البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة

كتاب الإستحقاق
من سماع ابن القاسم من كتاب الرطب باليابس
قال سحنون : أخبرني ابن القاسم عن مالك ، في أرض بين رجلين ، فاحتفر أحدهما بيراً أو غرس فيها غرساً ، فيريد الآخر أن يدخل معه ، إنه يكون عليه في البير بقدر ما له من الأرض .
محمد بن رشد . قال مالك في هذه الرواية : إن الشريك إذا أراد أن يدخل مع شريكه فيما بنى أو حفر أو غرس ، يكون عليه في البير ، بقدر ما له في الأرض ، ولم يبين إن كان يكون عليه في ذلك قدر حظه من النفقة التي أنفقها أو من قيمة العمل قائماً أو من قيمته منقوضاً ، وفي ذلك تفصيل ، إذ لا يخلو الأمر من ثلاثة أحوال : أحدها أن يكون بنى وغرس واحتفر ، وشريكه غائب بغير إذن منه ولا علمه ، والثاني أن يكون بنى وغرس به واحتفر بحضرة شريكه ، دون أن يأذن له في ذلك ، والثالث أن يكون بنى وغرس واحتفر بإذن شريكه ، فأما إذا كان بنيانه وغرسه وحفره ، وشريكه غائب بغير إذنه ولا عمله ، فيتخرج ذلك على قولين : أحدهما إن الشركة بينهما في الأرض شبهة ، توجب أن يكون له قدر حظ شريكه من قيمة عمله قائماً ، إلا أن يكون قدر حظه من النفقة التي أنفقها أقل من ذلك ،

(11/137)


فلا يزاد عليه ، يقوم هذا القول مما وقع لابن القاسم في رسم القطعان من سماع عيسى من كتاب الشركة ، والقول الثاني إن الشركة ليست بشبهة ، فلا يكون له فيما بنى أو غرس أو احتفر ، إلا قيمة ذلك منقوضاً . وقول ابن القاسم في المسألة التي تلي هذه ، ويقوم ذلك أيضاً مما وقع في سماع سحنون من كتاب المزارعة . وأما إذا كان بنيانه وغرسه وحفره بحضرة شريكه وعلمه دون أن يأذن في ذلك ، فيتخرج ذلك على الاختلاف في السكوت ، هل هو كالإذن أم لا ؟ فعلى القول بأنه كالإذن إن كان قد مضى من المدة ما يراه أنه إذن له إلى مثلها ، كان عليه قدر حظه من ذلك قائماً . ويختلف على هذا القول ، هل يكون له كراء في حصته لما مضى من المدة أم لا ؟ فقيل : إنه لا كراء له ، وهو قول ابن القاسم في رواية عيسى عنه في آخر هذا الرسم ، وقيل إن له الكراء بعد أن يحلف أنه ما رضي بترك حقه من الكراء في ذلك ، وهو قول عيسى ابن دينار من رأيه في آخر سماعه من كتاب الشركة .
وعلى قول بأنه ليس كالإذن ، يكون له كراء حصته لما مضى من المدة قولاً واحداً ويكون عليه قدر حظه من البنيان منفوضاً ، وإن لم يمض من المدة ما يرى أنه ينهي إلى مثلها . وأما إذا كان بناؤه وغرسه وحفره بعلم شريكه وإذنه له في ذلك ، فالحكم في ذلك على ما ذكرناه ، إذا سكت ولم يأذن له ، على القول بأن السكوت كالإذن ، وهذا كله إذا رضيا بالمقام على الشركة ، أو كان ذلك مما لا ينقسم ، وأما إذا دعوا جميعاً إلى القسمة ، وكان ذلك مما ينقسم فالحكم في ذلك على ما قاله ابن القاسم بعد هذا متصلاً بقول مالك ، ولو دعا إلى ذلك أحدهما لدخل الخلاف فيه عندي من مسألة كتاب الشفعة من المدونة حسبما نذكره بعد هذا إن شاء الله .

(11/138)


مسألة
قال ابن القاسم : من غرس أو بنى في أرض بينه وين شريك له ، وشريكه غائب ، فإنهما يقسمان الأرض ، فإن كان بنيانه فيما صار له من الأرض ، كان له وكان عليه من الكراء بقدر ما انتفع من نصيب صاحبه ، وإن كان البنيان والغرس في نصيب غيره ، خير الذي صار في حظه بين أن يعطيه قيمته منقوضاً ، وبين أن يسلم إليه نقضه ينقله ، ويكون له أيضاً من الكراء على الباني بقدر ما انتفع به من مصاب صاحبه الغائب . قال عيسى : قال ابن القاسم : ولو بنى بمحضر شريكه لم يكن لشريكه كراء ، لأنه كالإذن .
قال محمد بن رشد : لم ير ابن القاسم في هذه الرواية الشركة بينهما في الأرض شبهة للباني منهما إذ قال : إنه إذا بنى وشريكه غائب ، يقتسمان الأرض ، فإن حصل البناء بالقسمة في حظ شريكه ، لم يكن له عليه فيه ، إلا قيمته منقوضاً ، يريد : طال زمان ذلك أو لم يطل . وقد ذكرنا الاختلاف قبل هذا في كون الشركة بينهما في الأرض شبهة للباني منهما فيما بني . وظاهر قوله : إن الحكم يكون في ذلك على ما ذكره من قسمة الأرض إلى آخر قولهن سواء اتفاق على القسمة ابتداء أو دعوا إليها أو اختلفا إليها أحدهما ابتداء ، أو دعا الآخر إلى أن يحكم بينهما في الغرس والبناء قبل القسمة . ولا اختلاف إذا اتفقا على القسمة ، ودعوا إليها ابتداء ، وأما إذا اختلفا في ذلك ، فالذي يأتي في هذه المسألة على ما في آخر كتاب الشفعة من المدونة في الدار تكون بين الرجلين ، فيبيع أحدهما طائفة منها بعينها أن يشتركا في البنيان ، بأن يعطي الذي يبني للباني من قيمته منقوضاً . قدر حظه من الأرض ، ثم يقتسمان بعد أو يتركان .
ولو بنى بإذن شريكه أو بعلمه وهو ساكت لا يغير ولا ينكر ، على القول بأن السكوت كالإذن ، لوجب على مذهبه ، وروايته عن مالك أن يكون له قيمة بنيانه قائماً ، إن اقتسما ، فصار

(11/139)


البنيان في حظ شريكه أو قيمة حظه منه قائماً ، إن رضيا بالبقاء على الشركة ، أو كانت الأرض لا تنقسم ، إلا أن تطول المدة إلى أن يمضي منها ما يرى أنه إذن له في البناء إلى مثلها ، فتكون القيمة فيه منقوضاً ، خلاف رواية المدنيين عن مالك في أن القسمة لا تكون في ذلك إلا قائماً ، سواء طال زمان ذلك أو قصر ، إذا بنى بإذنه أو بعلمه وهو ساكت ، إذ لا يكون على روايتهم عنه لمن بني قيمة بنيانه منقوضاً ، إلا أن يكون بنى معتدياً على غير وجه شبهة ورواية عيسى عن ابن القاسم في قوله في آخر المسألة إنه لو بنى بمحضر شريكه ، لم يكن لشريكه كراء ، لأنه كالإذن خلاف قوله من رأيه في سماعه من كتاب الشركة . وقد ذكرنا ذلك في المسألة التي قبل هذه . والمسألة كلها متكررة في رسم إن خرجت من سماعه من هذا الكتاب بالمعنى وإن اختلف اللفظ . وبالله التوفيق .
ومن كتاب القبلة
وقال مالك في رجل ابتاع امة فقبضها ثم ادعت الجارية الحرية عنده ، وسمت بلادها وقبيلتها ونسبت أهلها في بلدة بعيدة أو قريبة ، قال : يرفع ذلك إلى الوالي ، فإن كان ما ادعت شيئاً له وجه ، كتب بأمرها حتى يستبري ذلك ، وما كان من ذلك من نفقه أو مؤونة فعلى المشتري ، ولا ترد على البائع بقولها ، ولا يلزمه شيء من النفقة في طلب استبراء ما ذكرت ، فإن تبين صدق ما قالت ، رد البائع على المشتري الثمن ، ولم يلزم البائع شيء مما أنفق . وإن سمت بلاداً بعيداً ولم تنتسب نسباً يعرف ، ولا شيئاً بيناً إلا ملتبس لم يكن من ذلك على البائع شيء ، وإن هي نزعت عن قولها ، بطل

(11/140)


ذلك ، إلا أن يخاف أن تنزع عن خوف .
قال محمد بن رشد : قال في هذه الرواية : إنه إن كان ما أدعت شيئاً له وجه ، كتب بأمرها ، حتى يستبرأ ذلك ، يريد : بعد أن يؤخذ من سيدها حميل . ولم يفرق في هذا بين القرب والبعد ، بل يريد التسوية بينهما . وقد قيل : إنه لا يلزم السيد شيء إذا كان الموضع بعيداً ، وهو دليل ما في سماع عبد المالك بن الحسن من كتاب الأقضية . وحد القرب في ذلك باليوم ونحوه . وقد مضى هناك تحصيل القول في هذه المسألة ، بما لا مزيد عليه . وقوله : إن ما كان في ذلك من نفقة أو مؤونة فعلى المشتري ، معناه : إنه ليس له أن يرجع بشيء من ذلك على البائع على حال ، ثبتت حريتها ، أو لم تثبت إذ لا يجب شيء من ذلك عليه ، إلا أن يتطوع به ، وإنما يجب ذلك على الإمام من بيت المال . وقوله : إنها لا ترد على البائع بقولها ، صحيح ، لأنه عيب حدث عند المشتري . فإن باعها هو ولم يبين بأنها ادعت الحرية عنده ، كان ذلك عيباً يجب به الرد عليه . قال ذلك في أول سماع ابن القاسم من كتاب العيوب . وقوله : وإن سمت بلداً بعيداً ولم تنتسب نسباً يعرف ولا شيئاً بيناً إلا ملتبس لم يكن من ذلك على البائع شيء ، كلام فيه نظر ، إذ لا اختلاف ولا إشكال في أنها لا ترد على البائع بدعواها الحرية عند المشتري ، وإن أشبه ما ادعته من ذلك ، ولا يرجع عليه المشتري بما أنفق في استبراء ما ادعته ، فينبغي أن يتأول على أنه إنما أراد أنه إن باعها ولم يبين بدعواها الحرية عنده ، لم ترد عليه إن كانت سمت بلداً بعيداً ، أو لم تنتسب نسباً يعرف ، بخلاف إذا أتت من ذلك بأمر يشبه . والله أعلم . وإذا استحقت الجارية بحرية لم يلزمها الذهاب مع المشتري إلى موضعه بائعة ، ليسترجع منه ثمنه ، وإنما يكتب له القاضي بصفتها .
ذكر ذلك ابن عبدوس عن ابن القاسم ، وذكر ابن حبيب في وثائقه على ما حكى عنه الفضل : إن من حق المشتري الذي استحق من يده ، أن ترفع معه ليأخذ رأس ماله من البائع ، مثل ما لو استحق برق ، وقال ابن كنانة ترفع معه إن كانت غرت ولا ترفع مه إن كانت لم تغر ،

(11/141)


وهو جيد ، فينبغي أن يحمل قوله على التفسير لقول ابن القاسم ، وقول ابن حبيب . وقد مضى هذا المعنى بزيادة فيها بيان ، في آخر سماع عيسى من كتاب الجهاد . فقف على ذلك وتدبره . وبالله التوفيق .
ومن كتاب أول الشجرة تطعم بطنين في السنة
وسئل مالك عن الرجل يعترف الدابة بالبلد ، فيقيم شاهداً واحداً ويسئل أن توقف له ، حتى يأتي بشاهد آخر ، فيوقف في طلب ذلك ، فيقيم فيه أياماً ثم يستحق ذلك بعد ، على من ترى نفقتها في إقامتها ؟ قال : والجوارى كذلك ، ثم قال : أرى النفقة ممن تكون له الدابة .
قال محمد بن رشد : قوله : أرى النفقة ممن تكون له الدابة ، هو مثل ما في المدونة ، إن النفقة على الشيء المدعى فيه في حال التوقيف ممن يقضي له به ، يريد : إن المدعى عليه ، ينفق في حال التوقيف ممن يقضي له به فإن قضي به للمدعي رجع عليه صاحبه بالنفقة ، وقد قيل : إنهما ينفقان عليه جميعاً . لمن قضى له به منهما ، ورجع عليه صاحبه بنصف النفقة . وهو قول ابن القاسم في رسم إن خرجت من كتاب الدعوى والصلح ، وفي المجموعة . وقد اختلف في الحد الذي يدخل به الشيء المستحق في ضمان المستحق ، وتكون الغلة له ، ويجب التوقيف به على ثلاثة أقوال : أحدها : إنه لا يدخل في ضمانه ، ولا تجب له الغلة ، حتى يقضى له به . وهو قول ابن القاسم في رسم حمل صبياً من سماع عيسى . من كتاب الدعوى أو الصلح ، والذي يأتي على قول مالك في المدونة إن الغلة للذي في يديه حتى يقضي بها للطالب وعلى قول سحنون في نوازله من كتاب الغصب : إن المصيبة من المشتري حتى يحكم به للمدعي ، وعلى هذا القول لا يجب توقيف الأصل المستحق ، توقيفاً يحال بينه وبينه ، ولا توقيف غلته ، وهو قول ابن القاسم في المدونة ،

(11/142)


إن الرباع التي لا تحول ولا تزول ، لا توقف ، مثل ما يحول ويزول ، وإنما توقف وقفاً من الأحداث فيها ، والثاني إنه يدخل في ضمانه ، وتكون له الغلة ، ويجب توقيفه وقفاً يحول بينه وبينه ، إذا ثبت له بشهادة شاهدين ، أو شاهد وامرأتين . وهو قول مالك في رسم مرض بعد هذا من هذا السماع . وظاهر قوله في موطأ إذ قال فيه : إن الغلة للمبتاع إلى يوم يثبت الحق ، وهو قول غير ابن القاسم في المدونة إذ قال : إن التوقيف يجب إذا أثبت المدعي حقه وكلف المدعى عليه المدفع ، والقول الثالث إنه يدخل في ضمانه ، وتجب له الغلة ، فالتوقيف بشهادة شاهد واحد ، وهي رواية عيسى عن ابن القاسم في رسم العرية من سماع عيسى من كتاب الدعوى والصلح ، إنه يحلف مع شهادة شاهده ، وتكون المصيبة منه .
وإن كانت يمينه بعد موها ، فإن قيل : كيف يحلف لكون المصيبة منه ، ويستحق المستحق بينه الرجوع على بائعه بالثمن ؟ قيل ألا يحلف ، لأنه إن نكل عن اليمين على هذه الرواية ، يحلف المستحق منه الذي مات العبد عنده ، أنه لا حق للقائم فيه ، ولقد ادعى باطلاً ، ويرجع عليه بقيمته ، لأنه أحق عليه يمينه العدا في توقيفه عليه بغير حق ، ويؤيد هذا ما يأتي في رسم حمل صبياً من سماع عيسى بعد هذا . وقول أشهب في نوازل سحنون من كتاب الرهون : فليست يمين المستحق على هذه الرواية ليستحق غيره ، وهو المستحق منه الرجوع على بائعه بالثمن ، وإنما هي لينفي عن نفسه العدا في التوقيف الذي يدعيه عليه المستحق منه ، فإن نكل عن اليمين حلف هو ، وأغرمه القيمة فيما وقع في أحكام ابن زياد من أن التوقيف يجب في الدار بالقفل ، وتوقيف الغلة بشهادة الشاهد الواحد ، يأتي على هذا القول الثالث . وكذلك النفقة أيضاً ، القول فيها يجري على هذا الاختلاف ، فعلى القول الأول لا يجب للمقضى عليه الرجوع بشيء من النفقة على المقضى له ، لأنه إنما أنفق على ما ضمانه منه ، وغلته له . وعلى القول الثاني يجب له الرجوع عليه بما أنفق بعد ثبوت الحق بشهادة شاهدين ، أو شاهد وامرأتين ، لوجوب الضمان عليه ، وكون الغلة له من حينئذ .

(11/143)


وعلى القول الثالث ، يجب له الرجوع عليه بما أنفق منذ وقف ، بشهادة الشاهد الواحد ، لوجوب الضمان عليه ، وكون الغلة له من حينئذ . وقد فرق في رسم حمل صبياً من رواية عيسى عن ابن القاسم ، من كتاب الدعوى والصلح الدعوى والصلح ، بين النفقة والضمان والغلة . فقال : إن النفقة ممن تصير إليه ، والغلة للذي هي في يديه ، لأن الضمان منه ، وساوى بين ذلك عيسى من رأيه ، وهو القياس . وكذلك ظاهر المدونة أنه مفرق بين النفقة والغلة . والصواب أن لا فرق بينهما وفي أن يكونا تابعين للضمان .
إما من يوم وجوب التوقيف بشهادة شاهد واحد ، وإما من وجوبه بشهادة شاهدين ، وإما من يوم القضاء . والحكم وبالله التوفيق .
ومن كتاب يسلف في المتاع والحيوان المضمون
قال مالك في العبد يدعي الحرية ويذكر بينة غائبة ، والجارية مثل ذلك ، قال مالك : لا أرى أن يقبل قول العبد ، إلا أن يأتي ببينة أو أمر يشبه فيه وجه الحق ، فإن أتى بذلك ، رأيت له ذلك ، وإني لأستحب في الجارية أن يوقف صاحبها عنها ، وإن كان مأموناً أمر أن يكف عن وطئها ، وإن كان غير مأمون ، إذا جاءت بأمر قوي في الشهادة ، رأيت أن توضع علي يدي امرأة ، ويضرب في ذلك أجل الشهرين والثلاثة ، مثل الشاهد والعدل البين العدالة .
قال محمد بن رشد : قوله لا أرى أن يقبل قول العبد إلا أن يأتي ببينة أو أمر يشبه فيه وجه الحق ، فإن أتى بذلك ، رأيت له ذلك ، كلام وقع على غير تحصيل ، إذ لا يصح أن يقبل قول العبد فيما ادعاه من الحرية إلا إذا أتى على ذلك ببينة عدالة ، لا إذا أتى على ذلك ببينة غير عدلة ، أو بأمر يشبه فيه وجه الحق ، والحكم في ذلك يفترق بين أن يأتي على دعوى بينة غير عدلة ، أو بشاهد واحد عدل ، وبين ألا يأتي بمن يشهد له ويشبه قوله ، وبين أن

(11/144)


لا يأتي بمن يشهد له ، ولا يشبه قوله ، حسبما مضى تحصيل القول فيه في سماع عبد الملك بن الحسن من كتاب الأقضية . وقد مضى منه في رسم القبلة قبل هذا . وبالله التوفيق .
مسألة
وسئل مالك عن الرجل تكون بيده الأرض يزرعها في حياة أبيه زماناً يجوزها ، ثم يهلك أبوه ، فيقول : قد حزتها وهي لي ، قال مالك : ليس له ذلك إلا ببينة ، أرأيت لو كان أبوه حياً ثم قال ذلك ، أكان ذلك له إلا ببينة ؟ ومن ذلك أن يكون الولد في مال أبيه يدبر أمره ، فهو وغيره ممن لا يدبر ، بمنزلة واحدة ، فقيل له : يا أبا عبد الله فإن كان أجنبياً من الناس ، قال ذلك أقوى أن يقول اشتريت ، ومات الشهود وطال الزمان ، فقيل له أفترى ذلك للأجنبي ؟ فوقف ولم يقض فيها بشيء وكان رأيه أن يراه قوياً . قال ابن القاسم وهو رأي ، قال الإمام القاضي : مجرد الحيازة لا ينقل الملك عن المحوز عليه إلى الحائز باتفاق ، ولكنه يدل على الملك كإرخاء الستر ، ومعرفة العفاص والوكاء ، وما أشبه ذلك من الأشياء ، فيكون القول بها قول الحائز مع يمينه ، لقول النبي عليه السلام " من حاز شيئاً عشر سنين فهو له " . لأن المعنى عند أهل العلم في قوله عليه السلام هو له ، أي إن الحكم يوجبه له بدعواه ، فإذا حاز الرجل مال غيره في وجهه مدة تكون فيها الحيازة عاملة ، وهي عشرة أعوام ، دون هدم ولا بنيان ، أو مع الهدم والبنيان ، على ما نذكره من الخلاف في ذلك بعد هذا وادعاء ملكاً لنفسه ، بابتياع أو هبة أو صدقة ، وجب أن يكون القول قوله في ذلك مع يمينه . واختلف إن كان هذا الحائز وارثاً ، فقيل : إنه بمنزلة الذي ورث ذلك عنه ، في مدة الحيازة ،

(11/145)


وفي أنه لا يتبع بها ، دون أن يدعي الوجه الذي تصير به ذلك إلى مورثه ، وهو قول مطرف وأصبغ وقيل تكون مدته في الحيازة أقصى وليس عليه أن يسأل عن شيء ، لأنه يقول : ورثت ذلك ، ولا أدري بما تصير ذلك إليه ، وهو ظاهر قول ابن القاسم في رسم إن خرجت من سماع عيسى بعد هذا من هذا الكتاب .
وقول ابن الماجشون : وقوله عندي بين في أنه ليس عليه أن يسئل عن شيء ، وأما المدة فينبغي أن يستوي فيها الوارث والمورث ، لعموم قول النبي عليه السلام " من حاز شيئاً عشر سنين هو له " وتضاف مدة حيازة الوارث إلى مدة حيازة المورث ، مثل أن يكون الوارث قد حاز خمسة أعوام ما كان مورثه قد حاز خمسة أعوام فيكون ذلك حيازة على الحاضر . وقد اختلف على القول بأن العشرة الأعوام ليست بحيازة ، إذا لم يكن هدم ولا بنيان ، أو مع الهدم والبنيان إن طالت حيازته مدة تبيد فيها الشهود ، وهي العشرون عاماً على اختلاف في ذلك ، فقيل : إن القول قوله في البيع والهبة والصدقة ، وهو قول ابن القاسم في رسم البراءة من سماع عيسى من كتاب القسمة ، وقيل : إن القول قوله في البيع ، لا في الهبة والصدقة والنزول . وهو قول ابن القاسم في رسم إن خرجت من سماع عيسى من هذا الكتاب .
والحيازات تنقسم على ستة أقسام ، لأنها على مراتب ست ، أضعفها حيازة الأب على ابنه ، والابن على أبيه ، ويليها حيازة الأقارب الشركاء بالميراث أو بغير الميراث ، بعضهم على بعض ، وتليها حيازة القرابة بعضهم على بعض ، فيما لا شرك بينهم فيه ،

(11/146)


والموالي والأختان الأشراك بمنزلتهم ، وتليها حيازة الموالي والأختان بعضهم على بعض فيما لا شرك بينهم فيه وتليها حيازة الأجنبيين الأشراك بعضهم على بعض فيما لا شرك بينهم فيه ، وهي أقواها وقد قيل : إن سبب الشركة أقوى من سبب القرابة ، فالحيازة بينهم أضعف وهو بعيد ، وإنما الذي يشبه أن يستوي السببان وسنزيد هذا المعنى بياناً في رسم الكبش من سماع يحيى إذا وصلنا بالشرح إن شاء الله .
والحيازة تكون بثلاثة أشياء : أضعفها السكنى والازدراع ، ويليها الهدم والبنيان والغرس ، والاستقلال ، ويليها التفويت بالبيع والهبة والصدقة ، والنحل والعتق ، والكتابة والتدبير ، والوطء ، وما أشبه ذلك مما لا يفعله الرجل إلا في ماله ، والاستخدام في الرفيق ، والركوب في الدواب ، كالسكنى فيما يسكن ، والازدراع فيما يزرع ، والاستقلال في ذلك كله كالهدم ، والبنيان في الدور ، وكالغرس في الأرضين . فأما حيازة الابن على أبيه والأب على ابنه ، فلا اختلاف في أنها لا تكون بالسكنى والازدراع . ولا في أنها تكون بالتفويت من البيع والهبة والصدقة ، والعتق والتدبير والكتابة والوطء ، واختلف هل يجوز كل واحد منهما على صاحبه بالهدم والبنيان والغرس أم لا على قولين : أحدهما أنه لا يحوز عليه بذلك ، إن ادعاه ملكاً لنفسه ، قام عليه في حياته أو بعد وفاته ، وهو قول مالك في هذه الرواية ، والمشهور في المذهب ، يريد والله أعلم ، إلا أن يطول الأمر جداً إلى ما تهلك فيه البينات وينقطع فيه العلم . والثاني أنه يحوز عليه بذلك ، قام عليه في حياته أو على سائر ورثته بعد وفاته ، إذا ادعاه ملكاً لنفسه ، وكان لا ينتقل بالحيازة

(11/147)


من موضع إلى موضع . وهو قول ابن دينار في كتاب الجدار ، وفي الواضحة وقول مطرف في الواضحة أيضاً . وأما حيازة الأقارب الشركاء بالميراث ، أو بغير الميراث ، فلا اختلاف في أنها لا تكون بالسكنى والازدراع ، إلا على ما تأوله بعض الناس على ما في المدونة في قوله : وهذا من وجه الحيازة الذي أخبرتك من أنه لا فرق على مذهبه في المدونة في الحيازة بين الأقارب والأجنبيين ، وهو بعيد ، ولا في أنها تكون حيازة بالتفويت من البيع والهبة والصدقة ، والعتق والكتابة والتدبير والوطء ، وإن لم تطل المدة .
فصل وهذا الذي ذكرناه من أنه لا اختلاف في أن الحيازة تكون بين أهل الميراث بالتفويت من البيع والهبة والصدقة والعتق ، والكتابة والتدبير ، وما أشبه ذلك من الوطء الذي لا يصح للرجل أن يفعله إلا فيما خلص من ماله ، وإن لم تطل المدة ، هو أمر متفق عليه في الجملة ، ويفترق الحكم فيه على التفصيل ، إذا لا يخلو من أن يكون فوت بذلك كله الكل أو الأكثر ، أو الأقل أو النصف ، وما قاربه . فأما إذا وفت الكل بالبيع ، فإن كان المحوز عليه حاضر الصفقة فسكت حتى انقضى المجلس ، لزمه البيع في حصته ، وكان له الثمن ، وإن سكت بعد انقضاء المجلس ، حتى مضى العام ونحوه ، استحق البائع الثمن بالحيازة مع يمينه أنه انفرد بالوجه الذي يذكره من ابتياع أو مقاسمة أو ما أشبه ذلك . وإن لم يعلم بالبيع إلا عند وقوعه ، فقام حين علم ، أخذ حقه ، وإن لم يعلم إلا بعد العام ونحوه ، لم يكن له إلا الثمن ، وإن لم يقم حتى مضت مدة الحيازة ، لم يكن له إلا الثمن ، وإن لم يقم حتى مضت مدة الحيازة ، لم يكن له شيء ، واستحقه الحائز بما ادعاه بدليل حيازته إياه . وأما إذا فوته بالهبة أو الصفقة ، أو التدبير أو العتق ، فإن كان حاضراً فسكت حتى انقضى المجلس ، لم يكن له شيء ، وإن لم

(11/148)


يكن حاضراً فقام حين علم ، كان على حقه ، وإن لم يقم إلا بعد العام ونحوه ، كان القول قول الحائز ، وإن لم يكن له هو شيء . وأما إذا فوته بالكتابة ، فيتخرج ذلك على الاختلاف بالكتابة ، هل تحمل محمل البيع ، أو محمل العتق ؟ وقد مضى القول في كل واحد منهما . وكذلك إذا حاز الكل بالوطء والاتحاد بعلم المحوز عليه من الورثة فهي حيازة وإن لم تطل المدة ، فإن حاز شيئاً مما ذكرناه الأكثر ، كان الحكم فيه على ما تقدم ، ويختلف في الباقي على قولين : أحدهما : أنه يكون تبعاً للأكثر فيستحقه الحائز بحيازته الأكثر ، مع يمينه على ما ادعاه من أنه صار به إليه .
وهو قول ابن القاسم قرب آخر رسم الكبش من سماع يحيى بعد هذا ، إلا أنه لم يذكر اليمين؛ والقول الثاني أنه لا يكون تبعاً له ، فيكون للمحوز عليه حقه فيه بعد يمينه على تكذيب صاحبه في دعواه ، وهو ظاهر قول ابن القاسم في سماع سحنون ، إذ لم يفرق في ذلك بين القليل والكثير ، فكان الشيوخ يحملونه على الخلاف لما في سماع يحيى . وإن حاز بشيء مما ذكرنا الأقل ، فقيل إنه يستحقه بحيازته إياه ، ولا يكون تبعاً لما لم يز ، وهو ظاهر قول ابن القاسم أيضاً في سماع سحنون بعد هذا ، وقيل إنه لا يستحقه بحيازته إياه بذلك ويكون تبعاً لما لم يحز ، فيأخذ المحوز عليه حقه فيه ، إن كان عبداً فأعتق كان له قيمة حفظه على الذي أعتقه ، وإن بيع كان له حظه من الثمن الذي بيع به ، وإن وهب أو تصدق به أخذ حظه منه ، إلا أن لا يجده فيكون له قيمة حظه منه على الذي وهب أو تصدق به . وهو قول ابن القاسم قرب آخر رسم الكبش من سماع يحيى بعد هذا . وأما إذا فوت بشيء من ذلك كله النصف أو ما قاربه ، فلا اختلاف في أنه لا يكون بعض ذلك تبعاً لبعض ، فيستحق الحائز بحيازته ما

(11/149)


حاز منه ويكون ما لم يحز منه بينهما على سبيل الميراث . فيتأول ما في سماع سحنون على أن الذي حازه الوارث بهذه المعاني متناصفاً أو متقارباً ، فلذلك قال : إنه لا يكون القليل تبعاً للكثير ، لا فيما حاز ولا فيما لم يحز ، فلا يكون على هذا ما في سماع سحنون مخالفاً لما في سماع يحيى ، ولا يكون خلاف في أن القليل تبع للكثير فيما حيز وفيما لم يحز ، على ما وقع في سماع يحيى .
وهو أول من حمل ذلك على الخلاف على ما كان يحمله عليه الشيوخ ، وكذلك القول فيما حازه الوارث على أوراثه بالهدم والبنيان أو الاستغلال العشرة الأعوام ، على القول بأن ذلك يكون حيازة بين الأوراث ، يختلف هل يكون القليل من ذلك تبعاً للكثير فيما حيز وفيما لم يحز على ما ذكرناه ؟ ولا فرق في مدة حيازة الوارث على أوراثه بين الرباع والأصول والثياب والحيوان والعروض ، وإنما يفترق ذلك في حيازة الأجنبي مال الأجنبي بالاعتمار والسكنى والازدراع في الأصول ، والاستخدام والركوبو اللباس في الرقيق والدواب والثياب فقد قال أصبغ : إن السنة والسنتين في الثياب حيازة إذا كانت تلبس وتمتهن ، وإن السنتين والثالث حيازة في الدواب إذا كانت تركب ، وفي الإماء إذا كن يستخدمن ، وفي العبيد والعروض فوق ذلك ، ولا يبلغ في شيء من ذلك كله بين الأجنبيين إلى العشرة الأعوام كما يصنع في الأصول قال : وما أحدث الحائز الأجنبي فيما عدا الأصول من بيع أو عتق أو تدبير أو كتابة أو صدقة أو إصداق أو وطء في الإماء بعلم مدعيه أو بغير علمه ، فلم ينكر ذلك حين بلغه استحقه الحائز بذلك . هذا كله معنى قول أصبغ دون نصه . واختلف قول ابن القاسم في حيازة الشركاء بالميراث بعضهم على بعض بالهدم والبنيان ، فمرة قال : إن العشر سنين في ذلك

(11/150)


حيازة ، ومرة قال : إنها لا تكون حيازة إلا أن يطول الأمر أزيد من الأربعين سنة ، كحيازة الأب على ابنه والابن على أبيه . وقع اختلاف قوله في رسم الكبش من سماع يحيى من هذا الكتاب .
وأما حيازة القرابة بعضهم على بعض فيما لا شرك بينهم فيه ، فمرة جعله ابن القاسم كالقرابة الأشراك ، فرجع عن قوله في أن الحيازة تكون بينهم في العشرة الأعوام مع الهدم والبنيان ، إلى أنه لا حيازة بينهم في ذلك إلا مع الطول الكثير ، وهو نص قوله في الرسم المذكور ، من سماع يحيى بعد هذا؛ ومرة رآهم بخلاف القرابة الأشراك ، فلم يرجع عن قوله في أن الحيازة تكون بينهم في العشرة الأعوام مع الهدم والبنيان ، وهو دليل قوله في الرسم المذكور من رواية يحيى .
ثم رجع ابن القاسم فيما يحوزه الوارث على أشراكه بالهدم والبنيان ، لأن فيه دليلاً أنه لم يرجع عن قوله فيما سواهم من الموالي والأصهار والقرابة ، الذين لا شركة بينهم ، فيتحصل على هذا فيهما جميعاً ، والثاني إنها ليست بحيازة فيهما ، إلا مع طول المدة ، والثالث الفرق بينهما . وأما حيازة الموالي والاختان والأصهار ، فيما لا شركة لهم فيه ، فمرة جعلهم ابن القاسم كالأجنبيين ، تكون الحيازة بينهم بالعشرة الأعوام ، دون هدم ولا بنيان ، وهو قوله في رسم شهد من سماع يحيى بعد هذا من هذا الكتاب ، وقوله في رسم حمل صبياً من سماع عيسى من كتاب الدعوى والصلح ، ومرة جعلهم كالقرابة الذين لا شركة بينهم ، فيتحصل فيهم ثلاثة أقوال : أحدها إن الحيازة تكون بينهم في

(11/151)


العشرة الأعوام ، وإن لم يكن هدم ولا بنيان ، والثاني إنها لا تكون الحيازة بينهم في العشرة الأعوام إلا مع الهدم والبنيان . والثالث إنها لا تكون الحيازة بينهم بالهدم والبنيان ، إلا أن يطول الزمان جداً . وأما الأجنبيون الأشرك ، فلا حيازة بينهم في العشرة الأعوام . إذا لم يكن هدم ولا بنيان ، وتكون في العشرة الأعوام حيازة مع الهدم والبنيان ، ولا يدخل اختلاف قول ابن القاسم في ذلك ، الواقع في الرسم المذكور من سماع يحيى ، بدليل قوله فيه بين الورثة يحاص ، وقد قيل : إنه يدخل اختلاف قول ابن القاسم في ذلك ، وهو تأويل عيسى بن دينار في كتاب الجدار وسنزيد هذا المعنى بياناً في رسم الكبش من سماع يحيى إن شاء الله .
وأما حيازة الأجنبيين بعضهم على بعض فيما لا شركة بينهم فيه ، فالمشهور في المذهب ، أن الحيازة تكون بينهم في العشرة الأعوام ، وإن لم يكن هدم ولا بنيان ، وفي كتاب الجدار لابن القاسم ، إنها لا تكون حيازة إلا مع الهدم والبنيان ، وهو قول ابن القاسم في رواية حسين بن عاصم عنه ، ودليل ما في رسم إن خرجت من سماع عيسى بعد هذا ، ومن هذا الكتاب ، ويشهد لهذا القول ما وقع في الوطأ من قول ابن عبد الرحمن بن عوف في الأرض التي مكثت في يد أبيه سنين ، فما كنت أراها إلا لنا من طول ما مكثت في يديه . ولا اختلاف في أنها تكون حيازة بينهم مع الهدم والبنيان وبالله سبحانه وتعالى التوفيق . بالله لطفك .
ومن كتاب أوله سلعة سماها
وسئل عن رجل ابتاع جارية فتصدق بها على رجل ، ثم إن

(11/152)


الذي ابتاعها توفى ، واعترفت الجارية حرة ، فأخذ الثمن من البائع ، لمن تراه ؟ الورثة المتصدق ، أم للذي تصدق بها عليه ؟ قال : بل لورثة الذي تصدق بها ، وليس للذي وهبت له من الثمن شيء .
قال محمد بن رشد : هذا مثل ما في كتاب الشفعة من المدونة زاد فيها ، وكذلك لو اشترى داراً فوهبها لرجل ، فأتى رجل ، فاستحق نصفها وأخذ النصف الباقي بالشفعة ، لم يكن للموهوب له من نصف الثمن الذي يأخذه المستحق بالشفعة شيء ، لأن الواهب إنما وهب له الدار ، ولم يهب الثمن ، بخلاف إذا اشترى شقصاً من دار ، فوهبه لرجل وهو يعلم أن لها شفيعاً ، لأن الواهب قد علم أن الشفيع إن شاء أخذ وإن شاء ترك فليس له من الثمن شيء ، ولو لم يعلم أن لها شفيعاً لكان الثمن له . وقد اختلف هل هو محمول على العلم أو على غير العلم ؟ وفي الشفعة من المدونة دليل على القولين جميعاً . وبالله التوفيق اللهم لطفك .
ومن كتاب الشريكين
قال مالك في الرجل يشتري السلعة فتوجد مسروقة فيقيم الذي اعترفها البينة عليها أنه ما باع ولا وهب في عملهم ، ويحلف على ذلك ثم يعطاها ، فإن أراد الذي اعترفت في يديه ، أن يذهب بها إلى صاحبها الذي اشتراها منه ليأخذ ثمنها ، فإن ذلك له ، ولكن يضع قيمتها للذي استحقها ثم تدفع إليه حتى يستخرج حقه ، ولابد له من ذلك ، فإن دخل السلعة تلف من موت . أو نقصان ، لحق أو

(11/153)


غيره ، ضمنها ، وكانت قيمتها للذي اعترفها ، فإن تلفت القيمة ، فهي من الذي كانت تصير إليه . قال مالك : وإن كانت جارية لمي أمنه عليها ، رأيت أن يلتمس قوماً ممن يخرج إلى تلك البلاد ، فتدفع إليهم يكونون معها حتى يبلغونها ويستخرج حقه ، وإن لم يجد أحداً رأيت أن يستأجر عليها من يؤمن عليها ، يخرج بها معه . قال ابن القاسم : وتكون تلك الأجرة على من يطلب بها حقه .
قال محمد بن رشد : قوله : فيقيم الذي اعترفها البينة عليها ، أنها ماله وملكه ، وأنه ما باع ولا وهب في علمه ، يريد فيقيم الذي اعترفها البينة عليها ، أنها ماله وملكه ، وأنه ما باع ولا وهب في علمهم . وقوله : ويحلف على ذلك صحيح ، لأن ما تشهد البينة فيه على العلم ، فاليمين عليه من تمام الشهادة ، وسقط في بعض الروايات من هذه المسألة في علمهم ، وهذا سقط ذلك كان الظاهر أن البينة شهدت بذلك على القطع . وفي ذلك اختلاف قد مضى القول فيه مستوفى في رسم الأقضية من سماع أشهب ، من كتاب الشهادات ، فمن أحب الوقوف عليه . والعثور على حقيقة القول فيه ، تأمله هناك . وسائر وجوده المسألة كلها بينة صحيحة لا اختلاف فيها ، ولا إشكال في شيء من معانيها ، وأصلها في المدونة وغيرها ، وقد مضى طرف منها في رسم القبلة قبل هذا ، وبالله التوفيق . اللهم لطفك .
ومن كتاب سن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
قال : وقال مالك في الشهود إذا شهد وافي السرقية تسرق من رجل ، قال :يشهدون أنهم ما علموه باع ولا وهب على العلم . قال ابن القاسم : هذا في الاستحقاق ولا يقطع السارق بهذه الشهادة ،

(11/154)


ولا يقطع حتى يشهد أنهم رأوه يسرق .
قال محمد بن رشد : قوله : يشهدون أنهم ما علموه باع ولا وهب ، معناه : أنهم يزيدون ذلك في شهادتهم على معرفة الملك بالبت ، إذ لا بد من الشهادة على معرفة الملك بالبت ، وأما الزيادة على ذلك بأنهم لا يعلمونه باع ولا وهب فهو من كمال الشهادة . ومما ينبغي للقاضي أن يوقف الشاهد على ذلك ويسأله عنه ، فإن أبى أن يزيده في شهادته بطلت ، ولم يصح الحكم بها وإن قصر القاضي عن توقيف الشهود على ذلك ، وسؤالهم عنه حتى ماتوا أو غابوا حكم بشهادتهم مع يمين الطالب ، إذ لا يصح للشاهد أن يشهد بمعرفة الملك : إلا مع أن يغلب على ظنه أنه لم يبع ولا وهب ، فهي محمولة على الصحة . وقول ابن القاسم : إن السارق لا يقطع بهذه الشهادة ، ولا يقطع إلا بالشهادة على معاينة السرقة بين واضح ، لا إشكال فيه ولا اختلاف . وبالله التوفيق .
ومن كتاب أوله مرض وله أم ولد
وقال مالك في رجل وجد جاريته عند رجل قد ابتاعها ، وادعى أنها مسروقة ، فأقام رجلين عدلين ، فشهدا أنها جارية له ، ثم هلكت بيد الذي هي بيده ، ولم يقض له بها . قال : أراها من الذي قامت له البينة بأنها مسروقة منه ، ولا أرى له في ثمنها شيئاً وأن مصيبتها منه . قال ابن القاسم : ويرجع الذي كانت الجارية في يديه على بائعه بالثمن ، وذلك إذا كان الذي استحقت في يده منتفياً من وطئها ، ومن حمل إن كان بها . وأما إذا كان مقراً بوطئها ولم يدع إلا الاستبراء ، فماتت قبل أن تستبرأ فمصيبتها من الذي استحقها في يديه ، لأن كل من كان عليه أن يستبرأ منه ، فمصيبتها منه حتى يستبرئ .

(11/155)


قال محمد بن رشد : قول ابن القاسم في هذه الرواية وروايته عن مالك في أن الأمة المستحقة إذا ماتت في يد المستبرئ ، بعد أن أثبتها المستحق ، إن ضمانها منه ، ويرجع المستبرئ الذي كانت بيده على بائعها منه بالثمن : هو قول مالك في موطأه ، وقول غير ابن القاسم في كتاب الشهادات من المدونة .
وقد مضى في رسم الشجرة تحصيل الاختلاف في الحد الذي يدخل به الشيء المستحق في ضمان المستحق ، فلا معنى لإعادة ذلك . وقول ابن القاسم : ويرجع الذي كانت الجارية في يديه على البائع بالثمن ، وذلك إذا كان الذي استحقت في يديه منتفياً من وطئها إلى آخر قوله ، مفسر لقول مالك ، ويأتي على ما ففي سماع أشهب من كتاب العيوب في أن ضمان المردودة بالعيب من البائع ، وإن كان المبتاع الراد لها بالعيب قد وطئها إذا ماتت قبل أن يتبين بها حمل أن يكون ضمان الجارية المستحقة من المستحق إذا ماتت بعد أن أثبتها على هذه الرواية ، أو بعد أن حكم له بها على القول بأنها لا تدخل في ضمانه حتى يحكم له بها . وإن كان المبتاع المستحق منه قد وطئها إذا كان موتها قبل أن يتبين بها حمل . وهذا الاختلاف مبني على الاختلاف في الموطوءة هل هي محمولة على الحمل حتى يتبين أنه ليس بها حمل ، أو على غير الحمل حتى يتبين أن بها حملاً ؟ فذهب ابن القاسم إلى أنها محمولة على الحمل حتى يتبين أنه ليس بها حمل ، وهو المشهور ، وقد قال مالك في المدونة : جل النساء على الحمل . وذهب أشهب إلى أنها محمولة على غير الحمل ، حتى يتبين بها حمل ، فهذا وجه القول في هذه المسألة . ولو أقام المستحق البينة عليها بعد موتها ، لكانت مصيبها من الذي كانت في يديه ، ويرجع المستحق لها بالثمن على البائع أو بالقيمة إن كانت أكثر من الثمن إن كان غاصباً . قال ابن القاسم في سماع عيسى من كتاب الدعوى والصلح نصاً . وذلك ما لا اختلاف فيه ، وبالله التوفيق .

(11/156)


من سماع أشهب من مالك من كتاب الأقضية
وسئل عمن وقع له ميراث لابنته في دار ، فتزوجت الابنة ، ودخل بها زوجها ، ثم أراد أبوها بيع الدار ، فقيل له : لا نشتري ، نخاف أن لا تكون ابنتك راضية ، فجاء زوجها فقال : إنها قد وكلتنا ، فباعاها جميعاً ، فأقامت الدار في يد المشتري أربع عشرة سنة ، يبني ويهدم ، وهي مقيمة معه في البلد ، ثم جاءت بعد أربع عشرة سنة فقالت : ما وكلتهما ولا علمت بالبيع ، ولقد كانا يقولان لي إذا سألتهما عنها : أكريناها هي بكراء ، فقال مالك : مقيمة أربع عشرة سنة بالبلد ، يبنون ويهدمون لا تعلم ؟ فقيل : كذلك تقول من قال مالك : فلعلها ممن يجوز عليها بيعهما . فقيل له : قد تزوجت ودخل بها زوجها ، فقال له : قد يدخل بالمرأة زوجها وهي مولى عليها ، ويحوز عليها أمر وليها ، بقول الله تبارك وتعالى : {وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم فلعلها لم يونس منها رشد . فقيل له : كيف ترى إن كانت ممن لا يجوز عليهم أمرهم ؟ فقال : تطلب البينة عليها أنها وكلتهم بالبيع ، وإلا حلفت بالله ما علمت بذلك ورد البيع .
قال محمد بن رشد : قوله في هذه المسألة : فلعلها ممن يجوز عليها بيعهما معناه : فلعلها ممن يجوز عليها أمر أبيها ، فينفذ عليها بيعهما معاً . وقوله في آخر المسألة : تطلب البينة عليها أنها وكلتهم على البيع ، يريد أو على أنها علمت به فسكتت عليه ولم تنكره ، فإن قامت عليها البينة أنها وكلتهما

(11/157)


على البيع ، نفذ عليها ، قامت بالقرب أو بالبعد ، وأما إن لم تقم عليها البينة ، إلا أنها علمت بالبيع فسكتت عليه ولم تنكره ، ففي ذلك تفصيل ، أما إذا كانت مشاهدة للبيع ، فأنكرته قبل انقضاء المجلس ، حلفت ولم يلزمها ، وإن لم تنكره حتى انقضى المجلس ، لزمها وكان لها الثمن ، وإن مل تنكره حتى طال الأمر بعد انقضاء المجلس العام فما زاد ، فادعى الأب أن الدار ماله وملكه ، قد كانت خلصت له بوجه كذا مما يذكره ، حلف على ذلك ، وكان له الثمن ، وأما إن لم تشاهد البيع ، وإنما علمت به بعد يمينها أنها لم ترض به ، وإن قامت بعد العام ونحوه لزمها البيع ، وكان لها الثمن ، وإن قامت بعد مدة تكون فيها الحيازة عاملة ، فادعاء الأب أن الدار قد كانت خلصت له بوجه ، كان فيما يذكره ، حلف على ذلك ، وكان له الثمن . وقد مضى هذا المعنى في أول رسم من سماع يحيى من كتاب الأقضية . وبالله التوفيق .
مسألة
وسئل فقيل له: ابتعت داراً فبنيتها وعمرتها، ثم جاء رجل من الأندلس فاستحقها، فقال مالك: لك عليه ما عمرت من عمل الناس، فأما بنيان الأمراء، فلا أدري ما هو. قلت: أرأيت ما حسنته من عمل الناس؟ فقال: أفيكون للباني علي القائم قيمة قيمة البنيان أم نفقته؟ فقال: لا بل نفقته.
قال محمد بن رشد: قوله: إن للمشتري على المستحق ما عمر

(11/158)


من عمل الناس صحيح لا إشكال فيه لأنه عمل ما يجوز له فوجب أن يرجع بذلك على المستحق فيما يجب له به الرجوع عليه فيما عمره وبناه تفصيل واختلاف. أما إذا كان ذلك بحدثانه قبل بلاه، ففي ذلك قولان: أحدهما إن له النفقة، وهو قوله في هذه الرواية، والثاني إن له قيمة النفقة.
والقولان في المدونة على اختلاف الرواية فيها. وقد قيل: إن ذلك ليس باختلاف من القول، والمعني في ذلك إن له النفقة إن كان لم يغبن فيها، وقيمتها إن كان غبن فيها، فيرجع ذلك إلي أنه يكون عليه الأقل من النفقة، أو من قيمتها، وأما إن كان ذلك بعد أن طال الأمر ويلي البنيان فلا يكون له علي المستحق إلا قيمة بنائه قأئما علي حالته التي هو عليها قبل البلا قولاً واحداً.
وهو قول مالك في رسم مسائل وبيوع من سماع أشهب، من كتاب الشفعة.
ووجه العمل في ذلك أن يقال : كم قيمة الدار اليوم علي ما هي عليه من هذا البنيان القديم؟ وكم كانت تكون قيمتها اليوم، لو كان هذ البنيان الذي فيها جديداً؟ فينقص ما بين القيمتين من النفقة التي أنفق أو من قيمتها علي الاختلاف الذي ذكرناه في ذلك، فما بقي كان هو الذي يجب به الرجوع للمشتري علي المستحق، فإن أبي أعطاه المشتري قيمة النفقة، فإن أبي كانا شريكين، وقد قيل إنه إن أبي المستحق أن يعطيه قيمة البناء، كانا شريكين، ولم يكن للمشتري أن يعطي رب الدار قيمة النفقة، ويخرجه عنها. والقولان في آخر كتاب الغصب من المدونة ولم ير عليه غرم ما هدم من البناء، ولا ما قطع من النخل، إذا كان لما فعل ذلك وجه، ولم يكن عبثاً، هذا مذهبه في هذه الرواية، بدليل قوله: ما أري عليه شيئاً إذا كان ما يعمل الناس، وقوله يقيم البيت خرباً حتي يقدم هذا من الأندلس، معناه: أنه لما كان له هدمه ليصلحه، ولم يكن عليه أن يُبقيه، لم يكن عليه في هدمه ضمان وضُعف أن يكون له رجوع فيما بني من بنيان الأمراء بقوله: لا أدري ما هو. وقوله صحيح، لأنه أتلف ماله لما أنفقه فيما لا يسوغ له من السرف المنهي عنه. وبالله التوفيق.

(11/159)


من سماع عيسى منذ كتاب أوله نقدها نقدها
قال عيسى : وسألته عن الرجل الحر يتزوج الأمة ، ويشترط أن ولده منها حر ، فتلد أولاداً ثم يستحقها رجل . قال : إن أولادها رقيقاً قلت : أفيكون لأبيهم أن يفتديهم بالقيمة ؟ قال : لا إلا أن يشاء السيد . قلت : فإن أراد ذلك السيد ، وأبى الأب ، أيكون ذلك للسيد ؟ قال : لا .
قال الإمام القاضي : قوله : إن الولد رقيق صحيح ، لقول النبي عليه السلام " كل ذات رجم فولدها بمنزلتها ولم ير لأبيهم أن يفتديهم بقيمتهم من سيد الأمة المستحق لها ، إذ لم يغره منها ، وهو المخطئ على نفسه فيها ، ولو لم يستحق الأمة ، لكان الولد أحراراً بالشرط ، ويفسخ النكاح على كل حال .
وقد مضى القول على هذا في رسم سن من سماع ابن القاسم من كتاب النكاح ، وفي رسم الجواب من سماع عيسى منه . وبالله التوفيق .
ومن كتاب أوله عبد استأذن سيده
وسألت ابن القاسم عن رجل ابتاع عبداً فادعاه رجل في يديه ، فاستحقه وأخرجه من يديه ، فزعم المبتاع أنه من تلاد البائع ، هل يرجع على بائعه بالثمن هو يشهد أنه من تلاده ؟ والبائع يقول : لم

(11/160)


ترجع عليه بالثمن ، وأنت تعلم أني إنما بعتك عبدي وتلادي وإنما هذا رجل استحقه ظلماً أو ابتاع ثوباً من جل فاستحقه رجل في يديه ، فشهد المبتاع مما حاك البائع ، أو ابتاع منه داراً فاستحقت في يديه ، فشهد المبتاع أنها دار البائع ، ودار أبيه وجده . من قبله حطهم ، هل يرجع على صاحبه بالثمن في هذا كله ؟ وصاحبه يقول : أنت تعلم إنما بعتك مالي ، وإنما هذا ظالم ، أخرج هذا الحق من يديك قال : لا أرى أن يرجع عليه في جميع هذه الأموال بشيء ، إذا كان يعلم أنها أخرجت من يديه بظلم ، وأن الحق حق البائع .
قال محمد بن رشد : لأشهب في المجموعة : إن له أن يرجع على البائع ، وإن علم صحة الظلم الذي قام به المستحق ، ولا يضره ذلك ، لأن البينة قد شهدت أن البائع باع ما ليس له ، وذلك مثل قوله ، وقول ابن وهب ، في سماع عبد المالك ، من كتاب الكفالة والحوالة ، على ما كان يذهب إليه الشيوخ في ذلك . والذي أقول به : إن مسألة سماع عبد المالك لابن وهب وأشهب لا تعارض هذه المسألة ، لأنها مسألة أخرى خارجة عن هذا الاختلاف ، على ما سنبينه إن شاء الله . ومثله سحنون في نوازله من كتاب جامع البيوع ، ولعيسى بن دينار في نوازله من كتاب جامع البيوع ، ولعيسى بن دينار في نوازله من كتاب الدعوى والصلح ، في بعض الروايات . وقد قال بعض أهل النظر ، إنما لابن القاسم في سماع أي زيد من كتاب الكفالة والحوالة في الحميل يدفع ما تحمل به بحضرة الغريم ، فيجحد ويغرمه ثانية إنه يرجع على الغريم بما أدى أولاً وثانية ، هو على قياس قول أشهب في هذه المسألة ، وليس ذلك بصحيح ، لأنه إنما أرجعه على الغريم بالعشرة الأولى والثانية ، لما دفع كل واحدة منهما بحضرته ، من أجل أنه رأى الإشهاد يتعين عليه ، من أجل أن الدفع كان عنه بحضرته ، خلاف ما في سماع عيسى في الكتاب المذكور ، ومن أن الإشهاد في ذلك ، إنما يتعين

(11/161)


على الكفيل الدافع ، وإن كان الدفع بحضرة الغريم الذي عليه الدين ، فليست هذه المسألة من مسألتنا بشيء ، ولكلى القولين في مسألتنا وجه من النظر ، فوجه هذه الرواية ، أن المشتري لا يصح له أن يرجع على البائع بما يعلم أنه لا يجب عليه ، ووجه القول الثاني أن البائع أدخل المشتري في ذلك ، فعليه أن يبطل شهادة من شهد عليه بباطل ، حتى لا تؤخذ السلعة من يد المشتري ، ويتهم إذا لم يفعل ذلك أنه قصر في الدفع ، إذا علم أن المشتري لا يتبعه ، فأراد أن يكلفه من الدفع في البينة مما هو ألزم له منه . وبالله التوفيق .
ومن كتاب العرية
وسئل عن العبد يبني في أرض سيده بنياناً فسمى ذلك البنيان باسم العبد ، وبه يعرفه الناس ، بنيان فلان ، ثم يعتقه سيده عند الموت ، فيقول العبد : هذه الدار لي ، وإنما يعرفها الناس لي ، ويقول ورثة الميت : بل هي لنا . قال ابن القاسم : أما الأرض فهي فلورثة الميت ، وليس للعبد فيها كلام ، وأما النقص ، فهو للعبد ، مالاً من ماله يتبعه .
محمد بن أحمد هذا كما قال : إن النقض للعبد ، إذا كانت له بينة أنه هو ولي بنيانه ، أو أقر له الورثة بذلك ، وادعوا أنه إنما بناه بمال سيده موروثهم ، غير أنه إن أقروا له بولاية البنيان ، وادعوا أنه إنما بناه بمال سيده ، حلف أنه إنما أنفق فيه ماله لا مال سيده ، ويأخذ نقضه ، إلا أن يشاء ورثة السيد أن يأخذوه بقيمته منقوضاً ، وسواء على مذهب ابن القاسم ، أنكر الورثة أن يكون ولي البنيان فأقام البينة على ذلك ، أو أقروا بذلك ، وادعوا أنه إنما بناه بمال

(11/162)


سيده موروثهم ، إلا في إيجاب اليمين عليه ، إذا أقروا له بولاية البنيان ويأتي على قياس قول ابن وهب في سماع زنان من كتاب الدعوى والصلح ، في الرجل يبني في أرض امرأته أنهم إن أقروا له بولاية البنيان ، وادعوا أنه إنما بناه بمال امرأته ، حلف واستحق نفقته ، وإن لم يقروا له بولاية البنيان ، فأقام البنية على ذلك ، استحق نقضه ، لا النفقة التي أنفق ، إذ لا فرق بين المسألتين ، لأن العبد قد استحق ماله بحريته . وبالله التوفيق .
ومن كتاب يوصي لمكاتبه بوضع نجم من نجومه
قلت لابن القاسم : إذا استحق عبد من الرقيق ، أو عبدان أو شيء من الرقيق يسيراً في عددهم أيلزم البيع إذا كان الاستحقاق من عبيد بأعيانهم ؟ قال : نعم .
قلت : أرأيت إن كان الاستحقاق اليسير بينهما ، استحقه الرجل في جميع الرقي ، فقد منع من الوطء والسفر ، إن كان فيها جارية ، قال : سواء استحق في جميعها سهماً أو عبيداً بأعيانهم ، إن كان يسيراً لزمه البيع ، وقيل له : قاسم شريكك أنظر أبداً كل شيء يستحق ، وهو يقسم ، رقيقاً كان أو غير ذلك ، فإذا كان الذي استحق منه يسير ألزمه البيع ، وإن كان مالاً ينقسم في الرقيق والحيوان رده إن شاء ، كان الذي استحق منه قليلاً أو كثيراً . قيل : أرأيت لو كان في غير الحيوان الذي لا ينقسم ، مثل الشجرة يشتريها الرجل ، أوى الثوب أهو كذلك ؟ قال : نعم وهو قول مالك وتفسير قوله .

(11/163)


قال محمد بن رشد : هذه مسألة حسنة بين فيها أن استحقاق اليسير من الأجزاء فيما ينقسم ، كاستحقاق اليسير من العدد ، لا يكون للمشتري إلا الرجوع بقيمة ما استحق ، بخلاف استحقاق اليسير من الأجزاء فيما لا ينقسم ، هذا يكون للمشتري رد الجميع لضرر الشركة فهي تفسر سائر الروايات . واليسير النصف فأقل ، والكثير الجل ، وهو ما زاد على النصف . وهذا في العروض عند ابن القاسم ، بخلاف الطعام ، وما كان في معناه من المكيل والموزون ، فإنه يرى فيه استحقاق الثلث ، فما زاد كثيراً ، وساوى بين ذلك أشهب ، إلا أنه يقول في مثل العبيد إذا تساوت أثمانهم ، أو تقاربت أنه لم يشتر أحدهم لصاحبه ، فيلزمه من بقي منهم بما ينوبه من الثمن ، خلاف مذهب ابن القاسم ، إذ لا فرق عنده إذا استحق الجل من العدد ، بين أن تستوي قيمتهم أو تختلف . وبالله التوفيق .
من كتاب لم يدرك من صلاة الإمام إلا الجلوس
وسئل عن الرجل والمرأة ، صغيرين أو كبيرين ، يقران بالمملكة فيباعان فتوطأ المرأة فتلد ، وقد مات بائعها أو فلس ، أيكون ديناً على الكبيرين ؟ قال ابن القاسم : أرى ذلك ديناً على الكبيرين ، وأما الصغيران فلا أرى ذلك عليهما .
قال محمد بن رشد : على هذه الرواية ، التزم الموثقون أن يكتبوا في عقد الرقيق ، إذا كان العبد أو الأمة قد بلغا إقرارهما بالرق لبائعهما ، ليكون للمشتري إتباعهما بأثمانهما إن استحقا بحرية ، وثبت عليهما العلم بذلك ، والبائع ميت أو عديم ، وهو ضعيف ، لأن السكوت عند ابن القاسم في هذه المسألة كالإقرار ، يجب به للمشتري الرجوع ، وذلك منصوص له في رسم الجواب من سماع عيسى من كتاب الجهاد .

(11/164)


وقد مضى القول على هذه المسألة هناك مستوفى وذكرنا الاختلاف في وجوب الغرم عليها ، وأنه جار على مجرد الغرور بالقول هل يلزم به غرم أم لا ؟ وبالله التوفيق .
ومن كتاب إن خرجت من هذه الدار
وسئل عن الذي يكون بيده المسكن أو الأرض ، فيقيم رجل عليه بينة أنه مسكنه أو أرضه ، أو يقر له بذلك الذي هو بيده ، ويدعي الذي هو بيده أنه باعه منه أو تصدق به عليه ، أو وهبه أو ما أشبه ذلك ، ولا يأتي ببينة على شيء من دعواه . قال ابن القاسم : القول قول الذي هو بيده ، إذا كان قد حازه الزمان الذي يعلم في مثله أن قد هلكت البينة على البيع ، مع يمينه ، وأما الصدقة والهبة والنزول ، فإني أرى أني حلف صاحب المنزل بالله الذي لا إله إلا هو ما وهب ولا تصدق ، ولا أنزل ، ولا كان ذلك منه إلا على وجه التماس الرفق به ، فيرد إليه بعد أن يدفع إليه قيمة ما أحدث فيه نقضاً إن أحب ، وإن أبى أسلم إليه نقضه مقلوعاً قال : وإن كان الذي الأرض أو المسكن في يديه ورثها عن أب هالك أو غيره ، فالقول قوله مع يمينه ، إلا أن يكون مدعيها غائباً طرأ ، فيقيم البينة أنها له أو لجده ، فيسأل الذي هي في يديه ، البينة ، على اشتراء أو سماع ، فيكون أولى به ، وإن لم يأت بشيء من ذلك ، قضى به للقادم ، إذا أقام البينة أنها لأبيه أو لجده .
قال محمد بن رشد : دليل هذه الرواية ، أنه لا حيازة بين الأجنبيين في العشرة الأعوام ، إذا لم يكن هدم ولا بنيان ، إذ لم يجعل القول قول الحائز فيما حازه إذا ادعى ابتياعه من الذي حازه عليه ، إلا أن تطول المدة ، إلى ما تهلك فيه البينات .

(11/165)


وتفرقته في هذا بين البيع والهبة والصدقة والنزول ، خلاف قوله في رسم البراءة من سماع عيسى من كتاب القسمة ، فإنه ساوى بين البيع والهبة والصدقة ، في أن القول قول الحائز فيما ادعاه من ذلك كله ، إذا طالت مدة حيازته إياه ، في وجه صاحبه إلى ما تهلك فيه البينات . وقوله : وإن كان الذي الأرض أو المسكن في يديه ، ورثها عن أب هالك أو غيره ، فالقول قوله مع يمينه يريد فيما ادعاه من أنه صار به إلى أبيه ، من بيع أو هبة أو صدقة ، وكذلك لو قال : لا أعلم بما تصير إلى أبي ، إلا أني ورثته عنه وحزته عليك هذه المدة . لكان القول قوله مع يمينه أنه ماله وملكه ورثه عن أبيه لا يعلم بأي وجه تصير إليه على ظاهر هذه الرواية ، وهو قول ابن الماجشون ، خلاف قول مطرف وأصبغ ، وأما إذا كان المدعي غائباً طرأ ، فأقام البينة ، فلا ينتفع المقام عليه ، بمجرد حيازته ، دون أن يقيم البينة على الشراء بالقطع أو السماع . وبالله التوفيق .
مسألة
وسئل عن الإخوة يرثون المنزل ، فيقوم رجل منهم فيعمل في ذلك المنزل أو الأرض بيتاً قبل أن يقتسم أو يغرس ، ثم يقسم ، كيف الأمر فيها ؟ قال : يقسم ، فإن صار ذلك للذي بناه كان له ، وإن صار لغيره ، خير الذي صار له ذلك ، فإن أحب أعطاه قيمته منقوضاً ، وإن أحب أسلمه إليه فقلعه .
قلت فإن استغل من ذلك شيئاً قبل القسم ، قال : إن كانوا حضروا فلا شيء لهم ، لأنهم بمنزلة لو أذنوا له ، وإن كانوا غيباً فلهم من ذلك بقدر كراء الأرض البيضاء ، يكون عليه لهم ما ينوبهم ، صارت له أو لغيره إذا كانوا غيباً .
قالم حمد بن رشد : هذه مسألة قد مضى القول فيها مستوفى في أول سماع ابن القاسم ، فلا معنى لإعادته . وبالله التوفيق ، لا رب سواه .

(11/166)


ومن كتاب أوله أسلم وله بنون صغار
وسئل عن عبد باع أرضاً لسيده ، أو أعارها رجلاً ، فبنى فيها أو غرس ، ثم ظهر السيد على ذلك ، فأخذ الأرض ، هل ترى على السيد قيمة فيما بنى أو غرس أو الثمن الذي باعها به العبد إن كان باعها منه ؟ قال : ليس على السيد قيمة فيما بنى أو غرس ، إلا أن يريد أن يمسك البناء أو الغرس ، فيعطي الباني أو الغارس قيمة ذلك مقلوعاً ، ولا يكون للباني أو الغارس إن باينا عليه ، إذا أعطاهما قيمة ذلك مقلوعاً ، لأن قلعه من الفساد ، فلا يترك الفساد ، ويكون الثمن الذي اشترى به الأرض ، له على العبد يتبعه في ذمته ، إن كان له يوماً ما مال هو في ذمة العبد لا يعدو ذلك ذمته إلى رقبته .
قال محمد بن رشد : المعنى في هذه المسألة أنه إنما تكلم فيها على أن العبد تعدى على أرض سيده دون إذنه ولا علمه ، فأعارها رجلاً بنى فيها أو غرس ، أو باعها منه ، فبنى فيها أو غرس ، وهو عالم بعداء العبد في ذلك على سيده ، فلذلك حكم له بحكم الغاصب . فقال : إن لرب الدار سيد العبد أن يأخذ أرضه ، ولا يكون عليه فيما بنى أو غرس شيء ، إلا أن يحب أن يأخذ البناء والغرس بقيمته منقوضاً ، ويرجع المشتري على العبد في الشراء بالثمن الذي دفعه إليه ، فيتبعه به في ذمته ، ولا يعدو ذلك ذمته إلى رقبته ، ويكون للسيد أن يسقط ذلك من ذمته ، وقد قيل : إن ذلك يكون في رقبته ، وهو بعيد . ولو كان مأذوناً له في التجارة لم يكن له أن يسقط ذلك عن ذمته ، ولو لم يعلم المشتري أو المعار ، بتعدي العبد على سيدهن وظن أنه ماله ، وأنه مأذون له في التجارة ، لو أن سيده أمره أن يبيع له أرضه أو يعيرها ، لوجب أن يكون ذلك شبهة للباني والغارس ، فلا يكون للسيد أن يأخذ الأرض في

(11/167)


العارية قبل انقضاء أجلها ، إلا بقيمة ما فيها من الغرس والبناء قائماً ، بعد يمين المعار ، أنه لم يعلم بتعدي العبد ، ولا من المشتري ، إلا بعد أن يدفع إليه قيمة بنيانه وغرسه قائماً ، على حكم من استحق أرضاً من يد مبتاع ، وقد بنى أو غرس بعد يمين المشتري أيضاً ، أنه لم يعلم بتعدي العبد في ذلك على سيده ، فإن نكل عن اليمين حلف السيد إن كان حقق عليه الدعوى ، وترك النقض للباني ينقضه ، إلا أن يحب أن يأخذه بقيمته منقوضاً . وبالله التوفيق .
ومن كتاب الثمرة
وسألته عن الرجل يشتري الدابة بثوبين مستويين ، قيمتهما واحدة ، فيستحق أحدهما ، والدابة قائمة لم تتغير ولم تفت ، بماذا يرجع ؟ أبنصف قيمة الدابة ؟ أم يكون شريكاً معه في الدابة بنصفها ؟ قال ابن القاسم : لا يكون شريكاً معه فيها ، وإنما عليه نصف قيمة الدابة فاتت أو لم تفت .
قال محمد بن رشد : قوله في هذه المسألة : أن البيع لا ينفسخ باستحقاق أحد الثوبين المستويين ، هو مثل قوله وقول غيره في العيوب من المدونة في العبدين المتكافيين ، إن لم يشتر أحدهما لصاحبه ، وقد قيل : إن البيع ينفسخ باستحقاق أحدهما ، وهو قوله في آخر كتاب الاستحقاق من المدونة في بعض الروايات ، في الذي أسلم ثوبين في فرس ، فيأتي على هذا أن استحقاق النصف من العروض كثير كالطعام ، ويتحصل في المسألة ثلاثة أقوال : أحدها المساواة بين العروض والطعام ، في أن استحقاق النصف منهما كثير . والثاني المساواة بينهما في أن النصف يسير ، وهو مذهب أشهب ، واختيار سحنون ، والثالث الفرق بين الطعام والعروض ، في أن النصف والثلث من الطعام كثير ، ومن العروض يسير ، وهو المشهور المعلوم

(11/168)


من مذهب ابن القاسم . وأما قول ابن القاسم : إنه لا يكون شريكاً معه فيها ، وإنما عليه نصف قيمة الدابة فاتت أو لم تفت ، يريد يوم الحكم ، وإلى هذا ذهب أبو إسحاق التونسي . وقيل : إنه القياس ، فمعناه إذا كانت الدابة قائمة لم تفت ، وإن ذلك من حق المشتري للدابة من أ<ل الضرر الداخل عليه ، في مشاركة البائع له فيها . وأما إن أبى من ذلك ، فليس للبائع إلا أن شاركه فيها ، وقد قيل : إن ذلك ليس له ، وهو مخير إذا شاركه البائع فيها ، بين أن يمسك باقيها أو يرده ، فينفسخ البيع ، وهو قول ابن القاسم في سماع يحيى من كتاب الشفعة . وقد قيل إن البائع يشاركه في الدابة ، شاء أو أبى ، ولا خيار له في رد ما فيها ورد البيع ، وهو قول أشهب ، فهي أربعة أقوال ترجع في التحصيل إلى قولين : أحدهما أن من حق المشتري للدابة ألا شاركه البائع فيها ، وإن كانت قائمة لم تفت للضرر الداخل عليه بالشركة . والثاني أن ذلك ليس من حقه ، وللبائع أن شاركه فيها شاء أو أبى .
واختلف على القول بأن ذلك من حقه ، هل تكون عليه القيمة يوم البيع أو يوم الحكم ؟ واختلف بأن ذك من حقه ، هل يكون له رد الباقي إذا شاركه البائع أم لا ؟ والقياس قول أشهب إن للبائع أن شاركه فيها ، وأنه ليس له أن يرد باقيها ، لأن استحقاق بعضها عليه ، ليس من سبب البائع ، وإنما هو من سببه ، بخلاف من اشترى دابة ، فاستحق عليه بعضها ، إن له ردها على البائع ، قولاً واحداً ، لأن الاستحقاق من سببه . ووجه رواية يحيى أن رجوع البائع عليه ببعض الدابة التي اشترى منه ، استحقاق منه لبعضها ، فوجب أن يكون له رد بقيتها ، كما لو استحقها غيره . والقول الأول أصح ، لأنه إذا استحقها غيره ، فللبائع في ذلك سبب ، لأنه أدخله فيها ، وباع منه ما ليس له ، وإذا استحقها البائع ، فلا سبب له في ذلك ، بل السبب في ذلك للمبتاع ، فوجب ألا يكون له عليه رجوع .
والقول بأنه يرد باقيها عليه وإن لم يكن له سبب في استحقاق ما استحق منها ، هو على قياس قوله في كتاب كراء الدور من المدونة في الذي يكتري الحمامين ، والحانوتين ، فينهدم أحدهما إن له أن يرد الباقي إذا كان

(11/169)


الذي انهدم هو وجه ما اكترى ، والأظهر أنه ليس له أن يرد الباقي ، قياساً على ما أجمعوا عليه ، في الذي يشتري الثمرة فتذهب الجائحة بجلها ، إنما ليس له أن يرد الباقي منها ، وقول ابن القاسم : إنه لا يكون شريكاً معه في الدابة بقدر ما استحق منها ، ويكون عليه قيمة ذلك ، هو استحسان على غير قياس ، وإن كان المشهور من قول ابن القاسم ، والأظهر على طرد هذا القول ، أن تكون القيمة في ذلك يوم الحكم ، لا يوم البيع ، وظاهر ما في كتاب الاستحقاق من المدونة إنه إنما يكون عليه قيمة الثوب المستحق ، إذا كان يسيراً ، لا قيمة ما ينوبه من قيمة الدابة ، وهو بعيد ، فهو قول خامس في المسألة ووجود العيب بأحد الثوبين فيما يجب لمشتريهما بالدابة من الرجوع فيها ، أو في قيمتها ، إن أراد رده بالعيب ، كالاستحقاق سواء ، فإن كان أحدهما أرفع من الآخر ، مثل أن كون قيمة أحدهما عشرة ، وقيمة الثاني عشرين ، فاشتراها بدابة ، ثم وجد بأحدهما عيباً ، فلا يخلو من أن يجد العيب بالأرفع منهما ، أو بالأدنى ، والعبد قائم أو فائت ، فإن وجده بالأدنى منهما والعبد قائم لم يفت ، فسواء كان القائم قائماً أو فائتاً ، وفي ذلك من الاختلاف ما قد ذكرته في استحقاق أحد الثوبين ، وذلك قولان : أحدهما أن من حق المشتري للدابة بالثوبين ألا يرجع في عين الدابة ، للضرر الداخل عليه بالشركة ، ويختلف على هذا القول هل يكون عليه ما ناب المردود بالعيب من قيمة الدابة ، وهو الثلث على ما نزلناه من أن قيمة الأدنى عشرة ، وقيمة الأربع عشرون يوم البيع أو يوم الحكم ؟ والثاني أن من حق المشتري للثوبين بالدابة أن يرجع بما ناب المردود بالبيع بالعيب في عين الدابة ، ويختلف
على هذا القول هل يكون من حقه رد الباقي من الدابة ، وينفسخ البيع إذا شاركه البائع فيها ، أم لا ؟ وإن وجده بالأرفع منهما ، والعبد أيضاً قائم لم يفت بوجه من وجوه الفوت ، وكان الأدنى قد تلف أو فات بالعيوب المفسدة ، رد قيمته مع العبد الأرفع الذي وجد له العيب ، وأخذ دابته ، وإن كان الأدنى قائماً لم يفت ، أو فات بحوالة سوق ، أو نقص ، ردهما جميعاً وأخذ عبده ، وإن وجد

(11/170)


العيب بأحد الثوبين والدابة قد فاتت بحوالة سوق فما وفقه ، فوجد العيب بأدناهما ، فإنه يرجع بما ينوبه من قيمة العبد ، كان الأرفع قائماً أو قد تلف واختلف إن وجد العيب بالأرفع منهما وقد فات الأدنى بالموت أو العيوب المفسدة ، فقيل : إنه يرد الذي وجد به العيب ، وقيمة الأدنى ويأخذ قيمة عبده . وقيل : إنه يرجع بما ينوبه من الثمن في قيمة العبد ، وأما إن كان الأدنى قائماً أو لم يفت إلا بحوالة سوق ، أو نقص يسير ، فإنه يرده مع المعيب ، ويأخذ قيمة عبده . وأما إذا وجد العيب مشتري الدابة بالدابة ، فلا يخلو الأمر من ثلاثة أحوال : أحدها أن يكون الثوبان قائمين ، لم يفوتا بوجه من وجوه الفوت ، فيرد الدابة ويأخذ ثوبيه ، وأما إن كانا قد فاتا أو فات الأرفع منهما بحوالة سوق فما فوقه ، فليس له إذا رد الدابة إلا قيمة ثوبيه ، وأما إن كان الأدنى منهما هو الذي فات ، فيرد العبد ويأخذ الثوب الأرفع وقيمة الثوب الأدنى الذي فات .
فهذا تحصيل القول في هذه المسألة . وبالله التوفيق .
ومن كتاب حمل صبياً
وقال في رجل يدعي العبد أو الدابة قبل الرجل ، ويزعم أنه استودعها إياه ، وينكر أن يكون يعرف شيئاً مما طلب ، فيخاصمه فيموت العبد أو الدابة قبل أن يستحقها صاحبها ثم يستحقها قال : الجاحد غرام لقيمتها ، لأنه حين جحدها صار ضامناً ، قال : وكذلك الدار يجحدها ثم ستحقها صاحبها ، وقد انهدمت أو غرقت أو احترقت بعد الجحود ، إن الجاحد ضامن لقيمتها يوم جحدها ، وليس يوم يقضي عليه ، إذا ثبت ذلك عليه بوديعة أو غصب الغصب يوم غصبه والوديعة يوم جحدها .

(11/171)


قال محمد بن رشد : هذا بين على ما قال : إنه إذا أدعا عليه الغصب أو الإيداع فأنكر ذلك ، ثم ماتت الأمة فأقام المدعي البينة بعد موتها بما ادعاه من الغصب أو الإيداع أو أقر بذلك على نفسه ، إنه ضامن . ولو تداعيا فيها ولم يدع أحدهما على صاحبه فيها غصباً ولا إيداعاً فماتت ، ثم أثبت أنها له ، ولم يثبت غصباً ولا إيداعا ، لم يلزمه ضمانها باتفاق . ولو أدعى عليه الغصب أو الإيداع ، فأنكره ثم ماتت ، فأقام البينة بعد موتها ، إنها له ، ولم يقم البينة على ما ادعاه من الغصب أو الإيداع ، يتخرج ذلك على قولين . فقف على افتراق هذه الوجوه الثلاثة . وقد مضى بيان ذلك في نوازل سحنون من كتاب الرهون وبالله التوفيق لا رب سواه اللهم لطفك .
ومن كتاب شهد على شهادة ميت
وع الرجل يعمر في أرض أبيه أو مولاه ، حتى يهلك أو الختن يعمره في أرض ختنه ، ولا يأتي بينة على هبة ولا عطية . قال ابن القاسم : أما الولد فلا شيء له ، إلا أن يأتي ببينة على عطية أو صدقة أو هبة وأما المولى والختن فإنهما مثل الأجنبيين إذا عمروا أو غرسوا بمحضر صاحب الأرض ، ولا يغير عليهم ، ولا يشهد بعارية ولا بغير ذلك ، فإن ذلك لهم إذا عمروا زماناً طويلاً ، وذلك نحو من عشر سنين أو تسع أو ثمان إذا بنوا بنياناً معروفاً بعلم صاحب الأرض .
قال محمد بن رشد : رواية عيسى هذه ، في أن المولى والختن في الحيازة ، بمنزلة الأجنبيين ، خلاف رواية يحيى عنه في أول رسم من سماعه من هذا الكتاب ، في أنهما بمنزلة القرابات ، ومثله في آخر مسألة من هذا الكتاب في المولى .

(11/172)


وقد مضى تفصيل القول في الحيازات بين الأجنبيين والموالي والأصهار والاشراك والقرابات ، في رسم سلف من سماع ابن القاسم ، فلا معنى لإعادته .
ودليل هذه الرواية أنه فرق فيها في مدة الحيازة بين الأجنبيين ، بين أن تكون بعمارة دون هدم ولا بنيان ، وبين أن يكون بهدم أو بنيان ، فلم ير ما دون العشر سنين ، بالعام والعاملين حيازة ، إلا مع الهدم والبنيان . وفي الواضحة لابن القاسم خلاف هذا ، إن الثمار سنين حيازة ، وإن لم يكن هدم ولا بنيان . وهذا الاختلاف مبني على الاختلاف في القول بدليل الخطاب ، فمن قال به لم يرد مجرد الحيازة عاملة فيما دون العشرة الأعوام ، لأن في نص النبي عليه السلام على العشرة الأعوام دليلاً على أن ما دونها بخلافها . وهو دليل هذه الرواية عن ابن القاسم ، ورواية يحيى عنه في أول رسم من سماعه بعد هذا . ومن لم يقل به ، حكم لم أقرب من العشرة الأعوام ، بحكم العشرة الأعوام ، لأن المعنى الموجود في العشرة الأعوام وهو المشاحة ، موجود فيها قرب منها ، وهو قول ابن القاسم ، فيما حكى ابن حبيب عنه . وأما ما نص عليه في هذه الرواية من أن الحيازة بين الأجنبيين فيما دون العشرة الأعوام ، بالعام والعاملين ، عاملة مع الهدم والبنيان ، فهو صحيح لا ينبغي أن يقع فيه اختلاف ، لأن المشاحة فيما قرب من العشرة الأعوام مع الهدم والبنيان أكثر منها في العشرة الأعوام ، دون هدم ولا بنيان . ولا تعلق لمن ذهب للخلاف في ذلك ، بدليل الخطاب في الحديث ، إذ لم يأت إلا في مجرد الحيازة ، وما لا تكون فيه الحيازة عاملة إلا مع الهدم والبنيان ، فلا يكتفي فيها بما دون العشرة الأعوام قولاً واحداً وإنما يختلف في العشرة الأعوام ، على ما يأتي في أول رسم من سماع يحيى بعد هذا والله الموفق .
مسألة
وعن الرجل يحوز على أبيه في حياته الحيوان الرأس ، أو

(11/173)


الدابة حتى يموت أبوه ، وذلك الحيوان في يد ابنه ، فيموت الأب ، فيقول الورثة هذا الرأس لأبينا وهذه الدابة له ، ولا بينة له على صدقة ولا عطية بينة ، هل ينتفع بطول تقادمه في يديه ، والأصل معروف ؟ قال ابن القاسم : لا ينتفع بطول تقادمه في يديه ، إلا أن يأتي على ذلك بينة .
قال محمد بن رشد : هذا من قول ابن القاسم ، مثل ما تقدم من قول مالك في رسم يسلف من سماع ابن القاسم ، في أن الابن لا ينتفع بحيازة الأرض على أبيه بالازدراع والاعتمار إذا ادعاها ملكاً لنفسه دون بينة .
وقد مضى القول على ذلك هنالك مستوفى فلا معنى لإعادته وبالله التوفيق .
ومن كتاب أوله يريد ماله
وسئل عن الرجل يشتري العبد فيكاتبه ، ويأخذ كتابته ، ثم يستحق حراً ، أله أن يرجع بما أخذ منه من كتابته ؟ قال : لا إنما ذلك بمنزلة الخراج يخارجه عليه ، والإجارة يأخذها له ، والخدمة يستخدمها إياه ، والعمل يستعمله فيه ، فليس للعبد وإن استحق بعد ذلك حراً أن يرجع عليه بما أخذ منه من إجارته وخراجهن ولا بما خدمه وعمل له ، وكذلك الكتابة ، قال ابن القاسم : ولكن لو كان انتزع منه مالاً كان له ، لكان له أن يرجع عليه بالذي انتزع منه ، فيأخذه ، كان ذلك المال مما اشتراه له معه أو أفاده عنده من فضل خراجه أو عمله ، أو ما تصدق به عليه ، أو وهب له ، فانتزعه منه فذلك سواء ، يرجع به عليه ، وذلك أن رقبته لم تزل حرة ، لم يدخلها ملك ، فماله الذي كان ملكه وحازه ، ليس لأحد انتزاعه ،

(11/174)


بمنزلة حرية رقبته ، ليس لأحد أخذه بغير حق ، وكذلك لو كان جرح فأخذ له السيد عقلاً ، ثم استحق حراً فإنه يرجع على السيد بما كان أخذ من عقل جراحه ، لأنه لم يكن ضامناً له لو مات عنده لرجع على بائعه بالثمن ، إذا علم أنه حر ، فإن قال قائل : فما بال الخراج والعمل والخدمة لا تكون بمنزلة الانتزاع يرجع به أيضاً لأنه كان في جميع ذلك لا يضمنه ، وكان يرجع بالثمن إن هلك عنده إذا علم بحريته ؟ فليس كما قال فرق بين ذلك ، أن كل من اشترى عبداً فإنما يشتريه للغلة والمخارجة والخدمة والعمل ، ولذلك يتخذ الناس العبيد ، لأخذ أموالهم ، لا ليعرضوهم الجنايات ، ليأخذوا لها عقلاً ، وجل العبيد الذين يباعون ويشترون ، ويملكون ، ليست لهم أموال ، وإنما يملكون ذلك من الخاص من العبيد . فهذا فرق ما بينهما عندي والله أعلم .
ولكن لو كان مشتريه وهب له مالاً أو جارية أو شيئاً ثم استحق حراً ، كان للسيد أن يأخذ ذلك كله ، لأنه يقول : إنما أعطيته ذلك حين كنت أرى أنه عبدي أستطيب بها نفسه ، لينصحني ، وليحفظ على مالي ، وما أفاده عنده أيضاً مما استتجره به ، فإن له أن يأخذه ، لأنه يقول : إنما هو فضلة مالي به اكتسبه ، ولأني استتجره بمالي يوم استجرته به ، وتركته في يديه يوم تركته ، وأنا أرى أنه عبد وأنه مالي ، إذا ما شئت انتزعه فأراه يرجع عليه به ، بمنزلة ما وهب له ، لأنه إنما أقره بيده ، بعد اكتسابه إياه ، فكأنه هبة منه له ، فأرى له أن يرجع فيه كما يرجع بغيره ، مما وصفت لك والله أعلم . قال ابن القاسم : وذلك إذا استتجره لنفسه ، فله أن يأخذ الفضل ، وأما إذا قال له : خذ هذا المال فاتجر به لنفسك ، فلا أرى له أكثر من رأس ماله .
قال محمد بن رشد : قوله في هذه المسألة : إن الكتابة كالخراج ،

(11/175)


والعمل لا يرجع المكاتب على سيده إذا استحق حراً بما أدى إليه من الكتابة ، كما لا يرجع العبد على سيده إنه استحق حراً بما أدى إليه من خرجه ، ولا بقيمة عمله صحيح ، على أصل مذهب مالك في أن الكتابة جنس من الغلة ، وأن المكاتب عبد ما بقي عليه من كتابته شيء ، وإنما يفترق ذلك على مذهب من يرى أن المكاتب حر بعقد الكتابة ، غريم بما كوتب به ، فيأتي على هذا المذهب أن له أن يرجع على سيده إذا استحق حراً بما أدى إليه من الكتابة ، بخلاف الخراج والعمل . وفي الخراج وقيمة العمل اختلاف ، قيل : إنه يرجع به ، وهو قول ابن نافع في المدينة قال : إلا أن يكون خراجاً لم يقبضه السيد ، فهو للعبد ، وهو ظاهر قول ابن القاسم في المدونة ، لأنه علق العلة فيها بالضمان ، ولا ضمان عليه في هذا العبد ، لأنه لو مات ثم استحق بحرية ، لكان له أن يرجع بالثمن الذي أدى فيه إلى البائع منه ، وكذلك الأصل إذا استحق بحبس من يد مشتر يجري الأمر في وجوب الرجوع عليه بالغلة على هذين القولين ، لأنه لو غرق أو انهدم ثم استحق بحبس لكان له أن يرجع بالثمن ، فلا فرق بين المسألتين في القياس ، وإنما وقع الاختلاف فيهما من أجل أن الضمان قد يكون وقد لا يكون ، إذ قد يجد على من يرجع بالثمن ، وقد لا يجد ، ألا ترى أنه ما يضمن فيه المقتل بكل حال في الموت والتلف تكون له الغلة في الضمان قولاً واحداً ؟ كالمشتري يشتري الشيء فيقتله ، ثم يستحق من يده بملك وما لا يضمن فيه بكل حال ، يرد الغلة قولاً واحداً ، كالوارث يستقل ما ورثه ، ثم يأتي من يشاركه من الميراث أو من يكون أحق به منه .
و قد اختلف في الغاصب ، هل يرد الغلة أم لا ؟ اختلاف كثير قد ذكرناه في غير هذا الديوان ، من أجل أن الضمان قد يكون وقد لا يكون ، إذ قد يرجع عليه المغصوب منه بالقيمة إن تلف ، وقد لا يرجع فقف على هذا الأوجه الأربعة وهي : وجه ترد فيه الغلة باتفاق ، ووجه لا ترد فيه باتفاق ووجهان يختلف في وجوب رد الغلة فيهما ، لضعف الضمان فيهما الذي هو الأصل في هذه المسألة ، لما ثبت من قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " الخراج

(11/176)


بالضمان " ولا اختلاف في أن العبد إذا استحق بحرية ، أن يرجع على سيده بما انتزع من ماله ، وبما أخذه من عقل جرحه ، إذ ليس شيء من ذلك بلغة ، فتكون للسيد بشبهة الضمان على أحد القولين ، وإنما هو بمنزلة رقبته التي قد وجبت حريتها ، فليس لأحد أخذه بغير حق . وتعليله لذلك بأنه لم يكن ضامناً له لو مات عنده ، لرجع على بائعه بالثمن ، إذا علم أنه حر ، ليس بصحيح على أصله ، لأنه يلزمه عليه ما ألزمه القائل من أن يكون له أن يرجع عليه بالخارج والعمل ، وتفرقته بين ذلك بأن العبيد يتخذون للغلة والمخارجة والعمل والخدمة ، لا لأخذ أموالهم ، وديات الجنايات عليهم ، تفرقة ضعيفة ، لا وجه لها ، إذ لا يخلو من أن يكون ذلك غلة ، فيكون حكمه حكم الخارج والخدمة ، على الاختلاف الذي ذكرناه أو لا يكون غلة ، فيكون له الرجوع به على سيده قولاً واحداً ، وهو الذي اخترناه وصوبناه . وقوله : إن للسيد أن يرجع عليه بما وهبه من المال ، وبما أفاده من المال الذي استتجره به إذا استحق بحريته ، وكان إنما استتجره لنفسه ، كما فسر ابن القاسم ، صحيح ، لا أعرف في شيء من ذلك كله اختلافاً .
ومثله حكى ابن حبيب في الواضحة في كتاب الصدقات والهبات منها عن مطرف وابن القاسم وابن الماجشون ، في العبد إذا استحق بحرية أو ملك أيضاً وقال : إنه إن أعمره أو حبس عليه ، فلا رجوع له عليه في ذلك قبل أن يستحق ، ولا بعد أن يستحق بالملك أو الحرية ، ولا لمستحقه بالملك . قالا : وذلك يصحبه أيام حياته كذلك ، قال مالك والمغيرة وغيره من علمائنا أيضاً قالا : وله ولمن صار إليه العبد أن يأخذا منه إن أحبا ما صار إليه من ثمرة الحبس أو غلته ، بعد أن يصير ذلك إليه ، وفي يديه ، لأنه كماله ، وهو بعيد ، لا وجه عندي للتفرقة بين الهبة وبين العمرى والحبس ، واختلف إذا أعطاه أو تصدق عليه ، ثم أعتقه بعد ذلك فاستحق بعد العتق بحرية أو ملك ، فقيل : له الرجوع عليه بما أعطاه أو

(11/177)


تصدق به عليه ، إلا أن تكون عمرى أو حبساً . وقيل : ليس له أن يرجع عليه بشيء من ذلك واختلف أيضاً إذا أعطاه بعد أن أعتقه وهو يرى أنه مولاه ، ثم استحق بحرية أو ملك ، فقال ابن الماجشون : له أن يرجع عليه بما أعطاه وقال مطرف وأصبغ : ليس ذلك له ، واختار ابن حبيب قول ابن الماجشون . وبالله التوفيق .
ومن كتاب الجواب
وسألته عن رجل غاب عن داره أو أرض له ، فدخلها رجل بعد غيبته فسكنها زماناً ، ثم مات عنها وبقي ورثته فيها ، فقدم الغائب ، فادعى ذلك ، وأصله معروف له ، والبينة تشهد أنه إنما دخل فيها الميت ، بعد مغيب هذا ، وإن كان يختلف ، إن كان يسمع من الهالك يذكر أنه اشترى أو لم يسمع ذلك منه ، وإن طال زمان ذلك أو لم يطل . قال ابن القاسم : القادم أولى بها إذا كان على ما ذكرت ، كان الداخل فيها حياً أو ميتاً ، ولا يلتفت إلى ما كان يسمع من الداخل الهالك ، يذكر أنه اشترى . والقادم أحق بأرضه إذا كان الأصل معروفاً له ، والبينة تشهد له على ما ذكرت من دخول هذا بعد مغيبه ، طال زمان ذلك ، أو لم يطل ، إلا أن تكون للداخل بينة على اشتراء أو هبة أو صدقة أو سماع ، صحيح على اشتراء مع طول زمان وتقادم ، فإن لم يكن ذلك ، فالأرض أرض القادم على ما شهد .
قال محمد بن رشد : هذه مسألة صحيحة بينة على معنى ما في المدونة وغيرها من أنه لا حيازة على غائب ، فإذا قدم والأصل معروف له ، وشهدت له البينة بدخول البيت فيها بعد مغيبة كما ذكر ، كان على ورثته البينة ، على ما ادعوا من اشتراء أو صدقة أو هبة أو سماع على ذلك ، فيما طال

(11/178)


من السنين ، ولو عرف الأصل للغائب ، ولم يشهد له بدخول الميت فيها بعد مغيبه ، وادعى ذلك ، فقال ورثته : بل دخل فيها بحضورك قبل مغيبك ، فحيازتنا عليك عاملة لوجب أن يكون القول قوله مع يمينه أنه ما دخلها إلا بعد مغيبه ، ويزيد في يمينه ، على ما في المسألة التي بعدها أنه ما علم بذلك في غيبته ، إلا أن تكون غيبته بعيدة ، وليس عليه أن يزيد ذلك في يمينه على ما في المسألة التي تليها ، لأنه عذره فيها بالمغيب وإن كان قريباً والله الموفق .
مسألة
قال ابن القاسم : ,أما الغائب الذي ذكرت على مسيرة الثمانية الأيام ، وقد حيزت أرضه ، عليه فليست تلك حيازة لوا حيازة على غائب ، إلا أن يكون قد علم بذلك وعرفه ، فترك ذلك ولم يطلبه ولم يخرج إليه حتى طال زمان ذلك ، كما أخبرتك مما تكون فيه الحيازة ، وهو تارك لذلك ، عالم به ، فلا شيء له بعد ذلك .
قال الإمام القاضي جعل مسيرة الثمانية الأيام في هذه المسألة قريباً ، ولم يعذره بمغيبه إذا علم وذلك خلاف قوله في المسألة التي بعدها ، مثل قوله في رسم الأقضية من سماع يحيى بعد هذا من هذا الكتاب . والله الموفق .
مسألة
قال عيسى : قلت لابن القاسم : فالرجل يغيب الغيبة غير البعيدة ، مثل مسيرة أربعة أيام ونحوها ، ورجل يعمل أرضه عشر سنين أو عشرين سنة ويموت عنها العامر ، ويرثها ولده ، فلا يطلب ذلك ، ولا يوكل ، وهو تبلغه عمارته ولا يذكر شيئاً فيقدم

(11/179)


يطلب ذلك بعد عشرين سنة ، وقد صارت بيد وارث ، قال : ذلك له ، ولا يقطع ذلك عن الأمر القريب ، وليس كل الناس يقرب ذلك عليهم . وللناس معاذير في ذلك من ضعف البدن ، والنظر في صنعته والضيعة تكون من النبات ولا يستطيع مفارقتهن ، قلت له : فإن لم يكن عذر ولا ضعف يعرفه الناس ، قال كم فيمن لا يتبين عذره للناس وهو معذور ، فلا أرى أن يقطع ذلك عنه شيء ، متى ما قام ، كان على حجته .
قال محمد بن رشد : عذره ابن القاسم في هذه المسألة بمغيبه ، وإن كان قريباً ، فلم ير الحيازة عليه عاملة ، خلاف قوله في المسألة التي قبلها . وفي أول رسم الأقضية من سماع يحيى بعد هذا من هذا الكتاب . وقد حكى عيسى في كتاب الجدار اختلاف قول ابن القاسم في هذه المسألة ، ثم قال : وأحب قوله إلي أن يكون على حقه ، إلا أن يقوم وحقه في يد الذي حازه في غيبته ، فعلم بذلك ثم رجع ولم يذكر شيئاً حتى قام اليوم ، وقد طال زمان ذلك بعد أن علم ، فهو كالحاضر الذي يستحق عليه الأشياء بالحيازة ، فيما فسرت لك ، والله أعلم . وهذا الاختلاف في القريب إنما هو إذا علم ، وأما إذا لم يعلم فلا حيازة عليه ، وإن كان حاضراً غير أنه في القريب محمول على غير العلم حتى يثبت عليه العلم ، وفي الحاضر محمول على العلم حتى يتبين أنه لم يعلم ، والقريب في هذا الذي اختلف فيه هذا الاختلاف ، ما كان على مسيرة الثمانية الأيام ونحوها ، والبعيد مثل الأندلس في مصر ، أو مصر من المدينة على ما قاله في رسم الأقضية من سماع يحيى ، ولم يختلف في البعيد الغيبة ، أنه لا يحاز عليه بطول المدة وإن علم . وبالله التوفيق .
ومن كتاب العتق
وسئل عن رجل ابتاع داراً فاستحق رجل فيها سهما من عشرة

(11/180)


أو أقل أو أكثر ، فهل ينقض ذلك شراءه ؟ قال : قال مالك : فإن كان الذي استحق منها يسيراً ، قلت العشر ، قال ربما كان العشر فيها يضر وفيها ما لا يضر ، فإنما ينظر في ذلك الوالي على الاجتهاد ، فإن رأى ضرراً رده وإن لم ير ضرراً أمضى البيع ورد عليه قدر ذلك من الثمن .
قال محمد بن رشد : هذا كما قال : إن استحقاق العشر من الدار قد يضر ببقية الدار ، وقد لا يضر ، فإن كانت لا تنقسم أعشاراً فلا شك في أن ذلك ضرر له ، رد جميعها ، وأما إن كانت تنقسم ببيت يحصل للمستحق منالدار والمدخل على باب الدار ، والساحة مشتركة ، فإن كنت داراً جامعة كالفنادق التي تكرى ويسكنها الجماعة من الناس فليس ذلك بضرر ، فيرجع بقدره من الثمن ، ولا يرد الجميع ، وإن كانت دار للسكنى ، فذلك ضرر . وأما إن كانت تنقسم بغير ضرر ولا نقصان من الثمن ، ويصير لكل نصيب حظه من الساحة ، وباب على حدة ، فليس ذلك بضرر ، إلا أن يكون المستحق على هذه الصفة الثلث فأكثر ، والدار الواحدة في هذا ، بخلاف الدور ، ولأنه إذا اشترى الدور ، فاستحق بعضها ، لا يرد جميعها ، إلا أن يكون الذي استحق منها أكثر من النصف ، وهو الجل ، هذا الذي يأتي في هذه المسألة على مذهب مالك ، لأنه قد نص في المدونة في القسمة وفي النكاح منها أن استحقاق ثلث الدار الواحدة كثير .
وقد مضى في رسم يوصي من هذا السماع ما فيه ببيان لهذه المسألة وبالله التوفيق .
من سماع يحيى بن يحيى من ابن القاسم من كتاب الكبش
قال يحيى : وسألت ابن القاسم عن رجل بنى وغرس في

(11/181)


أرض كانت في يديه ، فاشتراها ، فاستحقها رجل ، فقيل للذي استحقها : اغرم له قيمة غرسه وعمله ، فقال : ما بيدي ما أعطيه اليوم ، وما أريد إخراجه ، فليسكن حتى يرزق الله ما أودي إليه ، ولينتفع بعمله حتى يأخذ حقه فكره صاحب الغرس تأخير ذلك ، وقال : أما إذا قضى علي بالخروج ، وصارما في يدي لغيري ، فلست أقيم فيما لا حق لي فيه ، مع ما أخاف من نقصان قيمة عملي بتأخير أخذ القيمة منه . قال : يغرم المستحق ما وجب عليه من القيمة ، ولا يؤخر للعشرة ، فإن كره أو كان معدماً ، قيل للعامل في الأرض : ادفع إلى قيمة أرضه ، ثم تكون لك وما أ؛دثت فيها . فإن أبى أو كان معدماً ، كانا شريكين في الأرض والعمارة ، على قدر قيمة الأرض ، وقدر قيمة العمران ، وأمرهما مثل الذي استحق في يديه أرض عمرها وهو يراها مواتاً . قال : وإن رضي ذلك الذي عمر الأرض أن يؤخر المستحق ، على أن يقره ينتفع بعمارته ما حل ذلك بينهما ، لأن حقه قد وجب معجلاً ، فهو يؤخره على الانتفاع ، فهو بالأرض والعمران الذي قد صار للمستحق بالقيمة التي يؤخره بها ، وهو كالسلف الذي يرضى لصاحبه بتأخيره .
قال محمد بن رشد : هذه مسألة صحيحة بينة لا إشكال فيها . ورواية المدنيين فيها عن مالك ، أن صاحب العمارة لا يخير ، ويكونان شريكين إن أبى المستحق أن يعطي صاحب العمارة قيمة عمارته ، خلاف مذهب ابن القاسم ، وروايته عن مالك ، وقوله : ولو رضي الذي عمر أن يؤخر المستحق ، على أن يقره ينتفع بعمارته ، لم يحل ، لأنه سلف جر منفعة ، صحيح ، على ما قاله ، ولو أكراه منه المستحق بما وجب له عليه من قيمة البناء ، لم يجز عند ابن القاسم ، لأنه الدين بالدين ، ويجوز على مذهب أشهب ، لأن قبض أوائل الكراء ، كقبض جميعه . وبالله التوفيق .

(11/182)


مسألة
قال يحيى وسألت ابن القاسم عن ورثة ورثوا منزلاً فهلك بعض الورثة ، وترك أولاداً ، فادعى ولد الذين ماتوا بعد موت الأول ، أن المنزل الذي هلك عند جدهم بينهم لم يقسم ، وادعى الباقون من ولد الجد ، أنه ليس في أيديهم غير حقهم ، وأنهم عايشوا إخوتهم ، حتى مات منهم ، وكلهم مقيم على ما في يديه من المنزل ، راض به ، والذي في أيديهم من المنزل فيختلف ، في أيدي بعضهم القليل ، وفي أيدي بعضهم الكثير ، وعسى أن يكون فيهم من ليس في يديه منه شيء ، وقد تعايشوا على تلك الحال ، الثلاثين سنة ونحوها ، فلما مات منهم من مات ، أراد ورثته أخذ سهم أبيهم ، أترى ذلك لهم ؟ ولعلهم قد كانوا اقتسموا ، فإن طلبوا على ذلك بينة لم يجدوها ، لطول الزمان ، وما يحدث على الشهداء من الموت والنسيان ، فقال : أما كل دار أو مزرعة لم يحدث فيها الوارث الذي هي في يديه ، أو فيما كان في يديه منها غرساً ولا بنياناً حتى يكون بما أحدث حائزاً له دون ورثته ، وإنما الدار بحال ما هلك عنها الجد ، غير أن بعضهم يسكن منها أكثر مما يسكن بعض ، أو يكون في أيدي بعضهم دون بعض ، أو المزرعة يزرعها أحدهم دون الآخرين ، أو يزرع منها بعضهم أكثر من بعض ، فلا أرى أن يستحق أحدهم شيئاً من ذلك بطول السكنى الازدراع ، وإن طال زمان ذلك جداً ، وليسوا فيما حازه بعضهم عن بعض ، من غير إحداث عمارة ببنيان أو كراء ، كأن يقبضه لنفسه ويكريه باسمه بحضرة إخوته وعلمهم ، كما يحوزه الأجنبي من مال الرجل . قلت فكم ترى طول حيازة الأجنبي مال الرجل الذي يستحقه به ، لا تسأله البينة على ما في يديه منه ، وإن لم يبين ولم يغرس غير أنه سكن

(11/183)


الدار وازدرع الأرض ، أو ما أشبه ذلك ؟ فقال : العشر سنين ونحوها ، يبطل عندي دعوى من ترك رجلاً يحوز عليه أرضه وداره بالسكنى والازدراع ، وهو حاضر لا ينكر ولا يمنع ، قال : وأبين ذلك عندي أن يبني ويغرس .
قلت أترى الإخوة فيما بينهم من ميراثهم ومن معهم من سائر الورثة إذا كان ما يحوزه بعضهم عن بعض العشر سنين ونحوها بإحداث الغرس والهدم والبنيان والكراء الذي يكريه باسمه ، ويتقاضاه دونهم ، وتنتسب تلك الدور والأرضون إذا أكروها إلى بعضهم دون بعض . أترى أن يكونوا في هذه الحالة بمنزلة الأجنبيين فيما ذكرت من العشر سنين ونحوها ؟ فقال : نعم . حاله عندي فيما يحوزه بعضهم دون بعض بالهدم والبنيان والغرس ، بمنزلة ما يحوزه الرجل من مال الرجل . والتقادم عندي فيه الذي يستحقه به حيازة العشر سنين ونحوها ، فقال : والموالي والأصهار ، يساكنون الرجل في داره المعروفة له ، أو يحرثون أرضه فيعايشهم على ذلك زماناً ، فيدعيها بعضهم بالتقادم ، أو في موت ويدعي ذلك ورثته ؟ أرى أن لا يستحقوا شيئاً مما سكنوا واحترثوا بتقادم ذلك في أيديهم ، إلا أن يغرسوا أو يهدموا أو يبنوا ، فيكون حينئذ حالهم عندي على ما وصفت لك ، مما يحوزه الأجنبي ، من أرض الرجل أو داره ، قال يحيى : ثم رجع ابن القاسم فيما يحوزه الوارث على إشراكه بالهدم والبنيان والغرس ، فلم ير ذلك يقطع حق الوارث من ميراثه . وثبت فيما حازه الوارث ، عن موارثتهم وإن حازها بعضهم عن بعض بغير ما ذكرت لك من الوطء والهبة وما أشبه ذلك طول الزمان ، إلا أن يطول جداً . قال : ولم ير الأربعين سنة وما دونها بطويل جداً بين الورثة بخاصة ، وسواء عندنا فيه أخوان حازه أحدهما دون صاحبه ، أو مات أحدهما ، أو ماتا جميعاً فتداعيا فيه أبناؤهما

(11/184)


أو أبناء الأبناء ، الأمر فيه هو ألا يقطعه إلا طول الزمان جداً .
قال : وكل ما حازه المولى من دار مولاه ، أو أرضه ، أو الأصهار أو الولد ، فهو بهذه المنزلة ، لا يقطع ذلك حق الذي تعرف له الأرض بطول عمارتهم وإن هدموا وبنوا ، إلا أن يطول جداً ، مثل ما وصفنا من أمر الورثة فيما يحوزه بعضهم دون بعض ، الذي يعرف الناس به من التوسع للمولى والصهر والولد ، إلا أن يحوز ذلك بالبيع والعطايا أو الهبات أو الصدقات ، وما أشبه ذلك مما لا يصنعه المرء إلا في خاصة ماله . قال : وأبناؤهم وأبناء أبنائهم بمنزلتهم ، لا حق لهم فيما عمر الأب والجد من دار مواليه أو أرضه أو صهره أو ابنه أو جده ، إلا أن يطول الزمان جداً ولا ينفعه أن يقول : ورثت عن أبي ، وأبي عن جدي ، لا أدري كيف كان هذا الحق بأيديهم ، ويدي بعدهم ، حتى يأتي بالبينة على شراء الأصل أو عطية ، أو أمر يستحق به ما عمر أو عمر أبوه أو جده .
قال محمد بن رشد : هذه مسألة حسنة ، وقد مضى من قولنا في رسم يسلف من سماع ابن القاسم ما فيه بيان أكثر وجوهاً ، ونزيد ها هنا بياناً بالتكلم على ما يقتضيه بعض ألفاظها من ذلك قوله فيها لما سأله عن طول الحيازة التي يستحق بها الأجنبي ما حازه من مال الأجنبي ، دون أن يسأل البينة على ما في يديه منه وإن لم يبن ولا غرس العشر سنين ونحوها ، يبطل عندي دعوى من ترك رجلاً يحوز عليه أرضه وداره بالسكنى والازدراع ، وهو حاضر لا ينكر ولا يمنع ، لأنه كلام فيه احتمال . وقد قال بعض أهل النظر : إن فيه دليلاً على أنه إذا حاز الرجل الدار أو الأرض بحضرة القائم ، المدة المذكورة ، إنه لا يلزمه أن يكشف عن أصل الملك ، لأنه لو ألزم ذلك وقال : صار إلى بهبة أو صدقة ، ثم ضعف عن إثبات ذلك ، فقد أعان على إبطال حقه . قال هذا القائل ، وقد قيل : إنه يلزم المقوم عليه ، أن يقول من أين صار بيده ؟ قال :

(11/185)


والأول أحسن ، والذي أقول به : إن هذا مما لا ينبغي أن يختلف فيه ، وإنما يختلف الجواب في ذلك بحسب اختلاف الوجوه فيه . فوجه لا يسئل الحائز فيه عما في يديه ، من أين صار إليه ؟ وتبطل دعوى المدعي فيه بكل حال ، فلا توجب يميناً على الحائز المدعى عليه ، إلا أن يدعي عليه أنه أعاره إياه ، فتجب له عليه اليمين على ذلك . وهذا الوجه هو إذا لم يثبت الأصل للمدعي ، ولا أقر له الحائز الذي حازه في وجهه العشرة الأعوام ونحوها ، ولو ادعى عليه فيما في يديه ، أنه ماله وملكه ، قبل أن تنقضي مدة الحيازة عليه في وجهه ، لوجبت له على اليمين . ووجه يسئل الحائز فيه عما في يديه من أين صار إليه ؟ ويصدق في ذلك مع يمينه ، ولا يكلف البينة على ذلك ، وهو : إذا ثبت الأصل للمدعي ، أو أقر له به الحائز ، ولو ثبت الأصل للمدعي ، وأقر له به الذي هو في يديه ، قبل أن تنقضي مدة الحيازة عليه ، لوجب أن يسأل من أين صار إليه ؟ ويكلف البينة على ذلك .
وقوله في هذه الرواية : العشر سنين ونحوها معناه : العشر سنين وما قرب منها ، يريد والله أعلم بالشهر والشهرين والثلاثة ، وما قرب منها مما هو ثلث العام وأقل . وقد قيل إن ما قرب من العشرة الأعوام بالعام والعامين حيازة .
وقد مضى القول على ذلك في رسم شهد من سماع عيسى قبل هذا فلا معنى لإعادته . وفي قوله في هذه الرواية ، ثم رجع ابن القاسم فيما يحوزه الوارث على اشراكه بالهدم والبنيان والغرس ، دليل على أنه لم يرجع فيما حازه القرابة بعضهم على بعض ، مما لا شركة بينهم فيه العشرة الأعوام ، بالهدم والبناء . وقد دل على ذلك أيضاً قوله : قال : ولم ير الأربعين سنة ، وما دونها بطويل جداً بين الورثة بخاصة . وقد رأيت لبعض أهل النظر ، أنه قال في قوله في هذه الرواية بين الورثة بخاصة دليل على أن الأشراك من غير الوراثة ، بخلاف شركة الوراثة ، وتأول مثل ذلك أيضاً على ما قاله يحيى ابن يحيى بعد هذا في رسم الأقضية ، قال : وفي كتاب الجدار لعيسى أن ابن القاسم يفرق بين الأشراك في الوراثة وغير الوارثة ، كانت بابتياع أو غيره ،

(11/186)


وجعل ذلك كله في حكم القرابة على اختلاف قول ابن القاسم . وهو الذي حكاه من كتاب الجدار ، من أن حكم الأوراث والأشراك في الحيازة ، بمنزلة سواء ، هو قول مطرف وأصبغ في الواضحة وقد روي عن مطرف أن الأشراك بمنزلة الأجنبيين وبعد عندي في النظر أن يكونوا بمنزلة الأجنبيين من أجل أنهم أشراك وأن يكونوا بمنزلة الأوراث ، إذ ليسوا بقرابة ، وإنما الذي يشبه ، أن يكون حكم الأشراك الأجنبيين ، كحكم القرابة من غير أهل الميراث ، الذين ليسوا بأشراك ، فيدخل في ذلك اختلاف ابن القاسم في القرابة الذين ليسوا بأشراك . فيتحصل فيهما جميعاً أعني في القرابة الأشراك وغير الأشراك ثلاثة أقوال : أحدهما أن العشرة الأعوام مع الهدم والبنيان حيازة بينهم ، كانوا أشراكاً أو لم يكونوا .
والثاني أنها لا تكون حيازة بينهم ، كانوا أشراكاً أو لم يكونوا . والثالث أنها تكون حيازة بينهم إن لم يكونوا أشراكاً ، وتكون حيازة إن كانوا أشراكاً . وقوله إلا أن يحوز ذلك بالبيع والعطايا أو الهبات أو الصدقات ، أو ما أشبه ذلك مما لا يصنعه المرء إلا في خاصة ماله ، يريد فتكون العشرة الأعوام في ذلك حيازة ، وعلى ما دل عليه ما مضى من المسألة . ومعنى ذلك في البيع ، إذا لم يعلم به إلا بعد وقوعه ، فلم يقم حتى مضت مدة الحيازة ، ولو قام بحد ثان ما علم ، لكان له رد البيع ، ولو كان حاضر البيع فسكت ، ولم يقم إلا بعد العام ونحوه ، لكان ذلك عليه حيازة ، ولم يكن له شيء . وقد مضى هذا المعنى بأبين من هذا في سماع أشهب ، وهذا إذا باع الجميع ، وكذلك إذا باع الجل . وإنما يختلف إذا باع الجل في القليل الباقي . فقيل : إنه تبع للجل المبيع ، يستحقه الحائز بالحيازة ، وهو قوله بعد هذا في هذا الرسم ، وقيل : إنه لا يكون تبعاً له ، وهو قول ابن القاسم ، في سماع سحنون بعد هذا ، وكذلك اختلف أيضاً إذا باع اليسير وهو حاضر ، فلم يقم إلا بعد العام ونحوه ، أو لم يعلم به إلا بعد وقوعه ، فلم يقم حتى مضت مدة الحيازة ، هل يكون تبعاً للباقي أم لا ؟ فقيل : إنه لا يكون تبعاً له ، ويستحقه

(11/187)


البائع بالحيازة ، ويكون الثمن له ، وقيل إنه يكون تبعاً له ولا يستحقه البائع بالحيازة ، ولا يكون له الثمن ويكون للذي ثبت له الأصل ، وأما الهبات والصدقات والأعطية ، فإن وقعت في الكل أو في الجل ، أو في اليسير مضت ، إلا أن يقوم بحدثان ما علم ، فيكون له رد ذلك . وأما الباقي فيكون له إن كان الأكثر باتفاق ، وإن كان الأقل ، فعلى الاختلاف الذي ذكرناه في البيع إن كان قيامه بعد أن مضت مدة الحيازة من يوم علم بذلك ، أو بعد مضي العام ونحوه ، إن كان مشاهداً لذلك . وبالله التوفيق .
مسألة
قلت لسحنون : أرأيت الرجل يكون صهراً لي يكون زوج عمتي أو زوج أختي ، فيعمر أرضاً في قريتي ، في وجهي عشر سنين أو نحوها ، والقرية معروفة لي خاصة ، ليست لأبي ولا لجدي ، هل تنفعه حيازتها في وجهني عشر سنين أو نحوها وتكون له كما تكون للبعيد من الناس ، إذا أعمروها عشر سنين ؟ قال : الصهر عندي بمنزلة القرابة ، لا يستحقها بعمارة عشر سنين ، كما يستحقها الأجنبي ، وقد اختلف فيها أصحابنا وهذا الذي أعلمتك عندي أحسن ، إن الصهر بمنزلة القرابة والورثة قيل : فموالي الذين من فوق الذين أعتقوني ، قال : الموالي الذين أنعموا عليك ، والموالي الذي أنعمت عليهم في ذلك سواء ، بمنزلة القرابة .
قال محمد بن رشد : قول سحنون هذا إن الصهر بمنزلة القرابة ، هو مثل ما تقدم في هذا الرسم عن ابن القاسم ، خلاف ما مضى في رسم شهد من سماع ابن القاسم . وأما قوله في أن الموالي الأعلين والأسفلين في ذلك سواء ، فهو مثل ما في سماع أصبغ ، بعد هذا وهو مما لا اختلاف فيه أحفظه . وبالله التوفيق .

(11/188)


مسألة
قال يحيى : سألت ابن القاسم عن رجل أصدق المرأة عن ابنه منزلاً ، فلما دخل ابنه بالمرأة أخذت المنزل ، إلا حقولاً يسيرة تركتها في يد حموها ، فلم تزل في يديه حتى مات بطول زمان ، ثم أرادت المرأة أخذها ، فمنعها ورثة الحمو ، وقالوا : قد عايشته زماناً من دهرك ، وهي في يديه ، ولا تشهدين عليه بعارية ولا كراء ، ولا ندري لعلك أرضاك من حقك ، أترى للمرأة في ذلك حقا ؟ قال : نعم ، لها أن تأخذ تلك الحقول التي هي مما كان أصدقها الحمو عن ابنه ، ولا يضرها طول ما تركت ذلك في يد الحمو ، لأنها ليست بالصدقة ، فيلزم حيازتها ، وإنما الصداق ثمن من الأثمان . قال : وكذلك ولو تركت كل ما أصدقت في يد الحمو ، لم يضرها ذلك .
قال محمد بن رشد : هذه مسألة صحيحة لا إشكال فيها ولا اختلاف ، لأنه حقها ، تركته في يد حموها ، فلا يضرها ذلك ، طال الزمان أو قصر ، لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا يبطل حق امرئ مسلم وإن قدم " وليس هذا من وجه الحيازة التي ينتفع الحائز بها ويفرق بين القرابة والأجنبيين والأصهار فيها إذ قد عرف وجه كون الأحقال بين الحمو ، فهي على ذلك محمولة حتى يعرف تصيرها إليه بوجه صحيح ، لأن الحائز لا ينتفع بحيازته إلا إذا جهل أصل مدخله فيها . وهذا أصل في الحكم بالحيازة . وبالله التفويق .
مسألة
قال يحيى : وسألت ابن القاسم عن الأرض تكون بيد

(11/189)


الرجل فيدعيها رجل ، ويخاصمه فيها ، فيستحقها ، وقد قلبها الذي كانت في يديه ، وأنعم حرصها ليزرعها . قال : المستحق بالخيار ، إن شاء أعطاه قيمة عمله وأخذها . فإن أبى قيل للذي استحق في يديه : إن شئت فاغرم كراءها ، وإن شئت فاسلمها بما فيها من العمل ، ولا شيء عليك .
قال محمد بن رشد : هذه مسألة لم يجر فيها ابن القاسم على الأصل ، لأنه إذ لم يلزم المستحق أن يعطي المستحق من يديه الأرض قيمة حرثه وعمله فيها ، كما يلزم مستحق الحائط أن يعطي الذي استحق من يديه قيمة سقيه وعلاجه ، إن كان سقاه وعالج فيه ، وجعل من حق الذي استحقت من يديه الأرض إذا أبى المستحق أن يدفع إليه قيمة حرثه وعمله ، أن يدفع إليه قيمة أرضه ، ويكون أحق بها ، كما يكن ذلك له إذا استحقت من يديه وبناها ، لأن منفعة حرثه ، يستوي جميعها في ذلك العام ، بخلاف أن يعطيه كراءها لذلك العام ، يريد غير محروثة ، ليصل بذلك إلى حقه في حرثه وعمله ، فيلزمه أن يقول أيضاً : إنه إن أبى من ذلك ، كانا شريكين في كراء ذلك العام محروثة ، المستحق بقيمة كرائها غير محروثة ، المستحق منه بقيمة حرثه و عمله . وإنما لم يكن من حق المستحق منه إذا أبى المستحق أن يدفع إلى قيمة حرثه وعمله ، أن يدفع إلى قيمة أرضه ، ويكون أحق بها ، كما يكون ذلك له إذا استحقت من يده وبناها ، لأن منفعة حرثه ، يستوي جميعاً في ذلك العام ، بخلاف البنيان الذي تبقى منفعته الأعوام .
ولأصبغ في الثمانية أنه لا شيء للذي حرث الأرض في حرثه على المستحق ، لأنه ليس شيء وضعه فيها لو شاء أن يأخذه أخذه كذلك ، قال سحنون : إنه لا شيء له وإن زبلها لأن ذلك مستهلك فيها ، فيأخذها المستحق على ما هي عليه ، كالدابة العجفى تسمن ، والصغير يكبر ، والاختلاف في هذه المسألة على اختلافهم في الرجوع في الاستحقاق بقيمة السقي والعلاج ، فجواب ابن القاسم على أصله في وجوب الرجوع بذلك ، وهو مذهب أشهب ، وقول

(11/190)


سحنون في ذلك على أصله ، في أنه لا يجب الرجوع بذلك ، وهو مذهب ابن الماجشون وقول ابن القاسم أصح ، إذ ليس بمعتد وإنما عمل على وجه بشبهة ، فلا يظلم عمله ألا ترى إذا بنى تكون له قيمة بنيانه قائماً ؟ وإن كان البنيان والعمل مستهلكاً ، لا يقدر على أخذه ، ويلزم سحنون على أصله في الحرث والزبل ، لا يكون له في البنيان ، إلا قيمته منقوضاً . وهذا ما لم يقله هو ولا غيره فيما أعلم ، ولا يلزم ابن القاسم ما احتج به سحنون ، من الدابة العجفاء تسمن والصغير يكبر ، لأن النفقة عليهما ، بإزاء الانتفاع بهما ، إذ لو رجع بها ، لرجع عليه بقيمة الاستخدام والركوب ، وذلك ما لا يصح ، لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " الخراج بالضمان " . وبالله التوفيق .
مسألة
قال يحيى : وسألت ابن القاسم عن امرأة هلك زوجها وترك منزلاً وولداً ورقيقاً ، فعايشت المرأة الرجل من غيرها زماناً ، وتزوجت بعده زوجاً أو زوجين ، ثم هلكت ، فقام ولدها من زوجها الذي تزوجها بعد الأول ، يطلب مورثها من زوجها الأول ، في رباعه ورقيقه ، فقال ولد زوجها الأول : قد عايشتنا أمكم زماناً طويلاً ، وكانت أعلم بموضوع حقها ، ووجه خصومتها ، وذلك منذ عشرين سنة لم تطلب قبلنا شيئاً حتى ماتت . قال : لا أرى أن يقطع سكوتها بما ذكرت من الزمان حقها ، من مورث معروف لها ، وولدها في القيام بطلبه على مثل حجتها ، لا يقطع حقها ولا سكوتها في مورثها من زوجها الأول ، لأن حال الورثة في هذا عندي مخالف لغيرهم ، إلا أن يكونوا اقتسموا بعملها ، حتى حاز كل واحد نصيبه من الأرض ، ودان بحقه من أثمان ما باعوا ، وبحقه مما اقتسموا من

(11/191)


الرقيق والعروض ، وهي ساكتة عالمة ، لا تدعي شيئاً ولا تطلبه ، فهذا الذي يقطع حجتها ، ويبطل طلبها .
قلت فإن لم يقسموا شيئاً ببينة ثبتت ، ولكن قد اقتطع كل وارث أرضاً زرعها وتنسب إليه ، أو داراً يسكنها ، أو رقيقاً يختدمهم أو بقراً أو غنماً يحتلبها ، أو دواب يستغلها ، فكل وارث قبض مما قصصت لك شيئاً قد بان بمنفعة دون أشراكه ، فإليه ينسب ، وله يعرف ، ولما كلفوا البينة على الإقتسام ، لم يجدوها لطول الزمان ، وليس في يد المرأة من ذلك شيء ، وعسى أن يكون في يديها الشيء اليسير ، أترى هذا إذا طال الزمان يقطع حقها من المورث ؟ قال : لا أرى هذا يمنعها من أخذ حقها ، إلا أن يكون كل واحد منهم يعتق من الرقيق ، ويدبر ، ويبيع ويتصدق ويكاتب ، فإن صنعوا ذلك وما أشبهه فيما في أيديهم ،رأيت ذلك حيازة لكل واحد منهم ، لم ابقي في يديه ، وقطعاً لدعوى المرأة وغيرها من أهل الميراث ، فمن ترك الأخذ بحقه زماناً وهو يرى ما يحدث هؤلاء الأشراك فيمن في أيديهم لا يغيرون عليهم ولا ينكرون فعلهم قال : وإذا صنعوا مثل هذا بعلم المرأة ، وإن طال الزمان ، فهو قطع لحقها إذا لم تنكر عليهم ، ويعرف منعها إياهم ، وقيامها بأخذ حقها قبلهم ، بحداثة ما أحدثوا مما لا يحدثه المرء إلا في خاصة ماله ، قلت : أرأيت إن لم يعتقوا أو يدبروا أو يتصدقوا أو يبيعوا إلا الرأس أو الرأسين ، من جماعة رقيق وحده ، أيبطل سكوتها عنهم حقها من جميع الميراث ؟ فقال : لا ، ولكن تأخذ حقها ، فيما أعتقوا أو باعوا إذا كان الذي أحدثوا من ذلك في أيسر الميراث وأقله ، لأنها تعذر بالسكوت عن اليسير لكثرة المورث ، وما تأخر من القسم ، لأنها تقول : قد يصير لهم أضعاف ما أحدثوا فيه مما سكت عنه . قال :

(11/192)


وكذلك لو أحدثوا مثل ما وصفت في جل الميراث وأكثره ، وبقي يسير لم يحدثوا فيه شيئاً ، فإن حقها يبطل من القليل الباقي ، فإنه تبع للكثير الذي استحقوه بما أحدثوا مما حازه بعضهم عن بعض .
قال محمد بن رشد : قوله في هذه المسألة : لا أرى أن يقطع سكوتها بما ذكرت من الزمان ، فإن حقها من مورث معروف لها ولولدها في القيام بطلبه على مثل حجتها ، لا يقطع حقهم طول سكوتها من مورثها ، من زوجها الأول ، لأن حال الورثة في هذا عندي مخالف لغيرهم ، هو مثل ما تقدم من قوله قبل هذا من أنه لا حيازة بين الأقارب ، بخلاف الأجنبيين . وأما قوله : إلا أن يكونوا قد اقتسموا بعملها حتى حاز كل واحد نصيبه من الأرض ، وبان بحظه من أثمان ما باعوا وبحقه مما اقتسموا من الرقيق والعروض ، وهي ساكتة لا تدعي شيئاً ولا تطلبه ، فهذا الذي يقطع حجتها ، ويبطل طلبتها عندي ففيه تفصيل . أما إذا كانت شاهدة للقسمة حين وقوعها ، فيبطل حقها بسكوتها بعد ذلك العام ونحوه ، على قياس ما ذكرنا من البيع قبل هذا وفي سماع أشهب ، لأن القسمة بيع من البيوع . وقد قيل : إنها تمييز حق ، فبطلان حقها بمرور الحول على ذلك أحرا ، وأما إن لم تشاهد القسمة ، وإنما علمت بها بعد وقوعها فلا يبطل حقها إلا بمرور مدة الحيازة ، وقوله بعد ذلك في الرواية قلت : فإن لم يقسموا شيئاً ببينة ثبتت ، ولكن قد اقتطع كل وارث أرضاً يزرعها وتنسب إليه أو داراً يسكنها أو رقيقاً يختدمهم ، أو بقراً أو غنماً يحتلبها ، أو دواب يستغلها ، فكان كل وارث قبض مما نصصت لك شيئاً قد بان بمنفعته دون أشراكه ، فإليه ينسب ، وله يعرف ، ولو كلفوا البينة على الأقسام لم يجدوها لطول الزمان .
وليس في يد المرأة من ذلك شيء ، وعسى أن يكون في يدها الشيء اليسير ، أترى هذا إذا طال الزمان يقطع حقها من المورث ؟ قال : لا أرى هذا يمنعها من أخذ حقها ، هو كما قال ، ولا اختلاف فيه أعلمه ، إلا ما تأوله بعض الناس ، على ما في المدونة ، حسبما ذكرناه في رسم يسلف من سماع ابن القاسم حاشا قوله أو دواب يستغلها؛

(11/193)


فإن قول ابن القاسم ، اختلف في الاستغلال ، هل هو بمنزلة الانتفاع بالسكنى والاستخدام ، لا تقع الحيازة به بين الأوراث ، أو بخلاف ذلك ، فتقع الحيازة بينهم ، وقع اختلاف قوله في ذلك في رسم الأقضية بعد هذا من هذا السماع ، وأظن أنه قد وقع في بعض الكتب ، أو دواب يستعملها ، وهو اطرد على ما ذكره ، وأما قوله بعد ذلك في الرواية : إلا أن يكون كل وارث منهم يعتق من الرقيق إلى آخر المسألة ، فقد مضى القول عليه مستوفى في رسم يسلف من سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادته . وبالله التوفيق .
مسألة
قال يحيى : وسألت ابن القاسم عن الرجل يغرس في أرض امرأته أو يبني فيها في دارها ، ثم يموت أحدهم ، أيكون قيمة ذلك البنيان أو الغراس على المرأة ، أو ورثتها ؟ قال : نعم ، قيمة ذلك عليها ، أو على ورثتها إن ماتت واجب للزوج أو لورثته إن مات ، وإنما حاله فيما غرس من مال المرأة حال المرتفق به ، كالعارية التي يغرس فيها ويبني ، إلا أن يكون للمرأة أو لورثتها بينة ، أنه إنما كان ينفق في عمارة ما عمر من ذلك ، من ماله امرأته ، ولها كان يصلح ، فتكون أحق بأرضها وما عمر لها الزوج فيها بمالها ، قال : وإنما يعطي الزوج إذا لم تأت المرأة بالبينة على ما ذكرت لك ، قيمة ما عمر مقلوعاً وليس قيمته قائماً وكذلك إلقاء في قيمة كل عمران يضعه مستعيراً أو مسترفق من غرس أو بنيان ، وإنما يعطي قيمة كل عمران قائماً صحيحاً من عمر مواتاً ثم استحق ، أو عمر باشتراء فاستحق ، أو اشتراء فعمر ثم أخذ ذلك منه بالشفعة ، فأما كل من أسكن داراً أو أعمرها أو أرفق في مزرعة أو غيرها ، أو أعمر جناناً أو أرضاً حيازة أحدهما ، أو إلى أجل من الآجال ، أو إلى غير الأجل فعمر هؤلاء بالبنيان أو الغرس ، ثم خرجوا طوعاً قبل أجل

(11/194)


السكنى أو العمرى أو خرجوا عند انقضاء الأجل ، فإنما يعطوا قيمة ما عمروا مقلوعاً وكذلك قال لي مالك والليث .
قال محمد بن شد : قوله في هذه المسألة : وإنما حاله فيما غرس وبنى من مال امرأته حال المرتفق به ، كالعرية التي يغرس فيها ويبني ، بين ، أنه بمنزلته عنده إذا كان يرتفق بذلك في أنه لا تكون له إلا قيمته منقوضاً ، سواء أذنت له في البنيان والغرس أو لم تأذن في ذلك ، إلا أن تأذن له فيه ، ثم تقدم عليه بحدثان ما بنى لتمنعه من الارتفاق ، فلا يكون ذلك لها ، إلا أن تعطيه قيمة ذلك قائماً . وأما إذا كان لا يرتفق بما لها فبنى فيه لها أو غرس ، فيفترق القول بين أن تأذن له في ذلك أو لا تأذن ، فإن أذنت له في ذلك ، كان له عليها ما أنفق ، أو قيمة ذلك ، وإن لم تأذن له لم يكن إلا قيمة بنيانه منقوضاً ، وسواء على مذهب ابن القاسم إذا لم تأذن أقرت له بالبنيان أنه بنى ، وادعت أنه إنما بناه بما لها ، فحلف أنه إنما بناه بماله ، لا بمالها أو أنكرت ، أن يكون بناه ، فأقام البينة على ذلك ، لا يكون له إلا قيمته منقوضاً ، وفرق ابن وهب في سماع عبد الملك زونان في كتاب الدعوى والصلح بين الأمرين فقال : إنه تكون له نفقته ، إذا أقرت له بالبنيان ، وادعت أنه إنما بناه بمالها ، فأنكر ذلك وحلف أنه بناه بماله . وقوله صحيح على قياس قول مالك ، في رسم حلف من سماع ابن القاسم من كتاب البضائع والوكلات ، ورسم البز من سماعه أيضاً من كتاب المديان والتفليس ، في أن تصرف الرجل في مال زوجته محمول على الوكالة لا على التعدي ، ويأتي على قياس قول ابن القاسم : إنه محمول على التعدي حتى تعرف الوكالة ، ولو أقرت المرأة أنها أذنت أن يبنيه بمالها ، فبناه به ، وقال : هو إنما بنيته بمالي ، وحلف على ذلك ، لكانت له نفقته عندهما جميعاً وقد مضى القول في سماع أشهب على قوله وإنما يعطي قيمة كل عمران قائماً صحيحاً من عمر مواتاً فاستحق ، فلا معنى لإعادته .
وقوله : وأما كل من أسكن داراً أو أعمرها أو أرفق في مزرعة أو غيرها أو أعمر جناناً أو أرضاً حياة أحدهما أو إلى أجل من الآجال ، أو إلى

(11/195)


غير أجل ، فعمر هؤلاء بالبنيان أو الغراس ، ثم خرجوا طوعاً قبل أجل السكنى أو العمرى وخرجوا عند انقضاء الأجل ، فإنما يعطوا قيمة ما عمروا مقلوعاً ، وكذلك قال لي مالك والليث ، يريد : سواء أذن في البنيان أو لم يأذن ، وقد نص على ذلك في المدونة ، خلاف ما حكي ابن حبيب في الواضحة عن مالك من رواية مطرف وابن الماجشون ، قال : كل من بنى في أرض قوم أو غرس بإذنهم وعلمهم فلم يمنعوه ، فله قيمة ذلك قائماً كالباني بشبهة ، وكذلك كل من تكارى أرضاً أو منحها إلى أجل أو غير أجل ، ثم بنى فيها إذنهم وعلمهم ، أو لم يستأذنهم ولم يمنعوه ولا نهوه ، فإن له قيمته قائماً إذا أراد أن يخرج؛ وكذلك من بنى في أرض بينه وبين شريكه بعمله ، فله قيمته قائماً ، وكذلك من بنى في أرض امرأته وبعلمها ، قال مطرف وابن الماجشون : ما علمنا اختلف فيه قول مالك ولا أحد من أصحابه : ابن أبي حازم وابن دينار ، والمغيرة ، وغيرهم ، وبه القضاء بالمدينة ، وقال ابن كنانة وابن مسعود ، وابن نافع وشريح ، وروى ابن وهب فيه حديثاً للنبي عليه السلام . وبالله التوفيق .
ومن كتاب الصلاة
وقال في الرجل يفتات على الرجل فيبيع أمته وهو غائب ، فإذا علم بذلك المشتري ، أراد تعجيل ردها فقال البائع : لا أقبلها حتى يقدم سيدها ، فإنه سيمضي البيع ، قال : يلزمه تعجيل ردها وغرم الثمن ، لأن المشتري لا يحول له وطء فرج لا يدري أيمضي السيد بيعها أم لا ؟ قلت له : أرأيت إن لم يعلم المشتري حتى قدم سيد الأمة ، فأمضى البيع ؟ قال : يثبت البيع ويمضي ، ولا حجة للمشتري في ردها إن قدم سيدها قبل أن يعلم المشتري بالذي غربه من شأنها . قال : وكذلك النفر يكونون شركاء في الأمة ، فيغيب رجل منهم ، فيفتات عليه الآخرون ، فيبيعون جميع الأمة ، ثم يعلم

(11/196)


بذلك المشتري ، إنه يردها ، ولا ينتظر قدوم الغائب ، قال : فإن حبسها حتى يقدم الغائب ، فيأخذ نصيبه منها ، ويريد أشراكه الباعة أن يلزموا المشتري حظوظهم من حساب باعوا منه جميع الأمة ، لم يكن ذلك لهم إلا برضى المشتري ، وذلك أنه يقول : إنما رغبت فيها ، إذا كان ملكها لي تاماً يحل لي فرجها ، فأما إذا شركني فيها غيري فلا حاجة لي بحظوظهم ، قال : ولو أنهم باعوا كلهم الجارية من رجل ، فاستحق رجل حظ أحدهم فأراد المشتري أن يردها بذلك ، بأن يقول : لا أحبس أمة لا يحل لي وطؤها ، من أجل من شركني الآن فيها ، فإن ذلك ليس له ، من أجل أنه إنما اشترى حظ كل أحد من الشركاء ، من صاحب ذلك الحظ نفسه ، فلا حجة له على من لم يستحق حظه بما استحق من حظ غيره .
قيل له : أرأيت إن استحقت الأمة حرية ثلثها ، وإنما باعها ثلاثة نفر ، أيلزم المشتري حبس ما بقي ؟ فقال : لا ، لأن الذي استحق من حريتها ، كان ثلثاً أو ربعاً أو خمساً ، فهو يقع في جميع رقبتها ، فمن حجته على الباعة أجمعين أن يقول لكل رجل منهم ، قد استحق من يدي من حظك الذي بعتني من الأمة بعضه ، ولا أريد أمة يشركني فيها غير ويحرم على فرجها ، لذلك ، فلا حاجة لي بها ، فهي رد على جميعهم ، إلا أن يرضى أن يحبس ما بقي طائعاً ، قلت : أرأيت إن استحق من رقبة الأمة جزء من الأجزاء ، مثل ما استحقت هي من حريتها أيجوز له ردها ؟ قال : نعم : وإنما يلزمه حبس ما بقي من الأمة إذا استحق بعضها ، إذا كان الذي يستحق إنما هو حظ رجل من الشركاء بعينيه فقط .
قال محمد بن رشد : قوله في الذي يبيع امة رجل وهو غائب : إن للمشتري تعجيل ردها ، وليس عليه أن ينتظر رأي صاحبها ، من أجل أنه لا

(11/197)


يحل وطء فرج ، لا يدري أيمضي السيد بيعها أم لا ؟ صحيح ، مثل ما في كتاب الغصب من المدونة ولا خلاف فيه أعلمه ، وأما إذا قدم سيدها فأمضى البيع وأراد المشتري الرد ، فيتخرج ذلك على الاختلاف في العهدة ، هل تنتقل عن البائع إلى سيد الأمة أم لا ؟ وفي ذلك ثلاثة أقوال : أحدها أنها لا تنتقل على البائع ، وهو قول سحنون ، فعلى قياس هذا القول ، يأتي قول ابن القاسم في هذه الرواية ، إن البيع يلزم المشتري ، ويس له أن يرد والقول الثاني إن العهدة تنتقل عن البائع إلى سيد الأمة ، روى ذلك أصبغ عن ابن القاسم ، وحكاه أيضاص عن سحنون ، فعلى قياس هذا القول يكون للمشتري أن يرد الأمة وإن قدم سيد الجارية ، فأجاز البيع ، لأن من حجته أن يقول : لا أرضى أن تكون عهدتي عليك ، لأني إنما رضيت بذمة البائع مني ، لا بذمتك ، وهو قول وحجة ، وفي العهدة قول ثالث ، وهو تفرقة أصبغ بين أن تكون الأمة قد فاتت أو لم تفت ، وهو قول له وجه في النظر ، إذ من حق سيد الأمة أن يضمن البائع الغاصب قيمتها إذا فاتت ، فإذا كان ذلك من حقه فكأنها قد وجبت للغاصب ، فلا انتقل العهدة عنه ، فعلى قياس هذا القول ، إن جاء بها فأجاز البيع ، وهي قائمة لم تفت ، كان للمشتري الرد ، وإن جاء وقد فاتت ، فأجاز البيع ، لم يكن لملشتري أن يرد لأن عهدته باقية على الذي اشترى منه ويشبه أن يقال : إن له الرد على كل حال ، انتقلت العهدة عن البائع الغاصب أو لم تنتقل ، لأنها إن انتقلت عنه قال : لم أرض إلا بذمته .
وإن لم تنتقل عنه قال : لم أرض بذمة غاصب ، ويشبه أن يقال : إن ابن القاسم لم ير للبمتاع حجة في العهدة يجب له بها الرد ، ولذلك قال : ليس له أن يرد مع أن الموجود له أن العهدة على سيد الأمة إن أجاز البيع فيتحصل على هذا في الرد أربعة أقوال : أحدها إنه لا يرد بحال ، والثاني أن يرد بكل حال ، والثالث إنه يرد على القول بأن العهدة على سيد الأمة ، ولا يرد على القول بأن العهدة على البائع الغاصب والرابع إنه يرد إن جاء سيدها فأجاز البيع بعد أن فاتت ، على قياس تفرقة أصبغ في العهدة بين الوجهين ، على هذا كان من

(11/198)


تقدم من الشيوخ يحمل الاختلاف في انتقال العهدة في هذه المسألة . والذي يوجبه النظر في ذلك ، أن الاختلاف في انتقالها ، إنما هو إذا فات العبد أو الأمة فواتاً يوجب للمستحق تضمين الغاصب القيمة ولا اختلاف في أنها تنتقل إذا لم يجب للمستحق إلا أخذه أو إجازه البيع وأخذ الثمن ، ولا في أنها لا نتقل إذا لم يجب له أخذه لفواته ، حسبما نذكره في كتاب الغصب عند تكلمنا على رواية أصبغ ، فيه إرث لثمنه ، وتفرقته في الجارية تكون بين الشركاء ، بين أن يغيب أحدهم فيبيع الباقون جميعاً ، فيأتي الغائب فيستحق نصيبه ، وبين أن يبيعوها ، فيأتي رجل فيستحق نصيب أحدهم في أن للمشتري أن يرد ما بقي من الجارية على الذين باعوها منهم ، إن كانوا باعوا منه جميعاً ، وليس له أن يرد ما بقي في يديه منها ، على الذين باعوه إياه ، إذا كانوا لم يبيعوا منه جميعاً ، وإنما باعوا من حصصهم لا أكثر ، صحيحة ، إذ لا حجة له عليهم في استحقاق ما باع منه غيرهم ، وإنما له الحجة عليهم في استحقاق ما استحق مما باعوا منه .
وقد وقع في سم باع غلاماً من سماع ابن القاسم من كتاب البضائع والوكالات ، مسألة حملها بعض الناس على أنها مخالفة لهذا ، في أن المشتري ليس له أن يرد الباقي على البائعين منه ، وإن كانوا هم باعوا منه جميع الأمة ، وليس ذلك بصحيح من التأويل ، على ما لعلنا سنذكره إذا مررنا به في موضعه إن شاء الله . وكذلك استحقاق جزء من الأمة بالحرية مثله ، سواء أن كانوا باعوا جميعها ، كان للمشتري أني رد الباقي عليهم ، كما ذكر ولو كان أحدهم قد اعتق نصيبه وهو معدم فلم يقوم عليه نصيب أشراكه ، ثم باعوا كلهم الأمة ، فاستحق نصيب الذي أعتق نصيبه بالحرية ، لم يكن للمشتري أن يرد الباقي منها على أشراكه البائعين منه ، إذ لم يبيعوا هم منه الحظ المستحق بالحرية . وبالله التوفيق .
ومن كتاب المكاتب
قال : وسألته عن الأرض تستحق بالعدول ، ولا يثبتون

(11/199)


حوزها ، فيشهد على حوزها من الجيران غير عدول ، أيتم بذلك الحكم لمدعيها مع يمينه ؟ فقال : لا يشهد في الحوز وغيره غير العدول ، ولا أرى أن يتم استحقاقها إلا بهم . قلت : فإن الغاصب ربما خلط دوراً وعور حوزها حتى لا يثبتها أحد ، ممن كان يعرفها لأهلها ، ويحوزها لهم ، فقال : يحوز المدعى عليه ما أقر به ، ويحلف على ذلك ، ثم لا شيء عليه غيره . قلت : إذاً يقال ذلك جداً قال : أما إذا لم يقر موضع الباب أو ما يرى أنه ليس بشيء ، فلا يقبل قوله : وإما أن يقربا بالبيت ونحوه ، فليس عليه إلا ذلك مع يمينه ، إلا ما حاز العدول للمدعي المغتصب .
قلت : فإن لم يقر إلا بموضع الباب أو نحوه ، وأنت لا تعطى المغتصب إلا ببينة عادلة حائزة لما شهدوا عليه ، فماذا يلزم الغاصب إذا لم يقر إلا بموضع باب أو جدار ؟ فقال : أما إذا استدل على أن الغاصب يكتم مواضع الحوز بما يستنكر من أمره ، حاز المدعى فاستحق ما حاز بيمينه ، مع ما ثبت له من البينة على أصل الغصب .
قال محمد بن رشد : مثل هذا حكى ابن حبيب في الواضحة عن مطرف ، وزاد قال : فإن قال المدعي لا أعرفه قد غير حدودها ، وعمى معلومها ، حيل بينه وبين الأرض جميعها حتى يقر له بحقه منه ، قال : وقد قال ذلك مالك في غير الغاصب فالغاصب أحق بالحمل عليه ، لأنه غاصب ، مع ما يلزمه من الأدب الموجع والعقوبة البالغة ، والسجن الطويل ، فيما ثبت عليه من الغصب واه تضام المسلمين حقوقهم . قال : وهذا إذا كان ممن له في تلك القرية أو حول تلك الأرض حق قبل ذلك ثم غصب هذه الأرض ، فضمها إلى حقه . وأما لو ثبت أن أول دخوله فيها ، بسبب هذا الغصب الذي

(11/200)


ثبت عليه ، اكتفي المشهود له من شهوده بأن يشهدوا له وأنه غصبه الأرض ، وإن لم يجدوها ، ولم يسئل المشهود عليه ، كم لهذا منها . وأخرج منها جميعاً حتى يأتي ببينة على ما ادعاه فيها بعد دخوله من شراء صحيح ، أو حق يثبت له .
وقد قيل : إن الشهود إذا لم يثبتوا حوز الأرض بتعوير الغاصب لها كان القول قول المغصوب منه ، حكى ذلك يحيى بن يحيى عن غير ابن القاسم في المبسوطة وأخذ به ، واستحسنه بعد أن حكى عن ابن القاسم مثل قوله ها هنا وعن ابن وهب أيضاً وكذلك قال ابن كنانة ومطرف في الغاصب ينتهب من رجل مالاً في صرة ، والناس ينظرون فيطرحه حيث لا يوجد ، إن القول قول المنتهب منه ، خلاف قول مالك في رسم اغتسل من سماع ابن القاسم من كتاب الغصب في المسألة بعينها ، وخلاف هذه الرواية إذ لا فرق بينها وبينها في المعنى ، وقد قيل : إن الشهادة باطل إذا لم يحقق الشهود ما شهدوا به ولا حازوه ، وقيل : إن المشهود عليه يسجن بهذه الشهادة ، ويضيق عليه ، حتى يبين له بحقه ، ويحلف عليه ، هي رواية أصبغ عن ابن القاسم ، في كتاب الغصب قال أصبغ : وإن أنكر الجميع بعد الحبس أحلف كما يحلف المدعى عليه ، بغير شهادة ، وقيل : إذا لم يدر الشهود كم حقه من الأرض ، نزلوا على ما لا يشكون فيه ، ثم دفع إلى المشهود له ، وهو قول ابن كنانة ، وكذلك إذا شهد الشهود للرجل أن رجلاً غصبه أرضاً في قرية لا يعرفون موضعها ، يختلف في ذلك أيضاً هل تبطل الشهادة أو يكون القول قول الغاصب؛ أو قول المغصوب منه ؟ وقد فرق في المجموعة ابن القاسم بين أن يشهد الشهود أنه غصب أرضاً لا يعرفون موضعها أو أنه غصبه أرضاً بعينها ، لا يثبتون حوزها ، وذلك أنه ذكر فيها أعني في المجموعة نص رواية عيسى عنه في رسم الجواب من سماع عيسى من كتاب الغصب ، إن الشهادة باطل ، وزاد عليها قال : ولو شهدوا على الأرض ولم يثبتوا الحوز ، فذكر نص رواية يحيى ، هذه حرفاً بحرف ، فبان بهذا افتراق المسألتين عنده ، فعلى هذا ليست رواية عيسى عن ابن القاسم في كتاب الغصب بمخالفة لرواية أصبغ

(11/201)


فيه ، ولا لرواية يحيى هذه وإنما الخلاف بين هذه الرواية ورواية أصبغ في كتاب الغصب .
ويتحصل في المسألة ستة أقوال : أحدها إن الشهادة باطل لا توجب حكماً . والثاني إنها توجب الشهادة على المشهود عليه . والثالث إن البينة تستنزل إلى ما لا يشك فيه ، والرابع إن القول قول المغصوب منه ، والخامس إن القول قول الغاصب ، إلا أن يأتي بما لا يشبه ، فيكون القول قول المغصوب منه ، على ما وقع في رواية يحيى هذه . والسادس الفرق بين أن يشهد الشهود على الأرض بعينها ، ولا يعرفون حدودها ، وبين أن لا يعينوا الأرض وإنما يشهدون أنه غصبه في القرية أرضاً لا يعرفونها . وبالله التوفيق .
مسألة
قال : وسئل عن الرجل يدعي القرية فيستحقها بالعدول ، فلما أمر الشهود أن يحوزها ما شهدوا له عليه ، حازوا القرية بحدودها ، وقرية إلى جنبها في أيدي قوم لم يخاصموا ، فقال : القوم الذين حيز ما في أيديهم ، ممن لم يخاصم : نشهد أن الذي في أيدينا والذي قضى به لفلان : ليس لنا فيه شيء ، ولا للمقضي عليهم ولا للمقضي له ، ولكنه كله يجوز حدوده لرجل ذكروه غائب تركه في أيدي آبائنا أجمعين إرفاقاً منه لهم ، يريدون أباهم وأبا المقضي عليهم ، والمقضي له ، وهم عدول غير متهمين ، أتجوز شهادتهم أم لا ؟ قال : لا شهادة لهم ، لأنهم مرتفقون ، يجرون إلى أنفسهم بشهادتهم ، ويريدون أن يقر بأيديهم ما أرفقوا به ، فشهادتهم عندي غير جائزة .
قال محمد بن رشد : هذا بين على ما قاله : إن الشهادة غير جائزة ، لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا تجوز شهادة خصم ولا ظنين ولا جار لنفسه " . وبالله التوفيق .

(11/202)


ومن كتاب الأقضية
وسألته ، الرجل يموت عن منزل ويترك ورثة غيباً في بلد غير بلده الذي هلك فيه ، بعيداً أو قريباً ، فمكث المنزل زماناً طويلا ، نحواً من أربعين سنة ، ثم يقدم ورثة الهالك ، فيجدون المنزل في أيدي قوم قد وروثه عن أبيهم ، ولعل أباهم قد ورثه عن جده ، فيدعيه ورثة الهالك الغائب عنه الذي كان أصله له معروفاً ، فيقول : هذا منزل أبينا ورثناه عنه ونحن غيب ، لم ندخل هذا البدل منذ هلك إلى اليوم ، ويقول الذين في أيديهم المنزل لم ندر من أنتم ولا ما تقولون ، غير أن هذا المنزل ورثناه عن أبينا فهو في أيدينا منذ زمان طويل ، ولعل أبانا إن كان أصل المنزل لكم كما تقولون ، قد اشترى منكم بمكانكم الذي كنتم فيه ، ولا علم لنا بشيء من أمره ، إلا أنا ورثناه . قال : الأمر فيه إن شاء الله ، أن يسأل الذي زعم أن أصله له معروف ، إلى أن هلك فيه أبوه وهو غائب ، بغير ذلك البلد ، البينة على ذلك ، فإن جاء بها أو أقر بذلك الذين في المنزل ، وكانت غيبتهم عنه ببلد بعيد ، مثل أن يكون المنزل بالأندلس ، أو ما أشبهها ، والذين ادعوا بمصر ، أو بالمدينة ، أو نحو ذلك من البعد ، فيسال الذين هم فيه ، من أين صار لهم بعد وفاة الذي ورثه هو لا الغائب عنه ؟ فإن أحقوا حقاً باشتراء أو غيره ، مما يستحق به المدعي ما ادعى ، كان ذلك لهم ، فإن لم يثبت لهم اشتراء ولا هبة ، ولا وجه يستحقونه به ، إلا ما ادعوا من تقادم ذلك في أيديهم ، وتوارث ذلك بعضهم عن بعض ، فإني لا أرى لهم حقاً ، والحق فيه لصاحب أصله إذا قامت له بالأصل بينة أو أقر له بذلك خصماؤهم ، لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " لا

(11/203)


يهلك حق امرى مسلم وإن قدم " مع ما رأيت لأهل أصل المنزل من العذر لغيبتهم في بعد بلدهم عن ذلك المنزل .
وأما إن كانت غيبتهم قريبة ، بحيث يعلمون أن منزلهم قد صار إلى غيرهم ، وأنه يتوارث وينشأ فيه العمل ، وينسب إلى غيرهم ، فلا يقومون بتغيير ذلك ، ولا ينكرونه ، حتى يطول الزمان كما ذكر ، فلا أرى له فيه حقاً ، وهو لمن كان بيده ، ورث ذلك عن أبيه وجده ، أو لم يرث بعد أن تطول عمارته له ، وحيازته إياه بمثل ما ذكرت من الزمان وشبهه ، فإن علم الغيب في بعدهم ، ما صار إليه منزلهم من حيازة قوم له ، فتركوا الخروج إلى قبضه ، وتركوا الاستخلاف على ذلك ، بعد عملهم بما صار إليه ، من حيازة من حازه ، وهم قادرون على الخروج إلى حقهم لقبضه ، والاستخلاف على ذلك حتى يطول الزمان ، فأراهم فيما ضيعوا من حقه ، بمنزلة الحضور ، لا حق لهم فيه إذا طال زمان حيازة القوم بعمارته ، وإن كان لهم في ترك ذلك عذر يتبين للسلطان بأن يضعفوا عن الخروج ، ويطلبون من يستخلفون ، فيعجزهم ذلك ، ولا يقدرون عليه ، فأراهم على حقهم ، وإن قدم زمانه وتطاول أمرهن لبعد بلدهم ، وما ظهر للسلطان من عجزهم .
محمد ابن أحمد لم يعذر المحوز عليه في هذه الرواية بقرب الغيبة ، وقد تقدم مثل هذا وخلافه في رسم الجواب من سماع عيسى ومضى من القول على ذلك هنالك ، ما فيه كفاية فلا معنى لإعادته . وبالله التوفيق .

(11/204)


مسألة
قال وسألت ابن وهب عن الإخوة يرثون المنزل عن أبيهم ، والمنزل إنما هو أرض بيضا ، تحرث ، فيكون في يد بعضهم نصف المنزل وثلثه ، أو ربعه على غير قسم ، يحرث كل رجل منهم في ذلك المنزل ، بقدر قوته ، فيكونون على هذا الحال ، حتى يموت أحدهم ، وفي يده أكثر القرية ، فإذا أراد من بقي من الإخوة أن يقسموا المنزل على سهامهم ، منعهم ولد أخيهم الميت مما في أيديهم ، وقالوا هذا ما كان في يد أينا وقد صار موروثاً لنا دونكم ، وقد كان أبوناً يحوزه دونكم وأنتم حضور ، ويقول أعمامهم : إنما كنا تركناه على وجه المرفق ، ولم نكن قسمنا شيئاً ، فكان كل واحد يرتفق فيه بقدر حاجته .
قلت : أيستحق ولداً لها لك من الأخوة ما هلك عنه أبوهم على هذا الوجه ، حتى لا يكون فيه للأعمام حق ؟ قال : أرى إذا لم يكن لبني الأخ فيه دعوى غير حيازة أبيهم له ، ووراثته ذلك عنه ، وهم مقرون بالأصل لجدهم أو تقوم به البينة عليهم ، أن يقسم على الأعمام ، ولا يكون لبني الأخ الهالك إلا نصيب أبيهم على كتاب الله ، بعد أن يحلفوا الأعمام بالله ، ما باعوا من أخيهم الميت ، ولا وهبوا له ، ولا صار له فيه ، إلى أن هلك عنه ، إلا سهمه الذي ورث معهم عن أبيهم ، ثم يقسمونه على فرائض الله . قال : وسألت عن ذلك ابن القاسم ، فقال لي مثل ما قال ابن وهب ، غير أنه قال : إلا أن يكون الأخ الهالك وهب شيئاً من تلك الأرض أو تصدق بها ، أو نحلها أو أصدقها ، أو باعها أو صنع أشباه هذا مما لا يقضي به الرجل إلا في خاصة ماله ، فيكون أحق لما أحدث فيه

(11/205)


بعض هذه الوجوه ، إذا صنع ذلك بحضرة إخوته وعلمهم ، فلم ينكروه عليه ، قال :
قلت له : أرأيت ما كان يكري من تلك الأرض باسمه ، ويغل كراءها لنفسه دونهم ، أيستحق ذلك بذلك الكراء أم لا ؟ فقال لي مرة : نعم ، هو له دونهم ، إذا كان يكريه باسمه ، فلا ينكرون ذلك عليه ، ثم سألته يوم سألت ابن وهب ، فأمسك عنه ، ومرضه ، وكأنه لم يره حوزاً يستحق به دونهم شيئاً .
قال الإمام القاضي : قوله في هذه المسألة : قال : أرى إذا لم يكن لبني الأخ فيه دعوى غير حيازة أبيهم له ، ووراثة ذلك عنهم ، وهم مقرون بالأصل لجدهم ، أو تقوم به البينة عليهم ، أن يقسم على الأعمام ، ولا يكون لبني الأخ الهالك إلا نصيب أ[يهم على كتاب الله ، دليل على أنه لو كان لهم فيه دعوى بأن يقولوا قد ابتاعه أبونا منكم ، أو قد صار إليه من قبلكم بوجه كذا وكذا ، لاستحقوه بحيازتهم ، وهو خلاف المشهور في المذهب من أن الأوراث لا حيازة بينهم بالسكنى والاعتمار والازدراع ، مثل ما تأوله بعض الناس على ظاهر ما في المدونة حسبما ذكرناه في سم يسلف من سماع ابن القاسم . وقوله بعد أن يحلف الأعمام ، هو على الاختلاف المعلوم في لحوق يمين التهمة ، إذ قد نص أنهم لم يدعوا عليهم بحقيق دعوى في بيع ولا غيره . وقول ابن القاسم : إلا أن يكون الأخ الهالك وهب شيئاً من تلك الأرض ، أو تصدق بها أو نحلها ، أو أصدقها أو باعها ، أو صنع أشباه هذا ، مما لا يقضي به الرجل إلا في خاصة ماله ، فيكون أحق لما أحدث فيه بعض هذه الوجوه ، معناه : إذا فعل ذلك في الأكثر .
وقد مضى تفصيل القول في ذلك وتفصيله في رسم يسلف من سماع ابن القاسم ، فلا معنى لإعادته . واختلاف قوله في الاستغلال ، كاختلاف قوله

(11/206)


في الهدم والبنيان ، مرة رأى الحيازة بذلك عاملة بين الأوراث ، ومرة لم ير ذلك . والله الموفق .
مسألة
وسألت ابن وهب عن الرجل يساكنه في داره المعروفة له ، أو القرية ، أختانه ومواليه ، عتاقه زماناً طويلاً ، أو يسكنهم دوراً أو قرى فيعايشونه زماناً ، وذلك في أيديهم حتى مات ، فأراد أن يستحقوا ذلك بتقادمه في أيديهم ، وقالوا : ليس لعينا أن نأل عما في أيدينا من أين هو لنا ؟ قلت : وكيف إن ماتوا ؟ فقال ورثتهم : لا علم لنا كيف كان هذا الحق في أيدي آبائنا ؟ أو مات صاحب الحق والذين أسكنوا ، فتداعى فيه ورثته ، وورثة الذين أسكنوا ، فقال ابن وهب : كل ما سألت عنه من هذا الوجه عندنا ، بمنزلة واحدة ، الحق فيه لصاحب المسكن ، ولورثته ، مات هو أو مات الذين أسكنوا أو مات هو وهم ، فلم يبق منهم إلا ورثتهم ، إلا أن يأتوا ورثة الذين أسكنوا بأمر يستحقون به ما كان بأيدي آبائهم من عطية أو صدقة أو اشتراء ، أو وجه من وجوه الحق ، ينظر لهم فيه ، فإما تقادم ذلك في أيديهم أو أيدي أبائهم قبلهم ، والأصل معروف للمسكن ، فإنهم لا يستحقون بذلك شيئاً . وسألت عن ذلك ابن القاسم ، فقال لي مثل قول ابن وهب ، غير أنه قال : إنما يكون ذلك على هاذ الوجه ، إذا كان أهل ذلك الموضع ، يعرف منهم التوسع للموالي والأختان ، ومن يساكنهم ، فأما أهل بلد لا يعرف فيهم أن يحوز أحد منهم مال أحد إلا باشتراء أو عطية أو أشباه ذلك ، فإني أقول : إن الحائز لما سألت عنه أولى بما حاز ، إذا كانت حيازته العشر سنين أو ما قاربها إلا ما حيز على غائب ، فإنه أولى بحقه ، لا يقطعه تقادم ذلك في يد

(11/207)


من حازه في مغيب صاحبه أصله ، ألا يأتي الحائز ببينة على أصل اشتراء أو سماع فاش أو شيء يذكر به اشتراء ذكراً ظاهراً ، فيكون أحق بما حاز مع تقادم ذلك في يديه .
قال محمد بن شد : هذا من قول ابن وهب وابن القاسم ، في الأختان والموالي إنهم في الحيازة بمنزلة القرابة ، مثل ما تقدم من قول ابن القاسم في أول رسم من هذا السماع ، خلاف قوله في رسم شهد من سماع عيسى إنهم بمنزلة الأجنبيين ، وقول ابن القاسم : إنما يكون ذلك على هذا الوجه ، إذا كان أهل ذلك الموضع يعرف منهم التوسع ، إلى آخر قوله ، تفسير ما أجمل من قوله : لا اختلاف عندي أنهم يمنزلة القرابة ، إذا عرف منهم التوسع من بعضهم لبعض ، وأنهم بمنزلة الأجنبيين ، إذا عرف منهم التشاح بينهم ، وإنما الاختلاف المذكور ، إذا اجهل حالهم على ما يحمل أمرهم ، فمرة حملهم محمل القرابة ، ومرة حملهم محمل الأجنبيين . وبالله التوفيق .
مسألة
قال ابن القاسم : ولم يكن مالك يرى الأجنبيين فيما حازوا من مال غائب ، أو حاضر أجنبي ، بمنزلة الأقارب ، كان مالك يقول : ليس بينهم حوز وإن قدم . قال يحيى : معناه ندي فيما ذكر من الأقارب ، إنما يريد أهل الميراث فيما حازوا بعضهم عن بعض فيما ورثوا .
محمد بن أحمد قوله : ولم يكن مالك يرى الأجنبيين فيما حازوا من مال حاضر أو غائب ، بمنزلة الأقارب ، يريد : من مال غائب قريب الغيبة ، أو حاضر ، لأن الغائب القريب الغيبة ، هو الذي يحوز عليه الأجنبي ، كما يحوز على الحاضر على اختلاف

(11/208)


قدمنا القول فيه في رسم الجواب من سماع عيسى . فقول مالك هذا مثل أحد قولي ابن القاسم ، في أن القريب الغيبة ، بمنزلة الحاضر ، يحوز عليه الأجنبي ، وأما البعيد الغيبة ، فال اختلاف في أنه لا يحوز عليه في مغيبه القريب ولا البعيد . وقوله : كان مالك يقول : ليس بينهم حوز ، وإن قدم ، يريد : وإن هدموا وبنوا وهو مثل القول الذي رجع إليه فيما تقدم في رسم الكبش ، وهو قوله فيه ، ثم رجع ابن القاسم فيما يحوزه الوارث على أشراكه بالهدم والبنيان والغرس ، فلم ير ذلك يقطع حق الوارث من ميراثه . وقوله وقول يحيى معناه : فيما ذكر من الأقارب إنما يريد أهل الميراث فيما حازوا بعضهم عن بعض فيما ورثوا ، هو نص قول ابن القاسم في رسم الكبش المتقدم ، إن ذلك بين الورثة بخاصة ، وفي قوله : بين الورثة بخاصة ، دليل ، هو كالنص ، في أن القرابة إذا لم يكونوا أوراثاً مشتركين في الحيازة بعضهم على بعض ، بخلاف الأوراق المشتركين ، فيحوز بعضهم على بعض بالعشرة الأعوام ، مع الهدم والبنيان . وقد اختلف قوله في ذلك ، فنص في المسألة التي بعدها على أن القرابة غير الأشراك ، والموالي الأختان ، بمنزلة القرابة الأشراك أهل الميراث ، لا حيازة بينهم بطول العمارة ، وإن هدموا وبنوا إلا أن يطول ذلك جداً ، يريد فوق الأربعين سنة ، كما قال في الأوراث . وقد قال بعض أهل النظر : إن قول يحيى في هذه الرواية ، معناه إلى آخر قوله ، وقول ابن القاسم في رسم الكبش بين الورثة بخاصة ، إنما يدل على أن الأوراث في حيازة بعضهم على بعض ما ورثوه ، بخلاف الأشراك الأجنبيين في ذلك .
وقد مضى تمام القول في هذا المعنى في رسم الكبش المذكور ، فلا معنى لإعادته . والله الموفق .

(11/209)


مسألة
قال : وسألت ابن وهب عن الرجل يموت ويترك بنيه وأباه فيقر الجد بني ابنه بمالهم ، لا يقبض منهم شيئاً من ميراثه ، حتى يموت ، فيطلب ذلك بنوه الذين ورثوه ، وهم إخوة الميت الأول ، أعمام الذين الحق في أيديهم ، أيكون سكوت الجد عن طلب سهمه ، حتى مات إبطالاً له أم لا ؟ فقال : حدثني من أرضى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : قال : " لا يهلك حق امرئ مسلم وإن قدم " فأرى سهم الجد لورثته على كتاب الله ، إلا أن يأتي بنو ابنه بالبينة أنهم بروا إليه من ذلك ، أو تصدق به عليهم ، أو باعه منهم ، فأما أن يستحقوا ذلك بتقادمه في أيديهم وسكوت الجد عنه ، فلا أرى ذلك . قال يحيى : وقال ابن القاسم مثل قول ابن وهب .
قال محمد بن رشد : هذا مثل ما تقدم وتكرر ، ومضى القول فيه من أنه لا حيازة بين الأوراث ، وإن طالت المدة ، إلا أن يهدموا ويبنوا وغرسوا على اختلاف في ذلك ، فإن كان البنون لم يحدثوا فيما بأيديهم هدماً ولا بنياناً ولا غراساً ، فورثة الجد سهمه باتفاق ، وإن كانوا أحدثوا ذلك فيما في أيديهم ، كان لورثة الجد سهمه على مواريثهم ، على قول ابن القاسم الذي رجع إليه ، على ما مضى له في رسم الكبش ، إلا أن تطول المدة مع ذلك بالدهور ، إلى ما فوق الأربعين عاماً ، وقوله في الرواية : إلا أن يأتي بنو ابنه بالبينة أنهم بروا إليه من ذلك أو تصدق به عليهم غلط ، وصواب الكلام ، إلا أن يأتي بنوه بالبينة أنه بري إليهم من ذلك . وبالله التوفيق . اللهم لطفك .

(11/210)


ومن كتاب أول عبد ابتاعه فهو حر
قال وسألته عن الرجلين تداعيا في أرض ، فبذرها أحدهما ، فولا ثم أعقب الآخر فبذرها قمحاً على قول صاحبه ، وقلب ما نبت منه ، فاستهلك بذلك الفول ، ثم اختصما ، فاستحقها الذي كان بذرها فولاً ، فقال : إن كان استحقها في أول عمل ، كان كراؤها له على الذي بذر القمح ، ويكون زرعها للذي بذره ، ويغرم صاحب الحق لرب الأرض الذي استحقها مع كرائها ، قيمة الفول الذي استهلك ، وذلك أنه كان زرعها على ما كان يدعي من حقه في الأرض ، ولم يكن غاصباً لها . قال وإن استحق الأرض ربها ، وقد فات أوان العمل ، فلا كراء لمستحقها ، على الذي بذر قمحاً والقمح للذي بذره ، وعليه غرم قيمة الفول الذي استهلك على كل حال .
قلت ما الذي أوجب عليه كراء الأرض إن استحقت في أوان العمل ووضع ذلك عنه إن استحقت ، وقد فات أوان عملها فقال : لأنها حين استحقها في أوان العمل ، كان أحق بأرضه والانتفاع بها ، فلما وجدنا فيها بذر رجل بشبهة ، لم يجز لنا أن نأمر مستحقها بفساد ذلك البذر ، وأمضيناه للذي بذره بالشبهة ، وأغرمنا لرب الأرض ، كراء الأرض لما منع من الانتفاع بها ، وقد استحقها في أوان عملها ، ولو كان غاصباً أمر مستحقها بطرح ما فيها ، ولم يحل بينه وبين الانتفاع بأرضه ، إلا أن يشاء أن يقر البذر لصاحبه ويأخذ كراء أرضه فذلك له .
قال محمد بن رشد : هذا كما قال : إن الرجلين إذا تداعيا في أرض ، وهي بأيديهما جميعاً ، وليست في يد واحد منهما ، فزرعاها جميعاً ،

(11/211)


أحدهما بعد الآخر ، فأفسد الآخر زرع الأول إن للأول على الثاني قيمة زرعه الذي أفسده ، لأنه زرعه بوجه شبهة على ما يدعي من حقه ، وليس له أن يقلع زرع الباقي ، وإن استحق الأرض في الإبان لأنه زرعه أيضاً بوجه شبهة على ما يدعي من حق ه . وقوله : إن الثاني يغرم للأول قيمة الفول الذي أفسد عليه على كل حال ، استحق هو الأرض ، ا, استحقها الذي أفسد الفول ، يريد قيمة الفول على الرجاء والخوف ، كان أفسدها بعد أن نبتت ، ولو كان حرث الأرض وزرعها قبل أن يبت الفول ، لكان عليه مكيلة الفول ، إن علمت ، أو قيمة ما يزرع في مثلها من الفول إن جهلت ، ولا يدفع إليه فولا ، مخافة أن يكون أقل أو أكثر ، فيدخله التفاضل فيما لا يجوز التفاضل فيه . هذا إذا اتفقا على الجهل بالمكيلة ، وأما إن تداعيا في ذلك ، وادعى كل واحد منها المعرفة ، فالقول قول الغرام مع يمينه ، إلا أن لا يشبه قولهن فيكون القول قول صاحبه ، إن أشبه قوله أيضاً ، وإن لم يشبه قول واحد منهما حلفاً جميعاً وكان عليه قيمة ما يزرع في مثل الأرض من الفول ، وإن حلف أحدهما ونكل الآخر ، كان القول قول احلاف منهما ، وإن لم يشبه ، لأن صاحبه قد أمكنه من دعواه بنكوله ، وإن أدعا أحدهما المعرفة وذلك يشبه ، كان القول قوله . وقوله : إنه ليس للذي استحق الأرض أن يقلع زرع الثاني ، وإن كان الإبان لم يفت ، صحيح ، لا اختلاف فيه ، لأن زرع بوجه شبهة على ما يدعي من حقه في الأرض ، ولو لم تكن له شبهة في دعواه ، لكان حكمه حكم الغاصب ، مثل أن يأتي إلى الأرض رجل بيده ، فيزرعها فيم غيبه ، ويدعي أنها له بوجه يذكره ، ولا يأتي على ذلك بينة ولا سبب .
وقوله في الرواية ولو كان غاصباً أمر مستحقها بطرح ما فيها ، ولم يحل بينه وبين الانتفاع بأرضه ، صحيح ، وهذا إذا كانت له قيمة منفعة إن قله ، ولو لم تكن له فيه منفعة إن قلعه ، لما كان له أن يقلعه ، ويكون لرب الأرض ، ولو أراد إذا كانت له فيه منعة ، أن يتركه لرب الأرض لم يكن ذلك له ، إلا أن يرضيه ، إذ لا يلزمه قبول معروفه ، ولو أراد رب الأرض أن يأخذه بقيمته مقلوعاً ، لكان ذلك له ، لأنه في أرضه ،

(11/212)


ويدخل بالعقد في ضمانه ، وهو ظاهر ما في كتاب كراء الأرضين من المدونة وقيل : إن ذلك لا يجوز ، لأنه بيع الزرع قبل أن يبدو صلاحه . وهو دليل ما في سماع سحنون من كتاب المزارعة . وإذا قلعه وقد مضى من الإبان بعضه ، كان عليه قيمة ما مضى من الإبان ، وهو ما بين قيمة كراء الأرض في أول الإبان ، وفي الوقت الذي قلع فيه زرعه ، وقد قيل : إن من حق المستحق أن يقلع الغاصب زرعه ، وإن خرج الإبان ما لم يسنبل الزرع ، وقد مضى ذلك ووجه القول فيه في نوازل أصبغ ، من كتاب كراء الأرضين ، وقوله : إلا أن يشاء ، أن يقر البذر لصاحبه ، ويأخذ كراء أرضه ، فذلك له ، معناه : إذا رضي بذلك الغاصب ، ولو لم يكن للغاصب فيه منفعة ، إذا قلعه لما للمستحق أن يترك الأرض بالكراء ، وإن رضيا لأنه بيع للزرع بالكراء ، إذ قد وجب للمستحق . قال ذلك محمد وبالله التوفيق .
مسألة
قال وسألته عن الذي يسكن القرية وليس له فيها إلا مسكنه أو شيء اشتراه بعينه ، ليس من أهل الميراث ، ولا ممن اشترى من أهل الميراث سهماً ، فيعمر من عامرها أرضاً يخترقها ويدللها ويزرعها زماناً ، وأهل القرية حضور ، لا يغيرون عليه ، ولا يمنعونه من عمله ، ثم يريدون إخراجه ، قال : ذلك لهم ، إلا أن تقوم له من عمله ، ثم يريدون إخراجه ، قال : ذلك لهم ، إلا أن تقوم له بينة على اشتراء أو هبة أو حق ، يترك له به ما عمر ، إلا أن يطول زمانه أو أرضه أم تراه بحال الوارث ، أو المولى مع مواليه ؟ قال ينظر فيه السلطان ، على قدر ما يعذر به أصحاب الأصل في سكوتهم ، لما يعلم من افتراق سهامهم ، وقلة حق أحدهم لو تكلم فيه ، فإنه يقول : منعني من الكلام سكوت أشراكي ، وقلة حقي ، فلما خفت تطاول الزمان ، وما يحدث من دعوى العامر ، تكلمت فيه ، فأراه

(11/213)


أعذر من الذي يستحق عليه من خاصة داره ، أو خاصة أرضه شيئاً ، ولا أبلغ به حد الورثة فيما بينهم ، ولا حد المولي الذي يرتفق في أرض مواله ، أو الصهر في أرض أصهاره ، إلا أن يكون ذلك العامر للرجل أو الرجلين ، أو النفر القليل ، فلا يعذرون بسكوتهم ، يحملون فيما عمر جارهم من غامر من أرضهم ، على ما يحمل عليه من حين عمله عليه من دارهم أو أرضه شيء قال : وهم فيما يعمر بعضهم من غامرهم المشترك ، أعذر في السكوت ، وأوجب حقاً وإن طال الزمان جداً .
قال محمد بن رشد : هذه مسألة حسنة ، قد بين ابن القاسم فيها وجه قوله في تفرقته بين الوجهين ، وجعله الذي عمر من غامر القرية وهو ممن لا سهم له فيها بين المنزلتين ، بما لا مزيد عليه .
وقد مضى القول على كل واحد منهما بانفراده في رسم الكبش وغيره من هذا السماع ، وفي رسم يسلف من سماع ابن القاسم ، فلا معنى لإعادة شيء من ذلك . وقوله وهم فيما يعمر بعضهم من غامرهم المشترك ، أعذر في السكوت ، يريد إن الورثة فيما حازه بعضهم على بعض من الغامر أعذر في السكوت على ما حازوا من العامر ، وذلك بين لأن التشاح من المعمور ، أكثر من التشاح في البور ، ورأيت لبعض أهل النظر ، تنبيهاً على هذه المسألة ، قال : أنظر إن كان بنى في هذه الأرض التي أحياها أو غرس ، ولم يكن له فيها حق إن كان يأخذ قيمة ذلك قائماً عند خروجه عنها أو مهدوماً منقوضاً ، والذي أقول به في ذلك ، على أصولهم ، ومنهاج قولهم ، إنه إن كان بنى في ذلك الغامر على أنه حق له يدعيه بوجه من الوجوه ، التي يصح بها الملك ، واحتج عليهم في ادعائه ذلك ملكاً لنفسه بسكوتهم عنه ، فله قيمة بنيانه قائماً لشبهة الملك الذي يدعيه وقد مضى بيان هذا في المسألة التي قبل لهذه ، وأما إن كان لم يدع ذلك ملكاً ، وإنما أراد أن يستحقه عليهم

(11/214)


بسكوتهم عنه ، وحيازته ذلك عليهم ، فيتخرج ذلك على الاختلاف في السكوت ، هل هو كالإذن أم لا ؟ فعلى القول بأنه كالإذن إن قاموا عليه بحدثان ما بنى كان له قيمة بنيانه قائماً ، وإن لم يقوموا عليه حتى مضى من لمدة ما يرى أنه بنى لينتفع بنيانه إلى مثله ، كان له قيمة بنيانه منقوضاً ، وعلى القول بأنه ليس كالإذن يكون له قيمة بنيانه منقوضاً على كل حال ، وهذا على مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك ، وأما على رواية المدنيين عن ملك ، فيكون له قيمة بنيانه قائماً على كل حال .
وقد مضى بيان ذلك في آخر مسألة من رسم الكبش . وبالله التوفيق .
من سماع سحنون وسؤاله ابن القاسم
قال سحنون : وقال ابن القاسم في الرجل يهلك ويترك ولداً صغاراً وكباراً ، فيكون في أيدي بعض الورثة بعض القرى المساكن ، والعبيد والحيوان ، فيطأ هذا الوارث بعض الجواري ، ويبيع بعض العبيد ، ويبني ويغرس في القرى ويكري المساكن أو بعضها وإخوته حضور ، لا يغيرون ولا ينكرون ، ثم قاموا وقالوا : ميراثنا من أبينا ، فيقول هذا الوارث : قد كان أبي تصدق علي بهذا كلهن وكانت بينتي حاضرة ، فلما ماتت أو ذهبت ، وذلك بعد أعوام ، وقد كنت أبيع واطأ وأفعل ما يفعله الرجل في حقه ، وأنتم حضور ، تريدون أن تقوموا علي ، فقال : لا أرى لهم حقاً ولا حجة ، إذا كان يفعل هذه الأشياء وهم حضور . قلت : قلت لابن القاسم : أرأيت ما لم يبع من العبيد ، ولم يطأ من الجواري ، ولم يفوت من الرباع بالبناء والغرس ، لم لا يكون بينهم ؟ قال : هو بينهم . قال : وأما ما باع وقد فات بوطئ ، فليس لهم في شيء وأما ما بنى وغرس ، وهم حضور أو

(11/215)


استغل ، فإن ذلك لا يقطع حقوقهم ، لأن حوز القرية فيما بينهم ليس مثل الأجنبيين وفي العدا شك .
قال محمد بن رشد : قوله في هذه المسألة في السؤال : ويبني ويغرس في القرى أو يكري المساكن ، مع قوله في الجواب : لا أرى لهم حقاً ولا حجة إذا كان يفعل هذه الأشياء وهم حضور ، هو خلاف قوله في آخر المسألة : وأما ما بنى وغرس وهم حضور ، أو استغل فإن ذلك لا يقطع حقوقهم ، لأن حوز القرابة فيما بينهم ليس مثل الأجنبيين وقوله وفي العدا شك يريد وفي البعد الذين ليسوا من القرابة ولهم اختصاص بالحوز عليه كالموالي والأختان ففيهم شك ، هل هم كالقرابة أو كالأجنبيين ؟ ولها الشك اختلف قوله فيهم ، فجعلهم في رسم شهد من سماع عيسى كالأجنبيين ، وجعلهم في رسم الكبش من سماع يحيى كالقرابة . وقد مضى اختلاف قول ابن القاسم في البناء والغرس ، يريد البناء الذي لا يشبه الإصلاح في رسم الكبش من سماع يحيى ومضى اختلاف قوله في الاستغلال في رسم الأقضية منه . وأما قوله فيما لم يفوت من ذلك بما ذكره من وجوه الفوت ، إنه بينهم ، وفيما فوت من ذلك إنه يستحقه بتفويته ، فكان الشيوخ يحملونه على ظاهره في القليل والكثير ، خلافاً لما في قرب آخر رسم الكبش منه .
وقد مضى تحصيل القول في هذا المعنى في رسم يسلف من سماع ابن القاسم ، فلا معنى لإعادته وبالله التوفيق .
مسألة
قال ابن القاسم في رجل هلك وترك ثلاثة من الولد ، وترك ثلاثة أرؤس ، فاقتسموا ، فأخذ كل واحد منهم رأساً فمات منهم في يد الورثة واحد ، واستحق آخر ، وبقي آخر ، وبقي آخر . قال : ليس على الذي مات العبد في يديه غرم شيء ، وليس له أن يرجع على الذي بقي العبد في يديه بشيء ، ويرجع هذا الذي استحق العبد من يده على أخيه الذي بقي العبد في يديه ، فيأخذ منه ثلثه ، ويبقى ثلثاه ، فإن أخذ لهذا المستحق ثمن ، كان ثلثا الثمن للذي استحق العبد من يديه ، وثلثه للذي بقي العبد عنده ، فإن لم يؤخذ له ثمن لم يكن للذي استحق العبد في يديه إلا ثلث العبد الباقي . قال الإمام القاضي : المعنى في هذه المسألة إن العبيد الثلاث ، تساوت قيمتهم ، فأقسموهم بالقرعة ، لأن القسمة بالقرعة هي التي يختلف فيها ، هل هي تمييز حق أو بيع من البيوع ؟ ويتخرج فيها على القول بأنها تمييز حق ثلاثة أقوال : أحدهما قول ابن القاسم هذا ، وهو قول مالك في سماع أشهب ، من كتاب القسمة إن كل واحد منهم يضمن حقه الذي تميز له بالقسمة ، فتكون مصيبته منه إن مات في يديه ، فاستحق نصيب أحدهم ، لم يكن للمستحق منه أن يرجع عليه بشيء ، ولا كان له هو أن يرجع على من بقي حظه في يديه بشيء ، لأن القسمة قد مضت فيما بينه وبينهما جميعاً ، لتلاف جميع حظه الذي تميز له بالقسمة في يديه بغير سببه ، وتنتقص القسمة فيما بين الذي استحق نصيبه من يديه ، وبين الذي بقي

(11/216)


العبد في يديه ، فيرجع عليه بثلثه ، لأنه باع منه ثلثه بثلث العبد الذي استحق من يديه ، فإن أخذ لهذا العبد المستحق ثمن ، كان ثلثاه للمستحق منه ، وثلثه للذي رجع عليه بثلث العبد ، فيكون للمستحق منه العبد ، ثلث العبد ، الباقي ، وثلثا الثمن ، فاستويا لانتقصا القسمة فيما بينهما . وهذا إذا كان الثمن مثل قيمة العبد . فأقل ، وأما إن كان أكثر من قيمة العبد ، فالزائد على قيمته بينهم أثلاثاً .
قال ذلك ابن عبدوس ، وهو صحيح ، لأن الزائد على قيمته لم يدخل في القسمة ، وقد اختلف على هذا القول ، إذا لم يمت العبد ، وإنما فوته

(11/217)


الذي هو بيده بالهبة أو الصدقة أو العتق أو البيع ، فقيل : إنه يضمنه بالتفويت للمستحق منه ، فيكون له أن يرجع عليه بالقيمة يوم القسمة ، وهو قول أشهب ، وقيل : إنه لا يضمنه بشيء من ذلك ، وإنما للمستحق منه في أن يرجع في عينه إن وجده ند الموهوب ، له أو المتصدق عليه ، وكذلك يرجع في عينه إن كان قد أعتق ، ويقوم على المعتق إن كان موسراً ، ويكون في البيع مخيراً بين أن يرجع في عين العبد عند المشتري ، فيرجع المشتري بما ينوب ذلك من الثمن على البائع ، وهو قول سحنون . والقول الثاني : إن القسمة تنتقص فيما بين المستحق منه وبين الذي بقي العبد في يديه ، وفيما بين المستحق منه وبين الذي مات العبد في يديه ، ولا تنتقص فيما بين الذي مات العبد في يديه ، وبين الذي بقي العبد في يديه ، فيكون على هذا القول ضمان ثلث العبد الذي مات من المستحق منه ، وضمان ثلثيه من الذي مات في يديه ، لأنه مات وثلثه للمستحق منه العبد ، فمنه ضمانه ، وثلثاه من الذي مات العبد في يديه ، ثلث هو له ، فكانت مصيبته منه ، وثلث عاوض به الذي بقي العبد في يديه ، فكانت مصيبته منه أيضاً لأن القسمة فيما بينه وبينه لم تنتقص ، فإن قبض للعبد المستحق ثمن على هذا القول ، كان بين جميعهم أثلاثاً ، ويكون للمستحق العبد من يديه ثلث العبد الباقي ، فيصح له ثلث العبد وثلث الثمن . وللذي بقي العبد في يديه ، ثلثا العبد وثلث الثمن ، وللذي مات العبد فيه ثلث الثمن . حكى هذا القول ابن عبدوس ولم يسم قائله . والقول الثالث إن القسمة تنتقص بين جميعهم ، فتكون مصيبة العبد الذي مات منهم كلهم ، ويكون العبد الباقي بينهم . وإن قبض في العبد المستحق ثمن كان بين جميعهم أيضاً .
وهذا هو مذهب ابن الماجشون ، أو أبيه عبد

(11/218)


العزيز ، على ما وقع من اختلاف الرواية في ذلك ، في سماع يحيى من كتاب القسمة ، وكذلك على هذا القول إن استحق من نصيب أحدهم يسيراً أو كثيراً وجد بحظه عيباً تنتقص القسمة بين جميعهم . وأما على القول بأن القسمة بيع من البيوع ، فلا اختلاف في أن الذي استحق العبد من يديه ، يرجع على العبد ، بقي العبد في يديه بثلثه ، وعلى الذي مات العبد في يديه ، ثلث قيمته يوم صار إليه بالقسمة فإن قبض للمستحق ثمن كان بين جميعهم أثلاثاً ، وإنما يختلف على هذا القول ، إذا استحق اليسير من نصيب أحدهم أو الكثير ، فقيل : إن استحق الكثير : إن القسمة تنتقض ، ويرد المستحق منه ما بقي في يديه ، ويرجع على أشراكه فيما في أيديهم ، إن كان قائماً أو في قيمته إن كان فائتاً ، وقيل إنها لا تنتقض ، فلا يكون له أن يرد الباقي في يديه ، وإنما له أن يرجع على أشراكه فيما في أيديهم ، فشاركهم فيه ، إن كان قائماً بقدر ما استحق من يديه ، وإن كان قد فات ما بأيديهم ، رجع عليهم بقيمة ذلكن دنانير أو دراهم . وأما إذا استحق اليسير ، فلا تنتقض القسمة ، ويرجع على أشراكه فيما في أيديهم ، فشاركهم فيه بقدر ما استحق من نصيبه ، إن كان ما بأيديهم لم يفت بوجه من وجوه الفوت ، فإن كان قد فات رجع عليهم بقدر ذلك دنانير أو دراهم ، وقيل : ليس له أن يرجع عليهم فيما في أيديهم ، فشاركهم فيه . وإن كان قائماً ، وإنما له الرجوع عليهم بقيمة ذلك دنانير أو دراهم ، وهذا الاختلاف كله في هذا الوجه في المدونة .
وكذلك اختلفا أيضاً في القسمة على التراضي بعد التعديل والتقويم ، بغير قرعة هل هي تمييز حق أو بيع من البيوع ؟ وأما القسمة على التراضي دون تقويم ولا تعديل ، ولا قرعة ، فلا اختلاف في أنها بيع من البيوع ، فلها حكمه

(11/219)


في العيوب والاستحقاق ، على ما قد ذكرناه في القسمة بالقرعة على القول بأنها بيع من البيوع ، والأظهر في قسمة القرعة أن تكون تمييز حق ، وفي قسمة التراضي بعد التعديل والتقويم أن تكون بيعاً من البيوع ، وبالله التوفيق .
من سماع عبد الملك بن الحسن من ابن وهب
قال عبد الملك بن الحسن : سألت عبد الله بن وهب عن رجل كان بيده فرن يغتله بحضرة إخوته ، إلى أن مرض ، فأوصى بذلك الفرن لامرأة من الناس ، بحضرة عامة إخوته ، فلم ينكروا عليه ، ولم يدعوا فيه ، ثم صح من ذلك المرض ، فاحترق سقف الفرن ، فأنفق فيه وحده ، وأصلح بعض الفرن وزاد فيه ، وكان يأخذ خراجه ، ويرفق فيه من أحب إلى أن هلك ، فلما هلك ادعى إخوته أن الفرن كان لأبيهم . واحتج ورثة الهالك أن الفرن كان في يديه حتى هلك بما نصصت من وصيته فيه ، بحضرة عامتهم ، وإصلاحه إياه وحده ، وأخذه خراجه دونهم ، فهل يكون الفرن للذي كان بيده على هذه الحال دون ورثة أبيه أم لا ؟ قال : إن كان يلي الفرن بجميع ما وصفت ، وكانوا كباراً يلون أنفسهم ليسوا بصغار أو سفهاء ، يولي عليهم ، وكان حوزه ذلك السنين التي تكون حيازة ، العشرة ونحوها وما أشبهها أو أكثر منها ، فهو له إذا كان حياً ، وادعاه دونهم ، ولورثته من بعده إن كان ميتاً ، وإن أقاموا البينة على الأصل أن لأبيهم لم ينتفعوا بذلك ، إذا كان كذلك ، وإن لم يكن على ما وصفت لك في الحيازة أو كانوا صغاراً لا ينظرون إلى أنفسهم ، أو تحت يديه أو غيباً غيبة طويلة أو بعيدة ، وأثبتوا أن أصله كان لأبيهم ، مات وترك ميراثاً بين جميعهم ، ثبتت حقوقهم فيه ، ولم يضرهم ما كان

(11/220)


من ولايته إياه ، وقيامه به . وقال أشهب : أرى أن الفرن للمرأة التي أوصى لها به ، ولا أرى للميت فيه شيئاً ولا لإخوته ، لأنه قد حازه دونهم .
قال محمد بن رشد : إنما لم ير ابن وهب وصيته بالفرن بحضرة عامة إخوته حيازة عليهم . والله أعلم من أجل أنه لم يعين ولا سمى من لم يحضر ذلك منهم ولا علم ، لأن كل واحد منهم يقول : أنا ممن لم أحضر ولا علمت ، ولو ثبتت عليهم كلهم أنهم حضروا وصيته له ، فلم يغيروا ، ولا أنكروا وال ادعوا فيه حقاً ، لكان ذلك حيازة عليهم ، أو على من ثبت عليه ذلك منهم ، وإن كانت الوصية قد بطلت عنده فيه بإصلاح إياه ، وتعبيره له بالزيادة فيه ، خلاف ما ذهب إليه أشهب . وهذا على الاختلاف فيمن أوصى لرجل ببقعة ثم بناها ، هل يكون ذلك نقضاً للوصية أم لا يكون ذلك نقضاً لها ؟ ويكون الموصي له شريكاً فيها مبنية بقيمة القاعة ، وكذلك يكون الورثة مع الموصي لها بالفرن أشراكاً فيه بالزيادة ، على مذهب أشهب ، لا بما أنفق في إصلاحه ، إذ لا اختلاف في أن الوصية بالدار أو الفرن ونحوه ، لا تبطل بالرم والإصلاح . وقول ابن وهب : إن العشرة الأعوام حيازة في الفرن بين الإخوة الأوراث ، مع التغيير بالبنيان ، والانفراد بالاستغلال ، هو مثل القول الذي رجع عنه ابن القاسم ، في رسم الكبش من سماع يحيى .
وقد مضى على ذلك هناك مستوفى فلا معنى لإعادته . وقد مضى القول في مراعاة تحديد العشرة الأعوام في الحيازة في رسم شهد من سماع عيسى فلا معنى لإعادته ذكر ذلك . وبالله التوفيق .
مسألة
وسألت عبد الله بن وهب عن القوم يكونون في المنزل ، ولذلك المنزل بور وشعر ، فاخترق بعض أهل ذلك المنزل في ذلك البور

(11/221)


خرقاً فزرعه وعمره بحضرة أشراكه وأقام في يديه ، نحواً من ثمان سنين ، أو عشرة ، أو أكثر من ذلك إلى ما بينه وبين عشرين سنة ، بحضرة أشراكه لم يغيروا عليه ولم ينكروا ، ثم بدا لهم في طلب ذلك البور ، ومحاصة صاحبه فيه وأرادوا أن يردوه بوراً ومرعى لعامتهم ، كما كان أول مرة ، فاحتج صاحب البور بعمارته له ، منذ زمان طويل بحضرتهم ، وهو مقر أنه كان بوراً وقال : هي أرض اعتمرتها منذ زمان طويل بحضرتكم ، أو كان صاحب تلك الأرض قد هلك وورثها ورثته ، فادعوا أنهم ورثوا عن أبيهم أرضاً ، كان يعتمرها منذ زمان ، بحضرتكم فقامت عليهم البينة ، أن تلك الأرض كانت من البور الذي كان بين أهل القرية كلهم ، حتى اخترقها أبوهم الهالك ، فهل ترد إلى حاله الأول بوراً كما كان أول أو يستحقه الذي هو في يديه بطول عمارته ؟ فقال : إن كانت الشعر أو البور معروفاً للقوم ، أو كان المخترق مقراً بذلك ، أعطوه قيمته صحيحاً إن كان اعتمر بذلك بعلمهم ومعرفتهم ، وهم يرونه لا يغيرون عليه ، وذلك إذا كانوا كباراً هالكين لأفنسهم ، فإن كانوا صغاراً ليس لمثلهم إذن فقيمته منقوضاً وإن كان البور ليس معروفاً لهم ، ولا مشهوداً عليه ، وأنكر وهو في يديه ، يحوزه ويعتمله السنين التي في مثلها الحيازة ، فلا حق لهم فيه .
قال محمد بن رشد : قوله فاخترق بعض أهل ذلك المنزل في ذلك البور يدل على أن للمخترق فيه حقاً ، إذ هو منهم . وهذا هو الذي قال فيه ابن القاسم في آخر سماع يحيى : إنهم فيه أعذر في السكوت منهم في الأرض العامرة . وقد مضى الكلام على ذلك هنالك ، ولم ير مشاركتهم لهم في الشعر شبهة ، توجب أن يكون له

(11/222)


قيمة ما عمر فيها قائماً ، إن كان عمره بغير علمهم ولا إذنهم . وهذا مثل ما مضى في أول رسم من سماع ابن القاسم . وفي ذلك اختلاف قد ذكرناه ، هناك . وقوله : إنه إن كان عمره بعلمهم ومعرفتهم أعطوه قيمته صحيحاً ظاهره طالت المدة أو قصرت ، فهو خلاف مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك في تفرقته بين أن يقوموا عليه بحدثان البنيان أو بعد أن يمضي من المدة ما يرى أنه بني إلى مثلها ، مثل رواية المدنيين عن مالك ، في أن من بنى في أرض رجل بإذنه أو بعلمه ، فله قيمة بنيانه قائماً وفي قوله في آخر المسألة : وإن كان البور ليس معروفاً لهم ، ولام شهوداً عليه فأنكر وهو في يده ، يحوزه ويعمله السنين التي في مثلها الحيازة ، فلا حق لهم فيه ، نظراً لأن البور ، إذا لم يكن لأهل المنزل فيه حق ، فهو موات ، يكون لمن أحياه بالعمارة ، والإحياء على حكم إحياء الموات ، فيما قرب وفيما بعد ، حسبما مضى القول فيه في رسم القضية من سماع أشهب من كتاب السداد ، والأنهار ولا يستحق شيئاً من ذلك على جماعة المسلمين ، بطول الحيازة ، كما يستحق على الواحد منهم بها ماله وملكه . وبالله تعالى التوفيق لا رب غيره .
مسألة
قال : سألته عن الرجل تكون في يديه دابة ، فتعرفها رجل ، يزعم أنها سرقت منه ، فقيم عليها البينة ، أنها مسروقة منه ، وأنها منتوجة عنده ، أو عند الذي ابتاعها منه فيزعم الذي ألفيت في يديه أنه ابتاعها من رجل من أهل بلدة أخرى فيكتب له القاضي إلى قاضي البلد ، الذي زعم أن بائعه بها ، بما قامت عنده لمدعيها من البينة عليها ، وأنها منتوجة عنده أو عند من ابتاعها منه إلى أن أنشدها

(11/223)


مسروقة ، وأنه قد قضي بها له ليرد بذلك رأس مال من بيعه ، فإذا ورد بذلك الكتاب على القاضي ، أتاه ببيعه ، فعرف الدابة وأقر ببيعها أعداه عليه بما كتب به إليه ذلك القاضي ، ثم يزعم الذي أعدى عليه ، أنه ابتاعها من رجل في كورة أخرى ويسأل أن تدفع إليه الدابة ، ويضع قيمتها على يدي عدل ، ليدرك رأس ماله بها . وكتب له القاضي الذي كتب إليه بعد وضع قيمتها ، إلى قاضي البلد الذي زعم أن بائعه به ، فيأتيه ببائع الدابة فيعرفها ، ويقر ببيعها ، ويزعم أنها منتوجة عنده ، ويقيم عليها البينة أنها منتوجة عنده ، فكتب ذلك القاضي إلى الذي كتب إليه ، أنه لم يجد سبيلاً إلى الإعداء عليه ، بما قامت عنده من البينة أنها منتوجة عنده ، فيلتمس هذا أن يرجع بما غرم من قيمتها على من أخذ منه .و يحتج ذلك بدعوى الأول ، وما قامت عليه بينة ، فأي الأمرين يحملها عليه ؟ قال : إن كانت بينة الأول الذي أقام عند القاضي الأول على النتاج أعدل من بينة الآخر الذي أقام أيضاً البينة على النتاج عند القاضي الآخر ، أو كانتا في العدالة سواء ، فالأول أحق بها ، ترد إليه ، ويعدى مشتريها والمستحقة من يديه على بائعه ، وبائعه على بائعه على ذلك الأصل أبداً كما هو ، وإن كانت بينة الآخر على النتاج أعدل البينتين وأبرزها في الصلاح والعدالة ، فالحق حقه ، ولا حق للأول وينفذ البيع بين من تبايعاهما أجمعين ، ويرد إلى المستحق من يديه ، ويتم البيع فيما بينهم على ما تبايعوا من واحد إلى واحد .
قال محمد بن رشد : المسؤول في هذه المسألة ابن وهب والله أعلم ، لأنه قال في أولها : وسألته عطفاً على المسألة المتقدمة له . وقوله فيها : إنه إن تكافأت البينتان في العدالة فالبينة بينة الأول ، وهو أحق بها ، وينفد البيع بينهم بالأثمان ، وتبطل بينة الثاني خلاف مذهب ابن القاسم ، وروايته عن مالك ، لأن المال المتنازع فيه ، لا يكون عندهما مع تكافئ البينتين للذي هو في يديه ، إلا إذا جهل أصل كونه في يديه ، والأول الذي أقام البينة على النتاج ، قد علم أصل كون الدابة في يديه ، وهو قضاء القاضي الأول له بها بما ثبت عنده من ملكه لها ، وأنها منتوجة عنده قبل الإعذار إلى هذا الآخر الذي أقام أيضاً البينة على النتاج ، فهو حكم لم يتعد بعد ، فلا تراعى يده ، لأن اليد على الحقيقة إنما هي للثاني ، لأنه المدعى عليه لما قد باعه مما كان في يديه بوجه مجهول ، فهو بمنزلة السمتحقة من يديه الدابة ، لو كان هو الذي أقام البينة على النتاج ، فالواجب في هذه المسألة على مذهب ابن القاسم

(11/224)


وروايته عن مالك ، إذا تكافأت البينتان في العدالة ، أن تكون البينة بينة الثاني التي أقام على النتاج ، وتبطل بينة الأول ، وترد الدابة إلى الذي استحقت من يديه أولاً ، وينقض الحكم الذي حكم به القاضي الأول للمدعي الذي أقام البينة عنده على النتاج ، ويرجع كل من رجع عليه بما أخذ منه على الذي أخذه منه ، وقول ابن وهب في هذه المسألة ، هو مثل قول غير ابن القاسم في كتاب الولاء والمواريث من المدونة في الذي يأخذ مال رجل ويدعي أنه وارثه ، ثم يأتي رجل آخر ، غيره ويدعي أنه وارثه ، ويقيمان جميعاً البينة على دعواهما أن البينة بينة للذي المال بيده .
وقد وقع في المبسوطة لأصبغ وسحنون ، أن الدابة تكون بينهما إذا تكافأت البينتان في العدالة ، يريدان فينفذ الاستحقاق في نصفها ، ويكون التراجع بينهم فيه ، على حكم من ابتاع دابة فاستحق من يديه نصفها ، ويكون مخيرانً بين أن يرد النصف الباقي في يده ، ويرجع بجميع الثمن ، وبين أن يمسك النصف ويرجع على البائع منه بنصف الثمن ، ثم يرجع هو على من باع منه بنصف الثمن الذي دفع إليه أيضاً ، وهو قول ثالث في المسألة ، على غير الأصول لأن المال المدعى فيه لا يكون بين المتداعيين ، عند تكافئ البينتين إلا إذا كان بأيديهما جميعاً أو لم يكن بيد واحد منهما واليد التي يجب اعتبارها في مسألتنا هذه ، إنما هي يد الثاني على ما بيناه . أرأيت لو كان حاضراً عند إقامة الأول البينة عليها أنها

(11/225)


منتوجة عنده ، فأقام هو البينة عليها أيضاً أنها منتوجة عنده ، أليس كانت تكون بينته أعمل ؟ فلا فرق بين أن يغيب حتى يحكم له بها ، وبين أن يكون حاضراً ، لأن الحجة قد أرجئت له لمغيبه . وهذا كله بين والحمد لله .
وإذا كانت بينة الثاني أعمل ، وجب أن ترجع الدابة إلى الذي كانت استحقت من يديه ، فيرد كل واحد منهم الدابة إلى الذي أخذها منه ، ووضع له فيها القيمة . فيأخذ منه الثمن الذي دفع إليه ، والقيمة التي وضع له ، حتى ترجع الدابة إلى الذي استحق من يديه ، فيأخذ القيمة التي وضع لمستحقها ، وإن تلفت القيمة الموضوعة في شيء من هذا فمصيبتها من الذي وضعها إذا كانت على يدي عدل ، وإن كانت عنده ضمنها ، إلا أن تكون له بينة على ضياعها ، على حكم ما يغاب عليه من الرهان ، وإن تلفت الدابة في شيء من هذا بيد أحد ممن سار بها ، فلربها المستحقة من يده أكثر القيم الموضوعة . ولهذا الوجه تفسير دقيق ، قد فرغنا من بسطه وشرحه في مسألة مشخصة سئلت عنها منذ مدة ، فبينت وجه القول فيها بياناً شافياً ، فتركت ذكر ذلك هنا اختصاراً واكتفاء لما مضى من القول ، إذ لم أقصد في هذا الشرح إلى تفريع مسائله ، كراهة التطويل وبالله التوفيق . اللهم لطفك .
من سماع أصبغ من ابن القاسم من كتاب البيوع والعيوب
قال أصبغ : سألت ابن القاسم ، عن رجل اشترى عبداً قائماً بعينه وقبضه ، وعبداً آخر موصوفاً معه إلى أجل ، بمائة دينار ، فاستحق العبد القائم ، قال : ينظر في قيمة الذي نقد ، والذي إلى أجل ، كم كان نصيب كل واحد منهما من المائة ؟ على قدر بعد الأجل وقربه ، وعلى صفة ذلك إن اختلفت الصفة ، ثم يقسم ذلك بينهما ، ثم يرد ما أصاب الذي استحق بقدر ذلك ، ويثبت البيع فيما

(11/226)


بقي ، إلا أن يكون هذا المستحق وجه الشراء وكثرته ، وفيه الفضل فيما يرى الناس ، فينفسخ البيع كله ، وترد المائة . وقاله أصبغ بن الفرج . وهي حسنة .
قال محمد بن رشد : وهذا كما قال : ووجه العمل في ذلك أن يقوم العبد القائم يوم وقع الشراء ، ويقوم العبد المسلم فيه ، بأن يقال : كم يسلف في عبد على تلك الصفة إلى مثل ذلك الأجل ، وإلى من تكون ذمته في الأمانة والثقة ؟ مثل ذمة المسلم إليه في العبد ، فإن كانت قيمة العبد في التمثيل ثلاثين ، وما يسلم في مثل العبد المسلم فيه ، على ما وصفناه ستين ، ثبت السلم له على المسلم إليه ورجع عليه بثلث المائة للعبد المستحق ، وإن كانت قيمة العبد ستين ، وما يسلم في مثل العبد المسلم فيه ثلاثين ، كان بالخيار بين أن يرجع بجميع المائة ، وينتقض السلم ، وبين أن يرجع بثلثي المائة ، ويثبت له السلم . بالله التوفيق .
ومن كتاب الأقضية
قال أصبغ : وسمعت ابن القاسم ، وسئل عن رجل له عبد مملوك ، وكان في يديه منزل فيه بنيان وغرس معروف ، إنه لمولاه ، فأعتقه وفي يديه ذلك المنزل والأرض ، ثم أقام بعد عتقه عشرين سنة ، يبني ويهدم ويزرع حتى مات ، وترك أولاداً صغاراً ، فطلب مولاه المنزل ، وهل ينتفع الموالي بحوزهم ؟ قال : إن المولى أحق به ، ولا ينتفع الموالي بالحوز في مثل هذا إذا عرف ذلك كان لمولاه ، وليس الموالي والولد ، مثل الأجنبيين شأنهم أضعف من ذلك .
قال محمد بن رشد : هذا مثل ما تقدم لابن القاسم في رسم الكبش من سماع يحيى ، من أن المولى الأسفل في الحيازة ، بمنزلة المولى

(11/227)


الأعلى ، وبمنزلة الأختان والأصهار على حكم القرابة خلاف ما مضى في رسم شهد من سماع عيسى من أن الموالي والأصهار في الحيازة ، بمنزلة الأجنبيين .
وقد مضى تحصيل القول في ذلك في رسم يسلف من سماع ابن القاسم ، فلا معنى لإعادته ، وبالله التوفيق .
تم كتاب الاستحقاق بحمد الله تعالى وحسن عونه .

(11/228)