحقه، ورأيت قبض الرهن براءة لي، فذلك منعني من الإشهاد على
الدفع، وصاحب الحق يقول؛ سرقه مني أو اختلسه من يدي، أو أعرته
(11/101)
إياه، أو أخذه مني على أن يأتيني بالحق فلم
يفعل، فإن القول قول المرتهن بجميع ما ذكر من العذر، إذا كان قيامه
ومطالبته بحدثان حلول الأجل، وفي فوره مع يمينه، فإن نكل حلف الراهن وبرئ
وهو عندي مثل الصناع يحملون الأمتعة للناس، ويدفعونها إليهم، ثم يقومون
يطلبون الأجر. فقول أصحابنا وقولنا: إن كان قيامهم بحدثان دفعها إلى
أربابها بالأيام القليلة صدقوا، وكان القول قولهم إن طلبوا ذلك بعد الرفع
بالأيام الكثيرة، والبعد والأمر المتفاوت، وما يري أن مثل ذلك من معاملتهم
ينقطع إلى ذلك الوقت، كان القول قول أهل الأمتعة، وكذلك المرتهن عندي في
تباعد قيامه بطلب الحق عند الأجل، مثل ما ذكرت في أمر الصناع: إن القول قول
الراهن مع يمينه، وهو بريء، فإن نكل حلف المرتهن واستحق، قيل: أرأيت إن
كانا لم يضربا أجلا لحلول الحق، ومسألتي على حالها، وجعلاه حالا، متى شاء
صاحب الحق أخذه فألفي الرهن بيد الراهن، وقال: دفعه إلي منذ شهر، ودفعت
إليه الحق، وقال المرتهن: دفعته إليه بالأمس، مثل الذي ذكرت لك في أول
المسألة، ثم يتوصل إلى معرفة قرب دفع المرتهن الرهن إلى الراهن، فقال: ينظر
في ذلك ويكشف عنه ويستخبر، فإن عرف كان الأمر فيه على ما فسرت لك، فإن عمي
أمرهما، فلم يعلم ذلك، كان القول قول المرتهن مع يمينه؛ لأن قيامه عليه
كحلول الأجل ساعتئذ، فإن نكل عن اليمن حلف الراهن وبرئ.
قال محمد بن رشد: في المختصر لابن عمر الحكم مثل قول سحنون فيمن دفع إلى
رجل ذهبا برهن، ثم قضاه ودفع إليه رهنه، ثم ادعى أنه لم يوفه إياه كله،
وأعطاه رهنه إلى المرتهن، يحلف ويسقط عنه ما ادعاه عليه الراهن، وساوى
سحنون في هذه الرواية بين أن يدعي المرتهن على
(11/102)
الراهن إذا ألفى الرهن بيده بعد حلول الأجل
أنه دفعه إليه ليأتيه بحقه فلم يفعل، أو أنه أعاره إياه، وأنه سرقه منه أو
اختلسه من يده، في أن القول قول المرتهن إذا كان ذلك بقرب حلول الأجل، وذلك
يفترق، أما إذا ادعى أنه دفعه إليه ليأتيه بحقه فلم يفعل، فيتخرج ذلك على
قولين، قد مضى توجيههما في رسم الشريكين من سماع ابن القاسم. وأما إذا ادعى
عليه أنه أعاره إياه، فيتخرج ذلك على ثلاثة أقوال: أحدها: إن القول قول
المرتهن، يحلف أن حقه باق عليه ويأخذه، وليس عليه أن يحلف لقد أعاره إياه،
وهو الذي يأتي على قول سحنون في هذه الرواية؛ لأنه لو أقر له بما ادعاه
عليه من أنه دفعه إليه ليأتيه بحقه، لكان القول قوله أيضا على مذهبه، إنه
لم يقبض منه حقه إذا كان بالقرب، فلا معنى ليمينه على ذلك.
والقول الثاني إنه يحلف على الوجهين جميعا، فإن نكل عن اليمين على الوجهين
جميعا، أو على أنه ما قبض منه، حلف الراهن، لقد دفعه إليه وبرئ، وإن نكل أن
يحلف لقد أعاره وقال: أنا أحلف ما قبضت حقي، لم يمكن من اليمين على ذلك،
وحلف الراهن ما أعاره إياه، وما قبضه منه إلا بعد أن وفاه حقه. أو ما قبضه
منه إلا على أن يأتيه بحقه، وأنه قد أتاه به ودفعه إليه، وهذا القول يأتي
على ما في سماع الشريكين من سماع ابن القاسم من أن القول، قول الراهن، إنه
قد أدى إليه حقه إذا أقر المرتهن أنه دفع إليه الرهن، على أن يأتيه بحقه،
وادعى أنه لم يأت به.
والقول الثالث: إن القول قول الراهن، يحلف على الوجهين جميعا، فإن نكل
عنهما جميعا أو عن أن يحلف أنه ما دفع إليه حقه، حلف المرتهن ما أخذ حقه
منه وأخذه، وإن قال: أنا أحلف لقد دفعت إليه حقه، ولا أحلف ما قبضت الرهن
على سبيل العارية، لم يمكن من اليمين على ذلك، وحلف المرتهن على الوجهين
جميعا، أنه ما دفع إليه الرهن إلا على سبيل العارية، وأنه لم يقبض حقه
ويأخذه منه، وكذلك إذا ادعى المرتهن على الراهن أنه سرق منه الرهن أو
اختلسه من يده، وكان ممن يشبه منه السرقة، والاختلاس، يدخل في ذلك الثلاثة
الأقوال،
(11/103)
التي ذكرتها في دعوى العارية، وهذا كله إذا
كان اختلافهما بالقرب، وأما إذا طال ذلك، فلا اختلاف في أن القول قول
الراهن إذا أقر المرتهن أنه دفع إليه الرهن، على أن يأتيه بحقه فلم يفعل.
وأما إذا ادعى أنه أعاره إياه، أو أنه سرقه منه أو اختلسه من يده، وهو ممن
يليق به ذلك، فالقول قول الراهن مع يمينه أنه ما سرقه منه، ولا أعاره إياه،
وأنه ما قبضه منه حتى وفاه حقه أو أنه إنما قبضه منه على أن يأتيه بحقه،
وأنه قد فعل، فإن نكل عن اليمين حلف المرتهن أنه أعاره إياه، أو أنه سرقه
منه، وما قبض منه حقه، ويأخذه منه. وأما إن كان الراهن ممن لا يليق به
السرقة والاختلاس، فلا يمين عليه للمرتهن في دعوى ذلك عليه، فإن كان ذلك
بالقرب، جرى ذلك على القولين في تصديق الراهن في الدفع، إذا أقر المرتهن
أنه دفع. إليه الرهن على أن يأتيه بحقه، وادعى أنه لم يفعل. وأما إن كان
ذلك بعد طول، فالقول قول الرهن: لقد دفع إليه حقه قولا واحدا. وأما إذا قال
المرتهن: إنه تلف له أو سرق منه، فحصل عند الراهن، فالقول قول المرتهن في
القرب، وقول الراهن في البعد، ولا يتصور في هذا عندي خلاف.
وقد مضى بيانه في أول رسم من سماع ابن القاسم من كتاب المديان.
وبالله التوفيق.
[مسألة: ارتهن الكرم فإذا كان إبان حفره أتاه
الراهن بالحفار والعمال ليحفره]
مسألة وسئل عن الرجل يرتهن الكرم، فإذا كان إبان حفره، أتاه الراهن بالحفار
والعمال ليحفره، فقال لا يحضر حفره ولا يدخل الحفار فيه، وإنما يدخل الحفار
في الكرم المرتهن، هو الذي يأمرهم أن يحفروا ويأمرهم من حيث يبدؤون، وكذلك
حرث الأرض إذا رهنت.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وهو مما لا إشكال فيه ولا
(11/104)
اختلاف؛ لأن حيازة الرهن إنما يكون بارتفاع
يد الراهن عنه وحصوله في يد المرتهن، أو في يد الأمين يقبضه للمرتهن بإذنه
أو بإذن الراهن والمرتهن، فإذا تولى الراهن حفر الكرم الرهن فلم ترتفع يده
عنه ووجب أن يبطل الرهن فيه. وبالله التوفيق.
[مسألة: رهن دارا فمات الراهن ولا مال له غير
الدار]
مسألة وسئل عن رجل رهن دارا فمات الراهن ولا مال له غير الدار، والدين يحيط
بجميع الدار، فلم يترك الميت مالا يكفن فيه، هل يكفن من الدار أم يكون من
فقراء المسلمين؟ فقال: لا يكفن من ثمن الدار، إذا كان الدين يحيط بجميع
الدار وهو من فقراء المسلمين.
قال الإمام القاضي: قد مضت هذه المسألة متكررة في سماع ابن القاسم من هذا
الكتاب، وفي كتاب الجنائز، في رسم باع غلاما منهما وهي مسألة صحيحة، لا
اختلاف فيها؛ لأن الرهن قد تعين حق المرتهن فيه، فوجب أن يكون أحق به من
الميت في كفنه، كما هو أحق به من الحي في كسوته، وكذلك بخلاف الرجل يموت
وعليه دين قد استغرق ماله، إن له أن يكفن فيما يستره من ماله من غير سرف
لأن ماله لم يحزه الغرماء، والرهن قد حازه الغرماء، ولا اختلاف في هذا
أحفظه إلا ما يروى عن سعيد بن المسيب، من أن الكفن من الثلث، فعلى قوله لا
يكفن الميت من ماله إذا استغرقه وهو شذوذ من القول. وقد مضى من القول على
هذه المسألة في كتاب الجنائز ما فيه كفاية. وبالله التوفيق.
(11/105)
[مسألة: أسلف
رجلا ورهنه عبدا ووضعه على يدي رجل]
مسألة قال سحنون: سئل مالك عن رجل أسلف رجلا سلفا ورهنه عبدا ووضعه على يدي
رجل وشرط الذي أسلف على الذي وضع الرهن على يديه أنه ضامن لما أصاب الرهن،
فهلك العبد أتراه ضامنا؟ قال: أراه ضامنا. قيل له: فإن قال له: ما نقص من
رهنك ضمنته، قال ما أراه أن يضمن الرهن، قال سحنون: قال ابن القاسم: إذا
جعل الرهن على يدي رجل واشترط صاحب الحق على الذي وضع الرهن على يديه، أنه
ما نقص من الرهن من كفاف الحق، فأنت له ضامن، فهلك الرهن في يدي الذي جعل
على يديه أنه ضامن لجميع المال.
قال محمد بن رشد: لا اختلاف في أنه إذا ضمن ما أصاب الرهن , يضمنه إن كان
عبدا فمات، وكذلك إن ضمن ما نقص الرهن من حقه، يضمنه إن مات، مع ما نقص من
الحق. وإنما الاختلاف إذا قال: أنا ضامن لرهنك، أو لما نقص من رهنك.
وقد مضى تحصيل القول في هذه المسألة في أول رسم من سماع ابن القاسم. فلا
معنى لإعادته. وبالله التوفيق.
[مسألة: عليه لرجل دين فباع له سلعة إلى أجل]
مسألة وقال سحنون عن ابن القاسم: إنه قال في رجل عليه لرجل دين. فباع الذي
عليه الدين، الذي له الدين سلعة إلى أجل، وارتهن في ثمنها الدين الذي عليه
إلى الأجل الذي باع إليه السلعة، إنه إن كان ذلك إلى الأجل الذي عليه الدين
لصاحب الدين أو أدنى، لم يكن بذلك بأس، وإن كان بيعه سلعته إلى أجل، أبعد
من
(11/106)
أجل الدين الذي عليه، فاشترط أن يكون ما
عليه من الدين رهنا في يديه إلى الأجل الذي باع إليه سلعته، لم يحل ذلك؛
لأنه يصير بيعا وسلفا؛ لأنه حين اشترط حبس ما عليه من الدين بعد حلول أجله،
إلى حلول أجل دينه، فكأنه سلف من الذي له الدين أسلفه إياه، على أن باع منه
سلعته إلى الأجل الذي سمى، وهذا تفسير لقول مالك: وإن كان دين المشتري قد
حل فاشترى سلعته من البائع على رهن البائع منه في ثمنها دينا للمشتري عليه،
لم يحل ذلك أيضا، ودخله البيع والسلف، إلا أن يوضع ذلك على يدي عدل إلى
حلول أجل الدين، فيجوز ذلك. وهذا تفسير قول مالك.
قال محمد بن رشد: هذا بيّن على ما قاله: إنه إذا باع منه سلعته بدين إلى
أجل على أن يرهن في ذلك دينا له عليه حالا أو إلى أجل، دون الأجل الذي باع
السلعة إليه، فلا يجوز؛ لأنه يدخله البيع والسلف، إلا أن يشترط وضع الدين
عليه على يدي عدل إلى أن يحل الدين الذي له. وقد اختلف إن وقع البيع على
هذا، فقيل: إنه يفسخ على كل حال، فإن فات كانت فيه القيمة بالغة ما بلغت،
وقيل إنه يفسخ إلا أن يرضى البائع بإسقاط ما اشترط من ارتهان الدين الذي
عليه أو بأن يوضع على يدي عدل، إن كان حالا أو عند حلول أجله، إن لم يكن
حالا بفور ذلك إن كان الدين حالا أو عند حلول الأجل إن كان مؤجلا قبل أن
ينتفع لبقاء الدين في ذمته. وقيل: إن البيع يجوز، إن لم يعثر عليه بفور
ذلك، إذا رضي بإسقاط الشرط، أو وضع الدين على يدي عدل، فإن لم يرض بذلك فسخ
البيع، إن كانت السلعة قائمة، وإن فاتت كان فيها الأقل من القيمة أو الثمن.
وبالله التوفيق.
[مسألة: بينهما أرض فرهن أحدهما نصيبه من رجل
آخر فأعسر بالثمن]
مسألة قال سحنون وسئل مالك عن رجلين كانت بينهما أرض فرهن
(11/107)
أحدهما نصيبه من رجل آخر، فلما حل الحق
أعسر الرجل بالثمن، فقال صاحب الحق: بعني نصيبك، قال له الذي عليه الحق: ما
ينفعك، إن بعتك، أخذه شريكي بالشفعة، فأنا أتكارى منك نصيبك سنين، وأقاصك
بما أسلفتك حين أستوفي حقي. قال: لا خير في هذا.
قال الإمام القاضي: إنما لم يجز هذا؛ لأنه أخذ من دينه شيئا لا يتعجل قبضه،
فدخله الدين بالدين، وقد قيل إن ذلك جائز؛ لأنه لم يتحول من دينه إلا إلى
أرض بعينها، يستوفي حقه من كرائها، فكان قبض ما يستوفي منه الكراء، كقبض
الكراء. وهذا القول قائم من كتاب الزكاة الأول من المدونة في قوله: إن
الذمي إذا أكرى إبله بالمدينة، راجعا إلى الشام، إنه يؤخذ منه العشر
بالمدينة، وإن لم يستوف المكري بعدما اكترى لأنه جعله يقبض ما يستوفي منه
ما اكترى في حكم القابض لما اكترى، وهذا بين. ولو اكترى المرتهن النصيب
الذي ارتهن من غيره فأحاله الراهن عليه بحقه لجاز ذلك. وبالله التوفيق.
[مسألة: ادعى حقا فقضي له به فسأله المقضي عليه
أن يجعله له رهنا]
مسألة قال سحنون عن أشهب في رجل ادعى قبل رجل حقا فقضي له به عليه، فسأل
المقضي عليه المقضي له أن يؤخره ويجعل في يديه رهنا حيوانا ففعل، فمات
الحيوان عند المرتهن، فأقر المقضي له، إن دعواه وما قضي له به كان باطلا.
قال أشهب: هو ضامن للرهن؛ لأنه أخذ منه رهنا في غير حق، فكأنه غصبه إياه.
قال محمد بن رشد: قول أشهب في هذه المسألة: إن المرتهن ضامن للحيوان الذي
ارتهن صحيح؛ لأنه قد أقر على نفسه بالعدو على الراهن فيها في ارتهانه إياها
منه دون حق وجب له عليه، ولو قامت للراهن بينة على
(11/108)
بطلان ما ادعاه قبله لما أن يلزمه ضمانها
إذ لم يأخذها على الضمان، ولا ادعاها ملكا لنفسه، بخلاف الأمة تكون بين
الشريكين، فيجحد أحدهما نصيب صاحبه، ويدعيها ملكا لنفسه، فتموت عنده، ثم
يقيم شريكه البينة أنها بينهما، فقيل: إنه يضمن، وهو ظاهر ما في آخر كتاب
الشركة من المدونة إذا لم يفرق في ذلك بين الحيوان وغيره. وروى أصبغ عن ابن
القاسم أنه لا ضمان عليه في الحيوان. وفي رسم قطع الشجر من سماع ابن القاسم
من كتاب الدعوى أنه لا ضمان عليه فيمن مات من أولادها، وهو بين؛ لأن الغاصب
للأمة يضمن ما مات من أولادها عند ابن القاسم، خلاف قول أشهب إنه ضامن
لقيمة الأولاد يوم ولدوا، كما يضمن الأم إذا ماتت يوم غصبها، ولم يتكلم في
الرواية على ضمان نصف الجارية للشريك لو ماتت، فقيل: إن مراده فيها إنه
ضامن لذلك على ظاهر ما في آخر كتاب الشركة من المدونة. وقيل: إنه لا ضمان
عليه فيها على رواية أصبغ عن ابن القاسم. وهذا الاختلاف عندي إذا لم يمر
الشريك بالغصب ولا قامت به عليه بينة، وإنما قامت البينة على أنها بينهما،
يفيد هذا ما وقع في رسم حمل صبيا من سماع عيسى، من كتاب الاستحقاق في الرجل
يدعي على الرجل أنه استودعه أمة أو غصبه إياها، فيجحد ذلك ثم يموت، ويقيم
البينة عليه بعد موتها بالإيداع أو الغصب، إنه ضامن. وبالله التوفيق.
[كان عنده غلام فرهنه ثم ادعى بعد ارتهانه أنه
ابنه ثم مات]
من سماع عبد الملك بن الحسن وسؤاله ابن القاسم قال عبد الملك: سئل ابن
القاسم وأنا أسمع عن رجل كان عنده غلام فرهنه، ثم ادعى بعد ارتهانه أنه
ابنه، ثم مات، قال: يلحق به، ويكون ابنه، ويبيعه صاحب الحق بماله، إن كان
له مال، وإن لم يكن له مال، كان دينا يتبع به، متى ما ظهر له على
(11/109)
مال أخذ ماله، قال الإمام القاضي هذا كما
قال، وهو صحيح على أصولهم في أن لحوق النسب يرفع التهمة، فهو بخلاف الرجل
يكون عنده العبد، فيرهنه ثم يقر بعد أن رهنه أنه حر فلا يقبل قوله، إلا أن
يكون له مال، فإن كان له مال، عجل للمرتهن حقه، وإن كان لم يحل. والله
الموفق.
[مسألة: ترتهن من زوجها خادما له في حق لها
عليه]
مسألة وسألت ابن وهب عن المرأة ترتهن من زوجها خادما له في حق لها عليه،
فتقيم في بيتها أعواما، فلما اقتضت من زوجها دينها، أراد أن يحاسبها بأجرة
خادمه، فيما عملت لها، فقالت: إن الخادم كانت في عملي وعملك، وكان عليك أن
تخدمني خادما، فكيف يكون له أجرها؟ وقال الزوج: إنك لم تسلني الخدمة،
فتلزمني لك الخدمة، إذ سألتنيها، فإذا تركت طلب ذلك مني، فهي موضوعة عني،
فهل يكون عليها أجرة الخدمة؟ فقال: إن كانت الخادم إنما تعمل للمرأة خاصة،
أو تستخدمها خاصة، مثل أن تشغلها بالعمل لنفسها، مثل الغزل والصناعة، أو
خارجا من بيتها، فعليها الأجرة له، وليس للمرتهن استعمال الرهن ولا غلته
دون صاحبه، وإن كانت الخادم إنما كانت تخدم خدمة البيت معهما بحال ما كانت
قبل الرهن، وما أشبه ذلك، فلا أري ذلك شيئا، ولا أرى له في ذلك أجرة. والله
أعلم وقال أشهب لا أجرة له.
قال محمد بن رشد: تفرقة ابن وهب في إيجاب أجرة الخادم للزوج الراهن، بين أن
تعمل لها خاصة في غير خدمة بيتها، وبين أن تعمل لها فيما، هو من خدمة
بيتها، صحيح لا ينبغي أن يختلف في ذلك، لقول
(11/110)
النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الرهن ممن
رهنه، له غنمه، وعليه غرمه» لأن إجارته من غنمه. ولقوله - عَلَيْهِ
السَّلَامُ - «الرهن محلوب ومركوب بنفقته» معناه عندهم: أن حلبه وأجر ركوبه
للراهن، كما أن عليه نفقته. فقول أشهب لا أجرة له، ليس بخلاف لقول ابن وهب؛
لأن معناه: إنما هو لا أجرة له فيما عملت لها مما هو من خدمتها وعمل بيتها،
وذلك بين على القول بأن على الزوج أن يخدم زوجته، وأما على القول بأن عليها
الخدمة الباطنة، من الكنس والفرش والخبز والطبخ واستقاء الماء، إذا كان في
داخل الدار، فالقياس أن يحلف أنه لم يتركها تخدمهما إلا على أن يتبعها
بأجرته، ويكون ذلك له، ويشبه ألا يكون ذلك له مراعاة للخلاف، وأما ما عملت
لها من غير عمل بيتها، فللزوج في ذلك الأجرة دون يمين. وقد قال ابن دحون:
إن الأجرة لا تجب لها إلا بعد أن يحلف أنه ما أباح لها خدمة الخادم، وهو
بعيد، إلا أن تدعي ذلك عليه. وفي إجازة ابن وهب: الرهن في الخادم وإن كانت
في البيت معها في خدمتها، اختلاف قد مضى تحصيله في رسم الشريكين من سماع
ابن القاسم فلا معنى لإعادته. وبالله التوفيق.
[يبيع البيع ويرتهن الدار أو العبد ويشترط
الانتفاع به إلى أجل معلوم]
من سماع أصبغ وسؤاله ابن القاسم من كتاب البيع والصرف قال أصبغ: سئل ابن
القاسم عن الذي يبيع البيع ويرتهن الدار أو العبد أو الثوب، ويشترط
الانتفاع به إلى أجل معلوم، قال: لا بأس به، قيل له: فإن كان ذلك إلى أبعد
من أجل الرهن أو قبله، قال: نعم لا بأس به.
قال محمد بن رشد: إجازته في هذه الرواية، أن يرتهن في أصل البيع دارا أو
عبدا أو ثوبا، ويشترط الانتفاع بذلك إلى أجل معلوم، هو مثل
(11/111)
قوله في المدونة خلاف قول مالك فيها من أن
ذلك يجوز في الرباع والأصول، ولا يجوز في الحيوان والثياب، إذ لا يدري كيف
يرجع ذلك؟ واحتج ابن القاسم عليه في قوله: إذ لا يدري كيف يرجع ذلك؟ بأن
الإجارة في ذلك جائزة، وإن لم يدر كيف ترجع، ولا حجة على مالك في ذلك؛ لأنه
لم يكره ذلك من ناحية الغرر في الإجارة، كما ظن ابن القاسم، وإنما كرهه من
ناحية الغرر في الرهن، إذ لا يدري ما تكون قيمته بعد استعماله، قال أبو
إسحاق التونسي: فيأتي على قوله في هذه المسألة: إنه لا يجوز رهن الغرر، مثل
الثمرة التي لم يبد صلاحها والزرع الذي لم يبد صلاحه في أصل البيع خلاف
ظاهر الروايات في ذلك، في المدونة وغيرها وكره ذلك مالك في المدونة ولم يقل
ماذا يكون الحكم فيه إذا وقع، ويتخرج في ذلك أربعة أقوال: أحدها: إنه يفسد
البيع والرهن، فلا يكون أحق به من الغرماء، والثاني: إنه يفسد البيع ولا
يبطل الرهن، فيكون رهنا بالأقل من القيمة أو الثمن، والثالث: إنه لا يفسد
البيع ولا الرهن، وإنما يكره ذلك ابتداء، فإذا وقع نفذ ومضى، وهو الظاهر من
مذهب مالك في المدونة، والرابع: إنه يصح البيع ولا يفسد، ويبطل الرهن، فلا
يكون أحق به من الغرماء. وما قاله أبو إسحاق التونسي من أنه يأتي على قياس
قول مالك في هذه المسألة، إنه لا يجوز رهن الغرر، مثل الثمرة التي لم يبد
صلاحها في أصل البيع ليس بصحيح، والصواب جواز الثمرة التي لم يبد صلاحها في
أصل البيع وفيما بعده، والفرق بين المسألتين، أن الغرر في هذه المسألة في
الرهن إنما كان غررا فيما شرطاه فيه من الشرط الفاسد، وذلك مثل أن يشترط
أنه إن جاءه بحقه إلى أجل كذا وكذا، وإلا فالرهن له بما فيه، أو مثل أن
يشترط أنه رهن بيده إلى أجل كذا وكذا، فإذا انقضى الأجل، خرج الرهن من أن
يكون رهنا وما أشبه ذلك. والثمرة التي لم يبد صلاحها، لا صنع لهما فيها،
ولا يقدران على رفع الغرر عنها. وهذا هو المشهور في المذهب، أن ارتهان
الثمرة التي لم يبد صلاحها جائز في أصل العقد. وفي المبسوطة لمالك من رواية
ابن القاسم عنه أن ذلك
(11/112)
لا يجوز، وأما ارتهان ما في بطون الإناث،
فلا يجوز على ما في كتاب الصلح من المدونة. وأجاز ذلك أحمد بن عيسى، وهذا
الاختلاف إنما هو إذا كان الارتهان في أصل البيع، وأما ارتهان ذلك بعد عقد
البيع، فلا اختلاف في جوازه. وحكى عبد الحق عن الشيخ أبي الحسن، أنه قال:
إنما كره مالك في الثياب؛ لأنها تضمن في الرهن، ولا تضمن في الإجارة، فكره
اجتماعهما للشك فيما يكون الحكم فيها لو ادعى المرتهن تلفها، قال: وأما
الحيوان، فقد اختلف قوله في وجوب ضمانها على المرتهن إذا ادعى تلفها، فلعل
قوله في هذه المسألة على قوله في أن المرتهن ضامن للحيوان، وليس قوله
بصحيح؛ لأن مالكا قد بين أنه إنما كره ذلك من أجل أنه لا يدري كيف يرجع
إليه الدابة أو الثوب؟ ولو ادعى المرتهن تلف الثوب لوجب أن يغلب في ذلك حكم
الرهن، فلا يصدق في تلفه. وقد قال أبو إسحاق التونسي: إن الذي ينبغي في ذلك
أن ينظر إلى القدر الذي يذهب منه بالإجارة، مثل أن يقال: إذا استؤجر شهر،
أينقصه الربع؟ فيكون قدر ربعه غير مضمون، ولأنه مستأجر، وثلاثة أرباعه
مضمونة؛ لأنه مرتهن، وليس ذلك بصحيح؛ لأنه لم يستأجر منه ربع الثوب، وارتهن
ثلاثة أرباعه، فيكون ما ذكر هو الحكم فيه. وإنما ارتهن جميعه، واستأجر
جميعه، فإما أن يحكم له في دعوى الضياع بحكم الإجارة، وإما أن يحكم له بحكم
الرهن. والصواب ما ذكرناه، من أن يغلب فيه حكم الرهن، فلا يصدق فيما ادعى
من تلفه، ويغرم قيمته على ما هو عليه يوم يحكم عليه بضمانه، فإن ادعى ضياعه
بقدر ارتهانه إياه قبل استعماله، غرم قيمته على ما كان عليه يوم رهنه إياه،
وسقط عنه ذلك القدر من الإجارة، ونظر ذلك القدر كم هو من الجملة؟ فيرجع
بجزئه من قيمة ثوبه المبيع، أو يشاركه فيه إن كان قائما على اختلاف في ذلك
لضرر الشركة، وإن ادعى ضياعه بعد انقضاء الأجل الذي شرط الانتفاع به إليه
ضمن قيمته ناقصا على ما يقدر أن الاستعمال نقصه، وتلزمه الإجارة، ولا يصدق
إن ادعى بعد حلول الأجل أنه تلف قبل ذلك على مذهب ابن القاسم لأنه يقول:
(11/113)
إذا ادعى المستأجر ضياع الثوب المستأجر،
حين حل الأجل وأن ضياعه كان قبل ذلك لم يصدق في إسقاط الإجارة عنه، ولزمه
جميع الإجارة، إلا أن تقوم له بينة على الضياع، أو على التفقد والطلب،
وخالفه في ذلك غيره. وبالله التوفيق.
[أخذ الزوج الحلي فرهنه ثم أعلم الزوجة فحسبته
ثم سكتت ومات الزوج]
ومن كتاب البيوع وقال في امرأة أخذ زوجها لها حليا فرهنه، ثم أعلمها بذلك،
وقال لها: أنا أفكه، قال فحسبته قال: فسكتت حين مات الزوج، ثم طلبته، قال:
تحلف بالله ما رضيت، ولا كان سكوتها تركا لذلك، وتأخذه حيث وجدته، ويتبع
المرتهن مال الميت، قال أصبغ: وذلك إذا عرف أن الشيء شبيها أو ثبتت عليه
بينة.
قال محمد بن رشد: في بعض الكتب في هذه المسألة مكان فحسب فخشيته، فعلى
رواية من روى فحسبته، تأتي هذه الرواية، خلافا لما تقدم في رسم خرجت من
سماع عيسى؛ لأنه لم يوجب لها هناك الرجوع إذا طال الأمر بعد علمها، وأما
على رواية من روى فخشيته، فليست بمخالفة لها: لأنها تعذر بالخوف على نفسها
من زوجها، ويكون لها أن تأخذ حقها بعد يمينها أنه لم يكن سكوتها حتى مات
زوجها إلا لخوفها إياه على نفسها، وإن لم يعرف ما ادعته من مخافتها إياه،
فذلك على ما يعلم من حالها معه في غلظ الحجاب والشدة والسطوة، فإن جهل ذلك،
فالقول قولها.
وقد مضى القول في هذه المسألة في الرسم المذكور من سماع عيسى فلا معنى
لإعادته. وبالله التوفيق.
(11/114)
[ارتهنت خادما من زوجها ببقية صداقها قبل
الدخول]
ومن كتاب الكراء والأقضية قال أصبغ: وسألت ابن القاسم عن امرأة
ارتهنت خادما من زوجها ببقية صداقها قبل الدخول،
وأقامت أشهرا بعد ارتهانها إياها، ثم دخلت على زوجها ودخلت بالخادم معها
بيت زوجها، فكانت تخدم، فتعدى عليها الزوج، فسرقها، فباعها، قال: بيعه
جائز، وذلك أن الرهن قد انفسخ، قلت: وترى دخولها بها على زوجها، وإنما دخلت
بها تخدمها ردا للرهن؟ قال: نعم، حتى يضعها عند غيرها، أرأيت لو ارتهنتها
وهي تحته، فتركتها معه في البيت أذلك رهن؟ ليس ذلك برهن، قلت: إنها حازتها
قبل الدخول، قال: قد ردتها. انظر كل أمر إذا ابتدئ فلا يكون ذلك حوزا، فهو
إذا فعل بعد حوز، فدخله فوات، فقد انفسخ الحوز، وذلك مخالف للصدقة والهبة،
إذا وهب الزوجان، كل واحد منهما لصاحبه، وتصدق عليه بخادم، فدفعها إليه،
فكانت في البيت تخدمهما، فذلك حوز لكل واحد منهما. وأصل هذا من قول مالك:
في أن من حبس حبسا فقبضه المحبس عليه، وحازه سنين، ثم أسكن فيه المحبس، فإن
ذلك يبطل حبسه، والصدقة مثل ذلك، وأن من ارتهن رهنا فقبضه وحازه ثم رده إلى
صاحبه، فإن ذلك يبطل رهنه، ويفسده ويفسخه. وقد قال لي مالك في امرأة ارتهنت
من زوجها خادما فكانت معها في البيت تخدمها وتخدمه: إن ذلك ليس برهن، حتى
يخرجها. وقال أصبغ: كله المسألة كلها، وهو رأي، وهي صحيحة جيدة - إن شاء
الله - مع الاتباع لأهل العلم.
(11/115)
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى تحصيل
القول فيها في رسم الشريكين من سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادتها. وبالله
التوفيق.
[مسألة: الرهن إذا لم يصفه الراهن ولا المرتهن]
مسألة قال أشهب في الرهن إذا لم يصفه الراهن ولا المرتهن، قال: فليس له
شيء، يعني الراهن، إنه لا شيء له ولا للمرتهن، وأن الرهن بما فيه. قال
أصبغ: وذلك إذا عمي أمره، وكذلك الحديث: «الرهن بما فيه» إذا هلك الرهن
وعميت قيمته وكذلك قال ابن القاسم.
قال محمد بن رشد: هذا كما قالا، وهو مما لا اختلاف فيه في المذهب، إن الرهن
يذهب بما فيه إذا ادعى المرتهن هلاكه، وهو مما يغاب عليه وعميت قيمته، ولم
يصفه هو ولا الراهن، وحمل الحديث «الرهن بما فيه» ، على هذا الموضع على ما
حمله عليه أصبغ حسن. وأما إذا عرفت قيمته، فإنهما يترادّان فيما بينهما،
وكذلك إن اختلفا في صفته، يترادان على ما يحلف عليه المرتهن، وإن قامت بينة
على تلفه، فمصيبته من الراهن وقد روى عن مالك أن ضمانه من المرتهن، وإن
قامت البينة على تلفه، ويتقاصان فيما بينهما. وأما ما لا يغاب عليه من
الحيوان والأصول، فالمصيبة فيه من الراهن، والقول قول المرتهن فيما يغاب من
الحيوان فيما يدعي من موته، أو إباقه مع يمينه، إلا أن يتبين كونه فيما
يدعي في ذلك من الموت؛ إذ لا يخفى ذلك إذا كان في جماعة. هذا تحصيل ما في
المذهب في هذه المسألة. ومن أهل العلم من رأى أن الرهن يذهب بما فيه إذا
تلف، كان مما يغاب عليه أو مما لا يغاب عليه، قامت بينة على تلفه أو لم
تقم، على ظاهر
(11/116)
قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «الرهن بما فيه» ومنهم من رأى ضمانه من المرتهن على كل حال،
ومنهم من قال: يذهب بما فيه إذا كانت قيمته مثل الدين أو أكثر، وإن كانت
قيمته أقل من الدين، رجع المرتهن على الراهن ببقية حقه. ومنهم من رأى ضمانه
من الراهن على كل حال؛ لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الرهن ممن
رهنه له غنمه وعليه غرمه» كان مما يغاب عليه أو مما لا يغاب عليه. وهو مذهب
الشافعي. والصحيح ما ذهب إليه مالك من الفرق بين ما يغاب عليه وبين ما لا
يغاب عليه، ومن الفرق فيما يغاب عليه بين أن تقوم بينة على هلاكه، أو لا
تقوم. وبالله التوفيق.
[مسألة: وضع على يديه رهن وتحمل به من جميع ما
نقصه إلا الموت]
مسألة قال أصبغ: سألت ابن القاسم عن الرجل يوضع على يديه رهن ارتهنه رجل،
وتحمل به للذي ارتهنه من جميع ما نقصه مما ارتهنه به إلا الموت، وكان
حيوانا، فمات، قال: ينظر إلى قيمته يوم رهنه، فإن كان فيه كفاف لما تحمل
به، فلا شيء عليه، وإن عجز عما تحمل به غرم فضل ذلك الذي تحمل له، واتبع
بذلك الغريم، وكانت قيمته للذي ارتهنه على الغريم، ولا يلزم المتحمل شيء
إلا بعد قيمته يوم ارتهنه. قال أصبغ: لا بل قيمته يوم يموت، ليس يوم تحمل؛
لأنه الذي كان ينظر فيه من أمره، ويقضي به عنده، ولو بقي الرهن ولم يفت،
وهو الذي يراد بالحمالة، ولو كان إلى قيمته يوم ارتهنه لم يؤخذ، فهو على
قيمته يوم يموت، حتى يشترط قيمته يوم الحمالة والرهن، اشتراطا ممن يستثني
ذلك لنفسه منها، مثل أن يستثنيه المرتهن، مخافة النقصان، والعيوب تدخله،
والجناية والجروح، أو ما يستثنيه الضامن، مخافة الزيادات والنماء، فذلك
(11/117)
له، وهو رأي.
قال محمد بن رشد: لكلا القولين وجه من النظر، وقول أصبغ أظهر؛ لأن الرهن
على ملك الراهن فكما يكون على الحميل قيمته يوم يموت إذا ضمن قيمته إن مات،
فكذلك تسقط عنه قيمته يوم يموت إذا ضمنه ما نقصه من حقه، إلا أن يموت. ووجه
قول ابن القاسم، أن الظاهر مما التزمه أن يغرم له ما نقصه من حقه بعد قيمته
يوم التزامه؛ لأنه على هذا يكون قد التزم معلوما، وحمل التزامه على المعلوم
أولى من حمله على المجهول.
وقد مضى في أول رسم من سماع ابن القاسم من القول على هذه المسألة ما فيه
بيان لهذا. وبالله التوفيق.
[يرتهن الحائط فيضعه على يد أجيره في الحائط أو
مساقيه]
ومن كتاب القضاء المحض قال أصبغ: سمعت ابن القاسم يقول في الذي يرتهن
الحائط، فيضعه على يد أجيره في الحائط أو مساقيه: إنه ليس برهن حتى يحوزه
ويجعله على يد غير من في الحائط.
محمد بن أحمد: هذا بين على ما قال؛ لأن المرتهن إذا وضع الحائط الذي ارتهنه
بيد أجير الرهن أو مساقيه، فليس برهن مقبوض، إذ لم يرتفع يد الراهن عنه
بكونه في يد أجيره أو مساقيه. وهذا مثل ما في المدونة فيمن أجر عبده ثم
وهبه إن المؤاجر ليس بقابض للموهوب له، وكذلك وكيل الواهب، لا يكون حائزا
للموهوب له. وقد وقع في سماع ابن القاسم من كتاب الرواحل والدواب، ومن كتاب
المديان والتفليس في رسم مساجد القبائل ما يعارض هذه المسألة. وهو قوله: إن
للجمال أن يرهن المكتري فيما تسلف منه ما تحته من الجمال، وتحت غيره من
المكترين، وهو بعيد. وقد مضى القول عليه في السماع المذكور، من الكتابين.
وبالله التوفيق.
(11/118)
[ارتهن رهنا
بألف دينار فلما جاء ليقضيه الألف أخرج إليه ثوبا ثمنه مائة دينار فقال هذا
رهنك]
من نوازل سئل عنها أصبغ قال أصبغ في رجل ارتهن رهنا من رجل بألف دينار فلما
جاء ليقضيه الألف ويدفع إليه رهنه، أخرج إليه ثوبا ثمنه مائة دينار، فقال:
هذا رهنك، وقال الراهن: لا والله ما هذا رهني، وما كنت أنت لتأخذ رهنا بألف
دينار، وهو لا يساوي إلا مائة دينار، وما أشبه ذلك، ولقد كان رهني الذي
رهنتك بهذه الألف ثوبا وشِيًّا صفته كذا وكذا صفة يشبه مثلها، وأن يكون
يسوى الألف أو نحوها. قال أصبغ: إذا تصادقا فيما رهن به الرهن، واختلفا في
الرهن على فعل هذين، حتى يتباين هكذا ويتفاوت، رأيت القول قول الراهن؛ لأن
قوله يشبه أن يكون مثل هذا الثوب الذي ادعى برهن، بألف. وقد أقر المرتهن
أنه ارتهن منه الثوب بألف، وجاء بثوب لا يساوي إلا مائة دينار، فقد تبين
كذبه فيما زعم، فالقول قول الراهن؛ لأنه ادعى ما يشبه، فله أن يحلف على صفة
ثوبه الوشي، ويحاسبه بقيمته، وسقط عنه قول المرتهن؛ لأنه قد تبين كذبه حين
ادعى ما لا يشبه، وكذلك كل متداعيين في الرهن والبيوع، إذا ادعى أحدهما ما
يشبه، وادعى الآخر ما لا يشبه، فالقول أبدا قول الذي يشبه، وسقط قول الذي
لا يشبه. قال أصبغ: وقد قال لي أشهب: إن القول قول المرتهن، وإن لم يسو إلا
درهما، وهو باطل، ليس شيئا، وهو إغراق في العلم.
قال الإمام القاضي: الأشبه في هذه المسألة، ألا ينظر فيها إلى دعوى
الأشباه، على ما قاله أشهب، وهو مذهب ابن القاسم، وظاهر قوله في رسم الرهون
سماع عيسى بخلاف اختلاف المتبايعين في ثمن السلعة الفائتة؛ لأنه يبعد أن
يبيع الرجل ما قيمته مائة، بعشرة، وأن يشتري المشتري ما قيمته
(11/119)
مائة بعشرة، وأن يشتري المشتري ما قيمته
عشرة بمائة فوجب أن ينظر في ذلك إلى الأشباه، ولا يبعد أن يرتهن الرجل ما
قيمته عشرة في مائة، وما قيمته مائة في ألف؛ لأن الرهن وإن قلت قيمته، يسلم
المرتهن بارتهانه إياه، من محاصة الغرماء فيه، فهو بمثابة ما لو أقر أنه
اقتضى ذلك القدر من حقه، وادعى الذي عليه الحق أنه دفع إليه أكثر من ذلك،
فوجب أن يكون القول في ذلك قول المرتهن؛ لأن لما ادعاه وجها، وهو المدعى
عليه. وقد أحكمت السنة أن البينة على من ادعى، واليمين على من أنكر. وكذلك
القياس، إذا جاء المرتهن بثوب قيمته دينار، فادعى أنه ارتهنه في مائة
دينار، أو في ألف دينار، على ما قاله أشهب، إلا أنه إغراق فيه، كما قال
أصبغ. والعدول عنه في هذا الموضع إلى مراعاة الأشباه، أنه يبعد أن يرتهن
الرجل في مائة دينار أو ألف ما قيمته دينار، أولى وأظهر من قول أشهب
استحسانا؛ لأن الاستحسان في العلم أغلب من القياس.
فقد قال مالك: تسعة أعشار العلم الاستحسان، وإذ أدى طرد القياس إلى غلو في
الحكم ومبالغة فيه، كان العدول عنه إلى الاستحسان أولى، ولا تكاد تجد
التغرق في القياس إلا مخالفا لمنهاج الشريعة. وبالله التوفيق.
[مسألة: يرتهن العبد من رجل ويضعه على يدي رجل]
مسألة قال أصبغ في الرجل يرتهن العبد من رجل ويضعه على يدي رجل، وضمن الذي
وضع العبد على يديه، لصاحب الحق العبد، حتى يستوفي حقه، فمات العبد، أو
استحق، أو بيع بأقل مما رهن فيه، قال: هو ضامن، إلا في النقصان قال لي بعد:
وفي النقصان اختلاف، وأحب إلي أن يضمن.
قال محمد بن رشد: أما إذا استحق الرهن فلا اختلاف في أنه ضامن له؛ لأن سببه
من قبل الراهن؛ إذ لعله غره به وخدعه. وأما الموت
(11/120)
فالاختلاف فيه منصوص عليه في أول رسم من
سماع ابن القاسم. وأما النقصان، فإن كان من شيء أصاب الرهن من عيب أو مرض
وشبهه، فيجري ذلك على اختلاف قول مالك في الموت، وأما إن لم يكن النقصان من
شيء أصاب الرهن، وهو الظاهر من مراده في هذه الرواية، فالمعلوم أنه لا يلزم
الضامن ضمانه إذا قال: أنا ضامن لرهنك، أو ما نقص من رهنك، وإنما يلزمه
ضمان ذلك، إذا قال: أنا ضامن لرهنك، وما نقص منه حقك. وقد وقع في رسم كتب
عليه ذكر حق من سماع ابن القاسم، أنه ضامن للنقصان، إذا قال: أنا ضامن لما
نقص من رهنك. وأما الاختلاف الذي حكاه في هذه المسألة فلا يبعد، لقوله
فيها: إنه ضامن له، حتى يستوفي حقه، ولو قال: إنه ضامن له. ولم يقل حتى
يستوفي حقه، لما صح دخول الاختلاف في ذلك، إلا على ما وقع في رسم كتب عليه.
وهو بعيد، وقد مضى القول على هذه المسألة مستوفى في أول رسم من سماع ابن
القاسم. وبالله التوفيق.
[مسألة: يرتهن الرهن فيأتي الراهن ليفتكه
فيختلفان فيما رهن فيه]
مسألة وسألته عن الرجل يرتهن الرهن، فيأتي الراهن ليفتكه، فيختلفان فيما
رهن فيه، فيقول المرتهن: ارتهنتُه بمائة دينار، وقيمة الرهن ما ادعاه أو
أكثر، ويقول الراهن: ما ارتهنتَه إلا بمائة إردب اشتريته منك، أو تسلفته.
من ترى أن يصدق؟ قال أصبغ: إن كانت المائة الإردب تكون أكثر من المائة
الدينار، فإن القول قول الراهن، وقبضت منه وبيعت، وفي هذا مائته. وإن كانت
أقل فالقول قول المرتهن واختلافهما في هذين النوعين، كاختلافهما في النوع
الواحد في الأقل والأكثر: إن القول قول المرتهن إن كان الرهن حينئذ يسوى ما
قال المرتهن، فافهم تصب إن شاء الله.
قلت: فسواء عندك كان اختلافهما في جميع الأشياء، مثل
(11/121)
الثياب والحلي والطعام، والإدام يسلك بذاك
مسلك ما ذكرت في أول المسألة، قال: نعم.
قال الإمام القاضي: لا تخلو المائة الإردب في هذه المسألة من ثلاثة أحوال:
أحدها أن تكون قيمتها أكثر من المائة دينار التي ادعى المرتهن، والثاني أن
تكون قيمتها مثل المائة والثالث أن تكون قيمتها أقل من المائة، فأما إن
كانت قيمتهما أكثر من المائة، فقال في الرواية: إن القول قول الراهن، وتقبض
منه وتباع، فيوفى المرتهن مائته، يريد: ويوقف الباقي؛ لأن كل واحد منهما
مقر به لصاحبه، فأيهما يدرأ إلى تكذيب نفسه، وتصديق صاحبه أخذه. وفي هذا
اختلاف هو مذكور في غير هذا الكتاب.
وقال بعض أهل النظر: قوله. إن القول قول الراهن، معناه: إن القول قوله بغير
يمين، إذ لا معنى ليمينه؛ لأنه سواء حلف أو نكل، لا بد أن يباع من الطعام
بمائه دينار للمرتهن، ويوقف الباقي، وليس قوله بصحيح، بل لا بد من يمينه؛
لأنه إن حلف بيع الطعام على ملك المرتهن، وإن نكل على اليمين، حلف المرتهن
وبيع الطعام على ملك المرتهن، ولو بدر السلطان فباعه قبل أن يحلف الراهن،
ووقف البقية، لمضى ذلك من حكمه ولم يحتج في ذلك إلى أن يتعقب حكمه بيمين،
ولو تلف الطعام، في حال بيعه، لم يكن بد من الرجوع في ذلك إلى الأيمان. فإن
حلف الراهن كانت مصيبته من المرتهن، وإن نكل عن اليمين وحلف المرتهن، كانت
مصيبته من الراهن. وأما إن كانت قيمته مثل المائة، فالقول قول الراهن مع
يمينه، يحلف، ولا يكون للمرتهن إلا المائة إردب، فإن نكل عن اليمين حلف
المرتهن، وأخذ المائة، ولا كلام في هذا الوجه لأن الرهن لا يشهد للمرتهن
بصفة الدين إذا اختلفا في نوعه، وإنما يشهد في مبلغه إذا اختلفا في قدره،
على اختلاف بين أهل العلم في ذلك، قد مضى ذكره، وأما إن كانت قيمتها أقل من
المائة التي ادعى المرتهن، وهي قيمة الرهن، فوجه الحكم في ذلك
(11/122)
أن يحلفا جميعا؛ لأن كل واحد منهما في حكم
المدعي والمدعى عليه: الراهن مدعى عليه في الدنانير التي لم يقر بها، وهو
في حكم المدعي على المرتهن فيما نقص من قيمة الرهن؛ لأنه يصدق في ذلك مع
يمينه، لشهادة الرهن له، والمرتهن مدع في الدنانير التي لم يقر له بها
الراهن وهو في حكم المدعى عليه فيما نقص من قيمة الرهن؛ لأن القول قوله في
ذلك مع يمينه، لشهادة الرهن له بذلك، فإن حلفا جميعا أو نكلا جميعا دفع
الراهن إلى المرتهن المائة الإردب، ووفاه قيمة ما نقصت قيمتها من المائة
دينار. وإن حلف أحدهما ونكل الآخر، كان القول قول الحالف منهما، إن كان
الراهن هو الحالف، لم يكن للمرتهن إلا المائة إردب، وإن كان المرتهن هو
الحالف، كانت له المائة دينار على الراهن. فقوله: واختلافهما في هذين
النوعين كاختلافهما في النوع الواحد، ليس على عمومه؛ لأن القول قول الراهن
في النوع الذي يقر به على كل حال. وإنما معناه: أن الرهن للمرتهن شاهد إلى
مبلغ قيمته، اتفقا على النوع أو اختلفا فيه. وسواء كان اختلافهما في عين
وعرض، أو في نوعين من العروض، أو في دنانير أو دراهم، الحكم في ذلك كله
سواء، على ما تقدم. وبالله التوفيق.
[مسألة: الرجل يكون للرجلين عليه حق إلى أجل
فيرهنهما]
مسألة من سماع أبي زيد بن الغمر من ابن القاسم قال أبو زيد: قال ابن القاسم
في الرجل يكون للرجلين عليه حق إلى أجل، فيرهنهما ذكر حق على رجل، على أن
أحدهما مبدأ على صاحبه في أول ما يتقاضاه من الحق الذي رهنهما فيجمع بينهما
وبين الذي عليه الحق، ويقر لهما به: إن ذلك جائز على ما اشترطا.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة لا إشكال فيها ولا علة تمنع من
جوازها. وبالله التوفيق.
(11/123)
[مسألة: يكون
لهما رهن بينهما فيقوم أحدهما على بيع الرهن في حقه]
مسألة وقال في رجلين يكون لهما رهن بينهما، فيقوم أحدهما على بيع الرهن في
حقه، وقد كان الآخر أنظره لحقه سنة: إنه إن كان يقدر على قسم الرهن مما لا
ينقص حق الذي قام على أخذ حقه قسم، ثم بيع له نصف الرهن، فأوفى حقه ووقف
النصف الآخر للذي أنظر لحقه إلى الأجل، وإن كان لا يقدر على قسم الرهن إلا
بما ينقص حق الذي قام على أخذ حقه، بيع الرهن كله، فأعطي الذي قام على أخذ
حقه حقه من ذلك، فإن طابت نفس الذي أنظر بحقه سنة أن يدفع بقية ثمن الرهن
إلى الراهن، إلى أن يحل حقه، دفع إلى الراهن، وإن كره أحلف بالله، أنظرت
بحقي، إلا ليوقف لي رهني على هيئته ثم أعطي حقه من ذلك، ولم يحبس عنه حقه،
ولا يوقف له إلى الأجل. وقد بيع رهنه؛ لأن إيقاف حقه ضرر على المرتهن في
غير منفعة تصل منه إلى الراهن، وهو له ضامن، ودفع الحق إلى المرتهن وإبراء
الراهن من ضمانه خير لهما جميعا.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة وأصلها في الموطأ.
وقد مضت متكررة في رسم الرهون من سماع عيسى، ومضى هناك القول على الموضع
المختلف فيه منها فلا معنى لإعادته. وبالله التوفيق.
[مسألة: ارتهن من رجل دارا إلى أجل ثم أكراها
المرتهن من رجل بدينار إلى أجل]
مسألة وعن رجل ارتهن من رجل دارا، إلى أجل، ثم إن المرتهن أكراها من رجل
بدينار إلى أجل برضى من صاحب الدار، ثم إن الذي اكتراها أكراها من الراهن
إلى ذلك الأجل، فهل يفسخ هذا رهنه؟ وكيف يصنع؟ قال ابن القاسم: إن كان ذاك
من سبب
(11/124)
صاحب الدار فالكراء له لازم، وذلك فساد
لرهنه، ولا رهن له فيها ما دامت في يديه، وإن كان ذلك من أجنبي من الناس،
وصح ذلك، فذلك جائز.
قال الإمام القاضي قوله: إنه كان المكتري الذي اكتراها من المرتهن، فأكراها
من الراهن من سبب الراهن، فالكراء لازم له، والرهن يفسخ، صحيح على ما في
المدونة، من أن من حلف ألا يبيع من رجل سلعة، فباعها من رجل اشتراها
للمحلوف عليه، إنه حانث، إن كان الرجل الذي باعها منه من سبب المحلوف عليه؛
لأنه إذا أكراها ممن هو من سبب الراهن، فكأنه قد أكراها من الراهن، وهذا
بيّن إذا علم أنه من سببه، وأما إذا لم يعلم أنه من سببه، فيجري الأمر في
انفساخ الرهن على الاختلاف في تحنيث الحالف، فأشهب يقول: إنه لا حنث عليه،
وروى ذلك عن مالك، وظاهر ما في المدونة أنه حانث. والاختلاف في هذا عندي
إنما يرجع إلى تصديقه في دعواه أنه لم يعلم أنه من سببه. وفي قوله: ولا رهن
له فيها ما دامت في يديه، دليل أنه إن انقضى الكراء، فرجعت إلى المكتري
الأول، الذي أكراها منه المرتهن، أو إلى المرتهن، ترجع على الرهن، وهذا مما
لا اختلاف فيه، بخلاف إذ أراد الراهن إليه باختياره، قبل انقضاء أجل كرائه.
وقد مضى ذكر الاختلاف في ذلك، وتوجيهه في رسم العتق من سماع عيسى، فلا معنى
لإعادته. وأما قوله: وإن كان ذلك من أجنبي وصح فذلك جائز، فالمعنى في ذلك
أن الكراء يجوز ولا ينفسخ الرهن، وإنما لم ينفسخ الرهن وإن كان قد صار بيد
الراهن؛ لأن المرتهن مغلوب على ذلك بما لزمه من عقد الكراء، فأشبه ما لو
سرقه الراهن، فلم يعلم المرتهن بذلك حتى قام عليه الغرماء، إن الرهن لا
ينفسخ، أو لو كان عبدا فأبق من عند المرتهن، فأخذه الراهن، ولم يعلم بذلك
المرتهن. وقد مضى بيان هذا في رسم بع ولا نقصان عليك من سماع عيسى فلا معنى
لإعادته وبالله التوفيق.
(11/125)
[مسألة: ارتهن
عبدا إلى أجل ثم جاءه الراهن فسأله أن يرد العبد]
مسألة قال: ولو أن رجلا ارتهن من رجل عبدا إلى أجل، ثم جاءه الراهن، فسأله
أن يرد العبد ويعطيه مكانه رهنا غيره، فلا بأس.
قال محمد بن أحمد: هذه مسألة بينة لا إشكال فيها ولا كلام.
وبالله التوفيق.
[مسألة: ارتهن حائطه بعشرة دنانير ثم رهن نصف
الحائط ثانية]
مسألة وقال في رجل ارتهن رجلا حائطه بعشرة دنانير، ثم رهن نصف الحائط ثانية
من رجل آخر بإذنه بعشرة دنانير، ثم قضى الأول، فأراد أن يرهن نصف حائطه من
رجل آخر، يريد النصف الذي قضى عنه ما كان رهنه به، قال: ذلك له.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأنه إنما رهن الثاني نصف الحائط، فلا حجة
له بمنعه بها من أن يفك النصف الأول من المرتهن الأول، ويرهنه من غيره؛
لأنه إذا فعل ذلك حل المرتهن الثالث في النصف الذي افتكه من المرتهن الأول،
فحل الذي افتكه منه، وارتفعت يد الراهن عنه، فصحت الحيازة في الحائط
للمرتهنين، كان الحائط بيد أحدهما أو بأيديهما جميعا، ولو أن صاحب الحائط
لما افتك النصف الذي رهنه من الأول، بقي بيده، لبطل رهن الثاني، فلا يصح
رهن الثاني إذا افتك صاحب الحائط النصف الذي رهنه من الأول، إلا أن يسلمه
إليه، فيحوز جميعه، أو يجعلانه جميعا على يدي عدل. وقد اختلف إن أكرياه
جميعا، فقيل: يصح الحوز، وقيل: لا يصح حتى يقتسماه، فيكري المرتهن نصيبه،
وكذلك إن عمراه جميعا على الإشاعة، يتخرج ذلك على القولين في الرجل يتصدق
بجزء من أرض، على الإشاعة، فيعمر المتصدق عليه الأرض مع المتصدق، على وجه
التقصي لحقه، والتشاح إلى أن يموت المتصدق، فرأى ذلك ابن القاسم
(11/126)
حيازة، وخالفه في ذلك أصبغ والأظهر في
الصدقة أن تكون حيازة، وفي الرهن ألا يكون حيازة؛ لأن الحيازة أقوى في
الرهن منها في الصدقة والهبة، لقول الله عز وجل: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ}
[البقرة: 283] وبالله التوفيق.
[مسألة: اشترى من رجل عبدا بمائة دينار إلى أجل
ورهنه دارا إلى أجل]
مسألة وعن رجل اشترى من رجل عبدا بمائة دينار إلى أجل، ورهنه دارا إلى أجل،
ثم قال له: أنا أرهنك في عبدك ما بعد مائة دينار، من ثمن الدار، يقول: إذا
بعت الدار، فابدأ بأخذ مائة، فما كان بعد المائة فهو رهن لك من حقك، فقال:
لا يجوز هذا الرهن.
قال محمد بن رشد: قال ابن المواز عن مالك: إنه على شرطه، ولغرمائه المائة،
وما بعدها رهن.
وقد مضى تحصيل القول في هذه المسألة وما كان في معناها في تكلمنا على أول
مسألة من سماع أصبغ، فلا معنى لإعادته. وبالله التوفيق.
[مسألة: رهن النحل ولمن يكون العسل]
مسألة وقال في رجل ارتهن نحلا لمن يكون العسل؟ قال: للراهن، وهو مثل النحل:
قال محمد بن رشد: يريد: إن النحل تكون له بأجباحها ولا يكون له عسلها، إلا
أن يشترطه، وهذا مما لا اختلاف فيه أحفظه في المذهب لقول النبي - عَلَيْهِ
السَّلَامُ -: «الرهن محلوب ومركوب بنفقته» فكما يكون
(11/127)
للراهن لبن الغنم المرهونة، فكذلك له عسل
النحل المرهونة، وكذلك لو رهنه الأجباح، لكانت له بنحلها، ولا يكون له
عسلها الذي فيها يوم الرهن، ولا ما يصير فيها بعد ذلك، إلا أن يشترطه على
حكم البيع إذا باع النحل دخلت الأجباح في البيع دون ما فيها من العسل، وإذا
باع الأجباح دخلت النحل فيها دون ما في الأجباح من العسل. وبالله التوفيق.
[مسألة: دار بين رجلين فرهن أحدهما حصته ووضعها
على يدي الآخر]
مسألة وقال في دار بين عبد الله وعبد الرحمن، فرهن عبد الله حصته من رجل
بعشرة دنانير، ووضع حصته من الدار على يدي عبد الرحمن، وهو ساكن في الدار
كلها. قال: أليس يسكن في حصته عبد الله بكذا؟ قال: نعم. قال لا بأس به.
محمد بن أحمد: هذه المسألة من مسائل المجالس لم تتدبر وفيها نظر؛ لأن حيازة
الرهن لا يكون إلا بأن يوضع على يدي عدل، أو يكريه المرتهن بإذن الراهن، إن
كان له الكراء، أو بغير إذنه، إن كان لم يشترط الكراء في رهنه، وأما إن
أكراه الراهن بإذن المرتهن، أو بغير إذنه، والكراء له، لم يشترطه المرتهن
في رهنه، فقد بطلت حيازة الرهن. وهذا نص قوله في المدونة: إنه إذا أذن له
أن يكري الدار، فقد خرجت من الرهن. فقوله في هذه الرواية: أليس يسكن في
حصته عبد الله بكراء؟ قال نعم. قال: لا بأس به، يدل على أنه لو سكن فيها
بغير كراء، لم يجز.
وصواب هذا أن يكون بالعكس، إذا وضع حصته التي رهن بيد شريكه على أن يسكن
فيها بالكراء، لم يجز على ما بيناه من أن الراهن إذا أكرى الدار التي رهن،
بطلت الحيازة فيها، وإن كان أكراها بإذن المرتهن. إذا كان الكراء له، وإذا
وضعها بيده على أن يسكن فيها بغير كراء، بإذن المرتهن، جاز ذلك، وكان
الشريك حائزا؛ لأنه كالعدل الموضوع على يديه الرهن، فلا تصلح المسألة إلا
على تأويل فيه بُعد، وهو أن يحمل على أن الراهن وضع حصته من الدار، بيد
(11/128)
شريكه فيها قبل الرهن، ثم رهنها وهي بيده،
فإن كانت بيده بكراء، ورهنها بكرائها جاز، وإن كانت بيده بغير كراء على
سبيل الائتمان له عليها، ورهنها، لم يجز، إلا أن يُخرجها من يده؛ لأن كونها
بيد أمينه، ككونها بيده؛ لأن يده كيده؛ لأنه متى حملت المسألة على أن
الراهن وضع حصته التي رهن من الدار بيد شريكه بعد الرهن، لم يستقم قوله
بحال، إلا أنه إن كان وضعها بيده بغير إذن المرتهن، تكون حيازة، كان وضعه
إياها بيده بكراء أو بغير كراء، وإن كان وضعها بيده بإذن المرتهن؛ تكون
حيازة، إن كان وضعها إياه بغير كراء، ولا تكون حيازة، إن كان وضعها بيده
بكراء إلا أن يكون الكراء رهنا، وهذا كله خلاف قوله، فتدبره، وبالله
التوفيق.
[مسألة: رهن رجلا دابة أو عبدا فماتا في يدي
المرتهن]
مسألة
وعن رجل رهن رجلا دابة أو عبدا، فماتا في يدي المرتهن، واختلفا فيما رهن
فيه، فقال: القول قول الذي عليه الحق، وليس هو إذا مات بمنزلة إذا كان حيا،
والذي في يديه الرهن إذا كان حيا مصدق فيما بينه وبين قيمة الدابة.
محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة، وقد مضى القول فيها في أول سماع ابن
القاسم، في رسم العارية، من سماع عيسى، وفي رسم الصلاة، من سماع يحيى
مستوفى، وبالله التوفيق.
[مسألة: له على رجل حق فرهنه حائطا له ووضعه
على يدي رجل وأراد أن يساقيه]
مسألة
وقال في رجل له على رجل حق، فرهنه حائطا له، ووضعه على يدي رجل، وأراد الذي
وضع على يديه، أن يساقيه الذي له الحق. قال: لا بأس بذلك. قيل له: فأراد
الذي وضع على يديه أن يأخذه مساقاة قال: لا يأخذها مساقاة إلا برضا منهما
جميعا.
(11/129)
قال محمد بن رشد: مساقاة العدل للحائط الذي
وضع على يديه، ككرائه للدار التي وضعت على يديه سواء، فإذا أكرى الدار من
المرتهن، أو ساقاه في الحائط، جاز ذلك؛ لأن كون ذلك في يديه بالمساقاة أو
الكراء، أبين في الحوز من كونه بيد غيره بذلك، ولا يلزم الراهن ذلك، إلا أن
يرضى به؛ إذ من حقه أن لا يساقي فيه، وأن يستأجر عليه من ماله، فيكون جميع
الثمرة له.
وأما قوله: إن الذي وضع الحائط على يديه، لا يأخذ مساقاة من ربه، إلا
برضاهما جميعا، ففيه نظر؛ إذ لا فرق بين عقد المساقاة في ذلك، وبين عقد
الكراء، ولا بين أن يعقد ذلك الراهن بالعدل، أو مع غيره، فلا يجوز أن يلي
الراهن عقد المساقاة، وإن أذن له في ذلك المرتهن؛ إذا كانت الثمرة له، وأما
قوله: إن الذي وضع الحائط على يديه للراهن، لم يشترطها المرتهن في رهنه،
قياسا على عقد الكراء، وإنما يلي العقد في ذلك، مع العدل المرتهن إذ أرضى
الراهن صاحب الحائط، بأن يساقي؛ إذ من حقه أن يستأجر عليه من ماله، فيكون
جميع الثمرة له، ولا يساقي فيه، حسبما ذكرناه، فقوله: إلا برضاهما جميعا
معناه: مع أن يكون المرتهن منهما هو الذي العقد فيه معه، وقد مضى فوق هذا
من هذا السماع، وفي رسم الرهون، من سماع عيسى تحصيل القول فيمن يلي عقد
الكراء في الرهن، وهو بين ما ذكرناه في هذه المسألة، وبالله التوفيق.
[مسألة: يرهن العبد بمائة دينار ثم يجرح العبد
فيخير السيد في أن يسلمه أو يفتديه]
مسألة
وعن رجل يرهن العبد بمائة دينار، ثم يجرح العبد، فيخير السيد في أن يسلمه
أو يفتديه، فيسلمه، هل يحل عليه الدين إذا فات الرهن وهو مليء بالحق؟ فقال:
لا يحل عليه الحق، قلت له: فكيف يكون؟ أيكون عليه الدين إلى أجله، قال:
نعم.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ إذ لا يحل عليه الدين بإسلام العبد الرهن
بجنايته؛ إذ لا يلزمه أن يفتكه، فلم يتعد فيما صنع، إلا أن من
(11/130)
حق المرتهن أن يفتكه بجنايته، فيكون أحق به
فيما فداه به رب الدين الذي له، ويباع معجلا إن شاء، فإن كان فيه فضل عما
فداه به، نَضّ له من دينه، واتبعه ببقية دينه إلى أجله، وإن لم يف بما
فداه، لم يكن على سيده من ذاك شيء، وإن أراد أن يؤخر بيعه إلى أن يحل أجل
الدين، كان ذلك له، ولم يكن للراهن في ذلك كلام؛ لأن المرتهن يقول: إن أراد
تأخير بيعه، أرجو أن تزيد قيمته إلى الأجل، فيكون فيه وفاء بالدين، وبما
افتككته به، وإن أراد تعجيل بيعه، أخشى أن يتلف أو تنحط قيمته، فأخسر ما
افتككته به، ولو أبى الراهن أولا من افتكاكه، وأراد أن يباع، فيؤدي ما من
ثمنه الجناية، ويأخذ المرتهن الباقي من دينه، لم يكن ذلك له، إلا أن يرضى
المرتهن بذلك رهنا. قال في المدونة: إنه لا يباع حتى يحل أجل الدين، وبالله
التوفيق.
[مسألة: رهن جارية ووضعها على يدي رجل فأرسلها
إلى الراهن فوطئها فحملت]
مسألة
وقال ابن القاسم في رجل رهن جارية ووضعها على يدي رجل، فعمد الذي جعلت على
يديه، فأرسلها إلى الراهن، أو ردها إليه، فوطئها فحملت، قال: الأمين ضامن
لقيمتها يوم أحبلها، وليس لجميع الرهن، ولكن لقيمتها يوم أحبلها، وتكون أم
ولد لسيدها، ويتبع الأمين السيد، إلا أن لا يكون للأمين مال، فإن لم يكن
للأمين مال، كان المرتهن أحق بالجارية، وهذا كله إذا لم يعلم المرتهن
بالرد، فإذا علم فلا رهن له.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد تكررت في رسم حبل حبلة من سماع عيسى، ومضى
الكلام عليها مستوفى، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
(11/131)
[مسألة: رهن
رجلا رهنا ووضعه له على يدي عدل فباع ذلك العدل الرهن]
مسألة
وعن رجل رهن رجلا رهنا، ووضعه له على يدي عدل، فباع ذلك العدل الرهن، وقضى
الغريم كما أمره، فاستحق الرهن عند المشتري، على من يرجع المشتري بالثمن؟
قال: إن كان لصاحبه الذي رهنه مال، رجع عليه، وإلا رجع على الذي بيع له،
فأخذ الثمن منه، وإنما هو بمنزلة الذي يفلس، فيباع ماله، فيستحق شيء منه،
فإنما يرجع على الغرماء؛ إذا لم يكن لصاحبه شيء.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة لا إشكال فيها، ولا لبس في شيء من
معانيها، فلا تفتقر إلى التكلم عليها، والله الموفق.
[مسألة: أخذ منه رهنا في حقه ووضعه له على يدي
رجل فحل الأجل وغاب المدين]
مسألة
وعن رجل كان له على رجل حق إلى أجل، وأخذ منه رهنا، ووضعه له على يدي رجل،
ورضيا به جميعا فحل الأجل، وغاب الذي عليه الحق، فجاء صاحب الحق إلى الذي
وضع الرهن على يديه، فقال له: قد حل حقي، فادفع إلي الرهن، حتى أبيعه وآخذ
حقي، فدفعه إليه، فضاع منه الرهن، قال: يضمن الذي وضع الرهن على يديه، ولا
شيء على صاحب الحق الذي ضاع الرهن منه؛ لأنه إنما اؤتمن عليه، فلا يلزمه
شيء. قلت: وإن كان الرهن مما يغيب إليه، قال: نعم.
قال الإمام القاضي: اعترض ابن دحون هذه المسألة فقال فيها: إنها غير جيدة،
كيف يضمن الأمين؟ وإنما جعل الرهن على يديه ليبيعه عند حلول الأجل.
والمسألة عندي صحيحة، ولا وجه لاعتراض ابن دحون، بما اعترضها به؛ لأن العدل
الذي وضع على
(11/132)
يديه الرهن، ليس له أن يبيعه؛ إذ لم يجعل
إليه بيعه، ولا ارتُهن إلا على أن يجوزه للمرتهن، ولو جعل إليه بيعه؛ لكان
متعديا في دفعه إلى صاحب الحق، وائتمانه عليه، ولوجب أن يكون ضمانه إن تلف
عنده من العدل الذي دفعه إليه، كمن دفع إلى رجل سلعة لبيعها، فدفعها إلى
غيره ليبيعها، فتلفت منه، وبالله التوفيق.
[مسألة: ارتهن جارية فوضعت على يدي رجل
فأعارهها للسيد فوطئها فحملت]
مسألة
وقال في رجل ارتهن جارية، فوضعت على يدي رجل، ثم إن سيدها سأل الذي وضعت
على يديه أن يعيره إياها في عمل فأعاره، فوثب عليها فوطئها فحملت منه. قال:
إن كان سيدها مليا غرم الحق، ودفع إلى صاحب الحق، وإن لم يحل الأجل، إلا أن
يكون الذي عليه طعام أو عرض، فيغرم رهنا مكانه إلى ذلك الأجل، وإن لم يكن
مليا أخذ من الذي وضعت على يديه قيمتها، ورجع هو على سيدها.
قال محمد بن رشد: قوله: إلا أن يكون الذي عليه طعام أو عرض، فيغرم رهنا
مكانه، إلى ذلك الأجل، معناه: إلا أن يرضى المرتهن بقبضه قبل حلول أجله،
فيجبر الراهن على تعجيله. وهذا إذا كان الطعام والعرض من بيع؛ إذ ليس لمن
عليه طعام أو عرض من بيع أن يعجله لصاحبه، قبل محل الأجل، إلا برضاه. وأما
إن كان الطعام أو العرض من قرض، فهو بمنزلة العين، يجبر الراهن على تعجيله،
لتعديه على الرهن بما أفاته به.
وقد مضت هذه المسألة فوق هذا في هذا السماع، وتكررت أيضا في رسم حبل حبلة،
من سماع عيسى، ومضى القول عليها مستوفى، وبالله التوفيق.
(11/133)
[مسألة: رهن
وصيفا له يرضع]
مسألة
وسئل ابن القاسم عن رجل رهن وصيفا له يرضع، قال: أمه تكون معه في الرهن.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول عليها مستوفى في رسم شك في طوافه،
من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: أرهن رهنا إلى سنة ثم رهنه أيضا من آخر
إلى شهر برضا من الأول]
مسألة
وسئل ابن القاسم عن رجل أرهن رهنا إلى سنة، ثم رهنه أيضا من آخر إلى شهر
برضا من الأول، فجاء الشهر وطلب المرتهن الآخر حقه، قال: إذا كان ليس فيه
فضل، لم يبع الرهن إلى ذلك الأجل، وإن كان في الرهن فضل عما رهنه عند
الأول، بيع الرهن، فأعطي للأول حقه قبل حلول الأجل، فما بقي أعطي الآخر منه
حقه، قال: فإن قال قائل: لم يبدأ هذا اليوم، وأجله الذي إليه دينه لم يحل،
قال: فإنه يقال له: لأن هذا كان مبدأ عليك، فهو يأخذ قبلك، فما فضل كان لك،
وإن لم يكن في الرهن فضل شيء كان على حاله إلى ذلك الأجل.
قال محمد بن رشد: قوله في أول المسألة: ثم رهنه أيضا من آخر إلى شهر برضا
من الأول، كلام ليس على ظاهره، ومراده به: ثم رهن أيضا فضلته من آخر إلى
شهر برضا الأول؛ لأنه إذا رهن الرهن من رجل ثم رهنه من آخر برضا من الأول،
بطل رهن الأول، وأما إذا رهن فضلته من آخر، فهو كما قال في المسألة. وقد
مضى القول على ارتهان فضلة الرهن مستوفى في أول رسم الأقضية الثالث، من
سماع أشهب، وفي رسم بع ولا نقصان عليك، من سماع عيسى، فقف على ذلك في
الموضعين، وبالله التوفيق.
(11/134)
[مسألة: رهن
العبد]
مسألة
وقال في العبد الرهن يخرج إن عقله رهن مع رقبته، ويوضع على يدي الذي وضع
الرهن على يديه؛ لأنه ينقص من رهنه.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه أحفظه؛ لأن ما نقصت
الجناية عنه كعضو من أعضائه، فوجب أن يكون رهنا معه، وبالله التوفيق.
[مسألة: رهن عندي سوارا فقال صاحب الرهن لا
أدري بكم رهنته]
مسألة
وقال في رجل رهن عندي سوارا، فقال صاحب الرهن: لا أدري بكم رهنته؟ وقلت: لا
أدري بكم ارتهنته؟ قال: أرى أن ترجع إليه قيمة الرهن، ثم أنت أعلم بعد، إن
شئت فخذ، وإن شئت فدع، إلا أنه يقض على صاحب الرهن بأن لا يأخذه حتى يدفع
قيمته.
قال محمد بن رشد: الجهل بما رهن فيه الرهن، كالجهل بمبلغ قيمة الرهن سواء،
فإذا مضى الرهن بما فيه؛ إذا جهلت قيمته على ما لأشهب، في رسم الكراء
والأقضية من سماع أصبغ، وجب أن يمضي بما فيه من الدين إذا جهل مبلغ ذلك
الدين، ولم يكن للراهن أن يأخذه حتى يدفع قيمته إلى المرتهن، ويوزع المرتهن
في أخذها، أو أخذ شيء منها لجهله بمبلغ حقه منها، وبالله التوفيق.
(11/135)
|