البيان
والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة
كتاب الغصب
من سماع عبد الرحمن بن القاسم
من مالك رواية سحنون
من كتاب الرطب باليابس
قال سحنون : أخبرني ابن القاسم عن مالك في رجل
ترك رجلاً يبني في أرضه ، أو يغرس فيها وهو
حاضر يراه ، ثم قام عليه حين فرغ من بنيانه أو
غرسه : إن للعامل قيمة ما أنفق . قال ابن
القاسم : وذلك في فيافي الأرض ،
(11/229)
وحيث لا يظن
تلك الأرض لأحد ، فإذا بنى في مثل ذلك المكان
وصاحبه ينظر ، ثم جاء ليخرجه ، فلا يخرجه إلا
بقيمته مبنياً . ولو بنى أيضاً في مثل ذلك
المكان بحوز ، استحيا مثله ، ولمي علم صاحبه ،
لم يكن له أن يخرجه أيضاً ، إلا أن يغرم له
القيمة مبنياً . وأما من دخل على رجل متعدياً
بمعرفة ، فإنه يهدم بنيانه ، ويقلع غرسه ، إلا
أن يحب صاحب الأرض أن يغرم ثمن نقضه وغرسه ،
بعد أن يطرح مقلوعاً ، وليس للذي تعدى أن يأبى
ذلك .
قال محمد بن رشد : قول ابن القاسم : وذلك في
فيافي الأرض ، وحيث لا تظن تلك الأرض لأحد ،
مخالف لما ذهب إليه مالك ، غير مفسر له ، لأن
الذي ذهب إليه ملك أن تركه يبني في أرضه ويغرس
فيها وهو حاضر ، يراه إذن منه له بذلك ، فسواء
على مذهبه كان ذلك في فيافي الأرض ، وحيث لا
تظن تلك الأرض لأحد ، أو لم تكن ، وكان في
الحاضرة أو فيما قرب منها ، إن قام عليه
بحدثان ما بنى أو غرس ، لم يكن له أن يخرجه عن
الأرض ، إلا أن يعطيه قيمة ما أنفق ، أو ما
أنفق على الاختلاف القائم من المدونة وقد ذكرت
وجهه في سماع أشهب ، من كتاب الاستحقاق . وإن
مل يقم عليه حتى مضى من لمدة ما يرى أنه إذن
بالغرس والبناء إلى مثلها ، كان له قيمة
بنيانه وغرسه منقوضاً مطروحاً بالأرض ، على ما
في كتاب العارية من المدونة فيمن أذن الرجل أن
يبني في أرضه أو يغرس فيها ، ولم يوقت له
أجلاً . وإن قام عليه بعد مدة إلا أنها لم
تبلغ الحد الذي يرى أنه أذن له بالبناء إلى
مثلها ، لم يكن له أن يخرجه إلا أن يعطيه قيمة
بنيانه وغرسه قائمة . ووجه العمل في ذلك أن
يقال : كم قيمة البقعة مبنية ، على ما هي ع
ليه من هاذ البناء على حالته التي هو عليها من
التغير فيما مضى من المدة ؟ وكم قيمة بنيانها
أيضاً لو كان البناء جديداً كما فرغ منه ؟
فينقص ما بين القيمتين من قيمتها ، أنفق في
البنيان أو مما أنفق فيه ، على الاختلاف الذي
قد ذكرته فيما بقي من ذلك ، كان هو قيمة
البنيان قائماً الذي يجب له عليه ، إن أراد
إخراجه من الأرض .
وذهب ابن القاسم في هذه الرواية إلى أن تركه
يبني في أرضه وهو حاضر يراه ، ليس بإذن منه له
في ذلك على أحد قوليه إذ قد اختلف قوله في هذا
الأصل ، فإذا لم يكن إذن له عنده ، فلا يكون
له على مذهبه في بنيانه قيمة ما أنفق فيه ،
كما قال مالك ، إلا إذا كان ذلك في فيافي
الأرض ، وحيث لا يظن ذلك الأرض لأحد ،
(11/230)
ولذلك قال
متصلاً بقول مالك : إنه إن قام عليه حين فرغ
من بنيانه أو غرسه ، إن للعامل قيمة ما أنفق ،
وذلك في فيافي الأرض إلخ قوله يريد عنه وعلى
مذهبه ، لأن بنيانه إن لم يكن في فيافي الأرض
، فلا يجب له فيه على مذهبه في هذه الرواية ،
إلا قيمته منقوضاً . هذا وجه القول في هذه
المسألة على مذهب ابن القاسم ، وروايته عن
مالك خلاف رواية المدنيين عن مالك ، في أن من
بنى فله قيمة بنيانه قائماً ، وإن انقضت المدة
، وعلى ذلك يأتي قول مطرف وابن الماجشون في
الواضحة عن مالك في أنه من بنى في أرض بينه
وبين شريكه ، وشريكه حاضر لا ينكر ، فهو
كالإذن ، ويعطيه قيمة البناء قائماً ، كالباني
بشبهة . وقد مضى تحصيل القول في مسألة أحد
الشركيين ، يبني في الأرض التي بينه وبين
شريكه على مذهب ابن القاسم ، وروايته عن مالك
في أول سماع ابن القاسم ، من كتاب الاستحقاق .
وبالله التوفيق .
مسألة
وقال مالك في الرجل يتسوق بسلعة ، فيعطيه غير
واحد بها ثمناً ، ثم يعدوا عليها رجل ،
فيستهلكها ، قال : أرى أن يضمن ما كان يعطى
بها ، ولا ينظر في قيمتها . قال : وذلك إذا
كان عطاء قد تواطأ عليه الناس ، ولو شاء أن
يبيع باع . قال سحنون : لا يضمن إلا قيمتها .
قال عيسى يضمن الأكثر القيمة أو الثمن .
قال محمد بن رشد : قول مالك : إنه يضمن ما كان
يعطى بها إذا كان عطاءً قد تواطأ الناس عليه ،
ولا ينظر إلى قيمتها . معناه : إلا أن تكون
القيمة أكثر من ذلك ، فتكون له القيمة . وهو
نص قول مالك في سماع عيسى من كتاب العتق ، مثل
قول عيسى ابن دينار ، من رأيه إن له الأكثر من
القيمة أو الثمن . فقوله مفسر لقول مالك ،
خلاف لقول سحنون ، الذي لا يرى له إلا
(11/231)
القيمة ، كانت
أقل من الثمن أو أكثر . فالمسألة راجعة إلى
قولين . وبالله التوفيق .
ومن كتاب أوله اغتسل على غير نية
وسئل مالك عن رجل انتهب من رجل مالاً من صرة
في يده ، والناس ينظرون إليه ، قد رأوها قبل
ذلك في يد صاحبها ، فطلب ، فطرحها مطرحاً لم
توجد ، فادعى صاحبها عدداً وكذبه الآخر ، ولم
يفتحها ، ولم يدر كم هي ؟ ولعله ألا يطرحها
لعجزه هرباً فيذهب بها ، ثم يختلفان في العدد
قال مالك : إذا اختلفا في العدد ، فاليمين على
المنتهب ، ومطرف وابن كنانة يقولان في هذا
وشبهه : القول قول المنتهب منه ، إذا ادعى ما
يشبه ، وأن مثله يملكه .
قال محمد بن رشد : قول مالك هو القياس ، لقول
النبي عليه السلام " البينة على من ادعى
واليمين على من أنكر " فالقول قول المنتهب مع
يمينه ، أنه لم يكن فيها أكثر من كذا وكذا ،
إذ حقق أنه لم يكن فيها أكثر من ذلك ، وإن لم
يدع معرفة عدد ما فيها ، وذلك إذا أتى بما
يشبه ، فإن أتى بما لا يشبه ، لم يكن له إلا
ما أقر به المنتهب . وأما قول مطرف وابن كنانة
، فإنه استحسان ، ووجهه أن عداء المنتهب وظلمه
قد ظهر ، فوجب أن سقط حقه ، في أن يكون القول
قول . لقول النبي عليه السلام " ليس لعرق ظالم
حق ، والظالم أحق من حمل عليه " فكان القول
قول المنتهب منه إذا ادعى ما
(11/232)
يشبه ، فإ ،
ادعى ما لا يشبه ، كان القول قول المنتهب ،
إذا أقر بما يشبه ، فإن لم يقر إلا بما لا
يشبه ، يسجن ، فإن طال سجنه ولم ينتقل عن قوله
، استحلف على ذلك وأخذ منه . وبالله التوفيق
لا رب سواه اللهم لطفك .
ومن كتاب أوله حلف ليرفعن أمراً إلى السلطان
قال : وقال مالك في الزرع تأكله الماشية ، قال
: يقوم على حال ما يرجى من تمامه ويخاف من
هلاكه لو كان يحل بيعه . فإن قال قائل : كيف
يقوم ما لا يحل بيعه ؟ فإن سول الله - صلى
الله عليه وسلم - قد قضى في الجنين بغرة
فالجنين لا يحل بيعه فهذا مثله .
قال محمد بن رشد : قوله في الزرع تأكله
الماشية : إنه يقوم على الرجاء والخوف ، معناه
: فيما أفسدت وأكلت بالليل ، لأن رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - " قضى أن على أهل
الحوائط حفظها بالنهار وأن ما أفسدت المواشي
بالليل ضامن على أهلها " ولا اختلاف في وجوب
تقويمه على الرجاء والخوف ، إذا يئس من أن
يعود لهيئته ، وأما إن رعى صغيراً ورجا أن
يعود لهيئته ، فاختلف هل يستانى به أم لا ؟
فقال مطرف : إنه لا يستانى به
(11/233)
وذهب سحنون ،
إلى أنه يستانى به ، قاله في الثمرة ، وهو في
الزرع أحرى . واختلف على القول بأنه لا يستانى
به ، إن حكم بالقيمة فيه ، ثم عاد لهيأته بعد
الحكم ، هل ترد القيمة أم لا ؟ واختلف أيضاً
على القول بأنه لا يستانى به إن لم يحكم فيه ،
حتى عاد لهيئته ، فقيل تسقط القيمة فيه ، وهو
قول مطرف ، وقيل : لا تسقط فيه ، ويقوم على
الرجاء والخوف على كل حال ، إن نبت وعاد
لهيئته قبل الحكم ، وهو قول أصبغ .
وقد مضى القول على هذه المسألة مستوفى في آخر
سماع أشهب من كتاب الأقضية . والله الموفق .
من سماع أشهب وابن نافع من مالك
ورواية سحنون من كتاب الأقضية
قال أشهب : قيل لمالك رأيت الأمة الراووقة
الفارهة ، تتعلق برجل تدعي أنه غصبها نفسها ،
أتصدق عليه بما بلغت من فضيحة نفسها يمين أو
بغير يمين ؟ فقال : تصدق عليه ، ويكون ذلك لها
بغير يمين ، ما سمعت أن عليها في ذلك يمينا ،
فأرى أن تصدق ، بكراً كانت أ وثيباً إذا تشبثت
به وبلغت فضيحة نفسها ، وهي تدمى إن كانت
بكراً ، ولم أسمع أن عليها في ذلك يميناً .
قال محمد بن رشد : في هذه المسألة أن الرجل
إذا ادعت عليه أنه غصبها نفسها ، ممن يليق به
ما ادعت عليه من ذلك ، فها هنا يسقط عنها حد
القذف للرجل باتفاق وحد الزنا ، وإن ظهر بها
حمل لما بلغته من فضيحة نفسها ، وكذلك الوغدة
.
قال ذلك محمد بن المواز : واختلف في وجوب
الصداق لها على ثلاثة أحوال : أحدها إنه يجب
لها ، وهو قول مالك في رواية أشهب هذه ،
والثاني إنه لا يجب لها ، وهو قول ابن القاسم
في رواية عيسى عنه من كتاب الحدود في
(11/234)
القذف . قال :
ولو كان أشر من عبد الله الأزرق في زمانه
والثالث قول ابن الماجشون في الواضحة إنه يجب
لها الصداق إن كانت حرة ، ولا يجب لها إن كانت
أمة ، واختلف إذا وجب لها الصداق بدعواها مع
ما بلغت إليه من فضيحة نفسها ، هل يجب بيمين
أو بغير يمين ؟ فقال مالك في رواية أشهب هذه :
إنها تأخذه بغير يمين ، وذهب ابن القاسم إلى
أنها لا تأخذه إلا بيمين وهو أصح . وهذا
الاختلاف في وجوب اليمين إنما هو والله أعلم
في الجارية الفارهة ، وأما الوغدة فلا تأخذ
الصداق على القول بأنها تأخذه بدعواها مع
التشبث بالمدعي عليه ، إلا بعد اليمين .
وتحصيل القول في هذه المسألة باستيفاء وجوهها
أنه إذا ادعت المرأة على الرجل أنه اغتصبها
نفسها ، ولم تأت متشبثة به ، فإن كان الرجل
معلوماً بالصلاح ، ممن لا يشار إليه بالفسق ،
حدت له حد القذف ، كانت من أهل الصون أو لم
تكن ، وحدت الزنا إن ظهر بها حمل . وأما إن لم
يظهر بها حمل ، فيتخرج وجوب الحد عليها على
الاختلاف فيمن أقر بوطئ أمة رجل ، وادعى أنه
اشتراها منه ، أو بوطئ أمة ، وادعى أنه تزوجها
، فتحد على مذهب ابن القاسم ، إلا أن ترجع عن
قولها ، ولا تحد على مذهب أشهب ، وهو نص قول
ابن حبيب في الواضحة وإن كان معلوماً بالفسق
لم تحد له حد القذف ، كانت من أهل الصون أو لم
تكن ، ولا حد الزنا لنفسها ، إلا أن يظهر بها
حمل ، وينظر الإمام في أمره ، فيسجنه ، ويستحس
عن أمره ، ويفعل فيه ما ينكشف له منه ، فإن لم
ينكشف له في أمره شيء ، استحلف ، فإن نكل عن
اليمين حلفت المرأة ، واستحقت عليه صداق مثلها
، وإن كان مجهول الحال ، حدت له حد القذف إن
كانت مجهولة الحال أيضاً ، أو لم تكن من أهل
الصون ، وأما إن كانت من أهل الصون وكان هو
مجهول الحال ، فيتخرج وجوب حد القذف عليها له
على قولين . ويحلف بدعواها على القول بأنها لا
تحد له . فإن نكل عن اليمين حلفت هي وكان لها
صداق مثلها ، وأما إن ادعت عليه أنه غصبها
نفسها ، وجاءت متعلقة به ،
(11/235)
تدمى إن كانت
بكراً ، فإن كان من أ÷ل الصلاح لا يليق به ما
ادعته عليه ، سقط عنها حد الزنا ، وإن ظهر بها
حمل ، لما بلغته من فضيحة نفسها ، واختلف هل
تحد له حد القذف أم لا ؟ فذهب ابن القاسم إلى
أنها تحد له حد القذف . وحكى ابن حبيب في
الواضحة أنها لا تحد له حد القذف ، ولا يمين
لها عليه ، على القول بأنها تحد له . وأما على
القول بأنها لا تحد له ، فيحلف على تكذيب
دعواها .
فإن نكل عن اليمين حلفت واستحقت عليه صداق
مثلها ، وهذا إذا كانت ممن تبالي بفضيحة نفسها
، وأما إن كانت ممن لا تبالي بفضيحة نفسها
فتحد له قولاً واحداً . وإن كان معلوماً بفسق
من يليق به ذلك سقط عنها حد القذف للرجل ، وحد
الزنا ، وإن ظهر بها حمل . واختلف في وجوب
الصداق لها على ثلاثة أقوال : أحدها إنه يجب
لها ، وهي رواية أشهب عن مالك في كتاب الغصب ،
لأنه إذا وجب للأمة ما نقضها فأحرى أن يجب
للمرأة صداق مثلها والثاني إنه لا يجب لها ،
وهي رواية عيسى عن ابن القاسم في كتاب الحدود
في القذف . قال : ولو كان أشر من عبد الله بن
الأزرق في زمانه والثالث قول ابن الماجشون في
الواضحة إنه يجب لها الصداق إن كانت حرة ، ولا
يجب لها شيء إن كانت أمة ، واختلف إذا وجب لها
الصداق بدعواها مع ما بلغت إليه من فضيحة
نفسها ، هل يجب لها بيمين أو بغير يمين ، فروى
أشهب عن مالك أنها تأخذ بغير يمين ، وذهب ابن
القاسم إلى أنها لا تأخذ إلا بعد اليمين ، وهو
أصح . والله أعلم . وإن كان مجهول الحال لم
تحد له قولاً واحداً إذا كانت ممن تبالي
بفضيحة نفسها . واستحلف هو ، فإن نكل عن
اليمين حلفت هي ، واستحقت صداقها ، وإن كانت
ممن لا تبالي بفضيحة نفسها ، يخرج إيجاب حد
القذف عليها على قولين ، ويحلف على القول
بأنها لا تحد له ، فإن نكل عن اليمين حلفت هي
واستحقت صداقها ، ويحلف على القول بأنها تحد
له ولا يجب لها شيء . هذا تحصيل القول في هذه
المسألة . والله الموفق .
(11/236)
ومن كتاب
الأقضية الثالث
وسئل مالك فقيل له : إن أرض مصر ينكشف عنها
الماء ، وبعضها لضيق بعض ، فإذا بذر الناس
الحبوب فربما أخطأ المرء ، فزاد على حده من حد
جاره ، الفدان والفدانين فبذر فيه ، ثم ينظر
بعد ذلك ، فيوجد قد بذر في غير حقه ، فيقول رب
الأرض ، أنا أعطيك بذرك ، وكراء بقرك ، قال
مالك : ما أرى ذلك ولا أظنه ، قال : فقيل له :
فترى أن تكون تلك الأرض التي وقع فيها بذره ،
له بكرائها ؟ قال : نعم أراها له بكرائها وله
الزرع .
قال محمد بن رشد : قوله : ما أرى ذلك ولا أظنه
، معناه : ما أرى ذلك بحوز ، ولا أظنه يحل ،
لأنه صدقه فيما ادعاه ، من الخطأ والغلط ،
وعذره ذلك بالجهل ، فوجب أن يكون له الزرع ،
ويكون عليه كراء الأرض ، لأنه زرعه وهو يحسب
أنه زرعه في حقه ، بعد يمينه على ذلك ، حسبما
قاله أصبغ في نوازله من كتاب المزارعة ، فلما
وجب له الزرع ، لم يجز لرب الأرض أن يأخذه
ويعطيه بذره ، كراء بقره لأنه يكون مبتاعً له
بذلك ، وسحنون لا يعذره في ذلك بالجهل ، ولا
يصدق فيما ادعاه من الغلط ، ويحمله محمل
الغاصب ، فيرى الزرع لصاحب الأرض ، ولا يرى
للزارع شيئاً إلا أن يقدر أن يجمع حبه من
الفدان حسبما ذكرنا عنه في نوازل أصبغ من كتاب
المزارعة ، ولا خلاف في أنه لا يعذر في الغلط
إذا تجاوز حده بالبنيان في البقة . وبالله
التوفيق .
من سماع عيسى من ابن القاسم
من كتاب نقدها نقدها
قال عيسى : وسألت ابن القاسم عن عبد اغتصب أو
سرق ،
(11/237)
فباعه مغتصبه
أو سارقه ، فمات في يدي مشتريه ، وترك مالاً
ثم جاء سيده فاستحقه ، قال : يخير سيده ، فإن
شاء أخذ ماله الذي ترك ، ورجع المشتري على
البائع بالثمن ، وإن شاء رجع على هذا المغتصب
بالثمن أو بالقيمة ، فأخذه منه ويسلم ماله
للمشتري ، قال : وكذلك لو كانت أمة اغتصبت ،
أو رمكة فولدت أولاداً ثم ماتت الرمكة أو
الوليد ، إن سيدها إن شاء أخذ ولدها ، ولم يكن
له غير ذلك ، وإن شاء ترك ولدها وأخذ الثمن أو
القيمة . وهو قول مالك .
قال محمد بن رشد : قوله : إن لسيد العبد
المغصوب إذا مات عند المشتري ، وترك مالاً أن
أخذ ماله ، ويرجع المشتري بالثمن على البائع
الغاصب ، صحيح ، لا اختلاف فيه أحفظه ، لأن
العبد لم يخرج عن ملكه ، فله أن يأخذ ماله ،
سواء وجد العبد أو لم يجده ، وكذلك له أن يغرم
المشتري الذي استحق العبد من يده قيمة مال
العبد ، إن كان قد استهلكه ، وجد العبد أو لم
يجده ، وكذلك له أن يأخذ من يد الموهوب له ،
إن كان وهبه ، وسواء كان المشتري ابتاع العبد
بماله أو كسبه عنده بتجارة ، أو وهب إياه ،
إلا أن يكون سيده هو الذي وهبه إياه ، واكتسبه
عنده من عمل يده ، فلا يكون للمستحق فيه شيء ،
وإذا اختار المستحق أخذ مال العبد من يدي
المشتري ، وترك الرجوع على الغاضب البائع ،
رجع عليه المشتري بالثمن ، ولو تلف المال عند
المشتري ، ووجد العبد على حاله عنده ، لم يكن
له أن يتركه ، ويرجع على الغاصب ، وحكم
الأولاد في ذلك كله حكم المال لا ضمان على
المشتري في تلف شيء من ذلك عنده ، وله الرجوع
بالثمن إذا أخذ منه المال ، وقد تلف العبد ،
أو أخذ منه الأولاد ، وقد تلفت الأمهات ، ولو
تلف الأولاد عند المشتري ، ووجد الأمهات عنده
على حالها ، لم يكن له أن يتركهم ويرجع على
الغاصب . واختلف إن تلف الأولاد أو المال عند
الغاصب ، فقال ابن القاسم : لا ضمان عليه في
ذلك . وقال أشهب : عليه فيه الضمان . وبالله
لتوفيق .
(11/238)
ومن كتاب أوله
استأذن سيده في تدبير جاريته
وسئل ابن القاسم عن الرجل يشتري السلعة في سوق
المسلمين ، فيدعيها رجل قبلهن ويقيم البينة
أنها اغتصبت منه فيزعم مشتريها أنها هلكت ،
قال : إن كانت حيواناً فهو مصدق ، وإن كانت
مما يغيب عليه لم يقبل قوله ، وأحلف بالله
الذي لا إله إلا هو أنه هلك ، ويكون عليه
قيمتها ، إلا أن يأتي بالبينة على هلاك من
الله إياه ، مثل اللصوص والغرق والنار ونحو
ذلك فلا يكون عليه شيء ، قيل له : فإن قال :
بعتها بكذا وكذا ، ولم يكن على ذلك بينة ، إلا
قوله أيصدق على ذلك أم لا يصدق إلا بينة تقوم
؟ قال : قوله مقبول في ذلك ، لأنه قد يعرف
الشيء في يديه ، ثم يتغير عنده قبل أن يبيعه
بكسر أو عور أو شيء يصيبه .
قال محمد بن رشد : هذه مسألة جيدة صحيحة ،
وإنما قال : إنه يحلف إذا ادعى تلاف السلعة
التي اشترى ويغرم قيمتها ، مخافة أن يكون
غيبها ، ومثل هذا يجب في المرتهن والمستعير
والصانع يدعون تلف ما يغاب عليه . وقوله في
آخر المسألة : إنه إن أتى بالبينة على الهلاك
لم يكن عليه شيء ، معناه أن يشهد البينة على
معاينتها لهلاك ذلك ، وهو ظاهر ما في كتاب بيع
الخيار من المدونة ونص قول مالك في رواية ابن
القاسم عنه ، سئل عن الصناع تحترق منازلهم ،
فيدعون أمتعة الناس احترقت ، مثل الصباغ
والخياط والحائك والصواغ ، وما أشبه ذلك ، قال
لا يصدقون ، وذلك من أمر الحريق ، لأنهم
يتهمون أن يخبئوا أمتعة الناس ، ويحرقون
الحصير وما أشبه ، فلا أرى أن يقبل قلوهم ،
إلا أن يأتوا بشيء معروف ، ومقال مالك في كتاب
ابن المواز في الصانع يسرق بيته ، ويعلم ذلك ،
فيدعي أن المتاع ذهب مع ما ذهب ، أنه لا يصدق
، قال : وكذلك لو احترق بيته ، فرأى ثوب الرجل
(11/239)
يحترق ، فهو
ضامن وكذلك الرهن ، قاله مالك ، حتى يعلم أن
النار من غير سببه . أو سيل يأتي ، أو ينهدم
البيت . فهذا وشبهه يسقط الضمان . وبالله
التوفيق .
مسألة
قال ابن القاسم : قال مالك : لو أن رجلاً أقر
بغصب عبد رجل ، زعم أنه غصبه هو ، ورجلان
سماهما معه ، وصدقه صاحب العبد أنهم غصبوه
ثلاثتهم . قال : عليه غرم قيمته كله ، ولمينظر
إلى من غصبه معه ، إلا أن يكون يقرون كما أقرأ
. وتقوم عليهم بينة ، فأما إذا لم يقروا ولم
تقم عليهم بينة ، فهو ضامن لجميع العبد ، ولو
أقر جميعهم أو قامت عليهم بينة ، فوجد بعضهم
معدمين ، وبعضهم أمليا ، فإنه يأخذ جميع قيمته
من الملي ، ويطلب هو وأصحابه .
قال محمد بن رشد : هذه مسألة صحيحة بينة لا
إشكال فيها ولا موضع للقول ، لأن القوم إذا
اجتمعوا في الغصب أو السرقة أو الحرابة ، فكل
واحد منهم ضامن لجميع ما أخذوه كأن بعضهم قوي
ببعض فهم كالقوم ، يجتمعون على قول الرجل
فيقتل جميعهم به ، وإن ولي القتل أحدهم . وقد
قال عمر بن الخطاب لو تمالى عليه أهل صنعا
لقتلتهم به جميعاً . وبالله التوفيق .
ومن كتاب العرية
وسألته عن الرجل يغصب الرجل الشاة ، فيهديها
لقوم ، ثم
(11/240)
يقوم صاحبها
على الذين أهديت إليهم ، وقد أكلوها ، قال :
إن كان الغاصب بها مليا ، فهي عليه غرم ، وليس
على الذين أهديت إليهم شيء ، وإن كان معدماً
أخذ قيمتها من الذين أكلوها ، قيل له : فإن
كان ذبحها الغاصب ثم سيرها إليهم مذبوحة ، قال
في كلى الوجهين : إن كان الغاصب ملياً فقيمتها
عليه ، وليس على الذين أهديت إليهم شيء ، وإن
كان معدماً وقد سيرها مذبوحة ، كان على الذين
أكلوها قيمتها مذبوحة ، وكان ما بين قيمتها
مذبوحة وقيمتها حية على الغاصب ، ملياً كان أو
معدماً .
قال محمد بن رشد : قوله : إن كان الغاصب لها
ملياً فهي عليه غرم ، وليس على الذين أهديت
إليهم شيء ، وإن كان معدماً أخذ قيمتها من
الذين أكلوها ، هو مثل قوله في كتاب الاستحقاق
من المدونة في مسألة محاباة الوارث في الكراء
، ومثل قوله أيضاً في كتاب الغصب ، وفي كتاب
كراء الدور منها : وإذا أخذت قيمتها من الذين
أكلوها ، كان لهم على قياس قوله ، أن يرجعوا
بها على الغاصب ، وإن أخذت أولاً من الغاصب ،
لم يكن له أن يرجع بها على الذين أهديت إليهم
، لأنه لما أهداها فقد التزم ضمانها ، وإن
كانوا جميعاً عدماً رجع على من أيسر منهم
أولاً فإن أيسر الذين أهديت إليهم أولاً ،
فرجع عليهم ، كان لهم الرجوع على الواهب
الغاصب ، وإن أيسر الواهب أولاً فرجع عليه ،
لم يكن له أن يرجع على الذين أهديت إليهم .
وعلى قول غير ابن القاسم في مسألة كتاب
الاستحقاق من المدونة وهو أشهب ، بدليل قوله
في رسم محض القضاء من سماع أصبغ من كتاب
البضائع والوكالات ، وقول ابن القاسم في كتاب
الشركة من المدونة ، يرجع أولاً على الذين
أهديت إليهم إن كان لهم مال ، فإن لم يكن لهم
مال ، رجع على الغاصب ، فإن رجع على هذا القول
على الغاصب ، رجع الغاصب على الذين أهديت
إليهم وإن رجع على الذين أهديت إليهم ، لم
يرجع الذين أهديت إليهم على الغاصب
(11/241)
بشيء ، عكس
القول الأول ، فإن كانوا جميعاً عدماً ، رجع
على من أيسر أولاً منها . وقد قال ابن القاسم
في كتاب كراء الدور من المدونة : إنه إن كان
الواهب عديماً فرجع المتعدى عليه على الموهوب
له ، لم يكن للموهوب له أن يرجع على الواهب ،
وهو خلاف ما يوجبه القياس ، فيتحصل في المسألة
خمسة أقوال ، بقول أشهب وقد روى ابن عبدوس عنه
. أن الغاصب إذا وهب الثوب أو الطعام لمن
استهلكه ، كان للمستحق أن يتبع من شاء منهما .
قال ابن عبدوس : وسمعت سحنون يستحسن قول أشهب
، ويحتج بالبيع لو ابتاع الطعام فأ :له ، كان
له أن يضمن من شاء منهما : الغاصب أو المشتري
، فكذلك الموهوب له . وبالله التوفيق اللهم
لطفك .
ومن كتاب أوله يوصي بمكاتبه
بوضع نجم من نجومه
قال ابن القاسم : إذا اغتصبت أم ولد رجل ،
فماتت عند المغتصب ، كان عليه غرم قيمتها
لسيدها أمة ليس فيها عتق .
قال محمد بن رشد : قول ابن القاسم هذا صحيح ،
على قياس قوله وروايته عن مالك في أن على قاتل
أم ولد الرجل ، قيمتها أمة لسيدها ، خلاف قول
سحنون ، إنه لا قيمة عليه فيها ، إذ ليس
لسيدها فيها إلا الاستمتاع بوطئها ، ولا قيمة
لذلكن وكذلك إذا غصبها فماتت عنده ، لأنه لا
ضمان عليه فيها ، كالحرة يغتصبها فتموت عنده .
وقول ابن القاسم وروايته عن مالك أصح لأن أم
الولد أحكامها أحكام أمة حتى يموت سيدها فتعتق
بموته ، فلا تشبه الحرة ، ألا ترى أن الحرة آل
يضمنها بالنقل بخلاف الأمة ومن فيها بقية رق .
وقد روى عن مالك فيمن غصب حراً فباعه أنه يكلف
طلبه ، فإن أيس منه ، ودى ديته إلى أهله .
ونزلت بطليطة ، فكتب القاضي بها إلى محمد بن
بشير بقرطبة ،
(11/242)
فجمع القاضي
ابن بشير أهل العلم بها ، فأفتوه بذلك ، فكتب
إليه أن غرمه إليه ديته كاملة ، فقضي عليه
بذلك .
ومن معنى هذه المسألة ، اختلافهم فيمن غصب جلد
ميتة ، فقال في المدونة : إن عليه قيمته دبغ
أو لم يدبغ ، وقال في المبسوطة : لا شيء عليه
فيه وإن دبغ لأنه لا يجوز بيعه . وقيل : إنه
لا شيء فيه ، إلا أن يدبغ ، فتكون فيه القيمة
. وقيل : إن دبغ لم يكن عليه إلا قيمة ما فيه
من الصنعة . وهذا يأتي على ما له في السرقة من
المدونة والصواب أن يلزمه في ذلك كله قيمة
الانتفاع به . وبالله التوفيق .
مسألة
وسألته عن مسلم أو نصراني عدا على سفينته مسلم
، فحمل عليها خمراً أيأخذ لها كراء ؟ قال :
أما إذا كان تعدى عليها نصراني ، فله أن يأخذ
لها كراء ، ويتصدق به . قلت : فالمسلم قال :
له أن يأخذ كراء سفينته فيما أبطلها ، ولا
ينظر إلى كراء الخمر .
قال محمد بن رشد : قوله : إذا كان الذي تعدى
نصرانياً ، فله أن يأخذ لها كراء ، معناه :
كراء مثلها ، على أن يحمل فيها الخمر ، أن لو
أكراها نصراني من نصراني لذلك . وأما قوله :
يتصدق به ، فهو بعيد أن يجب ذلك عليه ، إلا أن
يعلم بتعديه ، فلا يمنعه من ذلك ، وهو قادر
على منعه ، وأما إن علم بذلك ولم يقدر على
منعه ، فلا يجب عليه أن يتصدق إلا بالزائد على
قيمة كرائها ، على أن يحمل عليها غير الخمر ،
بمنزلة أن لو أكراها منه على أن يحمل فيها غير
الخمر ، فحمل عليها خمراً فإنه إن كان علم
بذلك ، فلم يمنعه تصدق بجميع الكراء ، قاله
ابن حبيب ،و أما إن لم يعلم بذلك ، فلا يجب
عليه أن يتصدق إلا بما زادت قيمة كرائها ، على
أن يحمل عليها الخمر ، على الكراء الذي أكراها
به ، وأما إذا كان عدا عليها مسلماً ، فقوله
إنه يأخذ كراء سفينته فيما أبطلها ، ولا ينظر
إلى كراء الخمر : معناه : أن يكون له كراء
المثل في السفينة
(11/243)
على أن يحمل
عليها غير الخمر . ويقوم له أيضاً ما افتدى في
سفينته بتنجيسها بالخمر الذي حمل عليها من
الأدب على الوجهين جميعاً : العداء وحمل الخمر
وأما النصراني فلا يلزمه الأدب إلا على العداء
خاصة ولله الموفق .
ومن كتاب أوله أوصى أن ينفق على أمهات أولاده
وسئل ابن القاسم عن رجل خلط قمحاً لرجل بشعير
لآخر وذهب فلم يعرف قال : أرى أن يباع ويقسموا
ثمنه على ثمن ما يسوى ذلك اليوم ، ما يسوى
القمح والشعير ، ولا أحب أن يقتسموه على الكيل
.
قال محمد بن رشد : إذا ذهب الذي خلطها أو لم
يعرف ، فهو بمنزلة إذا اختلط من غير عدا ،
والذي يوجبه الحكم في ذلك ، أن يقتسماه بينهما
مخلوطاً على قيمة القمح والشعير يوم الخلط ،
ويقوم غير معيب ، بدليل ما في المدونة خلاف ما
ذهب إليه سحنون من أنه يقوم القمح معيباً
والشعير غير معيب . والذي يدل عليه ما في
المدونة أنظر ، إذ لو وجب أن يقوم القمح على
أنه مخلوط بالشعير ، لوجب أن يقوم الشعير
أيضاً على أنه مخلوط بالقمح ، وذلك ما لم يقله
سحنون . فقوله : أرى أن يباع فيقسموا ثمنه ،
على ما يسوى القمح والشعير استحسان ، إذ لا
مانع يمنع من اقتسامه بعينه على القيم ، ولو
لم يجز اقتسامه بعينه على القيم ، لما جاز
اقتسام ثمنه على ذلك ، لأنه إنما يباع على
ملكهما ، فإنما يأخذ ثمن ما كان له أخذه ،و
إنما قال آل أحب أن يقسموه على الكيل ، يريد
الطعام المخلوط ، لأنه لما كان الحكم يوجب أن
يقتسماه بينهما على القيم ، لم يجز أن يقتسما
. على الكيل ، لأنه يدخله التفاضل فيما لا
يجوز فيه التفاضل من القمح والشعير . وقوله :
لا أحب ، تجاوز في اللفظ ، وتساهل فيه ، وكان
لواجب أن يقول في ذلك لا يجوز ، وكذلك الثمن
(11/244)
لا يجوز لهما
أن يقسماه على الكيل ، لأنه إنما يباع على
ملكهما ، فلا فرق في ذلك بين الثمن والمثمون .
هذا وجه القول باختصار ، في هذه المسألة . وقد
أفردنا الكلام عليها في مسألة مشخصة استوعبنا
فيها جميع وجوهها لمن سأل ذلك من نبلاء الطلبة
. فهي تبين هذه لمن شاء أن يتأملها . والله
الموفق .
مسألة
قال ابن القاسم في جارية بين رجلين تعدى عليها
أحدهما ، فباعها ، ففاتت عند المبتاع بحمل أو
عتق ، إن شريكه إن شاء رجع على المبتاع بنصف
القيمة ، فإن فعل رجع المبتاع على البائع بنصف
الثمن ، ليس عليه غير ذلك ، وإن شاء ترك
المبتاع ورجع على البائع ، فكان مخيراً عليه
في نصف الثمن الذي باع به ، أو نصف القيمة ،
أي ذلك شاء ، ألزمه إياه ، وإن فاتت بيد
المبتاع ببيع ، لم يكن على المبتاع إلا نصف
الثمن الذي باعها به ، أو يرجع المتعدي فيكون
مخيراً في نصف الثمن الذي باع به ، أو نصف
القيمة يوم باعها . فإن ماتت لم يكن له على
المشتري بشيء ، ورجع على البائع ، فكان مخيراً
عليه في نصف الثمن أو نصف القيمة ، فإن فاتت
بنماء أو نقصان ، ولم تحمل ولم تعتق ، فهو
مخير ، إن شاء أخذ نصفها ، وإن شاء أسلمها
وأتبع المتعدي بنصف الثمن ، وليس له إلى
القيمة سبيل ، إذا وجدها بحالها أو أفضل حالاً
، فإن فاتت بنقصان فهو مخير ، إن شاء أخذ
نصفها من المشتري ، وليس له عليه قيمة ، وإن
شاء تركها واتبع المتعدي بنصف الثمن ، أو نصف
القيمة ، وذلك أنها حالت عن حالها .
قال محمد بن شد : هذه مسألة صحيحة بينة على
معنى ما في المدونة وغيرها ، أوجب للشريك
المستحق لنصف الجارية على المبتاع لما أفاتها
(11/245)
بحمل أو عتق
النصف الذي استحق ، إن شاء أن يأخذه ، بذلك ،
ويترك الشريك المتعدى عليه في بيعها ، لأن
القيمة قد لزمته في النصف بعتق جميعها ، أو
اتخاذها أم ولد ، بمنزلة الجارية بين الشريكين
، يعتهقا أحدهما أو يتخذها أم ولد ، وله مال ،
فإن فعلها رجع المبتاع على البائع بنصف الثمن
، وإن شاء أن يترك المشتري ويتبع البائع ،
فيجيز البيع ويأخذ منه الثمن ، أو يضمنه
القيمة لفواتها عند المشتري ، كان ذلك له ،
ولو تعدى رجل على رجل في جاريته ، فباعها
فأفاتها المبتاع بعتق أو حمل ، لكان له أن
ينقض العتق ، ويأخذ جاريته إن كان أعتقها ،
واختلف إن كان أولدها ، فقيل يأخذها وقيمة
ولدها ، وقيل إنه يأخذ قيمتها يوم الحكم ،
وقيمة ولدها ، وقيل : إنه يأخذ قيمتها يوم
أفاتها بالحمل ، ولا شيء عليه في الولد ،
والثلاثة الأقوال كلها مروية عن مالك ، وأما
إذا باعتها المبتاع ، فليس للمستحق عليه إلا
الثمن الذي باعها به ، إن كان استحق جميعها ،
أو نصف الثمن إن كان استحق نصفها ، كما قال ،
وقوله : إذا باعها المبتاع إن له أن يرجع على
البائع إن شاء ، فيكون مخيراً في نصف الثمن
الذي باع به ، أو نصف القيمة يوم باعها .
معناه : إن غاب بها المشتري الثاني ، وأما إن
وجدت بيده على حالها ، فليس له أن يضمن الشريك
المتعدي فيها ، ببيعها نصف قيمتها ، وإنما له
أن يأخذ جاريته أو يخير ، أي بيع شاء ، ويأخذ
الثمن ، فإن أجاز البيع الثاني وأخذ الثمن من
البائع الثاني رجع البائع الثاني على البائع
الأول بالثمن الذي دفع إليه ، وأما قوله : إن
فاتت عند المشتري بنقصان ، إن له أن يتركها
ويرجع على المعتدي بنصف الثمن أو نصف القيمة ،
لأنها قد حالت عن حالها ، ظاهره وإن كان
النقصان يسيراً ، وهو نص ما في كتاب الغصب من
المدونة .
وقد وقع فيه دليل على أنه ليس له أن يضمن
المتعدي القيمة ، إلا أن تفوت بالعيوب المفسدة
، والنص يقضي على الدليل ، وقد كان الشيوخ
يحملون ذلك على أنه اختلاف من القول ، وأما
المشتري فلا اختلاف في أنه لا
(11/246)
يضمن الموت ولا
النقصان بأمر من السماء ، وإنما يضمن بجنايته
عليه عمداً ، وقد اختلف في جنايته عليه خطأ
حسبما يأتي القول فيه الرسم الذي بعد هذا إن
شاء الله . وبالله التوفيق .
ومن كتاب أوله لم يدرك من صلاة الإمام إلا
الجلوس
وسألته عن الرجل يغتصب العبد فيقطع يده الغاصب
، أو يقطعه أجنبي ، أو يصيبه أمر من السماء ،
فتذهب يده ، هل يكون في جميع هذه الوجوه
الثلاثة ، صاحبه مخيراً إذا استحقه في قيمته
وفي أن يأخذه ما نقصه القطع ؟ قال : أما إذا
قطعه الغاصب عمداً . كان أو خطأ ثم استحقه
سيده ، فسيده مخير بين قيمته وبين أن يأخذه
وما نقصه القطع ، وأما إذا قطعه أجنبي ، فسيده
أيضاً مخير بين أن يأخذه ويأخذ عقل يده ، إن
كان أخذ الغاصب عقلاً وبين أن يأخذ قيمته
ويترك العبد .
قل فإن كان أصابه أجنبي فعفى الغاصب عن قطع
اليد ، قال : إن اختار أخذه أخذه وأخذ من
الأجنبي ما نقص القطع .
قلت : فإن فات الأجنبي ، قال : سيده مخير بين
أن يأخذه مقطوعاً ولا شيء له على الغاصب ،
لأنه لم يأخذ بيده عقلاً ، وين أن يأخذ قيمته
، وإذا أصاب يده أمر من السماء ، فذهبت يده ،
فلا شيء له إلا قيمته ، أو يأخذه مقطوعاً ولا
شيء له على الغاصب ، قلت : فإن كان الغاصب
باعه من رجل ، فقطع المشتري يده ، فاستحقه
سيده بيد المشتري قال : إن كان قطعه عمداً
فسيده مخير بين أن يأخذه ويأخذ منه ما ينقصه
القطع ويرجع هو على الغاصب
(11/247)
بالثمن ، وبين
أن يأخذ قيمته من الغاصب ، أو ثمنه الذي باعه
به ، وإذا قطعه خطأ لم يكن له إلا قيمته على
الغاصب ، أو يأخذه مقطوعاً ، ولا شيء له في
القطع على الغاصب ولا على المشتري .
قال الإمام القاضي : قوله إن الغاصب إذا قطعه
عمداً أو خطأ فسيده مخير بين أن يأخذ قيمته ،
يريد يوم الغصب ، وبين أن في أخذ وما نقصه
القطع ، يريد يوم الجناية ، هو قول ابن القاسم
في المدونة . والوجه في ذلك ، أنه بالخيار ،
بين أن يطالبه بحكم الغصب ، فلا يكون له عليه
إلا قيمته يوم الغصب ، وبين أن يسقط عنه حكم
الغصب ويطالبه بحكم الجناية ، فيكون له أن
يأخذ العبد وما نقصه القطع يوم الجناية ، وإذا
أسقط عنه حكم الغصب ، وطالبه بحكم الجناية ،
فيدخل في ذلك الاختلاف ، فيمن تعدى على ثوب
رجل فحرقه ، فإن كانت الجناية يسيرة ، كقطع
الأنملة ، وطرف الأذن أخذ عبده وما نقصه قولاً
واحداً وإن كانت الجناية كثيرة كقطع يد أو رجل
أو ما أشبه ذلك ، فقيل : ليس له أن يأخذه وما
نقصه ، وقيل : هو مخير ين أن يأخذه وما نقصه ،
وبين أن أخذه ويضمنه قيمته ، وقيل : هو مخير
بين أن يأخذه ولا شيء له ، وبين أن يضمنه
قيمته يوم الجناية ، وكذلك إذا قتله الغاصب
على قياس هذا القول ، له أن يسقط عنه حكم
الغصب ، ويضمنه قيمته يوم الجناية ، وهو نص
قول ابن القاسم في رواية ابن أبي جعفر
الدمياطي عنه ، إنه مخير في قيمة العبد يوم
اغتصبه ، أو في قيمته يوم قتله ، خلاف ما لابن
القاسم في المدونة ، من أن الغاصب إذا قتل
العبد ، فليس لسيده إلا قيمته يوم الغصب ،
فالقولان قائمان من المدونة على هذا التأويل
الذي ذكرناه ، وقد تأول ما في المدونة من قوله
: إن الغاصب
(11/248)
إذا قطع يد
الجارية المغصوبة ، فلربها أن يضمنه ما نقصه
القطع ، ويأخذها ، إن معنى ذلك ما نقصها القطع
يوم الغصب ، فعلى هذا التأويل لا يقوم
الاختلاف من المدونة ولا يكون للمغصوب منه على
مذهب ابن القاسم فيها أن يسقط عن الغاصب حكم
الغصب ، ويأخذه بالجناية مثلها ، أو قطع يدها
، وإلى هذا ذهب سحنون ، فقال : ليس له أن
يضمنه ما نقصها القطع ، وإنما له أن يأخذها
ناقصة ، أو يضمن الغاصب قيمتها يوم غصبها .
وقوله : إذا قطعه أجنبي فسيده أيضاً مخير بين
أن يأخذ عقل يده ، إن كان أخذ الغاصب عقلاً ،
وبين أن يأخذ قيمته ويترك العبد ، يريد :
قيمته يوم الغصب ، وهذا على القول بأنه مخير
بين أن يطالب الغاصب بحكم الغصب فيأخذ منه
قيمة عبده يوم غصبه وبين أن يبرئ الغاصب من
حكم الغصب ، ويأخذ عبده وعقل الجرح ، وعلى
القول الثاني الذي لا يرى له الخير في ذلك ،
ليس له إلا أن يضمن الغاصب قيمته يوم غصبه ،
أو يأخذ عبده ، ولا شيء له من عقل جرحه ،
وكذلك إذا عفا الغاصب عن قطع اليد على القول
بأنه ليس له إلا أن يتبع الغاصب بحكم الغصب ،
يأخذ منه قيمة عبده يوم الغصب ، أو يأخذ العبد
كما هو ، ولا سبيل له إلا أن يضمن الغاصب
قيمته يوم غصبه ، أو يأخذ عنده ولا شيء له من
عقل الجرح ، وكذلك إذا عفا الغاصب عن قطع اليد
على القول بأنه ليس له إلا أن يتبع الغاصب
بحكم الغصب ، يأخذ منه قيمة عبده يوم غصبه ،
أو يأخذ العبد كما هو ، ولا سبيل له على
الجاني للجناية ، وعلى القول بأن له أن يسقط
عن الغاصب حكم الغصب ،يأتي ما ذكره في الرواية
من أنه إن اختار أخذه ، وأخذ من الأجنبي ما
نقصه القطع ، فيكون إذا فعل ذلك قد أسقط عن
الغاصب حكم الغصب ، وإن لم يرد أن يسقط
(11/249)
عنه حكم الغصب
، أخذ منه قيمة عبده يوم غصبه إياه ، وكذلك إن
فات الأجنبي ولم يرد أن يسقط عن الغاصب حكم
الغصب ، يأخذ منه قيمته يوم الغصب ، وإن أراد
أن يسقط عنه حكم الغصب ، فقال في الرواية :
إنه يأخذ عبده مقطوعاً ولا شيء له على الغاصب
، لأنه لم يأخذ لسيده عقلاً ، وذلك معارض
لقوله فيما تقدم في رسم العرية ، في الذي
يغتصب الشاة فيهديها لقوم ، إن صاحبها يرجع
على الغاصب ، فيغرمه قيمتها ، وليس على الذين
أهديت إليهم شيء ، ولقوله أيضاً في كتاب
الاستحقاق من المدونة في مسألة المحاباة ، في
الكراء ، ومعارض لقول أشهب أيضاً في المدونة ،
وفي سماع أصبغ من كتاب البضائع والوكالات ،
والذي يأتي في هذه
المسألة إن فات الأجنبي الجاني ولم يوجد على
قياس قول ابن القاسم ، في هذه المسائل أن يرجع
رب العبد على الغاصب بما ترك للجاني من قيمة
الجناية على العبد ، ولا يتبع الغاصب بذلك
الجاني ، والذي يأتي فيها على قياس قول أشهب ،
ألا يرجع رب العبد على الغاصب بما ترك للجاني
من قيمة الجناية ويتبع بذلك الغاصب الجاني ،
وقوله إنه إذا أصاب يده أمر من السماء ، يريد
والعبد عند الغاصب ، فذهبت يده ، فلا شيء له
إلا قيمته ، يريد يوم غصبه ، أو يأخذه مقطوعاً
ولا شيء له على الغاصب ، صحيح ، لا اختلاف فيه
من قول ابن القاسم وتفرقته إذا باعه الغاصب
فجنى عليه المشتري بقطع يده ، بين أن تكون
جنايته عليه عمداً أو خطأ تفسير ما وقع له في
المدونة إذ لم يفرق فيها في ذلك بين العمد
والخطأ ، وأن له أن يأخذه منه وما نقصته
جنايته عليه وإن كانت خطأ ويرجع هذا
(11/250)
على البائع
بالثمن ، ووجه هذا القول أن البيع لما كان بيع
غرر فكأن ملك صاحبه لم ينتقل عنه ، فكان من
حقه أن يأخذ عبده وما نقصته الجناية ، عمداً
كانت أو خطأ . فهذا القول على قياس القول بأن
البيع على الرد حتى يجاز ، والقول الأول على
قياس القول بأن البيع على الإجازة حتى يرد
وبالله التوفيق . اللهم يا مولاي لطفك .
ومن كتاب أوله إن خرجت من هذه الدار
وسئل ابن القاسم عن رجل أكرى داره سنة فسكنها
المتكاري أو لم يسكنها فعدا عليه السلطان ،
فأخرجه من الدار ، فطلب المتكاري القصاص مما
سكن ، وقال رب الدار ، الكراء كله عليك ،
والمصيبة منك ، وكيف بمثل هذا إذا نزل في كراء
ظهر مضمون ، أو بعينه . قال ابن القاسم : قد
نزل هذا بين أظهرنا في المسودة الذين قدموا
فسكنوا عندنا فقضى فيها الحزمي أن تكون
المصيبة على أهل الدور ، ويقاصونهم بما سكنوا
قط . قال ابن القاسم : وبلغني أن مالكاً سئل
عنها فقال مثل قوله وهو رأي ، والظهر مثل ذلك
.
قال محمد بن رشد : هذا كما قال ، قالوا : لأن
السكنى والركوب فيما يأتي ، وإن كان المكتري
قد اشتراه فلم يقبضه بعد ، ولا يقدر على قبضه
جملة ، وإنما يقبضه شيئاً بعد شيء ، على ملك
صاحب الدار ، وصاحب الدابة ، فوجب إذا اغتصبه
غاصب أن يكون الضمان منه ، بمنزلة ما لو
انهدمت الدار أو ماتت الدابة . وقد قيل في
السلعة بعينها : إن ضمانها من البائع حتى
يقبضها المبتاع ، وإن كان قبضه لها ممكن ،
فكيف بالسكنى
(11/251)
والركوب الذي
لا يمكنه قبضه جملة ؟ وقد وقع في المجموعة
لابن القاسم وعبد الملك فيمن اكترى داراً أو
أرضاً فغصبها منه رجل ، فسكن وزرع إن الكراء
على المكتري ، إلا أن يكون سلطان ليس فوقه
سلطان ، يمنع منه إلا الله . وليس السلطان
كغيره ، وهو عندي تفسير لما تقدم ، ولأنه إذا
أخرجه من الدار ، من يقدر على الامتناع منه
برفعه إلى من يحول بينه وبينه فلم يفعل فكأنه
قد سلم له الدار ، وأما إذا غصبه فيها وأخرجه
عنها من لا يقدر على الامتناع منه ، فهو
كانهدامها الذي لا صنع له فيه ، ولا قدرة له
على الامتناع منه ، وكذلك الدابة سواء . وقد
حكى ابن حارث أنه رأى في بعض الكتب عن سحنون ،
أن المصيبة من المكتري ، وهو بعيد . فإن قيل
إن ذلك على القول بأن قبض أوائل الكراء ، قبض
لجميع الكراء ، عورض بجميعهم ، على أن انهدام
الدار من رب الدار . قال ابن حارث : وينبغي أن
ينظر في الغصب إن كان قصد به رقبة الدار أو
السكنى فإن كان لرقبة الدار ، فهو كالانهدام ،
وإن كان للسكنى فهو من المكتري والله أعلم .
وهي تفرقة لا وجه لها في هذا ، وإنما تفترق
فيما يضمن الغاصب على ما روى أصبغ عن ابن
القاسم في الذي يغتصب السكنى قط ، فتنهدم
الدار في سكناه ، مثل هؤلاء المسودة الذين
ينزلون على الناس ، أنه لا ضمان عليه للهدم ،
ولا يجب عليه إلا قيمة الكراء . وقال أصبغ ،
لأنهم لم يغصبوا رقاب الدور ، إلا أن تنهدم من
طول سكناهم ، وفي هذا بيان .
والحزمي قاضي مصر أيام الهادي الرشيد ، اسمه
عبد الله بن محمد ابن أبي بكر بن عمر بن حزم
الأنصاري يكنى أبا الطاهر الأعرج . والله
الموفق .
ومن كتاب الجواب
وسألته عن الرجل تقوم له البينة أن رجلاً غصبه
أرضاً له ،
(11/252)
فيأتي الذي
استحق عليه الغصب بالبينة ، أنه اشتراها منه ،
ولا تدري البينة متى كان الاشتراء ، بعدما
ادعاه من الغصب أو قبل ، أو يعلم ذلك ويثبت أن
الغصب كان قبل الاشتراء . قال ابن القاسم :
بينة الاشتراء أحق وأولى وأثبت ، علم أن الغصب
قبل أو لم يعلم ، لأنه إن كان الغصب قبل
الاشتراء ، فقد اشترى بعد الغصب وبطل الغصب
وما فيه ، وإن كان الاشتراء قبل الغصب ،
فشهادة الذين شهدوا على الغصب باطل ، ولا حاجة
له فيها ، فشهادة الاشتراء أحق وأثبت .
قال محمد بن رشد : زاد ابن حبيب في الواضحة في
هذه المسألة متصلاً بآخرها : إلا أن يكون
الشهود الذين شهدوا على الشراء ، إنما شهدوا
أنه اشتراها منه وهو مغصوب بحاله ، ولم يرد
إليه ، ولم يملكه ، فيكون شراء مفسوخاً
مردوداً بالغصب الذي كان قبله ، ويرد الثمن
الذي أخذ فيه عن مطرف ابن القاسم وأصبغ . وهذا
الذي زاد ابن حسيب في الواضحة ، في هذه
المسألة وحكاه عمن حكاه من أصحاب مالك ، صحيح
، ينبغي أن يحمل على التفسير للمسألة ، لأنه
إذا اشتراها منه قبل أن يردها إليه ، رداً
صحيحاً بين بها وينقطع خوفه عنه فيهان لكونه
على حاله من الظلم والتعدي والقدرة على
الامتناع من جريان الحق عليه ، فهو شراء فاسد
، لأنه مغلوب على بيعها منه ، وإن كان مقراً
له بها ، إذ لا يقدر على أخذها منه ، وأما إن
كان اشتراها بعد أن عزل وعاد ممن تأخذه
الأحكام ، فالشراء صحيح ، لأنه لا يشتريها منه
إلا وهو مقر له بها ، وإذا أقر له بها ، وأنه
غصبه إياها ، وهو ممن تأخذه الأحكام ، فلا فرق
في جواز شرائه إياها منه ، وهي بيده قبل أن
يردها إليه أ وبعد أن ردها إليه ، وقد أجاز
ابن القاسم في الصرف من المدونة شراءه الجارية
منه إذا كان مقراً يقبضها وإن كانت غايته قد
حملها إلى بلد آخر إذا وصفها من أجل أنه ضامن
لما أصابها واعترض ذلك سحنون من أجل مغيبها
(11/253)
فقال : قول
أشهب فيها أحسن ، وهو ألا يجوز بيعها إلا بعد
معرفتها بقيتها ، فإذا كانت حاضرة ارتفع
الاعتراض ، ولم يكن في جواز شرائه إياها من
صاحبها كلام ، إذا كان حينئذ ممن تأخذه
الأحكام ، وعلى هذا تحمل مسألة المدونة وكذلك
إذا باعها صاحبها من غير الغاصب ، وهي في يد
الغاصب ، إن كان ممن له السلطان ، ويقدر على
الامتناع فلا يجوز البيع بإجماع ، لأنه غرر ،
كالعبد الآبق والجمل الشارد ، إذ لا يدري
مشتريه متى يصل إليه ؟ وهو نص قول مالك في
رواية زياد عنه .
قال : من ابتاع عبداً أو قرية في يد إمام ظالم
، من صاحب الأصل ، لم يجز ذلك البيع ، وكان
مردوداً لأنه غرر ، قال مالك : فإن فات مضى
بالقيمة ، وأما إن كان ممن تأخذه الأحكام ،
ولا يقدر على الامتناع ، وهو غائب أو حاضر ،
منكر للغصب ، ففي ذلك في الحاضر المنكر قولان
: أحدهما وهو المشهور في المذهب ، أن ذلك لا
يجوز لأن شراء ما فيه خصومة غرر ، والثاني أن
ذلك جائز ، وهو قول ابن القاسم في الشهادات من
المدونة وفي الغائب ثلاثة أقوال : أحدها إن
ذلك لا يجوز ، والثاني إن ذلك جائز ، والثالث
الفرق بين أن يكون على الغصب بينة ، أو لا
يكون ، وقد قيل : إن الخلاف إنما هو إذا كان
على الغصب شهود ، وأما إذا لم يكن عليه شهود ،
فلا يجوز قولاً واحداً ، ومن هذا المعنى شراء
الدين على الحاضر المنكر ، إذا كانت عليه بينة
، أو على الغائب .
وقد مضى تحصيل القول فيه في نوازل أصبغ من
كتاب الجامع البيوع . وبالله التوفيق .
مسألة
وسألته عن البينة تشهد للرجل أن فلاناً غصبه
أرضاً له في قرية تسمى فلانة ، ولا يعرفون
موضع الأرض منها ، غير أنهم يشهدون أنه غصبه
فيها أرضاً ، والغاصب منكر لما شهد به عليه .
قال ابن القاسم : شهادتهم باطل ، ولا شهادة
لهم ، لأنهم لا يشهدون على
(11/254)
شيء معروف ولا
محدود ولا شيء بعينه ، والمشهود عليه منكر
لذلك ، فشهادتهم ساقطة ، لا يقطع عليه بشيء .
قال محمد بن رشد : وقعت هذه المسألة في
المجموعة لابن القاسم بعينها على نصها ، وزاد
فيها ، قال : ولو شهدوا على الأرض ولم يثبتوا
الحوز ، فذكر نص رواية يحيى عنه في كتاب
الاستحقاق حرفاً بحرف ، فبان بهذا أنه فرق بين
المسألتين ، وأن رواية عيسى هذه ليست مخالفة
لرواية يحيى المذكورة ، ولا لرواية أصبغ من
هذا الكتاب ، وأما رواية أصبغ ، فهي مخالفة
لرواية يحيى . وقد قيل : إنه لا فرق بين
المسألتين . وأن الخلاف داخل في مسألة رواية
عيسى هذه .
وقد مضى تحصيل هذه المسألة في رسم المكاتب من
سماع يحيى من كتاب الاستحقاق فلا معنى لإعادته
. وبالله التوفيق .
من نوازل سئل عنها عيسى بن دينار
قال عيسى : من غصب جارية فباعها في سوق
المسلمين ، فاتخذها المشتري ، ثم أتى ربها
فاستحقها ، فإنه مخير على الغاصب في وجهين ،
وعلى المشتري في وجهين ، إن شاء أخذ من الغاصب
قيمتها يوم غصبها ، وإن شاء فالثمن الذي باعها
به ، فإن أخذ الثمن أو القيمة مضت الجارية
للمشتري ، فإن أبى المستحق ، أخذ القيمة أو
الثمن من الغاصب ، فهو مخير على المشتري ، إن
شاء أخذ منه جاريته ، وإن شاء ترك الجارية
وأخذ منه قيمتها وقيمة الولد ، فإن أخذها
وقيمة ولدها ، أو أخذ قيمتها وقيمة ولدها رجع
المشتري على البائع بالثمن الذي دفع إليه فقط
، ولا يرجع عليه للولد بشيء ، وإن ماتت الأم
عند المشتري ، فأراد المستحق أن يأخذ منه
قيمتها ، وقيمة ولدها ، فليس ذلك له ، وإنما
له عليه قيمة
(11/255)
ولدها فقط ، إن
أراد ، وإن كره فلن الثمن ، أو القيمة على
الغاصب ، قال : وإن وجد ولدها قد ماتوا ، فلا
شيء له فيهم ، وإن قتلوا فدياتهم لأبيهم ،
وقيمتهم عليه للمستحق ، إلا أن تكون دياتهم
أقل من قيمهم ، فلا يكون عليه غيرها قال : وإن
كان المشتري إنما زوجها فولدت ، فالولد
للمستحق مع الأ/ة ، إن أراد أخذهم وأخذ الأمة
، وإن أبى ذلك فليس له على المشتري شيء ،
ويرجع على الغاصب ، فيأخذ منه الثمن أو القيمة
. قال : وإن كانت الأمة إنما ولدت عند الغاصب
، فسواء ولدت منه أو من زوج زوجها إياه الغاصب
، فالمستحق مخير ، إن شاء أخذ من الغاصب
قيمتها يوم غصبها ، وإن شاء أخذها وأخذ ولدها
، وكان على الغاصب ا لحد ، إذا كان الولد منه
، وإن مات ولدها عند الغاصب منه كانوا منه أو
من غيره ، ثم استحق مستحق الأمة ، فأراد أخذها
أو أخذ قيمة الولد ، فليس ذلك له ، قال أشهب :
عليه قيمة الولد يوم ولدوا . قال أصبغ : وبه
آخذ .
قال عيسى : وإنما له قيمتها يوم غصبها ، أو
يأخذها وحدها ، وكذلك لو ماتت هي وبقي ولدها ،
فأراد أخذ الولد ، لم يكن له غيرهم . وإن
أباهم فله قيمة الأم يوم غصبها ، قال : فإن
وجد الأمة عند الغاصب لم تلد ، وهي بحالها
وأحسن حالاً ، فليس له غيرها ، وإن أراد تركها
وأخذ قيمتها ، فليس ذلك له ، ,إن وجدها قد
نقصت ، فأراد أخذها وأخذ ما نقص ، فليس ذلك له
، وليس له إلا أن يأخذها بعينها ، أو يدعها
ويأخذ قيمتها يوم غصبها ، إلا أن يكون نقصانها
من شيء صنعه بها الغاصب ، من قطع يد أو رجل ،
أو فقي عين ، أو قطع أذن ، أو شيء جاء من قبل
الغاصب ، فيكون له حينئذ أن يأخذها ويأخذ ما
نقصها ، الذي صنع بها ، أو يدعها ويأخذ قيمتها
يوم غصبها ، وإن كان ذلك من فعل غير
(11/256)
الغاصب ، فليس
له إلا أن يأخذها ناقصة ، ويتبع الذي فعل ذلك
بها ، أو يدعها ويأخذ قيمتها يوم غصبها ،
ويتبع الغاصب الذي فعل ذلك بها ، قال : وإن
وجدها عند المشتري الذي اشتراها وهي بحالها
وأحسن حالاً ، فليس له إلا الثمن الذي باعها
به ، أو يأخذها بعينها من المشتري ، وإن وجدها
وقد باعها المشتري من آخر ، ثم باعها الآخر من
آخر أيضاً ، وهي بحالها وأحسن حالاً فهو
بالخيار في أخذ أي ثمن شاء من أثمانها التي
بيعت بها ، وتمضي الجارية لمشتريها ، ويأخذ
ذلك الثمن من الذي قبضه ويرجع الذي أخذ منه
الثمن الذي باعه به إياها وإن شاء المستحق أخذ
جاريته ، وليس له أن يضمن الغاصب قيمتها .
قال محمد بن رشد : قول عيسى بن دينار في هذه
المسائل كلها صحيح ، على المشهور من مذهب ابن
القاسم ، ونص قوله وروايته عن مالك في المدونة
وغيرها ، وفي بعضها اختلاف من قول ابن القاسم
وغيره ، من ذلك قوله في أول المسألة في الغاصب
إذا باع الجارية فاتخذها المشتري أم ولد : إن
صاحبها المستحق لها ، مخير على الغاصب في
وجهين : إن شاء أخذ منه قيمتها يوم غصبها ،
وإن شاء الثمن الذي باعها به ، ويجبر عليه
أيضاً في وجه ثالث ، وهو أن يأخذ منه قيمتها
يوم باعها ، على قياس قوله بعد هذا ، وقول ابن
القاسم أيضاً في المدونة في الغاصب يجني على
العبد الذي غصبه : إن سيده يخير بين أن يأخذه
قيمته منه يوم غصبه ، وبين أن يسقط عنه حكم
الغصب ، ويطالبه بحكم العداء عليه بالجناية ،
فيأخذه وما نقصته جنايته عليه ، لأن البيع
عداء آخر ، بعد الغصب ، فيكون له أن يسقط عنه
حكم الغصب ، ويطالبه بحكم العداء عليه بالبيع
فيكون من حقه أن يضمنه قيمته يوم البيع إن شاء
، لأنه قد فات عنه المشتري ، بمنزلة من عدا
على رجل فباعه ، ففات عند المشتري ، إنه مخير
بين أن يجيز البيع ويأخذ الثمن ، وبين أن
(11/257)
يضمنه قيمته
يوم باعه . وقوله : إنه مخير على المشتري في
وجهين ، إن شاء أخذ جاريته وقيمة ولدها ، يريد
يوم الحكم ، وإن شاء أخذ قيمتها وقيمة ولدها ،
يريد يوم الحكم أيضاً ، ويخير عليه أيضاً في
وجه ثالث ، وهو أن يأخذ منه قيمتها يوم وطئها
ولا شيء له من قيمة ولدها ، حسبما بيناه في
رسم القطعان ، من سماع عيسى من كتاب البضائع
والوكالات . وإلى هذا القول رجع مالك رحمه
الله ، وبه حكم عليه في أم ولده محمد .
وقد حكى ابن عبدوس عن ابن كنانة أن الذي كان
عليه مالك حتى مات ، إنه يأخذها وقيمة ولدها ،
ولا اختلاف فيما ذكره من أنه ليس له أن يضمن
المشتري قيمة من مات من الولد أم الأم إذ ليس
المشتري بغاصب ولا متعدي وإنما له أن يأخذ
الأم ، أو قيمتها ، إن كان الأولاد هم الذين
ماتوا ، أو قيمة الأولاد إن كانت الأم هي التي
ماتت ، وما ذكره من أن الولد إذا مات عند
الغاصب لا ضمان عليه فيهم ، وأنه ليس لمستحق
الأمة أن يأخذها وقيمة ولدها وإنما له أن
يأخذها وحدها ، أو يأخذ قيمتها يوم غصبها ،
معناه : إذا عرف موتهم ، وهو مذهب ابن القاسم
، لم يختلف قوله في أنه يلزمه رد الولد مع
الأم ، إن كانوا أحياء ، وكذلك إن كان أكلهم
أو استهلكهم ولا في أنه لا تلزمه القيمة فيهم
، إذا ماتوا وعرف موتهم ، وأما إذا ماتت
الأمهات وبقي الأولاد ، فليس له عنده أن يأخذ
الأولاد ولا قيمتهم إن أكلهم أو استهلكهم
ويضمنه قيمة الأمهات ، لأنه إذا ضمنه قيمة
الأمهات يوم الغصب ، كان الولد إنما حدث فيما
قد ضمن بالقيمة ، وإن أراد أن يسقط عنه حكم
الغصب ، فيأخذ الأولاد أو قيمتهم ، إن كان
أكلهم أو استهلكهم يوم أكلهم أو استهلكهم ،
كان ذلك له ، وكذلك الغلل المتولدة عن الشيء
المغصوب عنده ، يلزمه ردها إن كانت قائمة
بعينها ، ويضمنها إن أكلها أو استهلكها وإن
تلفت ببينة ، لم يكن للمغصوب منه أن يأخذ
الأصول ، ويضمنه قيمة الغلل التي تلفت ، وإنما
له أن يأخذ الأصول وحدها . وأما إن تلفت
الأصول ، فليس له أن يأخذ الغلة إن كانت قائمة
، ولا قيمتها إن كان أكلها أو استهلكها ،
(11/258)
ويضمنه قيمة
الأصول ، لأنه إذا ضمنه الأصول يوم الغصب ،
كانت الغلة إنما حدثت فيما قد ضمن بالقيمة ،
فوجب أن يكون له ، وإن أراد أن يسقط عن الغاصب
حكم الغصب ، فيأخذ الغلة إن كانت قائمة ، أو
قيمتها إن كان قد أكلها أو استهلكها ، كان ذلك
له .
وقد يل في الغلل المتولدة عن الشيء المغصوب :
إنها للغاصب لا يلزمه ردها إ ، كانت قائمة ،
ولا رد قيمتها إن كان أكلها ، لأنه كان ضامناً
للأصول لو تلفت ، فكانت له بالضمان على ظاهر
قول النبي عليه السلام " الخراج بالضمان "
بخلاف الأولاد لا اختلاف في أن للمغصوب منه أن
يأخذ الأولاد أو قيمتهم ، إن أ :لهم الغاصب أو
استهلكهم ، وأشهب يحكم الأولاد والغلل بحكم
الأصول ، فيضمنه القيمة في ذلك كله ، وإن قامت
البينة على تلف الولد يوم ولدوا ، والغلل يوم
صارت بيده ، فيتحصل في الأولاد قولان : أحدهما
: أنهم كالأمهات ، والثاني أنه لا يلزمه
ضمانهم ، إن ماتوا وعرف ذلك ، ويلزمه ردهم مع
الأمهات أو رد قيمتهم إن أكلهم أو استهلكهم .
وإن تلفت الأمهات ، كان له الأولاد إذا ضمن
قيمة الأمهات يوم الغصب ، ويتحصل في الغلل
المتولدة عن الشيء المغصوب ثلاثة أقوال : هذان
القولان اللذان في الأولاد ، والقول الثالث إن
الغلة تكون للغاصب بحكم الضمان وإن كان الأصل
قائماً لم يتلف . وأما الغلل التي ليست
بمتولدة عن الشيء المغصوب ، كالأكرية
والخراجات ، فيتحصل فيها ستة أقوال : أحدها إن
حكمها حكم الأصول المغصوب ، فيلزمه ضمانها وإن
تلفت ببينة؛ والثاني : إنها تكون له بالضمان ،
فلا يلزمه ردها جملة من غير تفصيل؛ والثالث
إنه يلزمه ردها جملة من غير تفصيل بين أن يكري
أو يبيع أو يعطل؛ والرابع إنه يلزمه ردها إن
أكرى ولا يلزمه إن انتفع أو عطل؛ والخامس إنه
يلزمه إنه أكرى أو انتفع ولا يلزمه إن عطل؛
والسادس الفرق بين الحيوان والأصول ، فتكون له
الغلة في الحيوان بالضمان ، ولا تكون في
الأصول لأنها مأمونة . وقوله : إنه إن وجد
الأمة عند الغاصب لم تلد ، وهي بحالها أو
(11/259)
أحسن حالاً ،
فليس له غيرها ، وإن أراد تركها وأخذ قيمتها
فليس ذلك له ، هو مذهب ابن القاسم . ظاهر قوله
إن كانت رائعة إذ لم يفرق في ذلك بين أن تكون
رائعة أو غير رائعة .
وكذلك قال فيمن اشترى جارية من غاصب فأجاز
ربها البيع ، وقال المشتري لا أقبلها لأنها
غصب ، إن البيع يلزمه ، ولم يفرق بين أن تكون
رائعة أو غير رائعة ، وعلى ما ذهب إليه ابن
حبيب لا يلزمه ، لأنه يقول : لا أرضى بجارية
غيب عليها غصباً ، وقد قيل في الجارية : إنه
يضمن قيمتها بالغيبة عليها . حكى ذلك ابن حبيب
في الواضحة عن مطرف وابن الماجشون ، وقال :
إنه قول مالك وجميع أصحابه ، ولم يفرق في ذلك
أيضاً بين أن تكون رائعة أو غير رائعة . قال
أصبغ : وذلك إذا كانت رائعة ، وقوله في
التفرقة بين الرائعة وغير الرائعة في ذلك جيد
. وأما العبيد والدواب فلا يلزم الغاصب قيمتهم
إلا أن يفوتوا عنده بنقصان في أبدانهم ،
فيلزمه قيمتهم يوم الغصب . هذا مذهب ابن
القاسم ، وفي ذلك اختلاف كثير ، قيل : إن
حوالة الأسواق بالنقصان فوت يلزمه به قيمتهم
يوم الغصب ، وقيل إن طول الزمان فوت وإن لم
تحل الأسواق أو حالت بزيادة يلزمه به قيمتهم
يوم الغصب ، وإلى هذا نحا ابن القاسم في
المدونة بقوله : ولولا ما قال مالك لجعلت على
الغاصب والسارق مثل ما أجعل على المستعير
والمتكاري من تضمينه قيمتها بحبسه إياها على
أرواقها أو أخذها وكراء ركوبه إياها ، وقيل
إنها إذا حالت بزيادة فلصاحبها أن يضمنه أرفع
القيم ، لأنه كان عليه أن يردها في كل وقت ،
فهو غاصب لها في الأوقات كلها ، فيكون من حق
صاحبها أن يضمنه قيمتها أي وقت شاء من الأوقات
التي مرت عليه وهي عنده . حكى هذا القول ابن
عبدوس عن انب وهب وأشهب وذهب بعض المتأخرين
إلى الفرق بين أن تكون إلى التجارة أو القنية
، فإن كانت للتجارة كان عليه أرفع القيم كأنه
حرمه بيعها في ذلك الوقت ، وإن كانت للقنية لم
يكن له شيء .
وهذا نحو ما حكى ابن حبيب عن مطرف وابن
الماجشون وابن عبد الحكم وأصبغ فيمن غصب داراً
فأغلقها أو أرضاً فبورها أو دابة فوقفها أن
عليه كراء ما حصل
(11/260)
عليه من ذلك
كله ، لأنه حال بينه وبين كرائها ومنعه من ذلك
. وقد حكى ابن حبيب عن مطرف وابن الماجشون
وأصبغ في الغاصب إذا سافر على الدواب التي
اغتصبها السفر البعيد ثم ردها ، فصاحبها مخير
في القيمة يوم غصبها وإن كانت اليوم أحسن
حالاً ، لأنه قد رمى بها القدر وعرضها الفوت ،
وفي أخذ دابته بعينها مع كراء كروبه إياها .
ومثل هذا حكى أبو زيد عن ابن الماجشون ، وزاد
قال : وإنما هو بمنزلة المكتري إن تعدى على ما
اكترى ، فانظر حيث يلزم المكتري القيمة فألزم
ذلك الغاصب ، أمرهما واحد . ولو كان الغاصب
أمسكها في داره أياماً كثيرة قدر ما لو سافر
بها لزمته قيمتها ، لم يلزمه في حبسه إياها
قيمته إذا جاء بها صحيحة من غير سفر وإن كان
قد حبسها عن أساقها . وتفرقة ابن الماجشون هذه
إذا حبس الغاصب الدابة عن أسواقها وأتى بها
على حالها بين أن يسافر عليها في المدة التي
حبسها فيها أو لا يسافر ، قول خامس في المسألة
. وسائر ما ذكره عيسى في الرواية بين لا وجه
للقول فيه ، وبالله التوفيق .
مسألة
قال : وسئل عن غاصب الأرض يحفر فيها حفرة تضر
بالأرض أيؤمر بردمها إذا استحقها صاحبها ، قال
نعم عليها ردمها .
قال محمد بن رشد : هذا بين على ما قاله ، لأن
الأرض يمكن إصلاحها بردم ما احتفر فيها ، فوجب
ألا تفوت بذلك وأن يكلف الغاصب إصلاح ما أفسد
منها . وهاذ أبين من الثوب الذي يتعدى عليه
الرجل فيحرقه حرقاً يسيراً أنه يكلف إصلاحه
وغرم ما نقصه بعد الإصلاح ، ولو كانت الأرض
إذا ردمها الغاصب لا تعود إلى حالها وينقص ذلك
من قيمتها يتخرج ذلك على قولين : أحدهما إنه
ليس له إلا أن يأخذها على حالها أو يضمنه
قيمتها يوم غصبها ، والثاني : إن له أن يسقط
عن حكم الغصب ، ويطالبه بحكم العداء ، فيكون
من حقه أن يكلف ردمها وغرم ما نقصها ذلك بعد
الردم ،
(11/261)
بمنزلة الثوب
يتعدى عليه الرجل يحرقه ، ولو كانت الحفرة مما
ينتفع بها لاختزان الطعام لكانت للمستحق ولم
يكن عليه فيها شيء للغاصب ، إذ لا ثمن لذلك
منقوضاً ، وإن استغنى عنها كان من حقه أن يأمر
الغاصب بردمها . وبالله التوفيق .
مسألة
قال عيسى في ظالم أسكن معلماً في دار رجل
ليعلم له فيها ولده ثم مات الظالم ومات المعلم
، إ ، صاحب الدار مخير في كراء داره ، إن شاء
أخذه من مال الظالم ، وإن شاء أخذه من مال
المعلم .
قال محمد بن رشد : المعنى في هذه المسألة أسكن
المعلم في الدار على وجه الإسكان ثواباً على
تعليم ولده فيها ، فصار قد اشترى سكنى الدار
منه بتعليم ولده فيها ، فوجب لرب الدار أن
يأخذ كراء داره ممن شاء منهما ، بمنزلة من أخذ
طعام رجل فباعه من رجل وأكله المشتري ، أن لرب
الطعام أن يضمن طعامه لمن شاء منهما ، فإن ضمن
البائع صح الشراء للمشتري ، وإن ضمن المشتري
كان له أن يرجع بالثمن على البائع ، وكذلك
صاحب الدار في هذه المسألة ، إن أخذ الظالم
بكراء داره لم يكن له رجوع على المعلم ، وإن
أخذ المعلم به كان له أن يرجع على الظالم
بقيمة تعليم ولده أو بما يقع من التعليم
للكراء إن كان أكراه على تعليم ولده بالسكنى
في الدار وبزيادة زاده على ذلك . وسواء علم
المعلم بتعديه على الدار أو لم يعلم ، لأنه
منتفع ، وهذا إذا لم يغصب الظالم رقبة الدار ،
وإنما غصب سكناها فقط . وأما إذا غصب الرقبة
فليس لربها من كرائها شيء على واحد منهما ،
على القول بأن الغلة للغاصب جملة من غير تفصيل
.
وقد مضى تحصيل الاختلاف في هذا قبل هذا في هذه
النوازل . وبالله التوفيق .
(11/262)
من سماع يحيى
بن يحيى من ابن القاسم من كتاب الكبش
قال يحيى : وسألت ابن القاسم ، عن الرجل
المعروف بالظلم للناس والتعدي عليهم في
أموالهم ، من ذوي السلطان والولاة ، يدعي
الرجل أنه ظلمه في أرضه غلبه عليها ، أو غير
ذلك من الأموال ، ولا يجد على دعواه عدولاً من
البينات ، وهو يجد شهوداً لا يعرفون بعدالة ،
ولا يوصفون بسخطة حال ، أيقبل مثل هؤلاء على
من عرف بالظلم والتعدي ، أو لا يقبل عليه ،
إلا مثل من يقبل على غيره من عدول الشهداء ؟
فقال : لا تجوز شهادة غير العدول على أحد من
الناس ، كان المشهود عليه ظالماً أو غير ظالم
. قال الله تعالى : {واشهدوا ذوي عدل منكم}
فلا ينبغي لغير العدول أن تجوز شهادتهم على
أحد من الناس .
قال محمد بن رشد : هذا كما قال ، وهو مما لا
اختلاف فيه أعلمه في المذهب ، إن شهادة
المجهول الحال لا تجوز شهادته حتى بعدل لقول
الله عز وجل {ممن ترضون من الشهداء} ولا يرضى
إلا من عرفت عدالته ، غير أن ابن حبيب أجاز
شهادة المجهول الحال ، على التوهم فيما يقع
بين المسافرين في السفر للضرورة إلى ذلك ،
قياساً على إجازة شهادة الصبيان فيما بينهم في
الجراح ، ومراعاة للاختلاف ، إذ من أهل العلم
من يحمل الشاهد على العدالة حتى تعرف جرحتهن
على ظاهر قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه : "
المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلدواً في
حر ومجربا عليه شهادة زور " وهو قول الحسن ،
ومذهب الليث ابن سعيد . وقد اتفقوا
(11/263)
في الحدود
والقصاص ، على أن الشهادة لا تجوز في ذلك إلا
بعد المعرفة بعدالة الشاهد ، وهذا يقضي على ما
اختلفوا فيه إن شاء الله . ومن أصحابنا
المتأخرين من أجاز شهادة الشاهد المجهول الحال
، في الشيء اليسير من المال ، وهو استحسان على
غير قياس ، لقول الله عز وجل : " ممن ترضون من
الشهداء " وما روي عن عمر رضي الله عنه من
قوله : " والذي نفسي بيده ، لا يوسر رجل في
الإسلام بغير العدول " . وبالله التوفيق .
مسألة
قلت : إن قوماً عرفوا بالغصب لأموال الناس ،
من ذوي الاستطالته بالسلطان ثم جاء إليه بوال
أنصف منهم ، واعدى بالحقوق عليهم ، فربما سئل
طالب الحق قبل أحدهما البينة أنه اغتصبه الذي
يدعي قبله ، فلا يجدها على حضور الغصب
ومعاينته ، وهم يشهدون أنهم كانوا يعرفون الحق
للمدعي وفي يديه ، إلى أن صار إلى المطلوب ذلك
قبله الظالم المعروف بالغصب ، لا يدرون كيف
صار ذلك إليه ؟ إلا أن صاحب ذلك الحق كان يشكو
أنه غصبه إياه ، وكانوا يسمعون ذلك من جيرانهم
، أو عسى أن لا يذكروا شيئاً غير أنهم عرفوا
ذلك في أبدي المدعي إلى أن صار إلى المطلوب به
اليوم لا يدرون كيف صار ذلك إليه ، أترى أن
يعدى عليه بمثل هذه الشهادة ؟ فقال : إذا كان
المطلوب معروفاً بما وصفت من التعدي على أمال
الناس والقهرة لهم عليها ، وهو ممن يقدر على
ذلك ، رأيت الذي وصفت من شهادة الشهداء ، إذا
كانوا عدولاً ، يوجب للمدعي أخذ حقه من
المطلوب إلا أن يأتي الظالم ببينة على اشتراء
صحيح أو عطية ممن كان يا من ظلمه وتعديه عليه
، أو يأتي بوجه حق ينظر له فيه .
(11/264)
قلت : أرأيت إن
جاء بالبينة أنه اشترى منه ، فزعم المدعي أن
ذلك البيع إنما باعه منه من شدته وسطوته ، وهو
ممن يقدر على ضرره وعقوبته ، لو امتنع من
مبايعته ؟ قال : أرى أن يفسخ ذلك البيع إذا
ثبت عند القاضي أن المشتري موصوف بمثل ما زعم
البائع من استطالته وظلمه ، وأنه قد عمل ذلك
بغيره .
قلت : فإن زعم البائع أنه إنما دفع إليه الثمن
في العلانية ، ثم دس إليه من يأخذه منه سراً ،
ولو لم يفعل لقي منه شراً قال : لا أرى أن
يقبل قوله ، وعليه دفع الثمن بعد أن يحلف
الظالم بالله لقد دفع إليه الثمن ثم لم يرتجعه
ولم يأخذه بعد دفعه إياه إليه .
قال محمد بن رشد : أما ما ذكره من أن الظالم
المعروف الغصب لأموال الناس والقهرة لهم عليها
، لا ينتفع بحيازته مال الرجل في وجهه ، ولا
يصدق من أجلها على ما يدعيه من شراء أو هبة أو
صدقة ، وإن طال في يديه أعواماً إذا اقر بأصل
الملك لمدعيه أو قامت له بذلك بينة ، فهو صحيح
لا أعلم فيه اختلافاً لأن الحيازة لا توجب
الملك وإنما هي دليل عليه توجب تصديق غير
الغاصب فيما ادعاه من تصييره إليه ، لأن
الظاهر أنه لا يحوز أحد مال أحد وهو حاضر لا
يدعيه ولا يطلبه إلا وقد صار إلى الذي هو بيده
إذا حازه في وجهه العشرة الأعوام ونحوها ،
لقول النبي عليه السلام " من حاز شيئاً عشر
سنين فهو له " معناه عند أهل العلم بدعواه مع
يمينه ، وأما الغاصب فلا دليل له في كون المال
بيده وإن طالت حيازته له في وجه صاحبه ، لما
يعلم من غصبه لأموال الناس والقهرة لها عليها
. وأما إن أثبت الغاصب الشراء ودفع الثمن ،
فادعى البائع أن أخذه منه في السر بعد أن دفعه
إليه ، فهو مدع لا دليل له على دعواه ، فوجب
أن يكون القول قول الغاصب المدعى عليه ، كما
قال في
(11/265)
الرواية ، لقول
النبي عليه السلام " البينة على من ادعى
واليمين على من أنكر " وقد روي عن يحيى بن
يحيى أنه قال : إذا ادعى البائع أنه أعطاه
الثمن في الظاهر ، ودس عليه من أخذه منه ،
فإنه ينظر إلى المشتري فإن عرف بالعداء والظلم
والتسلط ، فإني أرى القول قول البائع مع يمينه
، لقد دفع إليه المال قهرة وغلبة ، ويردها
عليه بغير أن يرد إليه الثمن . وقاله ابن
القاسم ، ومع ذلك في بعض الروايات ، وهو إغراق
إذا أقر أنه قد دفع إليه الثمن ، ثم ادعى أنه
أخذه منه .
وأما لو لم يقر أنه قبض الثمن ، وقال : إنما
شهدت له على نفسي بقبضه ، تقية على نفسي ،
وخوفاً منه ، أشبه أن يصدق في ذلك مع يمينه ،
في المعروف بالغصب والظلم ، وإنما يكون ما قال
يحيى من تصديق البائع فيما ادعاه من أنه دس
إليه في السر من أخذ الثمن منه ، إذا شهد له
أنه قد فعل ذلك بغيره . وبالله التوفيق اللهم
لطفك .
ومن كتاب الصبرة
وسئل ابن القاسم عن الرجل يغتصب العبد ،
فيستحقه عنده المغتصب منه ، وقد جنى جناية عند
المغتصب ، فقال : صاحب العبد بالخيار ، إن شاء
أسلم العبد إلى المجروح ، وأخذ قيمة عبده من
الغاصب يوم غصبه إياه ، وإن شاء افتدى عبده
بعقل ما جنى وينظر إلى ما يرى أن الغاصب كان
يغرمه لصاحب العبد من قيمة العبد لو اختار ذلك
، وما يلزمه من عقل جناية العبد ، إن أراد
افتداءه ، فيغرم لرب أقل ذينك الغرمين ، وذلك
أن الغاصب لا بد له من غرم أحدهما مع إسلام
العبد لربه ، أو للمجروح إن أراد سيد العبد
أخذ قيمته ، فلما ألزم الغاصب غرم قيمة العبد
لسيده ، وافتداء
(11/266)
العبد من
المجروح أو إسلامه إليه ، رأينا سيد العبد
أولى برقبته ، وأغرمنا الغاصب لعداه وظلمه
لسيد العبد ، ما لم يكن له بد من غرمه لغيره ،
وأخذنا في ذلك بالأقل ، لأنه وإن ظلم ، فقد
كان إن اختار سيد العبد قيمة عبده ، أن يخرج
عقل الجناية ، فيفتدي بها العبد أو يسلمه أو
يبرأ .
قلت له : فإن قال الغاصب : أنا أفتك العبد حتى
يصير غير معيب ولا مأخوذ بعقل جناية . ولا
متبع بها ، ثم يأخذه سيده سليماً كما اغتصبه
إياه بها ذلك له . وهذا يشد القول الأول . أو
لا نرى أن الغاصب الآن حين طلب العبد لسيده قد
خرجت الرقبة من يده إلى سيد العبد وغرم عقل
الجناية للمجروح فما حجة من زعم أن ليس للسيد
إلا أن يأخذ بجنايته ؟ فيكون قد خرجت الرقبة
من يديه إلى المجروح وغرم القيمة للسيد ،
فالسيد أحق برقبة عبده ، وبأقل الغرمين اللذين
لا يجد الغاصب بداً من غرمهما على حال من
الحال ، غير أن السيد إن اختار القيمة وترك
الرقبة لم يكن له إلا ذلك فقط ، قال : وإن
كانت جنايته عمداً .
قال محمد بن رشد : قول ابن القاسم في هذه
الرواية : إن سيد العبد إن ترك أن يضمن الغاصب
قيمة العبد يوم غصبه إياه ، وافتدى عبده بعقل
ما جنى يرجع على الغاصب بالأقل من قيمة العبد
أو مما افتكه به ، استحسان على غير حقيقة
القياس ، وقد ذكر وجهه بما لا مزيد عليه .
والقياس قوله في كتاب الرهون من المدونة : إن
سيد العبد بالخيار ، إن شاء سلم العبد للغاصب
وأخذ منه قيمته يوم اغتصبه ، وإن شاء أن يفتكه
بدية الجناية ، ولا يتبع الغاصب بشيء مما وداه
، وذلك أن جناية العبد المغصوب نقصان من
(11/267)
قيمته ، فلا
فرق في القياس بين أن يجني جناية تكون نصف
قيمته ، أو تنقص من قيمته نصفها بعيب حدث فيه
، فكما ليس لسيده أن يأخذه ويضمن الغاصب قيمة
العيب الذي حدث به عنده ، فكذلك ليس له أن
يأخذه ويرجع عليه بما افتكه به . قال في
الرواية : وإن كانت جناية عبد أو سكت عن
الجواب في ذلك . وحكم العمد في ذلك حكم الخطأ
، سواء إن كانت الجناية عمداً لا قصاص فيها ،
بأن تكون على حر أو عبد في الجراح التي هي
متالف ، كالجائفة والمنقلة والمأمومة ، لأن
سيده مخير بين أن يفتكه بجناية أو يسلمه بها ،
وكذلك إن كانت جنايته على عبد فيها القصاص ،
فلم يرد سيد العبد المجني عليه أن يقتص وأراد
أن يأخذه بجنايته على عبده ، لأن الخيار يرجع
في ذلك إلى سيد العبد المجني عليه من العبد
المغصوب فيما دون النفس من فقء عينه أو قطع
يده وما أشبه ذلك ، فليس لسيد العبد عليه من
المغصوب منه إلا أن يأخذ عبده كما هو ، أو
يضمن الغاصب قيمته يوم غصبه . وبالله التوفيق
.
ومن كتاب أول عبد ابتاعه فهو حر
قال : وسألته عن الرجل يعدو على أرض الرجل
فيزرعها ، ثم ينصف صاحب الأرض فيعدي على حقه ،
في أوان لو شاء أن يعمل فيه أرضه أمكنه ذلك ،
ولم يمنع منها ، فيترك الزرع ، حتى إذا أمكن
تنازع فيه الذي زرعه ، والمقضي له بالأرض
المتعدي عليه ، فأراد أن يأخذه ، ويغرم
للمتعدي بذره أو قيمة بذره ، فقال : صاحب
البذر أحق بزرعه ، لأن صاحب الأرض إذا أمكن من
أرضه في أوان عمل فترك الزرع فيه ، فهو الذي
يذره وعليه كراء الأرض لربها . قال : وإن دعا
رب الأرض الغاصب إلى أن يقلع إنباته ليزرعها
رب الأرض ، فترك الغاصب نزع نباته يابساً من
منفعته ، فبريء من ذلك
(11/268)
إلى رب الأرض ،
وقال لا حاجة لي به فاصنع به ما شئت ، فقال رب
المال : أما إذ لا حاجة لك فيه فأنا أقره في
أرضي ليكون لي منفعته ، فلما بلغ تنازعا فيه .
قال : أراه لصاحب الأرض ، لترك الغاصب إياه
يابساً من الانتفاع به لو نزعه ، لأن رب الأرض
إنما ترك عمل أرضه بما ترك له الغاصب من
بنيانه .
قال الإمام القاضي : وهذا كما قال : إنه إذا
أعدى على حقه ، وهو أن يقلع زرع الغاصب ويزرع
أرضه فلم يفعل ، حتى أمكن الزرع ، فليس له إلا
كراء أرضه لأنه لما ترك زرع الغاصب في أرضه ،
فقد رضي بأخذ الكراء منه فيها ، ولا كلام في
أنه إذا دعا رب الأرض الغاصب إلى أن يقلع زرعه
فأبى من قلعه ، إذ لا منفعة له فيه ، وبرئ منه
إلى رب الأرض ، فقال له اصنع له ما شئت إذ لا
حاجة لي به ، أن لرب الأرض أن يقره في أرضه
ويكون له ، بل ليس للغاصب أن يقلعه إذا لم يكن
له فيه منفعة إن قلعه ، ومن حق صاحب الأرض أن
يجبر على قلعه ، وإن لم تكن له فيه منفعة ، إذ
لا يلزمه قول معروفة . واختلف إن كانت له في
منفعة إن قلعه ، هل يكون لرب الأرض أن يأخذه
بقيمته مقلوعاً فيقر في أرضه ، ويحوز ذلك ، أم
لا ؟ على قولين . وقد قيل : إن الزرع لصاحب
الأرض ، وليس للغاصب أن يقلعه ، وإن كانت له
فيه منفعة إن قلعه ، لأنه هو أهلك ماله . وقد
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " ليس
لعرق ظالم حق " حكى ذلك ابن عبد الحكم في
مختصره عن مالك قال : والأول أحب إلينا .
وقد مضى القول على هذه المسألة في نوازل أصبغ
من كتاب كراء الأرضين وفي رسم أول عبد ابتاعه
فهو حر ، من سماع يحيى من كتاب الاستحقاق
مستوفى . وبالله التوفيق .
(11/269)
من سماع سحنون
وسؤاله ابن القاسم وأشهب
قال سحنون : وسألت أشهب عن الرجل يغتصب من
الرجل صبرة من قمح ، فيريد الغاصب أن يصالح
المغصوب على كيل من القمح ، فقال أشهب : إن
كان قد لزم الغاصب القيمة بحكم أو بصلح اصطلحا
عليه ، ثم أراد أن يأخذ منه بالقيمة التي وجبت
له كيلاً من القمح ، فلا بأس به ، قلت لأشهب :
ولم قلت : إن كان ألزم القيمة وهو حين غصبها
كانت له القيمة لازمة لأنها مجهولة ، وليست
بكيل معلوم ؟ ألا ترى لو أن المغصوب منه أتى
بشاهدين يشهدان فيها عشرين إردباً لا شك فيها
، فقال المغصوب منه : أعطني عشرين إردباً
أعطيته ، فمن ثم لا يجوز له أن يصالحه على كيل
إلا بعد ما يلزمه القيمة ، إلا أن يصالحه من
الكيل ، على ما لا شك فيه ، قال أشهب : وكذلك
إذا غصب خلخالي فضة أو غير ذلك ، من هذا الوجه
، وهو يحكم عليه في الخلخالين بقيمتهما من
الذهب .
قال محمد بن رشد : هذه مسألة صحيحة بينة ، أما
إذا صالحه على قيمة اتفقا عليها فيها ، أو حكم
عليه بها ، فجائز أن يصالحه على ما شاء من
الطعام ، من صنف طعام الصبرة التي اغتصبها ،
أو من غير صنفها . وعلى ما شاء من العروض
والحيوان ، أو على دنانير إن كانت القيمة التي
وجبت عليه دراهم ، أو دراهم إن كانت القيمة
دنانير ، يعجل ذلك كله ، ولا يؤخر شيئاً منه ،
لأنه يكون آخره فسخ الدين بالدين ، أو ذهباً
بورق إلى أجل ، وما لم يصطلحا على القيمة ،
فيجوز أن يصالحه في القيمة التي تجب له عليه
في الصبرة بما شاء من العروض والطعام المخالف
للصبرة ، إذا تعجل ذلك ، ويجوز له أن يصالحه
على قمح من صفة قمح الصبرة ، لا أرفع منه ،
(11/270)
إذا لم يشك أنه
أقل مما كان في الصبرة من الكيل . واختلف هل
يجوز أن يصالحه على أدنى من طعام الصبرة ، مثل
أن يصالحه على شعير ، و على محمولة ، والصبرة
سمراء ، فأجاز ذلك أشهب ، واختلف فيه قول ابن
القاسم ، فله في كتاب الصرف من المدونة : إنه
لا يجوز أن يأخذ محمولة من سمراء أو أقل من
مكيلته ، ولا شعيراً من قمح ، لأنه من بيع
الطعام بالطعام متفاضلاً ، إذ قد يكون الشعير
أنفق من القمح ، والمحمولة أنفق من السمراء ،
لا اختلاف الأغراض في ذلك ، وروى يحيى عن ابن
القاسم ، في رسم الصبرة من سماه من كتاب
الدعوى والصلح ، أن ذلك جائز ، مثل أشهب ،
خلاف قوله في المدونة : ولو صالحه على سمراء
أدنى من سمراء الصبرة المستهلكة أو على محمولة
أدنى من محمولة الصبرة المستهلكة ، لا يشك أنه
أقل من كيل الصبرة ، لجاز ذلك عندهما جميعاً ،
إذ لا يمكن أن يكون رديء المحمولة أنفق من
طيبها ولا رديء السمراء ، أنفق من طيبها .
وبالله تعالى التوفيق .
مسألة
وقال ابن القاسم : قال مالك في البر والقمح
والرقيق يسرق ، فيجدها ربها في غير بلده : قال
: أما البر فالمسروق منه بالخيار ، إن أحب أخذ
بره ، وإن أحب أخذ قيمته في الموضع الذي سرق
منه ، وأما الرقيق ، فإنما له أن يأخذ هم ليس
له أكثر من ذلك ، فأما الطعام فإنما يكون له
في الموضع الذي سرق منه .
قال محمد بن رشد : تفرقته بين البر والرفيق ،
معناه في الرقيق الذين لا يحتاج إلى الكراء
عليهم ، فحكمهم على قول مالك هذا في نقل
الغاصب لهم من بلد إلى بلد ، حكم السلع ، يكون
ذلك فوتاً يوجب للمغصوب منه أن يضمن الغاصب
القيمة في ذلك كله يوم غصبه في البلد الذي
غصبه فيه ، وإن شاء أخذ متاعه بعينه ورقيقه
بأعيانهم حيث وجدهم ، وأما الرقيق الذي لا
يحتاج إلى الكراء عليهم ، والدواب التي إنما
تركب أو تكرى فهي
(11/271)
عنده بخلاف
السلع ، لا تفوت في الغصب بحملها من بلد إلى
بلد ، فليس للمغصوب منه إلا أخذها حيث وجدها .
وسحنون لا يفرق في ذلك بين الدواب والرقيق
والسلع ويرى نقل ذلك من بلد إلى بلد ، كاختلاف
الأسواق ، فلا يوجب للمغصوب منه في ذلك كلهن
إلا أخذ متاعه بعينه ، حيث ما وجده من البلاد
. ولأصبغ في سماعه بعد هذا من قوله ، وظاهر
روايته عن أشهب ، ضد قول سحنون ، إن ذلك كله
فوت يكون المغصوب فيه بالخيار بين أن يضمنه
القيمة في ذلك كله يوم الغصب في البلد الذي
اغتصبه فيه ، وبين أن يأخذ متاعه فيه بعينه ،
حيث ما وجد من البلاد ، فهي ثلاثة أقوال :
قولان متضادان ، وتفرقة ، وأما الطعام إذا
حمله الغاصب من بلد إلى بلد ، ففيه ثلاثة
أقوال أحدها قول ابن القاسم ، وروايته هذه عن
مالك ، إنه ليس للمغصوب منه إلا مثل طعامه في
البلد الذي اغتصبه فيه . والثاني إن المغصوب
بالخيار ، بين أن يأخذ طعامه بعينه حيث وجده ،
وبين أن يضمنه مثله في البلد الذي اغتصبه فيه
منه . وقول أشهب في رواية أصبغ عنه في سماعه
بعد هذا من هذا الكتاب ، والثالث تفرقة أصبغ
فيه ، بين أن يكون البلد الذي نقله إليه
الغاصب قريباً أو بعيداً . فإن كان قريباً كان
له أن يأخذ طعامه بعينه ، وإن كان بعيداً لم
يكن له وبالله التوفيق .
مسألة
وقال مالك في رجل استودع قمحاً فتعدى عليه ،
فحمله إلى بلد ، فأثأر به ، فأصابه وقد باع
المستودع ، أله أن يجيز البيع ويأخذ الثمن ،
أو يأخذ قمحه بعينه ؟ قال : ليس ذلك له ،
وإنما له قمحه في الموضع الذي استودعه فيه .
قلت : لم ؟ قال : لأن في ذلك زيادة ، فليس له
أن يأخذ منه الزيادة وإن كان متعدياً لأنه
يقدر على مثله في مثله الموضع الذي استودعه
فيه . قلت : فإن رضي رب الطعام والمعتدي ، أن
يعطيه
(11/272)
مثل طعامه في
الموضع الذي استحقه فيه ، أو طعاماً إن كان لم
ينفقه ، أو الثمن الذي يبيع به الطعام ، قال :
إذا رضيا فلا بأس به .
قال محمد بن رشد : القول في هذه المسألة
كالقول في المسألة التي قبلها سواء ، إذ لا
فرق في هذا بين الوديعة والغصب والسرقة ، يدخل
في ذلك كله ، الاختلاف الذي ذكرناه .
وقد مضت هذه المسألة في رسم أسلم من سماع عيسى
من كتاب الوديعة ، والكلام عليها هناك مستوفى
أيضاً وبالله تعالى التوفيق .
مسألة
وقال ابن القاسم في الرجل يبيع العبد غصباً ثم
يموت سيد العبد ، فيكون الغاصب وارثه ، ثم
يريد أن يرجع في العبد ، قال : ذلك له ، وكذلك
الدار بين الرجلين ، فيبيعها أحدهما كلها ، ثم
يموت الآخر ، وهو لا يدري . وهذا وارثه ،
فيريد الرجوع في النصف ، والأخذ بالشفعة . قال
: ذلك له .
قال محمد بن رشد : وهذا كما قال : لأن الوارث
يحل محل الموروث ، وينزل منزلته في الحقوق
الواجبة له ، فإذا ورث الغاصب العبد الذي غصبه
، بعد أن باعه قبل أن يعلم المغصوب منه بيعه
إياه ، فيختار إجازة البيع وأخذ الثمن ، كان
للغاصب ما كان للمغصوب منه من أخذ العبد وفسخ
البيع ، وكذلك قال في آخر كتاب بيع الغرر من
المدونة في المودع ، يتعدى على الوديعة
فيبيعها ، ثم يموت المودع . وهذا وارثه . إن
له أن يرد البيع ويأخذ الوديعة التي باع ،
لنزوله في ذلك بالميراث منزلة المودع الموروث
. هي كمسألة الغصب سواء والميراث ، بخلاف
الشراء ، لو باع الغاصب العبد الذي اغتصبه ثم
اشتراه من المغصوب منه لزمه البيع ، ولم يكن
أن يرده ويأخذ العبد . قاله في كتاب الغصب من
المدونة . والفرق بين المسألتين أن الميراث
(11/273)
أمر أوجبه الله
، لم يجره هو إلى نفسه ، والشراء هو جره إلى
نفسه باختياره ، وليس له أن يتسبب إلى نقض
البيع بذلك ، وأيضاً فإن شراءه إياه منه بحال
منه من صنيعه . وإذا أخذ منه الثمن فيه ،
فكأنه قد أخذ منه القيمة ، وهذا كله بين ،
وكذلك الدار تكون بين الأخوين ، فيبيعها
أحدهما كلها ، ثم يموت الآخر ، وهو وارثه ،
فينزل منزلته بالميراث في أن له أن يأخذ نصف
الدار بالاستحقاق ، فينقض فيه البيع ، ويرد
ثمنه إلى المبتاع ، ويأخذ النصف الثاني
بالشفعة ، وإن أراد أن يأخذ النصف بالاستحقاق
، ويترك الأخذ بالشفعة ، كان ذلك له ، وإن
أراد أن يمضي البيع ويترك الدار كلها للمشتري
كان ذلك له . وبالله التوفيق : لا رب سواه .
من مسائل نوازل سئل عنها سحنون
وسئل عن الأمير الغاصب لأموال الناس ، إذا عزل
، فقام الناس يدعون مما في يديه شيئاً ، فقال
: إذا أثبتوا شيئاً من أموالهم ، فإن الأمير
يكلف البينة بأي شيء تصير إليه ذلك الشيء ،
فإن أتى بالبينة ، وإلا لم يكن له شيء . قيل
له : فإن أقام الأمير البينة أنه قد حاز هذه
الدار والقرى عشر سنين ، والخمسة عشرة سنة ،
والعشرين ، وفي وجوه هؤلاء الذين ادعوها ، ولم
يأت ببينة أنه اشترى ، فقال : ليس يستحق بحوزه
، وهو سلطان غاصب شيئاً ، وهو كمن لم يحز .
قيل له : وإن لم يشهد الطالب في طول ولايته في
السر ، أي إنما ترك القيام خوفاً منه ، لم
يضره ذلك في حيازة السلطان في وجهه ، فقال :
نعم ، لا يضره .
ولو كان أشهد في السر ، لكان أفضل وأقوى ، قيل
له : فإن مات الأمير وهو أمير بحاله ، لم يعزل
حتى مات ، ثم قام على ورثته مكانه حين مات ،
فأثبت أن هذه الدار كانت له ، هل يكلف الورثة
ما كلف أبوهم أن
(11/274)
يثبتوا بأي شيء
تصير إلى أبيهم ؟ فقال : لا يكلفون ما كلف
أبوهم ، وعلى لطالب البينة أن السلطان كان
غصبه منه ، بعد أن قيم البينة أن هذا الشيء
كان له ، قيل له : وما يكون حال هذا الأمير
فيما أكل من هذه القرية وغرس وبنى ؟ أيأخذه
مقلوعاً وتكون عليه الإجارة ، ويكون كالرجل
الغاصب ، أم لا ؟ وإنما أقام المستحق البينة
أن هذا الشيء له ، ولم يقم البينة أنه غصبه ،
وقد قلت : إنه إذا أثبت البينة أن الشيء شيؤه
سألت الأمير البينة بأي شيء صار في يديه ؟ فإن
أتى ببينة أنه تصير إليه بحق من الحقوق كان
ذلك له ، وإلا جعلت الأموال للذي أثبت أصلها ،
ولم يكلفه البينة ، أنه غصبها ولا غير ذلك ،
وجعلتها له ، قال : لا يكون حاله حال الغاصب
فيما اغتل وفيما غرس ، إلا أن يقيم المستحق
البينة أن السلطان غصبها منه ، وإلا لم تكن له
غلة ما استحق ولا كراء ، وللأمير الغاصب قيمة
ما بني وغرس قائماً لا مقلوعاً ، فإن طلب
المستحق أن يعطيه ذلك مقلوعاً قيل له : فأثبت
البينة أنه غصبك هذه الأشياء ، فيكون لك ما
يكون للمغصوب منه . ويكون عليه ما يكون على
الغاصب ، وإلا لم يكن لك إلا أرضك ، وله ما
بنى وغرس قائما .
قال محمد بن رشد : قوله إن السلطان المعروف
بالغصب لا ينتفع بحيازة مال الرجل في وجهه مدة
تكون الحيازة فيها عاملة إذا أقر بالملك لغيره
أو ثبت ذلك عليه وادعى أنه اشترى منه ، صحيح
مثل ما تقدم لابن القاسم في أول رسم من سماع
يحيى . وقد مضى هناك بيان وجه ذلك ، فلا معنى
لإعادته . وأما قوله : إن ورثته لا يكلفون ما
كلف أبوهم من إقامة البينة على الوجه الذي صار
إليه به وإن كان قام عليهم مكانه حين مات ،
ففيه نظر ، لأنه جعلهم ينتفعون بحيازته ، وهي
غير عاملة على القائم من أجل أنه ظالم ، فكان
القياس أن يكلفوا إقامة البينة على الوجه الذي
تصيرت به الدار إلى موروثهم كما كان
(11/275)
يكلف ذلك
موروثهم ، إلا أن يكون قيامه عليهم بعد أن مات
أبوهم بمدة تكون لهم حيازة ، فلا يلزمهم ذلك ،
ويكون القول قولهم مع أيمانهم : لقد اشتراها
وما غصبها ، و ما يعملون بأي وجه صارت إلى
أبيهم ، ولا أنه غصبها على الاختلاف في هل
ينتفع الورثة بحيازتهم دون أن يدعوا الوجه
الذي تصيرت به إلى موروثهم ، أو لا ينتفعون
بها ، إلا أن يدعوا ذلك كموروثهم سواء ؟ إلا
أن يأتي المستحق بالبينة أنه غصبها ، فإن أتى
بذلك استحق داره إلا أن يأتوا ببينة تشهد لهم
أنه اشتراها منه بعد الغصب شراء صحيحاً بعد أن
ردها إليه ، أو وهو قد عاد ممن تجري عليه
الأحكام . وقد مضى بيان هذا المعنى في أول سم
من سماع يحيى .
وأما قوله : إن الأمير المعروف بالغصب لا يكون
حاله حال الغاصب ، لا فيما استغل ولا فيما بنى
وغرس ، فهو صحيح أيضاً ، لأن الغلة قد قيل
إنها للغاصب ، وإن ثبت الغصب ، عليه لقول
النبي عليه السلام " الخراج بالضمان " ، لأنه
لفظ عام مستقل بنفسه ، فيحمل على عمومه فيما
كان بوجه شبهة وبغير وجه شبهة ، على القول بأن
اللفظ العام المستقل بنفسه الوارد على سبب
يحمل على عمومه ، ولا يقصر على سببه الذي خرج
عليه من الرد بالعيب ، فكيف إذا لم يثبت عليه
الغصب ؟ وكذلك ما بنى وغرس له قيمة ذلك قائماً
كما قال ، ما لم يثبت عليه الغصب لقول النبي
عليه السلام ليس لعرق ظالم حق ، وبالله
التوفيق .
مسألة
وسئل سحنون عن الرجل يقول للرجل : كنت غصبتك
ألف دينار إذ كنت صبياً ، قال : تلزمه . قيل
له فإن قال كنت أقررت لك بألف دينار إذ كنت
صبياً ، فقال يلزمه أيضاً وهو عندي مثل الأول
.
قال محمد بن رشد : أما الذي قال كنت غصبتك ألف
دينار إذ كنت صبياً فلا اختلاف في أن ذلك
يلزمه ، لأنه أقر أنه فعل في صباه ما يلزمه ،
إذ اختلاف في أن الصبي ضامن لما أفسد وكسر ،
وكذلك ما اغتصب فاتلف .
(11/276)
وأما الذي قال
كنت أقررت لك بألف دينار إذ كنت صبياً فيتخرج
ذلك على قولين : أحدهما وهو الأصح أنه لا
يلزمه ذلك إذا كان كلامه نسقاً متتابعاً .
وعلى ذلك يأتي قول ابن القاسم في المدونة :
إذا قال لزوجته قد طلقتك وأنا صبي إنه لا
يلزمه شيء ، وكذلك إذا قال لها : قد طلقتك
وأنا مجنون إذا كان يعرف بالجنون . وإذا أقر
بالخاتم لرجل وقال : الفص لي أو بالبقعة وقال
البنيان لي وكان الكلام نسقاً؛ والثاني إنه
يلزمه وإن كان الكلام نسقاً متتابعاً ، لأنه
يتهم أن يكون استدرك ذلك ووصله بكلامه ليخرج
عما أقر به . وعلى ذلك قول ابن القاسم في سماع
أصبغ عنه في تفرقته بين أن يقول : لفلان علي
ألف دينار وعلى فلان وفلان ، وبين أن يقول :
لفلان علي وعلى فلان وفلان ألف دينار ، قال :
لأن الأول أقر على نفسه بألف دينار ، فلا يقبل
قوله بعد ذلك وعلى فلان وفلان وإن كان الكلام
نسقاً متتابعاً .و على قول ابن القاسم في هذه
المسألة يأتي قول سحنون في هذه الرواية ، وهو
قول ضعيف ، وما في المدونة أصح وأولى بالصواب
.
فالمسألتان مفترقتان ، وإنما كان يكون قوله :
كنت أقررت لك بألف دينار ، إذ كنت صبياً ، مثل
قوله لو قال كنت استسلفت منك ألف دينار ، إذ
كنت صبياً ، لأن الوجهين جميعاً ، يستويان في
أنهما لا يلزمانه في حال الصبا . وبالله
التوفيق .
مسألة
وسئل سحنون عن رجل من العمال ، أكره رجلاً أن
يدخل بيت رجل يخرج منه متاعاً يدفعه إليه ،
فأخرج له ما أمره به ، فدفعه إليه ، ثم عزل
ذلك العامل الغاصب ، ثم أتى المغصوب منه
المتاع ، يطلب ما غصب منه . هل يكون له أن
يأخذ بماله من شاء وإن شاء الآمر وإن شاء
المأمور ؟ فقال : نعم له أن يأخذ بماله من شاء
منهما . قيل له : فإن أخذ ماله من الذي أكره
(11/277)
على الدخول هل
يرجع هذا الذي غرم على العامل الذي أكرهه على
الدخول ؟ فقال : نعم . قيل له : فإن عزل
الأمير الغاصب ، وغاب المغصوب منه المتاع ،
فقال : هذا المكره على الدخول في بيت الرجل
على الأمير الغاصب بهذا المتاع ، ليغرمه إياه
ويقول المأخوذ به إذا جاء صاحبه هل يعدا عليه
؟ قال : نعم .
قال محمد بن شد : هذا كما قال ، لأن الإكراه
على الأفعال التي يتعلق بها حق لمخلوق ،
كالقتل والغصب ، لا يصح بإجماع ، وإنما يصح
فيما لا يتعلق به حق لمخلوق من الأقوال باتفاق
، ومن الأفعال على اختلاف .
وقد مضى تحصيل القول في هذا في رسم حمل صبياً
من سماع عيسى من كتاب الإيمان بالطلاق . وأما
قوله بأنه يقضي للمكره على الدخول في بيت
الرجل ، على العامل بالمال ، لأنه هو المأخوذ
به ، ففيه نظر ، والذي يوجبه النظر أن يقضي له
بتغريمه إياه ، ولا يمكن منه ، ويوقف لصاحبه .
وبالله التوفيق .
مسألة
وسئل عن رجل اغتصب دابة رجل ، فاستعملها ،
فأغرمه رب الدابة الكراء ، كراء ما استعملها ،
هل يحاسب الغاصب بالعلف ؟ قال : نعم .
قال محمد بن رشد : وهذا إذا قوم كراؤها على أن
علفها على صاحبها ، وأما إن قوم كراؤها على أن
علفها على المكتري ، فلا يحاسبه بالعلف ، لأنه
قد انحط قدره من الكراء ، وعلى هذا يجب أن
يقوم ، فهو أولى وأقل عمى . وفي وجوب الرجوع
عليه بكراء ما استعملها اختلاف قد مضى تحصيله
في نوازل عيسى فلا معنى لإعادته . وبالله
التوفيق .
(11/278)
مسألة
قال سحنون في الرجل يغتصب الدابة ولا يعلمها
في شيء ، ولا يكريها وإنما حبسها على مذودها ،
ثم استحقها ربها هل يكون له من كرائها شيئ ؟
قال : لا يكون له كراء مثلها إذا لم يسخرها .
قال محمد بن رشد : إنه يجب عليه كراء ما عطلها
. وهو قول ابن الماجشون .
وقد مضى هذا في نوازل عيسى فلا معنى لإعادته .
وبالله التوفيق .
مسألة
وسئل سحنون عن رجل يكون له بيضة من دجاجة ميتة
، أو دجاجة حية فيغصبها منه رجل ، فيحضنها تحت
دجاجة ، فيخرج منها فرخ . قال : الفرخ لرب
البيضة ، وللغاصب عليه قدر ما حضنت دجاجته ،
كانت البيضة من ميتة أو من حية .
قال محمد بن رشد : قول سحنون في هذه المسألة
على أصله ، في أن الزرع في المزارعة الفاسدة
لصاحب البذر ، وهي رواية ابن غانم عن مالك ،
ويأتي فيه على قايس القول بأن الزرع في
المزارعة الفاسدة لصاحب العمل والأرض ، إن
الفرخ للغاصب ، ويكون عليه لرب البيضة مثلها ،
وعلى هذا يأتي قول ابن القاسم في سماع سحنون ،
من كتاب الشركة ، في الرجل يأتي بحمامة أنثى
والآخر بحمامة ذكر ، على أن تكون الفراخ
بينهما ، وفي الرجل يقول للرجل : اجعل هذا
البيض تحت دجاجتك ، فما كان من فراخ فهو بيننا
، إن الفراخ تكون لصاحب الدجاجة ، ولصاحب
البيض بيض مثله . وبالله التوفيق .
(11/279)
مسألة
قال سحنون : قال مالك في رجل غصب عبداً فأتى
رب العبد بالبينة أنه غصبه ، وهو في رجل
اشتراه من الغاصب ، فلما أقام البينة مات
العبد في يدي المشتري ، فقال : المصيبة من
الذي استحقه ، قال سحنون : وأنا أقول : إن
المصيبة من المشتري حتى يحكم به للذي غصبه .
قال محمد بن رشد : قول مالك هذا هو مذهبه في
موطأه وقول ابن القاسم وروايته عنه في رسم مرض
من سماع ابن القاسم ، من كتاب الاستحقاق ،
وقول غير ابن القاسم في كتاب الشهادات من
المدونة . وقول سحنون ، هو قول ابن القاسم ،
في رسم حمل صبياً من سماع عيسى من كتاب الدعوى
والصلح ، وهو قول أشهب في المبسوطة والذي يأتي
على قول مالك في المدونة إن الغلة للذي هي في
يديه ، حتى يقضي بها للطالب ، فهي مسألة اضطرب
فيها قول مالك ، وابن القاسم .
وقد مضى تحصيل الاختلاف في الحد الذي يدخل به
الشيء المستحق ، في ضمان المستحق ، في رسم
الشجرة من سماع ابن القاسم ، من كتاب
الاستحقاق ، فلا معنى لإعادته . وبالله
التوفيق .
مسألة
قال سحنون في رجل اغتصب عبداً فجنى العبد عند
الغاصب ، فأتى سيده فأخذه ، ولم يعلم بجنايته
عند الغاصب ، ثم جنى العبد عند سيده على رجل
آخر ، فأتى المجني عليه الأول ، إذا كان في
يده الغاصب وأتى المجني عليه الآخر ، الذي جنى
عليه وهو في يدي صاحبه ، وما يكون على السيد ،
وما يكون للسيد
(11/280)
على الغاصب ،
والجنايتان سواء ؟ قال سحنون : يقال للسيد :
قد صارت الجنايتان في رقبة العبد ، وصار العبد
بينهما ، فإن شئت فخذ الغاصب نصف قيمة العبد ،
ويكون كعبد بين رجلين ، جنى فيخيران ، فإن
أحبا أسلماه ، وإن أحبا افتكاه . ومن أحب منهم
أن يفتك افتك ، ومن أحب أن يسلم أسلم . وإن
افتكه السيد بالجنايتين لم يضمن الغاصب شيئاً
كذلك قال ابن القاسم وقال غيره : يرجع على
الغاصب بالأقل من نصف القيمة ، أو نصف الجناية
.
قال محمد بن رشد : بنى سحنون جوابه في هذه
المسألة على مذهب ابن القاسم في المدونة إن
العبد إذا جنى عند الغاصب ، فسيده مخير بين أن
يضمن الغاصب قيمته يوم غصبه ، وبين أن يأخذه
مجنياً ولا شيء له على الغاصب ، وبنى غيره وهو
أشهب ، جوابه فيها على قول ابن القاسم في رسم
الصبرة من سماع يحيى المتقدم ، في أن العبد
المغصوب إذا جنى عند الغاصب ، فسيده مخير ،
بين أن يضمن الغاصب قيمته يوم غصبه ، وبين أن
يفتكه ويرجع على الغاصب بالأقل من قيمته أو ما
افتكه به فرأيا أن العبد قد فات نصفه عند سيده
بجنايته عنده ، لاستواء الجنايتين ، فيلزمه
بما أخذه به من نصف القيمة ، والنصف الثاني هو
فيه مخير ، بين أن يأخذ قيمتهن وبين أن يأخذه
مجني عليه ، ولا شيء له على الغاصب عند سحنون
على مذهب ابن القاسم في المدونة وعند غيره على
مذهب ابن القاسم في سماع يحيى ، يرجع على
الغاصب بأقل من قيمته أو ما ودى في الجناية
التي جناها عبده ، وهي نصف الجنايتين كما قال
، لأنهما مستويتان . وفي ذلك من قولهما جميعاً
نظر ، لأن العبد يفوت جميعه عند سيده بجنايته
عنده ، كرجل ابتاع عبداً فجنى عنده جناية ، ثم
اطلع على عيب به ، لأن السيد أخذ العبد
بالقيمة الواجبة على الغاصب يوم الغصب ، فجنى
عنده جناية ، ثم اطلع على أنه قد كان جنى عند
الغاصب ، فالذي يوجبه النظر في ذلك على منهاج
قولهم ، إن السيد
(11/281)
يرجع على
الغاصب بقيمة عيب الجناية التي جناها عنده .
ووجه العمل في ذلك ، أن يقوم العبد بعيب
الجناية ، وسالماً منها ، فما كان بين
القيمتين من الأجزاء ، ثلث أو ربع أو خمس ،
رجع رب العبد على الغاصب في القيمة التي أخذ
العبد منه فيها بذلك الجزء ، وإن كانت الجناية
تستغرقه ، ولا قيمة له بها رجع عليه بجميع
قيمته ، وكان الغاصب مخيراً بين أن يفتكه
بجنايتين ، أو يسلمه بهما ، وهذا إذا كان
العبد قد فات عند الغاصب بغير الجناية التي لم
يعلم بها ، فأخذ عبده وقد كان له أن يضمن
الغاصب قيمته يوم الغصب ، وأما إن كان لم يفت
عند الغاصب فأخذه صاحبه ولم يعلم بالجناية ،
ثم جنى عنده فاطلع على الجناية التي كان جنى
عند الغاصب ، فالحكم فيه على ما يوجبه القياس
والنظر ، أن يكون مخيراً بين أن يرده الغاصب ،
أو يضمنه قيمته يوم الغصب ، لأنه يقول : لو
علمت أنه جنى لم آخذه ، وقد كنت مجبوراً على
أخذه ، إذ لم يسلم بجنايته ، ويكون الغاصب فيه
مخيراً بين أن يفتكه بالجنايتين جميعا ، أو
يسلمه لهما ، وإن شاء سيد العبد تمسك بعبده ،
وافتكه بالجنايتين أو أسلمه بهما . فإن أسلمه
بهما وهما سواء ، رجع على الغاصب بنصف قيمة
العبد ، وإن افتكه بهما ، رجع على الغاصب
بالأقل من نصف قيمته ، أو نصف الجنايتين ، على
الاختلاف المذكور في ذلك ، وإنما كان يصح
جوابهما لو كانا عبدين مغصوبين ، فجنى أحدهما
عند الغاصب ، فأخذهما سيدهما ، ولم يعلم
بجناية الجاني منهما ، ثم جنى الآخر عنده .
وبالله تعالى التوفيق .
من سماع أصبغ من ابن القاسم من كتاب البيوع
قال أصبغ : سمعت أشهب ، وسئل عمن اغتصب من رجل
طعاماً بعينيه ، في غير البدل ، أله أخذه ؟
قال : نعم ، له أخذه إن شاء ، وإن تركه وأخذ
منه مثله بتلك البلدة التي اغتصبه فيها . قال
أصبغ : قال ابن القاسم : ليس له أخذه ، ويؤخذ
بمثله يعطيه بموضعه الذي اغتصبه به ، ويصنع به
هو ها هنا ما شاء . قال
(11/282)
أصبغ : وأنا
أرى إن كان البلد البعيد ، فالقول ما قال ابن
القاسم ، وعليه أن يوثق له بحقه ، قبل أن يخلى
بينه وبينه ، وإن كان الموضع القريب ، مثل بعض
الأرياف والقرى ، فأرى له أخذه وإن كره ،
والظالم يحمل عليه بعض الحمل ، ولا كل . قال
أصبغ : قيل لأشهب ، فالعروض ، قال كذلك يأخذها
إن شاء ، أو يأخذ قيمتها ، ثم أن ليس عليه
ردها . قال أصبغ : يأخذ العروض إ ، شاء ،
لأنها سلم بأعيانها ، ولا سروالها كالجارية
بعينها ، والدابة والثوب ، ولا شيء عليه من
حمولتها ، ولا نفقة يغرمها ، مع أخذها ولا على
المغتصب ردها وحملانها راجعاً بها ، وإن شاء
المغصوب تركها وأخذ قيمتها حيث غصبها ، ليس
حيث يأخذها ، كالعين إذا تغيرت كانت له قيمتها
، وما ذلك بالقوي فيه كغيره في القياس
والاستحسان أحب إلي ، وأرى أن البلدان أغير
إذا كانت بعيدة ، وإن لم تتغير في الأبدان إذا
حملها إلى البلدان والآفاق .
قال محمد بن رشد : ساوى أشهب في هذه الرواية
بين الطعام والبز والعروض والحيوان في أن
للمغصوب منه أن يأخذه حيث ما وجده من البلاد ،
وذلك خلاف قول ابن القاسم وروايته عن مالك ،
فإنه فرق بين الطعام والعروض والحيوان في ذلك
، وفرق أيضاً بين العروض والحيوان ، مثل
الدواب التي لا يكرى على حملها ، ووافقه سحنون
في الطعام ، وخالفه في العروض والحيوان ،
فيتحصل في العروض والحيوان ثلاثة أقوال ، وفي
الطعام بتفرقة أصبغ ثلاثة أقوال أيضاً .
وقد مضى تحصيل ذلك كله ، وبيانه وشرحه في سماع
سحنون فلا معنى لإعادته . والله الموافق .
(11/283)
ومن كتاب
البيوع والصرف
قال أصبغ سألت ابن القاسم يقول فيمن سرق عبداً
فباعه : إن السيد إن أجاز البيع وأخذ الثمن ،
فلا كلام للمشتري في رده ، وهو له لازم ،
والعهدة في ذلك على السيد ، وليس على السارق
منه شيء . وقال أصبغ : وذلك ما لم يدخل البيع
فوت ، ولا العبد ، فإن دخل ذلك الفوت حتى يكون
المستحق مخيراً في الثمن أو القيمة ، ليس في
العبد لفواته ، فاختار القيمة من السارق ،
فالعهدة للمشتري على السارق ، وإن اختار الثمن
، فالعهدة عليه أيضاً .
قال محمد بن رشد : اختلف في الغاصب أو السارق
يبيع الشيء : المغصوب أو المسروق ، فيأتي
صاحبه فيستحقه ، ويجيز البيع ، ويأخذ الثمن ،
هل تنتقل العهدة على الغاصب إليه أم لا ؟ على
قولين أحدهما إنها تنتقل إليه ، فات العبد أو
لم يفت ، وهو ظاهر قول ابن القاسم في هذه
الرواية ، إذ لم يفرق فيها بين أن يفوت العبد
أو لا يفوت ، ودليل ما في كتاب الاستحقاق من
المدونة في الذي يستحق الدار من يد المشتري ،
وقد أكراها السنة مضت منها ستة أشهر ، إن له
أن يمضي الكراء لباقي المدة ، ولا حجة للمكتري
في انتقال العهدة إليه ، إذ لا ضرر في ذلك
عليه من أجل أنه إنما يؤدي بحسب ما يسكن ، فإن
انهدمت الدار خرج ولم يكن عليه شيء ، كما لو
كانت عهدته على الأول ، وإن كان قد نقد الكراء
، كان من حقه أن يسترجع كراءه ، فيؤدي بحساب
ما يسكن ، إلا أن يكون المستحق ملياً أو يأتي
بحميل ملي ، فيأخذ الكراء . هذا معنى قوله في
المدونة دون لفظه ، وهذا إذا لم تف البقعة
مهدومة إن انهدمت الدار بالكراء ، وأما إن وفت
بها ، فمن حقه أن يأخذ الكراء . قاله بعض شيوخ
صقلية وهو صحيح ، لأن البقعة تكون في يده ،
كالرهن فيما قدم من الكراء إن انهدمت الدار .
قال : وإنما يكون له أن يأخذ الكراء ، إن كان
ملياً ، إذا كان قد علم بأن المكتري قد نقد
الكراء ، وكانت سنة
(11/284)
الكراء على
النقد ، وأما إن لم يعلم بذلك ، ولا كانت سنة
الكراء على النقد ، فليس له أن يأخذ الكراء
معجلاً ، وإنما يأخذ بحساب ما يسكن ، لأنه
يحمل عليه ، إذا لم يعلم بذلك ، ولا كانت سنة
الكراء على النقد ، على أنه إنما أجاز الكراء
وأمضاه ، على أن يأخذ منه بحساب ما يسكن ،
فليس له أن يتعجل كما كان عجل للأول ، والثاني
إن العهدة لا تنتقل عن الغاصب ، حكى هذا القول
سحنون عن مالك ، وعاب ما وقع في المدونة من
احتجاج المكتري بانتقال العهدة ، قال : إذ لا
نتقل على مذهب مالك ، وإنما تنتقل عنده في
القيام ، فأحرى ألا تنتقل في الفوات ، وهو
دليل ما وقع في كتاب الغصب من المدونة من أن
المستحق إذا أجاز البيع ، لزم المشتري الشراء
، ولم يكن فيه خيار ، لأن الذي يوجبه النظر
إذا انتقلت العهدة عن البائع إلى المستحق ، أن
يكون المشتري بالخيار ، إن كانت ذمة المستحق
معيبة بعدم أو حرام ، لأن من حقه أن يقول لا
أرضى أن أعامل من لا ذمة له ، أو من استغرقت
ذمته الحارم . فقول ابن القاسم في هذه الرواية
: إن أجاز المستحق البيع ، انتقلت العهدة إليه
، ولزم المشتري الشراء ، معناه : إن كانت
الذمتان متساويتين ، أو كانت ذمة المستحق أوثق
من ذمة السارق . وقول أصبغ : وذلك ما لم يدخل
البيع فوت ، إلى آخر قوله صحيح ، لأن العبد
إذا فات حتى لم يكن للمستحق أخذه ، فلا خلاف
في أن العهدة على السارق ، لا تنتقل عنه إلى
المستحق ، اختار أخذ القيمة من السارق أو
الثمن ، ولا سبيل له إلى العبد لفواته ، وكان
القياس إذا لم يفت العبد بوجه من وجوه الفوت ،
أو فات بزيادة ، ألا يختلف في أن العهدة تنتقل
إلى المستحق ، إذ ليس له أن يضمن الغاصب قيمته
، فكأنه هو البائع له ، اللهم إلا أن يقال :
إنه إذا باعه على أنه له ، فقد رضي بالتزام
الدرك .
إن جاء له طالب ، وهو بعيد . وإنما يتصور
الاختلاف في انتقال العهدة إذا أجاز المستحق
البيع ، إذا كان العبد قد فات ، فكان سيده
مخيراً بين أن يضمن الغاصب أو السارق قيمته
يوم الغصب أو السرقة ، وبين أن يجيز البيع
ويأخذ الثمن ، وبين أن يأخذه عبده . فوجه
القول
(11/285)
بأن العهدة لا
تنتقل عن الغاصب ، إن العبد قد فات ، ووجبت
فيه القيمة يوم الغصب ، وإنما أخذ الثمن إذ
رأى أنه أفضل له من القيمة ، ولم يقصد إلى
اختيار أخذ العبد وإمضاء البيع فيه . ووجه
القول بأن العهدة تنتقل عن الغاصب إلى المستحق
، هو أنه لما ترك أن يضمن الغاصب القيمة وأخذ
الثمن ، فقد قصد اختيار أخذ العبد وإمضاء
البيع فيه ، فاحفظ ، إنها ثلاثة أوجه ، إذا
أجاز المستحق البيع ، وأخذ الثمن ، وجه تنتقل
العهدة فيه باتفاق ، ووجه لا تنتقل فيه باتفاق
، ووجه تنتقل فيه على اختلاف ، هذا الذي يوجبه
النظر الصحيح عندي في هذه المسألة ، وقد كان
من تقدم من الشيوخ لا يحصلها هذا التحصيل ،
ويذهب إلى أن في انتقال العهدة عن البائع إلى
المستحق ، ثلاثة أقوال : قول إنها لا نتقل
وقول إنها تنتقل ، والفرق بين أن يكون العبد
قائماً أو فائتاً ، ولا يفرق في الفوات بين أن
يكون للمستحق أن يأخذه ، وين أن لا يكون له أن
يأخذه ، وإذا أخذ المستحق القيمة من الغاصب ،
فالعهدة عليه باتفاق لأن العبد قد وجب له
بالقيمة التي أخذت منه فيه ، فإن استحق العبد
من يد المشتري من الغاصب ، على القول بأن
العهدة لا تنتقل عن الغاصب ، فرجع المشتري على
الغاصب بالثمن ، رجع به الغاصب على المستحق ،
فالإعذار فيما أثبته المستحق الثاني على
المشتري من الغاصب ، إنما يكون على المستحق
الأول ، الذي يرجع عليه الغاصب ، لا على
الغاصب ، لأن من حجته أن يقول : أنا لا أدفع
على من أرجع ، فإن خاصم ودفع ، لم يكن له رجوع
إلا على اختلاف قد مضى ذكره في رسم استأذن من
سماع عيسى من كتاب الاستحقاق .
والذي يفوت العبد عند مشتريه من الغاصب فوتاً
لا يكون للمغصوب أن يأخذه ، هو أن تذهب عينه ،
أو أن يحصل في بيع حال ، لا يجوز بيعه من إباق
أو مرض مخوف ، على القول بأنه لا يجوز بيع
المريض ، لأنه إذا أخذه يكون مبتاعاً له بما
وجب له على الغاصب من القيمة أو الثمن ،
ويتخرج في هذا قولان على اختلافهم في الذي
يبيع العبد فيابق عند المشتري ، ثم يفلس ، هل
يكون للبائع أن يأخذ عبده
(11/286)
ويترك محاصة
الغرماء أم لا ؟ على ما يوجبه القياس . وبالله
التوفيق .
ومن كتاب الأقضية والحبس
قال أصبغ : وسمعت ابن القاسم وسئل عن الذي
يغتصب أرضاً فيقيم عليها البينة ، فيشهدون له
أنها أرضه ، ولا يعرفون الحدود ، قال : يسجن
المشهود عليه ، ويضيق عليه مع هذه الشهادة ،
حتى يبين له حقه ، ولا يكون للمشهود له شيء ،
إلا بشيء يثبت ، ويعرف بشهادة أو إقرار ، فإن
بين له شيئاً وقال : هذا حقه ، حلف عليه . قال
أصبغ : أو يحدها غير المشهود ويشهدون على
الحدود فيجوز . قال أصبغ : وإن لم يبين
واستبرى بحبس وتشديد ، وأنكر الجميع ، أحلف
كما يحلف المدعى عليه بغير شهادة ، ولم يكن
للآخر قليل ولا كثير بتلك الشهادات .
قال محمد بن رشد : رواية أصبغ هذه ، خلاف
لرواية يحيى عن ابن القاسم ، من كتاب
الاستحقاق . وأما رواية عيسى عن ابن القاسم
المتقدمة في هذا الكتاب ، فهي مسألة أخرى
وليست بمخالفة لهذه ، ولا لرواية يحيى من كتاب
الاستحقاق ، بدليل أن أصبغ قد روى عن ابن
القاسم في كتاب العروض من مجالسه كرواية عيسى
حرفاً بحرف . وأن ابن القاسم قال في المجموعة
بمثل رواية عيسى ، وزاد قال : ولو شهدوا على
الأرض ، ولم يثبتوا الحوز ، فذكر نص رواية
يحيى عنه . وقد قيل : إن المسألتين سواء ، وإن
الخلاف داخل أيضاً في مسألة عيسى .
وقد مضى تحصيل هذه المسألة وافية من الخلاف في
سماع يحيى من كتاب الاستحقاق ، فلا معنى
لإعادته وبالله تعالى التوفيق . لا شريك له
سبحانه وتعالى وصلى الله على سيدنا ومولانا
محمد .
(11/287)
|